تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي

تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

المؤلف:

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ١١٣٥

الحمد. وفي هذه الآيات ، دليل على شدة افتقار العبد إلى تثبيت الله إياه ، وأنه لا يزال متملقا لربه ، أن يثبته على الإيمان ، ساعيا في كل سبب موصل إلى ذلك ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو أكمل الخلق ، قال الله له : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) (٧٤) فكيف بغيره؟ وفيها تذكير الله لرسوله منّته عليه ، وعصمته من الشر. فدل ذلك ، على أن الله يحب من عباده ، أن يتفطنوا لإنعامه عليهم ـ عند وجود أسباب الشر ـ بالعصمة منه ، والثبات على الإيمان. وفيها : أنه ـ بحسب علو مرتبة العبد ، وتواتر النعم عليه من الله ، يعظم إثمه ويتضاعف جرمه ، إذا فعل ما يلام عليه ، لأن الله ذكّر رسوله لو فعل ـ وحاشاه من ذلك ـ بقوله : (إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) (٧٥). وفيها أن الله إذا أراد إهلاك أمة ، تضاعف جرمها ، وعظم وكبر ، فيحق عليها القول من الله ، فيوقع بها العقاب ، كما هي سنته في الأمم ، إذا أخرجوا رسولهم.

[٧٨] يأمر تعالى نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإقامة الصلاة تامة ، ظاهرا ، وباطنا في أوقاتها (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) أي : ميلانها إلى الأفق الغربي بعد الزوال ، فيدخل في ذلك ، صلاة الظهر ، وصلاة العصر. (إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) أي : ظلمته ، فيدخل في ذلك ، صلاة المغرب ، وصلاة العشاء. (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) أي : صلاة الفجر ، وسميت قرآنا ، لمشروعية إطالة القرآن فيها ، أطول من غيرها ، ولفضل القراءة فيها ، حيث شهدها الله ، وملائكة الليل والنهار. ففي هذه الآية ، ذكر الأوقات الخمسة ، للصلوات المكتوبات ، وأن الصلوات الموقعة فيها فرائض ، لتخصيصها بالأمر. ومنها أن الوقت ، شرط لصحة الصلاة ، وأنه سبب لوجوبها لأن الله أمر بإقامتها لهذه الأوقات. وأن الظهر والعصر ، يجمعان ، والمغرب والعشاء كذلك ، للعذر ، لأن الله جمع وقتهما جميعا. وفيه : فضيلة صلاة الفجر ، وفضيلة إطالة القراءة فيها ، وأن القراءة فيها ركن ، لأن العبادة إذا سميت ببعض أجزائها ، دل على فرضية ذلك.

[٧٩] وقوله : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ) أي : صل به في سائر أوقاته. (نافِلَةً لَكَ) أي : لتكون صلاة الليل ، زيادة لك في علو القدر ، ورفع الدرجات بخلاف غيرك ، فإنها تكون كفارة لسيئاته. ويحتمل أن يكون المعنى : أن الصلوات الخمس فرض عليك ، وعلى المؤمنين ، بخلاف صلاة الليل ، فإنها فرض عليك بالخصوص ، ولكرامتك على الله أن جعل وظيفتك أكثر من غيرك ، وليكترثوا بك ، وتنال بذلك ، المقام المحمود ، وهو المقام الذي يحمدك فيه ، الأولون والآخرون ، مقام الشفاعة العظمى ، حين يتشفع الخلائق بآدم ، ثم بنوح ، ثم إبراهيم ، ثم موسى ، ثم عيسى. وكلهم يعتذر ويتأخر عنها ، حتى يستشفعوا بسيد ولد آدم ، ليرحمهم‌الله ، من هول الموقف ، وكربه. فيشفع عند ربه ، فيشفعه ، ويقيمه مقاما ، يغبطه به ، الأولون والآخرون. وتكون له المنة على جميع الخلق.

[٨٠] وقوله : (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) أي : اجعل مداخلي ومخارجي كلها في طاعتك ، وعلى مرضاتك ، وذلك لتضمنها الإخلاص ، وموافقتها الأمر. (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) أي : حجة ظاهرة ، وبرهانا قاطعا على جميع ما آتيه ، وما أذره. وهذا أعلى حالة ، ينزلها الله العبد ، أن تكون أحواله كلها

٥٤١

خيرا ، ومقربة له إلى ربه ، وأن يكون له ـ على كل حالة من أحواله ـ دليل ظاهر ، وذلك متضمن للعلم النافع ، والعمل الصالح ، للعلم بالمسائل والدلائل.

[٨١] وقوله : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) والحق هو : ما أوحاه الله إلى رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمره الله أن يقول ويعلن ، وقد جاء الحق الذي لا يقوم له شيء ، وزهق الباطل أي : اضمحل وتلاشى. (إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) أي : هذا وصف الباطل ، ولكنه قد يكون له صولة ورواج ، إذا لم يقابله الحق ، فعند مجيء الحق ، يضمحل الباطل ، فلا يبقى له حراك. ولهذا لا يروج الباطل ، إلا في الأزمان والأمكنة الخالية من العلم بآيات الله وبيناته.

[٨٢] وقوله : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ) إلى (إِلَّا خَساراً). أي : فالقرآن مشتمل على الشفاء والرحمة. وليس ذلك لكل أحد ، وإنما ذلك للمؤمنين به ، المصدقين بآياته ، العاملين به. وأما الظالمون بعدم التصديق به ، أو عدم العمل به ، فلا تزيدهم آياته إلا خسارا. إذ به تقوم عليهم الحجة. فالشفاء الذي تضمنه القرآن ، عام لشفاء القلوب ، من الشبه ، والجهالة ، والآراء الفاسدة والانحراف السيّء ، والقصود الرديئة. فإنه مشتمل على العلم اليقين ، الذي تزول به كل شبهة وجهالة ، والوعظ والتذكير ، الذي يزول به كل شهوة ، تخالف أمر الله. ولشفاء الأبدان من آلامها وأسقامها. وأما الرحمة ، فإن ما فيه من الأسباب والوسائل التي يحث عليها ، متى فعلها العبد فاز بالرحمة والسعادة الأبدية ، والثواب العاجل والآجل.

[٨٣] هذه طبيعة الإنسان ، من حيث هو إلا من هداه الله. فإن الإنسان ـ عند إنعام الله عليه ـ يفرح بالنعم ، ويبطر بها ، ويعرض ، وينأى بجانبه عن ربه ، فلا يشكره ، ولا يذكره. (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ) كالمرض ونحوه (كانَ يَؤُساً) من الخير ، قد قطع من ربه رجاءه ، وظن أن ما هو فيه ، دائم أبدا. وأما من هداه الله ، فإنه ـ عند النعم ـ يخضع لربه ، ويشكر نعمته ، وعند الضراء ، يتضرع ، ويرجو من الله عافيته ، وإزالة ما يقع فيه ، وبذلك يخف عليه البلاء.

[٨٤] أي : (قُلْ كُلٌ) من الناس (يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) أي : على ما يليق به من الأحوال. إن كانوا من الصفوة الأبرار ، لم يشاكلهم إلا عملهم لرب العالمين. ومن كانوا من غيرهم من المخذولين لم يناسبهم إلا العمل للمخلوقين ، ولم يوافقهم إلا ما وافق أغراضهم. (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً) فيعلم من يصلح للهداية ، فيهديه ، ومن لا يصلح لها فيخذله ولا يهديه.

[٨٥] وهذا متضمن لردع من يسأل المسائل ، التي يقصد بها التعنت والتعجيز ، ويدع السؤال عن المهم ، فيسألون عن الروح التي هي من الأمور الخفية ، التي لا يتقن وصفها وكيفيتها ، كل أحد ، وهم قاصرون في العلم الذي يحتاج إليه العباد. ولهذا أمر الله رسوله ، أن يجيب سؤالهم بقوله : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) أي : من جملة مخلوقاته ، التي أمرها أن تكون فكانت. فليس في السؤال عنها ، كبير فائدة ، مع عدم علمكم بغيرها. وفي هذه الآية دليل ، على أن المسئول إذا سئل عن أمر ، الأولى به أن يعرض عن إجابة السائل عما سأل عنه ، ويدله على ما يحتاج

٥٤٢

إليه ، ويرشده إلى ما ينفعه.

[٨٦ ـ ٨٧] يخبر تعالى أن القرآن والوحي ، الذي أوحاه إلى رسوله ، رحمة منه عليه ، وعلى عباده ، وهو أكبر النعم على الإطلاق على رسوله ، فإن فضل الله عليه كبير ، لا يقادر قدره. فالذي تفضل به عليك ، قادر على أن يذهب به ، ثم لا تجد رادا يرده ، ولا وكيلا يتوجه عند الله فيه. فلتغتبط به ، ولتقرّ به عينك ، ولا يحزنك تكذيب المكذبين ، ولا استهزاء الضالين. فإنهم عرضت عليهم أجلّ النعم ، فردوها ، لهوانهم على الله ، وخذلانه لهم.

[٨٨] (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (٨٨) وهذا دليل قاطع ، وبرهان ساطع ، على صحة ما جاء به الرسول وصدقه. حيث تحدى الله الإنس والجن أن يأتوا بمثله ، وأخبر أنهم لا يأتون بمثله ، ولو تعاونوا كلهم على ذلك لم يقدروا عليه. ووقع كما أخبر الله ، فإن دواعي أعدائه المكذبين به ، متوفرة على رد ما جاء به ، وبأي وجه كان ، وهم أهل اللسان والفصاحة. فلو كان عندهم أدنى تأهل ، وتمكن من ذلك ، لفعلوه. فعلم بذلك ، أنهم أذعنوا غاية الإذعان ، طوعا وكرها ، وعجزوا عن معارضته. وكيف يقدر المخلوق من تراب ، الناقص من جميع الوجوه ، الذي ليس له علم ، ولا قدرة ، ولا إرادة ، ولا مشيئة ، ولا كلام ولا كمال ، إلا من ربه أن يعارض كلام رب الأرض والسموات ، المطلع على سائر الخفيات ، الذي له الكمال المطلق ، والحمد المطلق ، والمجد العظيم ، الذي لو أن البحر يمده من بعده سبعة أبحر مدادا ، والأشجار كلها أقلام ، لنفد المداد ، وفنيت الأقلام ، ولم تنفد كلمات الله. فكما أنه ليس أحد من المخلوقين ، مماثلا لله في أوصافه ، فكلامه من أوصافه ، التي لا يماثله فيها أحد. فليس كمثله شيء ، في ذاته ، وأسمائه ، وصفاته ، وأفعاله تبارك وتعالى. فتبا لمن اشتبه عليه كلام الخالق بكلام المخلوق ، وزعم أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم افتراه على الله واختلقه من نفسه.

[٨٩] يقول تعالى : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي : نوعنا فيه المواعظ والأمثال ، وثنينا فيه المعاني ، التي يضطر إليها العباد ، لأجل أن يتذكّروا ويتقوا ، فلم يتذكر إلا القليل منهم ، الّذين سبقت لهم من الله ، سابقة السعادة ، وأعانهم الله بتوفيقه. وأما أكثر الناس ، فأبوا إلا كفورا لهذه النعمة التي هي أكبر من جميع النعم ، وجعلوا يتعنتون عليه باقتراح آيات ، غير آياته ، يخترعونها من تلقاء أنفسهم الظالمة الجاهلة.

[٩٠ ـ ٩٣] فيقولون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي أتى بهذا القرآن المشتمل على كل برهان وآية : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) أي : أنهارا جارية. (أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ) فتستغني بها عن المشي في الأسواق والذهاب والمجيء. (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) أي : قطعا من العذاب. (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) أي : جميعا ، أو مقابلة ومعاينة ، يشهدون لك بما جئت به. (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ) أي : مزخرف بالذهب وغيره. (أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ) رقيا حسيا. (وَ) مع هذا (لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ). ولما كانت هذه تعنتات ، وتعجيزات ، وكلام أسفه الناس وأظلمهم ، المتضمنة لرد الحق ، وسوء أدب مع الله ، وأن

٥٤٣

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي يأتي بالآيات ـ أمره الله أن ينزهه فقال : (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي) عما تقولون علوا كبيرا ، وسبحانه أن تكون أحكامه وآياته تابعة لأهوائهم الفاسدة ، وآرائهم الضالة. (هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) ليس بيده شيء من الأمر.

[٩٤ ـ ٩٦] وهذا السبب ، الذي منع أكثر الناس من الإيمان ، حيث كانت الرسل التي ترسل إليهم من جنسهم بشرا. وهذا من رحمته بهم ، أن أرسل إليهم بشرا منهم ، فإنهم لا يطيقون التلقي من الملائكة. (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ) يثبتون على رؤية الملائكة ، والتلقي عنهم (لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) ليمكنهم التلقي عنه. (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) (٩٦) ، فمن شهادته لرسوله ما أيده به من المعجزات ، وما أنزل عليه من الآيات ، ونصره على من عاداه وناوأه. فلو تقوّل عليه بعض الأقاويل ، لأخذ منه باليمين ، ثم لقطع منه الوتين. فإنه خبير بصير ، لا تخفى عليه من أحوال العباد خافية.

[٩٧ ـ ٩٨] يخبر تعالى أنه المنفرد بالهداية والإضلال. فمن يهده ، فييسره لليسرى ويجنبه العسرى ، فهو المهتدي على الحقيقة. ومن يضلله ، فيخذله ، ويكله إلى نفسه ، فلا هادي له من دون الله. وليس له ولي ينصره من عذاب الله ، حين يحشرهم الله على وجوههم خزيا ، عميا ، وبكما ، لا يبصرون ، ولا ينطقون. (مَأْواهُمْ) أي : مقرهم ودارهم (جَهَنَّمُ) التي جمعت كل هم ، وغم ، وعذاب. (كُلَّما خَبَتْ) أي : تهيأت للانطفاء (زِدْناهُمْ سَعِيراً) أي : سعرناها بهم لا يفتّر عنهم العذاب ولا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها ، ولم يظلمهم الله تعالى ، بل جازاهم بما كفروا بآياته وأنكروا البعث الذي أخبرت به الرسل ونطقت به الكتب وعجزوا ربهم فأنكروا تمام قدرته. (وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) (٤٩) أي : لا يكون هذا لأنه في غاية البعد عن عقولهم الفاسدة.

[٩٩] (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وهي أكبر من خلق الناس. (قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) بلى ، إنه على ذلك قدير. (وَ) لكنه قد (جَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ) ولا شك ، وإلا فلو شاء لجاءهم به بغتة ، ومع إقامته الحجج والأدلة على البعث. (فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً) ظلما منهم وافتراء.

[١٠٠] (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي) التي لا تنفد ولا تبيد. (إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) أي : خشية أن ينفد ما تنفقون منه ، مع أنه من المحال أن تنفد خزائن الله ، ولكن الإنسان مطبوع على الشح والبخل.

[١٠١] أي : لست أيها الرسول المؤيد بالآيات ، أول رسول كذبه الناس. فلقد أرسلنا قبلك ، موسى بن عمران الكليم ، إلى فرعون وقومه ، وآتيناه (تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) كل واحدة منها ، تكفي لمن قصده اتباع الحق كالحية ، والعصا ، والطوفان والجراد ، والقمل والضفادع ، والدم ، واليد ، وفلق البحر. فإن شككت في شيء من ذلك (فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ) مع هذه الآيات (إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً).

[١٠٢] (قالَ) له موسى (لَقَدْ عَلِمْتَ) يا فرعون (ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ) الآيات (إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ)

٥٤٤

منه لعباده ، فليس قولك هذا ، بالحقيقة ، وإنما قلت ذلك ، ترويجا على قومك ، واستخفافا لهم. (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) أي : ممقوتا ملقى في العذاب ولك الذم واللعنة.

[١٠٣] (فَأَرادَ) فرعون (أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أي : يجليهم ويخرجهم منها. (فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً) وأورثنا بني إسرائيل أرضهم وديارهم.

[١٠٤] ولهذا قال : (وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً) (١٠٤) أي : جميعا ، ليجازى كل عامل بعمله.

[١٠٥] أي : وبالحق أنزلنا هذا القرآن الكريم ، لأمر العباد ، ونهيهم ، وثوابهم ، وعقابهم. (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) أي : بالصدق والعدل ، والحفظ من كل شيطان رجيم. (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً) من أطاع الله بالثواب العاجل والآجل.

(وَنَذِيراً) لمن عصى الله ، بالعقاب العاجل والآجل ، ويلزم من ذلك ، بيان ما يبشر به وينذر.

[١٠٦] أي : وأنزلنا هذا القرآن مفرقا ، فارقا بين الهدى والضلال ، والحق والباطل. (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) أي : على مهل ، ليتدبروه ، ويتفكروا في معانيه ، ويستخرجوا علومه. (وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) أي : شيئا فشيئا ، مفرقا في ثلاث وعشرين سنة. (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) (٣٣).

[١٠٧ ـ ١٠٩] فإذا تبين أنه الحق ، الذي لا شك فيه ولا ريب ، بوجه من الوجوه : (قُلْ) : لمن كذب به ، وأعرض عنه : (آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا). فليس لله حاجة فيكم ، ولستم بضاريه شيئا ، وإنما ضرر ذلك عليكم. فإن لله عبادا غيركم ، وهم الّذين آتاهم الله العلم النافع : (إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) أي : يتأثرون به غاية التأثر ، ويخضعون له. (وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا) عما لا يليق بجلاله ، مما نسبه إليه المشركون. (إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا) بالبعث والجزاء بالأعمال (لَمَفْعُولاً) لا خلف فيه ولا شك. (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ) أي : على وجوههم (يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ) القرآن (خُشُوعاً). وهؤلاء كالذين منّ الله عليهم من مؤمني أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وغيره ، ممن أسلم في وقت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بعد ذلك.

[١١٠] يقول تعالى لعباده : (ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) أي : أيهما شئتم. (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) أي : ليس له اسم غير حسن ، أي : حتى ينهى عن دعائه به ، أي اسم دعوتموه به ، حصل به المقصود ، والذي ينبغي أن يدعى في كل مطلوب ، مما يناسب ذلك الاسم. (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) أي : قراءتك (وَلا تُخافِتْ بِها) فإن في كل من الأمرين محذورا. أما الجهر ، فإن المشركين المكذبين به إذا سمعوه ، سبّوه ، وسبّوا من جاء به. وأما المخافتة ، فإنه لا يحصل المقصود لمن أراد استماعه مع الإخفاء. (وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ) أي : اتخذ بين الجهر والإخفات (سَبِيلاً) أي : تتوسط فيما بينهما.

[١١١] (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) الذي له الكمال ، والثناء ، والحمد ، والمجد من جميع الوجوه ، المنزه عن كل آفة ونقص. (الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) بل الملك كلّه لله الواحد القهار. فالعالم العلوي والسفلي ، كلهم

٥٤٥

مملوكون لله ، ليس لأحد من الملك شيء. (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ) أي : لا يتولى أحدا من خلقه ، ليتعزز به ويعاونه. فإنه الغني الحميد ، الذي لا يحتاج إلى أحد من المخلوقات ، في الأرض ولا في السموات ، ولكنه يتخذ ـ إحسانا منه إليهم ورحمة بهم (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ). (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) أي : عظمه وأجله بالإخبار بأوصافه العظيمة ، وبالثناء عليه ، بأسمائه الحسنى ، وبتحميده بأفعاله المقدسة ، وبتعظيمه وإجلاله بعبادته وحده ، لا شريك له ، وإخلاص الدين كله له. تم تفسير سورة الإسراء.

سورة الكهف

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] الحمد هو الثناء عليه بصفاته ، التي هي كلها صفات كمال ، وبنعمه الظاهرة والباطنة ، الدينية والدنيوية ، وأجل نعمه على الإطلاق ، إنزاله الكتاب العظيم على عبده ورسوله ، محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فحمد نفسه ، وفي ضمنه ، إرشاد العباد ليحمدوه على إرسال الرسول إليهم ، وإنزال الكتاب عليهم ، ثم وصف هذا الكتاب بوصفين مشتملين ، على أنه الكامل من جميع الوجوه ، وهما نفي العوج عنه ، وإثبات أنه مقيم مستقيم ، فنفي العوج ، يقتضي أنه ليس في أخباره كذب ، ولا في أوامره ونواهيه ، ظلم ولا عبث. وإثبات الاستقامة ، يقتضي أنه لا يخبر ولا يأمر إلا بأجلّ الإخبارات وهي الأخبار ، التي تملأ القلوب معرفة وإيمانا وعقلا ، كالإخبار بأسماء الله وصفاته وأفعاله ، ومنها الغيوب المتقدمة والمتأخرة ، وأن أوامره ونواهيه ، تزكي النفوس ، وتطهرها وتنميها وتكملها ، لاشتمالها على كمال العدل والقسط ، والإخلاص ، والعبودية لله رب العالمين ، وحده لا شريك له. وحقيق بكتاب موصوف بما ذكر ، أن يحمد الله نفسه على إنزاله ، وأن يتمدح إلى عباده به.

[٢] وقوله : (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ) أي : لينذر بهذا القرآن الكريم ، عقابه الذي عنده ، أي : قدره وقضاءه ، على من خالف أمره ، وهذا يشمل عقاب الدنيا ، وعقاب الآخرة ، وهذا أيضا ، من نعمه أن خوف عباده ، وأنذرهم ، ما يضرهم ويهلكهم. كما قال تعالى ـ لما ذكر في هذا القرآن وصف النار ، قال : (ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ). فمن رحمته بعباده ، أن قيض العقوبات الغليظة على من خالف أمره ، وبينها لهم ، وبين لهم الأسباب الموصلة إليها. (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً) أي : وأنزل الله على عبده الكتاب ، ليبشر المؤمنين به ، وبرسله ، وكتبه ، الّذين كمل إيمانهم ، فأوجب لهم عمل الصالحات ، وهي : الأعمال الصالحة ، من واجب ، ومستحب ، التي جمعت الإخلاص والمتابعة. (أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً) وهو : الثواب الذي رتّبه الله على الإيمان والعمل الصالح ، وأعظمه وأجله ، الفوز برضا الله ودخول الجنة ، التي فيها ، ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. وفي وصفه بالحسن ، دلالة على أنه لا مكدر فيه ، ولا منغص ، بوجه من الوجوه ، إذ لو وجد فيه شيء من ذلك ، لم يكن حسنه تاما.

٥٤٦

[٣] ومع ذلك فهذا الأجر الحسن (ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً) (٣) لا يزول عنهم ، ولا يزولون عنه ، بل نعيمهم في كل وقت متزايد ، وفي ذكر التبشير ، ما يقتضي ذكر الأعمال الموجبة للمبشر به. وهو : أن هذا القرآن ، قد اشتمل على كل عمل صالح ، موصل لما تستبشر به النفوس ، وتفرح به الأرواح.

[٤ ـ ٥] (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) (٤) من اليهود والنصارى ، والمشركين ، الّذين قالوا هذه المقالة الشنيعة ، فإنهم لم يقولوها عن علم ولا يقين ، لا علم منهم ، ولا علم من آبائهم الّذين قلدوهم واتبعوهم ، بل إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس. (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) أي : عظمت شناعتها واشتدت عقوبتها ، وأي شناعة أعظم من وصفه ، بالاتخاذ للولد ، الذي يقتضي نقصه ، ومشاركة غيره له في خصائص الربوبية ، والإلهية ، والكذب عليه؟!! (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) ، ولهذا قال هنا : (إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) أي : كذبا محضا ما فيه من الصدق شيء ، وتأمل كيف أبطل هذا القول بالتدريج والانتقال من شيء إلى أبطل منه ، فأخبر أولا : أنه (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ) والقول على الله بلا علم ، لا شك في منعه وبطلانه ، ثم أخبر ثانيا ، أنه قول قبيح شنيع فقال : (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) ، ثم ذكر ثالثا مرتبته من القبح ، وهو : الكذب المنافي للصدق.

[٦] ولما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حريصا على هداية الخلق ، ساعيا في ذلك أعظم السعي ، فكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يفرح ويسر بهداية المتدين ، ويحزن ويأسف على المكذبين الضالين ، شفقة منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عليهم ورحمة بهم ، أرشده الله أن لا يشغل نفسه بالأسف على هؤلاء ، الّذين لا يؤمنون بهذا القرآن ، كما قال في الأخرى. (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (٣). وقال : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ). وهنا قال : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) أي : مهلكها ، غما وأسفا عليهم ، وذلك أن أجرك ، قد وجب على الله ، وهؤلاء لو علم الله فيهم خيرا ، لهداهم. ولكنه علم أنهم لا يصلحون إلا للنار ، فلذلك خذلهم ، فلم يهتدوا ، فإشغالك نفسك غما وأسفا عليهم ، ليس فيه فائدة لك. وفي هذه الآية ونحوها عبرة. فإن المأمور بدعاء الخلق إلى الله ، عليه التبليغ ، والسعي بكل سبب يوصل إلى الهداية ، وسد طرق الضلال والغواية بغاية ما يمكنه ، مع التوكل على الله في ذلك ، فإن اهتدوا فبها ونعمت ، وإلا فلا يحزن ولا يأسف ، فإن ذلك مضعف للنفس ، هادم للقوى ، ليس فيه فائدة ، بل يمضي على فعله ، الذي كلّف به وتوجه إليه ، وما عدا ذلك ، فهو خارج عن قدرته. وإذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول الله له : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) وموسى عليه‌السلام يقول : (رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) الآية ، فمن عداهم ، من باب أولى وأحرى ، قال تعالى : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (٢٢).

[٧ ـ ٩] يخبر تعالى ، أنه جعل جميع ما على وجه الأرض ، من مآكل لذيذة ، ومشارب ، وملابس طيبة ، وأشجار ، وأنهار ، وزروع ، وثمار ، ومناظر بهيجة ، ورياض أنيقة ، وأصوات شجية ، وصور مليحة ، وذهب وفضة ، وخيل وإبل ونحوها ، الجميع جعله الله زينة لهذه الدار ، فتنة واختبارا. (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) أي :

٥٤٧

أخلصه وأصوبه ، ومع ذلك سيجعل الله جميع هذه المذكورات ، فانية مضمحلة ، وزائلة منقضية ، وستعود الأرض ، صعيدا جرزا قد ذهبت لذاتها ، وانقطعت أنهارها ، واندرست آثارها ، وزال نعيمها ، وهذه حقيقة الدنيا ، قد جلاها الله لنا كأنها رأي عين ، وحذرنا من الاغترار بها ، ورغبنا في دار يدوم نعيمها ، ويسعد مقيمها ، كل ذلك رحمة بنا. فاغتر بزخرف الدنيا وزينتها ، من نظر إلى ظاهر الدنيا ، دون باطنها ، فصحبوا الدنيا ، صحبة البهائم ، وتمتعوا بها تمتّع السّوائم ، لا ينظرون في حق ربهم ، ولا يهتمون لمعرفته ، بل همهم تناول الشهوات ، من أيّ وجه حصلت ، وعلى أيّ حالة اتفقت ، فهؤلاء إذا حضر أحدهم الموت ، قلق لخراب ذاته ، وفوات لذاته ، لا لما قدمت يداه ، من التفريط والسيئات. وأما من نظر إلى باطن الدنيا ، وعلم المقصود منها ومنه ، فإنه يتناول منها ، ما يستعين به على ما خلق له ، وانتهز الفرصة في عمره الشريف ، فجعل الدنيا منزل عبور ، لا محل حبور ، وشقّة سفر ، لا منزل إقامة ، فبذل جهده في معرفة ربه ، وتنفيذ أوامره ، وإحسان العمل ، فهذا بأحسن المنازل عند الله ، وهو حقيق منه بكل كرامة ونعيم ، وسرور وتكريم ، فنظر إلى باطن الدنيا ، حين نظر المغتر إلى ظاهرها ، وعمل لآخرته ، حين علم البطال لدنياه ، فشتان ما بين الفريقين ، وما أبعد الفرق بين الطائفتين!!

[٩]وهذا الاستفهام بمعنى النفي ، والنهي. أي : لا تظن أن قصة أصحاب الكهف ، وما جرى لهم ، غريبة على آيات الله ، وبديعة في حكمته ، وأنه لا نظير لها ، ولا مجانس لها ، بل لله تعالى من الآيات العجيبة الغريبة ، ما هو كثير ، من جنس آياته في أصحاب الكهف ، أعظم منها ، فلم يزل الله يري عباده من الآيات في الآفاق وفي أنفسهم ، ما يتبين به الحق من الباطل والهدى من الضلال ، وليس المراد بهذا النفي أن تكون قصة أصحاب الكهف من العجائب ، بل هي من آيات الله العجيبة. وإنما المراد ، أن جنسها كثير جدا ، فالوقوف معها وحدها ، في مقام العجب والاستغراب ، نقص في العلم والعقل ، بل وظيفة المؤمن ، التفكر بجميع آيات الله ، التي دعا الله العباد إلى التفكير فيها ، فإنها مفتاح الإيمان ، وطريق العلم والإيقان. وإضافتهم إلى الكهف ، الذي هو الغار في الجبل والرقيم ، أي : الكتاب الذي قد رقمت فيه أسماؤهم وقصتهم ، لملازمتهم له دهرا طويلا.

[١٠ ـ ١١] ثم ذكر قصتهم مجملة ، وفصلها بعد ذلك فقال : (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ) أي : الشباب ، (إِلَى الْكَهْفِ) يريدون بذلك ، التحصن والتحرز ، من فتنة قومهم لهم. (فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) أي : تثبتنا بها وتحفظنا من الشر وتوفقنا للخير (وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) أي : يسر لنا كل سبب موصل إلى الرشد ، وأصلح لنا أمر ديننا ودنيانا ، فجمعوا بين السعي والفرار من الفتنة ، إلى محل يمكن الاستخفاء فيه ، وبين تضرعهم وسؤالهم لله تيسير أمورهم ، وعدم اتكالهم على أنفسهم ، وعلى الخلق. فلذلك استجاب الله دعاءهم ، وقيض لهم ، ما لم يكن في حسابهم قال : (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ) أي : أنمناهم (سِنِينَ عَدَداً) وهي : ثلاثمائة سنة ، وتسع سنين ، وفي النوم المذكور حفظ لقلوبهم من الاضطراب والخوف ، وحفظ لهم من قومهم.

[١٢] (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ) أي : من نومهم (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) أي : لنعلم أيهم أحصى لمقدار مدتهم ، كما قال تعالى : (وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ) الآية ، وفي العلم بمقدار لبثهم ، ضبط للحساب ، ومعرفة لكمال قدرة الله تعالى ، وحكمته ، ورحمته. فلو استمروا على نومهم ، لم يحصل الاطلاع على شيء من ذلك ، من قصتهم.

[١٣] هذا شروع في تفصيل قصتهم ، وأن الله يقصها على نبيه بالحق والصدق ، الذي ما فيه شك ولا شبهة بوجه من الوجوه. (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ) وهذا من جموع القلة ، يدل ذلك على أنهم دون العشرة ، (آمَنُوا) بالله وحده لا شريك له من دون قومهم ، فشكر الله لهم إيمانهم ، فزادهم هدى ، أي : بسبب أصل اهتدائهم إلى الإيمان ، زادهم الله من الهدى ، الذي هو العلم النافع ، والعمل الصالح ، كما قال تعالى : (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا

٥٤٨

هُدىً).

[١٤] (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) أي : صبّرناهم وثبّتناهم ، وجعلنا قلوبهم مطمئنة في تلك الحالة المزعجة ، وهذا من لطفه تعالى بهم وبره ، أن وفقهم للإيمان والهدى ، والصبر والثبات ، والطمأنينة. (إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : الذي خلقنا ورزقنا ، ودبرنا وربانا ، هو خالق السموات والأرض ، المنفرد بخلق هذه المخلوقات العظيمة ، لا تلك الأوثان والأصنام ، التي لا تخلق ولا ترزق ، ولا تملك نفعا ولا ضرا ، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، فاستدلوا بتوحيد الربوبية ، على توحيد الإلهية ، ولهذا قالوا : (لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً) أي : من سائر المخلوقات (لَقَدْ قُلْنا إِذاً) أي : إن دعونا معه آلهة ، بعد ما علمنا أنه الرب ، الإله الذي لا تجوز ، ولا تنبغي العبادة إلا له (شَطَطاً) أي : ميلا عظيما عن الحق ، وطريقا بعيدة عن الصواب ، فجمعوا بين الإقرار بتوحيد الربوبية ، وتوحيد الإلهية ، والتزام ذلك ، وبيان أنه الحق ، وما سواه باطل ، وهذا دليل على كمال معرفتهم بربهم ، وزيادة الهدى من الله لهم.

[١٥] لما ذكروا ما منّ الله به عليهم من الإيمان والهدى والتقوى ، التفتوا إلى ما كان عليه قومهم ، من اتخاذ الآلهة من دون الله ، فمقتوهم ، وبينوا أنهم ليسوا على يقين من أمرهم ، بل هم في غاية الجهل والضلال فقالوا : (لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ) أي : بحجة وبرهان ، على ما هم عليه من الباطل ، ولا يستطيعون سبيلا إلى ذلك ، إنما ذلك ، افتراء منهم على الله ، وكذب عليه ، وهذا أعظم الظلم ، ولهذا قال : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً).

[١٦] أي : قال بعضهم لبعض ، إذ حصل لكم اعتزال قومكم في أجسامكم وأديانكم ، فلم يبق إلا النجاء من شرهم ، والتسبب بالأسباب المفضية لذلك لأنه لا سبيل لهم إلى قتالهم ، ولا إلى بقائهم بين أظهرهم ، وهم على غير دينهم. (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ) أي : انضموا إليه واختفوا فيه (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً). وفيما تقدم ، أخبر أنهم دعوه بقولهم : (رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) فجمعوا بين التبرّي من حولهم وقوتهم ، والالتجاء إلى الله ، في صلاح أمرهم ، ودعائه بذلك ، وبين الثقة بالله أنه سيفعل ذلك ، لا جرم أن الله نشر لهم من رحمته ، وهيأ لهم من أمرهم مرفقا ، فحفظ أديانهم وأبدانهم ، وجعلهم من آياته على خلقه ، ونشر لهم من الثناء الحسن ، ما هو من رحمته بهم ، ويسر لهم كل سبب ، حتى المحل الذي ناموا فيه ، كان على غاية ما يمكن من الصيانة ، ولهذا قال : (وَتَرَى الشَّمْسَ) إلى قوله : (مِنْهُمْ رُعْباً).

[١٧] أي : حفظهم الله من الشمس ، فيسر لهم غارا إذا طلعت الشمس ، تميل عنه يمينا ، وعند غروبها ، تميل عنه شمالا ، فلا ينالهم حرها فتفسد أبدانهم بها. (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) أي : من الكهف أي : مكان متسع ، وذلك ليطرقهم الهواء ، والنسيم ، ويزول عنهم الوخم ، والتأذي بالمكان الضيق ، خصوصا مع طول المكث ، وذلك من آيات الله ، الدالة على قدرته ورحمته ، وإجابة دعائهم وهدايتهم ، حتى في هذه الأمور ، ولهذا قال : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ

٥٤٩

الْمُهْتَدِ) أي : لا سبيل إلى نيل الهداية : إلا من الله ، فهو الهادي المرشد لمصالح الدارين. (وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) أي : لا تجد من يتولاه ويدبره ، على ما فيه صلاحه ، ولا يرشده إلى الخير والفلاح ، لأن الله قد حكم عليه بالضلال ، ولا راد لحكمه.

[١٨] (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ) أي : تحسبهم أيها الناظر إليهم كأنهم أيقاظ ، والحال أنهم نيام. قال المفسرون : وذلك لأن أعينهم منفتحة ، لئلا تفسد ، فالناظر إليهم ، يحسبهم أيقاظا ، وهم رقود. (وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ) وهذا أيضا من حفظه لأبدانهم ، لأن الأرض من طبيعتها ، أكل الأجسام المتصلة بها ، فكان من قدر الله ، أن قلّبهم على جنوبهم ، يمينا وشمالا ، بقدر ما لا تفسد الأرض أجسامهم ، والله تعالى ، قادر على حفظهم من الأرض ، من غير تقليب ، ولكنه تعالى ، حكيم ، أراد أن تجري سنته في الكون ، ويربط الأسباب بمسبباتها. (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) أي : الكلب الذي كان مع أصحاب الكهف ، أصابه ما أصابهم من النوم وقت حراسته ، فكان باسطا ذراعيه بالوصيد ، أي : الباب ، أو فنائه ، هذا حفظهم من الأرض. وأما حفظهم من الآدميين ، فأخبر أنه حماهم بالرعب ، الذي نشره الله عليهم ، فلو اطلع عليهم أحد ، لامتلأ قلبه رعبا ، وولى منهم فرارا ، وهذا الذي أوجب أن يبقوا كل هذه المدة الطويلة ، وهم لم يعثر عليهم أحد ، مع قربهم من المدينة جدا. والدليل على قربهم ، أنهم لما استيقظوا ، أرسلوا أحدهم ، يشتري لهم طعاما من المدينة ، وبقوا في انتظاره ، فدل ذلك على شدة قربهم منها.

[١٩ ـ ٢٠] يقول تعالى : (وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ) من نومهم الطويل ، (لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ) ، أي : ليتباحثوا للوقوف على الحقيقة ، من مدة لبثهم. (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) وهذا مبني على ظن القائل ، وكأنهم وقع عندهم اشتباه. في طول مدتهم ، فلهذا (قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ). فردوا العلم إلى المحيط علمه بكل شيء ، جملة وتفصيلا. ولعل الله تعالى ـ بعد ذلك ـ أطلعهم على مدة لبثهم ، لأنه بعثهم ليتساءلوا بينهم ، وأخبر أنهم تساءلوا ، وتكلموا بمبلغ ما عندهم ، وصار آخر أمرهم ، الاشتباه. فلابد أن يكون قد أخبرهم يقينا ، علمنا ذلك من حكمته في بعثهم ، وأنه لا يفعل ذلك عبثا. ومن رحمته بمن طلب علم الحقيقة في الأمور المطلوب علمها ، وسعى لذلك ما أمكنه ، فإن الله يوضح له ذلك ، وبما ذكر فيما بعده من قوله. (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها). فلو لا أنه حصل العلم بحالهم ، لم يكونوا دليلا على ما ذكر ، ثم إنهم لما تساءلوا بينهم ، وجرى منهم ما أخبر الله به ، أرسلوا أحدهم بورقهم ، أي : بالدراهم ، التي كانت معهم ، ليشتري لهم طعاما يأكلونه ، من المدينة ، التي خرجوا منها ، وأمروه أن يتخير من الطعام أزكاه ، أي : أطيبه وألذه ، وأن يتلطف في ذهابه وشرائه ، وإيابه ، وأن يختفي في ذلك ، ويخفي حال إخوانه ، ولا يشعرن بهم أحدا. وذكروا المحذور من اطلاع غيرهم عليهم ، وظهورهم عليهم ، أنهم بين أمرين ، إما الرجم بالحجارة ، فيقتلونهم أشنع قتلة ، لحنقهم عليهم وعلى دينهم ، وإما أن يفتنوهم عن دينهم ، ويردوهم في ملتهم. وفي هذه الحال ، لا يفلحون أبدا ، بل

٥٥٠

يخسرون في دينهم ودنياهم وأخراهم ، وقد دلت هاتان الآيتان ، على عدة فوائد. منها : الحث على العلم ، وعلى المباحثة فيه ، لكون الله بعثهم لأجل ذلك. ومنها : الأدب فيمن اشتبه عليه العلم ، أن يرده إلى عالمه ، وأن يقف عند حده. ومنها : صحة الوكالة في البيع والشراء ، وصحة الشركة في ذلك. ومنها : جواز أكل الطيبات ، والمطاعم اللذيذة ، إذا لم تخرج إلى حد الإسراف المنهي عنه لقوله : (فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ). وخصوصا إذا كان الإنسان لا يلائمه إلا ذلك. ولعل هذا عمدة كثير من المفسرين ، القائلين بأن هؤلاء ، أولاد ملوك لكونهم أمروه بأزكى الأطعمة ، التي جرت عادة الأغنياء الكبار بتناولها. ومنها : الحث على التحرز ، والاستخفاء ، والبعد عن مواقع الفتن في الدين ، واستعمال الكتمان في ذلك على الإنسان وعلى إخوانه في الدين. ومنها : شدة رغبة هؤلاء الفتية في الدين ، وفرارهم من كل فتنة ، في دينهم ، وتركهم أوطانهم في الله. ومنها : ذكر ما اشتمل عليه الشر ، من المضار والمفاسد ، الداعية لبغضه ، وتركه. وأن هذه الطريقة ، هي طريقة المؤمنين المتقدمين ، والمتأخرين لقولهم : (وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً).

[٢١] يخبر الله تعالى ، أنه اطلع الناس على حال أهل الكهف ، وذلك ـ والله أعلم ـ بعد ما استيقظوا ، وبعثوا أحدهم ، يشتري لهم طعاما ، وأمروه بالاستخفاء والإخفاء ، فأراد الله أمرا ، فيه صلاح للناس ، وزيادة أجر لهم ، وهو أن الناس رأوا منهم آية من آيات الله ، المشاهدة بالعيان ، على أن وعد الله حق لا شك فيه ولا مرية ولا بعد ، بعد ما كانوا يتنازعون بينهم أمرهم ، فمن مثبت للوعد والجزاء ، ومن ناف لذلك ، فجعل قصتهم ، زيادة بصيرة ويقين للمؤمنين ، وحجة على الجاحدين ، وصار لهم أجر هذه القضية. وشهر الله أمرهم ، ورفع قدرهم حتى عظمهم الّذين اطلعوا عليهم. (فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً) الله أعلم بحالهم ومآلهم. وقال من غلب على أمرهم ـ وهم الّذين لهم الأمر : (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) أي : نعبد الله تعالى فيه ، ونتذكر به أحوالهم ، وما جرى لهم. وهذه الحالة محظورة ، نهى عنها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذم فاعليها ولا يدل ذكرها هنا ، على عدم ذمها ، فإن السياق في شأن أهل الكهف والثناء عليهم ، وأن هؤلاء وصل بهم الحال إلى أن قالوا : ابنوا عليهم مسجدا بعد خوف أهل الكهف الشديد من قومهم ، وحذرهم من الاطلاع عليهم ، فوصلت الحال إلى ما ترى. وفي هذه القصة ، دليل على أن من فرّ بدينه من الفتن ، سلمه الله منها. وأن من حرص على العافية. عافاه الله ، ومن أوى إلى الله ، آواه الله ، وجعله هداية لغيره. ومن تحمل الذل في سبيله ، وابتغاء مرضاته ، كان آخر أمره وعاقبته ، العز العظيم ، من حيث لا يحتسب (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ).

[٢٢] يخبر تعالى ، عن اختلاف أهل الكتاب ، في عدة أصحاب الكهف ، اختلافا ، صادرا عن رجمهم بالغيب ، وتقوّلهم بما لا يعلمون ، وأنهم فيهم على ثلاثة أقوال : منهم : من يقول : ثلاثة ، رابعهم كلبهم ، ومنهم من يقول : خمسة ، سادسهم كلبهم. وهذان القولان ، ذكر الله بعدهما ، أن هذا رجم منهم بالغيب ، فدل على بطلانهما. ومنهم من يقول : سبعة ، وثامنهم كلبهم ، وهذا ـ والله أعلم ـ هو الصواب ، لأن الله أبطل الأولين ، ولم يبطله ، فدل على صحته. وهذا من الاختلاف ، الذي لا فائدة تحته ، ولا يحصل بمعرفة عددهم ، مصلحة للناس ، دينية ، ولا دنيوية ، ولهذا قال تعالى : (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) وهم الّذين ، أصابوا الصواب وعلموا إصابتهم. (فَلا تُمارِ) تجال وتحاج (فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً) أي : مبنيا على العلم واليقين ، ويكون أيضا فيه فائدة ، وأما المماراة المبنية على الجهل والرجم بالغيب ، أو التي لا فائدة فيها. إما أن يكون الخصم معاندا ، أو تكون المسألة لا أهمية فيها ، ولا تحصل فائدة دينية بمعرفتها ، كعدد أصحاب الكهف ونحو ذلك ، فإن في كثرة المناقشات فيها ، والبحوث المتسلسلة ، تضييعا للزمان ، وتأثيرا في مودة القلوب بغير فائدة. (وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ) أي : في شأن أهل الكهف (مِنْهُمْ) أي : من أهل الكتاب (أَحَداً) وذلك لأن مبنى كلامهم فيهم على الرجم بالغيب والظن ، الذي لا يغني من الحق

٥٥١

شيئا ، ففيها دليل على المنع من استفتاء من لا يصلح للفتوى ، إما لقصوره في الأمر المستفتى فيه ، أو لكونه لا يبالي بما تكلم به ، وليس عنده ورع يحجزه. وإذا نهى عن استفتاء هذا الجنس ، فنهيه هو عن الفتوى ، من باب أولى وأحرى. وفي الآية أيضا ، دليل على أن الشخص ، قد يكون منهيا عن استفتائه في شيء ، دون آخر. فيستفتى فيما هو أهل له ، بخلاف غيره ، لأن الله لم ينه عن استفتائهم مطلقا ، إنما نهى عن استفتائهم في قصة أصحاب الكهف ، وما أشبهها.

[٢٣ ـ ٢٤] هذا النهي كغيره ، وإن كان لسبب خاص وموجها للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن الخطاب عام للمكلفين ، فنهى الله أن يقول العبد في الأمور المستقبلة (إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ) من دون أن يقرنه بمشيئة الله ، وذلك لما فيه من المحذور ، وهو : الكلام على الغيوب المستقبلة ، التي لا يدري ، هل يفعلها أم لا؟ وهل تكون أم لا؟ وفيه رد الفعل إلى مشيئة العبد استقلالا ، وذلك محذور محظور ، لأن المشيئة كلها لله (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٢٩) ولما في ذكر مشيئة الله ، من تيسير الأمر وتسهيله ، وحصول البركة فيه ، والاستعانة من العبد لربه ، ولما كان العبد بشرا ، لا بد أن يسهو عن ذكر المشيئة ، أمره الله أن يستثني بعد ذلك ، إذا ذكر ، ليحصل المطلوب ، ويندفع المحذور. ويؤخذ من عموم قوله : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) الأمر بذكر الله عند النسيان ، فإنه يزيله ، ويذكّر العبد ما سها عنه. وكذلك يؤمر الساهي الناسي لذكر الله ، أن يذكر ربه ، ولا يكونن من الغافلين. ولما كان العبد مفتقرا إلى الله في توفيقه للإصابة ، وعدم الخطأ ، في أقواله وأفعاله ، أمره الله أن يقول : (عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) ، فأمره أن يدعو الله ويرجوه ، ويثق به أن يهديه لأقرب الطرق الموصلة إلى الرشد. وحريّ بعبد ، تكون هذه حاله ، ثم يبذل جهده ، ويستفرغ وسعه في طلب الهدى والرشد ، أن يوفق لذلك ، وأن تأتيه المعونة من ربه ، وأن يسدده في جميع أموره.

[٢٥ ـ ٢٦] لما نهاه الله عن استفتاء أهل الكتاب ، في شأن أهل الكهف ـ لعدم علمهم بذلك ، وكان الله ، عالم الغيب والشهادة ، العالم بكل شيء ـ أخبره الله بمدة لبثهم ، وأن علم ذلك ، عنده وحده ، فإنه من غيب السموات والأرض ، وغيبها مختص به ، فما أخبر به عنها على ألسنة رسله ، فهو الحق اليقين ، الذي لا شك فيه ، وما لا يطلع رسله عليه ، فإن أحدا من الخلق ، لا يعلمه. وقوله : (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) تعجب من كمال سمعه وبصره ، وإحاطتهما بالمسموعات والمبصرات ، بعد ما أخبر بإحاطة علمه بالمعلومات. ثم أخبر عن انفراده بالولاية العامة والخاصة ، فهو الولي الذي يتولى تدبير جميع الكون ، الولي لعباده المؤمنين ، يخرجهم من الظلمات إلى النور وييسرهم لليسرى ، ويجنبهم العسرى ، ولهذا قال : (ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍ). أي : هو الذي تولى أصحاب الكهف ، بلطفه وكرمه ، ولم يكلهم إلى أحد من الخلق. (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) وهذا يشمل الحكم الكوني القدري ، والحكم الشرعي الديني ، فإنه الحاكم في خلقه ، قضاء وقدرا ، وخلقا وتدبيرا والحاكم فيهم ، بأمره ونهيه ، وثوابه وعقابه.

[٢٧] ولما أخبر أنه تعالى ، له غيب السموات والأرض ، فليس لمخلوق إليها طريق ، إلا عن الطريق التي يخبر بها عباده ، وكان هذا القرآن ، قد اشتمل على كثير من الغيوب ، أمر تعالى بالإقبال عليه فقال : (وَاتْلُ) إلى قوله :

٥٥٢

(مُلْتَحَداً). التلاوة هي الاتباع أي : اتبع ما أوحى الله إليك بمعرفة معانيه وفهمها ، وتصديق أخباره ، وامتثال أوامره ونواهيه ، فإنه الكتاب الجليل ، الذي لا مبدل لكلماته ، أي : لا تغير ولا تبدل لصدقها وعدلها ، وبلوغها من الحسن ، فوق كل غاية (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً). فلكمالها ، استحال عليها التغيير والتبديل ، فلو كانت ناقصة ، لعرض لها ذلك ، أو شيء منه ، وفي هذا ، تعظيم للقرآن ، في ضمنه ، الترغيب على الإقبال عليه. (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) أي : لن تجد من دون ربك ، ملجأ تلجأ إليه ، ولا معاذا تعوذ به ، فإذا تعين أنه وحده ، الملجأ في كل الأمور ، تعين أن يكون هو المألوه المرغوب إليه ، في السراء والضراء ، المفتقر إليه في جميع الأحوال ، المسئول في جميع المطالب.

[٢٨] يأمر تعالى نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وغيره أسوته ، في الأوامر والنواهي ـ أن يصبر نفسه مع المؤمنين العبّاد المنيبين (الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) أي : أول النهار وآخره يريدون بذلك وجه الله. فوصفهم بالعبادة والإخلاص فيها ، ففيها الأمر ، بصحبة الأخيار ، ومجاهدة النفس على صحبتهم ، ومخالطتهم وإن كانو فقراء فإن في صحبتهم من الفوائد ، ما لا يحصى. (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ) أي : لا تجاوزهم بصرك ، وترفع عنهم نظرك. (تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) فإن هذا ضار غير نافع ، وقاطع عن المصالح الدينية. فإن ذلك يوجب تعلق القلب بالدنيا ، فتصير الأفكار والهواجس فيها وتزول من القلب ، الرغبة في الآخرة ، فإن زينة الدنيا ، تروق للناظر ، وتسحر القلب ، فيغفل القلب عن ذكر الله ، ويقبل على اللذات والشهوات فيضيع وقته ، وينفرط أمره ، فيخسر الخسارة الأبدية ، والندامة السرمدية ولهذا قال : (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا) غفل عن الله ، فعاقبه بأن أغفله عن ذكره. (وَاتَّبَعَ هَواهُ) أي : صار تبعا لهواه ، حيث ما اشتهت نفسه فعله ، وسعى في إدراكه ، ولو كان فيه هلاكه وخسرانه ، فهو قد اتخذ إلهه هواه كما قال تعالى : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) الآية. (وَكانَ أَمْرُهُ) أي : مصالح دينه ودنياه (فُرُطاً) أي : ضائعة معطلة. فهذا قد نهى الله عن طاعته ، لأن طاعته تدعو إلى الاقتداء به ، ولأنه لا يدعو إلا لما هو متصف به. ودلت الآية ، على أن الذي ينبغي أن يطاع ، ويكون إماما للناس ، من امتلأ قلبه بمحبة الله ، وفاض ذلك على لسانه ، فلهج بذكر الله ، واتبع مراضي ربه ، فقدمها على هواه ، فحفظ بذلك ما حفظ من وقته ، وصلحت أحواله ، واستقامت أفعاله ، ودعا الناس إلى ما منّ الله به عليه. فحقيق بذلك ، أن يتبع ويجعل إماما ، والصبر ، المذكور في هذه الآية ، هو الصبر على طاعة الله ، الذي هو أعلى أنواع الصبر ، وبتمامه يتم باقي الأقسام. وفي الآية ، استحباب الذكر والدعاء والعبادة طرفي النهار ، لأن الله مدحهم بفعله ، وكل فعل مدح الله فاعله ، دل ذلك على أن الله يحبه ، وإذا كان يحبه فإنه يأمر به ، ويرغب فيه.

[٢٩] أي : قل للناس يا محمد : هو (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ). أي : قد تبين الهدى من الضلال ، والرشد من الغي ، وصفات أهل السعادة ، وصفات أهل الشقاوة ، وذلك بما بينه الله على لسان رسوله ، فإذا بان واتضح ، ولم يبق فيه شبهة. (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) أي : لم يبق إلا سلوك أحد الطريقين ، بحسب توفيق العبد ، وعدم توفيقه ،

٥٥٣

وقد أعطاه الله مشيئة ، بها يقدر على الإيمان والكفر ، والخير والشر فمن آمن ، فقد وفق للصواب ، ومن كفر ، فقد قامت عليه الحجة ، وليس بمكره على الإيمان كما قال تعالى : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ). ثم ذكر تعالى مآل الفريقين فقال : (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ) بالكفر والفسوق والعصيان (ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) أي : سورها المحيط بها. فليس لهم منفذ ، ولا طريق ، ولا مخلص منها ، تصلاهم النار الحامية. (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا) أن يطلبوا الشراب ، ليطفىء ما نزل بهم من العطش الشديد. (يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ) أي : كالرصاص المذاب ، أو كعكر الزيت ، من شدة حرارته. (يَشْوِي الْوُجُوهَ) أي : فكيف بالأمعاء والبطون ، كما قال تعالى : (يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) (٢١). (بِئْسَ الشَّرابُ) الذي يراد ليطفىء العطش ، ويدفع بعض العذاب ، فيكون زيادة في عذابهم ، وشدة عقابهم. (وَساءَتْ) النار (مُرْتَفَقاً) وهذا ذم لحالة النار ، أنها ساءت المحل ، الذي يرتفق به. فإنها ليس فيها ارتفاق ، وإنما فيها العذاب العظيم الشاق ، الذي لا يفتّر عنهم ساعة ، وهم فيه مبلسون قد أيسوا من كل خير ، ونسيهم الرحيم في العذاب ، كما نسوه.

[٣٠] ثم ذكر الفريق الثاني فقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي : جمعوا بين الإيمان بالله وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر والقدر ، خيره ، وشره ، وعمل الصالحات ، من الواجبات والمستحبات (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً). وإحسان العمل ، أن يريد العبد العمل لوجه الله ، متبعا في ذلك شرع الله. فهذا العمل لا يضيعه الله ، ولا شيئا منه ، بل يحفظه للعاملين ، ويوفيهم من الأجر ، بحسب عملهم وفضله وإحسانه ، وذكر أجرهم بقوله :

[٣١] (أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ). أي : أولئك الموصوفون بالإيمان والعمل الصالح ، لهم الجنات العاليات التي قد كثرت أشجارها ، فأجنّت من فيها ، وكثرت أنهارها ، فصارت تجري من تحت تلك الأشجار الأنيقة ، والمنازل الرفيعة. وحليتهم فيها ، الذهب ، ولباسهم فيها الحرير الأخضر من السندس ، وهو الغليظ من الديباج ، والإستبرق ، وهو : ما رق منه. متكئين فيها على الأرائك وهي : السرر المزينة ، المجملة بالثياب الفاخرة فإنها لا تسمى أريكة ، حتى تكون كذلك. وفي اتكائهم على الأرائك ، ما يدل على كمال الراحة ، وزوال النصب والتعب ، وكون الخدم يسعون عليهم بما يشتهون ، وتمام ذلك ، الخلود الدائم والإقامة الأبدية. فهذه الدار الجليلة (نِعْمَ الثَّوابُ) للعاملين (وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) يرتفقون بها ، ويتمتعون بما فيها ، مما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين ، من الحبرة والسرور ، والفرح الدائم ، واللذات المتواترة ، والنعم المتوافرة. وأي مرتفق ، أحسن من دار ، أدنى أهلها ، يسير في ملكه ونعيمه ، وقصوره وبساتينه ، ألفي سنة ولا يرى فوق ما هو فيه من النعيم. قد أعطي جميع أمانيه ومطالبه ، وزيد من المطالب ، ما قصرت عنه الأماني. ومع ذلك ، فنعيمهم على الدوام ، متزايد في أوصافه وحسنه. فنسأل الله الكريم ، أن لا يحرمنا خير ما عنده ، من الإحسان ، بشرّ ما عندنا من التقصير والعصيان. ودلت الآية الكريمة ، وما أشبهها ، على أن الحلية ، عامة للذكور والإناث ، كما ورد في الأخبار الصحيحة لأنه أطلقها في قوله : (يُحَلَّوْنَ) وكذلك الحرير ونحوه.

[٣٢ ـ ٣٣] يقول تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اضرب للناس مثل هذين الرجلين الشاكر لنعمة الله ، والكافر لها ، وما صدر من كل منهما ، من الأقوال والأفعال ، وما حصل بسبب ذلك ، من العقاب العاجل ، والآجل ، والثواب ليعتبروا بحالهما ، ويتعظوا بما حصل عليهما ، وليس معرفة أعيان الرجلين ، وفي أي زمان أو مكان هما ، فيه فائدة أو نتيجة. فالنتيجة تحصل من قصتهما فقط ، والتعرض لما سوى ذلك ، من التكلف. فأحد هذين الرجلين الكافر لنعمة الله الجليلة ، جعل الله له جنتين أي : بساتين حسنة ، من أعناب. (وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ) أي : في هاتين الجنتين من كل

٥٥٤

الثمرات ، وخصوصا أشرف الأشجار ، العنب ، والنخل. فالعنب ، وسطها ، والنخل ، قد حف بذلك ، ودار به ، فحصل فيه من حسن المنظر وبهائه ، وبروز الشجر والنخل للشمس والرياح ، التي تكمل لها الثمار ، وتنضج وتتجوهر ، ومع ذلك ، جعل بين تلك الأشجار زرعا. فلم يبق عليهما إلا أن يقال : كيف ثمار هاتين الجنتين؟ وهل لهما ماء يكفيهما؟ فأخبر تعالى ، أن كلا من الجنتين آتت أكلها أي : ثمرها وزرعها ضعفين أي : متضاعفا (وَ) أنها (لَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) أي : لم تنقص من أكلها أدنى شيء. ومع ذلك ، فالأنهار في جوانبهما سارحة ، كثيرة غزيرة. (وَكانَ لَهُ) أي : لذلك الرجل (ثَمَرٌ) أي : عظيم كما يفيده التنكير أي : قد استكملت جنتاه ثمارهما ، وأرجحنت أشجارهما ، ولم تعرض لهما آفة أو نقص ، فهذا غاية منتهى زينة الدنيا في الحرث ، ولهذا اغتر هذا الرجل ، وتبجح وافتخر ، ونسي آخرته.

[٣٤ ـ ٣٦] أي : فقال صاحب الجنتين لصاحبه المؤمن ، وهما يتحاوران ، أي : يتراجعان الكلام بينهما في بعض المجريات المعتادة ، مفتخرا عليه. (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) فخر بكثرة ماله ، وعزة أنصاره ، من عبيد ، وخدم ، وأقارب ، وهذا جهل منه. وإلا فأي افتخار بأمر خارجي ليس فيه فضيلة نفسية ، ولا صفة معنوية ، وإنما هو بمنزلة فخر الصبي بالأماني ، التي لا حقائق تحتها. ثم لم يكفه هذا الافتخار على صاحبه ، حتى حكم ، بجهله وظلمه ، وظن لما دخل جنته. ف (قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ) أي : تنقطع وتضمحل (هذِهِ أَبَداً) ، فاطمأن إلى هذه الدنيا ، ورضي بها ، وأنكر البعث ، فقال : (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي) على ضرب المثل (لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) أي : ليعطيني خيرا من هاتين الجنتين ، وهذا لا يخلو من أمرين. إما أن يكون عالما بحقيقة الحال ، فيكون كلامه هذا على وجه التهكم والاستهزاء فيكون زيادة كفر إلى كفره ، وإما أن يكون هذا ظنه في الحقيقة ، فيكون من أجهل الناس ، وأبخسهم حظّا من العقل ، فأي تلازم بين عطاء الدنيا ، وعطاء الآخرة ، حتى يظن بجهله ، أن من أعطي في الدنيا ، أعطي في الآخرة. بل الغالب ، أن الله تعالى يزوي الدنيا عن أوليائه وأصفيائه ، ويوسعها على أعدائه ، الذين ليس لهم في الآخرة نصيب ، والظاهر أنه يعلم حقيقة الحال ، ولكنه قال هذا الكلام ، على وجه التهكم والاستهزاء ، بدليل قوله : (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ). فإثبات أن وصفه الظلم ، في حال دخوله ، الذي جرى منه ، من القول ما جرى ، يدل على تمرده وعناده.

[٣٧ ـ ٣٩] أي : قال له صاحبه المؤمن ـ ناصحا له ، ومذكرا له حاله الأولى ، التي أوجده الله فيها في الدنيا (مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) ، فهو الذي أنعم عليك بنعمة الإيجاد والإمداد ، وواصل عليك النعم ، ونقلك من طور إلى طور ، حتى سواك رجلا ، كامل الأعضاء والجوارح المحسوسة ، والمعقولة ، وبذلك يسّر لك الأسباب ، وهيأ لك ما هيأ ، من نعم الدنيا ، فلم تحصل لك الدنيا ، بحولك وقوتك ، بل بفضل الله تعالى عليك ، فكيف يليق بك أن تكفر بالله الذي خلقك من تراب ، ثم من نطفة ثم سواك رجلا وتجهل نعمته ، وتزعم أنه لا يبعثك ، وإن بعثك أنه يعطيك خيرا من جنتك ، هذا مما لا ينبغي ولا يليق. ولهذا لما رأى صاحبه المؤمن ، حاله واستمراره على كفره

٥٥٥

وطغيانه ، قال ـ مخبرا عن نفسه ـ على وجه الشكر لربه ، والإعلان بدينه ، عند ورود المجادلات والشبه : (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) (٣٨). فأقر بربوبية ربه ، وانفراده فيها ، والتزام طاعته وعبادته ، وأنه لا يشرك له أحدا من المخلوقين. ثم أخبر أن نعمة الله عليه ، بالإيمان والإسلام ، ولو مع قلة ماله وولده ـ أنها ، هي النعمة الحقيقة ، وأن ما عداها ، معرّض للزوال والعقوبة عليه والنكال ، فقال : (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَ) إلى (وَخَيْرٌ عُقْباً).

[٤٠ ـ ٤١] أي : قال للكافر صاحبه المؤمن : أنت ـ وإن فخرت عليّ بكثرة مالك وولدك ، ورأيتني أقل منك مالا وولدا ـ فإن ما عند الله ، خير وأبقى ، وما يرجى من خيره وإحسانه ، أفضل من جميع الدنيا ، التي يتنافس فيه المتنافسون. (فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها) أي : على جنتك التي طغيت بها وغرتك (حُسْباناً مِنَ السَّماءِ) أي : عذابا ، بمطر عظيم أو غيره. (فَتُصْبِحَ) بسبب ذلك (صَعِيداً زَلَقاً) أي : قد اقتلعت أشجارها ، وتلفت ثمارها ، وغرق زرعها ، وزال نفعها. (أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها) الذي مادتها منه (غَوْراً) أي : غائرا في الأرض (فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً) أي : غائرا لا يستطاع الوصول إليه ، بالمعاول ولا بغيرها. وإنما دعا على جنته المؤمن ، غضبا لربه ، لكونها غرته وأطغته ، واطمأن إليها ، لعله ينيب ، ويراجع رشده ، ويتبصر في أمره.

[٤٢] فاستجاب الله دعاءه (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) أي : أصابه عذاب ، أحاط به ، واستهلكه ، فلم يبق منه شيء ، والإحاطة بالثمر ، يستلزم تلف جميع أشجاره ، وثماره ، وزرعه ، فندم كل الندامة ، واشتد لذلك أسفه ، (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها) أي : على كثرة نفقاته الدنيوية عليها ، حيث اضمحلت وتلاشت ، فلم يبق لها عوض ، وندم أيضا على شركه ، وشره ، ولهذا قال : (يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً).

[٤٣] قال الله تعالى : (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً) (٤٣) ، أي : لما نزل العذاب بجنته ، ذهب عنه ما كان يفتخر به من قوله لصاحبه : (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) فلم يدفعوا عنه من العذاب شيئا ، أشد ما كان إليهم حاجة ، وما كان بنفسه منتصرا ، وكيف ينتصر ، أو يكون له انتصار ، على قضاء الله وقدره ، الذي إذا أمضاه وقدره ، لو اجتمع أهل السماء والأرض على إزالة شيء منه ، لم يقدروا؟ ولا يستبعد من رحمة الله ولطفه ، أن صاحب هذه الجنة ، التي أحيط بها ، تحسنت حاله ، ورزقه الله الإنابة إليه ، وراجع رشده ، وذهب تمرده وطغيانه ، بدليل أنه أظهر الندم على شركه بربه ، وأن الله أذهب عنه ما يطغيه ، وعاقبه في الدنيا ، وإذا أرادا الله بعبد خيرا عجل له العقوبة في الدنيا. وفضل الله لا تحيط به الأوهام والعقول ، ولا ينكره إلا ظالم جهول.

[٤٤] (هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً) (٤٤) أي : في تلك الحال التي أجرى الله فيها العقوبة على من طغى ، وآثر الحياة الدنيا ، والكرامة لمن آمن ، وعمل صالحا ، وشكر الله ، ودعا غيره ، لذلك تبين وتوضح ، أن الولاية الحق ، لله وحده. فمن كان مؤمنا به تقيا ، كان له وليا ، فأكرمه بأنواع الكرامات ، ودفع عنه الشرور

٥٥٦

والمثلات ، ومن لم يؤمن بربه ، ولم يتولاه ، خسر دينه ودنياه ، فثوابه الدنيوي والأخروي ، خير ثواب يرجى ويؤمل. ففي هذه القصة العظيمة ، اعتبار بحال الذي أنعم الله عليه نعما دنيوية ، فألهته عن آخرته وأطغته ، وعصى الله فيها ، أن مآلها الانقطاع والاضمحلال ، وأنه وإن تمتع بها قليلا ، فإنه يحرمها طويلا ، وأن العبد ، ينبغي له ـ إذا أعجبه شيء من ماله أو ولده ـ أن يضيف النعمة إلى موليها ومسديها ، وأن يقول : «ما شاء الله ، لا قوة إلا بالله» ليكون شاكرا متسببا لبقاء نعمته عليه ، لقوله : (وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ). وفيها ، الإرشاد إلى التسلي عن لذات الدنيا وشهواتها ، بما عند الله من الخير لقوله : (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ) ، وفيها أن المال والولد لا ينفعان ، إن لم يعينا على طاعة الله كما قال تعالى : (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً). وفيه الدعاء بتلف مال من كان ماله سبب طغيانه وكفره وخسرانه ، خصوصا إن فضّل نفسه بسببه ، على المؤمنين ، وفخر عليهم. وفيها ، أن ولاية الله وعدمها ، إنما تتضح نتيجتها ، إذا انجلى الغبار وحق الجزاء ، ووجد العاملون أجرهم ف (هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً) (٤٤) أي : عاقبة ومالا.

[٤٥ ـ ٤٦] يقول تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أصلا ، ولمن قام بوراثته بعده تبعا : اضرب للناس مثل الحياة الدنيا ، ليتصوروها حق التصور ، ويعرفوا ظاهرها وباطنها ، فيقيسوا بينها وبين الدار الباقية ، ويؤثروا أيهما أولى بالإيثار. وأن مثل هذه الحياة الدنيا ، كمثل المطر ، ينزل على الأرض ، فيختلط نباتها ، أو تنبت من كل زوج بهيج. فبينا زهرتها ، وزخرفها تسر الناظرين ، وتفرح المتفرجين ، وتأخذ بعيون الغافلين ، إذ أصبحت هشيما ، تذروه الرياح ، فذهب ذلك النبات الناضر ، والزهر الزاهر ، والمنظر البهي ، فأصبحت الأرض غبراء ترابا ، قد انحرف عنها النظر ، وصدف عنها البصر ، وأوحشت القلب. كذلك هذه الدنيا ، بينما صاحبها ، قد أعجب بشبابه ، وفاق فيها على أقرانه وأترابه ، وحصل درهمها ودينارها ، واقتطف من لذته أزهارها ، وخاض في الشهوات في جميع أوقاته ، وظن أنه لا يزال فيها سائر أيامه ، إذ أصابه الموت أو التلف لماله. فذهب عنه سروره ، وزالت لذته ، وحبوره ، واستوحش قلبه من الآلام وفارق شبابه وقوته ، وماله وانفرد بصالح ، أو سيىء أعماله. هنالك يعض الظالم على يديه ، حين يعلم حقيقة ما هو عليه ، ويتمنى العود إلى الدنيا ، لا ليستكمل الشهوات ، بل ليستدرك ما فرط منه من الغفلات ، بالتوبة والأعمال الصالحات. فالعاقل الجازم الموفق ، يعرض على نفسه هذه الحالة ، ويقول لنفسه : «قدّري أنك قد متّ ، ولا بد أن تموتي ، فأي الحالتين تختارين؟ الاغترار بزخرف هذه الدار ، والتمتع بها كتمتع الأنعام السارحة أم العمل ، لدار أكلها دائم وظلها ظليل ، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين؟» ، فبهذا يعرف توفيق العبد من خذلانه ، وربحه من خسرانه. ولهذا أخبر تعالى ، أن المال والبنين ، زينة الحياة الدنيا ، أي : ليس وراء ذلك شيء ، وأن الذي يبقى للإنسان وينفعه ويسره ، الباقيات الصالحات. وهذا يشمل جميع الطاعات ، الواجبة ، والمستحبة ، من حقوق الله ، وحقوق عباده ، من صلاة ، وزكاة ، وصدقة ، وحج ، وعمرة ، وتسبيح ، وتحميد ، وتهليل ، وقراءة ، وطلب علم نافع ، وأمر بمعروف ، ونهي عن منكر ، وصلة رحم ، وبر الوالدين ، وقيام بحق الزوجات ، والمماليك ، والبهائم ، وجميع وجوه الإحسان إلى الخلق ، كل هذا من الباقيات الصالحات ، فهذه خير عند الله ثوابا وخير أملا ، فثوابها يبقى ، ويتضاعف على الآباد ، ويؤمل أجرها وبرها ونفعها ، عند الحاجة ، فهذه التي ينبغي أن يتنافس بها المتنافسون ، ويستبق إليها العاملون ، ويجدّ في تحصيلها المجتهدون. وتأمل ، كيف لما ضرب الله مثل الدنيا وحالها واضمحلالها ، ذكر أن الذي فيها نوعان : نوع من زينتها ، يتمتع به قليلا ، ثم يزول بلا فائدة تعود لصاحبه ، بل ربما لحقته مضرته وهو المال والبنون. ونوع يبقى لصاحبه على الدوام ، وهي : الباقيات الصالحات.

[٤٧ ـ ٤٩] يخبر تعالى عن حال يوم القيامة ، وما فيه من الأهوال المقلقة ، والشدائد المزعجة فقال : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ

٥٥٧

الْجِبالَ) أي : يزيلها عن أماكنها ، يجعلها كثيبا ، ثم يجعلها كالعهن المنفوش ثم تضمحل وتتلاشى ، وتكون هباء منبثا ، وتبرز الأرض ، فتصير قاعا صفصفا ، لا عوج فيه ولا أمتا. ويحشر الله جميع الخلق ، على تلك الأرض ، فلا يغادر منهم أحدا. بل يجمع الأولين والآخرين ، من بطون الفلوات ، وفغور البحار ، ويجمعهم بعد ما تفرقوا ، ويعيدهم ، بعد ما تمزقوا ، خلقا جديدا ، فيعرضون عليه صفا ، ليستعرضهم ، وينظر في أعمالهم ، ويحكم فيهم ، بحكمه العدل ، الذي لا جور فيه ولا ظلم ، ويقول لهم : (لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي : بلا مال ، ولا أهل ، ولا عشيرة ، ما معهم إلا الأعمال ، التي عملوها ، والمكاسب في الخير والشر ، التي كسبوها. كما قال تعالى : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ). وقال هنا ، مخاطبا للمنكرين للبعث ، وقد شاهدوه عيانا : (بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً) أي : أنكرتم الجزاء على الأعمال ، ووعد الله ، ووعيده فيها ، قد رأيتموه وذقتموه ، فحينئذ تحضر كتب الأعمال التي كتبها الملائكة الأبرار ، فتطير لها القلوب ، وتعظم من وقعها ، الكروب ، وتكاد لها الصم الصلاب تذوب ، ويشفق منها المجرمون ، فإذا رأوها مسطرة عليهم أعمالهم ، محصى عليهم أقوالهم وأفعالهم ، قالوا : (يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) أي : لا يترك خطيئة ، صغيرة ولا كبيرة ، إلا وهي مكتوبة فيه ، محفوظة لم ينس منها عمل سر ولا علانية ، ولا ليل ولا نهار. (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) لا يقدرون على إنكاره (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) ، فحينئذ يجازون بها ، ويقررون بها ، ويخزون ، ويحق عليهم العذاب ، (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (١٨٢) بل هم غير خارجين عن عدله وفضله.

[٥٠] يخبر الله تعالى ، عن عداوة إبليس لآدم وذريته ، وأن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم ، إكراما وتعظيما ، وامتثالا لأمر الله ، فامتثلوا ذلك (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) وقال : (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) وقال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) ، فتبين بهذا ، عداوته لله ولأبيكم ، فكيف تتخذونه وذريته أي : الشياطين (أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) ، أي : بئس ما اختاروا لأنفسهم من ولاية الشيطان ، الذي لا يأمرهم إلا بالفحشاء والمنكر عن ولاية الرحمن ، الذي كل السعادة والفلاح والسرور في ولايته. وفي هذه الآية ، الحث على اتخاذ الشيطان عدوا ، والإغراء بذلك ، وذكر السبب الموجب لذلك ، وأنه لا يفعل ذلك إلا ظالم ، وأي ظلم ، أعظم من ظلم من اتخذه عدوه الحقيقي ، وليا ، وترك الولي الحميد؟!! قال تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ). وقال تعالى : (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ).

[٥١] يقول تعالى : وما أشهدت الشياطين وهؤلاء المضلين ، (خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) ، أي : ما أحضرتهم ذلك ، ولا شاورتهم عليه ، فكيف يكونون خالقين لشيء من ذلك؟! بل المنفرد بالخلق والتدبير ، والحكمة

٥٥٨

والتقدير ، هو الله ، خالق الأشياء كلها ، المتصرف فيها بحكمته ، فكيف يجعل له شركاء من الشياطين ، يوالون ويطاعون ، كما يطاع الله ، وهم لم يخلقوا ، ولم يشهدوا خلقا ، ولم يعاونوا الله تعالى؟ ولهذا قال : (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) أي : معاونين ، مظاهرين لله على شأن من الشؤون ، أي : ما ينبغي ، ولا يليق بالله ، أن يجعل لهم قسطا من التدبير ، لأنهم ساعون في إضلال الخلق والعداوة لربهم ، فاللائق ، أن يقصيهم ولا يدنيهم.

[٥٢] ولما ذكر حال من أشرك به في الدنيا ، وأبطل هذا الشرك غاية الإبطال ، وحكم بجهل صاحبه وسفهه ، أخبر عن حالهم مع شركائهم يوم القيامة ، وأن الله يقول لهم : (نادُوا شُرَكائِيَ) بزعمكم أي : على موجب زعمكم الفاسد ، وإلا ، فالحقيقة ، ليس لله شريك في الأرض ولا في السماء ، أي : نادوهم ، لينفعوكم ، ويخلصوكم من الشدائد ، (فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) لأن الحكم والملك يومئذ لله ، لا أحد يملك مثقال ذرة من النفع لنفسه ، ولا لغيره. (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ) أي : بين المشركين وشركائهم (مَوْبِقاً) أي : مهلكا ، يفرق بينهم وبينهم ، ويبعد بعضهم من بعض ، ويتبين حينئذ ، عداوة الشركاء لشركائهم ، وكفرهم بهم ، وتبرّيهم منهم ، كما قال تعالى : (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) (٦).

[٥٣] أي : لما كان يوم القيامة وحصل من الحساب ما حصل ، وتميز كل فريق من الخلق بأعمالهم ، وحقت كلمة العذاب على المجرمين ، فرأوا جهنم قبل دخولها ، فانزعجوا ، واشتد قلقهم ، لظنهم أنهم مواقعوها ، وهذا الظن قال المفسرون : إنه بمعنى اليقين ، فأيقنوا أنهم داخلوها (وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) أي : معدلا يعدلون إليه ، ولا شافع لهم من دون إذنه ، وفي هذا من التخويف والترهيب ، ما ترعد له الأفئدة والقلوب.

[٥٤] يخبر الله تعالى ، عن عظمة القرآن وجلالته وعمومه وأنه صرّف فيه من كل مثل ، أي : من كل طريق موصل إلى العلوم النافعة ، والسعادة الأبدية ، وكل طريق يعصم من الشر والهلاك ، ففيه أمثال الحلال والحرام ، وجزاء الأعمال ، والترغيب والترهيب ، والأخبار الصادقة النافعة للقلوب ، اعتقادا وطمأنينة ، ونورا ، وهذا مما يوجب التسليم لهذا القرآن وتلقيه بالانقياد والطاعة ، وعدم المنازعة له ، في أمر من الأمور ، ومع ذلك ، كان كثير من الناس ، يجادلون في الحق ، بعد ما تبين ، ويجادلون بالباطل (لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) ولهذا قال : (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) أي : مجادلة ومنازعة فيه ، مع أن ذلك ، غير لائق بهم ، ولا عدل منهم ، والذي أوجب له ذلك ، وعدم الإيمان بالله ، إنما هو الظلم والعناد ، لا لقصور في بيانه وحجته ، وبرهانه ، وإلا ، فلو جاءهم العذاب ، وجاءهم ما جاء قبلهم ، لم تكن هذه حالهم ، ولهذا قال : (وَما مَنَعَ النَّاسَ) إلى (قُبُلاً).

[٥٥] أي : ما منع الناس من الإيمان ، والحال أن الهدى الذي يحصل به الفرق ، بين الهدى والضلال ، والحق والباطل ، قد وصل إليهم ، وقامت عليهم حجة الله ، فلم يمنعهم عدم البيان ، بل منعهم الظلم والعدوان ، عن الإيمان ، فلم يبق إلا أن تأتيهم سنة الله ، وعادته في الأولين من أنهم إذا لم يؤمنوا ، عوجلوا بالعذاب ، أو يرون

٥٥٩

العذاب قد أقبل عليهم ، ورأوه مقابلة ومعاينة ، أي : فليخافوا من ذلك ، وليتوبوا من كفرهم ، قبل أن يكون العذاب الذي لا مرد له.

[٥٦] أي : لم نرسل الرسل عبثا ، ولا ليتخذهم الناس أربابا ، ولا ليدعوا إلى أنفسهم ، بل أرسلناهم يدعون الناس إلى كل خير ، وينهون عن كل شر ، ويبشرونهم على امتثال ذلك ، بالثواب العاجل ، والآجل ، وينذرونهم على معصية ذلك ، بالعقاب العاجل ، والآجل ، فقامت بذلك حجة الله على العباد ، ومع ذلك يأبى الظالمون الكافرون ، إلا المجادلة بالباطل ، ليدحضوا به الحق ، فسعوا في نصر الباطل ، مهما أمكنهم ، وفي إدحاض الحق وإبطاله ، واستهزؤوا برسل الله وآياته ، وفرحوا بما عندهم من العلم ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ، ويظهر الحق على الباطل (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) ، ومن حكمة الله ورحمته ، أن تقييضه المبطلين المجادلين الحق بالباطل ، من أعظم الأسباب إلى وضوح الحق وتبين شواهده وأدلته ، وتبين الباطل وفساده ، فبضدها تتبين الأشياء.

[٥٧] يخبر تعالى أنه لا أعظم ظلما ، ولا أكبر جرما ، من عبد ذكّر بآيات الله وبيّن له الحق من الباطل ، والهدى من الضلال ، وخوّف ورهّب ورغّب ، فأعرض عنها ، فلم يتذكر بما ذكّر به ، ولم يرجع عما كان عليه ، ونسي ما قدمت يداه من الذنوب ، ولم يراقب علام الغيوب ، فهذا أعظم ظلما ، من المعرض الذي لم تأته آيات الله ، ولم يذكر بها ، وإن كان ظالما ، فإنه أشد ظلما من هذا ، لكون العاصي على بصيرة وعلم ، أعظم ممن ليس كذلك. ولكن الله تعالى ، عاقبه بسبب إعراضه عن آياته ، ونسيانه لذنوبه ، ورضاه لنفسه ، حالة الشر ، مع علمه بها أن سد عليه أبواب الهداية ، بأن جعل على قلبه أكنة ، أي : أغطية محكمة تمنعه أن يفقه الآيات وإن سمعها ، فليس في إمكانه ، الفقه الذي يصل إلى القلب. (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) أي : صمما يمنعهم من وصول الآيات ، ومن سماعها على وجه الانتفاع وإن كانوا بهذه الحالة ، فليس لهدايتهم سبيل. (وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) لأن الذي يرجى أن يجيب الداعي للهدى ، من ليس عالما ، وأما هؤلاء ، الّذين أبصروا ثم عموا ، ورأوا طريق الحق فتركوه ، وطريق الضلال فسلكوه ، وعاقبهم الله بإقفال القلوب والطبع عليها ، فليس في هدايتهم حيلة ولا طريق. وفي هذه الآية من التخويف لمن ترك الحق بعد علمه ، أن يحال بينهم وبينه ، ولا يتمكن منه بعد ذلك ، ما هو أعظم مرهب وزاجر عن ذلك.

[٥٨ ـ ٥٩] ثم أخبر تعالى عن سعة مغفرته ورحمته ، وأنه يغفر الذنوب ، ويتوب الله على من يتوب ، فيتغمده برحمته ، ويشمله بإحسانه ، وأنه لو آخذ العباد على ما قدمت أيديهم من الذنوب ، لعجل لهم العذاب ، ولكنه تعالى ، حليم لا يعجل بالعقوبة ، بل يمهل ، ولا يهمل ، والذنوب لا بد من وقوع آثارها ، وإن تأخرت عنها مدة طويلة ، ولهذا قال : (بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) أي : لهم موعد ، يجازون فيه بأعمالهم ، لا بد لهم منه ، ولا مندوحة لهم عنه ، ولا ملجأ ، ولا محيد عنه. وهذه سنته في الأولين والآخرين ، أن لا يعاجلهم بالعقاب ، بل يستدعيهم إلى التوبة والإنابة ، فإن تابوا وأنابوا ، غفر لهم ورحمهم ، وأزال عنهم العقاب ، وإلا ، فإن استمروا على ظلمهم وعنادهم ، وجاء الوقت الذي جعله موعدا لهم ، أنزل بهم بأسه ، ولهذا قال : (وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) أي : بظلمهم ، لا بظلم منا (وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) أي : وقتا مقدرا ، لا يتقدمون عنه ، ولا يتأخرون.

[٦٠] يخبر تعالى ، عن نبيه ، موسى عليه‌السلام ، وشدة رغبته في الخير وطلب العلم ، أنه قال لفتاه ، أي :

خادمه الذي يلازمه في حضره وسفره ، وهو «يوشع بن نون» الذي نبأه الله بعد ذلك : (لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) أي : لا أزال مسافرا وإن طالت عليّ الشقة ، ولحقتني المشقة ، حتى أصل إلى مجمع البحرين ، وهو : المكان الذي أوحى إليه أنك ستجد فيه عبدا من عباد الله العالمين ، عنده من العلم ، ما ليس عندك. (أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) أي :

٥٦٠