تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي

تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

المؤلف:

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ١١٣٥

ريبا إلى ريبهم ، ونفاقا إلى نفاقهم. (وَاللهُ عَلِيمٌ) بجميع الأشياء ، ظاهرها وباطنها ، خفيها وجليها ، وبما أسره العباد ، وأعلنوه. (حَكِيمٌ) لا يفعل ، ولا يخلق ، ولا يأمر ، ولا ينهى ، إلا ما اقتضته الحكمة وأمر به ، فلله الحمد. وفي هذه الآيات عدّة فوائد : منها : أن اتخاذ المسجد الذي يقصد به الضرار لمسجد آخر بقربه ، أنه محرم ، وأنه يجب هدم مسجد الضرار ، الذي اطلع على مقصود أصحابه. منها : أن العمل وإن كان فاضلا تغيره النية ، فينقلب منهيا عنه ، كما قلبت نية أصحاب مسجد الضرار عملهم إلى ما ترى. ومنها : أن كل حالة يحصل بها التفريق بين المؤمنين ، فإنها من المعاصي التي يتعين تركها وإزالتها. كما أن كل حالة يحصل بها جمع المؤمنين وائتلافهم ، يتعين اتباعها ، والأمر بها ، والحث عليها ، لأن الله علل اتخاذهم لمسجد الضرار ، بهذا المقصد الموجب للنهي عنه ، كما يوجب ذلك الكفر والمحاربة لله ورسوله. ومنها : النهي عن الصلاة في أماكن المعصية ، والبعد عنها ، وعن قربها. ومنها : أن المعصية تؤثر في البقاع ، كما أثرت معصية المنافقين في مسجد الضرار ، ونهي عن القيام فيه. وكذلك الطاعة تؤثر في الأماكن كما أثرت في مسجد «قباء» حتى قال الله فيه : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ). ولهذا كان لمسجد قباء من الفضل ما ليس لغيره حتى كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يزور قباء كل سبت ، يصلي فيه ، وحث على الصلاة فيه. ومنها : أنه يستفاد من هذه التعاليل المذكورة في الآية ، أربع قواعد مهمة ، وهي : كل عمل فيه مضارة لمسلم ، أو فيه معصية لله ، فإن المعاصي من فروع الكفر ، أو فيه تفريق بين المؤمنين ، أو فيه معاونة لمن عادى الله ورسوله ، فإنه محرم ممنوع منه ، وعكسه بعكسه. ومنها : أنه إذا كان مسجد قباء مسجدا أسس على التقوى ، فمسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي أسسه بيده المباركة ، وعمل فيه ، واختاره الله له ، من باب أولى وأحرى. ومنها : أن العمل المبني على الإخلاص والمتابعة ، هو العمل المؤسس على التقوى ، الموصل لعامله إلى جنات النعيم. والعمل المبني على سوء القصد ، وعلى البدع والضلال ، هو العمل المؤسس على شفا جرف هار ، فانهار به في نار جهنم ، والله لا يهدي القوم الظالمين.

[١١١] يخبر تعالى خبرا صدقا ، ويعد وعدا حقا بمبايعة عظيمة ، ومعاوضة جسيمة ، وهو أنه (اشْتَرى) بنفسه الكريمة (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) فهي المثمن والسلعة المبيعة. (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) التي فيها ما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين من أنواع اللذات ، والأفراح ، والمسرات ، والحور الحسان ، والمنازل الأنيقات. وصفة العقد والمبايعة ، بأن يبذلوا لله نفوسهم وأموالهم في جهاد أعدائه ، لإعلاء كلمته ، وإظهار دينه (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) ، فهذا العقد والمبايعة ، قد صدرت من الله مؤكدة بأنواع التأكيدات. (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) التي هي أشرف الكتب ، التي طرقت العالم ، وأعلاها ، وأكملها ، وجاء بها أكمل الرسل ، أولو العزم ، وكلها اتفقت على هذا الوعد الصادق. (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا) أيها المؤمنون القائمون بما وعدكم الله ، (بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ) أي : لتعزموا بذلك ، وليبشر بعضكم بعضا ، ويحث بعضكم بعضا. (وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الذي لا فوز أكبر منه ، ولا أجل ، لأنه يتضمن السعادة الأبدية ، والنعيم المقيم ،

٤٠١

والرضا من الله الذي هو أكبر من نعيم الجنات. وإذا أردت أن تعرف مقدار الصفقة ، فانظر إلى المشتري من هو؟ وهو الله جل جلاله ، وإلى العوض ، وهو أكبر الأعواض وأجلها ، جنات النعيم ، وإلى الثمن المبذول فيها ، وهو : النفس ، والمال ، الذي هو أحب الأشياء للإنسان. وإلى من جرى على يديه عقد هذا التبايع ، وهو أشرف الرسل ، وبأي الكتب رقم ، في كتب الله الكبار المنزلة ، على أفضل الخلق.

[١١٢] كأنه قيل : من هم المؤمنون الّذين لهم البشارة من الله بدخول الجنات ، ونيل الكرامات؟ فقال : هم (التَّائِبُونَ) أي : الملازمون للتوبة في جميع الأوقات عن جميع السيئات. (الْعابِدُونَ) أي : المتصفون بالعبودية لله ، والاستمرار على طاعته من أداء الواجبات والمستحبات في كل وقت ، فبذلك يكون العبد من العابدين. (الْحامِدُونَ) لله في السراء والضراء ، واليسر والعسر ، المعترفون بما لله عليهم من النعم الظاهرة والباطنة ، المثنون على الله بذكرها وبذكره في آناء الليل ، وآناء النهار. (السَّائِحُونَ) فسرت السياحة بالصيام ، أو السياحة في طلب العلم ، وفسرت بسياحة القلب ، في معرفة الله ومحبته ، والإنابة إليه على الدوام ، والصحيح أن المراد بالسياحة : السفر في القربات ، كالحج ، والعمرة ، والجهاد ، وطلب العلم ، وصلة الأقارب ، ونحو ذلك. (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) أي : المكثرون من الصلاة ، المشتملة على الركوع والسجود. (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) ويدخل فيه جميع الواجبات والمستحبات. (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) وهي جميع ما نهى الله ورسوله عنه. (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) بتعلمهم حدود ما أنزل الله على رسوله ، وما يدخل في الأوامر ، والنواهي ، والأحكام ، وما لا يدخل ، الملازمون لها فعلا وتركا. (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) لم يذكر ما يبشر لهم به ، ليعم جميع ما رتب على الإيمان ، من ثواب الدنيا ، والدين والآخرة ، فالبشارة متناولة لكل مؤمن. وأما مقدارها وصفتها فإنها بحسب حال المؤمنين ، وإيمانهم ، قوة ، وضعفا ، وعملا بمقتضاه.

[١١٣ ـ ١١٤] يعني : ما يليق ولا يحسن بالنبي والمؤمنين به (أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) ، أي : لمن كفر به ، وعبد معه غيره (وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) ، فإن الاستغفار لهم في هذه الحال ، غلط غير مفيد ، فلا يليق بالنبي والمؤمنين ، لأنهم إذا ماتوا على الشرك ، أو علم أنهم يموتون عليه ، فقد حقت عليهم كلمة العذاب ، ووجب عليهم الخلود في النار ، ولم تنفع فيهم شفاعة الشافعين ، ولا استغفار المستغفرين. وأيضا ، فإن النبي والّذين آمنوا معه ، عليهم أن يوافقوا ربهم ، في رضاه وغضبه ، ويوالوا من والاه الله ، ويعادوا من عاداه الله ، والاستغفار منهم ، لمن تبين أنه من أصحاب النار ، مناف لذلك ، مناقض له. ولئن وجد الاستغفار من خليل الرحمن إبراهيم عليه‌السلام لأبيه فإنه (عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) في قوله : (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) وذلك قبل أن يعلم عاقبة أبيه. فلما تبين لإبراهيم أن أباه عدو لله ، سيموت على الكفر ، ولم ينفع فيه الوعظ والتذكير (تَبَرَّأَ مِنْهُ) موافقة لربه وتأدبا معه. (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ) أي : رجّاع إلى الله في جميع الأمور ، كثير الذكر ، والدعاء ، والاستغفار ، والإنابة إلى ربه. (حَلِيمٌ) أي : ذو رحمة بالخلق ، وصفح عما يصدر منهم إليه من الزلات ، لا يستفزه

٤٠٢

جهل الجاهلين ، ولا يقابل الجاني عليه بجرمه ، فأبوه قال له : (لَأَرْجُمَنَّكَ) وهو يقول له : (سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي). فعليكم أن تقتدوا به ، وتتبعوا ملّة إبراهيم في كل شيء (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) كما نبهكم الله عليها ، وعلى غيرها ، ولهذا قال : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً) إلى (وَلا نَصِيرٍ).

[١١٥] يعني أن الله تعالى إذا منّ على قوم بالهداية ، وأمرهم بسلوك الصراط المستقيم ، فإنه تعالى يتمم عليهم إحسانه ، ويبين لهم جميع ما يحتاجون إليه ، وتدعو إليه ضرورتهم ، فلا يتركهم ضالين ، جاهلين بأمور دينهم ، ففي هذا دليل على كمال رحمته ، وأن شريعته وافية ، بجميع ما يحتاجه العباد في أصول الدين وفروعه. ويحتمل أن المراد بذلك (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) فإذا بين لهم ما يتقون ، فلم ينقادوا له ، عاقبهم بالإضلال ، جزاء لهم ، على ردهم الحقّ المبين ، والأول أولى. (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فلكمال علمه وعمومه علمكم ما لم تكونوا تعلمون ، وبين لكم ما به تنتفعون.

[١١٦] (إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي : هو المالك لذلك ، المدبر لعباده بالإحياء والإماتة ، وأنواع التدابير الإلهية ، فإذا كان لا يخل بتدبيره القدري فكيف يخل بتدبيره الديني ، المتعلق بإلهيته ، ويترك عباده سدى مهملين ، أو يدعهم ضالين جاهلين ، وهو أعظم تولية لعباده؟ فلهذا قال : (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي : ولي يتولاكم ، بجلب المنافع لكم ، أو نصير يدفع عنكم المضار.

[١١٧] يخبر تعالى أنه من لطفه وإحسانه (تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) فغفر لهم الزلات ، ووفر لهم الحسنات ، ورقاهم إلى أعلى الدرجات ، وذلك بسبب قيامهم بالأعمال الصعبة الشاقات ، ولهذا قال : (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) أي : خرجوا معه لقتال الأعداء في غزوة «تبوك» وكانت في حر شديد ، وضيق من الزاد والركوب ، وكثرة عدد مما يدعو إلى التخلف. فاستعانوا بالله تعالى ، وقاموا بذلك (مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) أي : تنقلب قلوبهم ، ويميلوا إلى الدعة والسكون ، ولكن الله ثبتهم ، وأيدهم وقواهم. وزيغ القلب ، هو انحرافه عن الصراط المستقيم ، فإن كان الانحراف في أصل الدين ، كان كفرا ، وإن كان في شرائعه ، كان بحسب تلك الشريعة ، التي زاغ عنها ، إما قصر عن فعلها ، أو فعلها على غير الوجه الشرعي. وقوله : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) أي : قبل توبتهم (إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) ، ومن رأفته ورحمته ، أن منّ عليهم بالتوبة ، وقبلها منهم ، وثبتهم عليها.

[١١٨] (وَ) كذلك لقد تاب (عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) عن الخروج مع المسلمين في تلك الغزوة ، وهم : «كعب بن مالك» وصاحباه ، وقصتهم مشهورة ، معروفة ، في الصحاح والسنن. (حَتَّى إِذا) حزنوا حزنا عظيما ، و (ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) أي : على سعتها ورحبها (وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) التي هي أحب إليهم من كل شيء ، فضاق عليهم الفضاء الواسع ، والمحبوب الذي لم تجر العادة بالضيق منهم ، وذلك لا يكون إلا من أمر مزعج ، بلغ من الشدة والمشقة ، ما لا يمكن التعبير عنه ، وذلك لأنهم قدموا رضا الله ورضا رسوله على كل شيء. (وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ) أي : تيقنوا ، وعرفوا بحالهم ، أنه لا ينجي من الشدائد ، ويلجأ إليه ، إلا الله وحده لا شريك به ، فانقطع تعلقهم بالمخلوقين ، وتعلقوا بالله ربهم ، وفروا منه إليه ، فمكثوا بهذه الشدة نحو خمسين ليلة. (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) أي : أذن في توبتهم ، ووفقهم لها (لِيَتُوبُوا) لتقع منهم ، فيتوب الله عليهم. (إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ) أي : كثير التوبة والعفو ، والغفران عن الزلات والنقصان. (الرَّحِيمُ) وصفه الرحمة العظيمة التي لا تزال تنزل على العباد ، في كل وقت وحين ، في جميع اللحظات ، ما تقوم به أمورهم الدينية والدنيوية. وفي هذه الآيات دليل على أن توبة الله على العبد ، أجل الغايات ، وأعلى النهايات ، فإن الله جعلها نهاية خواص عباده ، وامتنّ عليهم بها ، حين عملوا الأعمال التي يحبها ويرضاها. ومنها : لطف الله بهم ، وتثبيتهم في إيمانهم ، عند الشدائد ،

٤٠٣

والنوازل المزعجة. ومنها : أن العبادة الشاقة على النفس ، لها فضل ومزية ، ليست لغيرها ، وكلما عظمت المشقة ، عظم الأجر. ومنها : أن توبة الله على عبده ، بحسب ندمه وأسفه الشديد ، وأن من لا يبالي بالذنب ، ولا يحرج إذا فعله ، فإن توبته مدخولة ، وإن زعم أنها مقبولة. ومنها : أن علامة الخير وزوال الشدة ، إذا تعلق القلب بالله تعالى ، تعلقا تاما ، وانقطع عن المخلوقين. ومنها : أن من لطف الله بالثلاثة ، أن وسمهم بوسم ، ليس بعار عليهم فقال : (أَخْلَفُوا) إشارة إلى أن المؤمنين خلفوهم ، أو خلفوا عن من بتّ في قبول عذرهم ، أو في رده ، وأنهم لم يكن تخلفهم ، رغبة عن الخير ، ولهذا لم يقل : «تخلفوا». ومنها : أنّ الله تعالى منّ عليهم بالصدق ، ولهذا أمر بالاقتداء بهم فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا) الآية.

[١١٩] أي : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالله ، وبما أمر الله بالإيمان به ، قوموا بما يقتضيه الإيمان ، وهو القيام بتقوى الله ، باجتناب ما نهى الله عنه ، والبعد عنه. (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) في أقوالهم ، وأفعالهم وأحوالهم ، الّذين أقوالهم صدق ، وأعمالهم ، وأحوالهم لا تكون إلا صدقا خالية من الكسل والفتور ، سالمة من المقاصد السيئة ، مشتملة على الإخلاص والنية الصالحة ، فإن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنّة. قال تعالى : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) الآية.

[١٢٠] يقول تعالى ـ حاثا لأهل المدينة المنورة من المهاجرين ، والأنصار ، ومن حولها من الأعراب ، الّذين أسلموا ، فحسن إسلامهم ـ : (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ) أي : ما ينبغي لهم ذلك ، ولا يليق بأحوالهم. (وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ) في بقائها وراحتها ، وسكونها (عَنْ نَفْسِهِ) الكريمة الزكية ، بل النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فعلى كل مسلم أن يفدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنفسه ، ويقدمه عليها. فعلامة تعظيم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومحبته والإيمان التام به ، أن لا يتخلفوا عنه ، ثمّ ذكر الثواب الحامل على الخروج فقال : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ) أي : المجاهدين في سبيل الله (لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ) أي : تعب ومشقة (وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي : مجاعة. (وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ) من الخوض لديارهم والاستيلاء على أوطانهم ، (وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً) كالظفر بجيش ، أو سرية ، أو الغنيمة لمال (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ) لأن هذه آثار ناشئة عن أعمالهم. (إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) الّذين أحسنوا في مبادرتهم إلى أمر الله ، وقيامهم بما عليهم من حقه ، وحق خلقه ، فهذه الأعمال ، آثار من آثار عملهم.

[١٢١] ثمّ قال : (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً) في ذهابهم إلى عدوهم (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ). ومن ذلك ، هذه الأعمال ، إذا أخلصوا فيها لله ، ونصحوا فيها. ففي هذه الآيات ، أشد ترغيب ، وتشويق للنفوس إلى الخروج إلى الجهاد في سبيل الله ، والاحتساب لما يصيبهم فيه من المشقات ، وأن ذلك لهم رفعة درجات وأن الآثار المترتبة على عمل العبد له ، فيها أجر كبير.

[١٢٢] يقول تعالى : ـ منبها لعباده المؤمنين على ما ينبغي لهم ـ (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) أي :

٤٠٤

جميعا لقتال عدوهم ، فإنه يحصل عليهم المشقة بذلك ، ويفوت به كثير من المصالح الأخرى ، (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ) أي : من البلدان ، والقبائل ، والأفخاذ (طائِفَةٌ) تحصل بها الكفاية والمقصود لكان أولى. ثمّ نبه على أن في إقامة المقيمين منهم ، وعدم خروجهم مصالح لو خرجوا لفاتتهم ، فقال : (لِيَتَفَقَّهُوا) أي : القاعدون (فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) أي : ليتعلموا العلم الشرعي ، ويعلموا معانيه ، ويفقهوا أسراره ، وليعلموا غيرهم ، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم. ففي هذا فضيلة العلم ، خصوصا الفقه في الدين ، وأنه أهم الأمور ، وأن من تعلم علما ، فعليه نشره وبثه في العباد ، ونصيحتهم فيه فإن انتشار العلم عن العالم ، من بركته وأجره الذي ينمى. وأما اقتصار العالم على نفسه ، وعدم دعوته إلى سبيل الله ، بالحكمة ، والموعظة الحسنة ، وترك تعليم الجهال ما لا يعلمون ، فأي منفعة حصلت للمسلمين منه؟ وأي نتيجة نتجت من علمه؟ وغايته أن يموت ، فيموت علمه وثمرته ، وهذا غاية الحرمان ، لمن آتاه الله علما ومنحه فهما. وفي هذه الآية أيضا دليل ، وإرشاد ، وتنبيه لطيف ، لفائدة مهمة ، وهي : أن المسلمين ينبغي لهم ، أن يعدوا لكل مصلحة من مصالحهم العامة ، من يقوم بها ، ويوفر وقته عليها ، ويجتهد فيها ، ولا يلتفت إلى غيرها ، لتقوم مصالحهم ، وتتم منافعهم ، ولتكون وجهة جميعهم ، ونهاية ما يقصدون قصدا واحدا ، وهو قيام مصلحة دينهم ودنياهم ، ولو تفرقت الطرق ، وتعددت المشارب ، فالأعمال متباينة ، والقصد واحد ، وهذه من الحكمة العامة النافعة في جميع الأمور.

[١٢٣] وهذا أيضا إرشاد آخر ، بعد ما أرشدهم إلى التدبير فيمن يباشر القتال ، أرشدهم إلى أنهم يبدؤون بالأقرب فالأقرب ، من الكفار ، والغلظة عليهم ، والشدة في القتال ، والشجاعة والثبات. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) أي : وليكن لديكم علم ، أن المعونة من الله ، تنزل بحسب التقوى ، فلازموا على تقوى الله ، يعنكم وينصركم على عدوكم. وهذا العموم في قوله : (قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) مخصوص بما إذا كانت المصلحة في قتال غير الّذين يلوننا ، وأنواع المصالح كثيرة جدا.

[١٢٤] يقول تعالى : مبينا حال المنافقين ، وحال المؤمنين عند نزول القرآن ، وتفاوت ما بين الفريقين فقال : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) فيها الأمر ، والنهي ، والخبر عن نفسه الكريمة ، وعن الأمور الغائبة ، والحث على الجهاد. (فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً) أي : حصل الاستفهام لمن حصل له الإيمان بها ، من الطائفتين.

[١٢٥ ـ ١٢٦] قال تعالى ـ مبينا الحال الواقعة ـ : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً) بالعلم بها ، وفهمها ، واعتقادها ، والعمل بها ، والرغبة في فعل الخير ، والانكفاف عن فعل الشر. (وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) أي : يبشر بعضهم بعضا ، بما منّ الله عليهم من آياته ، والتوفيق لفهمها والعمل بها. وهذا دال على انشراح صدورهم لآيات الله ، وطمأنينة قلوبهم ، وسرعة انقيادهم ، لما تحثهم عليه. (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي : شك ونفاق (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) أي : مرضا إلى مرضهم ، وشكا إلى شكهم ، من حيث أنهم كفروا بها ، وعاندوها ، وأعرضوا

٤٠٥

عنها ، فازداد لذلك مرضهم ، وترامى بهم إلى الهلاك (وَ) الطبع على قلوبهم ، حتى (ماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ). وهذا عقوبة لهم ، لأنهم كفروا بآيات الله ، وعصوا رسوله ، فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه. قال تعالى ـ موبخا لهم على إقامتهم على ما هم عليه من الكفر والنفاق ـ : (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) بما يصيبهم من البلايا والأمراض ، وبما يبتلون من الأوامر الإلهية التي يراد بها اختبارهم. (ثُمَّ لا يَتُوبُونَ) عما هم عليه من الشر (وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) ما ينفعهم ، فيفعلونه ، وما يضرهم فيتركونه. فالله تعالى يبتليهم ـ كما هي سنته في سائر الأمم ـ بالسراء والضراء وبالأوامر والنواهي ، ليرجعوا إليه ، ثمّ لا يتوبون ، ولا هم يذكرون. وفي هذه الآيات ، دليل على أن الإيمان يزيد وينقص ، وأنه ينبغي للمؤمن أن يتفقد إيمانه ويتعاهده ، فيجدده وينميه ، ليكون دائما في صعود.

[١٢٧] وقوله : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) إلى (لا يَفْقَهُونَ) ، يعني : أن المنافقين الّذين يحذرون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم. (إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) ليؤمنوا بها ، ويعملوا بمضمونها ، (نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) جازمين على ترك العمل بها ، ينتظرون الفرصة ، في الاختفاء عن أعين المؤمنين ، ويقولون : (هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا) متسللين ، وانقلبوا معرضين ، فجازاهم الله بعقوبة من جنس عملهم ، فكما انصرفوا عن العمل (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) أي : صدها عن الحقّ وخذلها. (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) فقها ينفعهم ، فإنهم لو فقهوا ، لكانوا ـ إذا نزلت سورة ـ آمنوا بها ، وانقادوا لأمرها. والمقصود من هذا بيان شدة نفورهم عن الجهاد وغيره من شرائع الإيمان ، كما قال تعالى عنهم : (فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ).

[١٢٨ ـ ١٢٩] يمتن تعالى على عباده المؤمنين بما بعث فيهم النبي الأمي الذي من أنفسهم ، يعرفون حاله ، ويتمكنون من الأخذ عنه ، ولا يأنفون عن الانقياد له ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غاية النصح لهم ، والسعي في مصالحهم. (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) أي : يشق عليه الأمر ، الذي يشق عليكم ويعنتكم. (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) فيحب لكم الخير ، ويسعى جهده في إيصاله إليكم ، ويحرص على هدايتكم إلى الإيمان ، ويكره لكم الشر ، ويسعى جهده في تنفيركم عنه. (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي : شديد الرأفة والرحمة بهم ، أرحم بهم من والديهم. ولهذا كان حقه مقدما على سائر حقوق الخلق ، وواجب على الأمة الإيمان به ، وتعظيمه ، وتوقيره ، وتعزيره ، (فَإِنْ) آمنوا ، فذلك حظهم وتوفيقهم ، وإن (تَوَلَّوْا) عن الإيمان والعمل ، فامض على سبيلك ، ولا تزل في دعوتك ، وقل : (حَسْبِيَ اللهُ) أي : الله يكفيني جميع ما أهمني ، (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي : لا معبود بحق سواه. (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أي : اعتمدت ، ووثقت به ، في جلب ما ينفع ، ودفع ما يضر ، (وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) الذي هو أعظم المخلوقات. وإذا كان رب العرش العظيم ، الذي وسع المخلوقات ، كان ربّا لما دونه من باب أولى ، وأحرى. تمّ تفسير سورة التوبة بعون الله ومنّه ، فلله الحمد ، أولا وآخرا ، وظاهرا وباطنا.

تفسير سورة يونس

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] يقول تعالى : (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) (١) وهو هذا القرآن ، المشتمل على الحكمة والأحكام ،

٤٠٦

الدالة آياته على الحقائق الإيمانية ، والأوامر والنواهي الشرعية ، الذي على جميع الأمة تلقيه بالرضا والقبول والانقياد. ومع هذا ، فأعرض أكثرهم فهم لا يعلمون ، فتعجبوا (أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) عذاب الله ، وخوفهم نقم الله ، وذكرهم بآيات الله.

(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) إيمانا صادقا (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي : لهم جزاء موفور ، وثواب مدخور عند ربهم ، بما قدموه ، وأسلفوه من الأعمال الصالحة الصادقة. فتعجب الكافرون من هذا الرجل العظيم تعجبا حملهم على الكفر به ، (قالَ الْكافِرُونَ) عنه : (إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) أي : بيّن السحر ، لا يخفى ـ بزعمهم ـ على أحد ، وهذا من سفههم وعنادهم ، فإنهم تعجبوا من أمر ، ليس مما يتعجب منه ، ويستغرب ، وإنما يتعجب من جهالتهم وعدم معرفتهم بمصالحهم. كيف لم يؤمنوا بهذا الرسول الكريم ، الذي بعثه الله من أنفسهم ، يعرفونه حق المعرفة ، فردوا دعوته ، وحرصوا على إبطال دينه ، والله متمم نوره ، ولو كره الكافرون.

[٣] يقول تعالى ـ مبينا لربوبيته ، وإلهيته ، وعظمته ـ : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) مع أنه قادر على خلقها في لحظة واحدة. ولكن لما له في ذلك من الحكمة الإلهية ، ولأنه رفيق في أفعاله. ومن جملة حكمته فيها ، أنه خلقها بالحق وللحق ، ليعرف بأسمائه وصفاته ويفرد بالعبادة. (ثُمَ) بعد خلق السموات والأرض (اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) استواء يليق بعظمته. (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) في العالم العلوي ، والسفلي ، من الإماتة والإحياء ، وإنزال الأرزاق ، ومداولة الأيام بين الناس ، وكشف الضر عن المضرورين ، وإجابة سؤال السائلين. فأنواع التدابير ، نازلة منه ، وصاعدة إليه ، وجميع الخلق ، مذعنون لعزته ، خاضعون لعظمته وسلطانه. (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) فلا يقدم أحد منهم على الشفاعة ، ولو كان أفضل الخلق ، حتى يأذن الله ، ولا يأذن ، إلا لمن ارتضى ، ولا يرتضي إلا أهل الإخلاص والتوحيد له. (ذلِكُمُ) الذي هذا شأنه (اللهُ رَبُّكُمْ) أي : هو الله الذي له وصف الإلهية الجامعة لصفات الكمال ، ووصف الربوبية الجامعة لصفات الأفعال. (فَاعْبُدُوهُ) أي : أفردوه بجميع ما تقدرون عليه من أنواع العبودية. (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) الأدلة الدالة ، على أنه وحده ، المعبود المحمود ، ذو الجلال والإكرام.

[٤] فلما ذكر حكمه القدري ، وهو التدبير العام ، وحكمه الديني ، وهو شرعه ، الذي مضمونه ومقصوده ، عبادته وحده لا شريك له ، ذكر الحكم الجزائي ، وهو : مجازاته على الأعمال بعد الموت ، فقال : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) أي : سيجمعكم بعد موتكم ، لميقات يوم معلوم. (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) أي : وعده صادق ، لا بد من إتمامه (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) ، فالقادر على ابتداء الخلق ، قادر على إعادته. والذي يرى ابتداءه بالخلق ، ثمّ ينكر إعادته للخلق ، فهو فاقد العقل ، منكر لأحد المثلين ، مع إثبات ما هو أولى منه ، فهذا دليل عقلي واضح على المعاد. ثمّ ذكر الدليل النقلي فقال : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) بقلوبهم بما أمرهم الله بالإيمان به. (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بجوارحهم ، من واجبات ، ومستحبات ، (بِالْقِسْطِ) أي : بإيمانهم وأعمالهم ، جزاء قد بينه لعباده ، وأخبر أنه لا تعلم نفس ما أخفي

٤٠٧

لهم من قرة أعين ، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) بآيات الله ، وكذبوا رسل الله. (لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ) أي : ماء حار ، يشوي الوجوه ، ويقطع الأمعاء. (وَعَذابٌ أَلِيمٌ) من سائر أصناف العذاب (بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) ، أي : بسبب كفرهم وظلمهم ، وما ظلمهم الله ، ولكن أنفسهم يظلمون.

[٥ ـ ٦] لما قرر ربوبيته ، وإلهيته ، ذكر الأدلة العقلية الأفقية ، الدالة على ذلك وعلى كماله ، في أسمائه وصفاته ، من الشمس والقمر ، والسموات والأرض وجميع ما خلق فيهما من سائر أصناف المخلوقات ، وأخبر أنها آيات (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) و (لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ). فإن العلم يهدي إلى معرفة الدلالة فيها ، وكيفية استنباط الدلائل على أقرب وجه ، والتقوى تحدث في القلب ، الرغبة في الخير ، والرهبة من الشر ، الناشئين عن الأدلة والبراهين ، وعن العلم واليقين. وحاصل ذلك أن مجرد خلق هذه المخلوقات بهذه الصفة ، دال على كمال قدرة الله تعالى ، وعلمه ، وحياته ، وقيوميته ، وما فيها من الأحكام ، والإتقان ، والإبداع والحسن ، دال على كمال حكمة الله ، وحسن خلقه وسعة علمه. وما فيها من أنواع المنافع والمصالح ـ كجعل الشمس ضياء ، والقمر نورا ، يحصل بهما من النفع الضروري وغيره مما يحصل ـ يدل ذلك على رحمة الله تعالى واعتنائه بعباده وسعة بره وإحسانه ، وما فيها من التخصيصات ، دال على مشيئة الله ، وإرادته النافذة. وذلك دال على أنه وحده المعبود ، والمحبوب المحمود ، ذو الجلال والإكرام ، والأوصاف العظام ، الذي لا تنبغي الرغبة والرهبة ، إلا إليه ، ولا يصرف خالص الدعاء إلا له ، لا لغيره ، من المخلوقات المربوبات ، المفتقرات إلى الله ، في جميع شؤونها. وفي هذه الآيات الحث والترغيب على التفكير في مخلوقات الله ، والنظر فيها ، بعين الاعتبار. فإن بذلك تنفسح البصيرة ، ويزداد الإيمان والعقل ، وتقوى القريحة. وفي إهمال ذلك ، تهاون بما أمر الله به ، وإغلاق لزيادة الإيمان ، وجمود للذهن والقريحة.

[٧] يقول تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) أي : لا يطمعون بلقاء الله ، الذي هو أكبر ما طمع فيه الطامعون ، وأعلى ما أمله المؤملون ، بل أعرضوا عن ذلك ، وربما كذبوا به (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) بدلا عن الآخرة. (وَاطْمَأَنُّوا بِها) أي : ركنوا إليها ، وجعلوها غاية أمرهم ، ونهاية قصدهم. فسعوا لها ، وأكبوا على لذاتها وشهواتها ، بأي طريق حصلت ، حصلوها ، ومن أي وجه لاحت ، ابتدروها ، قد صرفوا إرادتهم ونياتهم وأفكارهم وأعمالهم إليها. فكأنهم خلقوا للبقاء فيها ، وكأنها ليست بدار ممر ، يتزود فيها المسافرون ، إلى الدار الباقية التي إليها ، يرحل الأولون والآخرون ، وإلى نعيمها ولذاتها شمر الموفقون. (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ) فلا ينتفعون بالآيات القرآنية ، ولا بالآيات الأفقية والنفسية ، والإعراض عن الدليل ، مستلزم للإعراض والغفلة ، عن المدلول المقصود.

[٨] (أُولئِكَ) الّذين هذا وصفهم (مَأْواهُمُ النَّارُ) أي : مقرهم ومسكنهم ، التي لا يرحلون عنها. (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) من الكفر والشرك ، وأنواع المعاصي. فلما ذكر عقابهم ، ذكر ثواب المطيعين فقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) إلى (أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

٤٠٨

[٩] يقول تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي : جمعوا بين الإيمان ، والقيام بموجبه ومقتضاه من الأعمال الصالحة ، المشتملة على أعمال القلوب ، وأعمال الجوارح ، على وجه الإخلاص والمتابعة. (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) أي : بسبب ما معهم من الإيمان ، يثيبهم الله أعظم الثواب ، وهو : الهداية ، فيعلمهم ما ينفعهم ، ويمن عليهم بالأعمال الناشئة عن الهداية ، ويهديهم للنظر في آياته ، ويهديهم في هذه الدار ، إلى الصراط المستقيم ، وفي دار الجزاء إلى الصراط الموصل إلى جنات النعيم ، ولهذا قال : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) الجارية على الدوام (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ). أضافها الله إلى النعيم ، لاشتمالها على النعيم التام. نعيم القلب بالفرح والسرور ، والبهجة والحبور ، ورؤية الرحمن ، وسماع كلامه ، والاغتباط برضاه وقربه ، ولقاء الأحبة والإخوان ، والتمتع بالاجتماع بهم ، وسماع الأصوات المطربات ، والنغمات المشجيات ، والمناظر المفرحات. ونعيم البدن بأنواع المآكل ، والمشارب ، والمناكح ، ونحو ذلك ، مما لا تعلمه النفوس ، ولا خطر ببال أحد ، أو قدر أن يصفه الواصفون.

[١٠] (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَ) أي عبادتهم فيها لله ، أولها تسبيح لله وتنزيه له عن النقائص ، وآخرها ، تحميد لله ، فالتكاليف سقطت عنه في دار الجزاء ، وإنّما بقي لهم ، أكمل اللذات ، الذي هو ألذ عليهم من المآكل اللذيذة ، ألا وهو : ذكر الله الذي تطمئن به القلوب ، وتفرح به الأرواح ، وهو لهم بمنزلة النّفس ، من دون كلفة ومشقة. (وَ) أما (تَحِيَّتُهُمْ فِيها) فيما بينهم عند التلاقي والتزاور ، فهو السّلام ، أي : كلام سالم من اللغو والإثم ، موصوف بأنه (سَلامٌ) ، وقد قيل في تفسير قوله : (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ) إلى آخر الآية ، أن أهل الجنة ـ إذا احتاجوا إلى الطعام والشراب ونحوهما ـ قالوا سبحانك اللهم ، فأحضر لهم في الحال. (وَآخِرُ دَعْواهُمْ) إذا فرغوا (أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

[١١] وهذا من لطفه وإحسانه بعباده ، أنه لو عجل لهم الشر ، إذا أتوا بأسبابه ، وبادرهم بالعقوبة على ذلك ، كما يعجل لهم الخير إذا أتوا بأسبابه (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) أي لمحقتهم العقوبة. ولكنه تعالى ، يمهلهم ، ولا يهملهم ، ويعفو عن كثير من حقوقه ، فلو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ، ما ترك على ظهرها من دابة. ويدخل في هذا ، أن العبد إذا غضب على أولاده ، أو أهله ، أو ماله ، ربما دعا عليهم دعوة ، لو قبلت منه لهلكوا ، ولأضره ذلك غاية الضرر ، ولكنه تعالى حليم حكيم. وقوله : (فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) أي : لا يؤمنون بالآخرة ، فلذلك لا يستعدون لها ، ولا يعملون ما ينجيهم من عذاب الله ، (فِي طُغْيانِهِمْ) أي : باطلهم ، الذي جاوزروا به الحقّ والحد. (يَعْمَهُونَ) يترددون حائرين ، لا يهتدون السبيل ، ولا يوفقون لأقوم دليل ، وذلك عقوبة لهم على ظلمهم ، وكفرهم بآيات الله.

[١٢] وهذا إخبار عن طبيعة الإنسان ، من حيث هو ، وأنه إذا مسه ضر ، من مرض ، أو مصيبة ، اجتهد في الدعاء ، وسأل الله في جميع أحواله ، قائما ، وقاعدا ، ومضطجعا ، وألح في الدعاء ، ليكشف الله عنه ضره. (فَلَمَّا

٤٠٩

كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) أي : استمر في غفلته ، معرضا عن ربه ، كأنه ما جاءه ضر ، فكشفه الله عنه ، فأي ظلم أعظم من هذا الظلم؟ يطلب من الله قضاء غرضه ، فإذا أناله إياه ، لم ينظر إلى حق ربه ، وكأنه ليس عليه لله حق. وهذا تزيين من الشيطان ، زين له ما كان مستهجنا مستقبحا في العقول والفطر. (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ) أي : المتجاوزين للحد (ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

[١٣] يخبر تعالى أنه أهلك الأمم الماضية ، بظلمهم وكفرهم ، بعد ما جاءتهم البينات ، على أيدي الرسل ، وتبين الحقّ ، فلم ينقادوا لها ، ولم يؤمنوا. فأحل بهم عقابه الذي لا يرد عن كل مجرم ، متجرىء على محارم الله ، وهذه سنته في جميع الأمم.

[١٤] (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ) أي : المخاطبين (خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) فإن أنتم اعتبرتم واتعظتم بمن قبلكم واتبعتم آيات الله ، وصدقتم رسله ، نجوتم في الدنيا والآخرة. وإن فعلتم كفعل الظالمين قبلكم ، أحل بكم ما أحل بهم ، ومن أنذر فقد أعذر.

[١٥] يذكر تعالى تعنت المكذبين لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنهم إذا تتلى عليهم آيات الله القرآنية المبينة للحق ، أعرضوا عنها ، وطلبوا وجوه التعنت فقالوا ، جراءة منهم وظلما : (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) فقبحهم الله ، ما أجرأهم على الله ، وأشدهم ظلما ، وردا لآياته. فإذا كان الرسول العظيم ، يأمره الله ، أن يقول لهم : (قُلْ ما يَكُونُ لِي) أي ما ينبغي ، ولا يليق بي (أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) ، فإني رسول محض ، ليس لي من الأمر شيء ، (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) أي : ليس لي غير ذلك ، فإني عبد مأمور. (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) ، فهذا قول خير الخلق ، وأدبه مع أوامر ربه ووحيه ، فكيف بهؤلاء السفهاء الضالين ، الّذين جمعوا بين الجهل والضلال ، والظلم والعناد ، والتعنت والتعجيز لرب العالمين ، أفلا يخافون عذاب يوم عظيم؟ فإن زعموا أن قصدهم ، أن يتبين لهم الحقّ بالآيات ، التي طلبوا فهم كذبة في ذلك ، فإن الله قد بين من الآيات ما يؤمن على مثله البشر ، وهو الذي يصرفها كيف يشاء ، تبعا لحكمته الربانية ، ورحمته بعباده.

[١٦ ـ ١٧] (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً) طويلا (مِنْ قَبْلِهِ) أي : قبل تلاوته ، وقبل درايتكم به ، وأنا ما خطر على بالي ، ولا وقع في ظني. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أني ، حيث لم أتله في مدة عمري ، ولا صدر مني ما يدل على ذلك ، فكيف أتقوّله بعد ذلك ، وقد لبثت فيكم عمرا طويلا ، تعرفون حقيقة حالي ، بأني أمّي ، لا أقرأ ، ولا أكتب ، ولا أدرس ، ولا أتعلم من أحد؟ فأتيتكم بكتاب عظيم ، أعجز الفصحاء ، وأعيا العلماء ، فهل يمكن ـ مع هذا ـ أن يكون من تلقاء نفسي ، أم هذا دليل قاطع أنه تنزيل من حكيم حميد؟ فلو أعملتم أفكاركم وعقولكم ، وتدبرتم حالي وحال هذا الكتاب ، لجزمتم جزما لا يقبل الريب بصدقه ، وأنه الحقّ الذي ليس بعده إلا الضلال ، ولكن إذا أبيتم إلا التكذيب والعناد ، فأنتم لا شك أنكم ظالمون. (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ)؟ فلو كنت متقوّلا ، لكنت أظلم الناس ، وفاتني الفلاح ، ولم تخف عليكم

٤١٠

حالي ، ولكني جئتكم بآيات الله ، فكذبتم بها ، فتعين فيكم الظلم ، ولا بد أن أمركم سيضمحل ، ولن تنالوا الفلاح ، ما دمتم كذلك. ودل قوله : (قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا) الآية ، أن الذي حملهم على هذا التعنت ، الذي صدر منهم هو عدم إيمانهم بلقاء الله ، وعدم رجائه ، وأن من آمن بلقاء الله ، فلابد أن ينقاد لهذا الكتاب ، ويؤمن به ، لأنه حسن القصد.

[١٨] يقول تعالى : (وَيَعْبُدُونَ) أي : المشركون المكذبون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) أي : إن معبوداتهم ، لا تملك لهم مثقال ذرة ، من النفع ، ولا تدفع عنهم شيئا. (وَيَقُولُونَ) قولا خاليا من البرهان : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) أي : يعبدونهم ، ليقربوهم إلى الله ، ويشفعوا لهم عنده ، وهذا قول من تلقاء أنفسهم ، وكلام ابتكروه ، هم ، ولهذا قال تعالى ـ مبطلا لهذا القول ـ : (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) ، أي : الله تعالى هو العالم ، الذي أحاط علما بجميع ما في السموات والأرض ، وقد أخبركم بأنه ليس له شريك ولا إله معه ، أفأنتم ـ يا معشر المشركين ـ تزعمون أنه يوجد له فيها شركاء؟ ، أفتخبرونه بأمر خفي عليه ، وعلمتوه؟ أأنتم أعلم أم الله؟ فهل يوجد قول أبطل من هذا القول ، المتضمن أن هؤلاء الضلال الجهال السفهاء ، أعلم من رب العالمين؟ فليكتف العاقل بمجرد تصور هذا القول ، فإنه يجزم بفساده وبطلانه : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي : تقدس وتنزه ، أن يكون له شريك أو نظير ، بل هو الله الأحد الفرد الصمد الذي لا إله في السموات والأرض إلا هو ، وكل معبود في العالم العلوي والسفلي سواه ، فإنه باطل عقلا وشرعا وفطرة. (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (٦٢).

[١٩] أي : (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً) متفقين على الدين الصحيح ، ولكنهم اختلفوا ، فبعث الله الرسل مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه. (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) بإمهال العاصين ، وعدم معاجلتهم بذنوبهم ، (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بأن ننجي المؤمنين ، ونهلك الكافرين المكذبين ، وصار هذا فارقا بينهم (فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ). ولكنه أراد امتحانهم ، وابتلاء ، بعضهم ببعض ، ليتبين الصادق من الكاذب.

[٢٠] (وَيَقُولُونَ) أي : المكذبون المتعنتون ، (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ). يعنون : آيات الاقتراح التي يعينونها ، كقولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) الآيات. وكقولهم : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) (٩٠) الآيات (٩٠ إلى ٩٣) من سورة الإسراء. (فَقُلْ) لهم إذا طلبوا منك آية (إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) أي : هو المحيط علما بأحوال العباد ، فيدبرهم بما يقتضيه علمه فيهم ، وحكمته البديعة ، وليس لأحد تدبير في حكم ولا دليل ، ولا غاية ، ولا تعليل. (فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ). أي : كل ينتظر بصاحبه ، ما هو أهل له ، فانظروا لمن تكون العاقبة.

[٢١] يقول تعالى : (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ) كالصحة بعد المرض ، والغنى بعد الفقر ، والأمن

٤١١

بعد الخوف ، نسوا ما أصابهم من الضراء ، ولم يشكروا الله على الرخاء والرحمة ، بل استمروا في طغيانهم ومكرهم. ولهذا قال : (إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا) أي يسعون بالباطل ، ليبطلوا به الحقّ. (قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً) فإن المكر السيّء لا يحيق إلا بأهله ، فمقصودهم منعكس عليهم ، ولم يسلموا من التبعة ، بل تكتب الملائكة عليهم ، ما يعملون ، ويحصيه الله ، ثمّ يجازيهم عليه أوفر الجزاء.

[٢٢ ـ ٢٣] لما ذكر تعالى القاعدة العامة في أحوال الناس عند إصابة الرحمة لهم بعد الضراء ، واليسر بعد العسر ، ذكر حالة تؤيد ذلك وهي : حالهم في البحر ، عند اشتداده والخوف من عواقبه ، فقال : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) بما يسر لكم من الأسباب الميسرة لكم فيها ، وهداكم إليها. (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) أي : السفن البحرية (وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) موافقة لما يهوونه ، من غير انزعاج ولا مشقة. (وَفَرِحُوا بِها) واطمأنوا إليها ، فبينما هم كذلك ، إذ (جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ) شديدة الهبوب (وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) أي : عرفوا أنه الهلاك ، فانقطع حينئذ ، تعلقهم بالمخلوقين ، وعرفوا أنه لا ينجيهم من هذه الشدة إلا الله وحده. وحينئذ (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) ووعدوا من أنفسهم على وجه الإلزام ، فقالوا : (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ). (فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) أي نسوا تلك الشدة وذلك الدعاء ، وما الزموه أنفسهم ، فأشركوا بالله ، من اعترفوا بأنه لا ينجيهم من الشدائد ، ولا يدفع عنهم المضايق. فهلا أخلصوا لله العبادة في الرخاء ، كما أخلصوها في الشدة؟ ولكن هذا البغي يعود وباله عليهم ، ولهذا قال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي : غاية ما تؤملون ببغيكم ، وشرودكم عن الإخلاص لله ، أن تنالوا شيئا من حطام الدنيا وجاهها ، النزر اليسير الذي سينقضي سريعا ، ويمضي جميعا ، ثمّ تنتقلون عنه بالرغم. (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ) في يوم القيامة (فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وفي هذا غاية التحذير لهم عن الاستمرار على عملهم.

[٢٤] وهذا المثل من أحسن الأمثلة ، وهو مطابق لحالة الدنيا ، فإن لذّاتها وشهواتها وجاهها ، ونحو ذلك يزهو لصاحبه إن زها وقتا قصيرا ، فإذا استكمل وتم ، اضمحل ، وزال عن صاحبه ، أو زال صاحبه عنه ، فأصبح صفر اليدين منها ، ممتلىء القلب من همها وحزنها وحسرتها. فذلك (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) أي : نبت فيها من كل صنف ، وزوج بهيج (مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ) كالحبوب والثمار (وَ) مما تأكل (الْأَنْعامُ) كأنواع العشب ، والكلأ المختلف الأصناف. (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ) أي : تزخرفت في منظرها ، واكتست في زينتها ، فصارت بهجة للناظرين ، ونزهة للمتفرجين ، وآية للمتبصرين ، فصرت ترى لها منظرا عجيبا ما بين أخضر ، وأصفر ، وأبيض وغيره. (وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها) أي : حصل معهم طمع بأن ذلك سيستمر ويدوم ، لوقوف إرادتهم عنده ، وانتهاء مطالبهم فيه. فبينما هم في تلك الحالة (أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) أي : كأنها ما كانت فهذه حالة الدنيا ، سواء بسواء. (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) أي : نبينها ونوضحها ، بتقريب المعاني إلى الأذهان ، وضرب الأمثال (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي : يعملون أفكارهم فيما ينفعهم. وأما الغافل

٤١٢

المعرض ، فهذا لا تنفعه الآيات ، ولا يزيل عنه الشك البيان.

[٢٥ ـ ٢٦] ولما ذكر الله حال الدنيا ، وحاصل نعيمها ، شوّق إلى الدار الباقية فقال : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) إلى (وَهُمْ فِيها خالِدُونَ) ، عمم تعالى عباده بالدعوة إلى دار السّلام ، والحث على ذلك ، والترغيب ، وخص بالهداية ، من شاء استخلاصه واصطفاءه. فهذا فضله وإحسانه ، والله يختص برحمته من يشاء ، وذلك عدله وحكمته ، وليس لأحد عليه حجة ، بعد البيان والرسل. وسمى الله الجنة «دار السّلام» لسلامتها من جميع الآفات والنقائص ، وذلك لكمال نعيمها ، وتمامه ، وبقائه ، وحسنه من كل وجه. ولما دعا إلى دار السّلام ، كأن النفوس تشوقت إلى الأعمال الموجبة لها ، الموصلة إليها ، أخبر عنها بقوله : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) أي : للذين أحسنوا في عبادة الخالق ، بأن عبدوه على وجه المراقبة والنصيحة ، في عبوديته ، وقاموا بما قدروا عليه منها ، وأحسنوا إلى عباد الله ، بما يقدرون عليه من الإحسان القولي والفعلي ، من بذل الإحسان المالي ، والإحسان البدني ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وتعليم الجاهلين ، ونصيحة المعرضين ، وغير ذلك من وجوه البر والإحسان. فهؤلاء الّذين أحسنوا لهم «الحسنى» وهي : الجنة الكاملة في حسنها و «زيادة» وهي : النظر إلى وجه الله الكريم ، وسماع كلامه ، والفوز برضاه والبهجة بقربه ، فبهذا حصل لهم أعلى ما يتمناه المتمنون ، ويسأله السائلون. ثمّ ذكر اندفاع المحذور عنهم فقال : (وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ) ، أي : لا ينالهم مكروه بوجه من الوجوه ، لأن المكروه ، إذا وقع الإنسان ، تبين ذلك في وجهه ، وتغير ، وتكدر. وأما هؤلاء ـ فكما قال الله عنهم ـ (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) (٢٤) ، (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ) الملازمون لها (هُمْ فِيها خالِدُونَ) لا يحولون ، ولا يزولون ، ولا يتغيرون.

[٢٧] لما ذكر أصحاب الجنة ذكر أصحاب النار ، فذكر أن بضاعتهم التي اكتسبوها في الدنيا هي الأعمال السيئة المسخطة لله ، من أنواع الكفر والتكذيب ، وأصناف المعاصي. ف (جَزاءُ) هم (سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) أي : جزاء يسوؤهم بحسب ما عملوا من السيئات على اختلاف أحوالهم. (وَتَرْهَقُهُمْ) أي تغشاهم (ذِلَّةٌ) في قلوبهم وخوف من عذاب الله ، لا يدفعه عنهم دافع ولا يعصمهم منه عاصم ، وتسري تلك الذلة الباطنة إلى ظاهرهم ، فتكون سوادا في وجوههم. (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) فكم بين الفريقين من الفرق ، ويا بعد ما بينهما من التفاوت؟ (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥) ... ، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) (٤٢).

[٢٨ ـ ٢٩] يقول تعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) أي : نجمع جميع الخلائق ، لميعاد يوم معلوم ، ونحضر المشركين ، وما كانوا يعبدون من دون الله. (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ) أي : الزموا مكانكم ليقع التحاكم والفصل بينكم وبينهم. (فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) أي : فرقنا بينهم ، بالبعد البدني والقلبي ، فحصلت بينهم العداوة الشديدة ، بعد أن بذلوا لهم في الدنيا ، خالص المحبة ، وصفو الوداد ، فانقلبت تلك المحبة والولاية ، بغضا وعداوة.

٤١٣

(وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ) متبرئين منهم : (ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) فإننا ننزه الله أن يكون له شريك ، أو نديد. (فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) (٢٩) ، ما أمرناكم بها ، ولا دعوناكم لذلك ، وإنما عبدتم من دعاكم إلى ذلك ، وهو الشيطان ، كما قال تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٦٠). وقال : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) (٤١). فالملائكة الكرام ، والأنبياء ، والأولياء ونحوهم : يتبرأون ممن عبدهم يوم القيامة ويتنصلون من دعائهم إياهم إلى عبادتهم وهم الصادقون البارون في ذلك. فحينئذ يتحسر المشركون حسرة ، لا يمكن وصفها ، ويعلمون مقدار ما قدموا من الأعمال ، وما أسلفوا من رديء الخصال ، ويتبين لهم يومئذ أنهم كانوا كاذبين ، وأنهم مفترون على الله ، قد ضلت عبادتهم ، واضمحلت معبوداتهم ، وتقطعت بهم الأسباب والوسائل.

[٣٠] ولهذا قال : (هُنالِكَ) أي : في ذلك اليوم (تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) أي : تتفقد أعمالها وكسبها ، وتتبعه بالجزاء ، وتجازى بحسبه ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر. (وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من قولهم بصحة ما هم عليه من الشرك ، وأن ما يعبدون من دون الله ، تنفعهم وتدفع عنهم العذاب.

[٣١ ـ ٣٣] أي : قل لهؤلاء الّذين أشركوا بالله ، ما لم ينزل به سلطانا ـ محتجا عليهم بما أقروا به ، من توحيد الربوبية ، على ما أنكروه من توحيد الألوهية ـ (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) بإنزال الأرزاق من السماء ، وإخراج أنواعها من الأرض ، وتيسير أسبابها فيها؟ (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) أي : من هو الذي خلقهما وهو مالكهما؟ وخصهما بالذكر ، من باب التنبيه على المفضول بالفاضل ، ولكمال شرفهما ونفعهما. (وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) كإخراج أنواع الأشجار والنبات من الحبوب والنوى ، وإخراج المؤمن من الكافر ، والطائر من البيضة ، ونحو ذلك. (وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) عكس هذه المذكورات. (وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) في العالم العلوي والسفلي ، وهذا شامل لجميع أنواع التدابير الإلهية ، فإنك إذا سألتهم عن ذلك (فَسَيَقُولُونَ اللهُ) لأنهم يعترفون بجميع ذلك ، وأن الله لا شريك له في شيء من المذكورات. (فَقُلْ) لهم إلزاما بالحجة (أَفَلا تَتَّقُونَ) الله فتخلصون له العبادة ، وحده لا شريك له ، وتخلعون ما تعبدونه من دونه من الأنداد والأوثان. (فَذلِكُمُ) الذي وصف نفسه بما وصفها به (اللهُ رَبُّكُمُ) أي : المألوه المعبود المحمود ، المربي جميع الخلق بالنعم وهو : (الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ). فإنه تعالى المنفرد بالخلق والتدبير لجميع الأشياء ، الذي ما بالعباد من نعمة ، إلا منه ، ولا يأتي بالحسنات إلا هو ، ولا يدفع السيئات إلا هو ، ذو الأسماء الحسنى والصفات الكاملة العظيمة والجلال والإكرام. (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) عن عبادة من هذا وصفه ، إلى عبادة الذي ليس له من وجوده إلا العدم ، ولا يملك لنفسه نفعا ولا ضرّا ، ولا موتا ، ولا حياة ولا نشورا. فليس له من الملك مثقال ذرة ، ولا شركة له بوجه من الوجوه ، ولا يشفع عند الله إلا بإذنه. فتبّا لمن أشرك به ، وويحا لمن كفر به ، لقد عدموا عقولهم بعد أن عدموا أديانهم ، بل فقدوا دنياهم وأخراهم. ولهذا قال تعالى عنهم : (كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٣٣) بعد أن أراهم الله من الآيات البينات والبراهين النيرات ما فيه عبرة لأولي الألباب ، وموعظة للمتقين وهدى للعالمين.

[٣٤] يقول تعالى ـ مبينا عجز آلهة المشركين ، وعدم اتصافها ، بما يوجب اتخاذها آلهة مع الله ـ : (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) أي يبتديه (ثُمَّ يُعِيدُهُ). وهذا استفهام بمعنى النفي والتقرير ، أي : ما منهم أحد يبدأ الخلق ثم يعيده ، وهي أضعف من ذلك وأعجز ، (قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) من غير مشارك ، ولا معاون له على ذلك. (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي : تصرفون ، وتنحرفون عن عبادة المنفرد بالابتداء ، والإعادة ، إلى عبادة من لا يخلق شيئا وهم يخلقون.

٤١٤

[٣٥] (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) ببيانه وإرشاده أو بإلهامه وتوفيقه. (قُلِ اللهُ) وحده (يَهْدِي لِلْحَقِ) بالأدلة والبراهين ، وبالإلهام والتوفيق ، والإعانة إلى سلوك أقوم طريق. (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي) أي : لا يهتدي (إِلَّا أَنْ يُهْدى) لعدم علمه ، ولضلاله ، وهي شركاؤهم التي لا تهدي ولا تهتدي إلا أن تهدى (فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) أي : أيّ شيء يجعلكم تحكمون هذا الحكم الباطل ، بصحة عبادة أحد مع الله ، بعد ظهور الحجة والبرهان ، أنه لا يستحق العبادة إلا الله وحده. فإذا تبين أنه ليس في آلهتهم التي يعبدون مع الله ، أوصافا معنوية ، ولا أوصافا فعلية ، تقتضي أن تعبد مع الله ، بل هي متصفة بالنقائص الموجبة لبطلان إلهيتها ، فلأي شيء جعلت مع الله آلهة؟ فالجواب : أن هذا من تزيين الشيطان للإنسان ، أقبح البهتان ، وأضل الضلال ، حتى اعتقد ذلك وألفه ، وظنه حقا ، وهو لا شيء.

[٣٦] ولهذا قال : (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ) أي : أكثر الّذين يدعون من دون الله شركاء ، (إِلَّا ظَنًّا) أي : ما يتبعون في الحقيقة شركاء لله ، فإنه ليس لله شريك أصلا ، عقلا ، ولا نقلا ، وإنّما يتبعون الظن و (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً). فسموها آلهة ، وعبدوها مع الله ، (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ). (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) وسيجازيهم على ذلك بالعقوبة البليغة.

[٣٧] يقول تعالى : (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ) أي : غير ممكن ولا متصور ، أن يفترى هذا القرآن على الله ، لأنه الكتاب العظيم الذي (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (٤٢) ، وهو الكتاب الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. وهو الكتاب الذي تكلم به رب العالمين ، فكيف يقدر أحد من الخلق أن يتكلم بمثله ، أو بما يقاربه ، والكلام تابع لعظمة المتكلم ووصفه؟ فإن كان أحد يماثل الله في عظمته ، وأوصاف كماله ، أمكن أن يأتي بمثل هذا القرآن ، ولو تنزلنا على الفرض والتقدير ، فتقوّله أحد على رب العالمين ، لعاجله بالعقوبة وبادره بالنكال. (وَلكِنْ) الله أنزل هذا الكتاب ، رحمة للعالمين ، وحجة على العباد أجمعين. أنزله (تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) من كتب الله السماوية ، بأن وافقها ، وصدقها بما شهدت به ، وبشرت بنزوله ، فوقع كما أخبرت. (وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ) للحلال والحرام ، والأحكام الدينية والقدرية ، والإخبارات الصادقة. (لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي : لا شك ولا مرية فيه ، بوجه من الوجوه ، بل هو الحقّ اليقين : (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٨٠) الذي ربّى جميع الخلق بنعمه. ومن أعظم أنواع تربيته أن أنزل عليهم هذا الكتاب ، الذي فيه مصالحهم الدينية والدنيوية ، المشتمل على مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال.

[٣٨] (أَمْ يَقُولُونَ) أي المكذبون به ، عنادا وبغيا : (افْتَراهُ) محمد على الله ، واختلقه ، (قُلْ) لهم ـ ملزما لهم بشيء ـ إن قدروا عليه ، أمكن ما ادّعوه ، وإلا كان قولهم باطلا. (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) يعاونكم على الإتيان بسورة مثله ، وهذا محال ، ولو كان ممكنا لا دعوا قدرتهم على ذلك ، ولأتوا بمثله. ولكن لما بان عجزهم تبين أن ما قالوه باطل ، لا حظّ له من الحجة. والذي حملهم على التكذيب بالقرآن ، المشتمل على

٤١٥

الحقّ ، الذي لا حق فوقه ، أنهم لم يحيطوا به علما.

[٣٩] فلو أحاطوا به علما ، وفهموه حق فهمه ، لأذعنوا بالتصديق به. وكذلك إلى الآن لم يأتهم تأويله الذي وعدهم أن ينزل بهم العذاب ويحل بهم النكال ، وهذا التكذيب الصادر منهم من جنس تكذيب من قبلهم ، ولهذا قال : (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) وهو الهلاك الذي لم يبق منهم أحدا. فليحذر هؤلاء أن يستمروا على تكذيبهم ، فيحل بهم ما أحل بالأمم المكذبين ، والقرون المهلكين. وفي هذا دليل على وجوب التثبت في الأمور ، وأنه لا ينبغي للإنسان أن يبادر بقبول شيء أو رده ، قبل أن يحيط به علما.

[٤٠ ـ ٤١] (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) أي : بالقرآن وما جاء به ، (وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) وهم الّذين لا يؤمنون به على وجه الظلم ، والعناد ، والفساد ، فسيجازيهم على فسادهم بأشد العذاب. (وَإِنْ كَذَّبُوكَ) فاستمر على دعوتك ، وليس عليك من حسابهم من شيء ، وما من حسابك عليهم من شيء ، لكل عمله. (فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) ، كما قال تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها).

[٤٢] يخبر تعالى عن بعض المكذبين للرسول ولما جاء به ، (وَ) أن (مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ) إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقت قراءته للوحي ، لا على وجه الاسترشاد ، بل على وجه التفرج والتكذيب ، وتطلّب العثرات ، وهذا استماع ، غير نافع ، ولا مجد على أهله خيرا. لا جرم ، انسد عليهم باب التوفيق ، وحرموا من فائدة الاستماع ، ولهذا قال : (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ). وهذا الاستفهام بمعنى النفي المتقرر ، أي : لا تسمع الصم ، الّذين لا يستمعون القول ، ولو جهرت به ، وخصوصا إذا كان عقلهم معدوما. فإذا كان من المحال إسماع الأصم الذي لا يعقل للكلام ، فهؤلاء المكذبون ، كذلك ممتنع إسماعك إياهم إسماعا ينتفعون به. وأما سماع الحجة ، فقد سمعوا ما تقوم عليهم به حجة الله البالغة ، فهذا طريق عظيم ، من طرق العلم ، قد انسد عليهم ، وهو طريق المسموعات المتعلقة بالخبر.

[٤٣] ثم ذكر انسداد الطريق الثاني ، وهو : طريق النظر فقال : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) فلا يفيدهم نظرهم إليك ، ولا استراحوا لك شيئا ، فكما أنك لا تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون ، فكذلك لا تهدي هؤلاء. فإذا فسدت عقولهم ، وأسماعهم ، وأبصارهم ، التي هي الطرق الموصلة إلى العلم ومعرفة الحقائق ، فأين الطريق الموصل لهم إلى الحقّ؟ ودل قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) الآية ، أن النظر إلى حالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهديه ، وأخلاقه ، وأعماله ، وما يدعو إليه من أعظم الأدلة على صدقه ، وصحة ما جاء به ، وأنه يكفي البصير عن غيره من الأدلة.

[٤٤] وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) فلا يزيد في سيئاتهم ، ولا ينقص من حسناتهم. (وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) يجيئهم الحقّ ، فلا يقبلونه ، فيعاقبهم الله بعد ذلك بالطبع على قلوبهم ، والختم على أسماعهم وأبصارهم.

٤١٦

[٤٥] يخبر تعالى عن سرعة انقضاء الدنيا وأن الله تعالى إذا حشر الناس وجمعهم ليوم لا ريب فيه ، كأنهم ما لبثوا إلا ساعة من نهار ، وكأنه ما مر عليهم نعيم ولا بؤس ، وهم يتعارفون بينهم ، كحالهم في الدنيا. ففي هذا اليوم ، يربح المتقون ، ويخسر الّذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين ، إلى الصراط المستقيم ، والدين القويم ، حيث فاتهم النعيم ، واستحقوا دخول النار.

[٤٦] أي : لا تحزن أيها الرسول على هؤلاء المكذبين ، ولا تستعجل لهم ، فإنهم لا بد أن يصيبهم الذي نعدهم من العذاب. إما في الدنيا ، فتراه بعينك ، وتقرّ به نفسك. وإما في الآخرة بعد الوفاة ، فإن مرجعهم إلى الله ، وسينبئهم بما كانوا يعملون ، وأحصاه ونسوه ، والله على كل شيء شهيد ، ففيه الوعيد الشديد لهم ، والتسلية للرسول الذي كذبه قومه وعاندوه.

[٤٧ ـ ٤٩] يقول تعالى : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ) من الأمم الماضية (رَسُولٌ) يدعوهم إلى توحيد الله ودينه. (فَإِذا جاءَ) هم (رَسُولُهُمْ) بالآيات ، صدقه بعضهم ، وكذبه آخرون ، فيقضي الله بينهم بالقسط ، بنجاة المؤمنين ، وإهلاك المكذبين (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بأن يعذبوا قبل إرسال الرسول ، وبيان الحجة ، أو يعذبوا بغير جرمهم. فليحذر المكذبون لك ، من مشابهة الأمم المهلكين ، فيحل بهم ، ما حل بأولئك. ولا يستبطئوا العقوبة ويقولوا : (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ، فإن هذا ظلم منهم ، حيث طلبوه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه ليس له من الأمر شيء ، وإنّما عليه البلاغ والبيان للناس. وأما حسابهم ، إنزال العذاب عليهم ، فمن الله تعالى ، ينزل عليهم إذا جاء الأجل ، الذي أجله فيه ، والوقت الذي قدره فيه ، الموافق لحكمته الإلهية. فإذا جاء ذلك الوقت ، لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ، فليحذر المكذبون من الاستعجال ، فإنهم مستعجلون بعذاب الله ، الذي إذا نزل ، لا يرد بأسه عن القوم المجرمين ، ولهذا قال : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) إلى (تَكْسِبُونَ).

[٥٠] يقول تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً) وقت نومكم بالليل (أَوْ نَهاراً) في وقت غفلتكم (ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) أي : أي بشارة استعجلوا بها ، وأي عقاب ابتدروه؟

[٥١] (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ) فإنه لا ينفع الإيمان حين حلول عذاب الله ، ويقال لهم توبيخا وعتابا في تلك الحال التي زعموا أنهم يؤمنون. (آلْآنَ) تؤمنون في حال الشدة والمشقة؟ (وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) فإن سنة الله في عباده أنه يعتبهم إذا استعتبوه قبل وقوع العذاب. فإذا وقع العذاب ، لا ينفع نفسا إيمانها ، كما قال تعالى عن فرعون ، لما أدركه الغرق : (قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) وأنه يقال له : (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (٩١). وقال تعالى : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ) ، وقال هنا : (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ) تدّعون الإيمان ، (وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) فهذا ما عملت أيديكم ، وهذا ما استعجلتم به.

[٥٢] (ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) حين يوفون أعمالهم يوم القيامة : (ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ) أي : العذاب الذي تخلدون

٤١٧

فيه ، ولا يفتر عنكم ساعة. (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) من الكفر والتكذيب والمعاصي.

[٥٣] يقول تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ) أي : يستخبرك المكذبون على وجه التعنت والعناد ، لا على وجه التبين والاسترشاد. (أَحَقٌّ هُوَ) أي : أصحيح حشر العباد ، وبعثهم بعد موتهم ليوم المعاد ، وجزاء العباد بأعمالهم ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر؟ (قُلْ) لهم مقسما على صحته ، مستدلا عليه بالدليل الواضح والبرهان : (إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌ) لا مرية فيه ولا شبهة تعتريه. (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) لله أن يبعثكم ، فكما ابتدأ خلقكم ، ولم تكونوا شيئا ، كذلك يعيدكم مرّة أخرى ليجازيكم بأعمالكم.

[٥٤] (وَ) إذا كانت القيامة (لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ) بالكفر والمعاصي جميع (ما فِي الْأَرْضِ) من ذهب وفضة وغيرهما ، لتفتدي به من عذاب الله (لَافْتَدَتْ بِهِ) ولما نفعها ذلك ، وإنّما النفع والضر ، والثواب والعقاب ، على الأعمال الصالحة ، والسيئة. (وَأَسَرُّوا) أي : الّذين ظلموا (النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) ندموا على ما قدموا ، ولات حين مناص ، (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) أي : العدل التام الذي لا ظلم ولا جور فيه بوجه من الوجوه.

[٥٥] (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يحكم فيهم بحكمه الديني والقدري ، وسيحكم فيهم بحكمة الجزائي. ولهذا قال : (أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) فلذلك لا يستعدون للقاء الله ، بل ربما لم يؤمنوا به ، وقد تواترت عليه الأدلة القطعية والبراهين النقلية والعقلية.

[٥٦] (هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ) أي : هو المتصرف بالإحياء والإماتة ، وسائر أنواع التدابير ، لا شريك له في ذلك.

(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يوم القيامة ، فيجازيكم بأعمالكم خيرها وشرها.

[٥٧] يقول تعالى ـ مرغبا الخلق ، في الإقبال على هذا الكتاب الكريم ، بذكر أوصافه الحسنة الضرورية للعباد فقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي : تعظكم ، وتنذركم عن الأعمال الموجبة لسخط الله ، المقتضية لعقابه ، وتحذركم عنها ببيان آثارها ومفاسدها. (وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ) وهو : هذا القرآن ، شفاء لما في الصدور من أمراض الشهوات الصادّة عن الانقياد للشرع ، وأمراض الشبهات ، القادحة في العلم اليقيني. فإن ما فيه من المواعظ ، والترغيب ، والترهيب ، والوعد والوعيد ، مما يوجب للعبد الرغبة والرهبة. وإذا وجدت فيه الرغبة في الخير ، والرهبة عن الشر ، ونمتا على تكرر ما يرد إليها من معاني القرآن ، أوجب ذلك تقديم مراد الله على مراد النفس ، وصار ما يرضي الله أحب إلى العبد من شهوة نفسه. وكذلك ما فيه من البراهين والأدلة التي صرّفها الله ، غاية التصريف ، وبيّنها أحسن بيان ، مما يزيل الشبه القادحة في الحقّ ، ويصل به القلب إلى أعلى درجات اليقين. وإذا صح القلب من مرضه ، ورفل بأثواب العافية ، تبعته الجوارح كلها ، فإنها تصلح بصلاحه ، وتفسد بفساده ، (وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) فالهدى هو العلم بالحق والعمل به. والرحمة هي : ما يحصل من الخير والإحسان ، والثواب العاجل والآجل ، لمن اهتدى به. فالهدى ، أجل الوسائل ، والرحمة أكمل المقاصد والرغائب ، ولكن لا يهتدي به ،

٤١٨

ولا يكون رحمة إلا في حق المؤمنين. وإذا حصل الهدى وحلّت الرحمة الناشئة عنه ، حصلت السعادة والفلاح ، والربح والنجاح ، والفرح والسرور.

[٥٨] ولذلك أمر تعالى بالفرح بذلك فقال : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ) الذي هو القرآن ، الذي هو أعظم نعمة ومنة ، وفضل تفضل الله به على عباده (وَبِرَحْمَتِهِ) الدين والإيمان ، وعبادة الله ومحبته ومعرفته. (فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) من متاع الدنيا ولذاتها. فنعمة الدين المتصلة بسعادة الدارين ، لا نسبة بينها ، وبين جميع ما في الدنيا ، مما هو مضمحل زائل عن قريب. وإنّما أمر الله تعالى بالفرح بفضله ورحمته ، لأن ذلك مما يوجب انبساط النفس ونشاطها ، وشكرها لله تعالى وقوتها ، وشدة الرغبة في العلم والإيمان الداعي للازدياد منهما ، وهذا فرح محمود ، بخلاف الفرح بشهوات الدنيا ولذاتها ، أو الفرح بالباطل ، فإن هذا مذموم كما قال تعالى عن قوم قارون له : (لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ). وكما قال تعالى في الّذين فرحوا بما عندهم من الباطل ، المناقض لما جاءت به الرسل : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ).

[٥٩] يقول تعالى ـ منكرا على المشركين الّذين ابتدعوا تحريم ما أحل الله ، وتحليل ما حرمه ـ : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ) يعني أنواع الحيوانات المحللة ، التي جعلها الله رزقا لهم ورحمة في حقهم. (فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً) قل لهم ـ موبخا على هذا القول الفاسد ـ : (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ)؟ ، ومن المعلوم أن الله لم يأذن لهم فعلم أنهم مفترون.

[٦٠] (وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أن يفعل الله بهم من النكال ، ويحل بهم من العقاب ، قال تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ). (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) كثير ، وذو إحسان جزيل ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ). إما أنهم لا يقومون بشكرها ، وإما أن يستعينوا بها على معاصيه ، وإما أن يحرموا منها ، ويردوا ما منّ الله به على عباده ، وقليل منهم الشاكر ، الذي يعترف بالنعمة ، ويثني بها على الله ، ويستعين بها على طاعته. ويستدل بهذه الآية على أن الأصل في جميع الأطعمة ، الحل ، إلا ما ورد الشرع بتحريمه ، لأن الله أنكر على من حرم الرزق الذي أنزله لعباده.

[٦١] يخبر تعالى عن عموم مشاهدته ، واطلاعه على جميع أحوال العباد في حركاتهم ، وسكناتهم ، وفي ضمن هذا ، الدعوة لمراقبته على الدوام فقال : (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ) أي : حال من أحوالك الدينية والدنيوية (وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ) أي : وما تتلو من القرآن ، الذي أوحاه الله إليك. (وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ) صغير أو كبير (إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) أي : وقت شروعكم فيه ، واستمراركم على العمل به. فراقبوا الله في أعمالكم ، وأدوها على وجه النصيحة والاجتهاد فيها ، وإياكم وما يكره الله تعالى ، فإنه مطلع عليكم ، عالم بظواهركم وبواطنكم. (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ) أي : ما يغيب عن علمه وسمعه وبصره ومشاهدته (مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي : قد أحاط به علمه ، وجرى به قلمه. وهاتان المرتبتان من مراتب القضاء

٤١٩

والقدر ، كثيرا ما يقرن الله بينهما ، وهما : العلم المحيط بجميع الأشياء ، وكتابته المحيطة بجميع الحوادث ، وكقوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (٧٠).

[٦٢ ـ ٦٥] يخبر تعالى عن أوليائه وأحبائه ، ويذكر أعمالهم وأوصافهم ، وثوابهم ، فقال : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) فيما يستقبلونه ، مما أمامهم ، من المخاوف والأهوال. (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على ما أسلفوا ، لأنهم لم يسلفوا إلا صالح الأعمال. وإذا كانوا لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، ثبت لهم الأمن والسعادة ، والخير الكثير الذي لا يعلمه إلا الله تعالى. ثم ذكر وصفهم فقال : (الَّذِينَ آمَنُوا) بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وبالقدر خيره وشره ، وصدقوا إيمانهم باستعمال التقوى ، بامتثال الأوامر واجتناب النواهي. فكل من كان مؤمنا تقيا ، كان لله تعالى وليا ، لذلك كانت (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ). أما البشارة في الدنيا ، فهي : الثناء الحسن ، والمودة في قلوب المؤمنين ، والرؤيا الصالحة ، وما يراه العبد من لطف الله به وتيسيره لأحسن الآمال والأخلاق ، وصرفه عن مساوئ الأخلاق. وأما في الآخرة ، فأولها ، البشارة عند قبض أرواحهم ، كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ). وفي القبر ، ما يبشر به من رضا الله تعالى ، والنعيم المقيم. وفي الآخرة ، تمام البشرى ، بدخول جنات النعيم ، والنجاة من العذاب الأليم. (لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ) بل ما وعد الله فهو حق ، لا يمكن تغييره ولا تبديله ، لأنه الصادق في قيله ، الذي لا يقدر أحد أن يخالفه فيما قدره وقضاه. (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) لأنه اشتمل على النجاة من كل محذور ، والظفر بكل مطلوب محبوب. وحصر الفوز فيه ، لأنه لا فوز لغير أهل الإيمان والتقوى. والحاصل أن البشرى شاملة لكل خير وثواب ، رتبه الله في الدنيا والآخرة ، على الإيمان والتقوى ، ولهذا أطلق ذلك ، فلم يقيده.

[٦٦] أي : ولا يحزنك قول المكذبين فيك ، من الأقوال ، التي يتوصلون بها إلى القدح فيك ، وفي دينك ، فإن أقوالهم لا تعزّهم ، ولا تضرك شيئا. (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) يؤتيها من يشاء ، ويمنعها ممن يشاء. قال تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) أي : فليطلبها بطاعته ، بدليل قوله بعده : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ). ومن المعلوم أنك على طاعة الله ، وأن العزة لك ولأتباعك من الله ، (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ). وقوله : (هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي : سمعه قد أحاط بجميع الأصوات ، فلا يخفى عليه شيء منها. وعلمه قد أحاط جميع الظواهر والبواطن ، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات والأرض ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر. وهو ـ تعالى ـ يسمع قولك ، وقول أعدائك فيه ، يعلم ذلك تفصيلا ، فاكتف بعلم الله وكفايته ، فمن يتق الله فهو حسبه.

[٦٧] يخبر تعالى : أنه له ما في السموات والأرض ، خلقا وملكا ، يتصرف فيهم بما يشاء من أحكامه. فالجميع مماليك لله ، مسخرون ، مدبرون ، لا يستحقون شيئا من العبادة ، وليسوا شركاء لله ، بوجه من الوجوه ، ولهذا قال :

٤٢٠