تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي

تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

المؤلف:

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ١١٣٥

الله. ما جعلهم الله موكلين فيه ، ذكر قوتهم على ذلك ، وسرعة سيرهم ، بأن جعلهم (أُولِي أَجْنِحَةٍ) تطير بها ، فتسرع بتنفيذ ما أمرت به. (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) أي : منهم من له جناحان ، وثلاثة ، وأربعة ، بحسب ما اقتضته حكمته ، (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) أي : يزيد بعض مخلوقاته على بعض ، في صفة خلقها ، وفي القوة ، وفي الحسن ، وفي زيادة الأعضاء المعهودة ، وفي حسن الأصوات ، ولذة النغمات. (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فقدرته تعالى ، تأتي على ما يشاؤه ، ولا يستعصي عليها شيء ، ومن ذلك ، زيادة مخلوقاته ، بعضها على بعض. ثمّ ذكر انفراده تعالى ، بالتدبير ، والعطاء ، والمنع فقال : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ) من رحمته عنهم (فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) فهذا يوجب التعلق بالله تعالى ، والافتقار إليه من جميع الوجوه ، وأن لا يدعى إلا هو ، ولا يخاف ويرجى ، إلا هو. (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي قهر الأشياء كلها (الْحَكِيمُ) الذي يضع الأشياء مواضعها وينزلها منازلها.

[٣] يأمر تعالى ، جميع الناس أن يذكروا نعمته عليهم. وهذا شامل لذكرها بالقلب اعترافا ، وباللسان ثناء ، وبالجوارح انقيادا ، فإن ذكر نعمه تعالى ، داع لشكره. ثمّ نبههم على أصول النعم ، وهي : الخلق ، والرزق فقال : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ). ولما كان من المعلوم ، أنه ليس أحد يخلق ويرزق إلا الله ، نتج من ذلك ، أن كان ذلك ، دليلا على ألوهيته وعبوديته ، ولهذا قال : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي : تصرفون عن عبادة الخالق الرازق لعبادة المخلوق المرزوق.

[٤] (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) يا أيها الرسول ، فلك أسوة بمن قبلك من المرسلين. (فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) فأهلك المكذبون ، ونجّى الله الرسل وأتباعهم. (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) في الآخرة ، فيجازي المكذبين ، وينصر المرسلين وأتباعهم.

[٥ ـ ٦] يقول تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بالبعث ، والجزاء على الأعمال (حَقٌ) أي : لا شك فيه ، ولا مرية ، ولا تردد ، قد دلت على ذلك الأدلة السمعية ، والبراهين العقلية. فإذا كان وعده حقا ، فتهيؤوا له وبادروا أوقاتكم الشريفة ، بالأعمال الصالحة ، ولا يقطعكم عن ذلك قاطع. (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) بلذاتها وشهواتها ، ومطالبها النفسية ، فتلهيكم عمّا خلقتم له. (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) الذي هو : (الشَّيْطانَ) وهو (لَكُمْ عَدُوٌّ) في الحقيقة (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) أي : لتكن منكم عداوته ، ولا تهملوا محاربته كلّ وقت ، فإنه يراكم ، وأنتم لا ترونه ، وهو دائما لكم بالمرصاد. (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) هذا غايته ومقصود ممن تبعه ، أن يهان غاية الإهانة ، بالعذاب الشديد.

[٧] ثمّ ذكر أن الناس ، انقسموا بحسب طاعة الشيطان وعدمها ، إلى قسمين ، وذكر جزاء كلّ منهما فقال : (الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : جحدوا ما جاءت به الرسل ، ودلت عليه الكتب (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) في نار جهنم ، شديد في ذاته ، ووصفه ، وأنهم خالدون فيها أبدا. (وَالَّذِينَ آمَنُوا) بقلوبهم ، بما دعا الله إلى الإيمان به (وَعَمِلُوا) بمقتضى

٨٢١

ذلك الإيمان ، بجوارحهم ، الأعمال (الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لذنوبهم ، ويزول بها عنهم الشر والمكروه (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) يحصل به المطلوب.

[٨] يقول تعالى : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) القبيح ، زينه له الشيطان ، وحسنه في عينه ، (فَرَآهُ حَسَناً) أي : كمن هداه الله إلى الصراط المستقيم ، والدين القويم ، فهل يستوي هذا وهذا؟ فالأول : عمل السيّء ، ورأى الحقّ باطلا ، والباطل حقا. والثاني : عمل الحسن ، ورأى الحقّ حقا ، والباطل باطلا. ولكن الهداية والإضلال بيد الله تعالى. (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ) أي : على الضالين الّذين زيّن لهم سوء أعمالهم ، وصدّهم الشيطان عن الحقّ (حَسَراتٍ) أي : فلا تهلك نفسك حزنا على الضالين وحسرة عليهم. فليس عليك إلا البلاغ ، وليس عليك من هداهم من شيء ، والله هو الذي يجازيهم بأعمالهم (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) فيجازيهم عليها.

[٩] يخبر تعالى عن كمال اقتداره ، وسعة جوده ، وأنه الذي (أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ) فأنزله الله عليها (فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها). فحييت البلاد والعباد ، وارتزقت الحيوانات ، ورتعت في تلك الخيرات. (كَذلِكَ) الذي أحيا الأرض بعد موتها ، ينشر الأموات من قبورهم ، بعد ما مزقهم البلاء ، فيسوق إليهم مطرا ، كما ساقه إلى الأرض الميتة ، فينزله عليهم فتحيا الأجساد والأرواح من القبور ، ويكون (النُّشُورُ) فيأتون للقيام بين يدي الله ليحكم بينهم ، ويفصل بحكمه العدل.

[١٠] أي : يا من يريد العزة ، اطلبها ممن هي بيده ، فإن العزة بيد الله ، ولا تنال إلا بطاعته. وقد ذكرها بقوله : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) من قراءة ، وتسبيح ، وتحميد ، وتهليل ، وكلّ كلام حسن طيب ، فيرفع إلى الله ، ويعرض عليه ، ويثني الله على صاحبه ، بين الملأ الأعلى ، (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ) من أعمال القلوب وأعمال الجوارح (يَرْفَعُهُ) الله تعالى إليه أيضا ، كالكلم الطيب. وقيل : العمل الصالح يرفع الكلم الطيب ، فيكون رفع الكلم الطيب بحسب أعمال العبد الصالحة ، فهي الّتي ترفع كلمه الطيب. فإذا لم يكن له عمل صالح ، لم يرفع له قول إلى الله تعالى. فهذه الأعمال الّتي ترفع إلى الله تعالى ، ويرفع الله صاحبها ويعزه. وأما السيّئات ، فإنها بالعكس ، يريد صاحبها الرفعة بها ، ويمكر ويكيد ويعود ذلك عليه ، ولا يزداد إلا هوانا ، ونزولا ، ولهذا قال : (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) يهانون فيه غاية الإهانة. (وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) أي : يهلك ويضمحل ، ولا يفيدهم شيئا ، لأنه مكر بالباطل ، لأجل الباطل.

[١١] يذكر تعالى خلقه الآدمي ، وتنقله في هذه الأطوار ، من تراب إلى نطفة وما بعدها. (ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) أي : لم يزل ينقلكم ، طورا بعد طور ، حتى أوصلكم إلى أن كنتم أزواجا ، ذكر يتزوج أنثى ، ويراد بالزواج ، الذرية والأولاد. فهو وإن كان النكاح من الأسباب فيه ، فإنه مقترن بقضاء الله وقدره وعلمه. (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) وكذلك أطوار الآدمي ، كلها ، بعلمه وقضائه. (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) أي : عمر الذي كان معمرا عمرا طويلا (إِلَّا) بعلمه تعالى. أو ما ينقص من عمر الإنسان الذي هو بصدد أن يصل إليه ، لو لا ما

٨٢٢

سلكه من أسباب قصر العمر ، كالزنا ، وعقوق الوالدين ، وقطيعة الأرحام ، ونحو ذلك ، مما ذكر أنها من أسباب قصر العمر. والمعنى : أن طول العمر وقصره ، بسبب ، وبغير سبب ، كله بعلمه تعالى ، وقد أثبت ذلك (فِي كِتابٍ) حوى ما يجري على العبد ، في جميع أوقاته ، وأيام حياته. (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أي : إحاطة علمه بتلك المعلومات الكثيرة ، وإحاطة كتابه بها. فهذه ثلاثة أدلة ، من أدلة البعث والنشور ، كلها عقلية ، نبه الله عليها في هذه الآيات : إحياء الأرض بعد موتها ، وأن الذي أحياها سيحيي الموتى ، وتنقل الآدمي في تلك الأطوار. فالذي أوجده ونقله ، طبقا بعد طبق ، وحالا بعد حال ، حتى بلغ ما قدر له ، فهو على إعادته وإنشائه النشأة الأخرى أقدر ، وهو أهون عليه ، وإحاطة علمه بجميع أجزاء العالم ، العلوي ، والسفلي ، دقيقها ، وجليلها ، الذي في القلوب ، والأجنّة الّتي في البطون ، وزيادة الأعمار ونقصها ، وإثبات ذلك كله في كتاب. فالذي كان هذا يسيرا عليه ، فإعادته للأموات ، أيسر وأيسر. فتبارك من كثر خيره ، ونبه عباده على ما فيه صلاحهم ، في معاشهم ، ومعادهم.

[١٢] هذا إخبار عن قدرته ، وتوالي حكمته ، ورحمته أنه جعل البحرين لمصالح العالم الأرضي كلهم ، وأنه لم يسوّ بينهما ، لأن المصلحة تقتضي أن تكون الأنهار ، عذبة فراتا ، سائغا شرابها ، لينتفع بها الشاربون ، والغارسون ، والزارعون. وأن يكون البحر ، ملحا أجاجا ، لئلا يفسد الهواء المحيط بالأرض ، بروائح ما يموت في البحر ، من الحيوانات ، ولأنه ساكن لا يجري ، فملوحته تمنعه من التغير ، ولتكون حيواناته ، أحسن وألذ ، ولهذا قال : (وَمِنْ كُلٍ) من البحر الملح والعذاب (تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا) وهو السمك المتيسر صيده في البحر. (وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) من لؤلؤ ، ومرجان ، وغيره ، مما يوجد في البحر. فهذه مصالح عظيمة للعباد. ومن المصالح أيضا والمنافع في البحر ، أن سخره الله تعالى لحمل الفلك ، من السفن ، والمراكب ، فتراها تمخر البحر وتشقه ، فتسلك من إقليم إلى إقليم آخر ، ومن محل إلى محل ، فتحمل السائرين وأثقالهم ، وتجاراتهم ، فيحصل بذلك من فضل الله وإحسانه ، شيء كثير ، ولهذا قال : (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) على النّعم المتقدم ذكرها.

[١٣] ومن ذلك أيضا إيلاجه تعالى الليل بالنهار ، والنهار بالليل ، يدخل هذا على هذا ، كلما أتى أحدهما ، ذهب الآخر ، ويزيد أحدهما ، وينقص الآخر ، ويتساويان فيقوم بذلك ، ما يقوم من مصالح العباد في أبدانهم ، وحيواناتهم وأشجارهم ، وزروعهم. وكذلك ما جعل الله في تسخير الشمس والقمر ، من مصالح الضياء والنور والحركة والسكون. وانتشار العباد في طلب فضله ، وما فيها من إنضاج الثمار وتجفيف ما يجفف ، وغير ذلك ، مما هو من الضروريات ، الّتي لو فقدت للحق الناس الضرر. وقوله : (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي : كل من الشمس والقمر ، يسيران في فلكهما ، ما شاء الله أن يسيرا. فإذا جاء الأجل ، وقرب انقضاء الدنيا ، انقطع سيرهما ، وتعطل سلطانهما وخسف القمر ، وكورت الشمس ، وانتثرت النجوم. فلما بيّن تعالى ما بيّن من هذه المخلوقات العظيمة ، وما فيها من العبر الدالة على كماله وإحسانه ، قال : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ) أي : الذي انفرد بخلق هذه المذكورات وتسخيرها ، هو الرب المألوه المعبود ، الذي له الملك كله. (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) من الأوثان والأصنام (ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) أي : لا يملكون شيئا ، لا قليلا ، ولا كثيرا ؛ حتى ولا القطمير الذي هو أحقر الأشياء. وهذا من تنصص النفي وعمومه ، فكيف يدعون ، وهم غير مالكين لشيء ، من ملك السموات والأرض؟

[١٤] ومع هذا (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ) لأنهم ما بين جماد وأموات وملائكة مشغولين بطاعة ربهم. (وَلَوْ سَمِعُوا) على وجه الفرض والتقدير (مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) لأنهم لا يملكون شيئا ، ولا يرضى أكثرهم بعبادة من عبده ، ولهذا قال : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) أي : يتبرؤون منكم ؛ ويقولون : (سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ). (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) أي : لا أحد ينبئك ؛ أصدق من الله العليم الخبير. فاجزم بأن هذا الأمر ، الذي نبأ به ؛ كأنه رأي عين ، فلا تشك ولا تمتر. فتضمنت هذه الآيات ، الأدلة والبراهين ، الساطعة ، والدالة على أنه تعالى

٨٢٣

المألوه المعبود ، الذي لا يستحق شيئا من العبادة سواه ، وأن عبادة ما سواه باطلة متعلقة بباطل ، لا تفيد عابده شيئا.

[١٥] يخاطب تعالى ، جميع الناس ، ويخبرهم بحالهم ووصفهم ، وأنهم فقراء إلى الله من جميع الوجوه : فقراء في إيجادهم ، فلو لا إيجاده إياهم ، لم يوجدوا. فقراء في إعدادهم ، بالقوى ، والأعضاء ، والجوارح ، الّتي لو لا إعداده إياهم بها ، لما استعدوا لأي عمل كان. فقراء في إمدادهم ، بالأقوات ، والأرزاق والنعم ، الظاهرة والباطنة. فلو لا فضله وإحسانه ، وتيسيره الأمور ، لما حصل لهم من الرزق والنّعم ، شيء. فقراء في صرف النقم عنهم ، ودفع المكاره ، وإزالة الكروب والشدائد. فلو لا دفعه عنهم ، وتفريجه لكرباتهم ، وإزالته لعسرهم ، لاستمرت عليهم المكاره والشدائد. فقراء إليه في تربيتهم بأنواع التربية ، وأجناس التدبير. فقراء إليه ، في تألههم له وحبهم له ، وتعبدهم ، وإخلاص العبادة له تعالى. فلو لم يوفقهم لذلك ، لهلكوا ، وفسدت أرواحهم ، وقلوبهم ، وأحوالهم. فقراء إليه ، في تعليمهم ما لا يعلمون ، وعملهم بما يصلهم. فلو لا تعليمه ، لم يتعلموا ، ولو لا توفيقه ، لم يصلحوا. فهم فقراء بالذات إليه ، بكل معنى ، وبكل اعتبار ، سواء شعروا ببعض أنواع الفقر ، أم لم يشعروا. ولكن الموفق منهم ، الذي لا يزال يشاهد فقره في كلّ حال من أمور دينه ودنياه ، ويتضرع له ، ويسأله أن لا يكله إلى نفسه طرفة عين ، وأن يعينه على جميع أموره ، ويستصحب هذا المعنى فى كلّ وقت ، فهذا حريّ بالإعانة التامة من ربه وإلهه ، الذي هو أرحم به من الوالدة بولدها. (وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) أي : الذي له الغنى التام ، من جميع الوجوه ، فلا يحتاج إلى ما يحتاج إليه خلقه ، ولا يفتقر إلى شيء مما يفتقر إليه الخلق ، وذلك لكمال صفاته ، وكونها كلها صفات كمال ، ونعوت جلال. ومن غناه تعالى ، أن قد أغنى الخلق في الدنيا والآخرة. فهو الحميد في ذاته ، وأسمائه ، لأنها حسنى ، وأوصافه ، لكونها عليا ، وأفعاله ، لأنها فضل وإحسان ، وعدل ، وحكمة ، ورحمة. وفي أوامره ونواهيه ، فهو الحميد على ما فيه من الصفات ، وعلى ما منه من الفضل والإنعام ، وعلى الجزاء بالعدل ، وهو الحميد في غناه ، الغني في حمده.

[١٦ ـ ١٧] (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) (١٦) يحتمل أن المراد : إن يشأ يذهبكم أيها الناس ، ويأت بغيركم من الناس ، أطوع لله منكم. ويكون في هذا ، تهديد لهم بالهلاك والإبادة ، وأن مشيئته غير قاصرة عن ذلك. ويحتمل أن المراد بذلك ، إثبات البعث والنشور ، وأن مشيئة الله تعالى ، نافذة في كلّ شيء ، وفي إعادتكم بعد موتكم ، خلقا جديدا ، ولكن لذلك الوقت أجل ، قدّره الله ، لا يتقدم عنه ولا يتأخر.

[١٧] (وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) (١٧) أي : بممتنع ، ولا معجز له.

[١٨] ويدل على المعنى الأخير ، ما ذكره بعده في قوله : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي : في يوم القيامة كل أحد يجازى بعمله ، ولا يحمل أحد ذنب أحد. (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ) أي : نفس مثقلة بالخطايا والذنوب (إِلى حِمْلِها) أي : تستغيث بمن يحمل عنها بعض أوزارها (لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) فإنه لا يحمل قريب عن قريب.

٨٢٤

فليست حال الآخرة ، بمنزلة حال الدنيا ، يساعد الحميم حميمه ، والصديق صديقه. بل يوم القيامة ، يتمنى العبد أن يكون له حق على أحد ، ولو على والديه وأقاربه. (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أي : هؤلاء الذين يقبلون النذارة ، وينتفعون بها ، هم أهل الخشية لله بالغيب ، الذين يخشونه في حال السر والعلانية ، والمشهد والمغيب ، وأهل إقامة الصلاة ، بحدودها ، وشروطها ، وأركانها ، وواجباتها ، وخشوعها. لأن الخشية لله تستدعي من العبد ، العمل بما يخشى من تضييعه العقاب والهرب مما يخشى من ارتكابه العذاب. والصلاة تدعو إلى الخير ، وتنهى عن الفحشاء والمنكر. (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) أي : ومن زكى نفسه بالتنقّي من العيوب ، كالرياء والكبر ، والكذب والغش ، والمكر والخداع ، والنفاق ، ونحو ذلك من الأخلاق الرذيلة ، وتحلّى بالأخلاق الجميلة ، من الصدق ، والإخلاص ، والتواضع ، ولين الجانب ، والنصح للعباد ، وسلامة الصدر ، من الحقد والحسد ، وغيرهما من مساوئ الأخلاق ، فإن تزكيته ، يعود نفعها إليه ، ويصل مقصودها إليه ، ليس يضيع من عمله شيء. (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) فيجازي الخلائق على ما أسلفوه ، ويحاسبهم على ما قدموه وعملوه ، ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة ، إلا أحصاها.

[١٩ ـ ٢٢] يخبر تعالى أنه لا يتساوى الأضداد في حكمة الله ، وفيما أودعه في فطر عباده. (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى) فاقد البصر (وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ (٢٠) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ). فكما أنه من المتقرر عندكم ، الذي لا يقبل الشك ، أن هذه المذكورات لا تتساوى ، فكذلك فلتعلموا أن عدم تساوي المتضادات المعنوية ، أولى وأولى. فلا يستوي المؤمن والكافر ، ولا المهتدي والضال ، ولا العالم والجاهل ، ولا أصحاب الجنة وأصحاب النار ، ولا أحياء القلوب وأمواتها ، فإن بين هذه الأشياء من التفاوت والفرق ، ما لا يعلمه إلا الله تعالى. فإذا علمت المراتب ، وميزت الأشياء ، وبان الذي ينبغي أن يتنافس في تحصيله من ضده ، فليختر الحازم لنفسه ، ما هو أولى به ، وأحق بالإيثار. (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ) سماع فهم وقبول ، لأنه تعالى هو الهادي الموفق (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) أي : أموات القلوب. أو كما أن دعاءك لا يفيد سكان القبور شيئا ، كذلك لا يفيد المعرض المعاند شيئا. ولكن وظيفتك النذارة ، وإبلاغ ما أرسلت به ، قبل منك أم لا.

[٢٣ ـ ٢٤] ولهذا قال : (إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (٢٣) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِ) أي : مجرد إرسالنا إياك بالحق ، لأنّ الله تعالى بعثك على حين فترة من الرسل ، وطموس من السبل ، واندراس من العلم ، وضرورة عظيمة إلى بعثك ، فبعثك الله رحمة للعالمين. وكذلك ما بعثناك به من الدين القويم ، والصراط المستقيم ، حق لا باطل. وكذلك ما أرسلناك به ، من هذا القرآن العظيم ، وما اشتمل عليه من الذكر الحكيم ، حق وصدق. (بَشِيراً) لمن أطاعك بثواب الله ، العاجل والآجل. (وَنَذِيراً) لمن عصاك ، بعقاب الله العاجل والآجل ، ولست ببدع من الرسل. (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ) من الأمم الماضية والقرون الخالية (إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) يقيم عليهم حجة الله (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ).

٨٢٥

[٢٥] أي وإن يكذبك أيها الرسول ، هؤلاء المشركون ، فلست أوّل رسول كذّب. (فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) على الحقّ ، وعلى صدقهم ، فيما أخبروهم به (وَبِالزُّبُرِ) أي : الكتب المكتوبة ، المجموع فيها كثير من الأحكام. (وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) أي : المضيء في أخباره الصادقة ، وأحكامه العادلة. فلم يكن تكذيبهم إياهم ناشئا عن اشتباه ، أو قصور بما جاءتهم به الرسل ، بل بسبب ظلمهم وعنادهم.

[٢٦] (ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا) بأنواع العقوبات (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) عليهم؟ كان أشد النكير وأعظم التنكيل. فإياكم وتكذيب هذا الرسول الكريم ، فيصيبكم كما أصاب أولئك ، من العذاب الأليم ، والخزي الوخيم.

[٢٧ ـ ٢٨] يذكر تعالى خلقه للأشياء والمتضادات ، الّتي أصلها واحد ، ومادتها واحدة ، وفيها من التفاوت والفرق ، ما هو مشاهد معروف ، ليدل العباد ، على كمال قدرته ، وبديع حكمته. فمن ذلك : أن الله تعالى أنزل من السماء ماء ، فأخرج به من الثمرات المختلفات ، والنباتات المتنوعات ، ما هو مشاهد للناظرين ، والماء واحد ، والأرض واحدة. ومن ذلك : الجبال الّتي جعلها الله أوتادا للأرض ، تجدها جبالا مشتبكة ، بل جبلا واحدا. وفيها ألوان متعددة ، فيها جدد بيض أي : طرائق بيض ، وفيها طرائق صفر وحمر ، وفيها غرابيب سود أي : شديدة السواد جدا. ومن ذلك : الناس والدواب ، والأنعام ، فيها من اختلاف الألوان والأوصاف ، والأصوات ، والهيئات ، ما هو مرئي بالأبصار ، مشهود للنظار ، والكل من أصل واحد ومادة واحدة. فتفاوتها دليل عقلي على مشيئة الله تعالى ، الّتي خصصت ما خصصت منها ، بلونه ، ووصفه ، وقدرة الله تعالى حيث أوجدها كذلك ، وحكمته ورحمته ، حيث كان ذلك الاختلاف ، وذلك التفاوت ، فيه من المصالح والمنافع ، ومعرفة الطرق ، ومعرفة الناس بعضهم بعضا ، ما هو معلوم. وذلك أيضا ، دليل على سعة علم الله تعالى ، وأنه يبعث من في القبور. ولكن الغافل ، ينظر في هذه الأشياء وغيرها ، نظر غفلة ، لا تحدث له تذكرا. وإنّما ينتفع بها من يخشى الله تعالى ، ويعلم بفكره الصائب ، وجه الحكمة فيها. ولهذا قال : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) فكل من كان بالله أعلم ، كان أكثر له خشية. وأوجبت له خشية الله الانكفاف عن المعاصي ، والاستعداد للقاء من يخشاء. وهذا دليل على فضيلة العلم ، فإنه داع إلى خشية الله. وأهل خشيته ، هم أهل كرامته كما قال تعالى : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ). (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) كامل العزة ، ومن عزته خلق هذه المخلوقات المتضادات. (غَفُورٌ) لذنوب التائبين.

[٢٩] (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) أي : يتبعونه في أوامره ، فيمتثلونها ، وفي نواهيه ، فيتركونها ، وفي أخباره ، فيصدقونها ويعتقدونها ، ولا يقدمون عليه ما خالفه من الأقوال. ويتلون أيضا ألفاظه ، بدراسته ، ومعانيه ، بتتبعها واستخراجها. ثمّ خص من التلاوة بعد ما عمّم ، الصلاة الّتي هي عماد الدين ، ونور المسلمين ، وميزان الإيمان ، وعلامة صدق الإسلام ، والنفقة على الأقارب والمساكين ، واليتامى ، وغيرهم ، من الزكاة والكفارات ، والنذور ، والصدقات (سِرًّا وَعَلانِيَةً) في جميع الأوقات. (يَرْجُونَ) بذلك (تِجارَةً لَنْ تَبُورَ) أي : لن تكسد وتفسد. بل تجارة ، هي أجل التجارات ، وأعلاها ، وأفضلها ، ألا وهي رضا ربهم ، والفوز بجزيل ثوابه ، والنجاة من سخطه وعقابه. وهذا فيه الإخلاص بأعمالهم ، وأنهم لا يرجون بها ، من المقاصد السيئة ، والنيات الفاسدة شيئا.

[٣٠] وذكر أنهم حصل لهم ما رجوه فقال : (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ) أي : أجور أعمالهم ، وعلى حسب قلتها ، وكثرتها ، وحسنها ، وعدمه (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) زيادة عن أجورهم. (إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) غفر لهم السيئات ، وقبل منهم القليل من الحسنات.

[٣١] يذكر تعالى أن الكتاب الذي أوحاه إلى رسوله (هُوَ الْحَقُ) من كثرة ما اشتمل عليه ، من الحقّ ، وإحاطته بأصوله ، كأن الحقّ منحصر فيه ، فلا يكن في قلوبكم حرج منه ، ولا تتبرموا منه ، ولا تستهينوا به. فإذا كان هو

٨٢٦

الحقّ ، لزم أن كلّ ما دل عليه من المسائل الإلهية والغيبية وغيرها ، مطابق لما في الواقع ، فلا يجوز أن يراد به ، ما يخالف ظاهره ، وما دل عليه. (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب والرسل ، لأنها أخبرت به ، فلما وجد وظهر ، ظهر به صدقها. فهي بشرت به وأخبرت ، وهو مصدقها ، ولهذا لا يمكن أحدا ، أن يؤمن بالكتب السابقة ، وهو كافر بالقرآن أبدا. لأن كفره به ينقض إيمانه بها ، لأن من جملة أخبارها الخبر عن القرآن ، ولأن أخبارها مطابقة لأخبار القرآن. (إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) فيعطي كلّ أمة ، وكلّ شخص ، ما هو اللائق بحاله. ومن ذلك ، أن الشرائع السابقة ، لا تليق إلا بوقتها وزمانها. ولهذا ، ما زال الله يرسل الرسل رسولا بعد رسول ، حتى ختمهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فجاء بهذا الشرع ، الذي يصلح لمصالح الخلق إلى يوم القيامة ويتكفل بما هو الخير في كلّ وقت. ولهذا لما كانت هذه الأمة ، أكمل عقولا ، وأحسنهم أفكارا ، وأرقهم قلوبا وأزكاهم أنفسا. اصطفاهم تعالى ، واصطفى لهم دين الإسلام ، وأورثهم الكتاب المهيمن على سائر الكتب ، ولهذا قال :

[٣٢] (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) وهم هذه الأمة. (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) بالمعاصي ، الّتي هي دون الكفر. (وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) مقتصر على ما يجب عليه ، تارك للمحرم. (وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) أي : سارع فيها واجتهد ، فسبق غيره ، وهو المؤدي للفرائض ، المكثر من النوافل ، التارك للمحرم والمكروه. فكلهم اصطفاه الله تعالى ، لوراثة هذا الكتاب ، وإن تفاوتت مراتبهم ، وتميزت أحوالهم. فلكل منهم ، قسط من وراثته ، حتى الظالم لنفسه ، فإن ما معه من أصل الإيمان ، وعلوم الإيمان ، وأعمال الإيمان ، من وراثة الكتاب. لأن المراد بوراثة الكتاب ، وراثة علمه وعمله ، ودراسة ألفاظه ، واستخراج معانيه. وقوله : (بِإِذْنِ اللهِ) راجع إلى السابق إلى الخيرات ، لئلا يغتر بعمله ، بل ما سبق إلى الخيرات إلا بتوفيق الله تعالى ومعونته ، فينبغي له أن يشتغل بشكر الله تعالى ، على ما أنعم به عليه. (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) أي : وراثة الكتاب الجليل ، لمن اصطفى تعالى من عباده ، هو الفضل الكبير ، الذي جميع النّعم بالنسبة إليه ، كالعدم. فأجل النعم على الإطلاق ، وأكبر الفضل ، وراثة الكتاب.

[٣٣] ثمّ ذكر جزاء الّذين أورثهم الكتاب فقال : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) أي : جنات مشتملات ، على الأشجار ، والظل الظليل ، والحدائق الحسنة ، والأنهار المتدفقة ، والقصور العالية ، والمنازل المزخرفة ، في أبد لا يزول ، وعيش لا ينفد. والعدن «الإقامة» فجنات عدن أي : جنات إقامة ، أضافها للإقامة ، لأن الإقامة والخلود وصفها ووصف أهلها. (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) وهو الحلي الذي يجعل في اليدين ، على ما يحبون ، ويرون أنه أحسن من غيره ، الرجال والنساء في الحلية في الجنة سواء. (وَ) يحلون فيها (لُؤْلُؤاً) ينظم في ثيابهم وأجسادهم. (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) من سندس ، ومن إستبرق أخضر.

[٣٤] (وَ) لما تم نعيمهم ، وكملت لذتهم (قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) وهذا يشمل كلّ حزن ، فلا

٨٢٧

حزن يعرض لهم بسبب نقص في جمالهم ، ولا في طعامهم وشرابهم ، ولا في لذاتهم ولا في أجسادهم ، ولا في دوام لبثهم. فهم في نعيم ، ما يرون عليه مزيدا ، وهو في تزايد أبد الآباد. (إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ) حيث غفر لنا الزلات (شَكُورٌ) حيث قبل منا الحسنات ، وضاعفها ، وأعطانا من فضله ، ما لم تبلغه أعمالنا ولا أمانينا ؛ فبمغفرته نجوا من كل مكروه ومرهوب ، وبشكره وفضله ، حصل لهم كل مرغوب محبوب.

[٣٥] (الَّذِي أَحَلَّنا) أي : أنزلنا نزول حلول واستقرار ، لا نزول معبر واعتبار. (دارَ الْمُقامَةِ) أي : الدار الّتي تدوم فيها الإقامة ، والدار الّتي يرغب في المقام فيها ، لكثرة خيراتها ، وتوالي مسراتها ، وزوال كدوراتها. وذلك الإحلال (مِنْ فَضْلِهِ) علينا ، وكرمه ، لا بأعمالنا ؛ فلو لا فضله ، لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه. (لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) أي : لا تعب في الأبدان ولا في القلب والقوى ، ولا في كثرة التمتع. وهذا يدل ، على أن الله تعالى يجعل أبدانهم ، في نشأة كاملة ، ويهيّىء لهم من أسباب الراحة على الدوام ، ما يكونون بهذه الصفة ، بحيث لا يمسهم نصب ولا لغوب ، ولا هم ولا حزن. ويدل على أنهم لا ينامون في الجنة ؛ لأن النوم فائدته ، زوال التعب ، وحصول الراحة به ، وأهل الجنة بخلاف ذلك. ولأنه موت أصغر ، وأهل الجنة لا يموتون ، جعلنا الله منهم ، بمنه وكرمه.

[٣٦ ـ ٣٧] لما ذكر تعالى حال أهل الجنة ونعيمهم ، ذكر حال أهل النار وعذابهم فقال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) أي : جحدوا ما جاءتهم به رسلهم من الآيات ، وأنكروا لقاء ربهم. (لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ) يعذبون فيها أشد العذاب ، وأبلغ العقاب. (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ) بالموت (فَيَمُوتُوا) فيستريحوا. (وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) فشدة العذاب وعظمه ، مستمر عليهم في جميع الآناء واللحظات. (كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) أي : كذلك نجزي به كلّ متماد في الكفر ، مصر عليه (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها) أي : يصرخون ويتصايحون ويستغيثون ويقولون : (رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ). فاعترفوا بذنبهم ، وعرفوا أن الله عدل فيهم ، ولكن سألوا الرجعة في غير وقتها. فقال لهم : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما) أي : دهرا وعمرا (يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) أي : يتمكن فيه من أراد التذكر من العمل ، متعناكم في الدنيا ، وأدررنا عليكم الأرزاق ، وقيضنا لكم أسباب الراحة ، ومددنا لكم في العمر ، وتابعنا عليكم الآيات (وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) وواصلنا إليكم النذر ، وابتليناكم بالسراء والضراء ، لتنيبوا إلينا ، وترجعوا إلينا. فلم ينجع فيكم إنذار ، ولم تفد فيكم موعظة ، وأخرنا عنكم العقوبة ، حتى إذا انقضت آجالكم ، وتمت أعماركم ، ورحلتم عن دار الإمكان ، بأشرّ الحالات ، ووصلتم إلى هذه الدار ، دار الجزاء على الأعمال ، سألتم الرجعة. هيهات هيهات ، فات وقت الإمكان ، وغضب عليكم الرحيم الرحمن ، واشتد عليكم عذاب النار ، ونسيكم أهل الجنة ، فامكثوا في جهنم ، خالدين مخلدين ، وفي العذاب مهانين ، ولهذا قال : (فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) ينصرهم ، فيخرجهم منها ، أو يخفف عنهم من عذابها.

٨٢٨

[٣٨] لما ذكر تعالى جزاء أهل الدارين ، وذكر أعمال الفريقين ، أخبر عن سعة علمه تعالى ، واطلاعه على غيب السموات والأرض ، الّتي غابت عن أبصار الخلق ، وعن علمهم ، وأنه عالم بالسرائر ، وما تنطوي عليه الصدور ، من الخير والشر ، والزكاء وغيره ، فيعطي كلا ما يستحقه ، وينزل كلّ أحد منزلته.

[٣٩] يخبر تعالى عن كمال حكمته ، ورحمته بعباده ، أنه قدر بقضائه السابق ، أن يجعل بعضهم ، يخلف بعضا في الأرض ، ويرسل لكلّ أمة من الأمم النذر ، فينظر كيف يعملون ؛ فمن كفر بالله ، وبما جاءت به رسله ، فإن كفره عليه ، وعليه إثمه وعقوبته ، ولا يحمل عنه أحد ، ولا يزداد الكافر بكفره ، إلا مقت ربه له ، وبغضه إياه. وأي عقوبة ، أعظم من مقت الرب الكريم؟ (وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً) أي : يخسرون أنفسهم ، وأهليهم ، وأعمالهم ، ومنازلهم في الجنة. فالكافر لا يزال في زيادة من الشقاء والخسران ، والخزي عند الله وعند خلقه والحرمان.

[٤٠] يقول تعالى ، معجّزا لآلهة المشركين ، ومبينا نقصها ، وبطلان شركهم من جميع الوجوه. (قُلْ) يا أيها الرسول لهم : (أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي : أخبروني عنهم ، هل هم مستحقون للدعاء والعبادة. (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) هل خلقوا بحرا ، أم خلقوا جبالا ، أو خلقوا حيوانا ، أو خلقوا جمادا؟ سيقرون أن الخالق لجميع الأشياء ، هو الله تعالى. (أَمْ لَهُمْ) أي : لشركائكم (شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) أي : مشاركة في خلقها وتدبيرها؟ سيقولون : ليس لهم شركة في ذلك. فإذا لم يخلقوا شيئا ، ولم يشركوا الخلق في خلقه ، فلم عبدتموهم ، ودعوتموهم مع إقراركم بعجزهم؟ فانتفى الدليل العقلي ، على صحة عبادتهم ، ودلّ على بطلانها. ثمّ ذكر الدليل السمعي ، وأنه أيضا منتف ، فلهذا قال : (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً) يتكلم بما كانوا به يشركون ، يأمرهم بالشرك ، وعبادة الأوثان. (فَهُمْ) في شركهم (عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ) أي : من ذلك الكتاب الذي نزل عليهم في صحة الشرك؟ ليس الأمر كذلك؟ فإنهم ما نزل عليهم كتاب قبل القرآن ، ولا جاءهم نذير قبل رسول الله ، محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولو قدر نزول كتاب إليهم ، وإرسال رسول إليهم ، وزعموا أنه أمرهم بشركهم ، فإنا نجزم بكذبهم ، لأن الله قال : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (٢٥). فالرسل والكتب ، كلها متفقة على الأمر بإخلاص الدين لله تعالى (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ). فإن قيل : إذا كان الدليل العقلي ، والدليل النقلي ، قد دلّا على بطلان الشرك ، فما الذي حمل المشركين على الشرك ، وفيهم ذوو العقول والذكاء والفطنة؟ أجاب تعالى بقوله : (بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً) أي : ذلك الذي مشوا عليه ، ليس لهم فيه حجة ، وإنّما ذلك ، توصية بعضهم لبعض به ، وتزيين بعضهم لبعض واقتداء المتأخر بالمتقدم الضال ، وأمانيّ منّاها الشياطين ، وزينت لهم سوء أعمالهم. فنشأت في قلوبهم ، وصارت صفة من صفاتها ، فعسر زوالها ، وتعسر انفصالها ، فحصل ما حصل ، من الإقامة على الكفر ، والشرك الباطل المضمحل.

[٤١] يخبر تعالى ، عن كمال قدرته ، وتمام رحمته ، وسعة حلمه ومغفرته ، وأنه تعالى ، يمسك السموات والأرض عن الزوال ، فإنهما لو زالتا ما أمسكهما أحد من الخلق ، ولعجزت قدرهم وقواهم عنهما. ولكنه تعالى ، قضى أن يكونا كما وجدا ، ليحصل للخلق الاستقرار ، والنفع ، والاعتبار. وليعلموا من عظيم سلطانه ، وقوة قدرته ، ما به تمتلىء قلوبهم له إجلالا وتعظيما ، ومحبة ، وتكريما. وليعلموا كمال حلمه ومغفرته ، بإمهال المذنبين ، وعدم معاجلته للعاصين. مع أنه لو أمر السماء ، لحصبتهم ، ولو أذن للأرض ، لابتلعتهم. ولكن وسعتهم مغفرته ، وحلمه ، وكرمه (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً) في تأخير عقاب الكفار ، (غَفُوراً) لمن تاب.

[٤٢ ـ ٤٣] أي : وأقسم هؤلاء ، الّذين كذبوك يا رسول الله ، قسما اجتهدوا فيه بالأيمان الغليظة. (لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) أي : أهدى من اليهود والنصارى ، أهل الكتب ، فلم يفوا بتلك الأقسام

٨٢٩

والعهود. (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ) لم يهتدوا ، ولم يصيروا أهدى من إحدى الأمم ، بل لم يدوموا على ضلالهم الذي كان. بل (ما زادَهُمْ) ذلك (إِلَّا نُفُوراً) وزيادة ضلال ، وبغي ، وعناد. وليس إقسامهم المذكور ، لقصد حسن ، وطلب للحق ، وإلا لوفقوا له. ولكنه صادر عن استكبار في الأرض على الخلق ، وعلى الحقّ ، وبهرجة في كلامهم هذا ، يريدون به المكر والخداع ، وأنهم أهل الحقّ ، الحريصون على طلبه ، فيغتر بهم المغترون ، ويمشي خلفهم المقتدون. (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ) الذي مقصوده ، مقصود سيّىء ، ومآله وما يرمي إليه ، سيّىء باطل (إِلَّا بِأَهْلِهِ) ، فمكرهم إنّما يعود عليهم. وقد أبان الله لعباده في هذه المقالات ، وتلك الأقسام ، أنهم كذبة في ذلك ومزورون. فاستبان خزيهم ، وظهرت فضيحتهم ، وتبين قصدهم السيّء. فعاد مكرهم في نحورهم ، ورد الله كيدهم في صدورهم. فلم يبق لهم ، إلا انتظار ما يحل بهم من العذاب ، الذي هو سنّة الله في الأولين ، الّتي لا تبدل ولا تغير ، أن كلّ من سار في الظلم ، والعناد ، والاستكبار على العباد ، أن تحل به نقمته ، وتسلب عنه نعمته ، فليترقّب هؤلاء ، ما فعل بأولئك.

[٤٤] يحض تعالى الناس ، على السير في الأرض ، بالقلوب والأبدان ، للاعتبار لا لمجرد النظر والغفلة ، وأن ينظروا إلى عاقبة الّذين من قبلهم ، ممن كذبوا الرسل ، وكانوا أكثر منهم أموالا وأولادا ، وأشد قوة ، وعمروا الأرض أكثر مما عمرها هؤلاء. فلما جاءهم العذاب ، لم تنفعهم قوتهم ، ولم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا ، ونفذت فيهم قدرة الله ومشيئته. (وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) لكمال علمه وقدرته (إِنَّهُ كانَ عَلِيماً) بالأشياء كلها (قَدِيراً) عليها.

[٤٥] ثمّ ذكر تعالى ، كمال حلمه ، وشدة إمهاله وإنظاره ، أرباب الجرائم والذنوب فقال : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا) من الذنوب (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) أي : لاستوعبت العقوبة ، حتى الحيوانات غير المكلفة. (وَلكِنْ) يمهلهم تعالى ولا يهملهم (يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) فيجازيهم بحسب ما علمه منهم ، من خير وشر. تم تفسير سورة فاطر.

تفسير سورة يس

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] هذا قسم من الله تعالى بالقرآن الحكيم ، الذي وصفه الحكمة ، وهي وضع كلّ شيء موضعه : وضع الأمر والنهي ، في المحل اللائق بهما. فأحكامه الشرعية والجزائية كلها مشتملة على غاية الحكمة. ومن حكمة هذا

٨٣٠

القرآن ، أنه يجمع بين ذكر الحكم وحكمته ، فينبه العقول على المناسبات والأوصاف المقتضية لترتيب الحكم عليها.

[٣] (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٣) هذا هو المقسم عليه ، وهو رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنك يا محمد ، من جملة المرسلين ، فلست ببدع من الرسل. وأيضا فجئت بما جاء به الرسل من الأصول الدينية. وأيضا فمن تأمل أحوال المرسلين ، وأوصافهم ، وعرف الفرق بينهم وبين غيرهم ، عرف أنك من خيار المرسلين ، بما فيك من الصفات الكاملة ، والأخلاق الفاضلة. ولا يخفى ما بين المقسم به ، وهو القرآن الحكيم ، وبين المقسم عليه ، وهو رسالة الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من الاتصال ، وأنه لو لم يكن لرسالته دليل ولا شاهد ، إلا هذا القرآن الحكيم ، لكفى به دليلا وشاهدا ، على رسالة محمد. بل القرآن العظيم ، أقوى الأدلة المتصلة المستمرة ، على رسالة الرسول. فأدلة القرآن كلها ، أدلة لرسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

[٤] ثمّ أخبر بأعظم أوصاف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الدالة على رسالته ، وهو أنه (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٤) معتدل موصل إلى الله وإلى دار كرامته. وذلك الصراط المستقيم ، مشتمل على أعمال ، وهي الأعمال الصالحة ، والمصلحة للقلب والبدن ، والدنيا والآخرة ، والأخلاق الفاضلة المزكية للنفس المطهرة للقلب ، المنمية للأجر. فهذا الصراط المستقيم ، الذي هو وصف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ووصف دينه الذي جاء به. فتأمل جلالة هذا القرآن الكريم ، كيف جمع بين القسم بأشرف الأقسام ، على أجل مقسم عليه. وخبر الله وحده كاف ، ولكنه تعالى أقام من الأدلة الواضحة ، والبراهين الساطعة في هذا الموضع ، على صحة ما أقسم عليه ، من رسالة رسوله ، وما نبهنا عليه ، وأشرنا إشارة لطيفة لسلوك طريقه.

[٥] وهذا الصراط المستقيم (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) (٥) فهو الّذين أنزل به كتابه ، وأنزله طريقا لعباده ، موصلا لهم إليه ، فحماه بعزته ، عن التغيير والتبديل ، ورحم به عباده ، رحمة اتصلت بهم ، حتى أوصلتهم إلى دار رحمته. ولهذا ختم الآية بهذين الاسمين الكريمين ، العزيز ، الرحيم.

[٦ ـ ٧] فلما أقسم تعالى على رسالته ، وأقام الأدلة عليها ، ذكر شدة الحاجة إليها واقتضاء الضرورة لها فقال : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ) (٦) وهم العرب الأميون ، الّذين لم يزالوا خالين من الكتب ، عادمين الرسل ، قد عمتهم الجهالة ، وغمرتهم الضلالة. فأرسل الله إليهم رسولا من أنفسهم ، يزكيهم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين. فينذر العرب الأميين ، ومن لحق بهم من كلّ أمي. ويذكر أهل الكتب. بما عندهم من الكتب ، فنعمة الله به على العرب خصوصا ، وعلى غيرهم عموما. ولكن هؤلاء الّذين بعثت لإنذارهم ، بعد ما أنذرتهم ، انقسموا قسمين : قسم رد لما جئت به ، ولم يقبل النذارة ، وهم الّذين قال الله فيهم (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٧) أي : نفذ فيهم القضاء والمشيئة ، أنهم لا يزالون في كفرهم وشركهم. وإنّما حق عليهم القول ، بعد أن عرض عليهم الحقّ فرفضوه ، فحينئذ عوقبوا بالطبع على قلوبهم.

[٨] وذكر الموانع من وصول الإيمان لقلوبهم فقال : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً) هي جمع «غل» و «الغل» ما

٨٣١

يغل به العنق ، فهو للعنق بمنزلة القيد للرجل. وهذه الأغلال ، التي في الأعناق ، عظيمة (فَهِيَ) قد وصلت (إِلَى الْأَذْقانِ) قد رفعت رؤوسهم إلى فوق (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) أي : رافعو رؤوسهم من شدة الغل الذي في أعناقهم ، فلا يستطيعون أن يخفضوها.

[٩] (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) أي : حاجزا يحجزهم عن الإيمان. (فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) قد غمرهم الجهل والشقاء ، من جميع جوانبهم ، فلم تفد فيهم النذارة.

[١٠] (وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (١٠) وكيف يأمن من طبع على قلبه ، ورأى الحق باطلا ، والباطل حقا؟ والقسم الثاني : الذين قبلوا النذارة ، وقد ذكرهم بقوله :

[١١] (إِنَّما تُنْذِرُ) أي : إنما تنفع نذارتك ، ويتعظ بنصحك (مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) أي : من قصده اتباع الحق ، وما ذكر به (وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) أي : من اتصف بهذين الأمرين ، القصد الحسن في طلب الحق ، وخشية الله تعالى ، فهم الذين ينتفعون برسالتك ، ويزكون بتعليمك. ومن وفق لهذين الأمرين (فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ) لذنوبه (وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) لأعماله الصالحة ، ونيته الحسنة.

[١٢] (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى) أي : نبعثهم بعد موتهم لنجازيهم على الأعمال. (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا) من الخير والشر ، وهو : أعمالهم الّتي عملوها وباشروها ، في حال حياتهم. (وَآثارَهُمْ) وهي : آثار الخير ، وآثار الشر ، الّتي كانوا هم السبب في إيجادها ، في حال حياتهم ، وبعد وفاتهم وتلك الأعمال الّتي نشأت من أقوالهم وأفعالهم ، وأحوالهم. فكل خير عمل به أحد من الناس ، بسبب علم العبد ، وتعليمه ، أو نصحه ، أو أمره بالمعروف ، أو نهيه عن المنكر. أو علم أودعه عند المتعلمين ، أو في كتب ينتفع بها في حياته وبعد موته ، أو عمل خيرا ، من صلاة ، أو زكاة ، أو صدقة أو إحسان ، فاقتدى به غيره ، أو عمل مسجدا ، أو محلا من المحال ، الّتي يرتفق بها الناس ، وما أشبه ذلك ، فإنها من آثاره الّتي تكتب له ، وكذلك عمل الشر. ولهذا «من سنّ سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، ومن سنّ سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة». وهذا الموضع ، يبين لك علو مرتبة الدعوة إلى الله ، والهداية إلى سبيله ، بكل وسيلة وطريق موصل إلى ذلك ، ونزول درجة الداعي إلى الشر الإمام فيه ، وأنه أسفل الخليقة ، وأشدهم جرما ، وأعظمهم إثما. (وَكُلَّ شَيْءٍ) من الأعمال والنيّات وغيرها (أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) أي : كتاب هو أم الكتب وإليه مرجع الكتب ، الّتي تكون بأيدي الملائكة ، وهو اللوح المحفوظ.

[١٣] أي : واضرب لهؤلاء المكذبين برسالتك ، الرادين لدعوتك ، مثلا يعتبرون به ، ويكون لهم موعظة إن وفقوا للخير. وذلك المثل : أصحاب القرية ، وما جرى منهم من التكذيب لرسل الله ، وما جرى عليهم من عقوبته ونكاله. وتعيين تلك القرية ، لو كان فيه فائدة ، لعينها الله ، فالتعرض لذلك ، وما أشبهه من باب التكلف ، والتكلم بلا علم. ولهذا إذا تكلم أحد في مثل هذا الأمر ، تجد عنده من الخبط والخلط. والاختلاف الذي لا يستقر له قرار ، ما تعرف به ، أن طريق العلم الصحيح ، الوقوف مع الحقائق ، وترك التعرض لما لا فائدة فيه. وبذلك تزكو النفس ،

٨٣٢

ويزيد العلم ، من حيث يظن الجاهل ، أن زيادته ، بذلك الأقوال الّتي لا دليل عليها ، ولا حجة عليها ، ولا يحصل منها من الفائدة ، إلا تشويش الذهن ، واعتياد الأمور المشكوك فيها. والشاهد أن هذه القرية جعلها الله مثلا للمخاطبين. (إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) من الله تعالى يأمرونهم بعبادة الله وحده ، وإخلاص الدين له ، وينهونهم عن الشرك والمعاصي.

[١٤] (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) أي : قويناهما بثالث ، فصاروا ثلاثة رسل ، اعتناء من الله بهم ، وإقامة للحجة ، بتوالي الرسل إليهم. (فَقالُوا) لهم : (إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) فأجابوهم بالجواب ، الذي ما زال مشهورا عند من رد دعوة الرسل.

[١٥] (قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) أي : فما الذي فضلكم علينا ، وخصكم من دوننا؟ قالت الرسل لأممهم : (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ). (وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ) أي : أنكروا عموم الرسالة. ثمّ أنكروا أيضا المخاطبين لهم فقالوا : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ).

[١٦] فقال هؤلاء الرسل الثلاثة : (رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) فلو كنا كاذبين ، لأظهر الله خزينا ، ولبادرنا بالعقوبة.

[١٧] (وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (١٧) أي : البلاغ المبين الذي يحصل به ، توضيح الأمور المطلوب بيانها. وما عدا هذا من آيات الاقتراح ، أو من سرعة العذاب ، فليس إلينا. وإنّما وظيفتنا ، الّتي هي البلاغ المبين ، قمنا بها ، وبيناها لكم. فإن اهتديتم ، فهو حظكم وتوفيقكم ، وإن ضللتم ، فليس لنا من الأمر شيء.

[١٨] فقال أصحاب القرية لرسلهم : (إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ) أي : لم نر على قدومكم علينا ، واتصالكم بنا ، إلا الشر. وهذا من أعجب العجائب ، أن يجعل من قدم عليهم بأجل نعمة ينعم الله بها على العباد ، وأجلّ كرامة يكرمهم بها ، وضرورته إليها فوق كلّ ضرورة ، قد قدم بحالة شر ، زادت على الشر الذي هم عليه ، واستشأموا بها. ولكن الخذلان ، وعدم التوفيق ، يصنع بصاحبه أعظم مما يصنع به عدوه. ثمّ توعدوهم فقالوا : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ) أي : لنقتلنكم رجما بالحجارة ، أشنع القتلات (وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ).

[١٩] فقال لهم رسلهم : (طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) وهو : ما معهم من الشرك والشر ، المقتضي لوقوع المكروه والنقمة ، وارتفاع المحبوب والنعمة. (أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ) أي : بسبب أنّا ذكرناكم ما فيه صلاحكم وحظكم ، قلتم لنا ما قلتم. (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) متجاوزون للحد ، متجرهمون (١) في قولكم. فلم يزدهم دعاؤهم إلا نفورا واستكبارا.

[٢٠] (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى) حرصا على نصح قومه ، حين سمع ما دعت إليه الرسل ، وآمن به ، وعلم ما رد به قومه عليهم فقال : (يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) فأمرهم باتباعهم ، ونصحهم على ذلك ، وشهد لهم بالرسالة.

[٢١] ثمّ ذكر تأييدا لما شهد به ودعا إليه ، فقال : (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً) أي : اتبعوا من نصحكم نصحا ، يعود عليكم بالخير ، وليس يريد منكم أموالكم ، وأجرا على نصحه لكم ، وإرشاده إياكم ، فهذا موجب لاتباع من هذا وصفه. بقي أن يقال : فلعله يدعو ولا يأخذ أجرة ، ولكنه ليس على الحقّ. فدفع هذا الاحتراز بقوله : (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) لأنهم لا يدعون إلا لما يشهد العقل الصحيح بحسنه ، ولا ينهون إلا عمّا يشهد العقل الصحيح بقبحه.

[٢٢] فكأن قومه لم يقبلوا نصحه ، بل عادوا لائمين له ، على اتباع الرسل ، وإخلاص الدين لله وحده فقال : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢٢) أي : وما المانع لي ، من عبادة من هو المستحق للعبادة ؛ لأنه الذي

__________________

(١) وفي «القاموس» : «رجل جرهام ومجرهم بكسر الهاء : حادّ في أمره». كما في مادة (جرهم).

٨٣٣

فطرني ، وخلقني ورزقني ، وإليه مآل جميع الخلق ، فيجازيهم بأعمالهم. فالذي بيده الخلق والرزق ، والحكم بين العباد ، في الدنيا والآخرة ، هو الذي يستحق أن يعبد ، ويثنى عليه ويمجد ، دون من لا يملك نفعا ولا ضرا ، ولا عطاء ولا منعا ، ولا موتا ، ولا حياة ، ولا نشورا ولهذا قال :

[٢٣] (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) لأنه لا أحد يشفع عند الله إلا بإذنه ، فلا تغني شفاعتهم عني شيئا (وَلا يُنْقِذُونِ) من الضر الذي أراده الله بي.

[٢٤] (إِنِّي إِذاً) أي : إن عبدت آلهة هذا وصفها (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) فجمع في هذا الكلام ، بين نصحهم ، والشهادة للرسل بالرسالة ، والاهتداء والإخبار بتعيّن عبادة الله وحده. وذكر الأدلة عليها ، وأن عبادة غيره باطلة ، وذكر البراهين عليها ، والإخبار بضلال من عبدها ، والإعلان بإيمانه جهرا ، مع خوفه الشديد من قتلهم فقال :

[٢٥] (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) (٢٥) فقتله قومه ، لما سمعوا منه وراجعهم بما راجعهم به.

[٢٦ ـ ٢٧] (قِيلَ) له في الحال (ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ) مخبرا بما وصل إليه من الكرامة على توحيده ، وإخلاصه ، وناصحا لقومه بعد وفاته ، كما نصح لهم في حياته. (يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي) أي : بأي شيء غفر لي ، فأزال عني أنواع العقوبات. (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) بأنواع المثوبات والمسرّات : أي : لو وصل علم ذلك إلى قلوبهم ، لم يقيموا على شركهم.

[٢٨] قال الله في عقوبة قومه : (وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ) أي : ما احتجنا أن نتكلف في عقوبتهم ، فننزل جندا من السماء لإتلافهم. (وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) لعدم الحاجة إلى ذلك ، وعظمة اقتدار الله تعالى ، وشدة ضعف بني آدم ، وأنهم أدنى شيء يصيبهم من عذاب الله يكفيهم.

[٢٩] (إِنْ كانَتْ) أي : ما كانت عقوبتهم (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) أي : صوتا واحدا ، تكلم به بعض ملائكة الله (فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) قد تقطعت قلوبهم في أجوافهم ، وانزعجوا لتلك الصيحة ، فأصبحوا خامدين ، لا صوت ولا حركة ، ولا حياة بعد ذلك العتو والاستكبار ، ومقابلة أشرف الخلق ، بذلك الكلام القبيح ، وتجبرهم عليهم.

[٣٠] قال الله مترحما للعباد : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٣٠) أي : ما أعظم شقاءهم ، وأطول عنادهم ، وأشد جهلهم ، حيث كانوا بهذه الصفة القبيحة ، الّتي هي سبب لكل شقاء ، وعذاب ، ونكال!!

[٣١ ـ ٣٢] يقول تعالى ألم ير هؤلاء ، ويعتبروا بمن قبلهم ، من القرون المكذبة ، الّتي أهلكها تعالى ، وأوقع بها عقابه ، وأن جميعهم قد باد وهلك ، فلم يرجع إلى الدنيا ، ولن يرجع إليها. وسيعيد الله الجميع. خلقا جديدا ، ويبعثهم بعد موتهم ، ويحضرون بين يديه تعالى ، ليحكم بينهم بحكمه العدل ، الذي لا يظلم مثقال ذرة (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً).

٨٣٤

[٣٣ ـ ٣٤] أي (وَآيَةٌ لَهُمُ) على البعث والنشور ، والقيام بين يدي الله تعالى ، للجزاء على الأعمال ، هذه (الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ) الّتي أنزل الله عليها المطر ، فأحياها بعد موتها. (وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) من جميع أصناف الزروع ، ومن جميع أصناف النبات ، الّتي تأكله أنعامهم (وَجَعَلْنا فِيها) أي : في تلك الأرض الميتة. (جَنَّاتٍ) أي : بساتين ، فيها أشجار كثيرة ، وخصوصا النخيل والأعناب ، واللذان هما أشرف الأشجار (وَفَجَّرْنا فِيها) أي : في الأرض (مِنَ الْعُيُونِ).

[٣٥] جعلنا في الأرض تلك الأشجار ، والنخيل ، والأعناب (لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) قوتا وفاكهة ، وأدما ، ولذة. (وَ) الحال أن ذلك الثمر (ما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) وليس لهم فيه صنع ولا عمل ، إن هو إلا صنعة أحكم الحاكمين ، وخير الرازقين. وأيضا فلم تعمله أيديهم ، بطبخ ولا غيره ، بل أوجد الله هذه الثمار ، غير محتاجة لطبخ ، ولا شيّ ، تؤخذ من أشجارها ، فتؤكل في الحال. (أَفَلا يَشْكُرُونَ) من ساق لهم هذه النّعم ، وأسبغ عليهم من جوده وإحسانه ، ما به تصلح أمور دينهم ودنياهم. أليس الذي أحيا الأرض بعد موتها ، فأنبت فيها الزروع والأشجار ، وأودع فيها لذيذ الثمار ، وأظهر ذلك الجنى من تلك الغصون ، وفجّر الأرض اليابسة الميتة بالعيون ، بقادر على أن يحيي الموتى؟ بلى ، إنه على كلّ شيء قدير.

[٣٦] (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) أي : الأصناف كلها (مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) فنوّع فيها من الأصناف ، ما يعسر تعداده. (وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ) فنوّعهم إلى ذكر وأنثى ، وفاوت بين خلقهم ، وخلقهم ، وأوصافهم الظاهرة والباطنة. (وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) من المخلوقات ، الّتي قد خلقت ، وغابت عن علمنا ، والّتي لم تخلق بعد. فسبحانه وتعالى ، أن يكون له شريك ، أو ظهير ، أو عوين ، أو وزير ، أو صاحبة ، أو ولد ، أو سميّ ، أو مثيل في صفات كماله ، ونعوت جلاله ، أو يعجزه شيء يريده.

[٣٧] أي : (وَآيَةٌ لَهُمُ) على نفوذ مشيئة الله ، وكمال قدرته ، وإحيائه الموتى بعد موتهم. (اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) أي : نزيل منه الضياء العظيم ، الذي طبق الأرض ، فنبدله بالظلمة ، ونحلها محله (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ).

[٣٨] وكذلك نزيل هذه الظلمة ، الّتي عمتهم وشملتهم ، فنطلع الشمس ، فتضيء الأقطار ، وينتشر الخلق لمعايشهم ومصالحهم ، ولهذا قال : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) أي : دائما تجري لمستقر لها ، قدّره الله لها ، لا تتعداه ، ولا تقصر عنه ، وليس لها تصرف في نفسها ، ولا استعصاء على قدرة الله تعالى. (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ) الذي بعزته ، دبّر هذه المخلوقات العظيمة ، بأكمل تدبير ، وأحسن نظام. (الْعَلِيمِ) الذي بعلمه ، جعلها مصالح لعباده ، ومنافع في دينهم ودنياهم. (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ) ينزلها ، كل ليلة ينزل منها واحدة ، (حَتَّى) صغر جدا و (عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) أي : عرجون النخلة ، الذي من قدمه ، نش ، وصغر حجمه ، وانحنى ، ثمّ بعد ذلك ، ما زال يزيد شيئا فشيئا ، حتّى يتم نوره ، ويتسق ضياؤه. (وَكُلٌ) من الشمس والقمر ، والليل والنهار ، قدره الله تقديرا لا يتعداه ، ولكلّ له سلطان ووقت ، إذا وجد ، عدم الآخر ، ولهذا قال : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) أي :

٨٣٥

في سلطانه الذي هو الليل ، فلا يمكن أن توجد الشمس في الليل. (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) فيدخل عليه قبل انقضاء سلطانه. (وَكُلٌ) من الشّمس والقمر والنجوم (فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) أي : يترددون على الدوام. فكل هذا دليل ظاهر ، وبرهان باهر ، على عظمة الخالق ، وعظمة أوصافه. خصوصا ، وصف القدرة والحكمة ، والعلم في هذا الموضع.

[٤١ ـ ٤٢] أي : ودليل لهم وبرهان ، على أن الله وحده المعبود ، لأنه المنعم بالنعم ، الصارف للنقم ، الذي من جملة نعمه (أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ) قال كثير من المفسرين : المراد بذلك : آباؤهم. (وَخَلَقْنا لَهُمْ) أي : للموجودين من بعدهم (مِنْ مِثْلِهِ) أي : من مثل ذلك ، أي : جنسه (ما يَرْكَبُونَ) به. فذكر نعمته على الآباء ، بحملهم في السفن ، لأن النعمة عليهم ، نعمة على الذرية. وهذا الموضع من أشكل المواضع عليّ في التفسير. فإن ما ذكره كثير من المفسرين ، من أن المراد بالذرية الآباء ، مما لا يعهد في القرآن إطلاق الذرية على الآباء. بل فيه من الإبهام ، وإخراج الكلام عن موضوعه ، ما يأباه كلام رب العالمين ، وإرادته البيان والتوضيح لعباده. وثمّ احتمال أحسن من هذا ، وهو أن المراد بالذرية ، الجنس ، وأنهم هم بأنفسهم ، لأنهم هم ، من ذرية بني آدم. ولكن ينقض هذا المعنى قوله : (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) (٤٢) إن أريد : وخلقنا من مثل ذلك الفلك ، أي لهؤلاء المخاطبين ، ما يركبون من أنواع الفلك ، فيكون ذلك تكريرا للمعنى ، تأباه فصاحة القرآن. فإن أريد بقوله : (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) (٤٢) الإبل ، الّتي هي سفن البر ، استقام المعنى واتضح. إلا أنه يبقى أيضا ، أن يكون الكلام فيه تشويش ، فإنه لو أريد هذا المعنى ، لقال : وآية لهم أنّا حملناهم في الفلك المشحون ، وخلقنا لهم من مثله ما يركبون. فأما أن يقول في الأول : حملنا ذريتهم ، وفي الثاني : حملناهم ، فإنه لا يظهر المعنى. إلا أن يقال : الضمير عائد إلى الذرية ، والله أعلم بحقيقة الحال. فلما وصلت في الكتابة إلى هذا الموضع ، ظهر لي معنى ليس ببعيد من مراد الله تعالى. وذلك أن من عرف جلالة كتاب الله ، وبيانه التام من كلّ وجه ، للأمور الحاضرة والماضية ، والمستقبلة ، وأنه يذكر من كلّ معنى أعلاه وأكمل ما يكون من أحواله ، وكانت الفلك من آياته تعالى ، ونعمه على عباده ، من حين أنعم عليهم ، بتعلمها إلى يوم القيامة ، ولم تزل موجودة في كلّ زمان ، إلى زمان المواجهين بالقرآن. فلما خاطبهم الله تعالى بالقرآن ، وذكر حالة الفلك ، وعلم تعالى أنه سيكون أعظم آيات الفلك ، في غير وقتهم ، وفي غير زمانهم ، حين يعلمهم صنعة الفلك البحرية ، والشراعية منها والبخارية ، والجوية السابحة في الجو ، كالطيور ونحوها ، والمراكب البرية ، مما كانت الآية العظمى فيه لا توجد إلا في الذرية ، نبّه في الكتاب على أعلى نوع من أنواع آياتها فقال : (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) (٤١) أي : المملوء ركبانا وأمتعة. فحملهم الله تعالى ، ونجاهم بالأسباب الّتي علمهم الله إياها ، من الغرق ، ولهذا نبههم على نعمته عليهم ، حيث أنجاهم من الغرق ، مع قدرته على ذلك قال :

[٤٣] (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) أي : لا أحد يصرخ لهم ، فيعاونهم على الشدة ، ولا يزيل عنهم المشقة

٨٣٦

(وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ) مما هم فيه.

[٤٤] (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) (٤٤) حيث لم نغرقهم ، لطفا بهم ، وتمتيعا لهم إلى حين ، لعلهم يرجعون ، أو يستدركون ما فرّط منهم.

[٤٥] (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ) أي : من أحوال البرزخ والقيامة ، وما في الدنيا من العقوبات (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).

[٤٦] أعرضوا عن ذلك ، فلم يرفعوا به رأسا ، ولو جاءتهم كلّ آية ، ولهذا قال : (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) (٤٦). وفي إضافة الآيات إلى ربهم ، دليل على كمالها ووضوحها ، لأنه ما أبين من آيات الله ، ولا أعظم بيانا. وإن من جملة تربية الله لعباده ، أن أوصل إليهم الآيات الّتي يستدلون بها على ما ينفعهم ، في دينهم ودنياهم.

[٤٧] (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) أي : من الرزق الذي منّ به الله عليكم ، ولو شاء لسلبكم إياه. (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا) معارضين للحق ، محتجين بالمشيئة : (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ) أيها المؤمنون (إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) حيث تأمروننا بذلك. وهذا مما يدل على جهلهم العظيم ، أو تجاهلهم الوخيم ، فإن المشيئة ليست حجة لعاص أبدا. فإنه وإن كان ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، فإنه تعالى مكّن العباد ، وأعطاهم من القوة ، ما يقدرون على فعل الأمر ، واجتناب النهي. فإذا تركوا ما أمروا به ، كان ذلك اختيارا منهم ، لا جبرا لهم ولا قهرا.

[٤٨] (وَيَقُولُونَ) على وجه التكذيب والاستعجال : (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

[٤٩] قال الله تعالى : لا يستبعدوا ذلك ، فإنه عن قريب (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) وهي نفخة الصور (تَأْخُذُهُمْ) أي : تصيبهم (وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) أي : وهم لاهون عنها ، لم تخطر على قلوبهم في حال خصومتهم ، وتشاجرهم فيما بينهم ، الذي لا يوجد في الغالب إلا وقت الغفلة. وإذا أخذتهم وقت غفلتهم ، فإنهم لا ينظرون ولا يمهلون (فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً) أي : لا قليلة ولا كثيرة (وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ).

[٥١] النفخة الأولى ، نفخة الفزع والموت ، وهذه نفخة البعث والنشور. فإذا نفخ في الصور ، خرجوا من الأجداث والقبور ، ينسلون إلى ربهم أي : يسرعون للحضور بين يديه ، لا يتمكنون من التأنّي والتأخر.

[٥٢] وفي تلك الحال ، يحزن المكذبون ، ويظهرون الحسرة والندم ، ويقولون : (يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) أي : من رقدتنا في القبور ، لأنه ورد في بعض الأحاديث ، أن لأهل القبور رقدة ، قبيل النفخ في الصور. فيجابون ، ويقال لهم : (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) أي : هذا الذي وعدكم الله به ، ووعدتكم به الرسل ، فظهر صدقهم ، رأي العين. ولا تحسب أن ذكر الرحمن في هذا الموضع ، لمجرد الخبر عن وعده ، وإنّما ذلك للإخبار بأنه في ذلك اليوم العظيم ، سيرون من رحمته ، ما لا يخطر في الظنون ، ولا حسب الحاسبون ، كقوله : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) ، (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ) ونحو ذلك ، مما يذكر اسمه الرحمن ، في هذا.

٨٣٧

[٥٣] (إِنْ كانَتْ) أي : ما كانت البعثة من القبور (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) ينفخ إسرافيل في الصور ، فتحيا الأجساد. (فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) الأولون والآخرون ، والإنس والجن ليحاسبوا على أعمالهم.

[٥٤] (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) لا ينقص من حسناتها ، ولا يزاد في سيئاتها. (وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من خير أو شر. فمن وجد خيرا ، فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك ، فلا يلومنّ إلا نفسه.

[٥٥] لما ذكر تعالى أن كلّ أحد لا يجزى إلا ما عمله ، ذكر جزاء الفريقين. فبدأ بجزاء أهل الجنة ، وأخبر أنهم في ذلك اليوم (فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) أي : في شغل مفكه للنفس ، ملذّ لها ، من كلّ ما تهواه النفوس ، وتلذه العيون ، ويتمناه المتمنون.

[٥٦] ومن ذلك لقاء العذارى الجميلات ، كما قال : (هُمْ وَأَزْواجُهُمْ) من الحور العين ، اللاتي قد جمعن حسن الوجوه والأبدان ، وحسن الأخلاق. (فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ) أي : السرر المزينة ، باللباس المزخرف الحسن. (مُتَّكِؤُنَ) عليه ، اتكاء دالا على كمال الراحة ، والطمأنينة ، واللذة.

[٥٧] (لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ) كثيرة ، من جميع أنواع الثمار اللذيذة ، من عنب وتين ، ورمان ، وغيرها. (وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) أي : يطلبون ، فمهما طلبوه وتمنوه أدركوه.

[٥٨] ولهم أيضا (سَلامٌ) حاصل لهم (قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ). ففي هذا ، كلام الرب تعالى لأهل الجنة ، وسلامه عليهم ، وأكده بقوله : (قَوْلاً) وإذا سلّم عليهم الرب الرحيم ، حصلت لهم السلامة التامة ، من جميع الوجوه ، وحصلت لهم التحية ، الّتي لا تحية أعلى منها ، ولا نعيم مثلها. فما ظنك بتحية ملك الملوك ، الرب العظيم ، الرؤوف الرحيم ، لأهل دار كرامته ، الّذين أحل عليهم رضوانه ، فلا يسخط عليهم أبدا. فلو لا أن الله تعالى ، قدّر أن يموتوا ، أو تزول قلوبهم عن أماكنهم من الفرح ، والبهجة ، والسرور ، لحصل ذلك. فنرجو ربنا ، أن لا يحرمنا ذلك النعيم ، وأن يمتعنا بالنظر إلى وجهه الكريم.

[٥٩] لما ذكر تعالى جزاء المتقين ، ذكر جزاء المجرمين (وَ) أنهم يقال لهم يوم القيامة (امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) (٥٩) أي : تميزوا عن المؤمنين ، وكونوا على حدة ، ليوبخهم ، ويقرعهم على رؤوس الأشهاد ، قبل أن يدخلهم النار ، فيقول لهم :

[٦٠ ـ ٦١] (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ) أي : ألم آمركم وأوصيكم ، على ألسنة رسلي ، وأقول لكم : (يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) أي : لا تطيعوه؟ وهذا التوبيخ ، يدخل فيه التوبيخ عن جميع أنواع الكفر والمعاصي ، لأنها كلها طاعة للشيطان ، وعبادة له. (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) فحذرتكم منه ، غاية التحذير ، وأنذرتكم عن طاعته ، وأخبرتكم بما يدعوكم إليه ، (وَ) أمرتكم (أَنِ اعْبُدُونِي) بامتثال أوامري وترك زواجري. (هذا) أي : عبادتي وطاعتي ، ومعصية الشيطان (صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ). فعلوم الصراط المستقيم وأعماله ، ترجع إلى هذين الأمرين.

[٦٢] أي : فلم تحفظوا عهدي ، ولم تعملوا بوصيتي ، (وَلَقَدْ) واليتم عدوكم ، وهو الشيطان ، الذي (أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً) أي : خلقا كثيرا. (أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) أي : فلا كان لكم عقل ، يأمركم بموالاة ربكم ، ووليكم الحقّ ، ويزجركم عن اتخاذ أعدى الأعداء لكم وليا ، فلو كان لكم عقل صحيح لما فعلتم ذلك.

[٦٣] فإذا أطعتم الشيطان ، وعاديتم الرحمن ، وكذبتم بلقائه ، ووردتم القيامة دار الجزاء ، وحق عليكم القول بالعذاب (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (٦٣) وتكذبون بها ، فانظروا إليها عيانا ، فهناك تنزعج منهم القلوب ، وتزوغ الأبصار ، ويحصل الفزع الأكبر.

[٦٤] ثمّ يكمل ذلك ، بأن يؤمر بهم إلى النار ، ويقال لهم : (اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) (٦٤) أي : ادخلوها على وجه تصلاكم ، ويحيط بكم حرها ، ويبلغ منكم كلّ مبلغ ، بسبب كفركم بآيات الله ، وتكذيبكم لرسل الله.

٨٣٨

[٦٥] قال تعالى في بيان وصفهم الفظيع ، في دار الشقاء (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ) بأن نجعلهم خرسا ، فلا يتكلمون ، فلا يقدرون على إنكار ما عملوه ، من الكفر ، والتكذيب. (وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي : تشهد عليهم أعضاؤهم بما عملوه ، وينطقها الذي أنطق كل شيء.

[٦٦] (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) بأن نذهب أبصارهم ، كما طمسنا على نطقهم. (فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ) أي : فبادروا إليه ؛ لأنه الطريق إلى الوصول إلى الجنة (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) وقد طمست أبصارهم.

[٦٧] (وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ) أي : لأذهبنا حركتهم (فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا) إلى الأمام (وَلا يَرْجِعُونَ) إلى ورائهم ، ليبعدوا عن النار. والمعنى : أن هؤلاء الكفار ، حقت عليهم كلمة العذاب ، ولم يكن بدّ من عقابهم. وفي ذلك الموطن ، ما ثمّ إلا النار قد برزت ، وليس لأحد نجاة إلا بالعبور على الصراط. وهذا لا يستطيعه إلا أهل الإيمان ، الّذين يمشون في نورهم. وأما هؤلاء ، فليس لهم عند الله من عهد في النجاة من النار. فإن شاء طمس أعينهم ، وأبقى حركتهم ، فلم يهتدوا إلى الصراط لو استبقوا إليه وبادروه. وإن شاء ، أذهب حراكهم ، فلم يستطيعوا التقدم ولا التأخر. والمقصود : أنهم لا يعبرونه ، فلا تحصل لهم النجاة.

[٦٨] يقول تعالى : (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ) من بني آدم (نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) أي : يعود إلى الحالة الّتي ابتدأ منها ، حالة الضعف ، ضعف العقل ، وضعف القوة. (أَفَلا يَعْقِلُونَ) أن الآدمي ناقص من كلّ وجه ، فيتداركوا قولهم وعقولهم ، فيستعملوها في طاعة ربهم.

[٦٩] ينزه تعالى نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمّا رماه به المشركون ، من أنه شاعر ، وأن الذي جاء به شعر فقال : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ) أن يكون شاعرا ، أي : هذا من جنس المحال ، أن يكون شاعرا ؛ لأنه رشيد مهتد ، والشعراء غاوون ، يتبعهم الغاوون. ولأن الله تعالى ، حسم جميع الشبه ، الّتي يتعلّق بها الضالون ، عن رسوله. فحسم أن يكون يكتب أو يقرأ ، وأخبر أنه ما علمه الشعر ، وما ينبغي له (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) أي : ما هذا الذي جاء به إلا ذكر يتذكر به أولو الألباب ، جميع المطالب الدينية ، فهو مشتمل عليها ، أتم اشتمال وهو يذكر العقول ، ما ركز الله في فطرها من الأمر بكل حسن ، والنهي عن كلّ قبيح. (وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) أي : مبين لما يطلب بيانه. ولهذا حذف المعمول ، ليدلّ على أنه مبين لجميع الحقّ ، بأدلته التفصيلية ، والإجمالية ، والباطل وأدلة بطلانه ، وأنزله الله كذلك على رسوله.

[٧٠ ـ ٧١] (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا) أي : حي القلب واعيه ، فهو الذي يزكو على هذا القرآن. وهو الذي يزداد من العلم منه والعمل ، ويكون القرآن لقلبه ، بمنزلة المطر للأرض الطيبة الزاكية. (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ) لأنهم قامت عليهم به حجة الله ، وانقطع احتجاجهم ، فلم يبق لهم أدنى عذر وشبهة يدلون بها.

[٧٢ ـ ٧٣] يأمر تعالى العباد بالنظر إلى ما سخر لهم من الأنعام وذللها ، وجعلهم مالكين لها ، مطاوعة لهم في

٨٣٩

كل أمر يريدونه منها ، وأنه جعل لهم فيها منافع كثيرة من حملهم ، وحمل أثقالهم ، ومحاملهم ، وأمتعتهم ، من محل إلى محل ، ومن أكلهم منها ، وفيها دفء ، ومن أوبارها وأصوافها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين. وفيها زينة وجمال ، وغير ذلك من المنافع المشاهدة منها. (أَفَلا يَشْكُرُونَ) الله تعالى الذي أنعم بهذه النّعم ، ويخلصون له العبادة ولا يتمتعون بها تمتعا خاليا من العبرة والفكرة.

[٧٤] هذا بيان لبطلان آلهة المشركين ، الّتي اتخذوها مع الله تعالى ، ورجوا نصرها وشفعها «أي : شفاعتها ووساطتها بينهم وبين الله».

[٧٥] فإنها في غاية العجز (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ) ولا أنفسهم ينصرون. فإذا كانوا لا يستطيعون نصرهم ، فكيف ينصرونهم؟ والنصر له شرطان : الاستطاعة ، والقدرة. فإذا استطاع ، يبقى ، هل يريد نصرة من عبده أم لا؟ فنفي الاستطاعة ، ينفي الأمرين كليهما. (وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) أي : محضرون هم وهم في العذاب ، ومتبرئ بعضهم من بعض. أفلا تبرأوا في الدنيا من عبادة هؤلاء ، وأخلصوا العبادة ، للذي بيده الملك والنفع والضر ، والعطاء والمنع ، وهو الولي النصير؟

[٧٦] أي : فلا يحزنك ، يا أيها الرسول ، قول المكذبين ، والمراد بالقول : ما دل عليه السياق ، كل قول يقدحون به في الرسول ، أو فيما جاء به. أي : فلا تشغل قلبك بالحزن عليهم (إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) فنجازيهم على حسب علمنا بهم ، وإلا فقولهم لا يضرك شيئا.

[٧٧] وهذه الآيات الكريمات ، فيها ، ذكر شبهة منكري البعث ، والجواب عنها بأتم جواب ، وأحسنه ، وأوضحه ، فقال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ) المنكر للبعث أو الشاك فيه ، أمرا يفيده اليقين التام بوقوعه وهو : (أَنَّا خَلَقْناهُ) ابتداء (مِنْ نُطْفَةٍ) ثمّ تنقله في الأطوار شيئا فشيئا ، حتى كبر وشب ، وتم عقله ، واستتب. (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) بعد أن كان ابتداء خلقه من نطفة. فلينظر التفاوت بين هاتين الحالتين ، وليعلم أن الذي أنشأه من العدم ، قادر على أن يعيده بعد ما تفرق وتمزق ، من باب أولى.

[٧٨] (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً) لا ينبغي لأحد أن يضربه ، وهو قياس قدره الخالق بقدرة المخلوق ، وأن الأمر المستبعد على قدرة المخلوق ، مستبعد على قدرة الخالق. فسّر هذا المثل بقوله : (قالَ) ذلك الإنسان (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) أي : هل أحد يحييها؟ استفهام إنكار ، أي : لا أحد يحييها بعد ما بليت وتلاشت. هذا وجه الشبهة والمثل ، وهو أن هذا أمر في غاية البعد على ما يعهد من قدرة البشر. وهذا القول الذي صدر من هذا الإنسان ، غفلة منه ، ونسيان لابتداء خلقه. فلو فطن لخلقه ، بعد أن لم يكن شيئا مذكورا فوجد عيانا ، لم يضرب هذا المثل.

[٧٩] فأجاب تعالى عن هذا الاستبعاد ، بجواب شاف كاف فقال : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) وهذا بمجرد تصوره ، يعلم به علما يقينا لا شبهة فيه ، أن الذي أنشأها أوّل مرة قادر على الإعادة ، ثاني مرة ، وهو أهون على القدرة ، إذا تصوره المتصور (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ). هذا أيضا دليل ثان من صفات الله تعالى ، وهو أن علمه

٨٤٠