تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي

تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

المؤلف:

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ١١٣٥

اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ). وكل رسول قال لقومه : (اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ). فعلم أن جدال المشركين في شركهم ، غير مستندين إلى برهان ولا دليل ، وإنّما اعتمدوا على ظنون كاذبة ، وآراء كاسدة ، وعقول فاسدة. يدلّك على فسادها استقراء أحوالهم ، وتتبع علومهم وأعمالهم ، والنظر في حال من أفنوا أعمارهم بعبادته ، هل أفادهم شيئا في الدنيا أو في الآخرة؟

[٥] ولهذا قال تعالى : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) ، أي : مدة مقامه في الدنيا ، لا ينتفع به مثقال ذرة ، (وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ). لا يسمعون منهم دعاء ، ولا يجيبون لهم نداء ، هذا حالهم في الدنيا. ويوم القيامة يكفرون بشرككم.

[٦] (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً) يلعن بعضهم بعضا ، ويتبرأ بعضهم من بعض (وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ).

[٧] (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ) ، أي : على المكذبين (آياتُنا بَيِّناتٍ) بحيث تكون على وجه ، لا يمترى بها ، ولا يشك في وقوعها وحقها ، لم تفدهم خيرا ، بل قامت عليهم بذلك الحجة. ويقولون من إفكهم وافترائهم (لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) ، أي : ظاهر لا شك فيه ، وهذا من باب قلب الحقائق ، الذي لا يروج إلا على ضعفاء العقول ، وإلا فبين الحقّ الذي جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبين السحر من المنافاة والمخالفة ، أعظم مما بين السماء والأرض. وكيف يقاس الحقّ الذي علا وارتفع ارتفاعا على الأفلاك ، وفاق بضوئه ونوره نور الشمس ، وقامت الأدلة الأفقية والنفسية عليه ، وأقرت به وأذعنت ، أولو البصائر والعقول الرزينة ، كيف يقاس الحقّ الذي هذا شأنه بالباطل الذي هو السحر ، الذي لا يصدر إلا من ضال ظالم خبيث النفس ، خبيث العمل؟ فهو مناسب له وموافق لحاله ، وهل هذا إلا من البهرجة؟

[٨] (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) ، أي : افترى محمد هذا القرآن من عند نفسه ، فليس هو من عند الله. (قُلْ) لهم : (إِنِ افْتَرَيْتُهُ) فالله عليّ قادر وبما تفيضون فيه عالم ، فكيف لم يعاقبني على افترائي ، الذي زعمتم؟ (فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) إن أرادني الله بضر ، أو أرادني برحمة (هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) فلو كنت متقولا عليه ، لأخذ مني باليمين ، ولعاقبني عقابا يراه كل أحد ، لأن هذا أعظم أنواع الافتراء لو كنت متقولا. ثمّ دعاهم إلى التوبة مع ما صدر منهم من معاندة الحقّ ومخاصمته ، فقال : (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ، أي : فتوبوا إليه ، وأقلعوا عما أنتم فيه ، يغفر لكم ذنوبكم ، ويرحمكم ، فيوفقكم للخير ، ويثيبكم جزيل الأجر.

[٩] (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) ، أي : لست بأول رسول جاءكم ، حتى تستغربوا رسالتي وتستنكروا دعوتي ، فقد تقدم من الرسل والأنبياء من وافقت دعوتي دعوتهم ، فلأي شيء تنكرون رسالتي؟ (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) ، أي : لست إلا بشرا ، ليس بيدي من الأمر شيء ، والله تعالى المتصرف بي وبكم ، الحاكم عليّ وعليكم. (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) ولست آتي بالشيء من عندي ، (وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) ، فإن قبلتم رسالتي ، وأجبتم دعوتي ، فهو حظكم ونصيبكم في الدنيا والآخرة ، وإن رددتم ذلك عليّ ، فحسابكم على الله ، وقد أنذرتكم ، ومن أنذر فقد

٩٤١

أعذر.

[١٠] (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) ، أي : أخبروني ، لو كان هذا القرآن من عند الله ، وشهد على صحته الموفقون من أهل الكتاب ، الّذين عندهم من الحقّ ما يعرفون أنه الحقّ ، فآمنوا به واهتدوا ، فتطابقت أنباء الأنبياء وأتباعهم النبلاء ، واستكبرتم ، أيها الجهلاء الأغبياء ، فهل هذا إلا أعظم الظلم وأشد الكفر؟ (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ، ومن الظلم الاستكبار عن الحقّ بعد التمكن منه.

[١١] أي : قال الكفار بالحق معاندين له ، ورادّين لدعوته : (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) ، أي : ما سبقنا إليه المؤمنون ، وكنا أول مبادر به ، وسابق إليه ، وهذا من البهرجة في مكان. فأيّ دليل يدل على أن علامة الحقّ سبق المكذبين به للمؤمنين؟ هل هم أزكى نفوسا؟ أم أكمل عقولا؟ أم الهدى بأيديهم؟ ولكن هذا الكلام الذي صدر منهم ، يعزون به أنفسهم بمنزلة من لم يقدر على الشيء ، ثمّ طفق يذمه ، ولهذا قال : (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) ، أي : هذا السبب الذي دعاهم إليه ، أنهم لما لم يهتدوا بهذا القرآن ، وفاتهم أعظم المواهب ، وأجل الرغائب ، قدحوا فيه ، بأنه كذب ، وهو الحقّ الذي لا شك فيه ، ولا امتراء يعتريه.

[١٢] (وَ) قد وافق الكتب السماوية (مِنْ قَبْلِهِ) خصوصا ، أكملها وأفضلها بعد القرآن ، وهي التوراة (كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً) ، أي : يقتدي بها بنو إسرائيل ، ويهتدون بها ، ويحصل لهم خير الدنيا والآخرة. (وَهذا) القرآن (كِتابٌ مُصَدِّقٌ) للكتب السابقة ، شهد بصدقها ، وصدّقها ، بموافقته لها ، وجعله الله (لِساناً عَرَبِيًّا) ليسهل تناوله ، ويتيسر تذكّره. (لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم بالكفر والفسوق والعصيان ، إن استمروا على ظلمهم بالعذاب الوبيل. (وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) في عبادة الخالق ، وفي نفع المخلوقين ، بالثواب الجزيل ، وفي الدنيا والآخرة ، ويذكر الأعمال الّتي ينذر عنها ، والأعمال الّتي يبشر بها.

[١٣] أي : إن الّذين أقروا بربهم ، وشهدوا له بالوحدانية ، والتزموا طاعته وداموا على ذلك (ثُمَّ اسْتَقامُوا) مدة حياتهم (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من كل شر أمامهم (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على ما خلّفوا وراءهم.

[١٤] (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ) ، أي : أهلها الملازمون لها ، الّذين لا يبغون عنها حولا ، ولا يريدون بها بدلا. (خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) من الإيمان بالله ، المقتضي للأعمال الصالحة الّتي استقاموا عليها.

[١٥] هذا من لطفه تعالى بعباده ، وشكره للوالدين أن وصّى الأولاد وعهد إليهم أن يحسنوا إلى والديهم بالقول اللطيف ، والكلام اللين ، وبذل المال والنفقة ، وغير ذلك ، من وجوه الإحسان. ثمّ نبّه على ذكر السبب الموجب لذلك ، فذكر ما تحملته الأم من ولدها وما قاسته من المكاره وقت حملها ، ثمّ مشقة ولادتها ، المشقة الكبيرة ، ثمّ مشقة الرضاع وخدمة الحضانة. وليست المذكورات مدة يسيرة ، ساعة أو ساعتين ، وإنّما ذلك ، أي : (حَمْلُهُ وَفِصالُهُ) مدة طويلة قدرها (ثَلاثُونَ شَهْراً) : الحمل تسعة أشهر ونحوها ، والباقي للرضاع ، هذا هو الغالب. ويستدل بهذه الآية مع قوله : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ، لأن مدة الرضاع ـ وهي سنتان ـ إذا

٩٤٢

سقطت من الثلاثين شهرا ، بقي ستة أشهر ، مدة للحمل. (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) ، أي : نهاية قوته وشبابه ، وكمال عقله ، (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي) ، أي : ألهمني ووفقني (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ) ، أي : نعم الدين ، ونعم الدنيا. وشكره ، بصرف النعم في طاعة مسديها وموليها ، ومقابلته على منّته ، بالاعتراف والعجز عن الشكر ، والاجتهاد في الثناء بها على الله ، والنعم على الوالدين ، نعم على أولادهم وذريتهم ، أنهم لا بد أن ينالهم منها ومن أسبابها وآثارها ، خصوصا نعم الدين ، فإن صلاح الوالدين بالعلم والعمل ، من أعظم الأسباب لصلاح أولادهم. (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) بأن يكون جامعا لما يصلحه ، سالما مما يفسده ، فهذا العمل الذي يرضاه الله ويقبله ، ويثيب عليه. (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) لما دعا لنفسه بالصلاح ، دعا لذريته أن يصلح الله أحوالهم ، وذكر أن صلاحهم يعود نفعه على والديهم ، لقوله : (وَأَصْلِحْ لِي). (إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ) من الذنوب والمعاصي ، ورجعت إلى طاعتك (وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ).

[١٦] (أُولئِكَ) الّذين ذكرت أوصافهم (الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) وهو الطاعات ، لأنهم يعملون أيضا غيرها. (وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي) في جملة (أَصْحابِ الْجَنَّةِ) ، فحصل لهم الخير والمحبوب ، وزال عنهم الشر والمكروه. (وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) ، أي : هذا الوعد الذي وعدناهم هو وعد من أصدق القائلين ، الذي لا يخلف الميعاد.

[١٧] لما ذكر تعالى حال الصالح البار لوالديه ، ذكر حال العاق ، وأنها شر الحالات ، فقال : (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ) إذ دعواه إلى الإيمان بالله واليوم الآخر ، وخوفاه الجزاء. وهذا أعظم إحسان يصدر من الوالدين لولدهما ، أن يدعواه إلى ما فيه سعادته الأبدية ، وفلاحه السرمدي ، فقابلهما بأقبح مقابلة ، فقال : (أُفٍّ لَكُما) ، أي : تبّا لكما ولما جئتما به. ثمّ ذكر استبعاده وإنكاره لذلك فقال : (أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ) من قبري إلى يوم القيامة (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) على التكذيب ، وسلفوا على الكفر ، وهم الأئمة المقتدى بهم لكل كفور ، وجهول ، ومعاند؟ (وَهُما) ، أي : والده (يَسْتَغِيثانِ اللهَ) عليه ويقولان له : (وَيْلَكَ آمِنْ) ، أي : يبذلان غاية جهدهما ، ويسعيان في هدايته ، أشد السعي ، حتى إنهما ـ من حرصهما عليه ـ يستغيثان الله له ، استغاثة الغريق ويسألانه ، سؤال الشريق ، ويعذلان ولدهما ، ويتوجعان له ، ويبينان له الحقّ ، فيقولان : (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) ، ثمّ يقيمان عليه من الأدلة ما أمكنهما. وولدهما لا يزداد إلا عتوا ونفورا ، واستكبارا عن الحقّ ، وقدحا فيه ، (فَيَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ، أي : إلا منقول من كتب المتقدمين ، ليس من عند الله ، ولا أوحاه الله إلى رسوله. وكل أحد يعلم أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمّيّ لا يكتب ولا يقرأ ، ولم يتعلم من أحد. فمن أين يتعلّمه؟ وأنّى للخلق أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا؟

[١٨] (أُولئِكَ الَّذِينَ) بهذه الحالة الذميمة (حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) ، أي : حقت عليهم كلمة العذاب (فِي) جملة (أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) على الكفر والتكذيب ، فسيدخل هؤلاء في غمارهم ، ويغرقون في تيارهم.

٩٤٣

(إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) ، والخسران : فوات رأس مال الإنسان ، وإذا فقد رأس ماله ، فالأرباح من باب أولى وأحرى ، فهم قد فاتهم الإيمان ، ولم يحصلوا شيئا من النعيم ، ولا سلموا من عذاب الجحيم.

[١٩] (وَلِكُلٍ) من أهل الخير وأهل الشر (دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) ، أي : كلّ على حسب مرتبته ، من الخير والشر ، ومنازلهم في الدار الآخرة ، على قدر أعمالهم ، ولهذا قال : (وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بأن لا يزداد في سيئاتهم ، ولا ينقص من حسناتهم.

[٢٠] يذكر تعالى حال الكفار عند عرضهم على النار حين يوبخون ويقرعون ، فيقال لهم : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا) حيث اطمأننتم إلى الدنيا ، واغتررتم بلذاتها ، ورضيتم بشهواتها ، وألهتكم طيباتها عن السعي لآخرتكم ، (وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها) كما تتمتع الأنعام السارحة ، فهي حظكم من آخرتكم. (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) ، أي : العذاب الشديد ، الذي يهينكم ويفضحكم ، (بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) ، أي : تنسبون الطريق الضالة الّتي أنتم عليها إلى الله ، وإلى حكمه ، وأنتم كذبة في ذلك ، (وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) ، أي : تتكبرون «وتخرجون» عن طاعته. فجمعوا بين قول الباطل ، والعمل بالباطل ، والكذب على الله ، والقدح في الحقّ ، والاستكبار عنه ، فعوقبوا أشد العقوبة.

[٢١] أي : (وَاذْكُرْ) بالثناء الجميل (أَخا عادٍ) ، وهو : هود عليه‌السلام ، حيث كان من الرسل الكرام ، الّذين فضلهم الله تعالى بالدعوة إلى دينه ، وإرشاد الخلق إليه. (إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ) وهم عاد (بِالْأَحْقافِ) ، أي : في منازلهم المعروفة بالأحقاف ، وهي : الرمال الكثيرة في أرض اليمن. (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) فلم يكن بدعا منهم ، ولا مخالفا لهم ، قائلا لهم : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ). فأمرهم بعبادة الله ، الجامعة لكل قول سديد وعمل حميد ، ونهاهم عن الشرك والتنديد ، وخوّفهم ـ إن لم يطيعوه ـ العذاب الشديد فلم تفد فيهم تلك الدعوة.

[٢٢] (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا) ، أي : ليس لك من القصد ، ولا معك من الحقّ ، إلا أنك حسدتنا على آلهتنا ، فأردت أن تصرفنا عنها. (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) ، وهذا غاية الجهل والعناد.

[٢٣] (قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) فهو الذي بيده أزمة الأمور ومقاليدها ، وهو الذي يأتيكم بالعذاب إن شاء. (وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ) ، أي : ليس عليّ إلا البلاغ المبين ، (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) فلذلك صدر منكم ما صدر من هذه الجرأة الشديدة ، فأرسل الله عليهم العذاب العظيم ، وهو الريح الّتي دمرتهم وأهلكتهم.

[٢٤ ـ ٢٥] ولهذا قال : (فَلَمَّا رَأَوْهُ) ، أي : العذاب (عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) ، أي : معترضا كالسحاب ، قد أقبل على أوديتهم الّتي تسيل ، فتسقي مزارعهم ، ويشربون من آبارها وغدرانها. (قالُوا) مستبشرين : (هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) ، أي : هذا السحاب سيمطرنا. قال تعالى : (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) ، أي : هذا الذي جنيتم به على أنفسكم ، حيث قلتم : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ). (رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ) تمر عليه من شدتها ونحسها. فسلطها الله عليهم سبع ليالي ، وثمانية أيام حسوما ، فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل

٩٤٤

خاوية (بِأَمْرِ رَبِّها) ، أي : بإذنه ومشيئته. (فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) قد تلفت مواشيهم وأموالهم وأنفسهم. (كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) بسبب جرمهم وظلمهم.

[٢٦] هذا مع أن الله قد أدرّ عليهم النعم العظيمة ، فلم يشكروه ، ولا ذكروه ، ولهذا قال : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) ، أي : مكناهم في الأرض ، ينالون طيباتها ، ويتمتعون بشهواتها ، وعمرناهم عمرا ، يتذكر فيه من تذكر ، ويتعظ فيه المهتدي ، أي : ولقد مكنا عادا ، كما مكناكم يا هؤلاء المخاطبون ، أي : فلا تحسبوا أن ما مكناكم فيه مختص بكم ، وأنه سيدفع عنكم من عذاب الله شيئا ، بل غيركم أعظم منكم تمكينا ، فلم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم ، ولا جنودهم من الله شيئا. (وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً) ، أي : لا قصور في أسماعهم ، ولا أبصارهم ، ولا أذهانهم ، حتى يقال : إنهم تركوا الحقّ جهلا منهم ، وعدم تمكن من العلم به ، ولا خلل في عقولهم ، ولكن التوفيق بيد الله. (فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ) لا قليل ولا كثير. (إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ) الدالة على توحيده وإفراده بالعبادة. (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) ، أي : نزل بهم العذاب ، الذي يكذبون بوقوعه ، ويستهزئون بالرسل الّذين حذروهم منه.

[٢٧ ـ ٢٨] يحذر تعالى مشركي العرب وغيرهم ، بإهلاك الأمم المكذبين ، الّذين هم حول ديارهم ، بل كثير منهم في جزيرة العرب ، كعاد وثمود ونحوهم ، وأن الله تعالى صرّف لهم الآيات ، أي : نوّعها من كل وجه. (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عما هم عليه من الكفر والتكذيب. فلما لم يؤمنوا أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر ، ولم تنفعهم آلهتهم الّتي يدعون من دون الله من شيء ، ولهذا قال هنا : (فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً) ، أي : يتقربون إليهم ، ويتألهونهم لرجاء نفعهم. (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) فلم يجيبوهم ولا دفعوا عنهم (وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) من الكذب ، الذي يمنون به أنفسهم ، حيث يزعمون أنهم على الحقّ ، وأن أعمالهم ستنفعهم ، فضلت وبطلت.

[٢٩] كان الله تعالى قد أرسل رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الخلق ، إنسهم وجنهم ، وكان لا بد من إبلاغ الجميع لدعوة النبوة والرسالة. فالإنس يمكنه ، عليه الصلاة والسّلام ، دعوتهم وإنذارهم ، وأما الجن ، فصرفهم الله إليه بقدرته ، وأرسل إليه (نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا) ، وصّى بعضهم بعضا بذلك. (فَلَمَّا قُضِيَ) وقد وعوه ، وأثّر ذلك فيهم (وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) نصحا منهم لهم ، وإقامة للحجة عليهم ، وقيضهم الله ، معونة لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نشر دعوته في الجن.

[٣٠] (قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) لأن كتاب موسى أصل للإنجيل ، وعمدة لبني إسرائيل في أحكام الشرع ، وإنّما الإنجيل متمم ومكمل ومغير لبعض الأحكام. (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي) ، هذا الكتاب الذي سمعناه (إِلَى الْحَقِ) وهو : الصواب في كل مطلوب وخبر (وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) موصل إلى الله ، وإلى جنته ، من العلم بالله ، وبأحكامه الدينية ، وأحكام الجزاء.

[٣١] فلما مدحوا القرآن وبينوا محله ومرتبته ، دعوهم إلى الإيمان

٩٤٥

به ، فقالوا : (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) ، أي : الذي لا يدعو إلا إلى ربه ، لا يدعوكم إلى غرض من أغراضه ، ولا هوى ، وإنّما يدعوكم إلى ربكم ، ليثيبكم ، ويزيل عنكم كل شر ومكروه ، ولهذا قالوا : (وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) ، وإذا أجارهم من العذاب الأليم ، فما ثمّ بعد ذلك إلا النعيم ، فهذا جزاء من أجاب داعي الله.

[٣٢] (وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ) فإن الله على كل شيء قدير ، فلا يفوته هارب ، ولا يغالبه مغالب. (وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ، وأيّ ضلال أبلغ من ضلال من نادته الرسل ، ووصلت إليه النذر بالآيات البينات ، والحجج المتواترات ، فأعرض واستكبر؟

[٣٣] (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٣٣) هذا استدلال منه تعالى على الإعادة بعد الموت ، بما هو أبلغ منها ، وهو : أنه الذي خلق السماوات والأرض ، على عظمهما وسعتهما ، وإتقان خلقهما ، من دون أن يكترث بذلك ، ولم يعي بخلقهن. فكيف تعجزه إعادتكم بعد موتكم ، وهو على كل شيء قدير؟

[٣٤] يخبر تعالى عن حال الكفار الفظيعة عند عرضهم على النار الّتي كانوا يكذبون بها ، وأنهم يوبخون ، ويقال لهم : (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) ، فقد حضرتموه وشاهدتموه عيانا؟ (قالُوا بَلى وَرَبِّنا) ، فاعترفوا بذنبهم ، وتبين كذبهم. (قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) ، أي : عذابا لازما دائما ، كما كان كفركم صفة لازمة.

[٣٥] ثمّ أمر تعالى رسوله ، أن يصبر على أذية المكذبين المعادين له ، وأن لا يزال داعيا لهم إلى الله ، وأن يقتدي بصبر أولي العزم من المرسلين ، سادات الخلق ، أولي العزائم والهمم العالية ، الذي عظم صبرهم ، وتم يقينهم ، فهم أحق الخلق بالأسوة بهم ، والقفو لآثارهم ، والاهتداء بمنارهم. فامتثل صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأمر ربه ، فصبر صبرا لم يصبره نبي قبله ، حتى رماه المعاندون له عن قوس واحدة. قاموا جميعا بصده عن الدعوة إلى الله ، وفعلوا ما يمكنهم من المعاداة والمحاربة. وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يزل صادعا بأمر الله ، ومقيما على جهاد أعداء الله ، صابرا على ما يناله من الأذى ، حتى مكّن الله له في الأرض ، وأظهر دينه على سائر الأديان ، وأمته على سائر الأمم ، فصلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما. وقوله : (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) ، أي : المكذبين المستعجلين للعذاب ، فإن هذا من جهلهم وحمقهم ، فلا يستخفنك جهلهم ولا يحملك ما ترى من استعجالهم على أن تدعو الله عليهم بذلك ، فإن كل ما هو آت قريب. (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا) في الدنيا (إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) ، فلا يحزنك تمتعهم القليل وهم صائرون إلى العذاب الوبيل. (بَلاغٌ) ، أي : هذه الدنيا ، متاعها وشهوتها ولذاتها بلغة منغصة ، ودفع وقت حاضر قليل. وهذا القرآن العظيم ، الذي بيّنّا لكم فيه البيان التام ، بلاغ لكم ، وزاد إلى الدار الآخرة. ونعم الزاد والبلغة ، زاد يوصل إلى دار النعيم ، ويعصم من العذاب الأليم ، فهو أفضل زاد يتزوده الخلائق ، وأجلّ نعمة أنعم الله بها عليهم. (فَهَلْ يُهْلَكُ) بالعقوبات (إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) ، أي : الّذين لا خير فيهم ، وقد خرجوا عن طاعة ربهم ، ولم يقبلوا الحقّ الذي جاءتهم به الرسل. وأعذر الله لهم ، وأنذرهم ، فاستمروا على تكذيبهم وكفرهم ، نسأل الله العصمة. تم تفسير سورة الأحقاف ـ بحول الله وتوفيقه.

٩٤٦

سورة محمد

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] هذه الآيات مشتملات على ذكر ثواب المؤمنين وعقاب العاصين ، والسبب في ذلك دعوة الخلق إلى الاعتبار بذلك ، فقال : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) وهؤلاء رؤساء الكفر ، وأئمة الضلال الّذين جمعوا بين الكفر بالله وآياته ، والصد لأنفسهم وغيرهم عن سبيل الله ، الّتي هي الإيمان بما دعت إليه الرسل واتباعه. فهؤلاء (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) ، أي : أبطلها وأشقاهم بسببها ، وهذا يشمل أعمالهم الّتي عملوها ليكيدوا بها الحقّ ، وأولياء الله. إن الله جعل كيدهم في نحورهم ، فلم يدركوا مما قصدوا شيئا ، وأعمالهم الّتي يرجون أن يثابوا عليها ، إن الله سيحبطها عليهم ، والسبب في ذلك أنهم اتبعوا الباطل ، وهو : كل غاية لا يراد بها وجه الله من عبادة الأصنام والأوثان. والأعمال الّتي في نصر الباطل لما كانت باطلة ، كانت الأعمال لأجلها باطلة.

[٢] (وَالَّذِينَ آمَنُوا) بما أنزل الله على رسله عموما ، وعلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خصوصا ، (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بأن قاموا بما عليهم من حقوق الله ، وحقوق العباد الواجبة والمستحبة. (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) صغارها وكبارها ، وإذا كفّرت سيئاتهم ، نجوا من عذاب الدنيا والآخرة. (وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) ، أي : أصلح دينهم ودنياهم ، وقلوبهم وأعمالهم ، وأصلح ثوابهم ، بتنميته وتزكيته ، وأصلح جميع أحوالهم ، والسبب في ذلك أنهم :

[٣] (اتَّبَعُوا الْحَقَ) الذي هو الصدق واليقين ، وما اشتمل عليه هذا القرآن العظيم الصادر (مِنْ رَبِّهِمْ) الذي رباهم بنعمته ، ودبرهم بلطفه فرباهم تعالى بالحق ، فاتبعوه ، فصلحت أمورهم. فلما كانت الغاية المقصودة لهم ، متعلقة بالحق المنسوب إلى الله الباقي ، الحقّ المبين ، كانت الوسيلة صالحة باقية ، باقيا ثوابها. (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) حيث بيّن لهم تعالى أهل الخير وأهل الشر ، وذكر لكل منهم صفة يعرفون بها ويتميزون (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ).

[٤] يقول تعالى ـ مرشدا عباده إلى ما فيه صلاحهم ، ونصرهم على أعدائهم ـ : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) فى الحرب والقتال ، فاصدقوهم القتال ، واضربوا منهم الأعناق. (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ) وكسرتم شوكتهم ، ورأيتم الأسر أولى وأصلح ، (فَشُدُّوا الْوَثاقَ) ، أي : الرباط ، وهذا احتياط لأسرهم لئلا يهربوا ، فإذا اشتد منهم الوثاق اطمأن المسلمون من حربهم ، ومن شرهم. فإذا كانوا تحت أسركم ، فأنتم بالخيار بين المنّ عليهم ، وإطلاقهم بلا مال. (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) بأن لا تطلقوهم حتى يشتروا أنفسهم ، أو يشتريهم أصحابهم بمال ، أو بأسير مسلم عندهم. وهذا الأمر مستمر (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) ، أي : حتى لا يبقى حرب. وتبقون في المسألة والمهادنة ، فإن لكل مقام مقالا ، ولكل حال حكما ، فالحال المتقدمة ، إنّما هي إذا كان قتال وحرب. فإذا كان في بعض الأوقات ، لا حرب فيه لسبب من الأسباب ، فلا قتل ولا أسر. (ذلِكَ) الحكم المذكور في ابتلاء المؤمنين بالكافرين ، ومداولة الأيام بينهم ، وانتصار بعضهم على بعض (وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) ، فإنه تعالى على كل شيء قدير ، وقادر على أن لا ينتصر

٩٤٧

الكفار في موضع واحد أبدا ، حتى يبيد المسلمون خضراءهم. (وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) ليقوم سوق الجهاد ، وتتبين بذلك أحوال العباد ، الصادق من الكاذب ، وليؤمن من آمن إيمانا صحيحا ، عن تبصرة ، لا إيمانا مبنيا على متابعة أهل الغلبة ، فإنه إيمان ضعيف جدا ، لا يستمر لصاحبه عند المحن والبلايا. (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) لهم ثواب جزيل ، وأجر جميل ، وهم الّذين قاتلوا من أمروا بقتالهم ، لتكون كلمة الله هي العليا. (فَلَنْ يُضِلَ) الله (أَعْمالَهُمْ) ، أي : لن يحبطها ويبطلها ، بل يتقبلها وينميها لهم ، ويظهر من أعمالهم نتائجها ، في الدنيا والآخرة.

[٥] (سَيَهْدِيهِمْ) إلى سلوك الطريق الموصلة إلى الجنة ، (وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) ، أي : حالهم وأمورهم ، وثوابهم يكون صالحا كاملا لا نكد فيه ، ولا تنغيص ، بوجه من الوجوه.

[٦] (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) (٦) ، أي : عرفها أولا ، بأن شوّقهم إليها ، ونعتها لهم ، وذكر لهم الأعمال الموصلة إليه ، الّتي من جملتها الشهادة في سبيل الله ، ووفقهم للقيام بما أمرهم به ورغّبهم فيه ، ثمّ إذا دخلوا الجنة ، عرفهم منازلهم ، وما احتوت عليه من النعيم المقيم ، والعيش السليم.

[٧] هذا أمر منه تعالى للمؤمنين ، أن ينصروا الله بالقيام بدينه ، والدعوة إليه ، وجهاد أعدائه ، وأن يقصدوا بذلك وجه الله ، فإنّهم إذا فعلوا ذلك ، نصرهم وثبّت أقدامهم ، أي : يربط على قلوبهم بالصبر ، والطمأنينة والثبات ، ويصبر أجسادهم على ذلك ، ويعينهم على أعدائهم. فهذا وعد من كريم صادق الوعد ، أن الذي ينصره بالأقوال والأفعال سينصره مولاه ، وييسر له أسباب النصر ، من الثبات وغيره.

[٨] وأما الّذين كفروا بربهم ، ونصروا الباطل ، (فَتَعْساً لَهُمْ) فإنهم في تعس ، أي : انتكاس من أمرهم وخذلان. (وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) ، أي : أبطل أعمالهم الّتي يكيدون بها الحقّ ، فرجع كيدهم في نحورهم ، وبطلت أعمالهم الّتي يزعمون أنهم يريدون بها وجه الله.

[٩] ذلك الإضلال والتعس ، للذين كفروا ، بسبب أنهم (كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) من القرآن الذي أنزله ، صلاحا للعباد ، وفلاحا لهم ، فلم يقبلوه ، بل أبغضوه وكرهوه (فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ).

[١٠] أي : أفلا يسير هؤلاء المكذبون بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ، فإنهم لا يجدون عاقبتهم إلا شر العواقب. فإنهم لا يلتفتون يمنة ولا يسرة إلا وجدوا من كان قبلهم قد بادوا وهلكوا ، واستأصلهم التكذيب والكفر ، فخمدوا ، ودمّر الله عليهم أموالهم وديارهم ، بل دمر أعمالهم ومكرهم. وللكافرين في كل زمان ومكان ، أمثال هذه العواقب الوخيمة ، والعقوبات الذميمة. وأما المؤمنون ، فإن الله تعالى ينجيهم من العذاب ، ويجزل لهم كثير الثواب.

[١١] (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) فتولاهم برحمته ، فأخرجهم من الظلمات إلى النور ، وتولى جزاءهم ، ونصرهم. (وَأَنَّ الْكافِرِينَ) بالله تعالى ، حيث قطعوا عنهم ولاية الله ، وسدوا على أنفسهم رحمته (لا مَوْلى لَهُمْ) يهديهم إلى سبل السّلام ، ولا ينجيهم من عذاب الله وعقابه. بل أولياؤهم الطاغوت ، يخرجونهم من النور إلى الظلمات ، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.

[١٢] لما ذكر تعالى أنه ولي المؤمنين ، ذكر ما يفعل بهم في الآخرة ، من دخول الجنات ، الّتي تجري من تحتها

٩٤٨

الأنهار ، الّتي تسقي تلك البساتين الزاهرة ، والأشجار الناضرة المثمرة ، بكل زوج بهيج ، وكل فاكهة لذيذة. ولما ذكر أن الكافرين لا مولى لهم ، ذكر أنهم وكلوا إلى أنفسهم ، فلم يتصفوا بصفات المروءة ، ولا الصفات الإنسانية. بل نزلوا عنها دركات ، وصاروا كالأنعام ، الّتي لا عقل لها ولا فضل ، بل جلّ همهم ومقصدهم التمتع بلذات الدنيا وشهواتها ، فترى حركاتهم الظاهرة والباطنة ، دائرة حولها ، غير متعدية لها إلى ما فيه الخير والسعادة ، ولهذا كانت النار مثوى لهم ، أي : منزلا معدا ، لا يخرجون منها ، ولا يفتر عنهم من عذابها.

[١٣] أي : وكم من قرية من قرى المكذبين ، هي أشد قوة من قريتك ، في الأموال والأولاد والأعوان ، والأبنية والآلات. (أَهْلَكْناهُمْ) ، حين كذبوا رسلنا ، ولم تفد فيهم المواعظ ، فلا تجد لهم ناصرا ، ولم تغن عنهم قوتهم من عذاب الله شيئا. فكيف حال هؤلاء الضعفاء ، أهل قريتك ، إذا أخرجوك عن وطنك وكذبوك ، وعادوك وأنت أفضل المرسلين ، وخير الأولين والآخرين؟ أليسوا بأحق من غيرهم بالإهلاك والعقوبة ، لو لا أن الله تعالى بعث رسوله بالرحمة والتأني ، بكل كافر وجاحد؟

[١٤] أي : لا يستوي من هو على بصيرة من أمر دينه ، علما وعملا ، قد علم الحقّ واتبعه ، ورجا ما وعده الله لأهل الحقّ ، كمن هو أعمى القلب ، قد رفض الحقّ وأضله ، واتبع هواه بغير هدى من الله ، ومع ذلك ، يرى أن ما هو عليه هو الحقّ ، فما أبعد الفرق بين الفريقين وما أعظم التفاوت بين الطائفتين ، أهل الحقّ وأهل الغيّ.

[١٥] (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) ، أي : الّتي أعدها الله لعباده ، الّذين اتقوا سخطه ، واتبعوا رضوانه ، أنها من نعتها ، وصفتها الجميلة. (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) ، أي : غير متغير ، لا بوخم ولا بريح منتنة ، ولا بحرارة ، ولا بكدورة ، بل هو أعذب المياه وأصفاها ، وأطيبها ريحا ، وألذها شربا. (وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) بحموضة ولا غيرها ، (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) ، أي : يلتذ بها لذة عظيمة ، لا كخمر الدنيا الّتي يكره مذاقها وتصدع الرأس ، وتغول العقل. (وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) من شمعه وسائر أوساخه. (وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) من نخيل ، وعنب ، وتفاح ، ورمان ، وأترج ، وتين ، وغير ذلك مما لا نظير له في الدنيا ، فهذا المحبوب المطلوب قد حصل لهم. ثمّ قال : (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) يزول بها عنهم المرهوب ، فهؤلاء خير أم (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) الّتي اشتد حرها ، وتضاعف عذابها ، (وَسُقُوا) فيها (ماءً حَمِيماً) ، أي : حارا جدا ، (فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ). فسبحان من فاوت بين الدارين والجزاءين والعاملين والعملين.

[١٦] يقول تعالى : ومن المنافقين (مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) ما تقول استماعا ، لا عن قبول وانقياد ، بل معرضة قلوبهم عنه ، ولهذا قال : (حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) مستفهمين عما قلت ، وما سمعوا ، مما لم يكن لهم فيه رغبة (ما ذا قالَ آنِفاً) ، أي : قريبا. وهذا في غاية الذم لهم ، فإنهم لو كانوا حريصين على الخير لألقوا إليه أسماعهم ، ووعته قلوبهم ، وانقادت له جوارحهم ، ولكنهم بعكس هذه الحال ، ولهذا قال : (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) ،

٩٤٩

أي : ختم عليها ، وسد أبواب الخير التي تصل إليها بسبب اتباعهم أهواءهم ، التي لا يهوون فيها إلا الباطل. ثم بين حال المهتدين ، فقال :

[١٧] (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا) بالإيمان والانقياد ، واتباع ما يرضي الله (زادَهُمْ هُدىً) شكرا منه تعالى على ذلك ، (وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) ، أي : وفقهم للخير ، وحفظهم من الشر ، فذكر للمهتدين جزاءين : العلم النافع ، والعمل الصالح.

[١٨] أي : فهل ينظر هؤلاء المكذبون أو ينتظرون (إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) ، أي : فجأة ، وهم لا يشعرون (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) ، أي : علاماتها الدالة على قربها. (فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ) ، أي : من أين لهم ، إذا جاءتهم الساعة وانقطعت آجالهم أن يتذكروا ويستعتبوا؟ فقد فات ذلك ، وذهب وقت التذكر ، فقد عمروا ما يتذكر فيه من تذكر ، وجاءهم النذير. ففي هذا الحث على الاستعداد قبل مفاجأة الموت ، فإن موت الإنسان قيام ساعته.

[١٩] العلم لا بد فيه من إقرار القلب ومعرفته ، بمعنى ما طلب منه علمه ، وتمامه أن يعمل بمقتضاه. وهذا العلم الذي أمر الله به ـ وهو العلم بتوحيد الله ـ فرض عين على كل إنسان ، لا يسقط عن أحد ، كائنا من كان ، بل كلّ مضطر إلى ذلك. والطريق إلى العلم بأنه لا إله إلا الله ، أمور : أحدها بل أعظمها : ـ تدبر أسمائه وصفاته ، وأفعاله الدالة على كماله وعظمته وجلاله. فإنها توجب بذل الجهد في التأله له ، والتعبد للرب الكامل الذي له كل حمد ومجد وجلال وجمال. الثاني : العلم بأنه تعالى هو المنفرد بالخلق والتدبير ، فيعلم بذلك أنه المنفرد بالألوهية. الثالث : العلم بأنه المنفرد بالنعم الظاهرة والباطنة ، الدينية والدنيوية ، فإن ذلك يوجب تعلق القلب به ومحبته ، والتأله له وحده لا شريك له. الرابع : ما نراه ونسمعه من الثواب لأوليائه القائمين بتوحيده من النصر والنعم العاجلة ، ومن عقوبته لأعدائه المشركين به ، فإن هذا داع إلى العلم ، بأنه تعالى وحده المستحق للعبادة كلها. الخامس : معرفة أوصاف الأوثان والأنداد الّتي عبدت مع الله ، واتخذت آلهة ، وأنها ناقصة من جميع الوجوه ، فقيرة بالذات ، لا تملك لنفسها ولا لعابديها نفعا ولا ضرا ، ولا موتا ولا حياة ، ولا نشورا ، ولا ينصرون من عبدهم ، ولا ينفعونهم بمثقال ذرة ، من جلب خير أو دفع شر ، فإن العلم بذلك يوجب العلم بأنه لا إله إلا الله وبطلان إلهية ما سواه. السادس : اتفاق كتب الله على ذلك ، وتواطؤها عليه. السابع : أن خواص الخلق ، الّذين هم أكمل الخليقة أخلاقا وعقولا ، ورأيا وصوابا ، وعلما ـ وهم الرسل والأنبياء والعلماء الربانيون ـ قد شهدوا لله بذلك. الثامن : ما أقامه الله من الأدلة الأفقية والنفسية ، الّتي تدل على التوحيد أعظم دلالة ، تنادي عليه بلسان حالها بما أودعها من لطف صنعته ، وبديع حكمته وغرائب خلقه. فهذه الطرق الّتي أكثر الله من دعوة الخلق بها إلى أنه لا إله إلا الله ، وأبداها في كتابه وأعادها ؛ عند تأمل العبد في بعضها ، لا بد أن يكون عنده يقين وعلم بذلك ، فكيف إذا اجتمعت وتواطأت واتفقت ، وقامت أدلة للتوحيد من كل جانب ، فهناك يرسخ الإيمان والعلم بذلك ، في قلب العبد ، بحيث يكون كالجبال الرواسي ، لا تزلزله الشبه والخيالات ، ولا يزداد ـ على تكرر الباطل والشبه ـ إلا نموا وكمالا. هذا وإن نظرت إلى الدليل العظيم ، والأمر الكبير ـ وهو تدبر هذا القرآن العظيم ،

٩٥٠

والتأمل في آياته ـ فإنه الباب الأعظم إلى العلم بالتوحيد ويحصل به من تفاصيله وجمله ، ما لا يحصل في غيره. وقوله : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) ، أي : اطلب من الله المغفرة لذنبك ، بأن تفعل أسباب المغفرة من التوبة والدعاء بالمغفرة ، والحسنات الماحية ، وترك الذنوب والعفو عن الجرائم. (وَ) استغفر أيضا (لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) فإنهم ـ بسبب إيمانهم ـ كان لهم حق على كل مسلم ومسلمة. ومن جملة حقوهم أن يدعي لهم ويستغفر لذنوبهم. وإذا كان مأمورا بالاستغفار لهم المتضمن لإزالة الذنوب وعقوباتها عنهم ، فإن من لوازم ذلك النصح لهم ، وأن يحب لهم من الخير ما يحب لنفسه ، ويكره لهم من الشر ما يكره لنفسه ، ويأمرهم بما فيه الخير لهم ، وينهاهم عما فيه ضررهم ، ويعفو عن مساويهم ومعايبهم ، ويحرص على اجتماعهم اجتماعا تتألف به قلوبهم ، ويزول ما بينهم من الأحقاد المفضية للمعاداة والشقاق ، الذي به تكثر ذنوبهم ومعاصيهم. (وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ) أي : تصرفاتكم وحركاتكم ، وذهابكم ومجيئكم ، (وَمَثْواكُمْ) الذي به تستقرون ، فهو يعلمكم في الحركات والسكنات ، فيجازيكم على ذلك أتم الجزاء وأوفاه.

[٢٠] يقول تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) استعجالا ومبادرة للأوامر الشاقة : (لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) ، أي : فيها الأمر بالقتال. (فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ) ، أي : ملزم العمل بها ، (وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ) ، الذي هو أشق شيء على النفوس ، لم يثبت ضعفاء الإيمان على امتثال هذه الأوامر ، ولهذا قال : (رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) من كراهتهم لذلك ، وشدته عليهم. وهذا كقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً).

[٢١] ثمّ ندبهم تعالى إلى ما هو الأليق بحالهم ، فقال : (فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) ، أي : فأولى لهم أن يمتثلوا الأمر الحاضر المحتم عليهم ، ويجمعوا عليه هممهم ، ولا يطلبوا أن يشرع لهم ما هو شاق عليهم ، وليفرحوا بعافية الله تعالى وعفوه. (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) ، أي : جاءهم أمر جد ، وأمر حتم (فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ) في هذه الحال بالاستعانة به ، وبذل الجهد في امتثاله (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) من حالهم الأولى ، وذلك من وجوه : منها : إن العبد ناقص من كل وجه ، لا قدرة له إلا إن أعانه الله ، فلا يطلب زيادة على ما هو قائم بصدده. ومنها : أنه إذا تعلقت نفسه بالمستقبل ، ضعف عن العمل ، بوظيفة وقته الحاضر ، وبوظيفة المستقبل. أما الحال ، فلأن الهمة انتقلت عنه إلى غيره ، والعمل تبع للهمة ، وأما المستقبل ، فإنه لا يجيء حتى تفتر الهمة عن نشاطها فلا يعان عليه. ومنها : أن العبد المؤمل للآمال المستقبلة ، مع كسله عن عمل الوقت الحاضر ، شبيه بالمتألّي الذي يجزم بقدرته ، على ما يستقبل من أموره. فأحرى به أن يخذل ولا يقوم بما همّ به ، وتوعّد نفسه عليه ، فالذي ينبغي أن يجمع العبد همه وفكره ونشاطه على وقته الحاضر ، ويؤدي وظيفته بحسب قدرته. ثمّ كلما جاء وقت استقبله بنشاط ، وهمة عالية مجتمعة غير متفرقة ، مستعينا بربه في ذلك ، فهذا أحرى بالتوفيق والتسديد في جميع أموره.

[٢٢] ثمّ ذكر تعالى المتولّي عن طاعة ربه ، وأنه لا يتولى إلى خير ، بل إلى شر ، فقال : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ

٩٥١

تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) (٢٢) ، أي : فهما أمران ، إما التزام لطاعة الله ، وامتثال لأوامره ، فثمّ الخير والرشد والفلاح ، وإما الإعراض عن ذلك ، والتولّي عن طاعة الله فما ثمّ إلا الفساد في الأرض ، بالعمل بالمعاصي ، وقطيعة الأرحام.

[٢٣] (أُولئِكَ الَّذِينَ) أفسدوا في الأرض ، وقطعوا أرحامهم (لَعَنَهُمُ اللهُ) بأن أبعدهم عن رحمته ، وقربوا من سخط الله. (فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) ، أي : جعلهم لا يسمعون ما ينفعهم ، ولا يبصرونه. فلهم آذان ولكن لا تسمع سماع إذعان وقبول ، وإنّما تسمع سماعا تقوم بها حجة الله عليها ، ولهم أعين ، ولكن لا يبصرون بها العبر والآيات ، ولا يلتفتون بها إلى البراهين والبينات.

[٢٤] (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) أي : فهلا يتدبر هؤلاء المعرضون لكتاب الله ، ويتأملونه حق التأمل ، فإنهم لو تدبروه ، لدلّهم على كل خير ، ولحذّرهم من كل شر ، ولملأ قلوبهم من الإيمان ، وأفئدتهم من الإيقان. ولأوصلهم إلى المطالب العالية ، والمواهب الغالية ، ولبيّن لهم الطريق الموصلة إلى الله ، وإلى جنته ومكملاتها ومفسداتها ، والطريق الموصلة إلى العذاب ، وبأي شيء يحذر. ولعرّفهم بربهم ، وأسمائه وصفاته ، وإحسانه ، ولشوّقهم إلى الثواب الجزيل ، ورهّبهم من العقاب الوبيل. (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) ، أي : قد أغلق على ما فيها من الإعراض والغفلة والاعتراض ، وأقفلت ، فلا يدخلها خير أبدا؟ هذا هو الواقع.

[٢٥] يخبر تعالى عن حالة المرتدين عن الهدى والإيمان ، على أعقابهم ، إلى الضلال والكفران. ذلك لا عن دليل دلهم ، ولا برهان ، وإنّما هو تسويل من عدوهم الشيطان وتزيين لهم ، وإملاء منه لهم : (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) (١٢٠).

[٢٦] و (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ) قد تبين لهم الهدى ، فزهدوا فيه ، ورفضوه ، و (قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ) من المبرزين العداوة لله ولرسوله (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) ، أي : الذي يوافق أهواءهم ، فلذلك عاقبهم الله بالضلال ، والإقامة على ما يوصلهم إلى الشقاء الأبدي ، والعذاب السرمدي. (وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) فلذلك فضحهم ، وبينها لعباده المؤمنين ، لئلا يغتروا بها.

[٢٧] (فَكَيْفَ) ترى حالهم الشنيعة ، ورؤيتهم الفظيعة (إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ) الموكلون بقبض أرواحهم (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) بالمقامع الشديدة؟

[٢٨] (ذلِكَ) العذاب الذي استحقوه ونالوه (ب) سبب أنهم (اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ) من كل كفر وفسوق وعصيان. (وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ) فلم يكن لهم رغبة فيما يقربهم إليه ، ولا يدنيهم منه ، (فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) ، أي : أبطلها وأذهبها ، وهذا بخلاف من اتبع ما يرضي الله وكره سخطه ؛ فإنه سيكفر عنه سيئاته ، ويضاعف له أجره وثوابه.

[٢٩] يقول تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) من شبهة أو شهوة بحيث تخرج القلب عن حال صحته واعتداله. (أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ) ما في قلوبهم من (أَضْغانَهُمْ) وعداوتهم للإسلام وأهله؟ هذا ظن لا يليق بحكمة الله ، فإنه لا بد أن يميز الصادق من الكاذب ، وذلك بالابتلاء بالمحن الّتي من ثبت عليها ، ودام إيمانه فيها فهو المؤمن حقيقة. ومن ردته على عقبيه فلم يصبر عليها ، وحين أتاه الامتحان ، جزع وضعف إيمانه ، وظهر ما في قلبه من الضغن ، وتبين نفاقه ، هذا مقتضى الحكمة الإلهية ، مع أنه تعالى قال :

[٣٠] (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) ، أي : بعلاماتهم الّتي هي كالرسم في وجوههم. (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) ، أي : لا بد أن يظهر ما في قلوبهم ، ويتبين بفلتات ألسنتهم. فإن الألسن مغارف القلوب ، يظهر فيها ما في القلوب من الخير والشر (وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) فيجازيكم عليها.

[٣١] ثمّ ذكر أعظم امتحان يمتحن به عباده ، وهو الجهاد في سبيل الله ، فقال :

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) ، أي : نختبر إيمانكم وصبركم (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) ، فمن امتثل أمر الله وجاهد في سبيل الله بنصر دينه وإعلاء كلمته فهو المؤمن حقا ، ومن تكاسل عن ذلك ، كان ذلك نقصا في إيمانه.

[٣٢] (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) هذا وعيد شديد لمن جمع أنواع الشر كلها ، من الكفر بالله ، وصد الخلق عن سبيل الله الذي نصبه موصلا إليه. (وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى) ، أي : عاندوه ، وخالفوه عن

٩٥٢

عمد وعناد ، لا عن جهل وغيّ وضلال ، فإنهم (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) فلا ينقص به ملكه. (وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) ، أي : مساعيهم الّتي بذلوها في نصر الباطل ، بأن لا تثمر لهم إلا الخيبة والخسران ، وأعمالهم الّتي يرجون بها الثواب ، لا تقبل لعدم وجود شرطها.

[٣٣] يأمر تعالى المؤمنين بأمر به تتم وتحصل سعادتهم الدينية والدنيوية ، وهو طاعته وطاعة رسوله في أصول الدين وفروعه ، والطاعة هي : امتثال الأوامر ، واجتناب النهي على الوجه المأمور به بالإخلاص وتمام المتابعة. وقوله : (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) يشمل النهي عن إبطالها بعد عملها ، بما يفسدها ، من منّ بها وإعجاب ، وفخر وسمعة ، ومن عمل بالمعاصي الّتي تضمحل معها الأعمال ، ويحبط أجرها ، ويشمل النهي عن إفسادها حال وقوعها بقطعها ، أو الإتيان بمفسد من مفسداتها. فمبطلات الصلاة والصيام والحج ونحوها ، كلها داخلة في هذا ، ومنهيّ عنها ، ويستدل الفقهاء بهذه الآية على تحريم قطع الفرض ، وكراهة قطع النفل ، من غير موجب لذلك. وإذا كان الله قد نهى عن إبطال الأعمال ، فهو أمر بإصلاحها ، وإكمالها وإتمامها ، والإتيان بها ، على الوجه الذي تصلح به علما وعملا.

[٣٤] هذه الآية والّتي في البقرة وهي قوله تعالى : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) مقيدتان ، لكل نص مطلق ، فيه إحباط العمل بالكفر ، فإنه مقيد بالموت عليه. فقال هنا : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله وملائكته ، وكتبه ورسله ، واليوم الآخر (وَصَدُّوا) الخلق (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) بتزهيدهم إياهم بالحق ، ودعوتهم إلى الباطل ، وتزيينه. (ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) لم يتوبوا منه (فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) لا بشفاعة ولا بغيرها ، لأنه قد تحتم عليهم العقاب ، وفاتهم الثواب ، ووجب عليهم الخلود في النار ، وسدت عليهم رحمة الرحيم الغفار. ومفهوم الآية الكريمة أنهم إن تابوا من ذلك قبل موتهم ، فإن الله يغفر لهم ويرحمهم ويدخلهم الجنة ، ولو كانوا مفنين أعمارهم في الكفر به والصد عن سبيله ، والإقدام على معاصيه. فسبحان من فتح لعباده أبواب الرحمة ، ولم يغلقها عن أحد ، مادام حيا متمكنا من التوبة. وسبحان الحليم ، الذي لا يعاجل العاصين بالعقوبة ، بل يعافيهم ، ويرزقهم ، كأنهم ما عصوه مع قدرته عليهم.

[٣٥] ثمّ قال تعالى : (فَلا تَهِنُوا) أي : لا تضعفوا عن قتال عدوكم ، ويستولي عليكم الخوف ، بل اصبروا واثبتوا ، ووطّنوا أنفسكم على القتال والجلاد ، طلبا لمرضاة ربكم ، ونصحا للإسلام ، وإغضابا للشيطان. (وَ) لا (تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) والمتاركة بينكم وبين أعدائكم ، طلبا للراحة ، (وَ) الحال أنكم (أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ) ، أي : ينقصكم (أَعْمالَكُمْ). فهذه الأمور الثلاثة ، كل منها مقتض للصبر وعدم الوهن كونهم الأعلين ، أي : قد توفرت لهم أسباب النصر ، ووعدوا من الله بالوعد الصادق ، فإن الإنسان لا يهن إلا إذا كان أذل من غيره وأضعف عددا ، أو عددا وقوة داخلية وخارجية. الثاني : أن الله معهم ، فإنهم مؤمنون ، والله مع المؤمنين ، بالعون والنصر والتأييد ، وذلك موجب لقوة قلوبهم ، وإقدامهم على عدوهم. الثالث : أن الله لا ينقصهم من أعمالهم شيئا ،

٩٥٣

بل سيوفيهم أجورهم ، ويزيدهم من فضله ، خصوصا عبادة الجهاد ، فإن النفقة تضاعف فيه ، إلى سبعمائة ضعف ، إلى أضعاف كثيرة. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٢١). فإذا عرف الإنسان أن الله تعالى لا يضيع عمله وجهاده ، أوجب له ذلك النشاط ، وبذل الجهد ، فيما يترتب عليه الأجر والثواب ، فكيف إذا اجتمعت هذه الأمور الثلاثة؟ فإن ذلك يوجب النشاط التام ، فهذا من ترغيب الله لعباده ، وتنشيطهم وتقوية أنفسهم على ما فيه صلاحهم وفلاحهم.

[٣٦] (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) هذا تزهيد منه تعالى لعباده في الحياة الدنيا بإخبارهم عن حقيقة أمرها ، بأنها لعب ولهو ، لعب في الأبدان ولهو في القلوب. فلا يزال العبد لاهيا في ماله ، وأولاده ، وزينته ، ولذاته من النساء ، والمآكل والمشارب ، والمساكن والمجالس ، والمناظر والرياسات ، لاعبا في كل عمل لا فائدة فيه ، بل هو دائر بين البطالة والغفلة والمعاصي ، حتى يستكمل دنياه ، ويحضره أجله. فإذا هذه الأمور قد ولّت وفارقت ، ولم يحصل العبد منها على طائل ، بل قد تبين له خسرانه وحرمانه وحضر عذابه ، فهذا موجب للعاقل الزهد فيها ، وعدم الرغبة فيها ، والاهتمام بشأنها. وإنّما الذي ينبغي أن يهتم به ما ذكره بقوله : (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا) بأن تؤمنوا بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وتقوموا بتقواه الّتي هي من لوازم الإيمان ومقتضياته ، وهي العمل بمرضاته على الدوام ، مع ترك معاصيه ، فهذا الذي ينفع العبد ، وهو الذي ينبغي أن يتنافس فيه ، وتبذل الهمم والأعمال في طلبه. وهو مقصود الله من عباده رحمة بهم ، ولطفا ، ليثيبهم الثواب الجزيل ، ولهذا قال : (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) ، أي : لا يريد تعالى أن يكلفكم ما يشق عليكم ، ويعنتكم من أخذ أموالكم ، وبقائكم بلا مال ، أو ينقصكم نقصا يضركم ، ولهذا قال :

[٣٧] (إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) (٣٧) ، أي : ما في قلوبكم من الضغن ، إذا طلب منكم ما تكرهون بذله.

[٣٨] الدليل على أن الله لو طلب منكم أموالكم وأحفاكم بسؤالها ، أنكم تمنعون منها أنكم (تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) على هذا الوجه ، الذي فيه مصلحتكم الدينية والدنيوية. (فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ). أي : فكيف لو سألكم ، وطلب منكم أموالكم في غير أمر ترونه مصلحة عاجلة؟ أليس من باب أولى وأحرى ، امتناعكم من ذلك. ثمّ قال : (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) لأنه حرم نفسه ثواب الله تعالى ، وفاته خير كثير ، ولن يضر الله بترك الإنفاق شيئا. (وَاللهُ) هو (الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) تحتاجون إليه في جميع أوقاتكم ، لجميع أموركم. (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) عن الإيمان بالله ، وامتثال ما يأمركم به (يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) في التولّي «عن أمر الله». بل يطيعون الله ورسوله ، كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ). تم تفسير سورة محمّد ـ (القتال) ـ والحمد لله رب العالمين.

٩٥٤

تفسير سورة الفتح

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] هذا الفتح المذكور هو صلح الحديبية ، حين صد المشركون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما جاء معتمرا في قصة طويلة ، صار آخر أمرها أن صالحهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين ، وعلى أن يعتمر من العام المقبل ، وعلى أن من أراد أن يدخل في عهد قريش وحلفهم دخل ، ومن أحب أن يدخل في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعقده فعل. وسبب ذلك أنه لما أمن الناس بعضهم بعضا ، اتسعت دائرة الدعوة لدين الله عزوجل ، وصار كل مؤمن بأي محل كان من تلك الأقطار ، يتمكن من ذلك. وأمكن ذلك للحريص على الوقوف على حقيقة الإسلام ، فدخل الناس في تلك المدة في دين الله أفواجا ، فلذلك سماه الله فتحا ووصفه بأنه فتح مبين ، أي : ظاهر جلي. وذلك لأن المقصود من فتح بلدان المشركين إعزاز دين الله ، وانتصار المسلمين ، وهذا حصل به الفتح ، ورتب الله على هذا الفتح عدة أمور ، فقال :

[٢] (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) وذلك ـ والله أعلم ـ بسبب ما حصل بسببه من الطاعات الكثيرة ، والدخول في الدين بكثرة. وبما تحمّل صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تلك الشروط الّتي لا يصبر عليها ، إلا أولو العزم من المرسلين ، وهذا من أعظم مناقبه ، وكراماته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) بإعزاز دينك ، ونصرك على أعدائك ، واتساع كلمتك ، (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) تنال به السعادة الأبدية ، والفلاح السرمدي.

[٣] (وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) (٣) ، أي : قويا لا يتضعضع فيه الإسلام ، بل يحصل الانتصار التام ، وقمع الكافرين ، وذلهم ونقصهم ، مع توفر المسلمين ونموهم ، ونمو أموالهم. ثمّ ذكر آثار هذا الفتح على المؤمنين ، فقال : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ) ، إلى : (وَساءَتْ مَصِيراً).

[٤] يخبر تعالى عن منّته على المؤمنين بإنزال السكينة في قلوبهم ، وهي : السكون والطمأنينة ، والثبات عند نزول المحن المقلقلة ، والأمور الصعبة الّتي تشوش القلوب وتزعج الألباب وتضعف النفوس. فمن نعمة الله على عبده في هذه الحال أن يثبته ويربط على قلبه ، وينزل عليه السكينة ، ليتلقى هذه المشقات بقلب ثابت ، ونفس مطمئنة ، فيستعد بذلك لإقامة أمر الله في هذه الحال ، فيزداد بذلك إيمانه ، ويتم إيقانه. فالصحابة رضي الله عنهم لما جرى بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمشركين ، من تلك الشروط الّتي ظاهرها أنها غضاضة عليهم ، وحط من أقدارهم ، وتلك لا تكاد تصبر عليها النفوس. فلما صبروا عليها ، ووطنوا أنفسهم لها ، ازدادوا بذلك إيمانا مع إيمانهم. وقوله : (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، أي : جميعها في ملكه ، وتحت تدبيره وقهره. فلا يظن المشركون أن الله لا ينصر دينه ونبيه ، ولكنه تعالى عليم حكيم ، فتقتضي حكمته المداولة بين الناس في الأيام ، وتأخير نصر المؤمنين إلى وقت آخر.

[٥] (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) فهذا أعظم ما يحصل للمؤمنين ، أي : يحصل لهم المرغوب المطلوب ، بدخول الجنات ، ويزيل عنهم المحذور بتكفير السيئات. (وَكانَ ذلِكَ) الجزاء المذكور للمؤمنين (عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً) ، فهذا ما يفعل بالمؤمنين في ذلك الفتح المبين.

[٦] وأما المنافقون والمنافقات ، والمشركون والمشركات ، فإن الله يعذبهم بذلك ، ويريهم ما يسوؤهم ، حيث كان مقصودهم خذلان المؤمنين ، وظنوا بالله ظن السوء ، أنه لا ينصر دينه ، ولا يعلي كلمته ، وأن أهل الباطل ، ستكون لهم الدائرة على أهل الحقّ ، فأدار الله عليهم ظنهم ، وكانت دائرة السوء عليهم في الدنيا. (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) بما

٩٥٥

اقترفوه من المحادّة لله ولرسوله. (وَلَعَنَهُمْ) ، أي : أبعدهم وأقصاهم عن رحمته (وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً).

[٧] كرر الإخبار بأن له ملك السماوات والأرض وما فيهما من الجنود ، ليعلم العباد أنه تعالى هو المعز المذل ، وأنه سينصر جنوده المنسوبة إليه ، كما قال تعالى : (وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) (١٧٣). (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) ، أي : قويا غالبا ، قاهرا لكل شيء. ومع عزته وقوته ، حكيم في خلقه وتدبيره ، يجري على ما تقتضيه حكمته وإتقانه.

[٨] أي : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ) أيها الرسول الكريم (شاهِداً) لأمتك بما فعلوه من خير وشر ، وشاهدا على المقالات والمسائل ، حقها وباطلها ، وشاهدا لله تعالى بالوحدانية والانفراد بالكمال ، من كل وجه. (وَمُبَشِّراً) من أطاعك ، وأطاع الله بالثواب الدنيوي والديني ، والأخروي ، (وَنَذِيراً) لمن عصى الله ، بالعقاب العاجل والآجل. ومن تمام البشارة والنذارة ، بيان الأعمال والأخلاق ، الّتي يبشر بها وينذر ، فهو المبين للخير والشر ، والسعادة والشقاوة ، والحقّ من الباطل.

[٩] ولهذا رتب على ذلك قوله : (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) ، أي : بسبب دعوة الرسول لكم ، وتعليمه لكم ما ينفعكم ، أرسلناه لتقوموا بالإيمان بالله ورسوله ، المستلزم ذلك لطاعتهما في جميع الأمور. (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) ، أي : تعزروا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتوقروه ، أي : تعظموه وتجلوه ، وتقوموا بحقوقه ، كما كانت له المنة العظيمة في رقابكم. (وَتُسَبِّحُوهُ) ، أي : تسبحوا لله (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أول النهار وآخره ، فذكر الله في هذه الآية الحقّ المشترك بين الله وبين رسوله ، وهو الإيمان بهما ، والمختص بالرسول ، وهو : التعزير والتوقير ، والمختص بالله ، وهو التسبيح له والتقديس بصلاة أو غيرها.

[١٠] هذه المبايعة الّتي أشار الله إليها هي «بيعة الرضوان» الّتي بايع الصحابة رضي الله عنهم فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، على أن لا يفروا عنه ، فهي عقد خاص ، من لوازمه : أن لا يفروا ، ولو لم يبق منهم إلا القليل ، ولو كانوا في حال يجوز الفرار فيها. فأخبر تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ) حقيقة الأمر أنهم (إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) ، ويعقدون العقد معه ، حتى إنه من شدة تأكده أنه قال : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) ، أي : كأنهم بايعوا الله وصافحوه بتلك المبايعة ، وكل هذا لزيادة التأكيد والتقوية ، وحملهم على الوفاء بها ، ولهذا قال : (فَمَنْ نَكَثَ) فلم يف بما عاهد الله عليه (فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) ، لأن وبال ذلك راجع إليه ، وعقوبته واصلة له. (وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ) ، أي : أتى به كاملا موفرا. (فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) ، لا يعلم عظمه وقدره إلا الذي آتاه إياه.

[١١] يذم تعالى المتخلفين عن رسول الله ، في الجهاد في سبيله ، من الأعراب ، الّذين ضعف إيمانهم ، وكان في قلوبهم مرض ، وسوء ظن بالله تعالى ، وأنهم سيعتذرون ، بأن أموالهم وأهليهم شغلتهم عن الخروج في سبيله. وأنهم طلبوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يستغفر لهم ، قال الله تعالى : (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) فإن طلبهم الاستغفار من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدل على ندمهم ، وإقرارهم على أنفسهم بالذنب ، وأنهم تخلفوا تخلفا يحتاج إلى توبة واستغفار. فلو لا هذا الذي في قلوبهم ، لكان استغفار الرسول نافعا لهم ، لأنهم قد تابوا وأنابوا ، ولكن الذي في قلوبهم ، أنهم

٩٥٦

إنما تخلفوا لأنهم ظنوا بالله ظن السوء.

[١٢] فظنوا (أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً) ، أي : إنهم سيقتلون ويستأصلون ، ولم يزل هذا الظن يزيد في قلوبهم ، ويطمئنون إليه ، حتى استحكم ، وسبب ذلك أمران : أحدهما : أنهم كانوا (قَوْماً بُوراً) ، أي : هلكى ، لا خير فيهم ، فلو كان فيهم خير ، لم يكن هذا في قلوبهم.

[١٣] الثاني : ضعف إيمانهم ويقينهم بوعد الله ، ونصر دينه ، وإعلاء كلمته ، ولهذا قال : (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) ، أي : فإنه كافر مستحق للعقاب ، (فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً).

[١٤] أي : هو تعالى المنفرد بملك السماوات والأرض ، يتصرف فيهما بما يشاء من الأحكام القدرية ، والأحكام الشرعية ، والأحكام الجزائية ، ولهذا ذكر حكم الجزاء المرتب على الأحكام الشرعية ، فقال : (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) ، وهو : من قام بما أمره الله به (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) ممن تهاون بأمر الله ، (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) ، أي : وصفه اللازم الذي لا ينفك عنه المغفرة والرحمة. فلا يزال في جميع الأوقات يغفر للمذنبين ، ويتجاوز عن الخطائين ، ويتقبل توبة التائبين ، وينزل خيره المدرار ، آناء الليل والنهار.

[١٥] لما ذكر تعالى المخلفين وذمهم ، ذكر أن من عقوبتهم الدنيوية ، أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، إذا انطلقوا إلى غنائم لا قتال فيها ليأخذوها ، طلبوا منهم الصحبة والمشاركة ، ويقولون : (ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ) بذلك (أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) حيث حكم بعقوبتهم ، واختصاص الصحابة المؤمنين بتلك الغنائم ، شرعا وقدرا. (قُلْ) لهم (لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) إنكم محرومون منها بما جنيتم على أنفسكم ، وبما تركتم القتال أول مرة. (فَسَيَقُولُونَ) ، مجيبين لهذا الكلام ، الذي منعوا به عن الخروج : (بَلْ تَحْسُدُونَنا) على الغنائم ، هذا منتهى علمهم في هذا الموضع. ولو فهموا رشدهم ، لعلموا أن حرمانهم بسبب عصيانهم ، وأن المعاصي لها عقوبات دنيوية ودينية ، ولهذا قال : (بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً).

[١٦] لما ذكر تعالى أن المخلفين من الأعراب ، يتخلفون عن الجهاد في سبيله ، ويعتذرون بغير عذر ، وأنهم يطلبون الخروج معهم ، إذا لم يكن شوكة ولا قتال ، بل لمجرد الغنيمة ، قال تعالى ممتحنا لهم : (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) ، أي : سيدعوكم الرسول ومن ناب منابه من الخلفاء الراشدين والأئمة. وهؤلاء القوم هم فارس والروم ومن نحا نحوهم وأشبههم. (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) ، أي : إما هذا وإما هذا. وهذا هو الأمر الواقع ، فإنهم في حال قتالهم ، ومقاتلتهم لأولئك الأقوام ، إذا كانت شدتهم وبأسهم معهم ، فإنهم في تلك الحال لا يقبلون أن يبذلوا الجزية ، بل إما أن يدخلوا في الإسلام ، وإما أن يقاتلوا على ما هم عليه. فلما أثخنهم المسلمون ، وضعفوا وذلّوا ، ذهب بأسهم ، فصاروا إما أن يسلموا ، وإما أن يبذلوا الجزية ، (فَإِنْ تُطِيعُوا) الداعي إلى قتال هؤلاء (يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً) ، وهو الأجر الذي رتبه الله ورسوله على الجهاد في سبيل الله. (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ) عن قتال من دعاكم الرسول إلى قتاله ، (يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) ، ودلت هذه الآية على فضيلة الخلفاء الراشدين ، الداعين لجهاد أهل البأس من الناس ، وأنه تجب طاعتهم في ذلك.

[١٧] ثمّ ذكر الأعذار الّتي يعذر بها

٩٥٧

العبد ، عن الخروج إلى الجهاد ، فقال : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) ، أي : في التخلف عن الجهاد لعذرهم المانع. (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) في امتثال أمرهما ، واجتناب نهيهما (يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) ، فيها ما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين. (وَمَنْ يَتَوَلَ) عن طاعة الله ورسوله (يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً) ، فالسعادة كلها في طاعة الله والشقاوة في معصيته ومخالفته.

[١٨] يخبر تعالى ، بفضله ورحمته ، برضاه عن المؤمنين إذ يبايعون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تلك المبايعة الّتي بيضت وجوههم ، واكتسبوا بها سعادة الدنيا والآخرة. وكان سبب هذه البيعة ـ الّتي يقال لها : «بيعة الرضوان» لرضا الله عن المؤمنين فيها ، ويقال لها : «بيعة أهل الشجرة» ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دار الكلام بينه وبين المشركين يوم الحديبية ، في شأن مجيئه ، وأنه لم يجىء لقتال أحد ، وإنما جاء زائرا هذا البيت ، معظما له. فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه لمكة في ذلك. فجاء خبر غير صادق ، أن عثمان قتله المشركون. فجمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من معه من المؤمنين ، وكانوا نحوا من ألف وخمسائة ، فبايعوه تحت شجرة ، على قتال المشركين ، وأن لا يفروا حتى يموتوا. فأخبر تعالى أنه رضي عن المؤمنين في تلك الحال ، الّتي هي من أكبر الطاعات وأجلّ القربات (فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ) من الإيمان (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) شكرا لهم على ما في قلوبهم ، وزادهم هدى. وعلم ما في قلوبهم من الجزع ، من تلك الشروط الّتي شرطها المشركون على رسوله ، فأنزل عليهم السكينة ، تثبتهم ، وتطمئن بها قلوبهم (وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) ، وهو فتح خيبر ، لم يحضره سوى أهل الحديبية. فاختصّوا بخيبر وغنائمها ، جزاء لهم ، وشكرا على ما فعلوه من طاعة الله تعالى ، والقيام بمرضاته.

[١٩] (وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (١٩) ، أي : له العزة والقدرة ، الّتي قهر بها الأشياء ، فلو شاء لانتصر من الكفار في كلّ وقعة تكون بينهم وبين المؤمنين. ولكنه حكيم ، يبتلي بعضهم ببعض ، ويمتحن المؤمن بالكافر.

[٢٠] (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها) وهذا يشمل كلّ غنيمة غنمها المسلمون إلى يوم القيامة. (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ) ، أي : غنيمة خيبر ، أي : فلا تحسبوها وحدها ، بل ثمّ شيء كثير من الغنائم سيتبعها. (وَ) احمدوا الله ، إذ (كَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ) القادرين على قتالكم ، الحريصين عليه (عَنْكُمْ) فهي نعمة ، وتخفيف عنكم. (وَلِتَكُونَ) هذه الغنيمة (آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) يستدلون بها على خبر الله الصادق ، ووعده الحقّ ، وثوابه للمؤمنين ، وأن الذي قدرها ، سيقدر غيرها. (وَيَهْدِيَكُمْ) بما يقيض لكم من الأسباب (صِراطاً مُسْتَقِيماً) من العلم والإيمان والعمل.

[٢١] (وَأُخْرى) ، أي : وعدكم أيضا غنيمة أخرى (لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها) وقت هذا الخطاب. (قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) ، أي : هو قادر عليها ، وهي تحت تدبيره وملكه ، وقد وعدكموها ، فلا بد من وقوع ما وعد به ، لكمال اقتدار الله تعالى ، ولهذا قال : (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً).

[٢٢] هذه بشارة من الله لعباده المؤمنين ، بنصرهم على أعدائهم الكافرين ، وأنهم لو قابلوهم وقاتلوهم (لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا) يتولى أمرهم. (وَلا نَصِيراً) ينصرهم ، ويعينهم على قتالكم ، بل هم مخذولون

٩٥٨

مغلوبون.

[٢٣] وهذه سنة الله في الأمم السابقة ، أن جند الله هم الغالبون : (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً).

[٢٤] يقول تعالى ممتنا على عباده بالعافية ، من شر الكفار ومن قتالهم ، فقال : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ) ، أي : أهل مكة (عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) ، أي : من بعد ما قدرتم عليهم ، وصاروا تحت ولايتكم بلا عقد ولا عهد ، وهم نحو ثمانين رجلا ، انحدروا على المسلمين ليصيبوا منهم غرة. فوجدوا المسلمين منتبهين فأمسكوهم ، فتركوهم ، ولم يقتلوهم ، رحمة من الله بالمؤمنين إذ لم يقتلوهم. (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) فيجازي كل عامل بعمله ، ويدبركم ، أيها المؤمنون ، بتدبيره الحسن.

[٢٥] ثمّ ذكر تعالى ، الأمور المهيجة على قتال المشركين ، وهي : كفرهم بالله ورسوله ، وصدهم رسول الله ومن معه من المؤمنين ، أن يأتوا للبيت الحرام زائرين معظمين له بالحج والعمرة. وهم الّذين أيضا صدوا (الْهَدْيَ مَعْكُوفاً) ، أي : محبوسا (أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) ، وهو محل ذبحه في مكة ، حيث تذبح هدايا العمرة ، فمنعوه من الوصول إليه ظلما وعدوانا ، وكلّ هذه أمور موجبة ، وداعية إلى قتالهم. ولكن ثمّ مانع وهو : وجود رجال ونساء من أهل الإيمان ، بين أظهر المشركين ، وليسوا بمتميزين بمحلة ، أو مكان يمكن أن لا ينالهم أذى. فلو لا هؤلاء الرجال المؤمنون ، والنساء المؤمنات ، الّذين لا يعلمهم المسلمون أن تطأوهم ، أي : خشية أن تطأوهم (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ) ، والمعرة : ما يدخل تحت قتالهم ، من نيلهم بالأذى والمكروه. وفائدة أخروية ، وهو : أنه (لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) فيمنّ عليهم بالإيمان بعد الكفر ، وبالهدى بعد الضلال ، فيمنعكم من قتالهم لهذا السبب. (لَوْ تَزَيَّلُوا) ، أي : لو زالوا من بين أظهرهم (لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) بأن نبيح لكم قتالهم ، ونأذن فيه ، وننصركم عليهم.

[٢٦] يقول تعالى : (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) حيث أنفوا من كتابة «بسم الله الرحمن الرحيم» وأنفوا من دخول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين إليهم في تلك السنة ، لئلا يقول الناس : «دخلوا مكة قاهرين لقريش». وهذه الأمور ونحوها ، من أمور الجاهلية ، لم تزل في قلوبهم حتى أوجبت لهم ما أوجبت ، من كثير من المعاصي. (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) فلم يحملهم الغضب على مقابلة المشركين بما قابلوهم به ، بل صبروا لحكم الله ، والتزموا الشروط ، الّتي فيها تعظيم حرمات الله ولو كانت ما كانت ، ولم يبالوا بقول القائلين ، ولا بلوم اللائمين. (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) وهي «لا إله إلا الله» وحقوقها ، ألزمهم القيام بها ، فالتزموها ، وقاموا بها. (وَكانُوا أَحَقَّ بِها) من غيرهم (وَ) كانوا (أَهْلَها) الّذين استأهلوا لما يعلم الله عندهم ، وفي قلوبهم من الخير ، ولهذا قال : (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً).

[٢٧] يقول تعالى : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِ) ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى في المدينة رؤيا أخبر بها أصحابه ، أنهم سيدخلون مكة ، ويطوفون بالبيت. فلما جرى يوم الحديبية ما جرى ، ورجعوا من غير دخول لمكة ، كثر في ذلك الكلام منهم ، حتى إنهم قالوا ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألم تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ فقال :

٩٥٩

«أخبرتكم أنه العام؟» قالوا : لا ، قال : «فإنكم ستأتونه وتطوفون به». قال الله تعالى هنا : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِ) ، أي : لا بد من وقوعها وصدقها ، ولا يقدح في ذلك تأويلها. (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) ، أي : في هذه الحال ، المقتضية لتعظيم هذا البيت الحرام ، وأدائكم للنسك ، وتكميله بالحلق والتقصير ، وعدم الخوف. (فَعَلِمَ) من المصالح والمنافع (ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ) الدخول بتلك الصفة (فَتْحاً قَرِيباً). ولما كانت هذه الواقعة ، مما تشوشت به قلوب بعض المؤمنين ، وخفيت عليهم حكمتها ، فبين تعالى حكمتها ومنفعتها ، وهكذا سائر أحكامه الشرعية ، فإنها كلها هدى ورحمة.

[٢٨] أخبر بحكم عام ، فقال : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى) الذي هو العلم النافع ، الذي يهدي من الضلالة ، ويبين طرق الخير والشر. (وَدِينِ الْحَقِ) ، أي : الدين الموصوف بالحق ، وهو : العدل ، والإحسان ، والرحمة. وهو : كل عمل مزكّ للقلوب ، مطهّر للنفوس ، مربّ للأخلاق ، معل للأقدار. (لِيُظْهِرَهُ) بما بعثه الله به (عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) بالحجة والبرهان ، ويكون داعيا لإخضاعهم بالسيف والسنان.

[٢٩] يخبر تعالى عن نبيه (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَالَّذِينَ مَعَهُ) من أصحابه من المهاجرين والأنصار ، أنهم بأكمل الصفات ، وأجل الأحوال. وأنهم (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) ، أي : جادون ومجتهدون في قتالهم (١) ، وساعون في ذلك بغاية جهدهم ، فلم يرى الكفار منهم إلا الغلظة والشدة. فلذلك ذل أعداؤهم لهم ، وانكسروا ، وقهرهم المسلمون. (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) ، أي : متحابون ، متراحمون ، متعاطفون ، كالجسد الواحد ، يحب أحدهم لأخيه ، ما يحب لنفسه ، هذه معاملتهم مع الخلق. وأما معاملتهم مع الخالق فإنك (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) ، أي : وصفهم كثرة الصلاة ، الّتي أجل أركانها : الركوع والسجود. (يَبْتَغُونَ) بتلك العبادة (فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) ، أي : هذا مقصودهم بلوغ رضا ربهم ، والوصول إلى ثوابه. (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) ، أي : قد أثرت العبادة ـ من كثرتها وحسنها ـ في وجوههم ، حتى استنارت. لما استنارت بالصلاة بواطنهم ، استنارت بالجلال ، ظواهرهم. (ذلِكَ) المذكور (مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) ، أي : هذا وصفهم ، الذي وصفهم الله به ، مذكور في التوراة هكذا. (وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) بوصف آخر ، وأنهم في كمالهم وتعاونهم (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ) ، أي : أخرج أفرخة فوازرته فراخه ، في الثبات والاستواء. (فَاسْتَغْلَظَ) ذلك الزرع ، أي : قوي وغلظ (فَاسْتَوى) ، أي : قوي واستقام (عَلى سُوقِهِ) ، جمع ساق ، أي : أصوله ، والمراد أنه قوي وقام على قضبانه. (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) من كماله واستوائه ، وحسنه واعتداله. كذلك الصحابة رضي الله عنهم ، هم كالزرع ، في نفعهم للخلق ، واحتياج الناس إليهم ، فقوة إيمانهم وأعمالهم بمنزلة قوة عروق الزرع ، وسوقه. وكون الصغير والمتأخر إسلامه ، قد لحق الكبير السابق ، ووازره ، وعاونه على ما

__________________

(١) في المطبوعة (نصرتهم) خطأ ، والله أعلم.

٩٦٠