تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي

تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

المؤلف:

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ١١٣٥

(وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) أي : الذي لا يغني من الحق شيئا (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) في ذلك ، خرص إفك وبهتان. فإن كانوا صادقين ، في أن معبوداتهم شركاء لله ، فليظهروا من أوصافها ما تستحق به مثقال ذرة من العبادة ، فلن يستطيعوا. فهل منهم أحد يخلق شيئا ، أو يرزق ، أو يملك شيئا من المخلوقات ، أو يدبر الليل والنهار ، الذي جعله الله قياما للناس؟. و (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) في النوم والراحة بسبب الظلمة ، التي تغشى وجه الأرض ، فلو استمر الضياء ، لما قرّوا ، ولما سكنوا. (وَ) جعل الله (النَّهارَ مُبْصِراً) أي : مضيئا ، يبصر به الخلق ، فينصرفون في معايشهم ، ومصالح دينهم ودنياهم. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) عن الله ، سمع فهم ، وقبول ، واسترشاد ، لا سمع تعنت وعناد ، فإن في ذلك لآيات لقوم يسمعون ، ويستدلون بها على أنه وحده المعبود وأنه الإله الحق ، وأن إلهية ما سواه باطلة ، وأنه الرؤوف الرحيم العليم الحكيم.

[٦٨] يقول تعالى ـ مخبرا عن بهت المشركين لرب العالمين ـ (قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) ، فنزّه نفسه عن ذلك بقوله : (سُبْحانَهُ) أي : تنزه عما يقول الظالمون ، في نسبة النقائص إليه علوا كبيرا ، ثم برهن عن ذلك ، بعدة براهين : أحدها : قوله : (هُوَ الْغَنِيُ) أي : الغنى منحصر فيه ، وأنواع الغنى مستغرقة فيه ، فهو الغني ، الذي له الغنى التام ، بكل وجه واعتبار ، من جميع الوجوه ، فإذا كان غنيا من كل وجه ، فلأي شيء يتخذ الولد؟ ا لحاجة منه إلى الولد ، فهذا مناف لغناه ، فلا يتخذ أحد ولدا إلا لنقص في غناه. البرهان الثاني ، قوله : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) وهذه كلمة جامعة عامة لا يخرج عنها موجود من أهل السموات والأرض ، الجميع مخلوقون عبيد مماليك. ومن المعلوم أن هذا الوصف العام ، ينافي أن يكون له ولد ، فإن الولد من جنس والده ، لا يكون مخلوقا ولا مملوكا. فملكيته لما في السموات والأرض عموما ، تنافي الولادة. البرهان الثالث ، قوله : (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا) أي : هل عندكم من حجة وبرهان يدل على أن لله ولدا ، فلو كان لهم دليل ، لأبدوه. فلما تحداهم وعجّزهم على إقامة الدليل ، علم بطلان ما قالوه. وأن ذلك قول بلا علم ، ولهذا قال : (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) فإن هذا من أعظم المحرمات.

[٦٩ ـ ٧٠] (قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) (٦٩) أي : لا ينالون مطلوبهم ، ولا يحصل لهم مقصودهم ، وإنما يتمتعون في كفرهم وكذبهم في الدنيا ، قليلا ، ثم ينتقلون إلى الله ، ويرجعون إليه ، فيذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون ، (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).

[٧١ ـ ٧٢] يقول تعالى لنبيّه : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) أي : على قومك (نَبَأَ نُوحٍ) في دعوته لقومه ، حين دعاهم إلى الله مدة طويلة ، فمكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، فلم يزدهم دعاؤه إياهم إلا طغيانا فتمللوا منه ، وسئموا ، وهو عليه الصلاة والسلام غير متكاسل ، ولا متوان في دعوتهم ، فقال لهم : (يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ) أي : إن كان مقامي عندكم وتذكيري إياكم ما ينفعكم (بِآياتِ اللهِ) الأدلة الواضحة البينة ، قد شق عليكم ، وعظم لديكم ، وأردتم أن تنالوني بسوء أو تردوا الحق. (فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ) أي : اعتمدت على الله ، في دفع كل شر يراد بي ، وبما أدعو إليه ، فهذا جندي ، وعدّتي. وأنتم ، فأتوا بما قدرتم عليه ، من أنواع العدد والعدد. (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ) كلكم ، بحيث لا يتخلف منكم أحد ، ولا تدخروا من مجهودكم شيئا. (وَ) أحضروا (شُرَكاءَكُمْ) الذين كنتم تعبدونهم وتوالونهم من دون الله رب العالمين. (ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) أي : مشتبها خفيا ، بل ليكن ذلك ظاهرا علانية. (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَ) أي : اقضوا عليّ بالعقوبة والسوء الذي في إمكانكم ، (وَلا تُنْظِرُونِ) أي : لا تمهلوني ساعة من نهار. فهذا برهان قاطع ، وآية عظيمة على صحة رسالته ، وصدق ما جاء به ، حيث كان وحده ، ولا عشيرة تحميه ، ولا جنود تؤويه. وقد بادأ قومه بتسفيه آرائهم ، وفساد دينهم ، وعيب آلهتهم. وقد حملوا من

٤٢١

بغضه ، وعداوته ، ما هو أعظم من الجبال الرواسي ، وهم أهل القدرة والسطوة ، وهو يقول لهم : اجتمعوا ، أنتم وشركاؤكم ، ومن استطعتم ، وأبدوا كل ما تقدرون عليه من الكيد ، فأوقعوا بي ، إن قدرتم على ذلك ، فلم يقدروا على شيء من ذلك. فعلم أنه الصادق حقا ، وهم الكاذبون فيما يوعدون ، ولهذا قال : (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) عن ما دعوتكم إليه ، فلا موجب لتوليكم ، لأنه تبين أنكم ، لا تولون عن باطل إلى حق ، وإنّما تولون عن حق قامت الأدلة على صحته إلى باطل قامت الأدلة على فساده. ومع هذا (فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) على دعوتي ، وعلى إجابتكم فتقولوا : هذا جاءنا ، ليأخذ أموالنا ، فتمتنعون لأجل ذلك. (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) أي : لا أريد الثواب والجزاء ، إلا منه. (وَ) أيضا فإني ما أمرتكم بأمر وأخالفكم إلى ضده ، بل (أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) فأنا أول داخل ، وأول فاعل ، لما أمرتكم به.

[٧٣] (فَكَذَّبُوهُ) بعد ما دعاهم ليلا ونهارا ، سرا وجهارا ، فلم يزدهم دعاؤه إلا فرارا ، (فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) الذي أمرناه أن يصنعه بأعيننا ، وقلنا له إذا فار التنور : (احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ) ففعل ذلك. فأمر الله السماء أن تمطر بماء منهمر وفجر الأرض عيونا ، فالتقى الماء على أمر قد قدر : (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) (١٣) تجري بأعيننا ، (وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ) في الأرض ، بعد إهلاك المكذبين. ثمّ بارك الله في ذريته ، وجعل ذريته هم الباقين ، ونشرهم في أقطار الأرض ، (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) بعد ذلك البيان ، وإقامة البرهان. (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) وهو : الهلاك المخزي ، واللعنة المتتابعة عليهم في كل قرن يأتي بعدهم ، لا تسمع فيهم إلا لوما ، ولا ترى إلا قدحا وذما. فليحذر هؤلاء المكذبون ، أن يحل بهم ما حل بأولئك الأقوام المكذبين ، من الهلاك ، والخزي والنكال.

[٧٤] أي : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ) أي : من بعد نوح عليه‌السلام (رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ) المكذبين ، يدعونهم إلى الهدى ، ويحذرونهم من أسباب الردى. (فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي : كل نبي أيّد دعوته ، بالآيات الدالة على صحة ما جاء به. (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) يعني : أن الله تعالى عاقبهم ، حيث جاءهم الرسول ، فبادروا بتكذيبه ، فطبع الله على قلوبهم ، وحال بينهم وبين الإيمان بعد أن كانوا متمكنين منه ، كما قال تعالى : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ). ولهذا قال هنا : (كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) أي : نختم عليها ، فلا يدخلها خير. وما ظلمهم الله ، ولكنهم ظلموا أنفسهم ، بردهم الحقّ ، لما جاءهم ، وتكذيبهم الأول.

[٧٥] أي : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) أي : من بعد هؤلاء الرسل الّذين أرسلهم الله إلى القوم المكذبين المهلكين. (مُوسى) ابن عمران ، كليم الرحمن ، أحد أولي العزم من المرسلين ، وأحد الكبار المقتدى بهم ، المنزل عليهم الشرائع المعظمة الواسعة. (وَ) وجعلنا معه أخاه (هارُونَ) وزيرا وبعثناهما (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أي : كبار دولته ورؤسائهم ، لأن عامتهم ، تبع للرؤساء. (بِآياتِنا) الدالة على صدق ما جاءا به من توحيد الله ، والنهي عن عبادة ما سوى الله تعالى ، (فَاسْتَكْبَرُوا) عنها ، ظلما وعلوا ، بعد ما استيقنوها. (وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) أي : وصفهم الإجرام

٤٢٢

والتكذيب.

[٧٦ ـ ٧٧] [(فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا) الذي هو أكبر أنواع الحقّ وأعظمها ، وهو من عند الله ، الذي خضعت لعظمته الرقاب ، وهو رب العالمين ، المربي جميع خلقه بالنعم] (١). فلما جاءهم الحقّ من عند الله على يد موسى ، ردّوه فلم يقبلوه ، و (قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) لم يكفهم ـ قبحهم الله ـ إعراضهم ولا ردهم إياه ، حتى جعلوه أبطل الباطل ، وهو السحر : الذي حقيقته التمويه ، بل جعلوه سحرا مبينا ، ظاهرا ، وهو الحقّ المبين. ولهذا (قالَ) لهم (مُوسى) ـ موبخا لهم عن ردهم الحقّ الذي لا يرده إلا أظلم الناس ـ : (أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ) أي : أتقولون إنه سحر مبين. (أَسِحْرٌ هذا) أي : فانظروا وصفه ، وما اشتمل عليه ، فبمجرد ذلك يجزم بأنه الحقّ. (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) لا في الدنيا ، ولا في الآخرة ، فانظروا لمن تكون العاقبة ، ومن له الفلاح ، وعلى يديه النجاح. وقد علموا بعد ذلك ، وظهر لكل أحد ، أن موسى عليه‌السلام هو الذي أفلح ، وفاز بظفر الدنيا والآخرة.

[٧٨] (قالُوا) لموسى رادين لقوله بما لا يرد به : (أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) أي : أجئتنا لتصدنا عما وجدنا عليه آباءنا ، من الشرك ، وعبادة غير الله ، وتأمرنا بأن نعبد الله وحده لا شريك له؟ فجعلوا قول آبائهم الضالين ، حجة ، يردون بها الحقّ الذي جاءهم به موسى عليه‌السلام. وقوله : (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ) أي : وجئتمونا لتكونوا أنتم الرؤساء ، ولتخرجونا من أراضينا. وهذا تمويه منهم ، وترويح على جهالهم ، ونهييج لعوامهم ، على معاداة موسى ، وعدم الإيمان به. وهذا لا يحتج به ، من عرف الحقائق وميز بين الأمور ، فإن الحجج لا تدفع إلا بالحجج والبراهين. وأما من جاء بالحق ، فرد قوله بأمثال هذه الأمور ، فإنها تدل على عجز موردها ، عن الإتيان بما يرد القول الذي جاء به خصمه ، لأنه لو كان له حجة ، لأوردها ، ولم يلجأ إلى قوله : قصدك كذا ، أو مرادك كذا ، سواء كان صادقا في قوله وإخباره عن قصد خصمه أم كاذبا. مع أن موسى عليه الصلاة والسّلام ، كل من عرف حاله ، وما يدعو إليه ، عرف أنه ليس له قصد في العلو في الأرض. وإنّما قصده ، كقصد إخوانه المرسلين : هداية الخلق ، وإرشادهم لما فيه نفعهم. ولكن حقيقة الأمر ، كما نطقوا به بقولهم : (وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) أي : تكبرا وعنادا ، لا لبطلان ما جاء به موسى وهارون ، ولا لاشتباه فيه ، ولا لغير ذلك من المعاني ، سوى الظلم والعدوان ، وإرادة العلو الذي رموا به موسى وهارون.

[٧٩] (وَقالَ فِرْعَوْنُ) معارضا للحق الذي جاء به موسى ، ومغالبا لملئه وقومه : (ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) أي : ماهر بالسحر ، متقن له.

[٨٠ ـ ٨٣] فأرسل في مدائن مصر ، من أتاه بأنواع السحرة ، على اختلاف أجناسهم وطبقاتهم. (فَلَمَّا جاءَ

__________________

(١) سقط من المطبوعة التي بين أيدينا ، وهو موافق للسياق.

٤٢٣

السَّحَرَةُ) لمغالبة موسى (قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) أي : أي شيء أردتم ، لا أعين لكم شيئا. وذلك لأنه جازم بغلبته ، غير مبال بهم ، وبما جاءوا به. (فَلَمَّا أَلْقَوْا) حبالهم وعصيهم ، إذا هي كأنها حيات تسعى ، (قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ) أي : هذا السحر الحقيقي العظيم ، ولكن مع عظمته (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ). فإنهم يريدون بذلك نصر الباطل على الحقّ ، وأي فساد أعظم من هذا؟ وهكذا كل مفسد ، عمل عملا ، واحتال كيدا ، أو أتى بمكر ، فإن عمله سيبطل ويضمحل ، وإن حصل لعمله رواج في وقت ما ، فإن مآله الاضمحلال والمحق. وأما المصلحون ، الّذين قصدهم بأعمالهم وجه الله تعالى ، وهي أعمال ووسائل نافعة ، مأمور بها ، فإن الله يصلح أعمالهم ويرقيها ، وينميها على الدوام ، فألقى موسى عصاه ، فتلقفت جميع ما صنعوا ، فبطل سحرهم ، واضمحل باطلهم. (وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) (٨٢) فأذعن السحرة ، حين تبين لهم الحقّ ، فتوعدهم فرعون بالصلب ، وتقطيع الأيدي والأرجل ، فلم يبالوا بذلك وثبتوا على إيمانهم. وأما فرعون وملؤه ، وأتباعهم ، فلم يؤمن منهم أحد ، بل استمروا في طغيانهم يعمهون. ولهذا قال : (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) أي : شباب من بني إسرائيل ، صبروا على الخوف ، لما ثبت في قلوبهم الإيمان. (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ) عن دينهم (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ) أي : له القهر والغلبة فيها ، فحقيق بهم أن يخافوا من بطشته. (وَ) خصوصا (إِنَّهُ) كان (لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) أي : المتجاوزين للحد في البغي والعدوان. والحكمة ـ والله أعلم ـ بكونه ما آمن لموسى إلا ذرية من قومه ، أن الذرية والشباب ، أقبل للحق ، وأسرع له انقيادا ، بخلاف الشيوخ ونحوهم ، ممن تربى على الكفر فإنهم ـ بسبب ما مكث في قلوبهم من العقائد الفاسدة ـ أبعد عن الحقّ من غيرهم.

[٨٤] (وَقالَ مُوسى) موصيا لقومه بالصبر ، ومذكرا لهم ما يستعينون به على ذلك فقال : (يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) فقوموا بوظيفة الإيمان بالله. (فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) أي : اعتمدوا عليه ، وألجئوا إليه واستنصروه.

[٨٥] (فَقالُوا) ممتثلين لذلك (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي : تسلطهم علينا ، فيفتنونا ، أو يغلبونا ، فيفتنونا بذلك ، ويقولون : لو كانوا على حق لما غلبوا.

[٨٦] (وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (٨٦) لنسلم من شرهم ، ولنقيم على ديننا على وجه نتمكن به من إقامة شرائعه ، وإظهاره من غير معارض ، ولا منازع.

[٨٧] (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ) حين اشتد الأمر على قومهما من فرعون وقومه ، وحرصوا على فتنتهم عن دينهم. (أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً) أي : مروهم أن يجعلوا لهم بيوتا ، يتمكنون بها من الاستخفاء فيها. (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) أي : اجعلوها محلا ، تصلون فيها ، حيث عجزتم عن إقامة الصلاة في الكنائس ، والبيع العامة. (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) فإنها معونة على جميع الأمور ، (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) بالنصر والتأييد ، وإظهار دينهم ، فإن مع العسر يسرا ، إن مع العسر يسرا ، وإذا اشتد الكرب ، وضاق الأمر ، فرّجه الله ، ووسعه ، فلما رأى موسى القسوة والإعراض من فرعون وملئه ، دعا عليهم ، وأمّن هارون على دعائه ، فقال :

[٨٨] (رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً) يتزينون بها من أنواع الحلي والثياب ، والبيوت المزخرفة ، والمراكب الفاخرة ، والخدام ، (وَأَمْوالاً) عظيمة (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) أي : إن أموالهم يستعينون بها على الإضلال في سبيلك ، فيضلّون ويضلّون. (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ) أي : أتلفها عليهم : إما بالهلاك ، وإما بجعلها حجارة ، غير منتفع بها. (وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) أي : قسّها (فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ). قال ذلك ، غضبا عليهم ، حيث تجرأوا على محارم الله ، وأفسدوا عباد الله ، وصدوا عن سبيله ، ولكمال معرفته بربه ، بأن الله سيعاقبهم على ما فعلوا ، بإغلاق باب الإيمان عليهم.

[٨٩] (قالَ) الله تعالى : (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) ، وهذا دليل على أن موسى كان يدعو ، وهارون يؤمّن على

٤٢٤

دعائه ، وأن الذي يؤمنّ يكون شريكا للداعي في ذلك الدعاء. (فَاسْتَقِيما) على دينكما ، واستمرا على دعوتكما ، (وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي : لا تتبعان سبيل الجهال الضلال ، المنحرفين عن الصراط المستقيم ، المتبعين لطرق الجحيم. فأمر الله موسى أن يسري ببني إسرائيل ليلا ، وأخبره أنهم سيتبعونه ، وأرسل فرعون في المدائن حاشرين. يقولون : (إِنَّ هؤُلاءِ) أي : موسى وقومه : (لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ) (٥٦). فجمع جنوده ، قاصيهم ودانيهم ، فأتبعهم بجنوده ، بغيا وعدوا أي : أخرجهم باغين على موسى وقومه ، ومعتدين في الأرض ، وإذا اشتد البغي ، واستحكم الذنب ، فانتظر العقوبة.

[٩٠] (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ) وذلك أن الله أوحى إلى موسى ، لما وصل البحر ، أن يضربه بعصاه ، فضربه ، فانفلق اثني عشر طريقا ، وسلكه بنو إسرائيل. وساق فرعون وجنوده خلفه داخلين. فلما استكمل موسى وقومه خارجين من البحر ، وفرعون وجنوده داخلين فيه ، أمر الله البحر ، فالتطم على فرعون وجنوده ، فأغرقهم ، وبنو إسرائيل ينظرون. حتى إذا أدرك فرعون الغرق ، وجزم بهلاكه (قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) وهو الله الإله الحقّ الذي لا إله إلا هو (وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي : المنقادين لدين الله ، ولما جاء به موسى.

[٩١] قال الله تعالى ـ مبينا أن هذا الإيمان في هذه الحالة غير نافع له ـ : (آلْآنَ) تؤمن ، وتقر برسول الله (وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) أي : بارزت بالمعاصي ، والكفر والتكذيب (وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) فلا ينفعك الإيمان كما جرت عادة الله ، أن الكفار إذا وصلوا إلى هذه الحالة الاضطرارية ، أنه لا ينفعهم إيمانهم ، لأن إيمانهم صار إيمانا مشاهدا كإيمان من ورد القيامة ، والذي ينفع ، إنّما هو الإيمان بالغيب.

[٩٢] (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً). قال المفسرون : إن بني إسرائيل لما في قلوبهم من الرعب العظيم من فرعون ، كأنهم لم يصدقوا بإغراقه ، وشكّوا في ذلك. فأمر الله البحر أن يلقيه على نجوة مرتفعة ببدنه ، ليكون لهم عبرة وآية. (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) فلذلك تمر عليهم وتتكرر فلا ينتفعون بها ، لعدم إقبالهم عليها. وأما من له عقل وقلب حاضر ، فإنه يرى من آيات الله ما هو أكبر دليل على صحة ما أخبرت به الرسل.

[٩٣] (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) أي : أنزلهم الله وأسكنهم في مساكن آل فرعون ، وأورثهم أرضهم وديارهم. (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) من المطاعم والمشارب وغيرهما (فَمَا اخْتَلَفُوا) في الحقّ (حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) الموجب لاجتماعهم وائتلافهم ، ولكن بغى بعضهم على بعض ، وصار لكثير منهم أهوية وأغراض تخالف الحقّ ، فحصل بينهم من الاختلاف شيء كثير. (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) يحكمه العدل الناشئ على علمه التام ، وقدرته الشاملة ، وهذا هو الداء ، الذي يعرض لأهل الدين الصحيح. وهو : أن الشيطان إذا أعجزه أن يطيعوه في ترك الدين بالكلية ، سعى في التحريش بينهم ، وإلقاء العداوة والبغضاء ، فحصل من الاختلاف ما هو

٤٢٥

موجب ذلك ، ثمّ حصل من تضليل بعضهم لبعض ، وعداوة بعضهم لبعض ، ما هو قرة عين اللعين. وإلا فإذا كان ربهم واحدا ، ورسولهم واحدا ، ودينهم واحدا ، ومصالحهم العامة متفقة ، فلأي شيء يختلفون اختلافا ، يفرق شملهم ، ويشتت أمرهم ، ويحل رابطتهم ونظامهم ، فيفوت من مصالحهم الدينية والدنيوية ما يفوت ، ويموت من دينهم بسبب ذلك ما يموت؟ فنسألك اللهم لطفا بعبادك المؤمنين ، جمع شملهم ورأب صدعهم ، ورد قاصيهم على دانيهم ، يا ذا الجلال والإكرام.

[٩٤] يقول تعالى لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) هل هو صحيح أم غير صحيح؟ (فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) أي : اسأل أهل الكتاب المنصفين ، والعلماء الراسخين ، فإنهم سيقرون لك بصدق ما أخبرت به ، وموافقته لما معهم. فإن قيل : إن كثيرا من أهل الكتاب ، من اليهود والنصارى ، بل ربما كان أكثرهم ومعظمهم ، كذبوا رسول الله ، وعاندوه ، وردوا عليه دعوته. والله تعالى أمر رسوله أن يستشهد بهم ، وجعل شهادتهم حجة لما جاء به ، وبرهانا على صدقه ، فكيف يكون ذلك؟ فالجواب عن هذا من عدة أوجه : منها : أن الشهادة إذا أضيفت إلى طائفة ، أو أهل مذهب ، أو بلد ونحوهم ، فإنها إنّما تتناول العدول الصادقين منهم. وأما من عداهم ، فلو كانوا أكثر من غيرهم ، فلا عبرة فيهم ، لأن الشهادة مبنية على العدالة والصدق ، وقد حصل ذلك بإيمان كثير من أحبارهم الربانيين ، ك «عبد الله بن سلام» وأصحابه ، وكثير ممن أسلم في وقت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وخلفائه ، ومن بعدهم. ومنها : أن شهادة أهل الكتاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مبنية على كتابهم التوراة الذي ينتسبون إليه. فإذا كان موجودا في التوراة ، ما يوافق القرآن ويصدقه ، ويشهد له بالصحة ، فلو اتفقوا من أولهم لآخرهم على إنكار ذلك ، لم يقدح بما جاء به الرسول. ومنها : أن الله تعالى أمر رسوله أن يستشهد بأهل الكتاب على صحة ما جاءه ، وظهر ذلك وأعلنه على رؤوس الأشهاد. ومن المعلوم أن كثيرا منهم ، من أحرص الناس على إبطال دعوة الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فلو كان عندهم ما يرد ما ذكره الله ، لأبدوه ، وأظهروه وبينوه. فلما لم يكن شيء من ذلك ، كان عدم رد المعادي ، وإقرار المستجيب من أدل الأدلة على صحة هذا القرآن وصدقه. ومنها : أنه ليس أكثر أهل الكتاب رد دعوة الرسول ، بل أكثرهم استجاب لها ، وإنقاذ طوعا واختيارا ، فإن الرسول بعث ، وأكثر أهل الأرض المتدينين أهل الكتاب. فلم يمكث دينه مدة غير كثيرة ، حتى انقاد للإسلام أكثر أهل الشام ، ومصر ، والعراق ، وما جاورها من البلدان التي هي مقر دين أهل الكتاب ، فلم يبق إلا أهل الرياسات الّذين آثروا رياساتهم على الحقّ ، ومن تبعهم من العوام الجهلة ، ومن تدين بدينهم اسما لا معنى ، كالإفرنج الّذين حقيقة أمرهم ، أنهم دهرية منحلون عن جميع أديان الرسل. وإنّما انتسبوا للدين المسيحي ترويجا لملكهم ، وتمويها لباطلهم ، كما يعرف ذلك من عرف أحوالهم البينة الظاهرة. وقوله : (لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُ) أي : الذي لا شك فيه بوجه من الوجوه (مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) كقوله تعالى : (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ).

[٩٥] (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٩٥) ، وحاصل هذا أن الله نهى عن

٤٢٦

شيئين : الشك في هذا القرآن والامتراء منه. وأشد من ذلك ، التكذيب به ، وهو آيات الله البينات التي لا تقبل التكذيب بوجه ، ورتب على هذا الخسار وهو : عدم الربح أصلا ، وذلك بفوات الثواب ، في الدنيا والآخرة ، وحصول العقاب في الدنيا والآخرة ، والنهي عن الشيء أمر بضده ، فيكون أمرا بالتصديق التام بالقرآن ، وطمأنينة القلب إليه ، والإقبال عليه علما وعملا. فبذلك يكون العبد من الرابحين الّذين أدركوا أجل المطالب ، وأفضل الرغائب ، وأتم المناقب ، وانتفى عنهم الخسار.

[٩٦ ـ ٩٧] يقول تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) أي : إنهم من الضالين الغاوين أهل النار ، لا بد أن يصيروا إلى ما قدره الله وقضاه ، فلا يؤمنون ، ولو جاءتهم كل آية ، فلا تزيدهم الآيات إلا طغيانا ، وغيّا إلى غيهم. وما ظلمهم الله ، ولكن ظلموا أنفسهم بردهم للحق لما جاءهم أول مرة ، فعاقبهم الله بأن طبع على قلوبهم وأسماعهم ، وأبصارهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم الذي وعدوا به. فحينئذ يعلمون حق اليقين ، أن ما هم عليه هو الضلال ، وأن ما جاءتهم به الرسل هو الحقّ. ولكن في وقت لا يجدي عليهم إيمانهم شيئا ، فيومئذ لا ينفع الّذين ظلموا معذرتهم ، ولا هم يستعتبون ، وأما الآيات ، فإنها تنفع من له قلب ، أو ألقى السمع وهو شهيد.

[٩٨] يقول تعالى : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ) من قرى المكذبين (آمَنَتْ) حين رأت العذاب (فَنَفَعَها إِيمانُها) أي : لم يكن منهم أحد انتفع بإيمانه ، حين رأى العذاب ، كما قال تعالى عن فرعون ما تقدم قريبا ، لما قال : (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) فقيل له : (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (٩١). وكما قال تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ). وقال تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا). والحكمة في هذا ظاهرة ، فإن الإيمان الاضطراري ، ليس بإيمان حقيقة ، ولو صرف عنه العذاب ، والأمر الذي اضطره إلى الإيمان ، لرجع إلى الكفران. وقوله : (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا) بعد ما رأوا العذاب ، (كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) فهم مستثنون من العموم السابق. ولا بد لذلك من حكمة لعالم الغيب والشهادة ، لم تصل إلينا ، ولم تدركها أفهامنا. قال الله تعالى : (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (١٣٩) إلى قوله : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (١٤٨) ، ولعل الحكمة في ذلك أن غيرهم من المهلكين ، لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه. وأما قوم يونس ، فإن الله أعلم أن إيمانهم سيستمر ، بل قد استمر فعلا وثبتوا عليه ، والله أعلم.

[٩٩] يقول تعالى لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) بأن يلهمهم الإيمان ، ويوزع قلوبهم للتقوى ، فقدرته صالحة لذلك ، ولكنه اقتضت حكمته ، أن كان بعضهم مؤمنين ، وبعضهم كافرين. (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي : لا تقدر على ذلك ، وليس في إمكانك ، ولا قدرة لغير الله على شيء من ذلك.

[١٠٠] (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) بإرادته ومشيئته ، وإذنه القدري الشرعي ، فمن كان من الخلق قابلا لذلك ، ويزكو عنده الإيمان ، وفقه وهداه. (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ) أي : الشر والضلال (عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) عن الله أوامره ونواهيه ، ولا يلقوا بالا لنصائحه ومواعظه.

[١٠١] يدعو تعالى عباده إلى النظر لما في السموات والأرض. والمراد بذلك : نظر الفكر والاعتبار والتأمل ، لما فيها وما تحتوي عليه والاستبصار ، فإن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ، وعبرا لقوم يوقنون ، تدل على أن الله وحده المعبود المحمود ، ذو الجلال والإكرام ، والأسماء والصفات العظام. (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) فإنهم لا ينتفعون بالآيات لإعراضهم وعنادهم.

[١٠٢] (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) أي : فهل ينتظر هؤلاء الّذين لا يؤمنون بآيات الله

٤٢٧

بعد وضوحها ، (إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) أي : من الهلاك والعقاب ، فإنهم صنعوا كصنيعهم ، وسنة الله جارية في الأولين والآخرين. (قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) فستعلمون من تكون له العاقبة الحسنة ، والنجاة في الدنيا والآخرة ، وليست إلا للرسل وأتباعهم.

[١٠٣] ولهذا قال : (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) من مكاره الدنيا والآخرة ، وشدائدهما. (كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا) أوجبناه على أنفسنا (نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) فإن الله يدافع عن الّذين آمنوا ، فإنه ـ بحسب ما مع العبد من الإيمان ـ تحصل له النجاة من المكاره.

[١٠٤] يقول تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، سيد المرسلين ، وإمام المتقين وخير الموقنين : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) أي : في ريب واشتباه ، فإني لست في شك منه ، بل لديّ العلم اليقين أنه الحقّ ، وأن ما تدعون من دون الله باطل ، ولي على ذلك ، الأدلة الواضحة ، والبراهين الساطعة. ولهذا قال تعالى : (فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) من الأنداد ، والأصنام وغيرهما ، لأنها لا تخلق ولا ترزق ، ولا تدبر شيئا من الأمور ، وإنّما هي مخلوقة مسخرة ، ليس فيها ما يقتضي عبادتها. (وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) أي : هو الله الذي خلقكم ، وهو الذي يميتكم ، ثمّ يبعثكم ، ليجازيكم بأعمالكم ، فهو الذي يستحق أن يعبد ، ويصلى له ويسجد.

[١٠٥] (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) أي : أخلص أعمالك الظاهرة والباطنة لله ، وأقم جميع شرائع الدين حنيفا ، أي : مقبلا على الله ، معرضا عما سواه ، (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) لا في حالهم ، ولا تكن معهم.

[١٠٦] (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ) وهذا وصف لكل مخلوق ، أنه لا ينفع ولا يضر ، وإنّما النافع الضار ، هو الله تعالى. (فَإِنْ فَعَلْتَ) أي : دعوت من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك (فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ) أي : الضارين أنفسهم بإهلاكها. وهذا الظلم هو الشرك كما قال تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) ، فإذا كان خير الخلق ، لو دعا مع الله غيره ، لكان من الظالمين المشركين فكيف بغيره؟

[١٠٧] (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (١٠٧) هذا من أعظم الأدلة على أن الله وحده المستحق للعبادة ، فإنه النافع الضار ، المعطي ، المانع ، الذي إذا مس بضر ، كفقر ومرض ، ونحوها (فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) لأن الخلق ، لو اجتمعوا على أن ينفعوا بشيء ، لم ينفعوا إلا بما كتبه الله ، ولو اجتمعوا على أن يضروا أحدا ، لم يقدروا على شيء من ضرره ، إذا لم يرده. ولهذا قال : (وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) أي : لا يقدر أحد من الخلق ، أن يرد فضله وإحسانه ، كما قال تعالى : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ). (يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أي : يختص برحمته من شاء من خلقه ، والله ذو الفضل العظيم ، (وَهُوَ الْغَفُورُ) لجميع الزلات ، الذي يوفق عبده ، لأسباب مغفرته ، ثمّ إذا فعلها العبد ، غفر الله ذنوبه ، كبارها ، وصغارها. (الرَّحِيمُ) الذي وسعت رحمته كل شيء ووصل جوده إلى جميع

٤٢٨

الموجودات ، بحيث لا تستغني عن إحسانه طرفة عين. فإذا عرف العبد بالدليل القاطع أن الله هو المفرد بالنعم ، وكشف النقم ، وإعطاء الحسنات ، وكشف السيئات والكربات ، وأن أحدا من الخلق ، ليس بيده من هذا شيء ، إلا ما أجراه الله على يده ، جزم بأن الله هو الحقّ ، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل.

[١٠٨] ولهذا ، لما بين الدليل الواضح قال بعده : أي : (قُلْ) يا أيها الرسول ، لما تبين البرهان (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) أي : الخبر الصادق المؤيد بالبراهين ، الذي لا شك فيه ، بوجه من الوجوه ، وهو واصل إليكم من ربكم الذي من أعظم تربيته لكم ، أن أنزل إليكم هذا القرآن ، الذي فيه تبيان لكل شيء ، وفيه من أنواع الأحكام والمطالب الإلهية ، والأخلاق المرضية ، ما فيه أعظم تربية لكم ، وإحسان منه إليكم ، فقد تبين الرشد من الغي ، ولم يبق لأحد شبهة. (فَمَنِ اهْتَدى) يهدي الله بأن علم الحقّ وتفهمه ، وآثره على غيره (فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) والله تعالى غني عن عباده ، وإنّما ثمرة أعمالهم ، راجعة إليهم. (وَمَنْ ضَلَ) عن الهدى بأن أعرض عن العلم بالحق ، أو عن العمل به ، (فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) ولا يضر الله شيئا ، فلا يضر إلا نفسه. (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) فأحفظ أعمالكم وأحاسبكم عليها ، وإنّما أنا لكم نذير مبين ، والله عليكم وكيل. فانظروا لأنفسكم ما دمتم في مدة الإمهال.

[١٠٩] (وَاتَّبِعْ) أيها الرسول (ما يُوحى إِلَيْكَ) علما ، وعملا ، وحالا ، ودعوة إليه ، (وَاصْبِرْ) على ذلك ، فإن هذا أعلى أنواع الصبر ، وإن عاقبته حميدة ، فلا تكسل ، ولا تضجر ، بل دم على ذلك واثبت ، (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ) بينك وبين من كذبك (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) فإن حكمه مشتمل على العدل التام ، والقسط الذي يحمد عليه. وقد امتثل صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر ربه ، وثبت على الصراط المستقيم ، حتى أظهر الله دينه على سائر الأديان ، ونصره على أعدائه بالسيف والسنان بعد ما نصره الله عليهم ، بالحجة والبرهان. فلله الحمد ، والثناء الحسن ، كما ينبغي لجلاله ، وعظمته ، وكماله ، وسعة إحسانه. تم تفسير سورة يونس ـ والحمد لله رب العالمين.

تفسير سورة هود

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] يقول تعالى : هذا (كِتابٌ) عظيم ، ونزل كريم ، (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) أي : أتقنت وأحسنت ، صادقة أخبارها ، عادلة أوامرها ونواهيها ، فصيحة ألفاظه بهية معانيه. (ثُمَّ فُصِّلَتْ) أي : ميزت ، وبينت بيانا في أعلى أنواع

٤٢٩

البيان ، (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ) يضع الأشياء مواضعها ، وينزلها منازلها ، لا يأمر ، ولا ينهى ، إلا بما تقتضيه حكمته ، (خَبِيرٍ) مطلع على الظواهر والبواطن.

[٢] فإذا كان إحكامه وتفصيله من عند الله الحكيم الخبير ، فلا تسأل بعد هذا عن عظمته وجلالته واشتماله على كمال الحكمة ، وسعة الرحمة. وإنّما أنزل الله كتابه لأجل (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) أي : لأجل إخلاص الدين كلّه لله ، وأن لا يشرك به أحد من خلقه. (إِنَّنِي لَكُمْ) أيها الناس (مِنْهُ) أي : من الله ربكم (نَذِيرٌ) لمن تجرأ على المعاصي ، بعقاب الدنيا والآخرة ، (وَبَشِيرٌ) للمطيعين لله ، بثواب الدنيا والآخرة.

[٣] (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) عن ما صدر منكم من الذنوب (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) فيما تستقبلون من أعماركم بالرجوع إليه ، بالإنابة والرجوع عما يكرهه الله إلى ما يحبه ويرضاه. ثمّ ذكر ما يترتب على الاستغفار والتوبة فقال : (يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً) أي : يعطيكم من رزقه ما تتمتعون به وتنتفعون. (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي : إلى وقت وفاتكم (وَيُؤْتِ) منكم (كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) أي : يعطي أهل الإحسان والبر من فضله وبره ، ما هو جزاء لإحسانهم ، من حصول ما يحبون ، ودفع ما يكرهون. (وَإِنْ تَوَلَّوْا) عن ما دعوتكم إليه ، بل أعرضتم عنه ، وربما كذبتم به (فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) وهو يوم القيامة ، الذي يجمع الله فيه الأولين والآخرين.

[٤] (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) ليجازيكم بأعمالكم ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر. وفي قوله : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) كالدليل على إحياء الله الموتى ، فإنه على كل شيء قدير ، ومن جملة الأشياء إحياء الموتى ، وقد أخبر بذلك وهو أصدق القائلين ، فيجب وقوع ذلك عقلا ونقلا.

[٥] يخبر تعالى عن جهل المشركين ، وشدة ضلالهم أنهم (يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) أي : يميلونها (لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) أي : من الله ، فتقع صدورهم حاجبة لعلم الله ، بأحوالهم ، وبصره لهيئاتهم. قال تعالى ـ مبينا خطأهم في هذا الظن ـ (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) أي يتغطون بها ، يعلمهم في تلك الحال ، التي هي من أخفى الأشياء. بل (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ) من الأقوال والأفعال (وَما يُعْلِنُونَ) منها ، بل ما هو أبلغ من ذلك وهو (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي : بما فيها من الإرادات ، والوساوس ، والأفكار ، التي لم ينطقوا بها ، سرا ولا جهرا ، فكيف تخفى عليه حالكم ، إذا ثنيتم صدوركم لتستخفوا منه. ويحتمل أن المعنى في هذا ، أن الله يذكر إعراض المكذبين للرسول ، الغافلين عن دعوته ، أنهم ـ من شدة إعراضهم ـ يثنون صدورهم ، أي : يحدودبون ، حين يرون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لئلا يراهم ، ويسمعهم دعوته ، ويعظهم بما ينفعهم ، فهل فوق هذا الإعراض شيء؟ ثمّ توعدهم بعلمه تعالى بجميع أحوالهم ، وأنهم لا يخفون عليه ، وسيجازيهم بصنيعهم.

[٦] أي : جميع ما دب على وجه الأرض ، من آدمي ، وحيوان ، بري أو بحري ، فالله تعالى قد تكفل بأرزاقهم وأقواتهم ، فرزقهم على الله. (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها) أي : يعلم مستقر هذه الدواب ، وهو : المكان الذي تقيم فيه ،

٤٣٠

وتستقر فيه ، وتأوي إليه ، ومستودعها : المكان الذي تنتقل إليه في ذهابها ومجيئها ، وعوارض أحوالها. (كُلٌ) من تفاصيل أحوالها (فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي : في اللوح المحفوظ المحتوي على جميع الحوادث الواقعة ، والتي تقع في السموات والأرض. الجميع قد أحاط بها علم الله ، وجرى بها قلمه ، ونفذت فيها مشيئته ، ووسعها رزقه. فلتطمئن القلوب إلى كفاية من تكفل بأرزاقها ، وأحاط علما بذواتها ، وصفاتها.

[٧] يخبر تعالى أنه (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أولها : يوم الأحد ، وآخرها يوم الجمعة. (وَ) حين خلق السموات والأرض (كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) فوق السماء السابعة. فبعد أن خلق السموات والأرض ، استوى على عرشه ، يدبر الأمور ، ويصرفها كيف شاء من الأحكام القدرية ، والأحكام الشرعية. ولهذا قال : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) أي : ليمتحنكم ، إذ خلق لكم ما في السموات والأرض ، بأمره ونهيه ، فينظر أيكم أحسن عملا. قال الفضيل بن عياض رحمه‌الله : أي «أخلصه وأصوبه». قيل يا أبا علي : «ما أخلصه وأصوبه»؟. فقال : إن العمل إذا كان خالصا ، ولم يكن صوابا ، لم يقبل. وإذا كان صوابا ، ولم يكن خالصا لم يقبل ، حتى يكون خالصا صوابا. والخالص : أن يكون لوجه الله ، والصواب : أن يكون متبعا فيه الشرع والسنة. وهذا كما قال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٥٦). وقال تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً). فالله تعالى خلق الخلق لعبادته ، ومعرفته بأسمائه وصفاته ، وأمرهم بذلك. فمن انقاد ، وأدى ما أمر به ، فهو من المفلحين ، ومن أعرض عن ذلك ، فأولئك هم الخاسرون ، ولا بد أن يجمعهم في دار ، يجازيهم فيها على ما أمرهم به ونهاهم. ولهذا ذكر الله تكذيب المشركين بالجزاء ، فقال : (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ). أي : ولئن قلت لهؤلاء ، وأخبرتهم بالبعث بعد الموت ، لم يصدقوك ، بل كذبوك أشد التكذيب ، وقدحوا فيما جئت به ، وقالوا : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) ألا وهو الحقّ المبين.

[٨] (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) أي : إلى وقت مقدر فاستبطأوه ، لقالوا من جهلهم وظلمهم (ما يَحْبِسُهُ). ومضمون هذا ، تكذيبهم به ، فإنهم يستدلون بعدم وقوعه بهم عاجلا ، على كذب الرسول المخبر بوقوع العذاب ، فما أبعد هذا الاستدلال (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) فيتمكنون من النظر في أمرهم. (وَحاقَ بِهِمْ) أي : أحاط بهم ونزل (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) من العذاب ، حيث تهاونوا به ، حتى جزموا بكذب من جاء به.

[٩ ـ ١١] يخبر تعالى عن طبيعة الإنسان ، أنه جاهل ظالم ، بأن الله إذا أذاقه منه رحمة ، كالصحة والرزق ، والأولاد ، ونحو ذلك ، ثمّ نزعها منه ، فإنه يستسلم لليأس ، وينقاد للقنوط ، فلا يرجو ثواب الله ، ولا يخطر بباله أن الله سيردها ، أو مثلها ، أو خيرا منها عليه. وأنه إذا أذاقه رحمة من بعد ضراء مسته ، أنه يفرح ويبطر ، ويظن أنه سيدوم له ذلك الخير ويقول : (ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) أي : يفرح بما أوتي مما يوافق هوى نفسه ، فخور

٤٣١

بنعم الله على عباد الله وذلك يحمله على الأشر والبطر والإعجاب بالنفس ، والتكبر على الخلق ، واحتقارهم ، وازدرائهم ، وأي عيب أشد من هذا؟ وهذه طبيعة الإنسان من حيث هو ، إلا من وفقه الله ، وأخرجه من هذا الخلق الذميم إلى ضده ، وهم الّذين صبروا أنفسهم عند الضراء ، فلم ييأسوا ، وعند السراء ، فلم يبطروا ، وعملوا الصالحات من واجبات ومستحبات. (أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لذنوبهم ، يزول بها عنهم كل محذور. (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) وهو : الفوز بجنات النعيم ، التي فيها ما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين.

[١٢] يقول تعالى ـ مسليا لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تكذيب المكذبين ـ : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ) ، أي : لا ينبغي هذا لمثلك ، أن قولهم يؤثر فيك ، ويصدك عما أنت عليه ، فتترك بعض ما يوحى إليك ، ويضيق صدرك لتعنتهم بقولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ). فإن هذا القول ناشىء من تعنت ، وظلم ، وعناد ، وضلال ، وجهل بمواقع الحجج والأدلة. فامض على أمرك ، ولا تصدك هذه الأقوال الركيكة التي لا تصدر إلى من سفيه ولا يضق لذلك صدرك. فهل أوردوا عليك حجة ، لا تستطيع حلها؟ أم قدحوا ببعض ما جئت به قدحا ، يؤثر فيه ، وينقص قدره ، فيضيق صدرك لذلك؟ أم عليك حسابهم ، ومطالب بهدايتهم جبرا؟ و (إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) فهو الوكيل عليهم ، يحفظ أعمالهم ، ويجازيهم بها أتم الجزاء.

[١٣ ـ ١٤] (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) أي : افترى محمد هذا القرآن؟ فأجابهم بقوله : (قُلْ) لهم (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي : إن كان قد افتراه ، فإنه لا فرق بينكم وبينه في الفصاحة والبلاغة ، وأنتم الأعداء حقا ، الحريصون بغاية ما يمكنكم على إبطال دعوته ، فإن كنتم صادقين ، فأتوا بعشر سور مثله مفتريات. (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) على شيء من ذلكم (فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) من عند الله ، لقيام الدليل والمقتضى ، وانتفاء المعارض. (وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي : واعلموا (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي : هو المستحق للألوهية والعبادة ، (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي : منقادون لألوهيته مستسلمون لعبوديته. وفي هذه الآيات ، إرشاد إلى أنه لا ينبغي للداعي إلى الله ، أن يصده اعتراض المعترضين ، ولا قدح القادحين. خصوصا ، إذا كان القدح لا مستند له ، ولا يقدح فيما دعا إليه ، وأنه لا يضيق صدره ، بل يطمئن بذلك ، ماضيا على أمره ، مقبلا على شأنه. وأنه لا يجب إجابة اقتراحات المقترحين للأدلة التي يختارونها ، بل يكفي إقامة الدليل ، السالم عن المعارض ، على جميع المسائل والمطالب. وفيها أن هذا القرآن ، معجز بنفسه ، لا يقدر أحد من البشر أن يأتي بمثله ، ولا بعشر سور مثله ، بل ولا سورة من مثله ، لأن الأعداء البلغاء الفصحاء ، تحداهم الله بذلك ، فلم يعارضوه ، لعلمهم أنهم لا قدرة فيهم على ذلك. وفيها : أن مما يطلب فيه العلم ، ولا يكفي غلبة الظن ، علم القرآن ، وعلم التوحيد ، لقوله تعالى : (فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ).

[١٥] يقول تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها) ، أي : كل إرادته ، مقصورة على الحياة الدنيا ، وعلى

٤٣٢

زينتها من النساء ، والبنين ، والقناطير المقنطرة ، من الذهب ، والفضة ، والخيل المسومة ، والأنعام والحرث. قد صرف رغبته ، وسعيه وعمله ، في هذه الأشياء ، ولم يجعل لدار القرار من إرادته ، شيئا ، فهذا لا يكون إلا كافرا ، لأنه لو كان مؤمنا ، لكان ما معه من الإيمان ، يمنعه أن تكون جميع إرادته للدار الدنيا ، بل نفس إيمانه وما تيسر له من الأعمال ، أثر من آثار إرادته الدار الآخرة. ولكن هذا الشقي ، الذي كأنه خلق للدنيا وحدها (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها) أي : نعطيهم ما قسم لهم ، في أم الكتاب من ثواب الدنيا. (وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) أي : لا ينقصون شيئا ، مما قدر لهم ، ولكن هذا منتهى نعيمهم.

[١٦] (أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ) خالدين فيها أبدا ، لا يفتّر عنهم العذاب ، وقد حرموا جزيل الثواب. (وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها) أي : في الدنيا ، أي ، بطل واضمحل ما عملوه مما يكيدون به الحقّ وأهله ، وما عملوه من أعمال الخير التي لا أساس لها ، ولا وجود لشرطها ، وهو الإيمان.

[١٧] يذكر تعالى ، حال رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن قام مقامه من ورثته القائمين بدينه ، وحججه الموقنين بذلك ، وأنهم لا يوصف بهم غيرهم ولا يكون أحد مثلهم فقال : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) بالوحي الذي أنزل الله فيه المسائل المهمة ، ودلائلها الظاهرة ، فتيقن تلك البينة. (وَيَتْلُوهُ) أي : يتلو هذه البينة والبرهان ، برهان آخر (شاهِدٌ مِنْهُ) وهو شاهد الفطرة المستقيمة ، والعقل الصحيح حين شهد حقيقة. ما أوحاه الله وشرعه ، وعلم بعقله حسنه ، فازداد بذلك إيمانا إلى إيمانه. (وَ) ثمّ شاهد ثالث (مِنْ قَبْلِهِ) وهو (كِتابُ مُوسى) التوراة ، التي جعلها الله (إِماماً) للناس (وَرَحْمَةً) لهم ، يشهد لهذا القرآن بالصدق ، ويوافقه فيما جاء به من الحقّ. أي : أفمن كان بهذا الوصف ، قد تواردت عليه شواهد الإيمان ، وقامت لديه أدلة اليقين ، كمن هو في الظلمات والجهالات ، ليس بخارج منها؟ لا يستوون عند الله ، ولا عند عباد الله ، (أُولئِكَ) أي : الّذين وفقوا لقيام الأدلة عندهم ، (يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي : بالقرآن حقيقة ، فيثمر لهم إيمانهم ، كل خير في الدنيا والآخرة. (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ) أي : سائر طوائف أهل الأرض ، المتحزبة على رد الحقّ ، (فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) لا بد من وروده إليها (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ) ، أي : في أدنى شك (مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) ، إما جهلا منهم ، وضلالا ، وإما ظلما وعنادا ، وبغيا ، وإلا فمن كان قصده حسنا ، وفهمه مستقيما ، فلا بد أن يؤمن به ، لأنه يرى ما يدعوه إلى الإيمان من كل وجه.

[١٨ ـ ٢٠] يخبر تعالى أنه لا أحد (أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) ويدخل في هذا ، كل من كذب على الله ، بنسبة شريك له ، أو وصفه بما لا يليق بجلاله ، أو الإخبار عنه ، بما لم يقل ، أو ادعاء النبوة ، أو غير ذلك من الكذب على الله. فهؤلاء أعظم الناس ظلما (أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ) ليجازيهم بظلمهم ، فعند ما يحكم عليهم بالعقاب الشديد (وَيَقُولُ الْأَشْهادُ) أي : الّذين شهدوا عليهم بافترائهم وكذبهم : (هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ

٤٣٣

أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) أي : لعنة لا تنقطع ، لأن ظلمهم صار وصفا لهم ملازما ، لا يقبل التخفيف. ثمّ وصف ظلمهم فقال : (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) فصدوا بأنفسهم عن سبيل الله ، وهي سبيل الرسل ، التي دعوا الناس إليها ، وصدوا غيرهم عنها ، فصاروا أئمة يدعون إلى النار. (وَيَبْغُونَها) أي : سبيل الله (عِوَجاً) أي : يجتهدون في ميلها ، وتشيينها ، وتهجينها ، لتصير عند الناس ، غير مستقيمة ، فيحسنون الباطل ويقبحون الحقّ ، قبحهم الله (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ). (أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أي : ليسوا فائتين الله ، لأنهم تحت قبضته ، وفي سلطانه. (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) فيدفعوا عنهم المكروه ، أو يحصلوا لهم ما ينفعهم ، بل تقطعت بهم الأسباب. (يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ) أي : يغلظ ويزداد ، لأنهم ضلوا بأنفسهم ، وأضلوا غيرهم. (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) أي : من بغضهم للحق ، ونفورهم عنه ، ما كانوا يستطيعون أن يسمعوا بآيات الله ، سماعا ينتفعون به (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) (٥١) ، (وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) أي : ينظرون نظر عبرة وتفكر ، فيما ينفعهم ، وإنّما هم كالصم والبكم ، الّذين لا يعقلون.

[٢١] (أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) حيث فوتوها أعظم الثواب ، واستحقوا أشد العذاب. (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي اضمحل دينهم الذي يدعون إليه ويحسنونه ، ولم تغن عنهم آلهتهم التي يعبدون من دون الله ، لما جاء أمر ربك.

[٢٢] (لا جَرَمَ) أي : حقا وصدقا (أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ). حصر الخسار فيهم ، بل جعل لهم منه أشده ، لشدة حسرتهم وحرمانهم وما يعانون من المشقة والعذاب ، فنستجير بالله من حالهم.

[٢٣ ـ ٢٤] ولما ذكر حال الأشقياء ، ذكر أوصاف السعداء ، وما لهم عند الله من الثواب ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) إلى قوله : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ).

يقول تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بقلوبهم ، أي : صدقوا واعترفوا ، لما أمر الله بالإيمان به ، من أصول الدين وقواعده. (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) المشتملة على أعمال القلوب والجوارح ، وأقوال اللسان. (وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ) أي : خضعوا له ، واستكانوا لعظمته ، وذلوا لسلطانه ، وأنابوا إليه بمحبته ، وخوفه ، ورجائه ، والتضرع إليه. (أُولئِكَ) الّذين جمعوا تلك الصفات (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) لأنهم لم يتركوا من الخير مطلبا ، إلا أدركوه ، ولا خيرا ، إلا سبقوا إليه. (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ) أي : فريق الأشقياء ، وفريق السعداء ، (كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِ) هؤلاء الأشقياء ، (وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ) مثل السعداء. (هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) لا يستويان مثلا ، بل بينهما من الفرق ما لا يأتي عليه الوصف ، (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) الأعمال التي تنفعكم ، فتفعلونها ، والأعمال التي تضركم ، فتتركونها.

[٢٥ ـ ٢٦] أي : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً) أول المرسلين (إِلى قَوْمِهِ) يدعوهم إلى الله وينهاهم عن الشرك فقال : (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي : بينت لكم ما أنذرتكم به ، بيانا زال به الإشكال. (أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) أي : أخلصوا

٤٣٤

العبادة لله وحده ، واتركوا كل ما يعبد من دون الله (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) إن لم تقوموا بتوحيد الله ، وتطيعوني.

[٢٧] (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) أي : الأشراف والرؤساء ، رادين لدعوة نوح عليه‌السلام ، كما جرت العادة لأمثالهم ، أنهم أول من رد دعوة المرسلين. (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) وهذا مانع ـ بزعمهم ـ عن اتباعه ، مع أنه ـ في نفس الأمر ـ هو الصواب الذي لا ينبغي غيره ، لأن البشر يتمكن البشر أن يتلقوا عنه ، ويراجعوه في كل أمر ، بخلاف الملائكة. (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) أي : ما نرى اتبعك منا ، إلا الأراذل والسفلة بزعمهم. وهم ـ في الحقيقة ـ الأشراف ، وأهل العقول ، الذين انقادوا للحق ، ولم يكونوا كالأراذل ، الذين يقال لهم الملأ ، الذين اتبعوا كل شيطان مريد ، اتخذوا آلهة من الحجر والشجر ، يتقربون إليها ويسجدون ، فهل ترى أرذل من هؤلاء وأخس؟ وقولهم : (بادِيَ الرَّأْيِ) أي : إنما اتبعوك من غير تفكر وروية ، بل بمجرد ما دعوتهم ، اتبعوك ، يعنون بذلك أنهم ليسوا على بصيرة من أمرهم ، ولم يعلموا أن الحق المبين ، تدعو إليه بداهة العقول ، وبمجرد ما يصل إلى أولي الألباب ، يعرفونه ويتحققونه ، لا كالأمور الخفية التي تحتاج إلى تأمل ، وفكر طويل. (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) أي : لستم أفضل منا فننقاد لكم ، (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) وكذبوا في قولهم هذا ، فإنهم رأوا من الآيات التي جعلها الله مؤيدة لنوح ، ما يوجب لهم الجزم التام على صدقه.

[٢٨ ـ ٣١] ولهذا (قالَ) لهم نوح مجاوبا (يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أي : على يقين وجزم ، يعني وهو الرسول الكامل القدوة ، الذي ينقاد له أولو الألباب ، وتضمحل في جنب عقله ، عقول الفحول من الرجال ، وهو الصادق حقا ، فإذا قال : إني على بينة من ربي ، فحسبك بهذا القول ، شهادة له وتصديقا. (وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ) أي : أوحى إلي وأرسلني ، ومنّ علي بالهداية ، (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) أي : خفيت عليكم ، وبها تثاقلتم. (أَنُلْزِمُكُمُوها) أي : أنكرهكم على ما تحققناه ، وشككتم أنتم فيه؟ (وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) حتى حرصتم على رد ما جئت به ، ليس ذلك ضارنا ، وليس بقادح من يقيننا فيه ، ولا قولكم ، وافتراؤكم علينا ، صادّا لنا عما كنا عليه. وإنما غايته ، أن يكون صادّا لكم أنتم ، وموجبا لعدم انقيادكم للحق ، تزعمون أنه باطل ، فإذا وصلت الحال إلى هذه الغاية ، فلا نقدر على إكراهكم على ما أمر الله ، ولا إلزامكم ما نفرتم عنه ، ولهذا قال : (أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ). (وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي : على دعوتي إياكم (مالاً) فتستثقلون المغرم. (إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) ، وكأنهم طلبوا منه طرد المؤمنين الضعفاء ، فقال لهم : (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) أي : ما ينبغي لي ، ولا يليق ذلك ، بل أتلقاهم بالرحب والإكرام ، والإعزاز والإعظام (إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) فمثيبهم على إيمانهم وتقواهم بجنات النعيم. (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ). حيث تأمرونني بطرد أولياء الله ، وإبعادهم عني ، وحيث رددتم الحق ، لأنهم أتباعه ، وحيث استدللتم على بطلان الحق بقولكم إني بشر مثلكم وإنه ليس لنا عليكم من فضل. (وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ) أي : من يمنعني من عذابه ، فإن طردهم موجب للعذاب والنكال الذي لا يمنعه من دون

٤٣٥

الله مانع. (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) ما هو الأنفع لكم والأصلح ، وتدبرون الأمور. (وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) أي : غايتي أني رسول الله إليكم ، أبشركم ، وأنذركم ، وما عدا ذلك ، فليس بيدي من الأمر شيء ، فليست خزائن الله عندي ، أدبرها أنا ، وأعطي من أشاء ، وأحرم من أشاء ، (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) فأخبركم بسرائركم وبواطنكم (وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ). والمعنى : أني لا أدعي رتبة فوق رتبتي ، ولا منزلة سوى المنزلة التي أنزلني الله بها ، ولا أحكم على الناس بظني. (وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ) أي : الضعفاء المؤمنين الذين يحتقرهم الملأ الذين كفروا (لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ) ، فإن كانوا صادقين في إيمانهم فلهم الخير الكثير ، وإن كانوا غير ذلك ، فحسابهم على الله. (إِنِّي إِذاً) أي : إن قلت لكم شيئا مما تقدم (لَمِنَ الظَّالِمِينَ) ، وهذا تأييس منه عليه الصلاة والسلام لقومه ، أن ينبذ فقراء المؤمنين ، أو يمقتهم ، وإقناع لقومه ، بالطرق المقنعة للمنصف.

[٣٢] فلما رأوه ، لا ينكف عما كان عليه من دعوتهم ، ولم يدركوا منه مطلوبهم (قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٣٢) ، فما أجهلهم وأضلهم ، حيث قالوا هذه المقالة لنبيهم الناصح. فهلا قالوا إن كانوا صادقين : يا نوح قد نصحتنا ، وأشفقت علينا ، ودعوتنا إلى أمر لم يتبين لنا فنريد منك أن تبينه لنا لننقاد لك ، وإلا فأنت مشكور في نصحك. لكان هذا الجواب المنصف ، للذي قد دعا إلى أمر خفي عليه ، ولكنهم في قولهم كاذبون ، وعلى نبيهم متجرئون. ولم يردوا ما قاله بأدنى شبهة ، فضلا عن أن يردوه بحجة.

[٣٣] ولهذا عدلوا ـ من جهلهم وظلمهم ـ إلى الاستعجال بالعذاب ، وتعجيز الله ، ولهذا أجابهم نوح عليه‌السلام بقوله : (إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ) أي : إن اقتضت مشيئته وحكمته أن ينزله بكم ، فعل ذلك. (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) لله ، وأنا ليس بيدي من الأمر شيء.

[٣٤] (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) ، أي : إن إرادة الله غالبة ، فإنه إذا أراد أن يغويكم ، لردكم الحق ، فلو حرصت غاية مجهودي ، ونصحت لكم أتم النصح ـ وهو قد فعل عليه‌السلام ـ فليس ذلك بنافع لكم شيئا ، و (هُوَ رَبُّكُمْ) يفعل بكم ما يشاء ، ويحكم فيكم ما يريد (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فيجازيكم بأعمالكم.

[٣٥] (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) هذا الضمير محتمل أن يعود إلى نوح كما كان السياق في قصته مع قومه ، وأن المعنى أن قومه يقولون : افترى على الله كذبا ، وكذب بالوحي الذي يزعم أنه من الله ، وأن الله أمره أن يقول : (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) أي : كلّ عليه وزره (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى). ويحتمل أن يكون عائدا إلى النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتكون هذه الآية معترضة في أثناء قصة نوح وقومه ، لأنها من الأمور التي لا يعلمها إلا الأنبياء ، فلما شرع الله في قصها على رسوله ، وكانت من جملة الآيات الدالة على صدقه ورسالته ، ذكر تكذيب قومه مع البيان التام فقال : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) أي : هذا القرآن اختلقه محمد من تلقاء نفسه ، أي : فهذا من أعجب الأقوال وأبطلها ، فإنهم يعلمون أنه لم يقرأ ولم يكتب ، ولم يرحل عنهم لدراسة على أهل الكتاب ، فجاء بهذا الكتاب الذي تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله. فإن زعموا ـ مع هذا ـ أنه افتراه ، علم أنهم معاندون ، ولم يبق فائدة في حجاجهم ، بل اللائق في هذه الحال ، الإعراض عنهم ، ولهذا قال : (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي) أي : ذنبي وكذبي ، (وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) أي : فلم تستلجون في تكذيبي.

[٣٦] وقوله : (وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) أي : قد قسوا ، (فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) أي : فلا تحزن ، ولا تبال بهم ، وبأفعالهم ، فإن الله قد مقتهم ، وأحق عليهم عذابه الذي لا يرد.

[٣٧] (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) أي : بحفظنا ، ومرأى منا ، وعلى مرضاتنا ، (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي : لا تراجعني في إهلاكهم ، (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) أي : قد حق القول ، ونفذ فيهم القدر.

٤٣٦

[٣٨ ـ ٣٩] فامتثل أمر ربه ، وجعل يصنع الفلك (وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ) ورأوا ما يصنع (سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا) الآن (فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) (٣٩) نحن أم أنتم. وقد علموا ذلك حين حل بهم العذاب.

[٤٠] (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا) أي قدرنا بوقت نزول العذاب بهم (وَفارَ التَّنُّورُ) أي : أنزل الله السماء بالماء المنهمر ، وفجر الأرض كلها عيونا حتى التنانير التي هي محل النار في العادة ، وأبعد ما يكون عن الماء ، تفجرت فالتقى الماء على أمر قد قدر. و (قُلْنَا) لنوح : (احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي : من كل صنف من أصناف المخلوقات ، ذكر وأنثى ، لتبقى مادة سائر الأجناس ، وأما بقية الأصناف الزائدة عن الزوجين ، فإن السفينة لا تطيق حملها (وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) ممن كان كافرا ، كابنه الذي غرق. (وَمَنْ آمَنَ) الحال أنه (وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ).

[٤١] (وَقالَ) نوح لمن أمره الله أن يحملهم : (ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) أي : تجري على اسم الله ، وترسي بتسخيره وأمره. (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) حيث غفر لنا ، ورحمنا ، ونجانا من القوم الظالمين.

[٤٢] ثم وصف جريانها كأنا نشاهدها فقال : (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ) أي : بنوح ، ومن ركب معه (فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ) والله حافظها وحافظ أهلها (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ) لما ركب ، ليركب معه (وَكانَ) ابنه (فِي مَعْزِلٍ) عنهم ، حين ركبوا ، أي : مبتعدا وأراد منه ، أن يقرب ليركب ، فقال له : (يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) فيصيبك ما يصيبهم.

[٤٣] (قالَ) ابنه ، مكذبا لأبيه ، أنه لا ينجو إلا من ركب السفينة. (سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) أي : سأرتقي جبلا ، أمتنع به من الماء ، (قالَ) نوح : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) فلا يعصم أحدا ، جبل ولا غيره ، ولو تسبب بغاية ما يمكنه من الأسباب ، لما نجا إن لم ينجه الله. (وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ) الابن (مِنَ الْمُغْرَقِينَ).

[٤٤] (وَ) لما أغرقهم الله ، ونجى نوحا ومن معه (قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ) الذي خرج منك ، والذي نزل إليك ، ابلعي الماء ، الذي على وجهك (وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) فامتثلتا لأمر الله ، فابتلعت الأرض ماءها ، وأقلعت السماء ، (وَغِيضَ الْماءُ) أي : نضب من الأرض ، (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) بهلاك المكذبين ونجاة المؤمنين. (وَاسْتَوَتْ) السفينة (عَلَى الْجُودِيِ) أي : أرست على ذلك الجبل المعروف في أرض الموصل. (وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي : أتبعوا بهلاكهم لعنة وبعدا ، وسحقا ، لا يزال معهم.

[٤٥] (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ). وقد قلت لي : (احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ) ولن تخلف ما وعدتني به. لعله عليه الصلاة والسلام ، لما حملته الشفقة ، وأن الله وعده بنجاة أهله ، ظن أن الوعد لعمومهم ، من آمن ، ومن لم يؤمن ، فلذلك دعا ربه بذلك الدعاء. ومع هذا ، ففوض الأمر لحكمة الله

٤٣٧

البالغة ، حيث قال : (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ).

[٤٦] (قالَ) الله له : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) الذين وعدتك بإنجائهم (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) أي : هذا الدعاء الذي دعوت به ، لنجاة كافر لا يؤمن بالله ولا رسوله. (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أي : ما لا تعلم عاقبته ، ومآله ، وهل يكون خيرا ، أو غير خير. (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) أي : أني أعظك وعظا ، تكون به من الكاملين ، وتنجو به من صفات الجاهلين.

[٤٧] فحينئذ ندم نوح عليه‌السلام ندامة شديدة على ما صدر منه و (قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٤٧). فبالمغفرة والرحمة ينجو العبد من أن يكون من الخاسرين. ودل هذا ، على أن نوحا عليه‌السلام لم يكن عنده علم ، بأن سؤاله لربه في نجاة ابنه ، محرم. داخل في قوله : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) بل تعارض عنده الأمران ، وظن دخوله في قوله : (وَأَهْلَكَ). وبعد هذا ، تبين له أنه داخل في المنهي عن الدعاء لهم ، والمراجعة فيهم. (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) من الآدميين وغيرهم من الأزواج التي حملها معه. فبارك الله في الجميع ، حتى ملأوا أقطار الأرض ونواحيها. (وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ) في الدنيا (ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : هذا الإنجاء ، ليس بمانع لنا من أن من كفر بعد ذلك ، أحللنا به العقاب ، وإن متعوا قليلا ، فسيؤخذون بعد ذلك.

[٤٩] قال الله لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ما قص عليه هذه القصة المبسوطة التي لا يعلمها إلا من منّ الله عليه برسالته. (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) فيقولوا : إنه كان يعلمها. فاحمد الله ، واشكره ، واصبر على ما أنت عليه من الدين القويم ، والصراط المستقيم ، والدعوة إلى الله (إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) الذين يتقون الشرك وسائر المعاصي ، فستكون لك العاقبة على قومك ، كما كانت لنوح على قومه.

[٥٠] أي : (وَ) أرسلنا (إِلى عادٍ) وهم القبيلة المعروفة في الأحقاف ، من أرض اليمن ، (أَخاهُمْ) في النسب (هُوداً) ليتمكنوا من الأخذ عنه والعلم بصدقه. (قالَ) لهم (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ) أي : أمرهم بعبادة الله وحده ، ونهاهم عما هم عليه من عبادة غير الله ، وأخبرهم أنهم قد افتروا على الله الكذب في عبادتهم لغيره ، وتجويزهم لذلك ، وأوضح لهم وجوب عبادة الله ، وفساد عبادة ما سواه.

[٥١] ثم ذكر عدم المانع لهم من الانقياد فقال : (يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) أي : غرامة من أموالكم على ما دعوتكم إليه ، فتقولوا : هذا يريد أن يأخذ أموالنا ، وإنما أدعوكم وأعلمكم مجانا. (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ) ما أدعوكم إليه ، وأنه موجب لقبوله ، منتفي المانع عن رده.

[٥٢] (وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) عما مضى منكم (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) فيما تستقبلونه ، بالتوبة النصوح ، والإنابة إلى الله تعالى. فإنكم إذا فعلتم ذلك (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) بكثرة الأمطار ، التي تخصب بها الأرض ، ويكثر خيرها. (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ) فإنهم كانوا من أقوى الناس ، ولهذا قالوا : (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً)؟ ، فوعدهم أنهم

٤٣٨

إن آمنوا ، زادهم قوة إلى قوتهم. (وَلا تَتَوَلَّوْا) عنه ، أي : عن ربكم (مُجْرِمِينَ) أي : مستكبرين عن عبادته ، متجرئين على محارمه.

[٥٣] (قالُوا) رادين لقوله : (يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ) إن كان قصدهم بالبينة البينة التي يقترحونها ، فهذه غير لازمة للحق ، بل اللازم أن يأتي النبي بآية ، تدل على صحة ما جاء به ، وإن كان قصدهم أنه لم يأتهم ببينة تشهد لما قاله بالصحة ، فقد كذبوا في ذلك ، فإنه ما جاء نبي لقومه ، إلا وبعث الله على يديه من الآيات ما يؤمن على مثله البشر. ولو لم تكن له آية ، إلا دعوته إياهم لإخلاص الدين لله ، وحده لا شريك له ، والأمر بكل عمل صالح ، وخلق جميل ، والنهي عن كل خلق ذميم من الشرك بالله ، والفواحش ، والظلم ، وأنواع المنكرات ، مع ما هو مشتمل عليه هود ، عليه‌السلام ، من الصفات ، التي لا تكون إلا لخيار الخلق وأصدقهم ، لكفى بها آيات وأدلة على صدقه. بل أهل العقول ، وأولوا الألباب ، يرون أن هذه الآية ، أكبر من مجرد الخوارق ، التي يراها بعض الناس ، هي المعجزات فقط. ومن آياته ، وبيناته الدالة على صدقه ، أنه شخص واحد ، ليس له أنصار ولا أعوان ، وهو يصرخ في قومه ، ويناديهم ، ويعجزهم ، ويقول لهم : (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ). (إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) (٥٥) ، وهم الأعداء ، الذين لهم السطوة والغلبة ، ويريدون إطفاء ما معه من النور ، بأي طريق كان وهو غير مكترث ، ولا مبال بهم ، وهم عاجزون لا يقدرون أن ينالوه بشيء من السوء ، إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون. وقولهم : (وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ) أي : لا نترك عبادة آلهتنا لمجرد قولك ، الذي ما أقمت عليه بينة بزعمهم ، (وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) وهذا تأييس منهم لنبيهم هود عليه‌السلام في إيمانهم ، وأنهم لا يزالون في كفرهم يعمهون.

[٥٤ ـ ٥٥] (إِنْ نَقُولُ) فيك (إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) أي : أصابتك بخبال وجنون ، فصرت تهذي بما لا يعقل. فسبحان من طبع على قلوب الظالمين ، كيف جعلوا أصدق الخلق الذي جاء بأحق الحق ، بهذه المرتبة التي يستحي العاقل من حكايتها عنهم لو لا أن الله حكاها عنهم. ولهذا بين هود عليه الصلاة والسلام أنه واثق غاية الوثوق أنه لا يصيبه منهم ، ولا من آلهتهم أذى فقال : (إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً) ، أي : اطلبوا إليّ الضرر كلكم ، بكل طريق تتمكنون بها مني (بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً) أي : لا تمهلون.

[٥٦] (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ) أي : اعتمدت في أمري كله على الله (رَبِّي وَرَبِّكُمْ) أي : هو خالق الجميع ، ومدبرنا وإياكم ، وهو الذي ربانا. (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) فلا تتحرك ولا تسكن إلا بإذنه ، فلو اجتمعتم جميعا على الإيقاع بي ، والله لم يسلطكم عليّ ، لم تقدروا على ذلك ، فإن سلطكم ، فلحكمة أرادها. (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي : على عدل ، وقسط ، وحكمة ، وحمد في قضائه وقدره ، وشرعه وأمره ، وفي جزائه وثوابه ، وعقابه ، لا تخرج أفعاله عن الصراط المستقيم ، التي يحمد ، ويثنى عليه بها.

[٥٧] (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عما دعوتكم إليه (فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ) فلم يبق عليّ تبعة من شأنكم.

٤٣٩

(وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ) يقومون بعبادته ، ولا يشركون به شيئا. (وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً) فإن ضرركم ، إنما يعود إليكم ، فالله لا تضره معصية العاصين ، ولا تنفعه طاعة الطائعين (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) ، (إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ).

[٥٨] (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) أي : عذابنا بإرسال الريح العقيم ، التي (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) (٤٢). (نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) أي : عظيم شديد ، أحله الله بعاد ، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم.

[٥٩] (وَتِلْكَ عادٌ) الذين أوقع الله بهم ما أوقع ، بظلم منهم لأنهم (جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) ولهذا قالوا : (ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ) ، فتبين بهذا ، أنهم متيقنون لدعوته ، وإنما عاندوا وجحدوا (وَعَصَوْا رُسُلَهُ) ، لأن من عصى رسولا ، فقد عصى جميع المرسلين ، لأن دعوتهم واحدة. (وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ) أي : متسلط على عباد الله بالجبروت ، (عَنِيدٍ) أي : معاند لآيات الله ، فعصوا كل ناصح ومشفق عليهم ، واتبعوا كل غاش لهم ، يريد إهلاكهم لا جرم أهلكهم الله.

[٦٠] (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) فما من وقت وجيل ، إلا ولأنبائهم القبيحة ، وأخبارهم الشنيعة ، ذكر يذكرون به ، وذم يلحقهم (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) لهم أيضا لعنة. (أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ) أي : جحدوا من خلقهم ورزقهم ورباهم. (أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ) أي : أبعدهم الله عن كل خير وقربهم من كل شر.

[٦١] أي (وَ) أرسلنا (إِلى ثَمُودَ) وهم : عاد الثانية ، المعروفون ، الذين يسكنون الحجر ، ووادي القرى ، (أَخاهُمْ) في النسب (صالِحاً) عبد الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يدعوهم إلى عبادة الله وحده ، (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) أي : وحدوه ، وأخلصوا له الدين (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) لا من أهل السماء ، ولا من أهل الأرض. (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أي : خلقكم منها (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) أي : استخلفكم فيها ، وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة ، ومكنكم في الأرض ، تبنون ، وتغرسون ، وتزرعون ، وتحرثون ما شئتم ، وتنتفعون بمنافعها ، وتستغلون مصالحها ، فكما أنه لا شريك له في جميع ذلك ، فلا تشركوا به في عبادته. (فَاسْتَغْفِرُوهُ) مما صدر منكم من الكفر ، والشرك ، والمعاصي ، وأقلعوا عنها ، (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) أي : ارجعوا إليه بالتوبة النصوح ، والإنابة ، (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) أي : قريب ممن دعاه دعاء مسألة ، أو دعاء عبادة. يجيبه بإعطائه سؤاله ، وقبول عبادته ، وإثابته عليها ، أجل الثواب. واعلم أن قربه تعالى نوعان : عام ، وخاص. فالقرب العام ، قربه بعلمه ، من جميع الخلق ، وهو المذكور في قوله تعالى : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) ، والقرب الخاص ، قربه من عابديه ، وسائليه ، ومحبيه ، وهو المذكور في قوله تعالى : (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ). وفي هذه الآية ، وفي قوله تعالى : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ) ، وهذا النوع ، قرب يقتضي إلطافه تعالى ، وإجابته لدعواتهم ، وتحقيقه لمراداتهم ، ولهذا يقرن باسمه «القريب» اسمه «المجيب». فلما أمرهم نبيهم صالح عليه‌السلام ، ورغبهم في الإخلاص لله وحده ، ردوا عليه دعوته ، وقابلوه أشنع المقابلة.

٤٤٠