تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي

تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

المؤلف:

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ١١٣٥

وتقديم الاسم في أول عنوان الكتاب. فمن حزمها وعقلها ، أن جمعت كبار دولتها ، ورجال مملكتها وقالت :

[٣٢] (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي) أي : أخبروني ، ماذا نجيبه به؟ وهل ندخل تحت طاعته ، وننقاد؟ أم ماذا نفعل؟ (ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) أي : ما كنت مستبدة بأمر ، دون رأيكم ومشورتكم.

[٣٣] (قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ) أي : إن رددت عليه قوله ، ولم تدخلي في طاعته ، فإنا أقوياء على القتال. فكأنهم مالوا إلى هذا الرأي ، الذي لو تم ، لكان فيه دمارهم. ولكنهم أيضا لم يستقروا عليه ، بل قالوا : (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ) أي : الرأي ما رأيت ، لعلمهم بعقلها ، وحزمها ، ونصحها لهم (فَانْظُرِي) نظر فكر وتدبر (ما ذا تَأْمُرِينَ). فقالت لهم ـ مقنعة لهم بالعدول عن رأيهم ، ومبينة سوء مغبة القتال ـ (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها) قتلا ، وأسرا ، ونهبا لأموالها ، وتخريبا لديارها. (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً) أي : جعل الرؤساء السادة ، أشراف الناس من الأرذلين ، أي : فهذا رأي غير سديد. وأيضا فلست بمطيعة له ، قبل الاحتيال ، وإرسال من يكشف عن أحواله ويتدبرها. وحينئذ نكون على بصيرة من أمرنا. فقالت : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) (٣٥) منه. هل يستمر على رأيه وقوله؟ أم تخدعه الهدية ، وتتبدل فكرته ، وكيف أحواله وجنوده؟

[٣٦] فأرسلت إليه بهدية ، مع رسل من عقلاء قومها ، وذوي الرأي منهم. (فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ) أي : جاءه الرسل بالهدية (قالَ) منكرا عليهم ومتغيظا على عدم إجابتهم : (أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ) فليست تقع عندي موقعا ، ولا أفرح بها ، قد أغناني الله عنها ، وأكثر عليّ النعم. (بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) لحبكم للدنيا ، وقلة ما بأيديكم ، بالنسبة لما أعطاني الله.

[٣٧] ثم أوصى الرسول من غير كتاب ، لما رأى من عقله ، وأنه سينقل كلامه على وجهه فقال : (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ) أي : بهديتك (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ) أي : لا طاقة لهم (بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ) ، فرجع إليهم ، وأبلغهم ما قال سليمان ، وتجهزوا للمسير إلى سليمان.

[٣٨] وعلم سليمان أنهم لا بد أن يسيروا إليه ، فقال لمن حضره من الجن والإنس : (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) أي : لأجل أن نتصرف فيه ، قبل أن يسلموا ، فتكون أموالهم محترمة.

[٣٩] (قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِ) والعفريت هو : القوي النشيط جدا : (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) ، والظاهر أن سليمان إذ ذاك ، في الشام ، فيكون بينه وبين سبأ ، نحو مسيرة أربعة أشهر ، شهران ذهابا ، وشهران إيابا ، ومع ذلك ، يقول هذا العفريت هو : أنا ألتزم بالمجيء به ، على كبره وثقله وبعده ، قبل أن تقوم من مجلسك ، الذي أنت فيه. والمعتاد من المجالس الطويلة ، أن تكون معظم الضحى ، نحو ثلث يوم ، هذا نهاية المعتاد ، وقد يكون دون ذلك ، أو أكثر. وهذا الملك العظيم ، الذي عند آحاد رعيته ، هذه القوة ، والقدرة.

[٤٠] وأبلغ من ذلك أن (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) قال المفسرون : هو رجل عالم ، صالح ، عند سليمان

٧٢١

يقال له : «آصف بن برخيا» كان يعرف اسم الله الأعظم ، الذي إذا دعا الله به أجاب ، وإذا سأل به أعطي ، (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) بأن يدعو الله بذلك الاسم ، فيحضر حالا ، وأنه دعا الله فحضر. فالله أعلم ، هل هذا هو المراد ، أم أن عنده علما من الكتاب ، يقتدر به على جلب البعيد ، وتحصيل الشديد؟ (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ) حمد الله تعالى على إقداره وملكه ، وتيسير الأمور له ، (قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) أي : ليختبرني بذلك. فلم يغتر عليه‌السلام ، بملكه ، وسلطانه ، وقدرته ، كما هو دأب الملوك الجاهلين. بل علم أن ذلك اختبار من ربه فخاف أن لا يقوم بشكر هذه النعمة. ثم بيّن أن هذا الشكر ، لا ينتفع الله به ، وإنما يرجع نفعه إلى صاحبه ، فقال : (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) غني عن أعماله ، كريم ، كثير الخير ، يعم به الشاكر والكافر ، إلا أن شكر نعمه ، داع للمزيد منها ، وكفرها ، داع لزوالها.

[٤١] ثم (قالَ) لمن عنده (نَكِّرُوا لَها عَرْشَها) أي : غيروه بزيادة ونقص ، ونحن في ذلك (نَنْظُرْ) مختبرين لعقلها (أَتَهْتَدِي) للصواب ، ويكون عندها ذكاء وفطنة تليق بملكها (أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ).

[٤٢] (فَلَمَّا جاءَتْ) قادمة على سليمان ، عرض عليها عرشها ، وكان عهدها به ، قد خلفته في بلدها. و (قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ) أي : أنه استقر عندنا ، أن لك عرشا عظيما ، فهل هو كهذا العرش ، الذي أحضرناه لك؟ (قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) وهذا من ذكائها وفطنتها ، لم تقل «هو» لوجود التغيير فيه والتنكير ، ولم تنف أنه هو ، لأنها عرفته. فأتت بلفظ محتمل للأمرين ، صادق على الحالين. فقال سليمان متعجبا من هدايتها وعقلها ، وشاكرا لله ، أن أعطاه أعظم منها. (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها) أي : الهداية ، والعقل ، والحزم ، من قبل هذه الملكة. (وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) وهي الهداية النافعة الأصلية. ويحتمل أن هذا من قول ملكة سبأ «وأوتينا العلم عن ملك سليمان وسلطانه ، فزيادة اقتداره ، من قبل هذه الحالة ، التي رأينا فيها قدرته ، على إحضار العرش ، من المسافة البعيدة ، فأذعنا له ، وجئنا مسلمين له خاضعين لسلطانه».

[٤٣] قال الله تعالى : (وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ) أي : عن الإسلام وإلا فلها من الذكاء والفطنة ، ما به تعرف الحق من الباطل ، ولكن العقائد الباطلة ، تذهب بصيرة القلب (إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) فاستمرت على دينهم. وانفراد الواحد عن أهل الدين ، والعادة المستمرة بأمر ، يراه بعقله من ضلالهم وخطئهم ، من أندر ما يكون ، فلهذا لا يستغرب بقاؤها على الكفر. ثم إن سليمان أراد ، أن ترى من سلطانه ، ما يبهر العقول ، فأمرها أن تدخل الصرح ، وهو المجلس المرتفع المتسع ، وكان مجلسا من قوارير ، تجري تحته الأنهار.

[٤٤] (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً) ماء ، لأن القوارير شفافة ، يرى الماء الذي تحتها ، كأنه بذاته ، يجري ، ليس دونه شيء. (وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها) لتخوضه ، وهذا أيضا من عقلها ، وأدبها ، فإنها لم تمتنع من الدخول

٧٢٢

للمحل ، الذي أمرت بدخوله ، لعلمها أنها لم تستدع إلا للإكرام وأن ملك سليمان وتنظيمه ، قد بناه على الحكمة ، ولم يكن في قلبها أدنى شك ، من حالة السوء بعد ما رأت ، ما رأت. فلما استعدت للخوض قيل لها (إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ) أي : مجلس (مِنْ قَوارِيرَ) فلا حاجة منك لكشف الساقين. فحينئذ لما وصلت إلى سليمان ، وشاهدت ما شاهدت ، وعلمت نبوته ورسالته ، تابت ورجعت عن كفرها ، و (قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ). فهذا ما قصه الله علينا ، من قصة ملكة سبأ ، وما جرى لها مع سليمان ، وما عدا ذلك من الفروع المولدة ، والقصص الإسرائيلية ، فإنه لا يتعلق بالتفسير لكلام الله ، وهو من الأمور ، التي يتوقف الجزم بها ، على الدليل المعلوم عن المعصوم. والمنقولات في هذا الباب كلها ، أو أكثرها ، ليس كذلك. فالحزم كل الحزم ، الإعراض ، عنها ، وعدم إدخالها في التفاسير والله أعلم.

[٤٥] يخبر تعالى أنه أرسل إلى ثمود ، القبيلة المعروفة ، أخاهم في النسب ، صالحا ، وأنه أمرهم ، أن يعبدوا الله وحده ، ويتركوا الأنداد والأوثان. (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) منهم المؤمن ، ومنهم الكافر ، وهم معظمهم.

[٤٦] (قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) أي : لم تبادرون فعل السيئات ، وتحرصون عليها ، قبل فعل الحسنات ، التي بها تحسن أحوالكم وتصلح أموركم الدينية والدنيوية؟ والحال أنه لا موجب لكم ، إلى الذهاب لفعل السيئات؟ (لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ) بأن تتوبوا من شرككم وعصيانكم ، وتدعوا أن يغفر لكم. (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) فإن رحمة الله قريب من المحسنين ، والتائب من الذنوب ، هو من المحسنين.

[٤٧] (قالُوا) لنبيهم صالح ، مكذبين ومعارضين : (اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) ، زعموا ـ قبحهم الله ـ أنهم لم يروا على وجه صالح خيرا ، وأنه ، هو ومن معه ، من المؤمنين ، صاروا سببا لمنع مطالبهم الدنيوية. فقال لهم صالح : (طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ) أي : ما أصابكم الله ، بذنوبكم ، (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) بالسراء والضراء ، والخير والشر ، لينظر هل تقلعون وتتوبون ، أم لا؟ فهذا دأبهم في تكذيب نبيهم ، وما قابلوه به.

[٤٨] (وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ) التي فيها صالح ، الجامعة لمعظم قومه (تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) أي : وصفهم الإفساد في الأرض ، ولا لهم قصد ، ولا فعل بالإصلاح ، قد استعدوا لمعاداة صالح ، والطعن في دينه ، ودعوة قومهم إلى ذلك ، كما قال تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) (١٥٢).

[٤٩] فلم يزالوا بهذه الحال الشنيعة ، حتى إنهم من عداوتهم (تَقاسَمُوا) فيما بينهم ، كل واحد ، أقسم للآخر (لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ) أي : لنأتينهم ليلا ، هو وأهله ، فلنقتلنهم. (ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ) إذا قام علينا ، وادّعى علينا ، أنا قتلناهم ، ننكر ذلك ، وننفيه ونحلف. (ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) فتواطؤوا على ذلك.

[٥٠] (وَمَكَرُوا مَكْراً) دبروا أمرهم ، على قتل صالح وأهله ، على وجه الخفية ، حتى من قومهم ، خوفا من

٧٢٣

أوليائه. (وَمَكَرْنا مَكْراً) بنصر نبينا صالح ، عليه‌السلام ، وتيسير أمره ، وإهلاك قومه المكذبين (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ).

[٥١] (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ) هل حصل مقصودهم؟ وأدركوا بذلك المكر مطلوبهم ، أم انتقض عليهم الأمر. ولهذا قال : (أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) أهلكناهم ، واستأصلنا شأفتهم. فجاءتهم صيحة عذاب ، فأهلكوا عن آخرهم.

[٥٢] (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً) قد تهدمت جدرانها على سقوفها ، وأوحشت من ساكنيها ، وعطلت من نازليها. (بِما ظَلَمُوا) أي : هذا عاقبة ظلمهم وشركهم بالله ، وبغيهم في الأرض. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) الحقائق ، ويتدبرون وقائع الله ، في أوليائه وأعدائه فيعتبرون بذلك ، ويعلمون أن عاقبة الظلم ، الدمار والهلاك ، وأن عاقبة الإيمان والعدل ، النجاة والفوز. ولهذا قال :

[٥٣] (وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) (٥٣) أي : أنجينا المؤمنين بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، والقدر ، خيره ، وشره ، وكانوا يتقون الشرك بالله ، والمعاصي ، ويعلمون بطاعته ، وطاعة رسله.

[٥٤] أي : واذكر عبدنا ، ورسولنا ، لوطا ، ونبأه الفاضل ، حين قال لقومه ـ داعيا إلى الله ، وناصحا ـ : (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) أي : الفعلة الشنعاء ، التي تستفحشها العقول والفطر ، وتستقبحها الشرائع (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) ذلك ، وتعلمون قبحه ، فعاندتم ، وارتكبتم ذلك ، ظلما منكم ، وجرأة على الله.

[٥٥] ثم فسر تلك الفاحشة فقال : (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ) ، أي : كيف توصلتم إلى هذه الحال ، فصارت شهوتكم للرجال ، وأدبارهم ، محل الغائط والنّجو ، والخبث ، وتركتم ما خلق الله لكم ، من النساء ، من المحال الطيبة ، التي جبلت النفوس على الميل إليها. وأنتم انقلب عليكم الأمر ، فاستحسنتم القبيح ، واستقبحتم الحسن ، (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) متجاوزون لحدود الله ، متجرئون على محارمه.

[٥٦] (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) قبول ولا انزجار ، ولا تذكر ، وادكار. إنما كان جوابهم ، المعارضة ، والمناقضة ، والتوعد لنبيهم الناصح ، ورسولهم الأمين ، بالإجلاء عن وطنه ، والتشريد عن بلده. فما كان جواب قومه (إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ). فكأنه قيل : ما نقمتم منهم ، وما ذنبهم الذي أوجب له الإخراج. فقالوا : (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) أي : يتنزهون عن اللواط ، وأدبار الذكور. فقبحهم الله ، جعلوا أفضل الحسنات ، بمنزلة أقبح السيئات. ولم يكتفوا بمعصيتهم نبيهم ، وفيما وعظهم به ، حتى وصلوا إلى إخراجه والبلاء موكل بالمنطق ، فهم قالوا : (أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ). ومفهوم هذا الكلام «وأنتم متلوثون بالخبث والقذارة ، المقتضي لنزول العقوبة بقريتكم ، ونجاة من خرج منها».

[٥٧] ولهذا قال تعالى : (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) (٥٧) ، وذلك لما جاءته الملائكة في صورة أضياف ، وسمع بهم قومه ، فجاؤوا إليه يريدونهم بالشر ، وأغلق الباب دونهم ، واشتد الأمر عليه. ثم أخبرته

٧٢٤

الملائكة عن جلية الحال ، وأنهم جاءوا لاستنقاذه ، من بين أظهرهم ، وأنهم يريدون إهلاكهم ، وأن موعدهم الصبح. وأمروه أن يسري بأهله ليلا ، إلا امرأته ، فإنه سيصيبها ما أصابهم فخرج بأهله ليلا ، فنجوا ، وصبّحهم العذاب. فقلب الله عليهم ديارهم ، وجعل أعلاها أسفلها ، وأمطر عليهم حجارة من سجيل منضود ، مسومة عند ربك.

[٥٨] ولهذا قال هنا : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) (٥٨) ، أي : بئس المطر مطرهم ، وبئس العذاب عذابهم ، لأنهم أنذروا وخوفوا ، فلم ينزجروا ، ولم يرتدعوا ، فأحل الله بهم ، عقابه الشديد.

[٥٩] أي : قل (الْحَمْدُ لِلَّهِ) الذي يستحق كمال الحمد ، والمدح والثناء ، لكمال أوصافه ، وجميل معروفه ، وهباته ، وعدله ، وحكمته في عقوبته المكذبين وتعذيب الظالمين. وسلّم أيضا على عباده ، الذين تخيرهم واصطفاهم على العالمين ، من الأنبياء والمرسلين ، وصفوة الله رب العالمين. وذلك لرفع ذكرهم ، وتنويها بقدرهم ، وسلامتهم من الشر والأدناس وسلامة ما قالوه في ربهم ، من النقائص والعيوب. (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) وهذا استفهام قد تقرر وعرف. أي : الله الرب العظيم ، كامل الأوصاف ، عظيم الألطاف ، خير أم الأصنام والأوثان ، التي عبدوها معه ، وهي ناقصة من كل وجه ، لا تنفع ولا تضر ، ولا تملك لأنفسها ، ولا لعابديها ، مثقال ذرة من الخير فالله خير مما يشركون.

[٦٠] ثم ذكر تفاصيل ما به يعرف ، ويتبين أنه الإله المعبود ، أن عبادته هي الحق ، وعبادة ما سواه ، هي الباطل فقال : (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) إلى (يَعْدِلُونَ). أي : أمن خلق السموات ، وما فيها ، من الشمس والقمر ، والنجوم ، والملائكة ، والأرض ، وما فيها من جبال ، وبحار ، وأنهار ، وأشجار ، وغير ذلك. (وَأَنْزَلَ لَكُمْ) أي : لأجلكم (مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ) أي : بساتين (ذاتَ بَهْجَةٍ) أي : حسن منظر ، من كثرة أشجارها ، وتنوعها ، وحسن ثمارها. (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) لو لا منّة الله عليكم ، بإنزال المطر. (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) فعل هذه الأفعال ، حتى يعبد معه ويشرك به؟. (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) به غيره ، ويسوون به سواه ، مع علمهم أنه وحده ، خالق العالم العلوي والسفلي ، ومنزل الرزق.

[٦١] أي : هل الأصنام والأوثان ، الناقصة من كل وجه ، التي لا فعل منها ولا رزق ولا نفع ، خير؟ أم الله الذي (جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً) يستقر عليها العباد ويتمكنون من السكنى ، والحرث ، والبناء ، والذهاب ، والإياب. (وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً) أي : جعل في خلال الأرض ، أنهارا ينتفع بها العباد ، في زروعهم وأشجارهم ، وشربهم ، وشرب مواشيهم. (وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ) أي : جبالا ترسيها وتثبتها ، لئلا تميد ، وتكون أوتادا لها ، لئلا تضطرب. (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ) البحر المالح والبحر العذب (حاجِزاً) يمنع من اختلاطهما ، فتفوت المنفعة المقصودة من كل منهما ، بل جعل بينهما حاجزا من الأرض. جعل مجرى الأنهار في الأرض مبعدة عن البحار ، فتحصل منها مقاصدها ومصالحها. (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) فعل ذلك ، حتى يعدل به الله ويشرك به معه. (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) فيشركون بالله ، تقليدا لرؤسائهم وإلا فلوا علموا حق العلم ، لم يشركوا به شيئا.

[٦٢] أي : هل يجيب المضطرب ، الذي أقلقته الكروب ، وتعسر عليه المطلوب ، واضطر للخلاص ، مما هو فيه ، إلا الله وحده؟. ومن يكشف السوء ، أي : البلاء ، والشر ، والنقمة ، إلا الله وحده؟ ومن يجعلكم خلفاء الأرض ، يمكنكم منها ، ويمد لكم بالرزق ، ويوصل إليكم نعمه ، وتكونون خلفاء من قبلكم كما أنه سيميتكم ، ويأتي بقوم بعدكم ، أإله مع الله ، يفعل هذه الأفعال؟ لا أحد يفعل مع الله شيئا من ذلك ، حتى بإقراركم أيها المشركون ، ولهذا كانوا إذا مسهم الضر ، دعوا الله مخلصين له الدين لعلمهم أنه وحده ، المقتدر على دفعه وإزالته. (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) أي : قليل تذكركم وتدبركم للأمور ، التي إذا تذكرتموها ، ادكرتم ، ورجعتم إلى الهدى. ولكن الغفلة والإعراض ،

٧٢٥

شامل لكم ، فلذلك ما ارعويتم ، ولا اهتديتم.

[٦٣] أي : من هو الذي يهديكم ، حين تكونون في ظلمات البر والبحر ، حيث لا دليل ، ولا معلم يرى ، ولا وسيلة إلى النجاة إلا هدايته لكم ، وتيسيره الطريق ، وجعل ما جعل لكم من الأسباب ، التي تهتدون بها. (وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي : بين يدي المطر ، فيرسلها ، فتثير السحاب ، ثم تؤلفه ، ثم تجمعه ، ثم تلقحه ، ثم تدره ، فيستبشر بذلك العباد ، قبل نزول المطر. (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) فعل ذلك؟ أم هو وحده ، الذي انفرد به؟ فلم أشركتم معه غيره ، وعبدتم سواه؟ (تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) تعاظم ، وتنزه وتقدس عن شركهم ، وتسويتهم به غيره.

[٦٤] أي : من هو الذي يبدأ الخلق ، وينشىء المخلوقات ، ويبتدي خلقها ، ثم يعيد الخلق يوم البعث والنشور؟ ومن يرزقكم من السماء والأرض ، بالمطر والنبات؟ (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) يفعل ذلك ، ويقدر عليه؟ (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أي : حجتكم ودليلكم على ما قلتم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) وإلا ، فبتقدير أنكم تقولون : إن الأصنام لها مشاركة له ، في شيء من ذلك ، فذلك مجرد دعوى ، صدقتموها بلا برهان ، وإلا ، فاعرفوا أنكم مبطلون ، لا حجة لكم. فارجعوا إلى الأدلة اليقينية والبراهين القطعية الدالة على أن الله ، هو المتفرد بجميع التصرفات وأنه المستحق أن يصرف له جميع أنواع العبادات.

[٦٥] يخبر تعالى أنه المنفرد بعلم غيب السموات والأرض ، كقوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٥٩) وكقوله : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) إلى آخر السورة. فهذه الغيوب ونحوها ، اختص الله بعلمها ، فلم يعلمها ملك مقرب ، ولا نبي مرسل. وإذا كان هو المنفرد بعلم ذلك ، المحيط علمه بالسرائر ، والبواطن ، والخفايا ، فهو الذي لا تنبغي العبادة إلا له ، ثم أخبر تعالى عن ضعف علم المكذبين بالآخرة ، منتقلا من شيء إلى ما هو أبلغ منه فقال : (وَما يَشْعُرُونَ) أي : وما يدرون (أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) أي : متى البعث والنشور ، والقيام من القبور ، أي : فلذلك لم يستعدوا.

[٦٦] (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) أي : بل ضعف ، ولم يكن يقينا ، ولا علما وأصلا إلى القلب ، وهذا أقل ، وأدنى درجة للعلم ، ضعفه ووهاؤه ، بل ليس عندهم علم قوي ، ولا ضعيف ، وإنما (هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها) أي : من الآخرة ، والشك زال به العلم ، لأن العلم بجميع مراتبه ، لا يجامع الشك. (بَلْ هُمْ مِنْها) أي : من الآخرة (عَمُونَ) قد عميت عنها بصائرهم. ولم يكن في قلوبهم علم من وقوعها ، ولا احتمال ، بل أنكروها واستبعدوها.

[٦٧] ولهذا قال : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) (٦٧) أي : هذا بعيد ، غير ممكن ، قاسوا قدرة كامل القدرة ، بقدرتهم الضعيفة.

[٦٨] (لَقَدْ وُعِدْنا هذا) أي : البعث (نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ) أي : فلم يجئنا ، ولا رأينا فيه شيئا. (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي : قصصهم وأخبارهم ، التي تقطع بها الأوقات ، وليس لها أصل ، ولا صدق فيها. فانتقل في

٧٢٦

الإخبار عن أحوال المكذبين بالإخبار كأنهم لا يدرون متى وقت الآخرة ، ثم الإخبار بضعف علمهم فيها ، ثم الإخبار بأنه شك ، ثم الإخبار بأنهم عمي ، ثم الإخبار بإنكارهم لذلك ، واستبعادهم وقوعه. أي : وبسبب هذه الأحوال ترحّل خوف الآخرة من قلوبهم ، فأقدموا على معاصي الله ، وسهل عليهم تكذيب الحق ، والتصديق بالباطل ، واستحلوا الشهوات على القيام بالعبادات ، فخسروا دنياهم وأخراهم.

[٦٩] نبههم على صدق ما أخبرت به الرسل فقال : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) (٦٩) فلا تجدون مجرما قد استمر على إجرامه. إلا وعاقبته شرّ عاقبة ، وقد أحل الله به من الشر والعقوبة ، ما يليق بحاله.

[٧٠] أي : لا تحزن يا محمد ، على هؤلاء المكذبين ، وعدم إيمانهم. فإنك لو علمت ما فيهم من الشر ، وأنهم لا يصلحون للخير ، لم تأس ولم تحزن ، ولا يضق صدرك ، ولا تقلق نفسك بمكرهم ، فإن مكرهم ستعود عاقبته عليهم. (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ). ويقول المكذبون بالمعاد ، وبالحق الذي جاء به الرسول ، مستعجلين للعذاب :

[٧١] (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) وهذا من سفاهة رأيهم وجهلهم ، فإن وقوعه ووقته ، قد أجله الله بأجله ، وقدره بقدره ، فلا يدل عدم استعجاله ، على بعض مطلوبهم.

[٧٢] ولكن ـ مع هذا ـ قال تعالى ، محذرا لهم وقوع ما يستعجلون : (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ) أي : قرب منكم ، وأوشك أن يقع بكم (بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) من العذاب.

[٧٣] ينبه عباده ، على سعة جوده ، وكثرة أفضاله ، ويحثهم على شكرها ، ومع هذا فأكثر الناس قد أعرضوا عن الشكر ، واشتغلوا بالنعم عن المنعم.

[٧٤] (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُ) أي : تنطوي عليه (صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) ، فليحذروا من عالم السرائر والظواهر ، وليراقبوه.

[٧٥] (وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي : خفية ، وسر من أسرار العالم ، العلوي والسفلي. (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) قد أحاط ذلك الكتاب ، بجميع ما كان ويكون إلى أن تقوم الساعة. فكل حادث جليّ أو خفيّ إلا وهو مطابق ، لما كتب في اللوح المحفوظ.

[٧٦] وهذا خبر عن هيمنة القرآن ، على الكتب السابقة ، وتفصيله ، وتوضيحه : لما كان فيها قد وقع فيه اشتباه واختلاف عند بني إسرائيل ، قصّه هذا القرآن قصا ، زال به الإشكال واستبان به الصواب من المسائل المختلف فيها. وإذا كان بهذه المثابة ، من الجلالة والوضوح ، وإزالة كل خلاف ، وفصل كل مشكل ، كان أعظم نعم الله على العباد ، ولكن ما كل أحد ، يقابل النعمة بالشكر. ولهذا بيّن أن نفعه ، ونوره ، وهداه ، مختص بالمؤمنين فقال :

[٧٧] (وَإِنَّهُ لَهُدىً) من الضلالة والغيّ والشّبه (وَرَحْمَةٌ) تثلج له صدورهم ، وتستقيم به أمورهم الدينية والدنيوية (لِلْمُؤْمِنِينَ) به المصدقين له ، المتلقين له بالقبول ، المقبلين على تدبره ، المتفكرين في معانيه. فهؤلاء ، تحصل

٧٢٧

لهم به ، الهداية إلى الصراط المستقيم ، والرحمة المتضمنة للسعادة ، والفوز والفلاح.

[٧٨] أي : إن الله تعالى سيفصل بين المختصمين ، وسيحكم بين المختلفين ، بحكمه العدل ، وقضائه القسط. فالأمور وإن حصل فيها اشتباه في الدنيا بين المختلفين ، لخفاء الدليل ، ولبعض المقاصد ، فإنه سيبين فيها الحق المطابق للواقع ، حين يحكم الله فيها. (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي قهر الخلائق ، فأذعنوا له. (الْعَلِيمُ) بجميع الأشياء (الْعَلِيمُ) بأقوال المختلفين ، وعن ما ذا صدت ، وعن غاياتها ، ومقاصدها ، وسيجازي كلا بما علمه فيه.

[٧٩] أي : اعتمد على ربك ، في جلب المصالح ، ودفع المضار ، وفي تبليغ الرسالة ، وإقامة الدين ، وجهاد الأعداء. (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) الواضح ، والذي على الحقّ ، يدعو إليه ، ويقوم بنصرته ، أحقّ من غيره بالتوكّل ، فإنه يسعى إلى أمر مجزوم به ، معلوم صدقه ، لا شكّ فيه ، ولا مرية. وأيضا ، فهو حقّ ، في غاية البيان ، لا خفاء به ، ولا اشتباه. وإذا قمت بما حملت ، وتوكلت على الله في ذلك ، فلا يضرك ضلال من ضل ، وليس عليك هداهم ، فلهذا قال :

[٨٠] (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ) أي : حين تدعوهم وتناديهم ، وخصوصا (إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) فإنه يكون أبلغ في عدم إسماعهم.

[٨١] (وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) كما قال تعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ). (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) أي : هؤلاء الّذين ينقادون لك ، هم الّذين يؤمنون بآيات الله ، وينقادون لها بأعمالهم ، واستسلامهم كما قال تعالى : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) (٣٦).

[٨٢] أي : إذا وقع على الناس ، القول الذي حتّمه الله ، وفرض وقته. (أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً) خارجة (مِنَ الْأَرْضِ) أو دابة من دواب الأرض ، ليست من السماء. وهذه الدابة (تُكَلِّمُهُمْ) أي : تكلم العباد أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ، أي : لأجل أن الناس ، ضعف علمهم ويقينهم بآيات الله. فإظهار الله هذه الدابة ، من آيات الله العجيبة ، ليبين للناس ، ما كانوا فيه يمترون. وهذا الدابة ، هي الدابّة المشهورة ، الّتي تخرج في آخر الزمان ، وتكون من أشراط الساعة ، كما تكاثرت بذلك الأحاديث ، لم يذكر الله ورسوله ، كيفية هذه الدابة. وإنّما ذكر أثرها والمقصود منها وأنها من آيات الله ، تكلم الناس كلاما خارقا للعادة ، حين يقع القول على الناس ، وحين يمترون بآيات الله ، فتكون حجة وبرهانا للمؤمنين ، وحجة على المعاندين.

[٨٣] يخبر تعالى عن حالة المكذبين في موقف القيامة ، وأن الله يجمعهم ، ويحشر من كلّ أمة من الأمم فوجا وطائفة (مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ) ، يجمع أولهم على آخرهم ، وآخرهم على أولهم ، ليعمهم السؤال والتوبيخ واللوم.

[٨٤] (حَتَّى إِذا جاؤُ) وحضروا ، قال لهم ، موبخا ومقرعا : (أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها) العلم ، أي : الواجب عليكم التوقف ، حتى ينكشف لكم الحقّ ، وأن لا تتكلموا إلا بعلم. فكيف كذبتم بأمر لم تحيطوا به علما؟ (أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ، أي : يسألهم عن علمهم ، وعن عملهم ، فيجد علمهم ، تكذيبا بالحق ، وعملهم لغير

٧٢٨

الله ، أو غير سنة رسولهم.

[٨٥] (وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا) ، أي : حقت عليهم كلمة العذاب بسبب ظلمهم ، الذي استمروا عليه ، وتوجهت عليهم الحجة. (فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) ، لأنه لا حجة لهم.

[٨٦] أي : ألم يشاهدوا الآية العظيمة ، والنعمة الجسيمة ، وهو تسخير الله لهم الليل والنهار. هذا بظلمته ، ليسكنوا فيه ويستريحوا من التعب ، ويستعدوا للعمل ، وهذا بضيائه ، لينتشروا فيه في معاشهم وتصرفاتهم. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) بكمال وحدانية الله وسبوغ نعمته.

[٨٧] يخوف الله عباده ، ما أمامهم من يوم القيامة ، وما فيه من المحن والكروب ، ومزعجات القلوب ، فقال : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ) بسبب النفخ فيه (مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) أي : انزعجوا وارتاعوا ، وماج بعضهم ببعض ، خوفا مما هو مقدمة له. (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) ممن أكرمه الله ، وثبته ، وحفظه من الفزع ، (وَكُلٌ) من الخلق عند النفخ في الصور (أَتَوْهُ داخِرِينَ) صاغرين ذليلين. كما قال تعالى : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) (٩٣). ففي ذلك اليوم ، يتساوي الرؤساء والمرءوسون ، في الذل والخضوع ، لمالك الملك.

[٨٨] ومن هوله أنك (تَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً) لا تفقد شيئا منها ، وتظنها باقية على الحال المعهودة ، وهي قد بلغت منها الشدائد والأهوال كلّ مبلغ ، وقد تفتّتت ، ثمّ تضمحل ، وتكون هباء منبثا. ولهذا قال : (وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) من خفتها ، وشدة ذلك الخوف وذلك (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) فيجازيكم بأعمالكم.

[٨٩] ثمّ بين كيفية جزائه فقال : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) يعم جنس الحسنات ، قولية ، أو فعلية ، أو قلبية (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) هذا أقل التفضيل. (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) أي : من الأمر الذي فزع الخلق لأجله. آمنون ، وإن كانوا يفزعون معهم.

[٩٠] (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) اسم جنس ، يشمل كلّ سيئة (فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) ، أي : ألقوا في النار على وجوههم ، ويقال لهم : (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

[٩١] أي : قل لهم يا محمد (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ) أي : مكة المكرمة (الَّذِي حَرَّمَها) وأنعم على أهلها ، فيجب أن يقابلوا ذلك بالشكر والقبول. (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) من العلويات والسفليات ، أتى به ، لئلا يتوهم اختصاص ربوبيته بالبيت وحده. (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) ، أي : أبادر إلى الإسلام. وقد فعل صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه أول هذه الأمة إسلاما ، وأعظمها استسلاما.

[٩٢] (وَ) أمرت أيضا (أَنْ أَتْلُوَا) عليكم (الْقُرْآنَ) لتهتدوا به ، وتقتدوا وتعلموا ألفاظه ومعانيه ، فهذا الذي عليّ ، وقد أديته. (فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) نفعه يعود عليه ، وثمرته عائدة إليه (وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) ، وليس بيدي من الهداية شيء.

٧٢٩

[٩٣] (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) الذي له الحمد في الأولى والآخرة ، ومن جميع الخلق. خصوصا أهل الاختصاص والصفوة من عباده ، فإن الذي وقع ، والذي ينبغي ، أن يقع منهم ، من الحمد والثناء على ربهم ، أعظم مما يقع من غيرهم لرفعة درجاتهم ، وكمال قربهم منه ، وكثرة خيراته عليهم. (سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها) معرفة ، تدلكم على الحقّ والباطل. فلا بد أن يريكم من آياته ما تستنيرون به في الظلمات. (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ). (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) بل قد علم ما أنتم عليه من الأعمال والأحوال ، وعلم مقدار جزاء تلك الأعمال ، وسيحكم بينكم حكما ، تحمدونه عليه ، ولا يكون لكم حجة بوجه من الوجوه عليه.

تم تفسير سورة النمل بفضل الله وإعانته وتيسيره. ونسأله تعالى أن لا تزال ألطافه ومعونته ، مستمرة علينا ، واصلة منه إلينا ، فهو أكرم الأكرمين ، وخير الراحمين ، وموصل المنقطعين ، ومجيب السائلين. ميسر الأمور العسيرة ، وفاتح أبواب بركاته ، والمجزل في جميع الأوقات هباته. ميسر القرآن للمتذكرين ، ومسهل طرقه وأبوابه ، للمقبلين ، ويمد مائدة خيراته ومبراته للمتفكرين ، والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. على يد جامعه وممليه ، عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي ، غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين ، وذلك في ٢٢ رمضان سنة ١٣٤٣ ه‍. وتم تحريره من خط مؤلفه ، في ٢٩ ذي الحجة سنة ١٣٤٦ ه‍.

تفسير سورة القصص

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٤] (تِلْكَ) الآيات المستحقة للتعظيم والتفخيم (آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) لكل أمر يحتاج إليه العباد ، من معرفة ربهم ، ومعرفة حقوقه ، ومعرفة أوليائه وأعدائه ، ومعرفة وقائعه وأيامه ، ومعرفة ثواب الأعمال ، وجزاء العمال. فهذا القرآن قد بينها غاية التبيين ، وجلّاها للعباد ، ووضحها. ومن جملة ما أبان ، قصة موسى وفرعون ، فإنه أبداها ، وأعادها في عدة مواضع. وبسطها في هذا الموضع فقال : (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِ). فإن نبأهما غريب ، وخبرهما عجيب. (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فإليهم يساق الخطاب ، ويوجه الكلام. حيث إن معهم من الإيمان ، ما يقبلون به ، على تدبر ذلك ، وتلقّيه بالقبول والاهتداء ، بمواقع العبر ، ويزدادون به إيمانا ويقينا ، وخيرا إلى خيرهم. وأما من عداهم ، فلا يستفيدون منه ، إلا إقامة الحجة عليهم ، وصانه الله عنهم ، وجعل بينهم وبينه حجابا أن يفقهوه. فأول هذه القصة (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) في ملكه وسلطانه ، وجنوده ، وجبروته ، فصار من

٧٣٠

أهل العلو فيها ، لا من الأعلين فيها. (وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) أي : طوائف متفرقة ، يتصرف فيهم بشهوته ، وينفذ فيها ما أراد من قهره ، وسطوته. (يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ) وتلك الطائفة ، هم : بنو إسرائيل ، الّذين فضلهم الله على العالمين ، الذي ينبغي له أن يكرمهم ويجلهم. ولكنه استضعفهم ، بحيث إنه رأى أنهم لا منعة لهم تمنعهم مما أراده فيهم. فصار لا يبالي بهم ولا يهتم بشأنهم ، وبلغت به الحال ، إلى أنه (يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) خوفا من أن يكثروا ، فيغمروه في بلاده ، ويصير لهم الملك. (إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) الّذين لا قصد لهم في صلاح الدين ، ولا صلاح الدنيا ، وهذا من إفساده في الأرض.

[٥] (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) بأن نزيل عنهم مواد الاستضعاف ، ونهلك من قاومهم ، ونخذل من ناوأهم. (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) في الدين ، وذلك لا يحصل مع استضعاف ، بل لا بد من تمكين في الأرض ، وقدرة تامة. (وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) للأرض ، الّذين لهم العاقبة في الدنيا قبل الآخرة.

[٦] (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) فهذه الأمور كلها ، قد تعلقت بها إرادة الله ، وجرت بها مشيئته. (وَ) كذلك نريد أن (نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ) وزيره (وَجُنُودَهُما) الّذين بهم صالوا وجالوا ، وعلوا وبغوا (مِنْهُمْ) أي : من هذه الطائفة المستضعفة. (ما كانُوا يَحْذَرُونَ) من إخراجهم من ديارهم ، ولذلك كانوا يسعون في قمعهم ، وكسر شوكتهم ، وتقتيل أبنائهم ، الّذين هم محل ذلك. فكل هذا قد أراده الله ، وإذا أراد أمرا ، سهّل أسبابه ، ونهج طرقه. وهذا الأمر كذلك ، فإنه قدر وأجرى من الأسباب ـ الّتي لم يشعر بها لا أولياؤه ولا أعداؤه ـ ما هو سبب موصل إلى هذا المقصود. فأول ذلك ، لما أوجد الله رسوله موسى ، الذي جعل استنقاذ هذا الشعب الإسرائيلي على يديه وبسببه ، وكان في وقت تلك المخافة العظيمة ، الّتي يذبحون بها الأبناء.

[٧] أوحى إلى أمه ، أن ترضعه ، ويمكث عندها. (فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ) بأن أحسست أحدا تخافين عليه منه أن يوصله إليهم. (فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ) أي : نيل مصر ، في وسط تابوت مغلق. (وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ). فبشرها بأنه سيرده إليها ، وأنه سيكبر ويسلم من كيدهم ، ويجعله الله رسولا. وهذا من أعظم البشائر الجليلة ، وتقديم هذه البشارة لأم موسى ، ليطمئن قلبها ، ويسكن روعها ، فكأنها خافت عليه ، وفعلت ما أمرت به ، ألقته في أليم ، وساقه الله تعالى.

[٨ ـ ١٠] (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) فصار من لقطهم ، وهم الّذين باشروا وجدانه. (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) أي : لتكون العاقبة والمآل من هذا الالتقاط ، أن يكون عدوا لهم وحزنا يحزنهم ، بسبب أن الحذر لا ينفع من القدر ، وأن الذي خافوا منه من بني إسرائيل ، قيّض الله أن يكون زعيمهم ، يتربى تحت أيديهم ، وعلى نظرهم ، وبكفالتهم. وعند التدبر والتأمل ، تجد في طي ذلك من المصالح لبني إسرائيل ، ودفع كثير من الأمور الفادحة بهم ، ومنع كثير من التعديات قبل رسالته بحيث إنه صار من كبار المملكة. وبالطبع لا بد أن يحصل منه مدافعة عن حقوق

٧٣١

شعبه هذا ، وهو هو ذو الهمة العالية والغيرة المتوقدة. ولهذا وصلت الحال بذلك الشعب المستضعف ـ الذي بلغ بهم الذل والإهانة ، إلى ما قص الله علينا بعضه ـ أن صار بعض أفراده ، ينازع ذلك الشعب القاهر العالي في الأرض : كما سيأتي بيانه. وهذا مقدمة للظهور ، فإن الله تعالى من سنته الجارية ، أن جعل الأمور تمشي على التدريج ، شيئا فشيئا ، ولا تأتي دفعة واحدة. وقوله : (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) أي : مجرمين ، فأردنا أن نعاقبهم على إخراجهم ، ونكيد لهم ، جزاء على مكرهم وكيدهم. فلما التقطه آل فرعون ، حنّن الله عليه امرأة فرعون الفاضلة الجليلة ، المؤمنة «آسية» بنت مزاحم (وَقالَتِ) : هذا الولد (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ) أي : أبقه لنا ، لتقرّ به أعيننا ، ونسر به في حياتنا. (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) أي : لا يخلو ، إما أن يكون بمنزلة الخدم ، الّذين يسعون في نفعنا وخدمتنا أو نرقيه درجة أعلى من ذلك ، نجعله ولدا لنا ، ونكرمه ، ونجله. فقدّر الله تعالى ، أنه نفع امرأة فرعون ، الّتي قالت تلك المقالة. فإنه لما صار قرة عين لها ، وأحبته حبا شديدا ، فلم يزل لها بمنزلة الولد الشقيق ، حتى كبر ، ونبأه الله وأرسله ، بادرت إلى الإسلام ، والإيمان به ، رضي الله عنها ، وأرضاها. قال الله تعالى هذه المراجعات والمقالات ، في شأن موسى : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) ما جرى به القلم ، ومضى به القدر ، من وصوله إلى ما وصل إليه. وهذا من لطفه تعالى ، فإنهم لو شعروا ، لكان لهم وله ، شأن آخر. ولما فقدت موسى أمه ، حزنت حزنا شديدا ، وأصبح فؤادها فارغا من القلق ، الذي أزعجها ، على مقتضى الحالة البشرية ، مع أن الله تعالى نهاها عن الحزن والخوف ، ووعدها برده. (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) أي : بما في قلبها (لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) فثبتناها ، فصبرت ، ولم تبد به. (لِتَكُونَ) بذلك الصبر والثبات (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فإن العبد إذا أصابته مصيبة ، فصبر وثبت ، ازداد بذلك إيمانه ، ودل ذلك ، على أن استمرار الجزع مع العبد ، دليل على ضعف إيمانه.

[١١ ـ ١٢] (وَقالَتْ) أم موسى : (لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ) أي : اذهبي فقصي الأثر عن أخيك ، وابحثي عنه ، من غير أن يحس بك أحد ، أو يشعروا بمقصودك. فذهبت تقصه (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي : أبصرته على وجه ، كأنها مارة لا قصد لها فيه. وهذا من تمام الحزم والحذر ، فإنها لو أبصرته ، وجاءت إليهم قاصدة لظنوا بها ، أنها هي الّتي ألقته ، فربما عزموا على ذبحه ، عقوبة لأهله. ومن لطف الله بموسى وأمه ، أن منعه من قبول ثدي امرأة ، فأخرجوه إلى السوق ، رحمة به ، ولعل أحدا يطلبه. فجاءت أخته ، وهو بتلك الحال (فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ). وهذا جلّ غرضهم ، فإنهم أحبوه حبا شديدا ، وقد منعه الله من المراضع فخافوا أن يموت. فلما قالت لهم أخته ، تلك المقالة المشتملة على الترغيب ، في أهل هذا البيت ، بتمام حفظه وكفالته ، والنصح له ، بادروا إلى إجابتها ، فأعلمتهم ، ودلتهم على أهل هذا البيت.

[١٣] (فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ) كما وعدناها بذلك (كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ) بحيث أنه تربى عندها ، على وجه تكون فيه آمنة مطمئنة ، تفرح به ، وتأخذ الأجرة الكثيرة على ذلك. (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) فأريناها بعض ما

٧٣٢

وعدناها به عيانا ، ليطمئن بذلك قلبها ، ويزداد إيمانها ، ولتعلم أنه سيحصل وعد الله ، في حفظه ، ورسالته .. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) فإذا رأوا السبب متشوشا ، شوش ذلك إيمانهم ، لعدم علمهم الكامل ، أن الله تعالى يجعل المحن والعقبات الشاقة ، بين يدي الأمور العالية ، والمطالب الفاضلة. فاستمر موسى عليه الصلاة والسّلام عند آل فرعون ، يتربى في سلطانهم ، ويركب مراكبهم ، ويلبس ملابسهم. وأمه بذلك مطمئنة ، قد استقر أنها أمه من الرضاع ، ولم يستنكر ملازمته إياها ، وحنوه عليها. وتأمل هذا اللطف من الله ، وصيانة نبيه موسى من الكذب في منطقه ، وتيسير الأمر ، الذي صار به التعلق ، بينه وبينها ، الذي بان للناس ، أنه هو الرضاع ، الذي بسببه يسميها أمّا ، فكان الكلام الكثير منه ومن غيره في ذلك كله ، صدقا وحقا.

[١٤] (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) من القوة والعقل واللب ، وذلك نحو أربعين سنة في الغالب. (وَاسْتَوى) فكملت فيه تلك الأمور (آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) أي : حكما يعرف به الأحكام الشرعية ، ويحكم به بين الناس ، وعلما كثيرا. (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) في عبادة الله المحسنين ، لخلق الله ، يعطيهم علما وحكما ، بحسب إحسانهم ، ودلّ هذا على كمال إحسان موسى عليه‌السلام.

[١٥ ـ ١٦] (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) إما وقت القائلة ، أو غير ذلك من الأوقات ، الّتي بها يغفلون عن الانتشار. (فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ) يتخاصمان ويتضاربان (هذا مِنْ شِيعَتِهِ) أي : من بني إسرائيل (وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) كالقبط. (فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) لأنه قد اشتهر ، وعلم الناس أنه من بني إسرائيل ، واستغاثته لموسى ، دليل على أنه بلغ موسى عليه‌السلام مبلغا يخاف منه ، ويرجى من بيت المملكة والسلطان. (فَوَكَزَهُ مُوسى) أي : وكز الذي من عدوه ، استجابة لاستغاثة الإسرائيلى (فَقَضى عَلَيْهِ) أي : أماته من تلك الوكزة ، لشدتها ، وقوة موسى. فندم موسى عليه‌السلام على ما جرى منه ، و (قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) أي : من تزيينه ، ووسوسته (إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) فلذلك أجريت ما أجريت بسبب عداوته البينة ، وحرصه على الإضلال. ثمّ استغفر ربه (قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (١٦) خصوصا للمخبتين إليه ، المبادرين للإنابة والتوبة ، كما جرى من موسى عليه‌السلام.

[١٧] (قالَ) موسى (رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ) بالتوبة والمغفرة ، والنعم الكثيرة. (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً) أي : معينا ومساعدا (لِلْمُجْرِمِينَ) أي : لا أعين أحدا على معصية. وهذا وعد من موسى عليه‌السلام ، بسبب منّة الله عليه ، أن لا يعين مجرما ، كما فعل في قتل القبطي. وهذا يفيد أن النعم ، تقتضي من العبد فعل الخير ، وترك الشر.

[١٨] (ف) لما جرى منه قتل الذي هو من عدوه أصبح (فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ) هل يشعر به آل فرعون ، أم لا؟ وإنّما خاف لأنه قد علم ، أنه لا يتجرأ أحد على مثل هذه الحال ، سوى موسى ، من بني إسرائيل. فبينما هو على تلك الحال (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ) على عدوّه (يَسْتَصْرِخُهُ) على قبطي آخر. (قالَ لَهُ مُوسى) موبخا على حاله (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) أي : بين الغواية ، ظاهر الجراءة.

[١٩] (فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ) موسى (بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما) أي : له وللمخاصم المستصرخ لموسى ، أي : لم يزل اللجاج بين القبطي والإسرائيلي ، وهو يستغيث بموسى ، فأخذته الحمية ، حتى هم أن يبطش بالقبطي. (قالَ) له القبطي زاجرا له عن قتله : (يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ) لأن من أعظم آثار الجبار في الأرض ، قتل النفس بغير حق. (وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) وإلا ، فلو أردت الإصلاح ، لحلت بيني وبينه ، من غير قتل أحد. فانكفّ موسى عن قتله ، وارعوى ، لوعظه وزجره. وشاع الخبر بما جرى من موسى في هاتين القضيتين ، حتى تراود ملأ فرعون ، وفرعون على قتله ، وتشاوروا على ذلك. فقيّض الله ، ذلك الرجل الناصح ، وبادر إلى الإخبار لموسى بما اجتمع عليه رأي ملئهم. فقال :

٧٣٣

[٢٠ ـ ٢١] (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى) أي : ركضا على قدميه ، من نصحه لموسى ، وخوفه أن يوقعوا به ، قبل أن يشعر. (قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ) أي : يتشاورون فيك (لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ) عن المدينة (إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ). فامتثل نصحه (فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ) أن يوقع به القتل ، ودعا الله. (قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) فإنه قد تاب من ذنبه وفعله غضبا ، من غير قصد منه للقتل ، فتوعّدهم له ، ظلم منهم وجراءة.

[٢٢] (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ) أي : قاصدا بوجهه مدين ، وهو جنوبي فلسطين ، حيث لا ملك فيه لفرعون. (قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) أي : وسط الطريق المختصر ، الموصل إليها ، بسهولة ورفق ، فهداه الله سواء السبيل ، فوصل إلى مدين.

[٢٣] (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) مواشيهم ، وكانوا أهل ماشية كثيرة (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ) أي : دون تلك الأمة (امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ) غنمهما ، عن حياض الناس ، لعجزهما عن مزاحمة الرجال ، وبخلهم ، وعدم مروءتهم ، السقي لهما. (قالَ) لهما موسى (ما خَطْبُكُما) أي : ما شأنكما بهذه الحالة. (قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ) أي : قد جرت العادة أنه لا يحصل لنا سقي حتى يصدر الرعاء مواشيهم ، فإذا خلا لنا الجو ، سقينا. (وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) أي : لا قوة له على السقي ، فليس فينا قوة ، نقتدر بها ، ولا لنا رجال ، يزاحمون الرعاء.

[٢٤] فرقّ لهما موسى عليه‌السلام ورحمهما (فَسَقى لَهُما) غير طالب منهما الأجر ، ولا له قصد ، غير وجه الله تعالى. فلما سقى لهما ، وكان ذلك وقت شدة حر ، وسط النهار ، بدليل قوله : (ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِ) مستريحا لتلك الظلال بعد التعب. (فَقالَ) في تلك الحالة ، مسترزقا ربه (رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) أي : إني مفتقر للخير ، الذي تسوقه إليّ ، وتيسره لي ، وهذا سؤال منه بحاله ، والسؤال بالحال ، أبلغ من السؤال بلسان المقال. فلم يزل في هذه الحالة ، داعيا ربه متملقا.

[٢٥] وأما المرأتان ، فذهبتا إلى أبيهما ، وأخبرتاه بما جرى. فأرسل أبوهما ، إحداهما إلى موسى ، فجاءته (تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ). وهذا يدل على كرم عنصرها ، وخلقها الحسن ، فإن الحياء من الأخلاق الفاضلة ، وخصوصا في النساء. ويدل على أن موسى عليه‌السلام ، لم يكن فيما فعله من السقي ، بمنزلة الأجير والخادم ، الذي لا يستحى منه عادة ، وإنّما هو عزيز النفس ، رأت من حسن خلقه ، ومكارم أخلاقه ، ما أوجب لها الحياء منه. (قالَتْ) له : (إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) أي : لا لمنّ عليك ، بل أنت الذي ابتدأتنا بالإحسان ، وإنّما قصده أن يكافئك على إحسانك. فأجابها موسى. (فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ) من ابتداء السبب الموجب لهربه ، إلى أن وصل إليه (قالَ) مسكنا روعه ، جابرا قلبه : (لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي : ليذهب خوفك وروعك ، فإن الله نجاك منهم ، حيث وصلت إلى هذا المحل ، الذي ليس لهم عليه سلطان.

[٢٦] (قالَتْ إِحْداهُما) أي : إحدى ابنتيه (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَ) أي : اجعله أجيرا عندك ، يرعى الغنم

٧٣٤

ويسقيها. (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) أي : إن موسى ، أولى من استؤجر ، فإنه جمع القوة والأمانة ، وخير أجير استؤجر ، من جمعها ، القوة والقدرة ، على ما استؤجر عليه ، والأمانة فيه بعدم الخيانة. وهذان الوصفان ، ينبغي اعتبارهما في كل من يتولى للإنسان عملا ، بإجارة أو غيرها. فإن الخلل لا يكون إلا بفقدهما ، أو فقد إحداهما ، وأما باجتماعهما ، فإن العمل يتم ويكمل. وإنما قالت ذلك ، لأنها شاهدت من قوة موسى عند السقي لهما ، ونشاطه ، ما عرفت به قوته ، وشاهدت من أمانته وديانته ، وأنه رحمهما في حالة لا يرجى نفعهما ، وإنما قصده بذلك وجه الله تعالى.

[٢٧] (قالَ) صاحب مدين لموسى (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي) أي : تصير أجيرا عندي (ثَمانِيَ حِجَجٍ) أي : ثماني سنين. (فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ) تبرع منك ، لا شيء واجب عليك. (وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ) فأحتّم عشر السنين ، وما أريد أن أستأجرك ، لأكلفك أعمالا شاقة ، وإنما استأجرتك ، لعمل سهل يسير ، لا مشقة فيه (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) فرغبه في سهولة العمل ، وفي حسن المعاملة. وهذا يدل على أن الرجل الصالح ، ينبغي أن يحسن خلقه ، مهما أمكنه ، وأن الذي يطلب منه ، أبلغ من غيره.

[٢٨] (قالَ) موسى عليه‌السلام ـ مجيبا له فيما طلبه منه ـ : (ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ) أي : هذا الشرط ، الذي أنت ذكرت ، رضيت به ، وقد تم فيما بيني وبينك. (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَ) سواء قضيت الثماني الواجبة ، أم تبرعت بالزائد عليها (وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) حافظ يراقبنا ، ويعلم ما تعاقدنا عليه. وهذا الرجل ، أبو المرأتين ، صاحب مدين ، ليس بشعيب النبي المعروف ، كما اشتهر عن كثير من الناس ، فإن هذا قول لم يدل عليه دليل. وغاية ما يكون ، أن شعيبا عليه‌السلام ، قد كانت بلده مدين ، هذه القضية ، جرت في مدين ، فأين الملازمة بين الأمرين؟. وأيضا ، فإنه غير معلوم ، أن موسى أدرك زمان شعيب ، فكيف بشخصه؟ ولو كان ذلك الرجل شعيبا ، لذكره الله تعالى ، ولسمته المرأتان ، أيضا فإن شعيبا ، عليه الصلاة والسلام ، قد أهلك الله قومه بتكذيبهم إياه. ولم يبق إلا من آمن به. وقد أعاذ الله المؤمنين به ، أن يرضوا لبنتي نبيهم ، بمنعهما عن الماء ، وصد ماشيتهما ، حتى يأتيهما رجل غريب ، فيحسن إليهما ، ويسقي ماشيتهما. وما كان شعيب ، ليرضى أن يرعى موسى عنده ، ويكون خادما له ، وهو أفضل منه ، وأعلى درجة ، إلا أن يقال : هذا قبل نبوة موسى ، فلا منافاة. وعلى كل حال ، لا يعتمد على أنه شعيب النبي ، بغير نقل صحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والله أعلم.

[٢٩] (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) يحتمل أنه قضى الأجل الواجب ، أو الزائد عليه ، كما هو الظن بموسى ، ووفائه ، اشتاق إلى الوصول إلى أهله ، ووالدته ، وعشيرته ، ووطنه ، وظن من طول المدة ، أنهم قد تناسوا ما صدر منه. (وَسارَ بِأَهْلِهِ) قاصدا مصر (آنَسَ) أي : أبصر (مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) وكان قد أصابهم البرد ، وتاهوا الطريق.

٧٣٥

[٣٠ ـ ٣١] (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٣٠) فأخبر بألوهيته ، وربوبيته. ويلزم من ذلك. أن يأمره بعبادته ، وتألهه ، كما صرح به في الآي الأخرى (فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي). (وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ) فألقاها (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ) تسعى سعيا شديدا ، ولها صورة مهيلة (كَأَنَّها جَانٌ) ذكر الحيات العظيم. (وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) أي : يرجع ، لاستيلاء الروع على قلبه. فقال الله له : (يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) وهذا أبلغ ما يكون في التأمين ، وعدم الخوف. فإن قوله : (أَقْبِلْ) يقتضي الأمر بإقباله ، ويجب عليه الامتثال. ولكن قد يكون إقباله ، وهو لم يزل في الأمر المخوف. فقال : (وَلا تَخَفْ) أمر له بشيئين ، إقباله ، وأن لا يكون في قلبه خوف. ولكن يبقى احتمال ، وهو أنه ، قد يقبل وهو غير خائف ، ولكن لا تحصل له الوقاية والأمن من المكروه ، فلذلك قال : (إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) فحينئذ اندفع المحذور من جميع الوجوه. فأقبل موسى عليه‌السلام ، غير خائف ، ولا مرعوب ، بل مطمئنا ، واثقا بخبر ربه ، قد ازداد إيمانه ، وتم يقينه. فهذه آية ، أراه الله إياها ، قبل ذهابه إلى فرعون ، ليكون على يقين تام ، فيكون أجرا له ، وأقوى وأصلب.

[٣٢] ثم أراه الآية الأخرى فقال : (اسْلُكْ يَدَكَ) أي : أدخلها (فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) فسلكها وأخرجها ، كما ذكر الله تعالى. (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) أي : ضم جناحك وهو عضدك إلى جنبك ليزول عنك الرهب والخوف. (فَذانِكَ) أي : انقلاب العصا حية ، وخروج اليد بيضاء من غير سوء. (بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ) أي : حجتان قاطعتان من الله. (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) فلا يكفيهم مجرد الإنذار وأمر الرسول إياهم ، بل لا بد من الآيات الباهرة ، إن نفعت.

[٣٣ ـ ٣٤] (قالَ) موسى عليه‌السلام ، معتذرا من ربه ، وسائلا له المعونة على ما حمله ، وذاكرا له الموانع ، التي فيه ، ليزيل ربه ما يحذره منها. (رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً) أي : (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً) أي : معاونا ومساعدا (يُصَدِّقُنِي) فإنه مع تضافر الأخبار ، يقوى الحق (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ). فأجابه الله سؤاله فقال : (قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) أي : نعاونك به ونقويك.

[٣٥] ثم أزال عنه محذور القتل ، فقال : (وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً) أي : تسلطا ، وتمكّنا من الدعوة ، والحجة ، والهيبة الإلهية من عدوهما (فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما). وذلك بسبب آياتنا ، وما دلت عليه من الحق ، وما أزعجت به من باشرها ونظر إليها. فهي التي بها حصل لكما السلطان ، واندفع بها عنكم ، كيد عدوكم ، وصارت لكم أبلغ من الجنود ، أولي العدد والعدد. (أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) وهذا وعد لموسى في ذلك الوقت ، وهو وحده فريد ، وقد رجع إلى بلده ، بعد ما كان شريدا. فلم تزل الأحوال تتطور ، والأمور تنتقل ، حتى أنجز له موعوده ، ومكّنه من العباد والبلاد ، وصار له ولأتباعه ، الغلبة والظهور.

[٣٦] فذهب موسى برسالة ربه (فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ) واضحات الدلالة على ما قال لهم ، ليس

٧٣٦

فيها قصور ، ولا خفاء. (قالُوا) على وجه الظلم ، والعلو ، والعناد (ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً) كما قال فرعون : في تلك الحال ، التي ظهر فيها الحق ، واستعلى على الباطل ، واضمحل الباطل ، وخضع له الرؤساء العارفون حقائق الأمور (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) هذا ، وهو الذكي غير الزكي الذي بلغ من المكر والخداع والكيد ، ما قصه الله علينا وقد علم «ما أنزل هؤلاء إلّا رب السموات والأرض» ولكن الشقاء غالب. (وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) وقد كذبوا في ذلك ، فإن الله أرسل يوسف ، قبل موسى كما قال تعالى : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ).

[٣٧] (وَقالَ مُوسى) حين زعموا أن الذي جاءهم به سحر وضلال ، وأن ما هم عليه هو الهدى : (رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) أي : إذا لم تفد المقابلة معكم ، وتبيين الآيات البينات ، وأبيتم إلا التمادي في غيكم ، واللجاج على كفركم ، فالله تعالى العالم بالمهتدي وغيره ، ومن تكون له عاقبة الدار ، نحن أم أنتم (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ). فصار عاقبة الدار لموسى وأتباعه ، الفلاح ، والفوز. وصار لأولئك ، الخسار ، وسوء العاقبة والهلاك.

[٣٨] (وَقالَ فِرْعَوْنُ) متجرئا على ربه ، ومموها على قومه السفهاء ، وضعفاء العقول : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) أي : أنا وحدي ، إلهكم ومعبودكم ، ولو كان ثمّ إله غيري لعلمته. فانظر إلى هذا الورع التام من فرعون ، حيث لم يقل «ما لكم من إله غيري». وهذا ، لأنه عندهم العالم الفاضل ، الذي مهما قال : فهو الحقّ ، ومهما أمر أطاعوه. فلما قال هذه المقالة ، الّتي تحتمل أن ثمّ إلها غيره ، أراد أن يحقق النفي ، الذي جعل فيه ذلك الاحتمال ، فقال ل «هامان». (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ) ليجعل له لبنا من فخار. (فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً) أي : بناء عاليا (لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ). ولكن سنحقق هذا الظن ، ونريكم كذب موسى. فانظر هذه الجراءة العظيمة ، على الله ، الّتي ما بلغها آدمي. كذّب موسى ، وادّعى أنه الله ، ونفى أن يكون له علم بالإله الحقّ ، وفعل الأسباب ، ليتوصل إلى إله موسى ، وكلّ هذا ترويج. ولكن العجب من هؤلاء الملأ ، الّذين يزعمون أنهم كبار المملكة ، المدبرون لشؤونها ، كيف لعب هذا الرجل بعقولهم ، واستخف أحلامهم ، وهذا لفسقهم ، الذي صار صفة راسخة فيهم. فسد دينهم ، ثمّ تبع ذلك فساد عقولهم ، فنسألك اللهم الثبات على الإيمان ، وأن لا تزيغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ، وأن تهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.

[٣٩] قال تعالى : (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) استكبروا على عباد الله ، وساموهم سوء العذاب ، واستكبروا على رسل الله ، وما جاءوهم به من الآيات. فكذبوها ، وزعموا أن ما هم عليه ، أعلى منها وأفضل. (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ) فلذلك تجرّؤوا. وإلا فلو علموا ، وظنّوا أنهم يرجعون إلى الله ، لما كان منهم ما كان.

[٤٠] (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ) عند ما استمر عنادهم وبغيهم (فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ

٧٣٧

الظَّالِمِينَ) كانت شر العواقب وأخسرها عاقبة أعقبتها العقوبة الدنيوية المستمرة ، المتصلة بالعقوبة الأخروية.

[٤١] (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) أي : جعلنا فرعون وملأه ، من الأئمة ، الّذين يقتدى بهم ، ويمشى خلفهم إلى دار الخزي والشقاء. (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) من عذاب الله ، فهم أضعف شيء ، عن دفعه عن أنفسهم ، وليس لهم من دون الله ، من ولي ولا نصير.

[٤٢] (وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) أي : وأتبعناهم ، زيادة في عقوبتهم وخزيهم ، في الدنيا لعنة ، يلعنون ، ولهم عند الخلق ، الثناء القبيح ، والمقت والذم. وهذا أمر مشاهد ، فهم أئمة الملعونين في الدنيا ، ومقدمتهم. (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) المبعدين ، المستقذرة أفعالهم. الّذين اجتمع عليهم مقت الله ، ومقت خلقه ، ومقت أنفسهم.

[٤٣] (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) وهو التوراة (مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) الّذين خاتمتهم ، في الإهلاك العام ، فرعون وجنوده. وهذا دليل على أنه بعد نزول التوراة ، انقطع الهلاك العام ، وشرع جهاد الكفار بالسيف. (بَصائِرَ لِلنَّاسِ) أي : كتاب الله الذي أنزله على موسى ، فيه بصائر للناس ، أي : أمور يبصرون بها ، ما ينفعهم ، وما يضرهم ، فتقوم الحجة على العاصي ، وينتفع بها المؤمن ، فتكون رحمة في حقه ، وهداية إلى الصراط المستقيم ، ولهذا قال : (وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ). ولما قص الله على رسوله ، ما قص من هذه الأخبار الغيبية ، نبه العباد ، على أن هذا خبر إلهي محض ، ليس للرسول ، طريق إلى علمه ، إلا من جهة الوحي ، ولهذا قال :

[٤٤] (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) أي : بجانب الطور الغربي (إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) على ذلك ، حتى يقال : إنه وصل إليك من هذا الطريق.

[٤٥] (وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) فاندرس العلم ، ونسيت آياته. فبعثناك في وقت اشتدت الحاجة إليك ، وإلى ما علمناك ، وأوحينا إليك. (وَما كُنْتَ ثاوِياً) أي : مقيما (فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) أي : تعلمهم ، وتتعلم منهم ، حتى أخبرت ، من شأن موسى في مدين. (وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) أي : ولكن ذلك الخبر ، الذي جئت به عن موسى ، أثر من آثار إرسالنا إياك ، ووحي لا سبيل لك إلى علمه ، بدون إرسالنا.

[٤٦] (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) موسى ، وأمرناه أن يأتي القوم الظالمين ، ويبلغهم رسالتنا ، ويريهم من آياتنا وعجائبنا ، ما قصصنا عليك. والمقصود ، أن المجريات ، الّتي جرت لموسى ، عليه الصلاة والسّلام ، في هذه الأماكن ، فقصصتها كما هي ، من غير زيادة ولا نقص ، لا يخلو من أحد أمرين : إما أن تكون حضرتها وشاهدتها ، ذهبت إلى محالها ، فتعلمتها من أهلها. فحينئذ قد لا يدل ذلك ، على أنك رسول الله ، إذ الأمور الّتي يخبر بها عن شهادة ودراسة ، من الأمور المشتركة ، غير المختصة بالأنبياء. ولكن هذا قد علم وتيقّن أنه ما كان وما صار. فأولياؤك وأعداؤك يعلمون عدم ذلك. فتعين الأمر الثاني ، وهو : أن هذا جاءك من قبل الله ووحيه وإرساله. فثبت بالدليل القطعي ، صحة رسالتك ، ورحمة الله بك للعباد ، ولهذا قال : (وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ

٧٣٨

مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) أي : العرب ، وقريش ، فإن الرسالة عندهم ، لا تعرف وقت إرسال الرسول وقبله بأزمان متطاولة. (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) تفصيل الخير ، فيفعلونه ، والشر فيتركونه. فإذا كنت بهذه المنزلة ، كان الواجب عليهم ، المبادرة إلى الإيمان بك ، وشكر هذه النعمة ، الّتي لا يقادر قدرها ، ولا يدرك شكرها. وإنذاره للعرب لا ينفي ، أن يكون مرسلا لغيرهم ، فإنه عربي ، والقرآن الذي نزل عليه ، عربي ، وأول من باشر بدعوته ، العرب. فكانت رسالته لهم أصلا ، ولغيرهم تبعا ، كما قال تعالى : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) ... (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً).

[٤٧ ـ ٤٨] (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) من الكفر والمعاصي (فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي : فأرسلناك يا محمد ، لدفع حجتهم ، وقطع مقالتهم. (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُ) الذي لا شك فيه (مِنْ عِنْدِنا) وهو القرآن ، الذي أوحيناه إليك (قالُوا) مكذبين له ومعترضين بما ليس يعترض به : (لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) أي : أنزل عليه كتاب من السماء جملة واحدة. أي : فأما ما دام ينزل متفرقا ، فإنه ليس من عند الله. وأي دليل في هذا؟ وأي شبهة أنه ليس من عند الله ، حين نزل مفرقا؟ بل من كمال هذا القرآن ، واعتناء الله بمن أنزل عليه ، أن نزل متفرقا ، ليثبت الله به فؤاد رسوله ، ويحصل زيادة الإيمان للمؤمنين. (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) (٣٣). وأيضا ، فإن قياسهم على كتاب موسى ، قياس قد نقضوه ، فكيف يقيسونه على كتاب كفروا به ، ولم يؤمنوا؟ ولهذا قال : (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا) أي : القرآن والتوراة ، تعاونا في سحرهما ، وإضلال الناس (وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ). فثبت بهذا ، أن القوم يريدون إبطال الحقّ ، بما ليس ببرهان ، وينقضونه بما لا ينقض ، ويقولون الأقوال المتناقضة المختلفة ، وهذا شأن كلّ كافر. ولهذا صرّح أنهم كفروا بالكتابين والرسولين (وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ).

[٤٩] ولكن هل كفرهم بهما ، كان طلبا للحق ، واتباعا لأمر عندهم ، خير منهما ، أم مجرد هوى؟. قال تعالى ملزما لهم بذلك : (قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما) أي : من التوراة والقرآن (أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ولا سبيل لهم ، ولا لغيرهم ، أن يأتوا بمثلها ، فإنه ما طرق العالم ، منذ خلقه الله ، مثل هذين الكتابين ، علما ، وهدى ، وبيانا ، ورحمة للخلق. وهذا من كمال الإنصاف من الداعي أن قال : مقصودي ، الحقّ والهدى والرشد ، وقد جئتكم بهذا الكتاب ، المشتمل على ذلك ، الموافق لكتاب موسى. فيجب علينا جميعا الإذعان لهما ، واتباعهما ، من حيث كونهما هدى وحقا. فإن جئتموني بكتاب من عند الله ، هو أهدى منهما ، اتبعته. وإلا ، فلا أترك هدى وحقا قد علمته لغير هدى وحق.

[٥٠] (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ) فلم يأتوا بكتاب أهدى منهما (فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ) أي : فاعلم أن تركهم اتباعك ، ليسوا ذاهبين إلى حق يعرفونه ، ولا إلى هدى ، وإنّما ذلك مجرد اتباع لأهوائهم. (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ

٧٣٩

هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) فهذا من أضل الناس ، حيث عرض عليه الهدى ، والصراط المستقيم ، الموصل إلى الله وإلى دار كرامته ، فلم يلتفت إليه ، ولم يقبل عليه. ودعاه هواه إلى سلوك الطرق الموصلة إلى الهلاك والشقاء ، فاتبعه ، وترك الهدى. فهل أحد أضل ممن هذا وصفه؟ ولكن ظلمه وعدوانه ، وعدم محبته للحق ، هو الذي أوجب له : أن يبقى على ضلاله ولا يهديه الله ، فلهذا قال : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي : الّذين صار الظلم لهم وصفا والعناد لهم نعتا ، جاءهم الهدى فرفضوه ، وعرض لهم الهوى ، فتبعوه. سدوا على أنفسهم أبواب الهداية وطرقها ، وفتحوا عليهم أبواب الغواية وسبلها. فهم في غيهم وظلمهم يعمهون ، وفي شقائهم وهلاكهم ، يترددون. وفي قوله : (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ) دليل على أن كلّ من لم يستجب للرسول ، وذهب إلى قول مخالف لقول الرسول ، فإنه لم يذهب إلى هدى ، وإنّما ذهب إلى هوى.

[٥١] (وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ) أي : تابعناه وواصلناه ، وأنزلناه شيئا فشيئا ، رحمة بهم ولطفا (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) حين تتكرر عليهم آياته ، وتنزل عليهم بيناته وقت الحاجة إليها. فصار نزوله متفرقا ، رحمة بهم ، فلم اعترضوا على ما هو من مصالحهم؟

فصل في ذكر بعض الفوائد والعبر في هذه القصة العجيبة

فمنها : أن آيات الله وعبره ، وأيامه في الأمم السابقة ، إنّما يستفيد بها ويستنير ، المؤمنون ، فعلى حسب إيمان العبد ، تكون عبرته. وإن الله تعالى إنّما يسوق القصص لأجلهم ، وأما غيرهم ، فلا يعبأ الله بهم ، وليس لهم منها نور وهدى. ومنها : أن الله تعالى ، إذا أراد أمرا ، هيّأ أسبابه ، وأتى بها شيئا فشيئا بالتدريج ، لا دفعة واحدة. ومنها : أن الأمة المستضعفة ، ولو بلغت في الضعف ما بلغت ، لا ينبغي لها أن يستولي عليها الكسل ، عن طلب حقها ، ولا الإياس من ارتقائها إلى أعلى الأمور ، خصوصا إذا كانوا مظلومين ، كما استنقذ الله أمّة بني إسرائيل ، الأمة الضعيفة ، من أسر فرعون وملئه ، ومكّنهم في الأرض ، وملّكهم بلادهم. ومنها : أن الأمة ما دامت ذليلة مقهورة ، لا تأخذ حقها ، ولا تتكلم به ، لا يقوم لها أمر دينها ولا دنياها ، ولا يكون لها إمامة فيه. [ثمّ توعّد تعالى المخذلين المعوقين ، وتهددهم فقال : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ) عن الخروج ، لمن لم يخرجوا (وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ) الّذين خرجوا (هَلُمَّ إِلَيْنا) أي : ارجعوا ، كما تقدم من قولهم : (يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا). وهم مع تعويقهم وتخذيلهم (لا يَأْتُونَ الْبَأْسَ) أي : القتال والجهاد ، بأنفسهم (إِلَّا قَلِيلاً) فهم أشد الناس حرصا على التخلف ، لعدم الداعي لذلك ، من الإيمان والصبر. ولوجود المقتضي للجبن ، من النفاق ، وعدم الإيمان. (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) بأبدانهم عن القتال ، وبأموالهم عند النفقة فيه ، فلا يجاهدون بأموالهم وأنفسهم. (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ) أي : نظر المغشي عليه (مِنَ الْمَوْتِ) من شدة الجبن ، الذي خلع قلوبهم ، والقلق الذي أذهلهم ، وخوفا من إجبارهم على ما يكرهون من القتال. (فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ) وصاروا في حال الأمن والطمأنينة. (سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) أي : خاطبوكم ، وتكلموا معكم ، بكلام حديد ، ودعاوى غير صحيحة. وحين تسمعهم ، تظنهم أهل الشجاعة والإقدام ، (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) الذي يراد منهم. وهذا شر ما في الإنسان ، أن يكون شحيحا بما أمر به ، شحيحا بماله أن ينفقه في وجهه ، شحيحا في بدنه أن يجاهد أعداء الله ، أو يدعو إلى سبيل الله ، شحيحا بجاهه ، شحيحا بعلمه ، ونصيحته ، ورأيه. (أُولئِكَ) الّذين بتلك الحالة (لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ) بسبب عدم إيمانهم ، (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً). وأما المؤمنون ، فقد وقاهم الله ، شح أنفسهم ، ووفقهم لبذل ما أمروا به ، من بذل أبدانهم في القتال في سبيله ، وإعلاء كلمته ، وأموالهم ، للنفقة في طرق الخير ، وجاههم وعلمهم. (يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا) أي : يظنون أن هؤلاء الأحزاب ، الّذين

٧٤٠