تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي

تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

المؤلف:

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ١١٣٥

[٦٢ ـ ٦٥] (قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا) أي : قد كنا نرجوك ونؤمل فيك العقل والنفع ، وهذه شهادة منهم ، لنبيهم صالح ، أنه ما زال معروفا بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم ، وأنه من خيار قومه. ولكنه ، لما جاءهم بهذا الأمر ، الذي لا يوافق أهواءهم الفاسدة ، قالوا هذه المقالة التي مضمونها ، أنك قد كنت كاملا ، والآن أخلفت ظننا فيك ، وصرت بحالة لا يرجى منك خير. وذنبه ، ما قالوه عنه : (أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) وبزعمهم أن هذا من أعظم القدح في صالح ، كيف قدح في عقولهم ، وعقول آبائهم الضالين ، وكيف ينهاهم عن عبادة من لا ينفع ولا يضر ، ولا يغني شيئا من الأحجار ، والأشجار ونحوها. وأمرهم بإخلاص الدين لله ربهم ، الذي لم تزل نعمه عليهم تترى ، وإحسانه عليهم دائما ينزل ، الذي ، ما بهم من نعمة ، إلا منه ، ولا يدفع عنهم السيئات إلا هو. (وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) أي : ما زلنا شاكين فيما دعوتنا إليه ، شكا مؤثرا في قلوبنا الريب. وبزعمهم أنهم لو علموا صحة ما دعاهم إليه ، لا تبعوه ، وهم كذبة في ذلك. ولهذا بين كذبهم في قوله : (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أي : برهان ويقين مني (وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً) أي : من عليّ برسالته ووحيه ، أي : أفأتابعكم على ما أنتم عليه ، وما تدعوننى إليه؟ (فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ) أي : غير خسار وتباب ، وضرر. (وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) لها شرب من البئر يوما ، ثم يشربون كلهم من ضرعها ، ولهم شرب يوم معلوم. (فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ) أي : ليس عليكم من مؤنتها وعلفها شيء ، (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) أي : بعقر (فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ). (فَعَقَرُوها فَقالَ) لهم صالح : (تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) بل لا بد من وقوعه.

[٦٦ ـ ٦٧] (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) بوقوع العذاب (نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ) أي : نجيناهم من العذاب والخزي والفضيحة. (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) ومن قوته وعزته ، أن أهلك الأم الطاغية ، ونجّى الرسل وأتباعهم ، (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) فقطعت قلوبهم ، (فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) أي : خامدين لا حراك لهم.

[٦٨] (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها) أي : كأنهم ـ لما جاءهم العذاب ـ ما تمتعوا في ديارهم ، ولا أنسوا فيها ، ولا تنعموا بها يوما من الدهر ، قد فارقهم النعيم ، وتناولهم العذاب السرمدي الذي لا ينقطع ، والذي كأنه لم يزل. (أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ) أي : جحدوه بعد أن جاءتهم الآية المبصرة ، (أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) فما أشقاهم وأذلهم ، نستجير بالله من عذاب الدنيا وخزيها.

[٦٩] أي : (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا) من الملائكة الكرام ، رسولنا (إِبْراهِيمَ) الخليل (بِالْبُشْرى) أي : بالبشارة بالولد ، حين أرسلهم الله لإهلاك قوم لوط ، وأمرهم أن يمروا على إبراهيم ، فيبشروه بإسحاق ، فلما دخلوا عليه (قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ) أي : سلموا عليه ، ورد عليهم‌السلام. ففي هذا مشروعية السلام ، وأنه لم يزل من ملة

٤٤١

إبراهيم عليه‌السلام وأن السلام قبل الكلام ، وأنه ينبغي أن يكون الرد ، أبلغ من الابتداء ، لأن سلامهم بالجملة الفعلية ، الدالة على التجدد ، ورده بالجملة الاسمية ، الدالة على الثبوت والاستمرار ، وبينهما فرق كبير كما هو معلوم في علم العربية. (فَما لَبِثَ) إبراهيم لما دخلوا عليه (أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) أي : بادر لبيته ، فاستحضر لأضيافه عجلا مستويا على الرضف سمينا ، فقربه إليهم فقال : ألا تأكلون؟

[٧٠] (فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ) أي : إلى تلك الضيافة (نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) وظن أنهم أتوه بشر ومكروه ، وذلك قبل أن يعرف أمرهم. (قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) أي : إنا رسل الله ، أرسلنا الله إلى إهلاك قوم لوط.

[٧١] (وَامْرَأَتُهُ) أي : وامرأة إبراهيم (قائِمَةٌ) تخدم أضيافه (فَضَحِكَتْ) حين سمعت بحالهم ، وما أرسلوا به ، تعجبا. (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) فتعجبت من ذلك.

[٧٢] و (قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) فهذان مانعان من وجود الولد (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ).

[٧٣] (قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) فإن أمره لا عجب فيه ، لنفوذ مشيئته التامة في كل شيء ، فلا يستغرب على قدرته شيء ، وخصوصا فيما يدبره ويمضيه ، لأهل هذا البيت المبارك. (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ) أي : لا تزال رحمته ، وإحسانه ، وبركاته ، وهي : الزيادة من خيره وإحسانه ، وحلول الخير الإلهي (عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) ، أي : حميد الصفات ، لأن صفاته ، صفات كمال ، حميد الأفعال ، لأن أفعاله ، إحسان ، وجود ، وبر ، وحكمة ، وعدل ، وقسط. مجيد ، والمجد : هو عظمة الصفات وسعتها ، فله صفات الكمال ، وله من كل صفة كمال ، أكملها ، وأتمها ، وأعمها.

[٧٤ ـ ٧٥] (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ) الذي أصابه من خيفة أضيافه (وَجاءَتْهُ الْبُشْرى) بالولد ، التفت حينئذ ، إلى مجادلة الرسل في إهلاك قوم لوط ، وقال لهم : (إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ). (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ) أي : ذو خلق وسعة صدر ، وعدم غضب ، عند جهل الجاهلين. (أَوَّاهٌ) أي : متضرع إلى الله في جميع الأوقات ، (مُنِيبٌ) أي : رجّاع إلى الله ، بمعرفته ومحبته ، والإقبال عليه ، والإعراض عمن سواه ، فلذلك كان يجادل عن من حتّم الله بهلاكهم.

[٧٦] فقيل له : (يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) الجدال (إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) بهلاكهم (وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) فلا فائدة في جدالك.

[٧٧] (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا) أي : الملائكة الذين صدروا من إبراهيم لما أتوا (لُوطاً سِيءَ بِهِمْ) أي : شق عليه مجيئهم ، (وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) أي : شديد حرج. لأنه علم أن قومه لا يتركونهم ، لأنهم في صور شباب ، جرد ، مرد ، في غاية الكمال والجمال ، ولهذا وقع ما خطر بباله.

[٧٨] (وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ) أي : يسرعون ويبادرون ، يريدون أضيافه بالفاحشة ، التي ما سبقهم إليها أحد

٤٤٢

من العالمين. (قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) من أضيافي ، وهذا كما عرض سليمان صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المرأتين أن يشق الولد المختصم فيه ، لاستخراج الحق ، ولعلمه أن بناته ممتنع منالهن ، ولا حق لهم فيهن ، والمقصود الأعظم ، دفع هذه الفاحشة الكبرى. (فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي) أي : إما أن تراعوا تقوى الله ، وإما أن تراعوني في ضيفي ، ولا تخزوني عندهم. (أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) فينهاكم ، ويزجركم ، وهذا دليل على مروجهم وانحلالهم ، من الخير والمروءة.

[٧٩ ـ ٨٠] (قالُوا) له : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ) أي : لا نريد إلا الرجال ، ولا لنا رغبة في النساء. فاشتد قلق لوط عليه الصلاة والسلام ، و (قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) (٨٠) كقبيلة مانعة لمنعتكم. وهذا بحسب الأسباب المحسوسة ، وإلا فإنه يأوي إلى أقوى الأركان وهو الله ، الذي لا يقوم لقوته أحد ، ولهذا لما بلغ الأمر منتهاه ، واشتد الكرب.

[٨١ ـ ٨٣] (قالُوا) له : (يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ) أي : أخبروه بحالهم ، ليطمئن قلبه ، (لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) بسوء. ثم قال جبريل بجناحه ، فطمس أعينهم ، فانطلقوا يتوعدون لوطا بمجيء الصبح ، وأمر الملائكة لوطا ، أن يسري بأهله (بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) أي : بجانب منه قبل الفجر بكثير ، ليتمكنوا من البعد عن قريتهم. (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) أي : بادروا بالخروج ، وليكن همكم النجاة ، ولا تلتفتوا إلى ما وراءكم. (إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها) من العذاب (ما أَصابَهُمْ) لأنها تشارك قومها في الإثم ، فتدلهم على أضياف لوط ، إذا نزل به أضياف. (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ) فكأن لوطا استعجل ذلك ، فقيل له : (أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ). (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) بنزول العذاب ، وإحلاله فيهم (جَعَلْنا) ديارهم (عالِيَها سافِلَها) أي : قلبناها عليهم (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) أي : من حجارة النار الشديدة الحرارة (مَنْضُودٍ) أي متتابعة ، تتبع من شذ عن القرية. (مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ) أي : معلمة ، عليها علامة العذاب والغضب ، (وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ) الذين يشابهون لفعل قوم لوط (بِبَعِيدٍ) ، فليحذر العباد أن يفعلوا كفعلهم لئلا يصيبهم ما أصابهم.

[٨٤] أي : (وَ) أرسلنا (إِلى مَدْيَنَ) القبيلة المعروفة الذين يسكنون مدين ، في أدنى فلسطين ، (أَخاهُمْ) في النسب (شُعَيْباً) لأنهم يعرفونه ، ويتمكنون من الأخذ عنه. (قالَ) لهم : (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أي : أخلصوا له العبادة ، فإنهم كانوا يشركون. وكانوا ـ مع شركهم ـ يبخسون المكيال والميزان ، ولهذا نهاهم عن ذلك فقال : (وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) بل أوفوا الكيل والميزان بالقسط. (إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) أي : بنعمة كثيرة ، وصحة ، وكثرة أموال وبنين ، فاشكروا الله على ما أعطاكم ، ولا تكفروا بنعمة الله ، فيزيلها عنكم. (وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) أي : عذابا يحيط بكم ، ولا يبقي منكم باقية.

[٨٥] (وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) أي : بالعدل الذي ترضون أن تعطوه ، (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) أي : لا تنقصوا من أشياء الناس ، فتسرقوها بأخذها ، بنقص المكيال والميزان. (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ

٤٤٣

مُفْسِدِينَ) فإن الاستمرار على المعاصي ، يفسد الأديان ، والعقائد ، والدين ، والدنيا ، ويهلك الحرث والنسل.

[٨٦] (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ) أي : يكفيكم ما أبقى الله لكم من الخير ، وما هو لكم ، فلا تطمعوا في أمر لكم عنه غنية ، وهو ضار لكم جدا. (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فاعملوا بمقتضى الإيمان ، (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أي : لست بحافظ لأعمالكم ، ووكيل عليها ، وإنما الذي يحفظها الله تعالى ، وأما أنا فأبلغكم ما أرسلت به.

[٨٧] (قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) أي : قالوا ذلك على وجه التهكم بنبيهم ، والاستبعاد لإجابتهم له. ومعنى كلامهم : أنه لا موجب لنهيك لنا ، إلا أنك تصلي لله ، وتتعبد له ، فإن كنت كذلك ، أفيوجب لنا أن نترك ما يعبد آباؤنا ، لقول ليس عليه دليل ، إلا أنه موافق لك ، فكيف نتبعك ، ونترك آباءنا الأقدمين ، أولي العقول والألباب؟ وكذلك لا يوجب قولك لنا : (أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا) ما قلت لنا ، من وفاء الكيل ، والميزان ، وأداء الحقوق الواجبة فيها ، بل لا نزال نفعل فيها ما شئنا ، لأنها أموالنا ، فليس لك فيها تصرف. ولهذا قالوا في تهكمهم : (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) أي : إنك أنت الذي ، الحلم والوقار لك خلق ، والرشد لك سجية ، فلا يصدر عنك إلا رشد ، ولا تأمر إلا برشد ، ولا تنهى إلا عن غي ، أي : ليس الأمر كذلك. وقصدهم ، أنه موصوف بعكس هذين الوصفين : بالسفه والغواية. أي : أن المعنى : كيف تكون أنت الحليم الرشيد ، وآباؤنا هم السفهاء الغاوين؟ وهذا القول الذي أخرجوه بصيغة التهكم ، وأن الأمر بعكسه ، ليس كما ظنوه ، بل الأمر كما قالوه. إن صلاته تأمره أن ينهاهم ، عما كان يعبد آباؤهم الضالون ، وأن يفعلوا في أموالهم ما يشاؤون ، فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وأي فحشاء ومنكر ، أكبر من عبادة غير الله ، ومن منع حقوق عباد الله ، أو سرقتها ، بالمكاييل ، والموازين ، وهو عليه الصلاة والسلام الحليم الرشيد.

[٨٨] (قالَ) لهم شعيب : (يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أي : يقين وطمأنينة في صحة ما جئت به ، (وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً) أي : أعطاني الله من أصناف المال ما أعطاني. (وَ) أنا (ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) فلست أريد أن أنهاكم عن البخس في المكيال ، والميزان ، وأفعله أنا ، حتى تتطرق إليّ التهمة في ذلك. بل ما أنهاكم عن أمر ، إلا وأنا أول مبتدر لتركه. (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) أي : ليس لي من المقاصد إلا أن تصلح أحوالكم ، وتستقيم منافعكم ، وليس لي من المقاصد الخاصة لي وحدي ، شيء بحسب استطاعتي. ولما كان هذا فيه نوع تزكية للنفس ، دفع هذا بقوله : (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ) أي : ما يحصل لي من التوفيق لفعل الخير والانفكاك عن الشر إلا بالله تعالى ، لا بحولي ولا بقوتي. (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أي : اعتمدت في أموري ، ووثقت في كفايته ، (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) في أداء ما أمرني به من أنواع العبادات ، وفي هذا التقرب إليه بسائر أفعال الخيرات. وبهذين الأمرين تستقيم أحوال العبد ، وهما الاستعانة بربه ، والإنابة إليه ، كما قال تعالى : (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) وقال : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (٥).

٤٤٤

[٨٩] (وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي) أي : لا تحملنكم مخالفتي ومشاقتي (أَنْ يُصِيبَكُمْ) من العقوبات (مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) لا في الدار ، ولا في الزمان.

[٩٠] (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) عما اقترفتم من الذنوب (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) فيما يستقبل من أعماركم ، بالتوبة النصوح ، والإنابة إليه بطاعته ، وترك مخالفته. (إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) لمن تاب وأناب ، يرحمه فيغفر له ، ويتقبل توبته ويحبه. ومعنى الودود من أسمائه تعالى ، أنه يحب عباده المؤمنين ويحبونه ، فهو «فعول» بمعنى «فاعل» ومعنى «مفعول».

[٩١] (قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ) أي : تضجروا من نصائحه ومواعظه لهم ، فقالوا : (ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ) وذلك لبغضهم لما يقول ، ونفرتهم عنه. (وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً) أي : في نفسك لست من الكبار والرؤساء بل من المستضعفين ، (وَلَوْ لا رَهْطُكَ) أي : جماعتك وقبيلتك (لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) أي : ليس لك قدر في صدورنا ، ولا احترام في أنفسنا ، وإنما احترمنا قبيلتك بتركنا إياك.

[٩٢] (قالَ) لهم مترققا لهم : (يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ) ، أي : كيف تراعونني لأجل رهطي ، ولا تراعونني لله ، فصار رهطي أعز عليكم من الله. (وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) أي : نبذتم أمر الله وراء ظهوركم ، ولم تبالوا به ، ولا خفتم منه. (إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) لا يخفى عليه من أعمالكم مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، فسيجازيكم على ما عملتم أتم الجزاء.

[٩٣] (وَ) لما أعيوه وعجز عنهم قال : (يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي : على حالتكم ودينكم. (إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) ويحل عليه عذاب مقيم (وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) أنا أم أنتم ، وقد علموا بذلك حين وقع عليهم العذاب. (وَارْتَقِبُوا) ما يحل بي (إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) ما يحل بكم.

[٩٤ ـ ٩٥] (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) بإهلاك قوم شعيب (نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) لا تسمع لهم صوتا ، ولا ترى منهم حركة (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها) أي : كأنهم ما أقاموا في ديارهم ، ولا تنعموا فيها حين أتاهم العذاب. (أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ) إذ أهلكها الله وأخزاها (كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) أي : قد اشتركت هاتان القبيلتان في السحق ، والبعد ، والهلاك. وشعيب عليه‌السلام كان يسمى خطيب الأنبياء ، لحسن مراجعته لقومه ، وفي قصته من الفوائد والعبر شيء كثير. منها : أن الكفار كما يعاقبون ويخاطبون بأصل الإسلام ، فكذلك بشرائعه وفروعه ، لأن شعيبا دعا قومه إلى التوحيد ، وإلى إيفاء المكيال والميزان ، وجعل الوعيد مرتبا على مجموع ذلك. ومنها : أن نقص المكاييل والموازين ، من كبائر الذنوب ، وتخشى العقوبة العاجلة على من تعاطى ذلك ، وأن ذلك من سرقة أموال الناس ، وإذا كانت سرقتهم في المكاييل والموازين ، موجبة للوعيد ، فسرقتهم ـ على وجه القهر والغلبة ـ من باب أولى وأحرى. ومنها : أن الجزاء عن جنس العمل ، فمن بخس أموال الناس ، يريد زيادة ماله ، عوقب بنقيض ذلك ، وكان سببا لزوال الخير الذي عنده من الرزق لقوله : (إِنِّي أَراكُمْ

٤٤٥

بِخَيْرٍ) أي : فلا تتسببوا إلى زواله بفعلكم. ومنها : أن على العبد أن يقنع بما آتاه الله ويقنع بالحلال عن الحرام وبالمكاسب المباحة عن المكاسب المحرمة ، وأن ذلك خير له لقوله : (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ) ، ففي ذلك من البركة وزيادة الرزق ، ما ليس في التكالب على الأسباب المحرمة من المحق ، وضد البركة. ومنها : أن ذلك من لوازم الإيمان ، وآثاره ، فإنه رتب العمل به على وجود الإيمان ، فدل على أنه إذا لم يوجد العمل ، فالإيمان ناقص ، أو معدوم. ومنها : أن الصلاة لم تزل مشروعة للأنبياء المتقدمين ، وأنها من أفضل الأعمال ، حتى إنه متقرر عند الكفار فضلها ، وتقديمها على سائر الأعمال ، وأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وهي ميزان للإيمان وشرائعه. فبإقامتها على وجهها ، تكمل أحوال العبد ، وبعدم إقامتها ، تختل أحواله الدينية. ومنها : أن المال الذي يرزقه الله الإنسان ـ وإن كان الله قد خوّله إياه ـ فليس له أن يصنع فيه ما يشاء ، فإنه أمانة عنده ، عليه أن يقيم حق الله فيه ، بأداء ما فيه من الحقوق ، والامتناع من المكاسب التي حرمها الله ورسوله. لا كما يزعمه الكفار ، ومن أشبههم ، أن أموالهم لهم أن يصنعوا فيها ما يشاؤون ويختارون ، سواء وافق حكم الله ، أو خالفه. ومنها : أن من تكملة دعوة الداعي وتمامها أن يكون أول مبادر لما يأمر غيره به ، وأول منته ، عما ينهى غيره عنه ، كما قال شعيب عليه‌السلام : (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) ولقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) (٢). ومنها : أن وظيفة الرسل ، وسنتهم ، وملتهم ، إرادة الإصلاح بحسب القدرة والإمكان بتحصيل المصالح وتكميلها ، أو بتحصيل ما يقدر عليه منها ، وبدفع المفاسد وتقليلها ، ويراعون المصالح الخاصة. وحقيقة المصلحة ، هي التي تصلح بها أحوال العباد ، وتستقيم بها أمورهم الدينية والدنيوية. ومنها : أن من قام بما يقدر عليه من الإصلاح ، لم يكن ملوما ولا مذموما في عدم فعله ، ما لا يقدر عليه ، فعلى العبد أن يقيم من الإصلاح في نفسه ، وفي غيره ، ما يقدر عليه. ومنها : أن العبد ، ينبغي له أن لا يتكل على نفسه طرفة عين ، بل لا يزال مستعينا بربه ، متوكلا عليه ، سائلا له التوفيق ، وإذا حصل له شيء من التوفيق ، فلينسبه لموليه ومسديه ، ولا يعجب بنفسه لقوله : (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ). ومنها : الترهيب بأخذات الأمم ، وما جرى عليهم ، وأنه ينبغي أن تذكر القصص التي فيها إيقاع العقوبات بالمجرمين في سياق الوعظ والزجر. كما أنه ينبغي ذكر ما أكرم الله به أهل التقوى عند الترغيب والحث على التقوى. ومنها : أن التائب من الذنب كما يسمح له عن ذنبه ، ويعفى عنه ، فإن الله تعالى يحبه ويوده. ولا عبرة بقول من يقول : «إن التائب إذا تاب ، فحسبه أن يغفر له ، ويعود عليه بالعفو ، وأما عود الود والحب فإنه لا يعود». فإن الله قال : (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) (٩٠). ومنها : أن الله يدفع عن المؤمنين بأسباب كثيرة ، قد يعلمون بعضها ، وقد لا يعلمون شيئا منها. وربما دفع عنهم بسبب قبيلتهم ، وأهل وطنهم الكفار ، كما دفع الله عن شعيب ، رجم قومه ، بسبب رهطه. وأن هذه الروابط التي يحصل بها الدفع عن الإسلام والمسلمين ، لا بأس بالسعي فيها ، بل ربما تعين ذلك ، لأن الإصلاح مطلوب ، على حسب القدرة والإمكان. فعلى هذا ، لو سعى المسلمون

٤٤٦

الذين تحت ولاية الكفار ، وعملوا على جعل الولاية جمهورية ، يتمكن فيها الأفراد والشعوب من حقوقهم الدينية والدنيوية ، لكان أولى من استسلامهم لدولة تقضي على حقوقهم الدينية والدنيوية ، وتحرص على إبادتها ، وجعلهم عملة وخدما لهم. نعم إن أمكن أن تكون الدولة للمسلمين ، وهم الحكام ، فهو المتعين. ولكن لعدم إمكان هذه المرتبة ، فالمرتبة التي فيها دفع ووقاية للدين والدنيا ، مقدمة ، والله أعلم.

[٩٦ ـ ٩٩] يقول تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى) بن عمران (بِآياتِنا) الدالة على صدق ما جاء به ، كالعصا ، واليد ونحوهما من الآيات التي أجراها الله على يدي موسى عليه‌السلام. (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي : حجة ظاهرة بينة ، ظهرت ظهور الشمس ، (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أي : أشراف قومه لأنهم المتبوعون وغيرهم تبع لهم ، فلم ينقادوا لما مع موسى من الآيات التي أراهم إياها كما تقدم بسطها في سورة الأعراف. (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) بل هو ضال غاو ، لا يأمر إلا بما هو ضرر محض. لا جرم ـ لما اتبعه قومه ـ أرادهم وأهلكهم. (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ) أي : في الدنيا (لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) أي : يلعنهم الله وملائكته ، والناس أجمعون في الدنيا والآخرة. (بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) أي : بئس ما اجتمع لهم ، وترادف عليهم من عذاب الله ، ولعنة الدنيا والآخرة.

[١٠٠ ـ ١٠١] ولما ذكر قصص هؤلاء الأمم مع رسلهم ، قال الله تعالى لرسوله : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ) لتنذر به ، ويكون آية على رسالتك ، وموعظة وذكرى للمؤمنين. (مِنْها قائِمٌ) لم يتلف ، بل بقي آثار ديارهم ، ما يدل عليهم ، (وَ) منها (حَصِيدٌ) قد تهدمت مساكنهم ، واضمحلت منازلهم ، فلم يبق لها أثر ، (وَما ظَلَمْناهُمْ) بأخذهم بأنواع العقوبات (وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالشرك والكفر ، والعناد. (فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) وهكذا كل من التجأ إلى غير الله ، لم ينفعه ذلك عند نزول الشدائد. (وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) أي : خسار ودمار ، بالضد مما خطر ببالهم.

[١٠٢] أي : يقصمهم بالعذاب ويبيدهم ، ولا ينفعهم ما كانوا يدعون من دون الله من شيء.

[١٠٣ ـ ١٠٤] (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور من أخذه للظالمين بأنواع العقوبات ، (لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ) أي : لعبرة ودليلا على أن أهل الظلم والإجرام لهم العقوبة الدنيوية ، والعقوبة الأخروية. ثم انتقل من هذا ، إلى وصف الآخرة فقال : (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) ، أي : جمعوا لأجل ذلك اليوم للمجازاة ، وليظهر لهم من عظمة الله وعدله العظيم ما به يعرفونه حق المعرفة. (وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) أي : يشهده الله وملائكته ، وجميع المخلوقين ، (وَما نُؤَخِّرُهُ) أي : إتيان يوم القيامة (إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) إذا انقضى أجل الدنيا وما قدر الله فيها من الخلق ، فحينئذ ينقلهم إلى الدار الأخرى ، ويجري عليهم أحكامه الجزائية ، كما أجرى عليهم في الدنيا ، أحكامه الشرعية.

[١٠٥] (يَوْمَ يَأْتِ) ذلك اليوم ، ويجتمع الخلق (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) حتى الأنبياء ، والملائكة الكرام ، لا

٤٤٧

يشفعون إلا بإذنه ، (فَمِنْهُمْ) أي : الخلق (شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) ، فالأشقياء هم الذين كفروا بالله ، وكذبوا رسله ، وعصوا أمره ، والسعداء هم : المؤمنون المتقون.

[١٠٦ ـ ١٠٨] وأما جزاؤهم (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا) أي : حصلت لهم الشقاوة ، والخزي والفضيحة ، (فَفِي النَّارِ) منغمسون في عذابها ، مشتد عليهم عقابها ، (لَهُمْ فِيها) من شدة ما هم فيه (زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) وهو أشنع الأصوات وأقبحها. (خالِدِينَ فِيها) أي : في النار التي هذا عذابها (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) أي : خالدين فيها أبدا ، إلا المدة التي شاء الله أن لا يكونوا فيها ، كما قاله جمهور المفسرين. فالاستثناء على هذا ، راجع إلى ما قبل دخولها ، فهم خالدون فيها جميع الأزمان ، سوى الزمن الذي قبل الدخول فيها. (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) فكل ما أراد فعله واقتضته حكمته ، فعله ، تبارك وتعالى ، لا يرده أحد عن مراده. (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا) أي : حصلت لهم السعادة ، والفلاح ، والفوز ، (فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) ثم أكد ذلك بقوله : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) أي : ما أعطاهم الله من النعيم المقيم ، واللذة العالية ، فإنه دائم مستمر ، غير منقطع بوقت من الأوقات ، نسأل الله الكريم من فضله أن يجعلنا منهم.

[١٠٩] يقول الله تعالى لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) المشركون ، أي : لا تشك في حالهم ، وأن ما هم عليه باطل ، فليس لهم دليل شرعي ولا عقلي ، وإنما دليلهم وشبهتهم أنهم (ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ). ومن المعلوم أن هذا ليس بشبهة ، فضلا عن أن يكون دليلا ، لأن أقوال ما عدا الأنبياء ، يحتج بها ، خصوصا أمثال هؤلاء الضالين ، الذين كثر خطؤهم وفساد أقوالهم في أصول الدين ، فإن أقوالهم ، وإن اتفقوا عليها ، فإنها خطأ وضلال. (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ) أي : لا بد أن ينالهم نصيب من الدنيا ، مما كتب لهم وإن كثر ذلك النصيب ، أو راق في عينك ، فإنه لا يدل على صلاح حالهم ، فإن الله يعطي الدنيا من يحب ، ومن لا يحب ، ولا يعطي الإيمان والدين الصحيح إلا من يحب. والحاصل أنه لا يغتر باتفاق الضالين على قول الضالين من آبائهم الأقدمين ، ولا على ما خولهم الله ، وآتاهم من الدنيا.

[١١٠] يخبر تعالى أنه آتى موسى الكتاب الذي هو التوراة ، الموجب للاتفاق على أوامره ونواهيه ، والاجتماع ، ولكن مع هذا ، فإن المنتسبين إليه ، اختلفوا فيه اختلافا ، أضر بعقائدهم ، وبجامعتهم الدينية. (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) بتأخيرهم ، وعدم معاجلتهم بالعذاب (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بإحلال العقوبة بالظالم ، ولكنه تعالى ، اقتضت حكمته أن أخر القضاء بينهم إلى يوم القيامة ، وبقوا في شك مريب. وإذا كانت هذه حالهم ، مع كتابهم فمع القرآن الذي أوحاه الله إليك غير مستغرب ، من طائفة اليهود ، أن لا يؤمنوا به ، وأن يكونوا في شك منه مريب.

[١١١] (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ) أي : لا بد أن يقضي الله بينهم يوم القيامة بحكمه العدل فيجازي كلا بما يستحق. (إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ) من خير وشر (خَبِيرٌ) فلا يخفى عليه شيء من أعمالهم ، دقيقها وجليلها.

[١١٢ ـ ١١٣] ثم لما أخبر بعدم استقامتهم ، التي أوجبت اختلافهم وافتراقهم ، أمر نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه من

٤٤٨

المؤمنين أن يستقيموا كما أمروا ، فيسلكوا ما شرعه الله من الشرائع ، ويعتقدوا ما أخبر الله من العقائد الصحيحة ، ولا يزيغوا عن ذلك ، يمنة ، ولا يسرة ، ويدوموا على ذلك ، ولا يطغوا ، بأن يتجاوزوا ما حده الله لهم من الاستقامة. وقوله : (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي : لا يخفى عليه من أعمالكم شيء ، وسيجازيكم عليها. ففيه ترغيب لسلوك الاستقامة ، وترهيب من ضدها ، ولهذا حذرهم عن الميل إلى من تعدى الاستقامة فقال : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) فإنكم إذا ملتم إليهم ، ووافقتموهم على ظلمهم ، أو رضيتم ما هم عليه من الظلم (فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) إن فعلتم ذلك (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) يمنعونكم من عذاب الله ، ولا يحصلون لكم شيئا من ثواب الله. (ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) أي : لا يدفع عنكم العذاب إذا مسكم. ففي هذه الآية : التحذير من الركون إلى كل ظالم ، والمراد بالركون ، الميل والانضمام إليه بظلمه ، وموافقته على ذلك ، والرضا بما هو عليه من الظلم. وإذا كان هذا الوعيد في الركون إلى الظلمة ، فكيف حال الظلمة؟ نسأل الله العافية من الظلم.

[١١٤] يأمر تعالى بإقامة الصلاة كاملة (طَرَفَيِ النَّهارِ) أي : أوله وآخره ، ويدخل في هذا ، صلاة الفجر ، وصلاتا الظهر والعصر ، (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) ويدخل في ذلك صلاة المغرب والعشاء ، ويتناول ذلك قيام الليل ، فإنها مما تزلف العبد ، وتقربه إلى الله تعالى. (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) أي : فهذه الصلوات الخمس ، وما ألحق بها من التطوعات من أكبر الحسنات ، وهي : ـ مع أنها حسنات ـ تقرب إلى الله ، وتوجب الثواب ، فإنها تذهب السيئات وتمحوها ، والمراد بذلك : الصغائر ، كما قيدتها الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل قوله : «والصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان ، مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر» ، بل كما قيدتها الآية التي في سورة النساء ، وهي قوله عزوجل : ، (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) (٣١). ذلك ولعل الإشارة لكل ما تقدم من لزوم الاستقامة على الصراط المستقيم وعدم مجاوزته وتعديه ، وعدم الركون إلى الذين ظلموا. والأمر بإقامة الصلاة ، وبيان أن الحسنات يذهبن السيئات ، الجميع (ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) يفهمون بها ما أمرهم الله به ، ونهاهم عنه ، ويمتثلون لتلك الأوامر الحسنة المثمرة للخيرات ، الدافعة للشرور والسيئات.

[١١٥] ولكن تلك الأمور ، تحتاج إلى مجاهدة النفس ، والصبر عليها ولهذا قال : (وَاصْبِرْ) أي : احبس نفسك على طاعة الله ، وعن معصيته ، وإلزامها لذلك ، واستمر ولا تضجر. (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) بل يتقبل الله عنهم أحسن الذي عملوا ، ويجزيهم أجرهم ، بأحسن ما كانوا يعملون. وفي هذا ترغيب عظيم ، للزوم الصبر ، بتشويق النفس الضعيفة ، إلى ثواب الله ، كلما ونت وفترت.

[١١٦] لما ذكر تعالى إهلاك الأمم المكذبة للرسل ، وأن أكثرهم منحرفون عن أهل الكتب الإلهية وذلك كله يقضي على الأديان بالذهاب والاضمحلال ، ذكر أنه لولا أنه جعل في القرون الماضية بقايا من أهل الخير يدعون إلى

٤٤٩

الهدى ، وينهون عن الفساد والردى ، فحصل من نفعهم ، وأبقيت به الأديان ، ولكنهم قليلون جدا. وغاية الأمر ، أنهم نجوا باتباعهم المرسلين ، وقيامهم بما قاموا به من دينهم ، ويكون حجة الله أجراها على أيديهم ، ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيا من حيّ عن بيّنة. (وَ) لكن (اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ) أي : اتبعوا ما هم فيه من النعيم والترف ، ولم يبغوا به بدلا. (وَكانُوا مُجْرِمِينَ) أي : ظالمين ، باتباعهم ما أترفوا فيه ، فلذلك حق عليهم العقاب ، واستأصلهم العذاب. وفي هذا حث لهذه الأمة أن يكون فيهم بقايا مصلحون ، لما أفسد الناس ، قائمون بدين الله ، يدعون من ضل إلى الهدى ، ويصبرون منهم على الأذى ، ويبصرونهم من العمى. وفي هذه الحالة ، أعلى حالة يرغب فيها الراغبون ، وصاحبها يكون إماما في الدين ، إذ جعل عمله خالصا لرب العالمين.

[١١٧] أي : وما كان الله ليهلك القرى بظلم منه لهم ، والحال أنهم مصلحون ، أي : مقيمون على الصلاح ، مستمرون عليه. فما كان الله ليهلكهم إلا إذا ظلموا ، وقامت عليهم حجة الله. ويحتمل أن المعنى : وما كان ربك ليهلك القرى بظلمهم السابق ، إذا رجعوا وأصلحوا عملهم. فإن الله يعفو عنهم ، ويمحو ما تقدم من ظلمهم.

[١١٨ ـ ١١٩] يخبر تعالى أنه لو شاء لجعل الناس أمة واحدة على الدين الإسلامي ، فإن مشيئته غير قاصرة ، ولا يمتنع عليه شيء ، ولكنه اقتضت حكمته أن لا يزالوا مختلفين ، مخالفين للصراط المستقيم ، متبعين للسبل الموصلة إلى النار ، كل يرى الحق فيما قاله ، والضلال في قول غيره. (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) فهداهم إلى العلم بالحق والعمل به ، والاتفاق عليه ، فهؤلاء سبقت لهم سابقة السعادة ، وتداركتهم العناية الربانية والتوفيق الإلهي. وأما من عداهم فهم مخذولون موكولون إلى أنفسهم. وقوله : (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) أي : اقتضت حكمته ، أنه خلقهم ، ليكون منهم السعداء والأشقياء ، والمتفقون والمختلفون ، والفريق الذي هدى الله ، والفريق الذي حقت عليهم الضلالة ، ليتبين للعباد عدله ، وحكمته ، وليظهر ما كمن من الطباع البشرية من الخير والشر ، ولتقوم سوق الجهاد والعبادات التي لا تتم ولا تستقيم إلا بالامتحان والابتلاء. (وَ) لأنه (تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) فلا بد أن ييسر للنار أهلا ، يعملون بأعمالها الموصلة إليها.

[١٢٠] لما ذكر في هذه السورة من أخبار الأنبياء ، ما ذكر ، ذكر الحكمة في ذكر ذلك فقال : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) أي ، قلبك ليطمئن ، ويثبت ، وتصبر ، كما صبر أولو العزم من الرسل. فإن النفوس تأنس بالاقتداء ، وتنشط على الأعمال ، وتريد المنافسة لغيرها ، ويتأيد الحق بذكر شواهده ، وكثرة من قام به. (وَجاءَكَ فِي هذِهِ) السورة (الْحَقُ) اليقين ، فلا شك فيه بوجه من الوجوه ، فالعلم بذلك من العلم بالحق الذي هو أكبر فضائل النفوس. (وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) أي : يتعظون به ، فيرتدعون عن الأمور المكروهة ، ويتذكرون الأمور المحبوبة لله ، فيفعلونها.

[١٢١ ـ ١٢٢] وأما من ليس من أهل الإيمان ، فلا تنفعهم المواعظ ، وأنواع التذكير ، ولهذا قال : (وَقُلْ لِلَّذِينَ لا

٤٥٠

يُؤْمِنُونَ) بعد ما قامت عليهم الآيات ، (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي : حالتكم التي أنتم عليها (إِنَّا عامِلُونَ) على ما كنا عليه (وَانْتَظِرُوا) ما يحل بنا (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) ما يحل بكم. وقد فصل الله بين الفريقين ، وأرى عباده نصره لعباده المؤمنين ، وقمعه لأعداء الله المكذبين.

[١٢٣] (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : ما غاب فيهما من الخفايا ، والأمور الغيبية. (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) من الأعمال والعمال ، فيميز الخبيث من الطيب. (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) أي : قم بعبادته ، وهي جميع ما أمر الله به مما تقدر عليه ، وتوكل على الله في ذلك. (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) من الخير والشر ، بل قد أحاط علمه بذلك ، وجرى به قلمه ، وسيجري عليه حكمه ، وجزاؤه. تم تفسير سورة هود والحمد لله رب العالمين ، وصلّى الله على محمد وسلم وكان الفراغ من نسخه في يوم السبت ١٢ من شهر ربيع الآخر سنة ١٤١٣.

سورة يوسف

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] يخبر تعالى أن آيات القرآن هي (آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) أي : البين الواضحة ألفاظه ، ومعانيه.

[٢] ومن بيانه وإيضاحه : أنه أنزله باللسان العربي ، أشرف الألسنة ، وأبينها. المبين ، لكل ما يحتاجه الناس ، من الحقائق النافعة ، وكل هذا الإيضاح والتبيين (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي : لتعقلوا حدوده ، وأصوله ، وفروعه ، وأوامره ، ونواهيه. فإذا عقلتم ذلك بإيقانكم ، واتصفت قلوبكم بمعرفتها ، أثمر ذلك ، عمل الجوارح ، والانقياد إليه ، و (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي : تزداد عقولكم ، بتكرر المعاني الشريفة العالية ، على أذهانكم ، فتنتقلون من حال إلى أحوال ، أعلى منها وأكمل.

[٣] (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) وذلك لصدقه ، وسلاسة عبارته ، ورونق معانيه ، (بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) أي : بما اشتمل عليه هذا القرآن ، الذي أوحيناه إليك ، وفضلناك به على سائر الأنبياء ، وذاك محض منّة ، من الله وإحسان. (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) أي : ما كنت تدري ، ما الكتاب ، ولا الإيمان ، قبل أن يوحي الله إليك ، ولكن جعلناه نورا ، نهدي به من نشاء ، من عبادنا. ولما مدح ما اشتمل عليه هذا القرآن ، من القصص ، وأنه أحسن القصص على الإطلاق ، فلا يوجد من القصص ، في شيء من الكتب ، مثل هذا القرآن ، ذكر قصة يوسف ، وأبيه ، وإخوته ، القصة العجيبة الحسنة ، فقال : (إِذْ قالَ يُوسُفُ) إلى (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ، واعلم أن الله ذكر أنه يقص على رسوله ، أحسن القصص في هذا الكتاب. ثم ذكر هذه القصة ، وبسطها ، وذكر ما جرى فيها ، فعلم بذلك ، أنها قصة تامة ، كاملة حسنة. فمن أراد أن يكملها أو يحسنها ، بما يذكر في الإسرائيليات ، التي

٤٥١

لا يعرف له سند ولا ناقل ، وأغلبها كذب ، فهو مستدرك على الله ، ومكمل لشيء ، بزعم أنه ناقص. وحسبك بأمر ينتهي إلى هذا الحد قبحا ، فإن تضاعيف هذه السورة ، قد ملئت في كثير من التفاسير ، من الأكاذيب ، والأمور الشنيعة المناقضة ، لما قصه الله تعالى بشيء كثير. فعلى العبد أن يفهم عن الله ، ما قصه ، ويدع ، ما سوى ذلك ، مما ليس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ينقل.

[٤ ـ ٥] فقوله تعالى : (إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ) يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل ، عليهم الصلاة والسلام : (يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ). فكانت هذه الرؤيا ، مقدمة لما وصل إليه يوسف عليه‌السلام ، من الارتفاع في الدنيا والآخرة. وهكذا إذا أراد الله أمرا من الأصول العظام ، قدم بين يديه مقدمة ، توطئة له ، وتسهيلا لأمره ، واستعدادا لما يرد على العبد من المشاق ، ولطفا بعبده ، وإحسانا إليه ، فأوّلها يعقوب ، بأن الشمس : أمه ، والقمر أبوه ، والكواكب ، إخوته ، وأنه ستنتقل به الأحوال إلى أن يصير إلى حال يخضعون له ، ويسجدون له ، إكراما وإعظاما ، وأن ذلك لا يكون ، إلا بأسباب تتقدمه من اجتباء الله له ، واصطفائه إياه ، وإتمام نعمته عليه ، بالعلم والعمل ، والتمكين في الأرض.

[٦] وأن هذه النعمة ستشمل آل يعقوب ، الذين سجدوا له ، وصاروا تبعا له فيها ، ولهذا قال : (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) أي : يصطفيك ويختارك بما منّ به عليك من الأوصاف الجليلة ، والمناقب الجميلة ، (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) أي : من تعبير الرؤيا ، وبيان من تؤول إليه الأحاديث الصادقة ، كالكتب السماوية ونحوها ، (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) في الدنيا والآخرة ، بأن يؤتيك في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، (كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ) حيث أنعم الله عليهما ، بنعم عظيمة واسعة ، دينية ، ودنيوية. (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي : علمه محيط بالأشياء ، وبما احتوت عليه ، ضمائر العباد ، من البر وغيره ، فيعطي كلا ، ما تقتضيه حكمته وحمده ، فإنه حكيم ، يضع الأشياء مواضعها ، وينزلها منازلها. ولما تم تعبيرها ليوسف ، قال له أبوه : (يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) أي : حسدا من عند أنفسهم ، بأن تكون أنت الرئيس الشريف عليهم. (إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) لا يفتر عنه ، ليلا ولا نهارا ، ولا سرا ، ولا جهارا ، فالبعد عن الأسباب ، التي يتسلط بها على العبد ، أولى ، فامتثل يوسف أمر أبيه ، ولم يخبر إخوته بذلك ، بل كتمها عنهم.

[٧] يقول تعالى : (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ) أي : عبر وأدلة ، على كثير من المطالب الحسنة. (لِلسَّائِلِينَ) أي : لكل من سأل عنها ، بلسان الحال ، أو بلسان المقال. فإن السائلين ، هم الذين ينتفعون بالآيات والعبر ، وأما المعرضون ، فلا ينتفعون بالآيات ، ولا بالقصص ، والبينات.

[٨] (إِذْ قالُوا) فيما بينهم : (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ) بنيامين ، أي : شقيقه ، وإلا ، فكلهم إخوة ، (أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) أي : جماعة ، فكيف يفضلهما بالمحبة والشفقة ، (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي : لفي خطأ بيّن ، حيث فضلهما علينا ، من غير موجب نراه ، ولا أمر نشاهده.

[٩] (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً) أي : غيبوه عن أبيه ، في أرض بعيدة ، لا يتمكن من رؤيته فيها. فإنكم إذا فعلتم أحد هذين الأمرين (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) ، أي : يتفرغ لكم ، ويقبل عليكم بالشفقة والمحبة ، فإنه قد اشتغل قلبه بيوسف ، شغلا ، لا يتفرغ لكم ، (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ) أي : من بعد هذا الصنيع (قَوْماً صالِحِينَ) أي : تتوبون إلى الله ، وتستغفرونه من بعد ذنبكم. فقدموا العزم على التوبة ، قبل صدور الذنب منهم تسهيلا لفعله ، وإزالة لشناعته ، وتنشيطا من بعضهم لبعض.

[١٠] أي : (قالَ قائِلٌ) من إخوة يوسف ، الذين أرادوا قتله ، أو تبعيده : (لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ) فإن قتله أعظم إثما ، وأشنع ، والمقصود يحصل بتبعيده عن أبيه ، من غير قتل ، ولكن توصلوا إلى تبعيده بأن تلقوه (فِي غَيابَتِ

٤٥٢

الْجُبِ) وتتوعدوه ، على أنه لا يخبر بشأنكم ، بل على أنه عبد مملوك آبق ، لأجل أن (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ) الذين يريدون مكانا بعيدا ، فيحتفظوا به. وهذا القائل أحسنهم رأيا في يوسف ، وأبرهم ، وأتقاهم في هذه القضية. فإن بعض الشر ، أهون من بعض ، والضرر الخفيف ، يدفع به الضرر الثقيل.

[١١] فلما اتفقوا على هذا الرأي (قالُوا يا أَبانا ما) إلى قوله : (إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) ، أي : قال إخوة يوسف ، متوصلين إلى مقصدهم لأبيهم : (يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) أي : لأي شيء يدخلك الخوف منا ، على يوسف ، من غير سبب ، ولا موجب؟ (وَ) الحال (إِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) أي : مشفقون عليه ، نود له ما نود لأنفسنا ، وهذا يدل على أن يعقوب عليه‌السلام ، لا يترك يوسف يذهب مع إخوته للبرية ونحوها.

[١٢] فلما نفوا عن أنفسهم التهمة المانعة ، لعدم إرساله معهم ، ذكروا له من مصلحة يوسف وأنسه ، الذي يحبه أبوه له ، ما يقتضي أن يسمح بإرساله معهم ، فقالوا : (أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) أي : يتنزه في البرية ويستأنس ، (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) أي : سنراعيه ، ونحفظه من كل أذى يريده.

[١٣ ـ ١٤] فأجابهم بقوله : (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ) أي : مجرد ذهابكم به ، يحزنني ، ويشق عليّ ، لأنني لا أقدر على فراقه ، ولو مدة يسيرة. فهذا مانع من إرساله (وَ) مانع ثان ، وهو : أني (أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) أي : في حال غفلتكم عنه ، لأنه صغير ، لا يمتنع من الذئب. (قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) أي : جماعة ، حريصون على حفظه ، (إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) أي : لا خير فينا ، ولا نفع يرجى منا ، إن أكله الذئب ، وغلبنا عليه. فلما مهدوا لأبيهم الأسباب الداعية لإرساله ، وعدم الموانع ، سمح حينئذ بإرساله معهم ، لأجل أنسه.

[١٥ ـ ١٧] أي : لما ذهب إخوة يوسف ، بعد ما أذن له أبوه ، وعزموا أن يجعلوه في غيابة الجب ، كما قال قائلهم ، السابق ذكره ، وكانوا قادرين على ما أجمعوا عليه ، فنفذوا فيه قدرتهم ، وألقوه في الجب ، ثم إن الله ، لطف به ، بأن أوحى إليه وهو بتلك الحال الحرجة ، (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي : سيكون منك معاتبة لهم ، وإخبار عن أمرهم هذا ، وهم لا يشعرون بذلك الأمر. ففيه بشارة له ، بأنه سينجو مما وقع فيه ، وأن الله سيجمعه بأهله وإخوته ، على وجه العز والتمكين له ، في الأرض. (وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ) (١٦) ليكون إتيانهم ، متأخرا عن عادتهم ، وبكاؤهم دليلا لهم ، وقرينة على صدقهم ، فقالوا ـ معتذرين بعذر كاذب ـ ، (يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) إما على الأقدام ، أو بالرمي والنضال ، (وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا) توفيرا له وراحة ، (فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) في حال غيابنا عنه واستباقنا ، (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) أي : اعتذرنا بهذا العذر ، والظاهر أنك لا تصدقنا ، لما في قلبك من الحزن على يوسف ، والرقة الشديدة عليه.

[١٨] ولكن عدم تصديقك إيانا ، لا يمنعنا أن نعتذر بالعذر الحقيقي ، وكل هذا ، تأكيد لعذرهم ، (وَ) مما أكدوا به قولهم ، أنهم (جاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) زعموا ، أنه دم

٤٥٣

يوسف ، حين أكله الذئب ، فلم يصدقهم أبوهم بذلك ، و (قالَ) : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) أي : زينت لكم أنفسكم أمرا قبيحا في التفريق بيني وبينه ، لأنه رأى من القرائن والأحوال ، ومن رؤيا يوسف ، التي قصها عليه ، ما دله على ما قال. (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) أي : أما أنا ، فوظيفتي سأحرص على القيام بها ، وهي أني أصبر على هذه المحنة ، صبرا جميلا ، سالما من السخط والتّشكّي إلى الخلق ، وأستعين الله على ذلك ، لا على حولي وقوتي. فوعد من نفسه هذا الأمر وشكى إلى خالقه في قوله : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) لأن الشكوى إلى الخالق ، لا تنافي الصبر الجميل ، لأن النبي ، إذا وعد وفى.

[١٩ ـ ٢٠] أي : مكث يوسف في الجب ، ما مكث ، حتى (جاءَتْ سَيَّارَةٌ) أي : قافلة تريد مصر ، (فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ) أي : فرطهم ومقدمهم ، الذي يعس لهم المياه ، ويسبرها ويستعد لهم بتهيئة الحياض ونحو ذلك ، (فَأَدْلى) ذلك الوارد (دَلْوَهُ) فتعلق فيه يوسف عليه‌السلام ، وخرج. (قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ) أي : استبشر وقال : هذا غلام نفيس ، (وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً) وكان إخوته قريبا منه ، فاشتراه السيارة منهم ، (بِثَمَنٍ بَخْسٍ) أي : قليل جدا ، فسره بقوله : (دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ). لأنه لم يكن لهم قصد ، إلا تغييبه ، وإبعاده عن أبيه ، ولم يكن لهم قصد في أخذ ثمنه. والمعنى في هذا : أن السيارة ، لما وجدوه ، عزموا أن يسرّوا أمره ، ويجعلوه من جملة بضائعهم ، التي معهم ، حتى جاءهم إخوته ، فزعموا أنه عبد أبق منهم ، فاشتروه منهم ، بذلك الثمن ، واستوثقوا منهم فيه ، لئلا يهرب ، والله أعلم.

[٢١] أي لما ذهب به السيارة إلى مصر ، وباعوه بها ، فاشتراه عزيز مصر. فلما اشتراه ، أعجب به ، ووصى عليه امرأته وقال : (أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) أي : إما أن ينفعنا كنفع العبيد ، بأنواع الخدم ، وإما أن نستمتع فيه ، استمتاعنا بأولادنا ، ولعل ذلك أنه لم يكن لهما ولد ، (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) أي : كما يسرنا له أن يشتريه عزيز مصر ، ويكرمه هذا الإكرام ، جعلنا هذا ، مقدمة لتمكينه في الأرض ، من هذا الطريق. (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) إذا بقي لا شغل له ولا همّ سوى العلم صار ذلك من أسباب تعلمه علما كثيرا ، من علم الأحكام ، وعلم التعبير ، وغير ذلك ، (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) أي : أمره تعالى نافذ ، لا يبطله مبطل ، ولا يغلبه مغالب ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ). فلذلك يجري منهم ، ويصدر ، في مغالبة أحكام الله القدرية ، وهم أعجز ، وأضعف من ذلك.

[٢٢ ـ ٢٩] أي : (وَلَمَّا بَلَغَ) يوسف (أَشُدَّهُ) أي : كمال قوته المعنوية والحسية ، وصلح لأن يتحمل الأحمال الثقيلة ، من النبوة ، والرسالة ، (آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) أي : جعلناه نبيا رسولا ، وعالما ربانيا ، (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) في عبادة الخالق ببذل الجهد والنصح فيها ، وإلى عباد الله ، ببذل النفع والإحسان إليهم ، نؤتيهم من جملة الجزاء على إحسانهم ، علما نافعا. ودل هذا ، على أن يوسف في مقام الإحسان ، فأعطاه الله الحكم بين الناس ، والعلم الكثير والنبوة.

٤٥٤

هذه المحنة العظيمة ، أعظم على يوسف من محنة إخوته ، وصبره عليها ، أعظم أجرا ، لأنه صبر اختيار ، مع وجود الدواعي الكثيرة ، لوقوع الفعل ، فقدم محبة الله عليها ، وأما محنته بإخوته ، فصبره صبر اضطرار ، بمنزلة الأمراض والمكاره التي تصيب العبد بغير اختياره وليس له ملجأ إلا الصبر عليها ، طائعا أو كارها. وذلك أن يوسف عليه الصلاة والسلام ، بقي مكرما في بيت العزيز. وكان له من الجمال ، والكمال ، والبهاء ، ما أوجب ذلك ، أن (راوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ) أي : هو غلامها ، وتحت تدبيرها ، والمسكن واحد ، يتيسر فيه إيقاع الأمر المكروه ، من غير شعور أحد ، ولا إحساس بشر. (وَ) زادت المصيبة ، بأن (غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) وصار المحل خاليا ، وهما آمنان من دخول أحد عليهما ، بسبب تغليق الأبواب ، وقد دعته إلى نفسها (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) أي :

افعل الأمر المكروه وأقبل إليّ ، ومع هذا ، فهو غريب ، لا يحتشم مثله ، ما يحتشمه إذا كان في وطنه ، وبين معارفه ، وهو أسير تحت يدها ، وهي سيدته ، وفيها من الجمال ، ما يدعو إلى ما هنالك ، وهو شاب عزب ، وقد توعدته ، إن لم يفعل ما تأمره به ، بالسجن ، أو العذاب الأليم. فصبر عن معصية الله ، مع وجود الداعي القوي فيه ، لأنه قد هم فيها هما ، تركه لله ، وقدم مراد الله على مراد النفس الأمارة بالسوء ، ورأى من برهان ربه ـ وهو ما معه من العلم والإيمان ، الموجب ، لترك كل ما حرم الله ـ ما أوجب له البعد والانكفاف ، عن هذه المعصية الكبيرة. (قالَ مَعاذَ اللهِ) أي : أعوذ بالله ، أن أفعل هذا الفعل القبيح ، لأنه مما يسخط الله ، ويبعد عنه ، ولأنه خيانة في حق سيدي ، الذي أكرم مثواي. فلا يليق بي ، أن أقابله في أهله ، بأقبح مقابلة ، وهذا من أعظم الظلم ، والظالم لا يفلح. والحاصل أنه جعل الموانع له من هذا الفعل ، تقوى الله ، ومراعاة حق سيده ، الذي أكرمه ، وصيانة نفسه عن الظلم ، الذي لا يفلح من تعاطاه ، وكذلك ما من الله عليه ، من برهان الإيمان الذي في قلبه ، يقتضي منه امتثال الأوامر ، واجتناب الزواجر. والجامع لذلك كله ، أن الله صرف عنه السوء والفحشاء ، لأنه من عباده المخلصين له ، في عباداتهم ، الذين أخلصهم الله ، واختارهم ، واختصهم لنفسه ، وأسدى عليهم من النعم ، وصرف عنهم المكاره ، ما كانوا به من خيار خلقه. ولما امتنع من إجابة طلبها ، بعد المراودة الشديدة ، وذهب ليهرب عنها ، ويبادر إلى الخروج من الباب ، ليتخلص ، ويهرب من الفتنة ، فبادرت إليه ، وتعلقت بثوبه ، فشقت قميصه ، فلما وصلا إلى الباب ، في تلك الحال ، ألفيا سيدها ، أي : زوجها لدى الباب ، فرأى أمرا شق عليه ، فبادرت إلى الكذب ، وادعت أن المراودة قد كانت من يوسف ، وقالت : (ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً) ولم تقل «من فعل بأهلك سوءا» تبرئة لها ، وتبرئة له أيضا ، من الفعل. وإنما النزاع عن الإرادة ، والمراودة ، (إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : أو يعذب عذابا أليما. فبرأ نفسه ، مما رمته به ، وقال : (هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) فحينئذ احتملت الحال ، صدق كل واحد منهما ، ولم يعلم أيهما. ولكن الله تعالى ، جعل للحق والصدق علامات ، وأمارات تدل عليه ، قد يعلمها العباد ، وقد لا يعلمونها. فمنّ الله في هذه القضية ، بمعرفة الصادق منهما ، تبرئة لنبيه وصفيه ، يوسف عليه‌السلام ، فبعث شاهدا من أهل بيتها ، يشهد بقرينة من وجدت معه ، فهو الصادق ، فقال : (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ) لأن ذلك يدل على أنه هو المقبل عليها ، المراود لها ، المعالج ، وأنها أرادت أن تدفعه عنها ، فشقت قميصه من هذا الجانب. (وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٢٧) لأن ذلك ، يدل على هروبه منها ، وأنها هي التي طلبته ، فشقت قميصه من هذا الجانب. (فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ) عرف بذلك صدق يوسف وبراءته ، وأنها هي الكاذبة. فقال لها سيدها : (إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ). وهل أعظم من هذا الكيد ، الذي برأت به نفسها ، لما أرادت وفعلت ، ورمت به نبي الله ، يوسف عليه‌السلام. ثم إن سيدها لما تحقق الأمر ، قال ليوسف : (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) ، أي : اترك الكلام فيه ، وتناسه ، ولا تذكره لأحد ، طلبا للستر على أهله ، (وَاسْتَغْفِرِي) أيتها المرأة (لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ) فأمر يوسف بالإعراض ، وأمرها بالاستغفار والتوبة.

٤٥٥

[٣٠ ـ ٣٥] يعني : أن الخبر اشتهر وشاع في البلد ، وتحدث به النسوة ، فجعلن يلمنها ، ويقلن : (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا) أي : هذا أمر مستقبح ، هي امرأة كبيرة القدر ، وزوجها كبير القدر ، ومع هذا ، لم تزل تراود فتاها ، الذي تحت يدها ، وفي خدمتها ـ عن نفسه ، ومع هذا فإن حبه ، بلغ من قلبها ، مبلغا عظيما. (قَدْ شَغَفَها حُبًّا) ، أي : وصل حبه إلى شغاف قلبها ، وهو : باطنه وسويداؤه ، وهذا أعظم ما يكون من الحب ، (إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) حيث وجدت منها هذه الحالة ، التي لا ينبغي منها ، وهي حالة تحط قدرها ، وتضعه عند الناس. وكان هذا القول منهن مكرا ، ليس المقصود به مجرد اللوم لها ، والقدح فيها ، وإنما أردن أن يتوصلن بهذا الكلام ، إلى رؤية يوسف ، الذي فتنت به امرأة العزيز ، لتحنق امرأة العزيز ، وتريهن إياه ، ليعذرنها ولهذا سماه : مكرا ، فقال : (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَ) تدعوهن إلى منزلها للضيافة. (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) أي : محلا مهيأ بأنواع الفرش والوسائد ، وما يقصد بذلك من المآكل اللذيذة ، وكان في جملة ما أتت به وأحضرته ، في تلك الضيافة طعام يحتاج إلى سكين ، إما أترج ، أو غيره ، (وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً) ليقطعن بها ذلك الطعام (وَقالَتِ) ليوسف : (اخْرُجْ عَلَيْهِنَ) في حالة جماله وبهائه. (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ) أي : أعظمنه في صدورهن ، ورأين منظرا فائقا ، لم يشاهدن مثله ، (وَقَطَّعْنَ) من الدهش (أَيْدِيَهُنَ) بتلك السكاكين ، اللاتي معهن ، (وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ) أي : تنزيها لله (ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) ، وذلك أن يوسف ، أعطي من الجمال الفائق ، والنور ، والبهاء ، ما كان به آية للناظرين ، وعبرة للمتأملين. فلما تقرر عندهن جمال يوسف الظاهر ، وأعجبهن غاية العجب ، وظهر منهن من العذر لامرأة العزيز ، شيء كثير ـ أرادت أن تريهن جماله الباطن ، بالعفة التامة ـ فقالت ـ معلنة لذلك ، ومبينة لحبه الشديد ،. غير مبالية ، ولأن اللوم انقطع عنها من النسوة : (فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) أي : امتنع وهي مقيمة على مراودته ، لم تزدها مرور الأوقات ، إلا قلقا ومحبة وشوقا لوصاله وتوقا. ولهذا قالت له بحضرتهن : (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) ، لتلجئه بهذا الوعيد إلى حصول مقصودها منه. فعند ذلك ، اعتصم يوسف بربه ، واستعان به على كيدهن. (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) وهذا يدل ، أن النسوة ، جعلن يشرن على يوسف في مطاوعة سيدته ، وجعلن يكدنه في ذلك. فاستحب السجن والعذاب الدنيوي ، على لذة حاضرة ، توجب العذاب الشديد. (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَ) أي : أمل إليهن فإني ضعيف عاجز ، إن لم تدفع عني السوء ، صبوت إليهن (وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) فإن هذا جهل ، لأنه آثر لذة قليلة منغصة ، على لذات متتابعات ، وشهوات متنوعات ، في جنات النعيم. ومن آثر هذا ، على هذا ، فمن أجهل منه؟ فإن العلم والعقل ، يدعو إلى تقديم أعظم المصلحتين ، وأعظم اللذتين ، ويؤثر ، ما كان محمود العاقبة. (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ) حين دعاه (فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَ) فلم تزل تراوده وتستعين عليه ، بما تقدر عليه من الوسائل ، حتى آيسها ، وصرف الله عنه كيدها ، (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لدعاء الداعي (الْعَلِيمُ) بنيته الصالحة ، وبنيته الضعيفة المقتضية لإمداده بمعونته ولطفه. فهذا ما نجى الله

٤٥٦

به يوسف من هذه الفتنة الملمة ، والمحنة الشديدة ، وأما أسياده ، فإنه لما اشتهر الخبر وبان ، وصار الناس فيها ، بين عاذر ، ولائم ، وقادح. (بَدا لَهُمْ) أي : ظهر لهم (مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ) الدالة على براءته ، (لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) أي : لينقطع بذلك ، الخبر ، ويتناساه الناس ، فإن الشيء إذا شاع ، لم يزل يذكر ، ويشيع ، مع وجود أسبابه ، فإذا عدمت أسبابه نسي. فرأوا أن هذا مصلحة لهم ، فأدخلوه في السجن.

[٣٦ ـ ٣٧] أي (وَ) لما دخل يوسف السجن ، كان من جملة من (دَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ) أي : شابان ، فرأى كل واحد منهما رؤيا ، فقصها على يوسف ليعبرها. (قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً) وذلك الخبز (تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ) ، (نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ) أي : بتفسيره ، وما يؤول إليه أمره. وقولهما : (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أي : من أهل الإحسان إلى الخلق فأحسن إلينا في تعبيرك لرؤيانا ، كما أحسنت إلى غيرنا ، فتوسلا ليوسف بإحسانه. (قالَ) لهما مجيبا لطلبهما : (لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما) أي : فلتطمئن قلوبكما ، فإني سأبادر إلى تعبير رؤياكما ، فلا يأتيكما غداؤكما ، أو عشاؤكما ، أول ما يجيء إليكما ، إلا نبأتكما بتأويله ، قبل أن يأتيكما. ولعل يوسف عليه الصلاة والسلام ، قصد أن يدعوهما إلى الإيمان في هذه الحال ، التي بدت حاجتهما إليه ، ليكون أنجع لدعوته ، وأقبل لهما. ثم قال : (ذلِكُما) التعبير الذي سأعبره لكما (مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) ، أي : هذا من علم الله علمنيه ، وأحسن إليّ به ، وذلك (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) ، والترك ، كما يكون للداخل في شيء ثم ينتقل عنه ، يكون لمن لم يدخل فيه أصلا. فلا يقال : إن يوسف ، كان من قبل ، على غير ملة إبراهيم.

[٣٨ ـ ٣٩] (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) ثم فسر تلك الملّة بقوله : (ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ) بل نفرد الله بالتوحيد ، ونخلص له الدين والعبادة. (ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ) أي : هذا من أفضل منّته وإحسانه وفضله علينا ، وعلى من هداه الله كما هدانا ، فإنه لا أفضل من منّة الله على العباد بالإسلام ، والدين القويم ، فمن قبله وانقاد له ، فهو حظه ، وقد حصل له أكبر النعم وأجل الفضائل. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) فلذلك تأتيهم المنة والإحسان ، فلا يقبلونها ، ولا يقومون لله بحق ، وفي هذا من الترغيب للطريق ، التي هو عليها ، ما لا يخفى. فإن الفتيين ـ لما تقرر عنده ، أنهما رأياه بعين التعظيم والإجلال ، وأنه محسن معلم ـ ذكر لهما أن هذه الحالة ، التي أنا عليها ، كلها من فضل الله وإحسانه ، حيث منّ علي بترك الشرك ، وباتباع ملة آبائي ، فبهذا وصلت إلى ما رأيتما ، فينبغي لكما أن تسلكا ما سلكت. ثم صرح لهما بالدعوة فقال : (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (٣٩) أي : أرباب عاجزة ضعيفة ، لا تنفع ولا تضر ، ولا تعطي ولا تمنع ، وهي متفرقة ، ما بين أشجار ، وأحجار ، وملائكة ، وأموات ، وغير ذلك من أنواع المعبودات ، التي يتخذها المشركون ، أذلك (خَيْرٌ أَمِ اللهُ) الذي له صفات الكمال ، (الْواحِدُ) في ذاته ، وصفاته ، وأفعاله ، فلا شريك له في شيء من ذلك. (الْقَهَّارُ) الذي انقادت الأشياء لقهره وسلطانه ، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ

٤٥٧

بِناصِيَتِها). ومن المعلوم ، أن من هذا شأنه ووصفه ، خير من الآلهة المتفرقة ، التي هي مجرد أسماء ، لا كمال لها ، ولا أفعال لديها.

[٤٠ ـ ٤١] ولهذا قال : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ). أي : كسوتموها أسماء ، سميتموها آلهة ، وهي لا شيء ، ولا فيها من صفات الألوهية شيء ، (ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) بل أنزل الله السلطان بالنهي عن عبادتها وبيان بطلانها ، وإذا لم ينزل الله بها سلطانا ، لم يكن طريق ، ولا وسيلة ، ولا دليل لها. (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) وحده ، فهو الذي يأمر وينهى ، ويشرع الشرائع ، ويسن الأحكام. وهو الذي (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي : المستقيم الموصل إلى كل خير ، وما سواه من الأديان ، فإنها غير مستقيمة ، بل معوجة ، توصل إلى كل شر. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) حقائق الأشياء ، وإلا فإن الفرق بين عبادة الله ، وحده لا شريك له ، وبين الشرك به ، من أظهر الأشياء وأبينها. ولكن لعدم العلم من أكثر الناس بذلك ، حصل منهم ما حصل ، من الشرك. فيوسف عليه‌السلام ، دعا صاحبي السجن لعبادة الله وحده ، وإخلاص الدين له ، فيحتمل أنهما استجابا وانقادا ، فتمت عليهما النعمة ، ويحتمل أنهما ، لم يزالا على شركهما ، فقامت عليهما ـ بذلك ـ الحجة ، ثم إنه ، عليه‌السلام ، شرع يعبر رؤياهما ، بعد ما وعدهما ذلك ، فقال : (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ) إلى (الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ).

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما) وهو : الذي رأى أنه يعصر خمرا ، فإنه يخرج من السجن (فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً) أي : يسقي سيده ، الذي كان يخدمه خمرا ، وذلك مستلزم لخروجه من السجن ، (وَأَمَّا الْآخَرُ) وهو : الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا ، تأكل الطير منه. (فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ) ، فإنه عبر عن الخبز ، الذي تأكله الطير ، بلحم رأسه وشحمه ، وما فيه من المخ ، وأنه لا يقبر ويستر عن الطيور ، بل يصلب ، ويجعل في محل ، تتمكن الطيور من أكله ، ثم أخبرهما بأن هذا التأويل ، الذي تأوله لهما ، أنه لا بد من وقوعه فقال : (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) أي : تسألان عن تعبيره وتفسيره.

[٤٢ ـ ٤٧] أي : (وَقالَ) يوسف عليه‌السلام : (لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا) ، وهو : الذي رأى أنه يعصر خمرا : (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) أي : اذكر له شأني وقصتي ، لعله يرقّ لي ، فيخرجني مما أنا فيه ، (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) أي : فأنسى الشيطان ذلك الناجي ، ذكر الله تعالى ، وذكر ما يقرب إليه ، ومن جملة ذلك نسيانه ، ذكر يوسف الذي يستحق أن يجازى بأتم الإحسان ، وذلك ليتم الله أمره وقضاءه. (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) والبضع : من الثلاث إلى التسع ، ولهذا قيل : إنه لبث سبع سنين ، ولما أراد الله أن يتم أمره ، ويأذن بإخراج يوسف من السجن ، قدر لذلك سببا لإخراج يوسف وارتفاع شأنه ، وإعلاء قدره ، وهو رؤيا الملك.

لما أراد الله تعالى أن يخرج يوسف من السجن ، أرى الله الملك هذه الرؤيا العجيبة ، التي تأويلها ، يتناول جميع الأمة ، ليكون تأويلها على يد يوسف ، فيظهر من فضله ، ويبين من علمه ، ما يكون له رفعة في الدارين. ومن

٤٥٨

التقادير المناسبة ، أن الملك الذي ترجع إليه أمور الرعية هو الذي رآها ، لارتباط مصالحها به. وذلك أنه رأى رؤيا هالته ، فجمع علماء قومه ، وذوي الرأي منهم وقال : (إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ) أي : سبع من البقرات (عِجافٌ) ، وهذا من العجب ، أن السبع العجاف الهزيلات ، اللاتي سقطت قوتهن ، يأكلن السبع السمان ، التي كنّ نهاية في القوة. (وَ) رأيت (سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ) أي : وسبع سنبلات أخر (يابِساتٍ) ، (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ) لأن تعبير الجميع واحد ، وتأويلهن شيء واحد ، (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) فتحيروا ، ولم يعرفوا لها وجها. (قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ) أي : أحلام لا حاصل لها ، ولا لها تأويل. وهذا جزم منهم ، بما لا يعلمون ، وتعذر منهم ، بما ليس بعذر ، ثم قالوا : (وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ) أي : لا نعبر إلا الرؤيا ، وأما الأحلام ، التي هي من الشيطان ، أو من حديث النفس ، فإنا لا نعبرها. فجمعوا بين الجهل والجزم ، بأنها أضغاث أحلام ، والإعجاب بالنفس ، بحيث إنهم لم يقولوا : لا نعلم تأويلها ، وهذا من الأمور ، التي لا تنبغي لأهل الدين والحجا. وهذا أيضا ، من لطف الله ، بيوسف عليه‌السلام. فإنه لو عبرها ابتداء ـ قبل أن يعرضها على الملأ من قومه وعلمائهم ، فيعجزوا عنها ـ لم يكن لها ذلك الموقع ، ولكن لما عرضها عليهم ، فعجزوا عن الجواب ، وكان الملك مهتما لها ، غاية الاهتمام ، فعبرها يوسف ـ وقعت عندهم موقعا عظيما. وهذا نظير إظهار الله فضل آدم على الملائكة ، بالعلم ، بعد أن سألهم ، فلم يعلموا. ثم سأل آدم ، فعلمهم أسماء كل شيء ، فحصل بذلك ، زيادة فضله. وكما يظهر فضل أفضل خلقه ، محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القيامة ، أن يلهم الله الخلق ، أن يتشفعوا بآدم ، ثم بنوح ، ثم إبراهيم ، ثم موسى ، ثم عيسى عليهم‌السلام ، فيعتذرون عنها. ثم يأتون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقول : «أنا لها أنا لها» ، فيشفع في جميع الخلق ، وينال ذلك المقام المحمود ، الذي يغبطه به الأولون والآخرون. فسبحان من خفيت ألطافه ، ودقّت في إيصاله البر والإحسان ، إلى خواص أصفيائه ، وأوليائه. (وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما) أي : من الفتيين ، وهو : الذي رأى أنه يعصر خمرا ، وهو الذي أوصاه يوسف ، أن يذكره عند ربه (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) أي : وتذكر يوسف ، وما جرى له في تعبيره لرؤياهما ، وما وصاه به ، وعلم أنه كفيل بتعبير هذه الرؤيا بعد مدة ، من السنين فقال : (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) إلى يوسف لأسأله عنها. فأرسلوه ، فجاء إليه ، ولم يعنفه يوسف على نسيانه ، بل استمع ما يسأله عنه ، وأجابه عن ذلك فقال : (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) أي : كثير الصدق في أقواله وأفعاله ، (أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) فإنهم متشوفون لتعبيرها ، وقد أهمتهم. فعبر يوسف ، السبع البقرات السمان ، والسبع السنبلات الخضر ، بأنهن سبع سنين مخصبات ، والسبع البقرات العجاف ، والسبع السنبلات اليابسات ، بأنهن سنين مجدبات. ولعل وجه ذلك ـ والله أعلم ـ أن الخصب والجدب لما كان الحرث مبنيا عليه ، وأنه إذا حصل الخصب ، قويت الزروع والحروث ، وحسن منظرها ، وكثرت غلالها ، والجدب بالعكس من ذلك. وكانت البقر ، هي التي تحرث عليها الأرض ، وتسقى عليها

٤٥٩

الحروث في الغالب. والسنبلات هي أعظم الأقوات وأفضلها ، عبرها بذلك ، لوجود المناسبة ، فجمع لهم في تأويلها ، بين التعبير ، والإشارة لما يفعلونه ، ويستعدون به ، من التدابير في سني الخصب ، إلى سني الجدب فقال : (تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً) أي : متتابعات. (فَما حَصَدْتُمْ) من تلك الزروع (فَذَرُوهُ) أي : اتركوه (فِي سُنْبُلِهِ) لأنه أبقى له وأبعد من الالتفات إليه (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ) أي : دبروا أكلكم في هذه السنين الخصبة ، وليكن قليلا ، ليكثر ما تدخرون ويعظم نفعه ووقعه.

[٤٨] (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي : بعد تلك السنين السبع المخصبات ، (سَبْعٌ شِدادٌ) أي : مجدبات (يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَ) أي : يأكلن جميع ما ادخرتموه ، ولو كان كثيرا ، (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ) أي : تمنعونه من التقديم لهن.

[٤٩] (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي : السبع الشداد (عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) أي : فيه تكثر الأمطار والسيول ، وتكثر الغلات ، وتزيد على أقواتهم ، حتى إنهم يعصرون العنب ونحوه ، زيادة على أكلهم. ولعل استدلاله على وجود هذا العام الخصب ، مع أنه غير مصرح به في رؤيا الملك. لأنه فهم من التعبير ، بالسبع الشداد ، أن العام الذي يليها ، تزول به شدتها ، ومن المعلوم أنه لا يزول الجدب المستمر سبع سنين متواليات ، إلا بعام مخصب جدا ، وإلا لما كان للتقدير فائدة. فلما رجع الرسول إلى الملك والناس ، وأخبرهم بتأويل يوسف للرؤيا ، عجبوا من ذلك ، وفرحوا بها أشد الفرح.

[٥٠ ـ ٥٦] يقول تعالى : (وَقالَ الْمَلِكُ) لمن عنده (ائْتُونِي بِهِ) أي : بيوسف عليه‌السلام ، بأن يخرجوه من السجن ، ويحضروه إليه ، (فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ) وأمره بالحضور عند الملك ، امتنع عن المبادرة إلى الخروج ، حتى تتبين براءته التامة ، وهذا من صبره ، وعقله ورأيه التام. وحينئذ (قالَ) للرسول : (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) يعني به الملك ، (فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) أي : اسأله ، ما شأنهن وقصتهن ، فإن أمرهن ظاهر متضح (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ). فأحضرهن الملك ، وقال : (ما خَطْبُكُنَ) أي : شأنكن (إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ) فهل رأيتن منه ما يريب؟ فبرّأنه و (قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) أي : لا قليل ولا كثير ، فحينئذ زال السبب ، الذي تبنى عليه التهمة ، ولم يبق إلا ما عند امرأة العزيز ، (قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ) أي : تمحص وتبين ، بعد ما كنا ندخل عليه من السوء والتهمة ، ما أوجب له السجن. (أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) في أقواله وبراءته. (ذلِكَ) الإقرار ، الذي أقررت ، أني راودت يوسف (لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ). يحتمل أن مرادها بذلك ، زوجها أي : ليعلم أني حين أقررت ، أني راودت يوسف ، أني لم أخنه بالغيب ، أي : لم يجر منّي إلا مجرد المراودة ، ولم أفسد عليه فراشه. ويحتمل أن المراد بذلك ، ليعلم يوسف ، حين أقررت أني أنا الذي راودته ، وأنه صادق ، أني لم أخنه في حال غيبته عني ، (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) فإن كل خائن ، لا بد أن تعود خيانته ومكره على نفسه ، ولا بد أن يتبين أمره. ثم لما كان في هذا الكلام ، نوع تزكية لنفسها ، وأنه لم يجر منها ذنب في شأن يوسف ، استدركت فقالت : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) أي : من المراودة والهمّ ، والحرص الشديد ، والكيد في ذلك ، (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) أي :

٤٦٠