تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي

تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

المؤلف:

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ١١٣٥

الله : إنكم : (قَدْ أَصَبْتُمْ) من المشركين (مِثْلَيْها) فقتلتم سبعين من كبارهم ، وأسرتم سبعين. فليهن الأمر ولتخف المصيبة عليكم ، مع أنكم لا تستوون ، أنتم وهم. فإن قتلاكم في الجنة وقتلاهم في النار] (١).

[١٦٥ ـ ١٦٦] (قُلْتُمْ أَنَّى هذا) ، أي : من أين أصابنا ما أصابنا وهزمنا؟ (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) حين تنازعتم ، وعصيتم ، من بعد ما أراكم ما تحبون ، فعودا على أنفسكم باللوم ، واحذروا من الأسباب المردية. (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فإياكم وسوء الظن بالله ، فإنه قادر على نصركم ، ولكن له أتم الحكمة ، في ابتلائكم ، ومصيبتكم. (ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ). ثم أخبر أن ما أصابهم يوم التقى الجمعان ، جمع المسلمين ، وجمع المشركين في «أحد» من القتل والهزيمة ، أنه بإذنه ، وقضائه وقدره ، لا مرد له ، ولا بد من وقوعه. والأمر القدري ـ إذا نفذ ، لم يبق إلا التسليم له ، وأنه قدره ، لحكم عظيمة وفوائد جسيمة ، وأنه ليتبين بذلك ، المؤمن من المنافق ، الذين لما أمروا بالقتال.

[١٦٧] (وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) ، أي : ذبّا عن دين الله ، وحماية له ، وطلبا لمرضاة الله ، (أَوِ ادْفَعُوا) عن محارمكم وبلدكم ، إن لم تكن لكم نية صالحة. فأبوا ذلك واعتذروا بأن (قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ) ، أي : لو نعلم أنكم يصير بينكم وبينهم قتال ، لاتبعناكم ، وهم كذبة في هذا. قد علموا وتيقنوا وعلم كل أحد ، أن هؤلاء المشركين ، قد ملئوا من الحنق والغيظ على المؤمنين ، بما أصابوا منهم ، وأنهم قد بذلوا أموالهم ، وجمعوا ما يقدرون عليه من الرجال والعدد ، وأقبلوا في جيش عظيم ، قاصدين المؤمنين في بلدهم ، متحرقين على قتالهم. فمن كانت هذه حالهم ، كيف يتصور أنه لا يصير بينهم وبين المؤمنين قتال؟ خصوصا وقد خرج المسلمون من المدينة ، وبرزوا لهم ، هذا من المستحيل ، ولكن المنافقين ظنوا أن هذا العذر ، يروج على المؤمنين. قال تعالى : (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ) ، أي : في تلك الحال التي تركوا فيها الخروج مع المؤمنين (أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ). وهذه خاصة المنافقين ، يظهرون بكلامهم وفعالهم ، ما يبطنون ضده في قلوبهم وسرائرهم. ومنه قولهم : (لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ) ، فإنهم علموا وقوع القتال. ويستدل بهذه الآية على قاعدة «ارتكاب أخف المفسدتين» لدفع أعلاهما ، وفعل أدنى المصلحتين ، للعجز عن أعلاهما ، لأن المنافين أمروا أن يقاتلوا للدين ، فإن لم يفعلوا فللمدافعة عن العيال والأوطان. (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) فيبديه لعباده المؤمنين ، ويعاقبهم عليه.

[١٦٨] ثم قال تعالى : (الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا) ، أي : جمعوا بين التخلف عن الجهاد ، وبين الاعتراض والتكذيب بقضاء الله وقدره ، قال الله ردا عليهم : (قُلْ فَادْرَؤُا) ، أي : ادفعوا (عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ، أنهم لو أطاعوكم ما قتلوا ، لا تقدرون على ذلك ، ولا تستطيعونه. وفي هذه الآيات دليل على أن العبد قد يكون فيه خصلة كفر ، وخصلة إيمان ، وقد تكون إحداهما ، أقرب من الأخرى.

__________________

(١) سقط من المطبوعة التي بين أيدينا ، وهو موافق للسياق.

١٦١

[١٦٩] هذه الآيات الكريمات ، فيها فضل الشهداء وكرامتهم ، وما منّ الله عليهم به ، من فضله وإحسانه ، وفي ضمنها تسلية الأحياء عن قتلاهم ، وتعزيتهم ، وتنشيطهم للقتال في سبيل الله ، والتعرض للشهادة ، فقال :

(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) ، أي : في جهاد أعداء الدين ، قاصدين بذلك إعلاء كلمة الله. (أَمْواتاً) ، أي : لا يخطر ببالك وحسبانك ، أنهم ماتوا وفقدوا ، وذهبت عنهم لذة الحياة الدنيا ، والتمتع بزهرتها ، الذي يحذر من فواته ، من جبن عن القتال ، وزهد في الشهادة. (بَلْ) قد حصل لهم أعظم مما يتنافس فيه المتنافسون. فهم (أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) في دار كرامته. ولفظ : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) يقتضي علو درجتهم ، وقربهم من ربهم. (يُرْزَقُونَ) من أنواع النعيم ، الذي لا يعلم وصفه ، إلا من أنعم به عليهم. ومع هذا صاروا (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) ، أي : مغتبطون بذلك. وقد قرت به عيونهم ، وفرحت به نفوسهم ، وذلك لحسنه ، وكثرته ، وعظمته ، وكمال اللذة في الوصول إليه ، وعدم المنغص.

[١٧٠] فجمع الله لهم ، بين نعيم البدن بالرزق ، ونعيم القلب والروح ، بالفرح بما آتاهم من فضله : فتم لهم النعيم والسرور ، وجعلوا (يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ) ، أي : يبشر بعضهم بعضا ، بوصول إخوانهم الذين لم يلحقوا بهم ، وأنهم سينالون ما نالوا. (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) ، أي : يستبشرون بزوال المحذور عنهم ، وعن إخوانهم المستلزم كمال السرور.

[١٧١] (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) ، أي : يهنىء بعضهم بعضا ، بأعظم مهنأ به ، وهو : نعمة ربهم ، وفضله ، وإحسانه. (وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) بل ينميه ويشكره ، ويزيده من فضله ، ما لا يصل إليه سعيهم. وفي هذه الآيات ، إثبات نعيم البرزخ ، وأن الشهداء ، في أعلى مكان عند ربهم ، وفيه تلاقي أرواح أهل الخير ، وزيارة بعضهم بعضا [وتبشير بعضهم بعضا] (١).

[١٧٢ ـ ١٧٣] لما رجع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من «أحد» إلى المدينة ، ندب أصحابه إلى الخروج ، فخرجوا ـ على ما بهم من الجراح ـ استجابة لله ولرسوله ، فوصلوا إلى «حمراء الأسد» ، وجاءهم من جاءهم وقال لهم : (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) وهموا باستئصالكم ، تخويفا لهم وترهيبا ، فلم يزدهم ذلك إلا إيمانا بالله ، واتكالا عليه. (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ) ، أي : كافينا كل ما أهمنا (وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) المفوض إليه تدبير عباده ، والقائم بمصالحهم.

[١٧٤] (فَانْقَلَبُوا) ، أي : رجعوا (بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ). وجاء الخبر للمشركين ، أن الرسول وأصحابه قد خرجوا إليكم ، وندم من تخلف منهم ، فألقى الله الرعب في قلوبهم ، واستمروا راجعين إلى مكة.

ورجع المؤمنون ، بنعمة من الله وفضل ، حيث منّ عليهم بالتوفيق للخروج بهذه الحالة والاتكال على ربهم ، ثم إنه قد كتب لهم أجر غزاة تامة.

[١٧٥] فسبب إحسانهم بطاعة ربهم ، وتقواهم عن معصيته ، لهم أجر عظيم. ثم قال تعالى : (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) ، أي : إن ترهيب من رهب من المشركين ، وقال : إنهم جمعوا لكم ، داع من دعاة الشيطان ، يخوف أولياءه الذين عدم إيمانهم ، أو ضعف. (فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، أي : فلا تخافوا المشركين ، أولياء الشيطان ، فإن نواصيهم بيد الله ، لا يتصرفون إلا بقدره ، بل خافوا الله ، الذي ينصر أولياءه الخائفين إياه المستجيبين لدعوته. وفي هذه الآية ، وجوب الخوف من الله وحده ، وأنه من لوازم الإيمان ، فعلى قدر إيمان العبد ، يكون خوفه من الله ، والخوف المحمود : ما حجز العبد عن محارم الله.

[١٧٦] كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حريصا على الخلق ، مجتهدا في هدايتهم ، وكان يحزن إذا لم يهتدوا ، قال الله تعالى : (وَلا

__________________

(١) سقط من المطبوعة التي بين يدينا ، وهو موافق للسياق.

١٦٢

يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) من شدة رغبتهم فيه ، وحرصهم عليه (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) ، فالله ناصر دينه ، ومؤيد رسوله ، ومنفذ أمره من دونهم ، فلا تبالهم ولا تحفل بهم ، إنما يضرون ، ويسعون في ضرر أنفسهم ، بفوات الإيمان في الدنيا ، وحصول العذاب الأليم في الأخرى ، من هوانهم على الله ، وسقوطهم من عينه ، وإرادته أن لا يجعل لهم نصيبا في الآخرة ، ثوابه خذلهم فلم يوفقهم ، لما وفق إليه أولياءه ، ومن أراد به خيرا ، عدلا منه وحكمة ، لعلمه بأنهم غير زاكين على الهدى ، ولا قابلين للرشاد ، لفساد أخلاقهم وسوء قصدهم.

[١٧٧] ثم أخبر أن الذين اختاروا الكفر على الإيمان ، ورغبوا فيه ، رغبة من بذل ما يحب من المال ، في شراء ما يحب من السلع (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) ، بل ضرر فعلهم ، يعود على أنفسهم ، ولهذا قال : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ، وكيف يضرون الله شيئا ، وهم قد زهدوا أشد الزهد في الإيمان ، ورغبوا كل الرغبة بالكفر بالرحمن؟ فالله غني عنهم. وقد قيض لدينه من عباده الأبرار الأزكياء سواهم ، وأعد له ـ ممن ارتضاه لنصرته ـ أهل البصائر والعقول ، وذوي الألباب من الرجال الفحول. قال الله تعالى : (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) (١٠٧) الآيات.

[١٧٨] أي : ولا يظن الذين كفروا بربهم ، ونابذوا دينه ، وحاربوا رسوله أن تركنا إياهم في هذه الدنيا ، وعدم استئصالنا لهم ، وإملائنا لهم ـ خير لأنفسهم ـ ، ومحبة منا [لهم] (١). كلا ، ليس الأمر كما زعموا ، وإنما ذلك لشر ، يريده الله بهم ، وزيادة عذاب وعقوبة إلى عذابهم ، ولهذا قال : (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ). فالله تعالى يملي للظالم ، حتى يزداد طغيانه ، ويترادف كفرانه ، ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر. فليحذر الظالمون من الإمهال ، ولا يظنوا ، أن يفوتوا الكبير المتعال.

[١٧٩] أي : ما كان في حكمة الله أن يترك المؤمنين على ما أنتم عليه من الاختلاط ، وعدم التمييز ، حتى يميز الخبيث من الطيب ، والمؤمن من المنافق ، والصادق من الكاذب. ولم يكن في حكمته أيضا ، أن يطلع عباده على الغيب الذي يعلمه من عباده ، فاقتضت حكمته الباهرة ، أن يبتلي عباده ، ويفتنهم بما به يتميز الخبيث من الطيب ، من أنواع الابتلاء والامتحان ، فأرسل الله رسله ، وأمر بطاعتهم ، والانقياد لهم ، والإيمان بهم ، ووعدهم ـ على الإيمان والتقوى ـ الأجر العظيم. فانقسم الناس ـ بحسب اتباعهم للرسل ـ قسمين : مطيعين وعاصين ، ومؤمنين ومنافقين ، ومسلمين وكافرين. ليرتب على ذلك الثواب والعقاب ، وليظهر عدله وفضله ، وحكمته لخلقه.

[١٨٠] أي : ولا يظن الذين يبخلون ، أي : يمنعون ما عندهم مما آتاهم الله من فضله ، من المال ، والجاه ، والعلم ، وغير ذلك مما منحهم الله ، وأحسن إليهم به ، وأمر هم ببذل ما لا يضرهم منه لعباده ، فبخلوا بذلك ،

__________________

(١) سقط من المطبوعة التي بين أيدينا ، وهو موافق للسياق.

١٦٣

وأمسكوه ، وضنوا به على عباد الله ، وظنوا أنه خير لهم ، بل هو شر لهم ، في دينهم ودنياهم ، وعاجلهم وآجلهم. (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ، أي : يجعل ما بخلوا به ، طوقا في أعناقهم ، يعذبون به كما ورد في الحديث الصحيح. «إن البخيل يمثل له ماله يوم القيامة ، شجاعا أقرع ، له زبيبتان ، يأخذ بلهزميه يقول : أنا مالك ، أنا كنزك». وتلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مصداق ذلك هذه الآية. فهؤلاء حسبوا أن بخلهم نافعهم ، ومجد عليهم ، فانقلب عليهم الأمر ، وصار من أعظم مضارهم ، وسبب عقابهم. (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، أي : هو تعالى ، مالك الملك ، وترد جميع الأملاك إلى مالكها ، وينقلب العباد من الدنيا ، ما معهم درهم ولا دينار ، ولا غير ذلك من المال. قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) (٤٠) ، وتأمل كيف ذكر السبب الابتدائي والسبب النهائي ، الموجب كل واحد ، منهما أن لا يبخل العبد بما أعطاه الله. أخبر أولا : أن الذي عنده وفي يده ، فضل من الله ونعمة ، ليس ملكا للعبد ، بل لو لا فضل الله عليه وإحسانه ، لم يصل إليه منه شيء ، فمنعه ذلك ، منع لفضل الله وإحسانه ؛ ولأن إحسانه موجب للإحسان إلى عبيده كما قال تعالى : (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ). فمن تحقق أن ما بيده ، هو فضل من الله ، لم يمنع الفضل الذي لا يضره ، بل ينفعه في قلبه وماله ، وزيادة إيمانه ، وحفظه من الآفات. ثم ذكر ثانيا أن هذا الذي بيد العباد كله ، يرجع إلى الله ، ويرثه تعالى ، وهو خير الوارثين ، فلا معنى للبخل بشيء هو زائل عنك ، منتقل إلى غيرك. ثم ذكر ثالثا ، السبب الجزائي ، فقال : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) ، فإذا كان خبيرا بأعمالكم جميعا ـ ويستلزم ذلك ، الجزاء الحسن ، على الخيرات ، والعقوبات على الشر ـ لم يتخلف من في قلبه مثقال ذرة من إيمان عن الإنفاق الذي يجزى به الثواب ، ولا يرضى بالإمساك ، الذي به العقاب.

[١٨١ ـ ١٨٢] يخبر تعالى ، عن قول هؤلاء المتمردين ، الذين قالوا أقبح المقالة ، وأشنعها ، وأسمجها. فأخبر أنه قد سمع ما قالوه ، وأنه سيكتبه ويحفظه ، مع أفعالهم الشنيعة ، وهو : قتلهم الأنبياء الناصحين ، وأنه سيعاقبهم على ذلك أشد العقوبة ، وأنه يقال لهم ـ بدل قولهم إن الله فقير ونحن أغنياء ـ (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) المحرق النافذ من البدن إلى الأفئدة ، وأن عذابهم ليس ظلما من الله لهم ، فإنه (لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ، فإنه منزه عن ذلك. وإنما (لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) من المخازي والقبائح ، التي أوجبت استحقاقهم العذاب ، وحرمانهم الثواب. وقد ذكر المفسرون أن هذه الآية ، نزلت في قوم من اليهود ، تكلموا بذلك ، وذكروا منهم «فنحاص بن عازوراء» من رؤساء علماء اليهود في المدينة ، وأنه لما سمع قول الله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) ، (وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) ، قال : ـ على وجه التكبر والتجرؤ ـ هذه المقالة قبحه الله. فذكرها الله عنهم ، وأخبر أنه ليس ببدع من شنائعهم ، بل قد سبق لهم من الشنائع ، ما هو نظير ذلك ، وهو : قتلهم الأنبياء بغير حق. هذا القيد يراد به ، أنهم تجرأوا على قتلهم ، مع علمهم بشناعته ، لا جهلا وضلالا ، بل تمردا وعنادا.

[١٨٣] يخبر تعالى عن حال هؤلاء المفترين القائلين : (إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا) ، أي : تقدم إلينا ، وأوصى ، أن لا

١٦٤

نؤمن لرسول ، حتى يأتينا بقربان تأكله النار ، فجمعوا بين الكذب على الله ، وحصر آية الرسل بما قالوه ، من هذا الإفك المبين ، وأنهم إن لم يؤمنوا برسول ، لم يأتهم بقربان تأكله النار ، فهم ـ في ذلك ـ مطيعون لربهم ، ملتزمون عهده. وقد علم أن كل رسول يرسله الله ، يؤيده من الآيات والبراهين ، بما على مثله آمن البشر ، ولم يقصرها على ما قالوه ، ومع هذا ، فقد قالوا إفكا لم يلتزموه ، وباطلا لم يعملوا به. ولهذا أمر الله رسوله أن يقول لهم : (قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ) الدالات على صدقهم (وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) ، بأن أتاكم بقربان تأكله النار (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ، أي : في دعواكم الإيمان برسول يأتيكم بقربان تأكله النار ، فقد تبين بهذا كذبهم ، وعنادهم ، وتناقضهم.

[١٨٤] ثم بشر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) ، أي : هذه عادة الظالمين ، ودأبهم ، الكفر بالله ، وتكذيب رسل الله ، وليس تكذيبهم لرسل الله ، عن تصور بما أتوا به ، أو عدم تبين حجة ، بل قد (جاؤُ بِالْبَيِّناتِ) ، أي : الحجج العقلية ، والبراهين النقلية. (وَالزُّبُرِ) ، أي : الكتب المزبورة ، المنزلة من السماء ، التي لا يمكن أن يأتي بها غير الرسل. (وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) للأحكام الشرعية ، وبيان ما اشتملت عليه من المحاسن العقلية ، ومنير أيضا للأخبار الصادقة ، فإذا كان هذا عادتهم في عدم الإيمان بالرسل ، الذين هذا وصفهم ، فلا يحزنك أمرهم ، ولا يهمك شأنهم.

[١٨٥] ثم قال تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) ، الآية. هذه الآية الكريمة ، فيها التزهيد في الدنيا بفنائها ، وعدم بقائها ، وأنها متاع الغرور ، تفتن بزخرفها ، وتخدع بغرورها ، وتغر بمحاسنها ، ثم هي منتقلة ، ومنتقل عنها ، إلى دار القرار ، التي توفى فيها النفوس ، ما عملت في هذه الدار ، من خير وشر. (فَمَنْ زُحْزِحَ) ، أي : أخرج ، (عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) ، أي : حصل له الفوز العظيم ، بالنجاة من العذاب الأليم ، والوصول إلى جنات النعيم ، التي فيها ، ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. ومفهوم الآية ، أن من لم يزحزح عن النار ، ويدخل الجنة ، فإنه لم يفز ، بل قد شقي الشقاء الأبدي ، وابتلي بالعذاب السرمدي. وفي هذه الآية إشارة لطيفة إلى نعيم البرزخ ، وعذابه ، وأن العاملين يجزون فيه بعض الجزاء ، مما عملوه ، ويقدم لهم أنموذج مما أسلفوه. يفهم هذا من قوله : (وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ، أي : توفية الأعمال التامة ، إنما يكون يوم القيامة ، وأما ما دون ذلك ، فيكون في البرزخ. بل قد يكون قبل ذلك في الدنيا كقوله : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ).

[١٨٦] يخبر تعالى ويخاطب المؤمنين أنهم سيبتلون في أموالهم ، من النفقات الواجبة والمستحبة ، من التعريض لإتلافها ، في سبيل الله ، وفي أنفسهم من التكليف بأعباء التكاليف الثقيلة ، على كثير من الناس ، كالجهاد في سبيل الله ، والتعرض فيه للتعب ، والقتل ، والأسر ، والجراح ، وكالأمراض التي تصيبه في نفسه ، أو فيمن يحب.

(وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً) من الطعن فيكم ، وفي

١٦٥

دينكم ، وكتابكم ، ورسولكم. وفي إخباره لعباده المؤمنين بذلك ، عدة فوائد : منها : أن حكمته تعالى ، تقتضي ذلك ، ليتميز المؤمن الصادق من غيره. ومنها : أنه تعالى ، يقدر عليهم هذه الأمور ، لما يريده بهم من الخير ليعلي درجاتهم ، ويتم به إيقانهم ، فإنه إذا أخبرهم بذلك ووقع كما أخبر (قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً). ومنها : أنه أخبرهم بذلك لتتوطن نفوسهم على وقوع ذلك ، والصبر عليه إذا وقع ؛ لأنهم قد استعدوا لوقوعه ، فيهون عليهم حمله ، وتخف عليهم مؤنته ، ويلجأون إلى الصبر والتقوى ، ولهذا قال : (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا) ، أي : إن تصبروا على ما نالكم في أموالكم وأنفسكم ، من الابتلاء ، والامتحان ، وعلى أذية الظالمين ، وتتقوا الله في ذلك الصبر بأن تنووا به وجه الله ، والتقرب إليه ، ولم تتعدوا في صبركم ، الحد الشرعي من الصبر في موضع لا يحل لكم فيه الاحتمال ، بل وظيفتكم فيه الانتقام من أعداء الله. (فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) ، أي : من الأمور التي يعزم عليها ، وينافس فيها ، ولا يوفق لها إلا أهل العزائم والهمم العالية كما قال تعالى : (وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).

[١٨٧] الميثاق هو العهد الثقيل المؤكد ، وهذا الميثاق أخذه الله تعالى ، على كل من أعطاه الله الكتب ، وعلمه العلم ، أن يبين للناس ما يحتاجون إليه مما علمه الله ، ولا يكتمهم ذلك ، ويبخل عليهم به ، خصوصا إذا سألوه ، أو وقع ما يوجب ذلك ، فإن كل من عنده علم ، يجب عليه في تلك الحال ، أن يبينه ، ويوضح الحق من الباطل. فأما الموفقون ، فقاموا بهذا أتم القيام ، وعلموا الناس مما علمهم الله ، ابتغاء مرضاة ربهم ، وشفقة على الخلق ، وخوفا من إثم الكتمان. وأما الذين أوتو الكتاب ، من اليهود والنصارى ، ومن شابههم ، فنبذوا هذه العهود والمواثيق ، وراء ظهورهم ، فلم يعبأوا بها ، فكتموا الحق ، وأظهروا الباطل ، وتجرؤوا على محارم الله ، وتهاونوا بحقوقه تعالى ، وحقوق الخلق ، واشتروا بذلك الكتمان ، ثمنا قليلا. وهو ما يحصل لهم إن حصل ، من بعض الرياسات ، والأموال الحقيرة ، من سفلتهم المتبعين أهواءهم ، المقدمين شهواتهم على الحق. (فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) ، لأنه أخس العوض ، والذي رغبوا عنه ـ وهو بيان الحق ، الذي فيه السعادة الأبدية ، والمصالح الدينية والدنيوية ـ أعظم المطالب وأجلها. فلم يختاروا الدين الخسيس ويتركوا العالي النفيس ، إلا لسوء حظهم ، وهوانهم ، وكونهم لا يصلحون لغير ما خلقوا له.

[١٨٨] ثم قال تعالى : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) ، أي : من القبائح ، والباطل القولي والفعلي. (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) ، أي : بالخير الذي لم يفعلوه ، والحق الذي لم يقولوه ، فجمعوا بين فعل الشر وقوله ، والفرح بذلك ، ومحبة أن يحمدوا على فعل الخير الذي ما فعلوه. (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) ، أي : بمحل نجوة منه وسلامة ، بل قد استحقوه ، وسيصيرون إليه ، ولهذا قال : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ). ويدخل في هذه الآية الكريمة ، أهل الكتاب الذين فرحوا بما عندهم من العلم ، ولم ينقادوا للرسول ، وزعموا أنهم المحقون في حالهم ومقالهم ، وكذلك كل من ابتدع بدعة قولية أو فعلية ، وفرح بها ، ودعا إليها ، وزعم أنه محق وغيره مبطل ، كما هو الواقع من

١٦٦

أهل البدع. ودلت الآية بمفهومها ، على أن من أحب أن يحمد ويثنى عليه بما فعله من الخير ، واتباع الحق ، إذا لم يكن قصده بذلك الرياء والسمعة ، أنه غير مذموم. بل هذا من الأمور المطلوبة ، التي أخبر الله أنه يجزي بها المحسنين ، في الأعمال والأقوال ، وأنه جازى بها خواص خلقه ، وسألوها منه. كما قال إبراهيم عليه‌السلام : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) (٨٤). وقال : (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٨٠) ، وقد قال عباد الرحمن : (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) ، وهي من نعم الباري على عبده ، ومننه التي تحتاج إلى الشكر.

[١٨٩] أي : هو المالك للسماوات والأرض وما فيهما ، من سائر أصناف الخلق ، المتصرف فيهم ، بكمال القدرة ، وبديع الصنعة ، فلا يمتنع عليه منهم أحد ، ولا يعجزه أحد.

[١٩٠] يخبر تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) (١٩٠) ، وفي ضمن ذلك ، حث العباد على التفكر فيها ، والتبصر بآياتها ، وتدبر خلقها. وأبهم قوله : (لَآياتٍ) ، ولم يقل : «على المطلب الفلاني» إشارة لكثرتها وعمومها. وذلك لأن فيها من الآيات العجيبة ، ما يبهر الناظرين ، ويقنع المتفكرين ، ويجذب أفئدة الصادقين ، وينبه العقول النيرة على جميع المطالب الإلهية. فأما تفصيل ما اشتملت عليه ، فلا يمكن مخلوقا أن يحصره ، ويحيط ببعضه ، وفي الجملة ، فما فيها من العظمة والسعة ، وانتظام السير والحركة ، يدل على عظمة خالقها ، وعظمة سلطانه وشمول قدرته ، وما فيها من الإحكام والإتقان ، وبديع الصنع ، ولطائف الفعل ، يدل على حكمة الله ، ووضعه الأشياء مواضعها ، وسعة علمه ، وما فيها من المنافع للخلق ، يدل على سعة رحمة الله ، وعموم فضله ، وشمول بره ، ووجوب شكره. وكل ذلك يدل على تعلق القلب بخالقها ومبدعها ، وبذل الجهد في مرضاته ، وأن لا يشرك به سواه ، ممن لا يملك لنفسه ولا لغيره ، مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. وخص الله بالآيات ، أولي الألباب ، وهم أهل العقول ؛ لأنهم هم المنتفعون بها ، الناظرون إليها بعقولهم لا بأبصارهم.

[١٩١] ثم وصف أولي الألباب بأنهم (يَذْكُرُونَ اللهَ) في جميع أحوالهم. (قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) ، وهذا يشمل جميع أنواع الذكر بالقول والقلب ، ويدخل في ذلك الصلاة قائما ، فإن لم يستطع فقاعدا ، فإن لم يستطع فعلى جنب. وأنهم (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، أي : ليستدلوا بها على المقصود منها ، ودل هذا على أن التفكر عبادة من صفات أولياء الله العارفين ، فإذا تفكروا بها ، عرفوا أن الله لم يخلقها عبثا فيقولون : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ) ، عن كل ما لا يليق بجلالك ، بالحق وللحق ، بل خلقتها مشتملة على الحق. (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) ، بأن تعصمنا من السيئات ، وتوفقنا للأعمال الصالحات ، لننال بذلك النجاة من النار. ويتضمن ذلك سؤال الجنة ، لأنهم ـ إذا وقاهم الله عذاب النار ـ حصلت لهم الجنة. ولكن لما قام الخوف بقلوبهم ، دعوا الله بأهم الأمور عندهم.

[١٩٢] (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) ، أي : لحصوله على السخط من الله ، ومن ملائكته ، وأوليائه ، ووقوع الفضيحة ، التي لا نجاة منها ، ولا منقذ منها. ولهذا قال : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) ينقذونهم من عذابه ،

١٦٧

وفيه دلالة على أنهم دخلوها بظلمهم.

[١٩٣] (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ) ، وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يدعو الناس إليه ، ويرغبهم فيه ، في أصوله وفروعه. (فَآمَنَّا) ، أي : أجبناه مبادرة ، وسارعنا إليه ، وفي هذا إخبار منهم بمنة الله عليهم ، وتبجح بنعمته ، وتوسل إليه بذلك ، أن يغفر ذنوبهم ويكفر سيئاتهم ، لأن الحسنات يذهبن السيئات ، والذي منّ عليهم بالإيمان ، يمن عليهم بالأمان التام. (وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) ، يتضمن هذا الدعاء ، التوفيق لفعل الخير ، وترك الشر ، الذي به يكون العبد من الأبرار ، والاستمرار عليه ، والثبات إلى الممات.

[١٩٤] ولما ذكروا توفيق الله إياهم للإيمان ، وتوسلهم به إلى تمام النعمة ، سألوه الثواب على ذلك ، وأن ينجز لهم ما وعدهم به على ألسنة رسله من النصر ، والظهور في الدنيا ، ومن الفوز برضوان الله وجنته في الآخرة ، فإنه تعالى ، لا يخلف الميعاد ، فأجاب الله دعاءهم ، وقبل تضرعهم.

[١٩٥] فلهذا قال : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) ، الآية ، أي : أجاب الله دعاءهم ، دعاء العبادة ، ودعاء الطلب ، وقال : (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) ، فالجميع سيلقون ثواب أعمالهم كاملا موفّرا ، أي : كلكم على حد سواء في الثواب والعقاب. (فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا) ، فجمعوا بين الإيمان والهجرة ، ومفارقة المحبوبات ، من الأوطان ، والأموال طلبا لمرضاة ربهم ، وجاهدوا في سبيل الله. (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ) ، الذي يعطي عبده الثواب الجزيل ، على العمل القليل. (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، فمن أراد ذلك ، فليطلبه من الله بطاعته ، والتقرب إليه ، بما يقدر عليه العبد.

[١٩٦ ـ ١٩٧] وهذه الآية المقصود منها التسلية عما يحصل للذين كفروا ، من متاع الدنيا ، وتنعمهم فيها ، وتقلبهم في البلاد ، بأنواع التجارات ، والمكاسب ، واللذات ، وأنواع العز ، والغلبة في بعض الأوقات ، فإن هذا كله (مَتاعٌ قَلِيلٌ) ، ليس له ثبوت ولا بقاء ، بل يتمتعون به قليلا ، ويعذبون عليه طويلا ، هذه أعلى حالة تكون للكافر ، وقد رأيت ما تؤول إليه.

[١٩٨] وأما المتقون لربهم ، المؤمنون به ـ فمع ما يحصل لهم من عز الدنيا ونعيمها (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها). فلو قدر أنهم في دار الدنيا ، قد حصل لهم كل بؤس ، وشدة ، وعناد ، ومشقة ـ لكان هذا ـ بالنسبة إلى النعيم المقيم والعيش السليم ، والسرور والحبور ، والبهجة نزرا يسيرا ، ومنحة في صورة محنة ، ولهذا قال تعالى : (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) ، وهم الذين برت قلوبهم ، فبرت أقوالهم وأفعالهم. فأثابهم البر الرحيم من بره ، أجرا عظيما ، وعطاء جسيما ، وفوزا دائما.

[١٩٩ ـ ٢٠٠] أي : وإن من أهل الكتاب ، طائفة موفقة للخير ، يؤمنون بالله ، ويؤمنون بما أنزل إليكم ، وما أنزل إليهم ، وهذا هو الإيمان النافع ، لا كمن يؤمن ببعض الرسل والكتب ، ويكفر ببعض. ولهذا ـ لما كان إيمانهم

١٦٨

عاما حقيقيا ـ صار نافعا ، فأحدث لهم خشية الله ، وخضوعهم لجلاله ، الموجب للانقياد لأوامره ونواهيه ، والوقوف عند حدوده. وهؤلاء أهل الكتاب والعلم على الحقيقة ، كما قال تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) ، ومن تمام خشيتهم لله ، أنهم (لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً). [فلا يقدمون الدنيا على الدين ، كما فعل أهل الانحراف الذين يكتمون ما أنزل الله ويشترون به ثمنا قليلا] (١). وأما هؤلاء ، فعرفوا الأمر على الحقيقة ، وعلموا أن من أعظم الخسران ، الرضا بالدون عن الدين ، والوقوف مع بعض حظوظ النفس السفلية ، وترك الحق ، الذي هو : أكبر حظ وفوز ، من الدنيا والآخرة ، فآثروا الحق ، وبينوه ، ودعوا إليه ، وحذروا عن الباطل. فأثابهم الله على ذلك ، بأن وعدهم الأجر الجزيل ، والثواب الجميل ، وأخبرهم بقربه ، وأنه سريع الحساب ، فلا يستبطئوا ما وعدهم الله ، لأن ما هو آت ، محقق حصوله ، فهو قريب. ثم حض المؤمنين ، على ما يوصلهم إلى الفلاح ـ وهو : الفوز بالسعادة والنجاح ، وأن الطريق الموصل إلى ذلك ، لزوم الصبر ، الذي هو حبس النفس على ما تكرهه ، من ترك المعاصي ، ومن الصبر على المصائب ، وعلى الأوامر الثقيلة على النفوس ، فأمرهم بالصبر على جميع ذلك. والمصابرة هي : الملازمة والاستمرار على ذلك ، على الدوام ، ومقاومة الأعداء في جميع الأحوال ، والمرابطة وهي : لزوم المحل الذي يخاف من وصول العدو منه ، وأن يراقبوا أعداءهم ، ويمنعوهم من الوصول إلى مقاصدهم ، لعلهم يفلحون : يفوزون بالمحبوب الديني والدنيوي والأخروي ، وينجون من المكروه كذلك. فعلم من هذا أنه لا سبيل إلى الفلاح بدون الصبر والمصابرة والمرابطة المذكورات ، فلم يفلح من أفلح ، إلا بها ، ولم يفت أحد ، الفلاح إلا بالإخلال بها أو ببعضها. والله الموفق ولا حول ولا قوة إلا به. تم تفسير «سورة آل عمران» والحمد لله على نعمته ، ونسأله تمام النعمة.

تفسير سورة النساء

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] افتتح تعالى هذه السورة ، بالأمر بتقواه ، والحث على عبادته ، والأمر بصلة الأرحام ، والحث على ذلك.

وبيّن السبب الداعي ، الموجب لكل من ذلك ، وأن الموجب لتقواه أنه (رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) ورزقكم ، ورباكم بنعمه العظيمة ، التي من جملتها خلقكم (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) ليناسبها ، فيسكن إليها ، وتتم بذلك النعمة ،

__________________

(١) سقط من المطبوعة التي بين أيدينا ، وهو موافق للسياق.

١٦٩

ويحصل به السرور. وكذلك ، من الموجب الداعي لتقواه ، تساؤلكم به ، وتعظيمكم. حتى إنكم إذا أردتم قضاء حاجاتكم ومآربكم ، توسلتم به ، بالسؤال. فيقول من يريد ذلك لغيره : أسألك بالله ، أن تفعل الأمر الفلاني ؛ لعلمه بما قام في قلبه ، من تعظيم الله الداعي ، أن لا يرد من سأله بالله. فكما عظمتموه بذلك ، فلتعظموه بعبادته وتقواه. وكذلك الإخبار بأنه رقيب ، أي : مطلع على العباد ، في حال حركاتهم وسكونهم ، وسرهم وعلنهم ، وجميع الأحوال ، مراقبا لهم فيها ، مما يوجب مراقبته ، وشدة الحياء منه ، بلزوم تقواه. وفي الإخبار بأنه خلقهم من نفس واحدة ، وأنه بثهم في أقطار الأرض ، مع رجوعهم إلى أصل واحد ـ ليعطف بعضهم على بعض ، ويرقق بعضهم على بعض. وقرن الأمر بتقواه ، بالأمر ببر الأرحام ، والنهي عن قطيعتها ، ليؤكد هذا الحق. وإنه كما يلزم القيام بحق الله ، كذلك يجب القيام بحقوق الخلق ، خصوصا الأقربين منهم ، بل القيام بحقوقهم ، هو من حق الله الذي أمر به. وتأمل كيف افتتح هذه السورة ، بالأمر بالتقوى ، وصلة الأرحام والأزواج عموما. ثم بعد ذلك ، فصل هذه الأمور أتم تفصيل ، من أول السورة إلى آخرها. فكأنها مبنية على هذه الأمور المذكورة ، مفصلة لما أجمل منها ، موضحة لما أبهم. وفي قوله : (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) تنبيه على مراعاة حق الأزواج والزوجات والقيام به ، لكون الزوجات مخلوقات من الأزواج [فبينهم وبينهن أقرب نسب ، وأشد اتصال ، وأوثق علاقة] (١).

[٢] وقوله تعالى : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) الآية. هذا أول ما أوصى به من حقوق الخلق في هذه السورة. وهم اليتامى ، الذين فقدوا آباءهم ، الكافلين لهم ، وهم صغار ضعاف ، لا يقومون بمصالحهم. فأمر الرؤوف الرحيم عباده ، أن يحسنوا إليهم ، وأن لا يقربوا أموالهم إلا بالتي هي أحسن ، وأن يؤتوهم أموالهم ، إذا بلغوا ، ورشدوا ، كاملة موفرة. وأن لا (تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ) الذي هو أكل مال اليتيم بغير حق. (بِالطَّيِّبِ) وهو الحلال ، الذي ما فيه حرج ولا تبعة. (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) أي : مع أموالكم. ففيه تنبيه لقبح أكل مالهم ، بهذه الحالة ، التي هي قد استغنى بها الإنسان ، بما جعل الله له ، من الرزق في ماله. فمن تجرأ على هذه الحالة ، فقد أتى (حُوباً كَبِيراً) أي : إثما عظيما ، ووزرا جسيما. ومن استبدال الخبيث بالطيب ، أن يأخذ الولي ، من مال اليتيم ، النفيس ، ويجعل بدله من ماله ، الخسيس. وفيه الولاية على اليتيم ، لأن من لازم إيتاء اليتيم ماله ، ثبوت ولاية المؤتي على ماله. وفيه الأمر بإصلاح مال اليتيم ، لأن تمام إيتائه ماله ، حفظه ، والقيام به بما يصلحه وينميه ، وعدم تعريضه للمخاوف والأخطار.

[٣] أي : وإن خفتم ألا تعدلوا في يتامى النساء ، التي تحت حجوركم وولايتكم ، وخفتم أن لا تقوموا بحقهن ، لعدم محبتكم إياهن ـ فاعدلوا إلى غيرهن ، وانكحوا (ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) أي : ما وقع عليهن اختياركم ، من ذوات الدين ، والمال ، والجمال ، والحسب ، والنسب ، وغير ذلك من الصفات الداعية لنكاحهن ، فاختاروا على نظركم. ومن أحسن ما يختار من ذلك ، صفة الدين كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تنكح المرأة لأربع : لمالها ، ولجمالها ، ولحسبها ، ولدينها ، فاظفر بذات الدين تربت يمينك». وفي هذه الآية ـ أنه ينبغي للإنسان ، أن يختار قبل النكاح. بل قد أباح له الشارع ، النظر إلى من يريد تزوجها ، ليكون على بصيرة من أمره. ثم ذكر العدد الذي أباحه من النساء فقال : (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) أي : من أحب أن يأخذ اثنتين فليفعل ، أو ثلاثا ، فليفعل ، أو أربعا فليفعل ، ولا يزيد عليها ، لأن الآية سيقت لبيان الامتنان ، فلا يجوز الزيادة على غير ما سمى الله تعالى إجماعا. وذلك لأن الرجل قد لا تندفع شهوته بالواحدة ، فأبيح له واحدة بعد واحدة ، حتى تبلغ أربعا ، لأن في الأربع ، غنية لكل أحد ، إلا ما ندر. ومع هذا ، فإنما يباح له ذلك إذا أمن على نفسه الجور والظلم ، ووثق بالقيام بحقوقهن. فإن خاف شيئا من هذا ،

__________________

(١) سقط من المطبوعة التي بين أيدينا ، وهو موافق للسياق.

١٧٠

فليقتصر على واحدة ، أو على ملك يمينه. فإنه لا يجب عليه القسم ، في ملك اليمين : (ذلِكَ) أي : الاقتصار على واحدة ، أو ما ملكت اليمين (أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) أي : تظلموا. وفي هذا ، إن تعرض العبد للأمر الذي يخاف منه الجور والظلم ، وعدم القيام بالواجب ـ ولو كان مباحا ـ أنه لا ينبغي له أن يتعرض له ، بل يلزم السعة والعافية ، فإن العافية خير ما أعطي العبد.

[٤] ولما كان كثير من الناس ، يظلمون النساء ، ويهضمونهن حقوقهن ـ خصوصا الصداق ، الذي يكون شيئا كثيرا ، ودفعة واحدة ، يشق دفعه للزوجة ـ أمرهم وحثهم على إيتاء النساء (صَدُقاتِهِنَ) أي : مهورهن (نِحْلَةً) أي : عن طيب نفس ، وحال طمأنينة ، فلا تمطلوهن ، أو تبخسوا منه شيئا. وفيه : أن المهر يدفع إلى المرأة ، إذا كانت مكلفة ، وأنها تملكه ، بالعقد ، لأنه أضافه إليها ، والإضافة تقتضي التمليك. (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ) أي : من الصداق (نَفْساً) بأن سمحن لكم عن رضا واختيار ، بإسقاط شيء منه ، أو تأخيره أو المعاوضة عنه. (فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) أي : لا حرج عليكم في ذلك ولا تبعة. وفيه دليل على أن للمرأة ، التصرف في مالها ـ ولو بالتبرع ـ إذا كانت رشيدة ، فإن لم تكن كذلك ، فليس لعطيتها حكم. وأنه ليس لوليها من الصداق شيء ، غير ما طابت به. وفي قوله : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) دليل على أن نكاح الخبيثة ، غير مأمور به ، بل منهي عنه ، كالمشركة ، وكالفاجرة ، كما قال تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) وقال : (الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ).

[٥] السفهاء ، جمع «سفيه» وهو : من لا يحسن التصرف في المال. إما لعدم عقله ، كالمجنون والمعتوه ، ونحوهما. وإما لعدم رشده ، كالصغير وغير الرشيد. فنهى الله الأولياء ، أن يؤتوا هؤلاء أموالهم ، خشية إفسادها وإتلافها. لأن الله جعل الأموال ، قياما لعباده ، في مصالح دينهم ودنياهم. وهؤلاء لا يحسنون القيام عليها وحفظها. فأمر الله الولي أن لا يؤتيهم إياها بل يرزقهم منها ، ويكسوهم ، ويبذل منها ، ما يتعلق بضروراتهم وحاجاتهم الدينية والدنيوية ، وأن يقولوا لهم قولا معروفا ، بأن يعدوهم ـ إذا طلبوها ـ أنهم سيدفعونها لهم بعد رشدهم ، ونحو ذلك ، ويلطفوا لهم في الأقوال ، جبرا لخواطرهم. وفي إضافته تعالى ، الأموال إلى الأولياء ، إشارة إلى أنه يجب عليهم أن يعملوا في أموال السفهاء ، ما يفعلونه في أموالهم ، من الحفظ ، والتصرف ، وعدم التعرض للأخطار. وفي الآية دليل على أن نفقة المجنون والصغير والسفيه ، في مالهم ، إذا كان لهم مال ، لقوله : (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ). وفيه دليل على أن قول الولي مقبول فيما يدعيه ، في النفقة الممكنة ، والكسوة ؛ لأن الله جعله مؤتمنا على مالهم ، فلزم قبول قول الأمين.

[٦] الابتلاء هو : الاختبار والامتحان. وذلك بأن يدفع لليتيم المقارب للرشد ، الممكن رشده ، شيئا ، من ماله ، ويتصرف فيه التصرف اللائق بحاله ، فيتبين بذلك رشده من سفهه. فإن استمر غير محسن للتصرف ، لم يدفع إليه ماله ، بل هو باق على سفهه ، ولو بلغ عمرا كثيرا. فإن تبين رشده وصلاحه في ماله وبلغ النكاح (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) كاملة موفرة. (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً) أي : مجاوزة للحد الحلال الذي أباحه الله لكم ، من أموالكم إلى الحرام الذي حرمه الله عليكم من أموالهم. (وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا) أي : ولا تأكلوها ، في حال صغرهم ، التي لا يمكنهم فيها أخذها منكم ، ولا منعكم من أكلها ، تبادرون بذلك أن يكبروا ، فيأخذوها منكم ويمنعوكم منها. وهذا من الأمور الواقعة ، من كثير من الأولياء ، الذين ليس عندهم خوف من الله ، ولا رحمة ومحبة للمولى عليهم. يرون هذه الحال ، حال فرصة ، فيغتنمونها ، ويتعجلون ما حرّم الله عليهم. فنهى الله تعالى ، عن هذه الحالة بخصوصها.

[٧] كان العرب في الجاهلية ـ من جبروتهم وقسوتهم ، لا يورثون الضعفاء ، كالنساء والصبيان ، ويجعلون الميراث للرجال الأقوياء. لأنهم ـ بزعمهم ـ أهل الحرب والقتال ، والنهب والسلب. فأراد الرب الرحيم الحكيم ، أن يشرع لعباده شرعا ، يستوي فيه رجالهم ونساؤهم ، وأقوياؤهم وضعفاؤهم. وقدّم بين يدي ذلك ، أمرا مجملا ،

١٧١

لتتوطن على ذلك النفوس. فيأتي التفصيل بعد الإجمال ، قد تشوفت له النفوس ، وزالت الوحشة ، التي منشؤها ، العادات القبيحة فقال : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ) أي : قسط وحصة (مِمَّا تَرَكَ) أي : خلف (الْوالِدانِ) أي : الأب والأم (وَالْأَقْرَبُونَ) عموما بعد خصوص (وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ). فكأنه قيل : هل ذلك النصيب ، راجع إلى العرف والعادة ، وأن يرضخوا لهم ما يشاؤون؟ أو شيئا مقدرا؟ فقال تعالى : (نَصِيباً مَفْرُوضاً) أي : قدره العليم الحكيم. وسيأتي ـ إن شاء الله ـ تقدير ذلك. وأيضا ، فهنا توهم آخر ، لعل أحدا يتوهم أن النساء والوالدين ، ليس لهم نصيب ، إلا من المال الكثير ، فأزال ذلك بقوله : (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ) فتبارك الله أحسن الحاكمين.

[٨] وهذا من أحكام الله الحسنة الجليلة ، الجابرة للقلوب فقال : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) أي : قسمة المواريث (أُولُوا الْقُرْبى) أي : الأقارب غير الوارثين ، بقرينة قوله : (الْقِسْمَةَ) لأن الوارثين من المقسوم عليهم. (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ) أي : المستحقون من الفقراء. (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) أي : أعطوهم ما تيسر من هذا المال ، الذي جاءكم بغير كد ولا تعب ، ولا عناء ، ولا نصب ، فإن نفوسهم متشوفة إليه ، وقلوبهم متطلعة. فاجبروا خواطرهم ، بما لا يضركم ، وهو نافعهم. ويؤخذ من المعنى ، أن كل من له تطلع وتشوف إلى ما حضر بين يدي الإنسان ، ينبغي له أن يعطيه منه ، ما تيسر كما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إذا جاء أحدكم خادمه بطعامه ، فليجلسه معه ، فإن لم يجلسه معه ، فليناوله لقمة أو لقمتين» أو كما قال. وكان الصحابة رضي الله عنهم ـ إذا بدأت باكورة أشجارهم ـ أتوا بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبرّك عليها ، ونظر إلى أصغر وليد عنده ، فأعطاه ذلك ، علما منه بشدة تشوقه إلى ذلك ، وهذا كله ، مع إمكان الإعطاء. فإن لم يمكن ذلك ـ لكونه حق سفهاء ، أو ثم أهم من ذلك ـ فليقولوا لهم (قَوْلاً مَعْرُوفاً) يردونهم ردا جميلا ، بقول حسن ، غير فاحش ، ولا قبيح.

[٩] قيل : إن هذا خطاب لمن يحضر ، من حضره الموت وأجنف في وصيته ، أن يأمره بالعدل في وصيته ، والمساواة فيها بدليل قوله : (وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) أي : سدادا ، موافقا للقسط والمعروف. وأنهم يأمرون من يريد الوصية على أولاده ، بما يحبون معاملة أولادهم بعدهم. وقيل : إن المراد بذلك ، أولياء السفهاء ، من المجانين ، والصغار ، والضعاف ، أن يعاملوهم في مصالحهم الدينية والدنيوية ، بما يحبون أن يعامل به من بعدهم ، من ذريتهم الضعاف. (فَلْيَتَّقُوا اللهَ) في ولايتهم لغيرهم ، أي : يعاملونهم بما فيه تقوى الله ، من عدم إهانتهم ، والقيام عليهم ، وإلزامهم لتقوى الله.

[١٠] ولما أمرهم بذلك ، زجرهم عن أكل أموال اليتامى ، وتوعد فقال : على ذلك أشد العذاب (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) أي : بغير حق. وهذا القيد ، يخرج به ما تقدم ، من جواز الأكل للفقير بالمعروف ، ومن جواز خلط طعامهم بطعام اليتامى. فمن أكلها ظلما ، فإنما (يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) أي : فإن الذي أكلوه ، نار تتأجج في أجوافهم وهم الذين أدخلوه في بطونهم (وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) أي : نارا محرقة متوقدة. وهذا أعظم

١٧٢

وعيد ورد في الذنوب ، يدل على شناعة أكل أموال اليتامى وقبحها ، وأنها موجبة لدخول النار. فدل ذلك ، أنها من أكبر الكبائر : نسأل الله العافية.

أحكام المواريث ـ بيان أصحابها

هذه الآيات والآية التي هي آخر السورة من آيات المواريث المتضمنة لها. فإنها ـ مع حديث عبد الله بن عباس ، الثابت في صحيح البخاري «ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما بقي ، فلأولى رجل ذكر» ـ مشتملات على جل أحكام الفرائض ، بل على جميعها ، كما سترى ذلك ، إلا ميراث الجدات ، فإنه غير مذكور في ذلك. لكنه قد ثبت في السنن ، عن المغيرة بن شعبة ، ومحمد بن مسلمة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعطى الجدة السدس ، مع إجماع العلماء على ذلك.

بيان ميراث الأولاد

[١١] (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) أي : أولادكم ـ يا معشر الوالدين ـ عندكم ودائع قد وصاكم الله عليهم ، لتقوموا بمصالحهم الدينية والدنيوية. فتعلمونهم وتؤدبونهم ، وتكفونهم عن المفاسد ، وتأمرونهم بطاعة الله ، وملازمة التقوى على الدوام كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) فالأولاد ـ عند والديهم ـ موصى بهم. فإما أن يقوموا بتلك الوصية ، فلهم جزيل الثواب. وإما أن يضيعوها ، فيستحقوا بذلك الوعيد والعقاب. وهذا مما يدل على أن الله تعالى أرحم بعباده من الوالدين ، حيث أوصى الوالدين ـ مع كمال شفقتهما ، عليهم. ثم ذكر كيفية إرثهم فقال : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) أي : الأولاد للصلب ، والأولاد للابن ، للذكر مثل حظ الأنثيين ، إن لم يكن معهم صاحب فرض ، أو ما أبقت الفروض ، يقتسمونه كذلك. وقد أجمع العلماء على ذلك ، وأنه ـ مع وجود أولاد الصلب ـ فالميراث لهم. وليس لأولاد الابن شيء ، حيث كان أولاد الصلب ، ذكورا وإناثا. هذا مع اجتماع الذكور والإناث. وهنا حالتان : انفراد الذكور ، وسيأتي حكمها. وانفراد الإناث ، وقد ذكره بقوله :

أحكام البنات في الميراث

(فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) أي : بنات صلب ، أو بنات ابن ، ثلاثا فأكثر (فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً) أي : بنتا ، أو بنت ابن (فَلَهَا النِّصْفُ) وهذا إجماع. بقي أن يقال : من أين يستفاد أن للابنتين الثنتين ، الثلثين بعد الإجماع على ذلك؟ فالجواب أنه يستفاد من قوله : (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ). فمفهوم ذلك ، أنه إن زادت على الواحدة ، انتقل الفرض عن النصف ، ولا ثم بعده إلا الثلثان. وأيضا ، فقوله : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) إذا خلّف ابنا وبنتا ، فإن الابن ، له الثلثان ، وقد أخبر الله ، أنه مثل حظ الأنثيين. فدل ذلك ، على أن للبنتين الثلثين. وأيضا فإن البنت إذا أخذت الثلث مع أخيها ـ وهو أزيد ضررا عليها من أختها ـ فأخذها له ـ مع أختها ـ من باب أولى وأحرى. وأيضا فإن قوله تعالى في الأختين : (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ) نص في الأختين الثلثين. فإذا كان الأختان الثنتان ـ مع بعدهما ـ يأخذان الثلثين ، فالابنتان ـ مع قربهما ـ من باب أولى وأحرى. وقد أعطى

١٧٣

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ابنتي سعد ، الثلثين كما في الصحيح. بقي أن يقال : فما الفائدة في قوله : (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ)؟ قيل : الفائدة في ذلك ـ والله أعلم ـ أنه ليعلم أن الفرض الذي هو الثلثان ، لا يزيد بزيادتهن على الثنتين ، بل من الثنتين فصاعدا. ودلت الآية الكريمة ، أنه إذا وجد بنت صلب واحدة ، وبنت ابن أو بنات ابن ، فإن لبنت الصلب ، النصف ، ويبقى من الثلثين اللذين فرضهما الله للبنات ، أو بنات الابن ، السدس ، فيعطى بنت الابن ، أو بنات الابن ، ولهذا يسمى هذا السدس ، تكملة الثلثين. ومثل ذلك ، بنت الابن ، مع بنات الابن ، اللاتي أنزل منها. وتدل الآية ، أنه متى استغرق البنات أو بنات الابن الثلثين ، أنه يسقط من دونهن ، من بنات الابن ، لأن الله لم يفرض لهن ، إلا الثلثين ، وقد تم. فلو لم يسقطن ، لزم من ذلك أن يفرض لهن ، أزيد من الثلثين ، وهو خلاف النص. وكل هذه الأحكام ، مجمع عليها بين العلماء ، ولله الحمد. ودل قوله : (مِمَّا تَرَكَ) أن الوارثين ، يرثون كل ما خلف الميت ، من عقار ، وأثاث ، وذهب ، وفضة ، وغير ذلك ، حتى الدية ، التي لم تجب إلا بعد موته ، وحتى الديون التي في الذمة.

أحكام الأبوين في الميراث

ثم ذكر ميراث الأبوين فقال : (وَلِأَبَوَيْهِ) أي : أبوه وأمه (لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ) أي : ولد صلب ، أو ولد ابن ، ذكرا كان أو أنثى ، واحدا أو متعددا. فأما الأم ، فلا تزيد على السدس مع أحد من الأولاد.

أحكام الأب في الميراث

وأما الأب ، فمع الذكور منهم ، لا يستحق أزيد من السدس. فإن كان الولد أنثى أو إناثا ، ولم يبق بعد الفرض شيء ، كأبوين وابنتين ، لم يبق له تعصيب. وإن بقي بعد فرض البنت أو البنات شيء ، أخذ الأب السدس فرضا ، والباقي تعصيبا. لأننا ألحقنا الفروض بأهلها ، فما بقي ، فلأولى رجل ذكر ، وهو أولى من الأخ والعم ، وغيرهما. (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) أي : والباقي للأب ، لأنه أضاف المال إلى الأب والأم ، إضافة واحدة ، ثم قدّر نصيب الأم ، فدل ذلك ، على أن الباقي للأب. وعلم من ذلك ، أن الأب ـ مع عدم الأولاد ـ لا فرض له ، بل يرث ـ تعصيبا ـ المال كله ، أو ما أبقت الفروض. ولكن لو وجد مع الأبوين ، أحد الزوجين ـ ويعبر عنهما بالعمريتين ـ فإن الزوج أو الزوجة ، يأخذ فرضه ، ثم تأخذ الأم ثلث الباقي والأب الباقي. وقد دلّ على ذلك قوله : (وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) ثلث ما ورثه الأبوان. وهو في هاتين الصورتين ، إما سدس في زوج وأم وأب ، وإما ربع في زوجة ، وأم وأب. فلم تدل الآية على إرث الأم ، ثلث المال كاملا ، مع عدم الأولاد. حتى يقال : إن هاتين الصورتين ، قد استثنيتا من هذا. ويوضح ذلك ، أن الذي يأخذه الزوج أو الزوجة ، بمنزلة ما يأخذه الغرماء. فيكون من رأس المال ، والباقي ، بين الأبوين. ولأنا لو أعطينا الأم ثلث المال ، لزم زيادتها على الأب ، في مسألة الزوج ، أو أخذ الأب في مسألة الزوجة ، زيادة عنها نصف السدس ، وهذا لا نظير له. فإن المعهود مساواتها للأب ، أو أخذه ضعف ما تأخذه الأم. (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) أشقاء ، أو لأب ، أو لأم ، ذكورا أو إناثا ، وارثين ، أو محجوبين بالأب ، أو الجد. لكن قد يقال : ليس ظاهر قوله : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ) شاملا لغير الوارثين ، بدليل عدم تناولها للمحجوب بالوصف. فعلى هذا ، لا يحجبها عن الثلث من الإخوة ، إلا الإخوة الوارثون. ويؤيده أن الحكمة في حجبهم لها عن الثلث ، لأجل أن يتوفر لهم شيء من المال ، وهو معدوم. والله أعلم. ولكن يشرط كونهم اثنين فأكثر. ويشكل على ذلك ، إتيان لفظ «الإخوة» بلفظ الجمع. وأجيب عن ذلك ، بأن المقصود ، مجرد التعدد لا الجمع ، ويصدق ذلك باثنين. وقد يطلق الجمع ، ويراد به الاثنان كما في قوله تعالى عن داود وسليمان : (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) وقال في الإخوة للأم : (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ

١٧٤

مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ). فأطلق لفظ الجمع ، والمراد به ، اثنان فأكثر ، بالإجماع. فعلى هذا ، لو خلف أما وأبا وإخوة ، كان للأم السدس ، والباقي للأب ، فحجبوها عن الثلث ، مع حجب الأب إياهم ، إلا على الاحتمال الآخر ، فإن للأم الثلث ، والباقي للأب. ثم قال تعالى : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) أي : هذه الفروض والأنصباء ، والمواريث ، إنما ترد وتستحق ، بعد نزع الديون التي على الميت لله ، أو للآدميين ، وبعد الوصايا ، التي قد أوصى الميت بها قبل (١) موته ، فالباقي عن ذلك ، هو التركة ، التي يستحقها الورثة. وقدم الوصية ـ مع أنها مؤخرة عن الدين ـ للاهتمام بشأنها ، لكون إخراجها ، شاقا على الورثة ، وإلا ، فالديون مقدمة عليها ، وتكون من رأس المال. وأما الوصية فإنها تصح من الثلث فأقل ، للأجنبي الذي هو غير وارث. وأما غير ذلك ، فلا ينفذ ، إلا بإجازة الورثة ، قال تعالى : (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً). فلو رد تقدير الإرث إلى عقولكم واختياركم ، لحصل من الضرر ، ما الله به عليم ، لنقص العقول ، وعدم معرفتها بما هو اللائق والأحسن ، في كل زمان ومكان. فلا يدرون أي الأولاد ، أو الوالدين ، أنفع لهم وأقرب ، لحصول مقاصدهم الدينية والدنيوية. (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) أي : فرضها الله الذي قد أحاط بكل شيء علما ، وأحكم ما شرعه ، وقدّر ما قدّره ، على أحسن تقدير ، لا تستطيع العقول أن تقترح مثل أحكامه الصالحة الموافقة ، لكل زمان ، ومكان ، وحال.

[حكم الزوج والزوجات في الميراث] (٢)

[١٢] ثم قال تعالى : (وَلَكُمْ) أيها الأزواج (نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ). ويدخل في مسمى الولد ، المشروط وجوده أو عدمه ، ولد الصلب أو ولد الابن الذكر والأنثى ، الواحد والمتعدد ، الذي من الزوج ، أو من غيره ، ويخرج عنه ، ولد البنات إجماعا.

[بيان معنى «الكلالة» ونصيبها في الميراث] (٣)

ثم قال تعالى : (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) أي : من أم ، كما هي في بعض القراءات. وأجمع العلماء على أن المراد بالإخوة ـ هنا ـ الإخوة للأم. فإذا كان يورث كلالة أي : ليس للميت والد ولا ولد ، أي : لا أب ، ولا جد ، ولا ابن ، ولا ابن ابن ، ولا بنت ، ولا بنت ابن وإن نزلوا. وهذه هي : الكلالة ، كما فسرها بذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، وقد حصل على ذلك الاتفاق ، ولله الحمد. (فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا) أي : من الأخ والأخت (السُّدُسُ). (فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ) أي : من واحد (فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ) أي : لا يزيدون على الثلث ، ولو زادوا على اثنين. ودل قوله : (فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ) أن ذكرهم وأنثاهم سواء ، لأن لفظ «الشريك» يقتضي التسوية. ودل لفظ : (الْكَلالَةِ) على أن الفروع وإن نزلوا ، والأصول الذكور وإن علوا ، يسقطون أولاد الأم ، لأن الله لم يورثهم إلا في الكلالة ، فلو لم يكن يورث كلالة ، لم يرثوا منه شيئا ، اتفاقا. ودل

__________________

(١) في المطبوعة : (بعد).

(٢) سقط هذا العنوان من المطبوعة.

(٣) سقط من المطبوعة التي بين أيدينا ، وهو موافق للسياق.

١٧٥

قوله : (فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ) أن الإخوة الأشقاء ، يسقطون في المسألة المسماة بالحمارية. وهي : زوج ، وأم ، وإخوة لأم ، وإخوة أشقاء. فللزوج النصف. وللأم السدس. وللإخوة للأم الثلث. ويسقط الأشقاء ، لأن الله أضاف الثلث للإخوة من الأم. فلو شاركهم الأشقاء ، لكان جمعا لما فرّق الله حكمه. وأيضا ، فإن الإخوة للأم ، أصحاب فروض ، والأشقاء عصبات. وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما بقي ، فلأولى رجل ذكر». وأهل الفروض هم : الذين قدّر الله أنصباءهم. ففي هذه المسألة ، لا يبقى بعدهم شيء ، فيسقط الأشقاء ، وهذا هو الصواب في ذلك. وأما ميراث الإخوة والأخوات الأشقاء ، أو لأب ، فمذكور في قوله : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) الآية. فالأخت الواحدة ، شقيقة ، أو لأب ، لها النصف. والثنتان ، لهما الثلثان. والشقيقة الواحدة مع الأخت للأب ، أو الأخوات ، تأخذ النصف والباقي من الثلثين ، للأخت ، أو الأخوات لأب ، وهو السدس ، تكملة الثلثين. وإذا استغرقت الشقيقات الثلثين ، تسقط الأخوات للأب ، كما تقدم في البنات ، وبنات الابن. وإن كان الإخوة ، رجالا ونساء ، فللذكر مثل حظ الأنثيين.

حكم القاتل واختلاف دين الميت وأقربائه

فإن قيل : فهل يستفاد حكم ميراث القاتل ، والرقيق ، والمخالف في الدين ، والمبعض والخنثى ، والجد مع الإخوة لغير أم ، والعول ، والرد وذوي الأرحام ، وبقية العصبة ، والأخوات لغير أم ، مع البنات ، أو بنات الابن ، من القرآن أم لا؟ قيل : نعم ، فيه تنبيهات وإشارات دقيقة ، يعسر فهمها على غير المتأمل ، تدل على جميع المذكورات. فأما (القاتل والمخالف في الدين) فيعرف أنهما غير وارثين من بيان الحكمة الإلهية ، في توزيع المال على الورثة ، بحسب قربهم ، ونفعهم الديني والدنيوي. وقد أشار تعالى إلى هذه الحكمة بقوله : (لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً). وقد علم أن القاتل ، قد سعى لمورثه بأعظم الضرر ، فلا ينتهض ما فيه ، من موجب الإرث ، أن يقاوم ضرر القتل ، الذي هو ضد النفع الذي رتب عليه الإرث. فعلم من ذلك ، أن القتل أكبر مانع يمنع من الميراث ، ويقطع الرحم الذي قال الله فيه : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ). مع أنه قد استقرت القاعدة الشرعية ، أن «من استعجل شيئا قبل أوانه ، عوقب بحرمانه». وبهذا نحوه ، يعرف أن المخالف لدين الموروث لا إرث له. وذلك أنه قد تعارض الموجب ، الذي هو : اتصال النسب ، الموجب للإرث ، والمانع الذي هو المخالفة في الدين ، الموجبة للمباينة من كل وجه. فقوي المانع ، ومنع موجب الإرث ، الذي هو النسب. فلم يعمل الموجب لقيام المانع. يوضح ذلك أن الله تعالى قد جعل حقوق المسلمين ، أولى من حقوق الأقارب الكفار الدنيوية. فإذا مات المسلم ، انتقل ماله إلى من هو أولى وأحق به. فيكون قوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) إذا اتفقت أديانهم. وأما مع تباينهم ، فالأخوة الدينية ، مقدمة على الأخوة النسبية المجردة. قال ابن القيم في «جلاء الأفهام» : «وتأمل هذا المعنى من آية المواريث ، وتعليقه سبحانه التوارث فيها بلفظ الزوجة ، دون المرأة كما في قوله تعالى : (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ). ففيه إيذان بأن التوارث ، إنما وقع بالزوجية ، المقتضية للتشاكل والتناسب. والمؤمن والكافر ، لا تشاكل بينهما ، ولا تناسب ، فلا يقع بينهما التوارث. وأسرار مفردات القرآن ومركباته ، فوق عقول العاقلين» انتهى.

حكم الرقيق في الميراث

وأما (الرقيق) ، فإنه لا يرث ولا يورّث. أما كونه لا يورث فواضح ، لأنه ليس له مال يورث عنه ، بل كل ما معه ، فهو لسيده. وأما كونه لا يرث ، فلأنه لا يملك ، فإنه لو ملك ، لكان لسيده ، وهو أجنبي من الميت ، فيكون مثل قوله تعالى : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ). (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ). (فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ)

١٧٦

ونحوها ، لمن يتأتى منه التملك. وأما الرقيق ، فلا يتأتى منه ذلك ، فعلم أنه لا ميراث له. وأما من بعضه حر ، وبعضه رقيق ، فإنه تتبعض أحكامه. فما فيه من الحرية ، يستحق بها ما رتبه الله في المواريث ، لكون ما فيه من الحرية ، قابلا للتملك ، وما فيه من الرق ، فليس بقابل لذلك. فإذا يكون المبعض ، يرث ويورث ، ويحجب بقدر ما فيه من الحرية. وإذا كان العبد يكون محمودا ومذموما ، مثابا ومعاقبا ، بقدر ما فيه من موجبات ذلك ، فهذا كذلك.

حكم الخنثى والمشكل في الميراث

وأما (الخنثى) فلا يخلو ، إما أن يكون واضحا ذكوريته أو أنوثيته ، أو مشكلا. فإن كان واضحا ، فالأمر فيه واضح. إن كان ذكرا ، فله حكم الذكور ، ويشمله النص الوارد فيهم. وإن كانت أنثى ، فلها حكم الإناث ، ويشملها النص الوارد فيهن. وإن كان مشكلا ، فإن كان الذكر والأنثى لا يختلف إرثهما ـ كالإخوة للأم ـ فالأمر فيه واضح. وإن كان يختلف إرثه ، بتقدير ذكوريته ، وبتقدير أنوثيته ، ولم يبق لنا طريق إلى العلم بذلك ، لم نعطه أكثر التقديرين ، لاحتمال ظلم من معه من الورثة ، ولم نعطه الأقل ، لاحتمال ظلمنا إياه. فوجب التوسط بين الأمرين ، وسلوك أعدل الطريقين ، قال تعالى : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى). فليس لنا طريق إلى العدل في مثل هذا ، أكثر من هذا الطريق المذكور. (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ).

ميراث الجد

وأما (ميراث الجد) مع الإخوة الأشقاء ، أو لأب ، وهل يرثون معه أم لا؟ فقد دلّ كتاب الله ، على قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، أن الجد يحجب الإخوة ، أشقاء ، أو لأب ، أو لأم ، كما يحجبهم الأب. وبيان ذلك : أن الجد : أب في غير موضع من القرآن كقوله تعالى : (إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) الآية. وقال يوسف عليه‌السلام : (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ). فسمى الله الجد ، وجد الأب ، أبا. فدل ذلك ، على أن الجد ، بمنزلة الأب ، يرث ما يرثه الأب ، ويحجب من يحجبه (أي : عند عدمه). وإذا كان العلماء ، قد أجمعوا على أن الجد ، حكمه حكم الأب عند عدمه في ميراثه مع الأولاد وغيرهم ، من بين الإخوة والأعمام وبينهم ، وسائر أحكام المواريث ـ فينبغي أيضا ، أن يكون حكمه حكمه ، في حجب الإخوة لغير أم. وإذا كان ابن الابن بمنزلة ابن الصلب ، فلم لا يكون الجد بمنزلة الأب؟

وإذا كان جد الأب ، مع ابن الأخ ، قد اتفق العلماء على أنه يحجبه. فلم لا يحجب جد الميت أخاه؟ فليس مع من يورث الإخوة مع الجد ، نص ولا إشارة ، ولا تنبيه ، ولا قياس صحيح.

العول وأحكامه

وأما مسائل (العول) فإنه يستفاد حكمها من القرآن. وذلك أن الله تعالى ، قد فرض ، وقدّر لأهل المواريث أنصباء. وهم بين حالتين : إما أن يحجب بعضهم بعضا ، أو لا. فإن حجب بعضهم بعضا ، فالمحجوب ساقط ، لا يزاحم ، ولا يستحق شيئا وإن لم يحجب بعضهم بعضا ، فلا يخلو. إما أن لا تستغرق الفروض التركة ، أو تستغرقها من غير زيادة ولا نقص أو تزيد الفروض على التركة. ففي الحالتين الأوليين ، كل يأخذ فرضه كاملا. وفي الحالة الأخيرة وهي ـ ما إذا زادت الفروض على التركة ـ فلا يخلوا من حالين : إما أن ننقص بعض الورثة عن فرضه الذي فرضه الله له ، ونكمل للباقين منهم فروضهم ، وهذا ترجيح بغير مرجح ، وليس نقصان أحدهم بأولى من الآخر. فتعينت الحال الثانية ، وهو : أننا نعطي كل واحد منهم نصيبه ، بقدر الإمكان ، ونحاصص بينهم ، كديون الغرماء الزائدة على مال الغريم ولا طريق موصل إلى ذلك إلا بالعول. فعلم من هذا ، أن العول في الفرائض ، قد بينه الله في كتابه.

١٧٧

بيان أحكام الرد على أصحاب الفرائض

وبعكس هذه الطريقة بعينها ، يعلم (الرد). فإن أهل الفروض ـ إذا لم تستغرق فروضهم التركة ، وبقي شيء ليس له مستحق ، من عاصب قريب ولا بعيد ، فإن رده على أحدهم ، ترجيح بغير مرجح ، وإعطاؤه غيرهم ، ممن ليس بقريب للميت ، جنف وميل ، ومعارضة لقوله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ). فتعين أن يرد على أهل الفروض ، بقدر فروضهم.

حكم الرد على الزوجين في الميراث : وما كان الزوجان ، ليسا من القرابة ، لم يستحقا الزيادة على فرضهم المقدر عند القائلين ، بعدم الرد عليهما. وأما على القول الصحيح أن حكم الزوجين ، حكم باقي الورثة في الرد ، فالدليل المذكور ، شامل للجميع ، كما شملهم دليل العول.

حكم ذوي الأرحام في الميراث : وبهذا يعلم أيضا ميراث ذوي الأرحام. فإن الميت إذا لم يخلف صاحب فرض ، ولا عاصبا ، وبقي الأمر دائرا بين كون ماله يكون لبيت المال ، لمنافع الأجانب ، وبين كون ماله يرجع إلى أقربائه المدلين بالورثة ، المجمع عليهم ، تعين الثاني. ويدل على ذلك قوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ). فصرفه لغيرهم ، ترك لمن هو أولى من غيره ، فتعين توريث ذوي الأرحام. وإذا تعين توريثهم ، فقد علم أنه ليس لهم نصيب مقدّر بأعيانهم في كتاب الله. وأن بينهم وبين الميت وسائط ، صاروا ـ بسببها ـ من الأقارب.

فينزلون منزلة من أدلوا به من تلك الوسائط. والله أعلم.

بيان من هم عصبة الميت وحكمهم في الميراث : وأما (ميراث بقية العصبة) كالبنوة والإخوة وبنيهم والأعمام وبنيهم إلخ فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما بقي فلأولى رجل ذكر». وقال تعالى : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ). فإذا الحقنا الفروض بأهلها ، ولم يبق شيء ، لم يستحق العاصب شيئا. وإن بقي شيء ، أخذه أولي العصبة ، بحسب جهاتهم ، ودرجاتهم.

جهات العصبة : فإن جهات العصوبة خمس : البنوة ، ثم الأبوة ، ثم الأخوة وبنوهم ، ثم العمومة وبنوهم ، ثم الولاء ، ويقدّم منهم الأقرب جهة. فإن كانوا في جهة واحدة ، فالأقرب منزلة. فإن كانوا بمنزلة واحدة ، فالأقوى ، وهو الشقيق. فإن تساووا من كل وجه ، اشتركوا. والله أعلم. وأما كون الأخوات لغير أم ، مع البنات ، أو بنات الابن عصبات ، يأخذن ما فضل عن فروضهن ، فلأنه ليس في القرآن ، ما يدل على أن الأخوات يسقطن بالبنات.

فإذا كان الأمر كذلك ، وبقي شيء بعد أخذ البنات فرضهن ، فإنه يعطى للأخوات ، ولا يعدل عنهن إلى عصبة أبعد منهن ، كابن الأخ والعم ، ومن هو أبعد منهم. والله أعلم.

[١٣] أي : تلك التفاصيل التي ذكرها في المواريث ، حدود الله ، التي يجب الوقوف معها ، وعدم مجاوزتها ، ولا القصور عنها. وفي ذلك دليل ، على أن الوصية للوارث منسوخة ، بتقديره تعالى أنصباء الوارثين. ثم قوله تعالى :

(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها) فالوصية للوارث ، بزيادة على حقه ، يدخل في هذا التعدي ، مع قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا وصية لوارث». ثم ذكر طاعة الله ورسوله ، ومعصيتهما ، عموما ، ليدخل في العموم ، لزوم حدوده في الفرائض ، أو ترك ذلك فقال : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) بامتثال أمرهما ، الذي أعظمه ، طاعتهما في التوحيد ، ثم الأوامر على اختلاف درجاتها ، واجتناب نهيهما ، الذي أعظمه الشرك بالله ، ثم المعاصي على اختلاف طبقاتها (يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها). فمن أدى الأوامر ، واجتنب النواهي ، فلا بد له من دخول الجنة ، والنجاة من النار. (وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الذي حصل به النجاة ، من سخطه وعذابه ، والفوز بثوابه ورضوانه ، بالنعيم المقيم ، الذي لا يصفه الواصفون.

[١٤] (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ). إلخ ويدخل في اسم المعصية ، الكفر فما دونه من المعاصي. فلا يكون فيها

١٧٨

شبهة للخوارج ، القائلين بكفر أهل المعاصي. فإن الله تعالى رتب دخول الجنة ، على طاعته ، وطاعة رسوله. ورتب دخول النار ، على معصيته ومعصية رسوله. فمن أطاعه طاعة تامة ، دخل الجنة بلا عذاب. ومن عصى الله ورسوله ، معصية تامة ، يدخل فيها الشرك ، فما دونه ، دخل النار وخلّد فيها. ومن اجتمع فيه معصية وطاعة ، كان فيه من موجب الثواب والعقاب بحسب ما فيه من الطاعة والمعصية. وقد دلت النصوص المتواترة ، على أن الموحدين ، الذين معهم طاعة التوحيد ، غير مخلدين في النار. فما معهم من التوحيد ، مانع لهم من الخلود فيها.

[١٥] أي : النساء (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ) أي : الزنا. فوصفها بالفاحشة ، لشناعتها وقبحها. (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) أي : من رجالكم المؤمنين العدول. (فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ) احبسوهن عن الخروج الموجب للريبة. وأيضا ، فإن الحبس ، من جملة العقوبات. (حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) أي : هذا منتهى الحبس. (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) أي : طريقا غير الحبس في البيوت. فهذه الآية ليست منسوخة ، فإنما هي مغياة إلى ذلك الوقت. فكان الأمر في أول الإسلام كذلك ، حتى جعل الله لهن سبيلا ، وهو رجم المحصن والمحصنة وجلد غير المحصن والمحصنة.

[١٦] (وَ) كذلك (الَّذانِ يَأْتِيانِها) أي : الفاحشة (مِنْكُمْ) من الرجال والنساء (فَآذُوهُما) بالقول والتوبيخ والتعيير ، والضرب الرادع عن هذه الفاحشة. فعلى هذا كان الرجال إذا فعلوا الفاحشة يؤذون ، والنساء يحبسن ويؤذين. فالحبس غايته للموت ، والأذية نهايتها إلى التوبة والإصلاح. ولهذا قال : (فَإِنْ تابا) أي : رجعا عن الذنب الذي فعلاه ، وندما عليه ، وعزما أن لا يعودا (وَأَصْلَحا) العمل الدال على صدق التوبة (فَأَعْرِضُوا عَنْهُما) أي : عن أذاهما (إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً) أي : كثير التوبة على المذنبين الخطائين ، عظيم الرحمة والإحسان ، الذي ـ من إحسانه ـ وفقهم للتوبة ، وقبلها منهم ، وسامحهم على ما صدر منهم. ويؤخذ من هاتين الآيتين ، أن بينة الزنا ، أن تكون أربعة رجال مؤمنين. ومن باب أولى وأحرى ، اشتراط عدالتهم. لأن الله تعالى ، شدد في أمر هذه الفاحشة ، سترا لعباده. حتى إنه ، لا يقبل فيها النساء منفردات ، ولا مع الرجال ، ولا مع دون أربعة. ولا بد من التصريح بالشهادة ، كما دلت على ذلك ، الأحاديث الصحيحة وتومىء إليه هذه الآية لما قال : (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ). لم يكتف بذلك حتى قال : (فَإِنْ شَهِدُوا) أي : لا بد من شهادة صريحة عن أمر يشاهد عيانا ، من غير تعريض ، ولا كناية. ويؤخذ منهما ، أن الأذية بالقول والفعل ، والحبس ، قد شرعه الله ، تعزيرا لجنس المعصية ، الذي يحصل به الزجر.

[١٧] توبة الله على عباده نوعان : توفيق منه للتوبة ، وقبول لها ، بعد وجودها من العبد. فأخبر هنا ـ أن التوبة المستحقة على الله ، حق أحقه على نفسه ، كرما منه وجودا ، لمن عمل السوء أي : المعاصي (بِجَهالَةٍ) أي : جهالة منه لعاقبتها ، وإيجابها لسخط الله وعقابه ، وجهل منه ، لنظر الله ومراقبته له ، وجهل منه ، بما تؤول إليه من نقص الإيمان

١٧٩

أو إعدامه. فكل عاص لله ، فهو جاهل بهذا الاعتبار ، وإن كان عالما بالتحريم. بل العلم بالتحريم ، شرط لكونها معصية ، معاقبا عليها. (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) يحتمل أن يكون المعنى : ثم يتوبون قبل معاينة الموت. فإن الله يقبل توبة العبد ، إذا تاب قبل معاينة الموت والعذاب ، قطعا. وأما بعد حضور الموت ، فلا يقبل من العاصين توبتهم ، ولا من الكفار رجوع ، كما قال تعالى عن فرعون : (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) الآية. وقال تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ).

[١٨] وقال هنا : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) أي : المعاصي فيما دون الكفر. (حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً). وذلك ، أن التوبة في هذه الحال توبة اضطرار ، لا تنفع صاحبها. إنما تنفع توبة الاختيار. ويحتمل أن يكون معنى قوله : (مِنْ قَرِيبٍ) أي : قريب من فعلهم الذنب ، الموجب للتوبة. فيكون المعنى : من بادر إلى الإقلاع من حين صدور الذنب ، وأناب إلى الله ، وندم عليه فإن الله يتوب عليه. بخلاف من استمر على ذنبه ، وأصر على عيوبه ، حتى صارت فيه صفات راسخة ، فإنه يعسر عليه إيجاد التوبة التامة. والغالب أنه لا يوفق للتوبة ، ولا ييسر لأسبابها. كالذي يعمل السوء على علم قائم ويقين ، متهاون بنظر الله إليه ، فإنه يسد على نفسه باب الرحمة. نعم قد يوفق الله عبده المصر على الذنوب ، على عمد ويقين ، للتوبة النافعة ، التي يمحو بها ما سلف من سيئاته ، وما تقدم من جناياته ولكن الرحمة والتوفيق للأول ، أقرب. ولهذا ختم الآية الأولى بقوله : (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً). فمن علمه أنه يعلم صادق التوبة وكاذبها ، فيجازي كلا منهما ، بحسب ما استحق بحكمته. ومن حكمته ، أن يوفق من اقتضت حكمته ورحمته ، توفيقه للتوبة. ويخذل من اقتضت حكمته وعدله ، عدم توفيقه. والله أعلم.

[١٩] كانوا في الجاهلية إذا مات أحدهم عن زوجته ، رأى قريبه ، كأخيه ، وابن عمه ونحوهما ، أنه أحق بزوجته من كل أحد ، وحماها عن غيره ، أحبت أو كرهت. فإن أحبها ، تزوجها على صداق ، يحبه دونها. وإن لم يرضها ، عضلها ، فلا يزوجها إلّا من يختاره هو. وربما امتنع من تزويجها ، حتى تبذل له شيئا من ميراث قريبه ، أو من صداقها. وكان الرجل أيضا ، يعضل زوجته التي يكون يكرهها ليذهب ببعض ما آتاها ، فنهى الله المؤمنين عن جميع هذه الأحوال إلا حالتين : إذا رضيت ، واختارت نكاح قريب زوجها الأول ، كما هو مفهوم قوله : (كَرْهاً). وإذا أتين بفاحشة مبينة ، كالزنا ، والكلام الفاحش ، وأذيتها لزوجها ، فإنه في هذه الحال ، يجوز له أن يعضلها ، عقوبة لها على فعلها ، لتفتدي منه إذا كان عضلا بالعدل. ثم قال : (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) وهذا يشمل المعاشرة القولية والفعلية. فعلى الزوج أن يعاشر زوجته بالمعروف ، من الصحبة الجميلة ، وكف الأذى ، وبذل الإحسان ، وحسن المعاملة ، ويدخل في ذلك النفقة ، والكسوة ونحوهما. فيجب على الزوج لزوجته ، المعروف ، من مثله لمثلها ، في

١٨٠