تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي

تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

المؤلف:

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ١١٣٥

الإيمان بالله ، والانقياد لآياته ، أهانهم بالعذاب السرمدي ، الذي لا يفتّر عنهم ساعة ، ولا هم ينظرون.

[١٧] (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) ، أي : لا تدفع عنهم شيئا من العذاب ، ولا تحصل لهم قسطا من الثواب. (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) الملازمون لها ، الّذين لا يخرجون عنها. (هُمْ فِيها خالِدُونَ) ومن عاش على شيء ، مات عليه.

[١٨] فكما أن المنافقين في الدنيا يموهون على المؤمنين ، ويحلفون لهم أنهم مؤمنين ، فإذا كان يوم القيامة وبعثهم الله جميعا ، حلفوا لله كما حلفوا للمؤمنين ، ويحسبون في حلفهم هذا أنهم على شيء ، لأن كفرهم ، ونفاقهم ، وعقائدهم الباطلة ، لم تزل ترسخ في أذهانهم شيئا فشيئا ، حتى غرتهم وظنوا أنهم على شيء يعتد به ، ويعلق عليه الثواب ، وهم كاذبون في ذلك. ومن المعلوم أن الكذب لا يروج على عالم الغيب والشهادة.

[١٩] وهذا الذي جرى عليهم من استحواذ الشيطان الذي استولى عليهم ، وزين لهم أعمالهم ، وأنساهم ذكر الله ، وهو العدو المبين ، الذي لا يريد بهم إلا الشر ، (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ). (أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) ، الّذين خسروا دينهم ودنياهم وأهليهم.

[٢٠ ـ ٢١] هذا وعد ووعيد ، وعيد لمن حادّ الله ورسوله بالكفر والمعاصي ، أنه مخذول مذلول ، لا عاقبة له حميدة ، ولا راية له منصورة. ووعد ، لمن آمن به ، وبرسله ، واتبع ما جاء به المرسلون ، فصار من حزب الله المفلحين ، أن لهم الفتح والنصر والغلبة ، في الدنيا والآخرة ، وهذا وعد لا يخلف ، ولا يغيّر ، فإنه من الصادق القوي العزيز ، الذي لا يعجزه شيء يريده.

[٢٢] يقول تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) ، أي : لا يجتمع هذا وهذا ، فلا يكون العبد مؤمنا بالله واليوم الآخر حقيقة ، إلا كان عاملا على مقتضى إيمانه ولوازمه ، من محبة من قام بالإيمان وموالاته ، وبغض من لم يقم به ومعاداته ، ولو كان أقرب الناس إليه. وهذا هو الإيمان على الحقيقة ، الذي وجدت ثمرته ، والمقصود منه. وأهل هذا الوصف هم الّذين كتب الله في قلوبهم الإيمان ، أي : رسمه وثبّته ، وغرسه غرسا ، لا يتزلزل ، ولا تؤثر فيه الشبه والشكوك. وهم الّذين قواهم الله بروح منه ، أي : بوحيه ومعرفته ومدده الإلهي ، وإحسانه الرباني. وهم الّذين لهم الحياة الطيبة في هذه الدار ، ولهم جنات النعيم في دار القرار ، الّتي فيها كلّ ما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين ، وتختار ، ولهم أفضل النعيم وأكبره ، وهو أن الله يحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبدا ، ويرضون عن ربهم بما يعطيهم من أنواع الكرامات ، ووافر المثوبات ، وجزيل الهبات ، ورفيع الدرجات بحيث لا يرون فوق ما أعطاهم مولاهم غاية ، ولا وراءه نهاية. وأما من يزعم أنه يؤمن بالله واليوم الآخر ، وهو مع ذلك موادّ لأعداء الله ، محب لمن نبذ الإيمان وراء ظهره ، فإن هذا إيمان زعميّ ، لا حقيقة له ، فإن كل أمر لا بد له من برهان يصدقه ، فمجرد الدعوى لا تفيد شيئا ، ولا يصدق صاحبها. تم تفسير سورة المجادلة ـ والحمد لله.

١٠٢١

تفسير سورة الحشر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

هذه السورة تسمى «سورة بني النصير» وهم طائفة كبيرة من اليهود ، في جانب المدينة ، وقت بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهاجر إلى المدينة ، كفروا به في جملة من كفر من اليهود ، فهادن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم طوائف اليهود ، الّذين هم جيرانه في المدينة. فلما كان بعد وقعة بدر بستة أشهر أو نحوها ، خرج إليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكلمهم أن يعينوه في دية الكلابيين ، الّذين قتلهم عمرو بن أمية الضمري ، فقالوا : نفعل يا أبا القاسم ، اجلس هاهنا ، حتى نقضي حاجتك. فخلا بعضهم ببعض ، وسوّل لهم الشيطان الشقاء الذي كتب عليهم ، فتأمروا على قتله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : أيكم يأخذ هذه الرحى ، فيصعد ، فيلقيها على رأسه يشدخه بها؟ فقال أشقاهم عمرو بن جحاش : أنا ، فقال لهم سلام بن مشكم : لا تفعلوا ، فو الله ليخبرن بما هممتم به ، وإنه لنقض للعهد الذي بيننا وبينه. وجاء الوحي على الفور إليه من ربه ، بما عموا به. فنهض مسرعا ، فتوجّه إلى المدينة ، ولحقه أصحابه ، فقالوا : نهضت ، ولم نشعر بك. فأخبرهم بما همت يهود به. وبعث إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أن اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها ، وقد أجلتكم عشرا ، فمن وجدت بعد ذلك ضربت عنقه». فأقاموا أياما يتجهزون ، وأرسل إليهم المنافق عبد الله بن أبيّ ابن سلول : (أن لا تخرجوا من دياركم ، فإن معي ألفين ، يدخلون معكم حصنكم ، فيموتون دونكم ، وتنصركم قبيلة قريظة وحلفاؤكم من غطفان). وطمع رئيسهم حيي بن أخطب فيما قال له ، وبعث إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إنا لا نخرج من ديارنا ، فاصنع ما بدا لك. فكبّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، ونهضوا إليهم ، وعلي بن أبي طالب يحمل اللواء. وأقاموا على حصونهم يرمون بالنبال والحجارة. واعتزلتهم قريظة ، وخانهم ابن أبي ، وحلفاؤهم من غطفان ، فحاصرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقطع نخلهم وحرّق ، فأرسلوا إليه : نحن نخرج من المدينة ، فأنزلهم على أن يخرجوا منها بنفوسهم وذراريهم ، وأن لهم ما حملت إبلهم إلا السلاح ، وقبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الأموال والسلاح. وكانت بنو النضير خالصة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لنوائبه ، ومصالح المسلمين ، ولم يخمسها ، لأن الله فاءها عليه ، ولم يوجف المسلمون عليها ، بخيل ولا ركاب ، وأجلاهم إلى خيبر ، وفيهم حيي بن أخطب كبيرهم ، واستولى على أرضهم وديارهم ، وقبض السلاح ، فوجد من السلاح خمسين درعا ، وخمسين بيضة ، وثلاثمائة وأربعين سيفا. هذا حاصل قصتهم كما ذكرها أهل السير.

[١] فافتتح تعالى هذه السورة بالإخبار أن جميع من في السماوات والأرض ، تسبح بحمد ربها ، وتنزهه عما لا يليق بجلاله ، وتعبده ، وتخضع لعظمته ، لأنه العزيز الذي قد قهر كلّ شيء ، فلا يمتنع عليه شيء ، ولا يستعصي عليه عسير. الحكيم في خلقه وأمره ، فلا يخلق شيئا عبثا ، ولا يشرع ما لا مصلحة فيه ، ولا يفعل إلا ما هو مقتضى حكمته.

[٢] ومن ذلك نصره لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، على الّذين كفروا من أهل الكتاب ، من بني النضير ، حين غدروا برسوله ، فأخرجهم من ديارهم وأوطانهم ، الّتي ألفوها وأحبوها. وكان إخراجهم منها أول حشر وجلاء ، كتبه الله عليهم على يد رسوله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى خيبر ، ودلت الآية الكريمة أن لهم حشرا وجلاء غير هذا. فقد وقع حين أجلاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من خيبر ، ثمّ عمر رضى الله عنه أخرج بقيتهم منها. (ما ظَنَنْتُمْ) أيها المسلمون (أَنْ يَخْرُجُوا) من ديارهم ، لحصانتها ، ومنعتها ، وعزهم فيها. (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ) فأعجبوا بها ، وغرتهم ، وحسبوا أنها لا ينالون بها ، ولا يقدر عليها أحد ، وقدر الله وراء ذلك كله ، لا تغني عنه الحصون والقلاع ، ولا تجدي

١٠٢٢

فيه القوة والدفاع. ولهذا قال : (فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) ، أي : من الأمر والباب ، الذي لم يخطر ببالهم ، أن يؤتوا منه. وهو أنه تعالى (قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) وهو الخوف الشديد ، الذي هو جند الله الأكبر ، الذي لا ينفع معه عدد ولا عدة ، ولا قوة ولا شدة. فالأمر الذي يحتسبونه ويظنون أن الخلل يدخل عليهم منه إن دخل ، هو الحصون الّتي تحصنوا بها ، واطمأنت نفوسهم إليها ، ومن وثق بغير الله فهو مخذول ، ومن ركن إلى غير الله ، كان وبالا عليه. فأتاهم أمر سماوي ، نزل على قلوبهم ، الّتي هي محل الثبات والصبر ، أو الخور والضعف ، فأزال قوتها وشدتها ، وأورثها ضعفا وخورا وجبنا ، لا حيلة لهم في دفعه ، فصار ذلك عونا عليهم ، ولهذا قال : (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) ، وذلك أنهم صالحوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن لهم ما حملت الإبل. فنقضوا لذلك كثيرا من سقوفهم ، الّتي استحسنوها ، وسلطوا المؤمنين ، بسبب بغيهم على إخراب ديارهم ، وهدم حصونهم ، فهم الّذين جنوا على أنفسهم ، وصاروا أكبر عون عليها. (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) ، أي : البصائر النافذة ، والعقول الكاملة ، فإن في هذا معتبرا يعرف به صنع الله في المعاندين للحق ، المتبعين لأهوائهم ، الّذين لم تنفعهم عزتهم ، ولا منعتهم قوتهم ، ولا حصنتهم حصونهم ، حين جاءهم أمر الله ، فوصل إليهم النكال بذنوبهم ، والعبرة بعموم المعنى ، لا بخصوص السبب. فإن هذه الآية ، تدل على الأمر بالاعتبار ، وهو اعتبار النظير بنظيره ، وقياس الشيء على ما يشابهه ، والتفكر فيما تضمنته الأحكام ، من المعاني والحكم ، الّتي هي محل العقل والفكرة ، وبذلك يكمل العقل ، وتتنور البصيرة ، ويزداد الإيمان ، ويحصل الفهم الحقيقي.

[٣] ثمّ أخبر تعالى أن هؤلاء اليهود لم يصبهم جميع ما يستحقون من العقوبة ، وأن الله خفف عنهم. (وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ) الذي أصابهم وقضاه عليهم ، بقدره الذي لا يبدل ولا يغير ، لكان لهم شأن آخر من عذاب الدنيا ونكالها. ولكنهم ـ وإن فاتهم العذاب الشديد الدنيوي ـ فإن لهم في الآخرة عذاب النار ، الذي لا يمكن أن يعلم شدته إلا الله. فلا يخطر ببالهم أن عقوبتهم انقضت وفرغت ولم يبق لهم منها بقية ، فما أعدّ الله لهم من العذاب في الآخرة أعظم وأطمّ.

[٤] (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) وعادوهما وحاربوهما ، وسعوا في معصيتهما ، وهذه سنته وعادته فيمن شاقه (وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ).

[٥] ولما لام بنو النضير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين في قطع النخيل والأشجار ، وزعموا أن ذلك من الفساد ، وتوصلوا بذلك إلى الطعن بالمسلمين ، أخبر تعالى أن قطع النخيل إن قطعوه أو إبقاءهم إياه ، إن أبقوه (فَبِإِذْنِ اللهِ) وأمره (وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) حيث سلطكم على قطع نخلهم وتحريقها ، ليكون ذلك نكالا لهم ، وخزيا في الدنيا ، وذلا يعرف به عجزهم التام ، الذي ما قدروا على استنقاذ نخلهم الذي هو مادة قوتهم. واللينة : تشمل النخيل كله ، على أصح الاحتمالات وأولاها ، فهذه حال بني النضير ، وكيف عاقبهم الله في الدنيا.

[٦] ثمّ ذكر من انتقلت إليه أموالهم وأمتعتهم ، فقال : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) ، أي : من أهل هذه

١٠٢٣

القرية ، وهم بنو النضير. (ف) إنكم يا معشر المسلمين ما (أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) ، أي : ما أجلبتم ولا حشدتم ، أي : لم تتعبوا بتحصيلها ، لا بأنفسكم ولا بمواشيكم ، بل قذف الله في قلوبهم الرعب ، فأتتكم صفوا عفوا. ولهذا قال : (وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). ومن تمام قدرته ، أنه لا يمتنع عليه ممتنع ، ولا يعزز من دونه قويّ. وتعريف الفيء باصطلاح الفقهاء : هو ما أخذ من مال الكفار بحق ، من غير قتال ، كهذا المال الذي فرّوا وتركوه خوفا من المسلمين ، وسمي فيئا ، لأنه رجع من الكفار ، الّذين هم غير مستحقين له ، إلى المسلمين الّذين لهم الحقّ الأوفر فيه.

[٧] وحكمه العام ، كما ذكره الله بقوله : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) عموما ، سواء كان في وقت الرسول أو بعده ، على من تولى «الإمارة» من بعده من أمته. (فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) ، وهذه الآية نظير الآية الّتي في سورة الأنفال ، وهي قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ). فهذا الفيء يضم خمسة أقسام : لله ، ولرسوله ، يصرف في مصالح المسلمين العامة. وخمس لذي القربى ، وهم : بنو هاشم ، وبنو المطلب ، حيث كانوا ، يسوّى فيه بين ذكورهم وإناثهم. وإنّما دخل بنو المطلب في خمس الخمس مع بني هاشم ، ولم يدخل بقية بني عبد مناف ، لأنهم شاركوا بني هاشم ، في دخولهم الشعب ، حين تعاقدت قريش على هجرهم وعداوتهم ، فنصروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخلاف غيرهم ، ولهذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بني عبد المطلب : «إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام». وخمس لفقراء اليتامى ، وهم : من لا أب له ولم يبلغ. وخمس للمساكين. وخمس لأبناء السبيل ، وهم الغرباء المنقطع بهم في غير أوطانهم. وإنّما قدر الله هذا التقدير ، وحصر الفيء ، في هؤلاء المعينين (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً) ، أي : مداولة واختصاصا (بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) ، فإنه لو لم يقدره ، لتداولته الأغنياء الأقوياء ، ولما حصل لغيرهم من العاجزين منه شيء ، وفي ذلك من الفساد ، ما لا يعلمه إلا الله. كما أن في اتباع أمر الله وشرعه من المصالح ما لا يدخل تحت الحصر ، ولذلك أمر الله بالقاعدة الكلية ، والأصل العام ، فقال : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) ، وهذا شامل لأصول الدين وفروعه ، وظاهره وباطنه ، وأن ما جاء به الرسول ، يتعين على العباد الأخذ به واتباعه ، ولا تحل مخالفته ، وأن نص الرسول على حكم الشيء ، كنص الله تعالى ، لا رخصة لأحد ولا عذر له في تركه ، ولا يجوز تقديم قول أحد على قوله. ثمّ أمر بتقواه ، الّتي بها عمارة القلوب والأرواح ، والدنيا والآخرة ، وبها السعادة الدائمة ، والفوز العظيم ، وبإضاعتها الشقاء الأبدي ، والعذاب السرمدي ، فقال : (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) على من ترك التقوى ، وآثر اتباع الهوى.

[٨] ثمّ ذكر تعالى ، الحكمة والسبب الموجب لجعله تعالى أموال الفيء ، لمن قدرها له ، وأنهم حقيقون بالإعانة ، مستحقون لأن تجعل لهم ، وأنهم ما بين مهاجرين قد هجروا المحبوبات والمألوفات ، من الديار والأوطان ، والأحباب والخلان ، والأموال ، رغبة في الله ، ومحبة لرسول الله. فهؤلاء هم الصادقون الّذين عملوا بمقتضى

١٠٢٤

إيمانهم ، وصدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة ، والعبادات الشاقة ، بخلاف من ادعى الإيمان ، وهو لم يصدقه بالجهاد والهجرة وغيرهما من العبادات ، وبين أنصارهم الأوس والخزرج الّذين آمنوا بالله ورسوله طوعا ومحبة واختيارا وآووا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومنعوه من الأحمر والأسود ، وتبوأوا دار الهجرة والإيمان حتى صارت موئلا ومرجعا يرجع إليه المؤمنون ، ويلجأ إليه المهاجرون ، ويسكن بحماه المسلمون إذ كانت البلدان كلها بلدان حرب وشرك وشر. فلم يزل أنصار الدين يأوون إلى الأنصار ، حتى انتشر الإسلام ، وقوي ، وجعل يزداد شيئا فشيئا ، حتى فتحوا القلوب بالعلم والإيمان والقرآن ، والبلدان بالسيف والسنان. الّذين من جملة أوصافهم الجميلة أنهم (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) ، وهذا لمحبتهم لله ورسوله ، أحبوا أحبابه ، وأحبوا من نصر دينه. (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا) ، أي : لا يحسدون المهاجرين على ما آتاهم الله من فضله ، وخصهم به ، من الفضائل والمناقب ، الّتي هم أهلها ، وهذا يدل على سلامة صدورهم ، وانتفاء الغل والحقد والحسد عنها. ويدل ذلك على أن المهاجرين أفضل من الأنصار ، لأن الله قدمهم بالذكر ، وأخبر أن الأنصار لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ، فدل على أن الله تعالى ، آتاهم ما لم يؤت الأنصار ولا غيرهم ، ولأنهم جمعوا بين النصرة والهجرة. وقوله : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) ، أي : ومن أوصاف الأنصار الّتي فاقوا بها غيرهم ، وتميزوا بها عمن سواهم ، الإيثار ، وهو أكمل أنواع الجود ، وهو الإيثار بمحاب النفس ، من الأموال وغيرها ، وبذلها للغير مع الحاجة إليها ، بل مع الضرورة والخصاصة. وهذا لا يكون إلا من خلق زكي ، ومحبة لله تعالى ، مقدمة على شهوات النفس ولذاتها ، ومن ذلك قصة الأنصاري الذي نزلت الآية بسببه ، حين آثر ضيفه بطعامه ، وطعام أهله وأولاده ، وباتوا جياعا. والإيثار عكسه الأثرة ، فالإيثار محمود ، والأثرة مذمومة ، لأنها من خصال البخل والشح. ومن رزق الإيثار ، فقد وقي شح نفسه (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ، ووقاية شح النفس ، يشمل وقايتها الشح ، في جميع ما أمر به ، فإنه إذا وقي العبد شحّ نفسه ، سمحت نفسه بأوامر الله ورسوله ، ففعلها طائعا منقادا ، منشرحا بها صدره ، وسمحت نفسه بترك ما نهى الله عنه ، وإن كان محبوبا للنفس ، تدعو إليه وتتطلع إليه. وسمحت نفسه ببذل الأموال في سبيل الله ، وابتغاء مرضاته ، وبذلك يحصل الفلاح والفوز. بخلاف من لم يوق شح نفسه ، بل ابتلي بالشح بالخير ، الذي هو أصل الشر ومادته. فهذان الصنفان الفاضلان الزكيان ، هم الصحابة الكرام ، والأئمة الأعلام ، الّذين حازوا من السوابق والفضائل والمناقب ، ما سبقوا به من بعدهم ، وأدركوا به من قبلهم ، فصاروا أعيان المؤمنين ، وسادات المسلمين ، وقادات المتقين.

[١٠]؟؟؟ من الفضل أن يسير خلفهم ، ويأتم بهداهم ، ولهذا ذكر الله من اللاحقين ، من هو مؤتم بهم ، فقال : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) ، أي : من بعد المهاجرين والأنصار (يَقُولُونَ) على وجه النصح لأنفسهم ولسائر المؤمنين ، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ). وهذا دعاء شامل لجميع المؤمنين ، من السابقين ، من الصحابة ، ومن قبلهم ومن بعدهم ، وهذا من فضائل الإيمان أن المؤمنين ينتفع بعضهم ببعض ، ويدعو بعضهم لبعض ، بسبب المشاركة في الإيمان ، المقتضي لعقد الأخوة بين المؤمنين الّتي من فروعها أن يدعو بعضهم لبعض ، وأن يحب بعضهم بعضا. ولهذا ذكر الله في هذا الدعاء ، نفي الغل عن القلب ، الشامل لقليله وكثيره ، الذي إذا انتفى ثبت ضده ، وهو : المحبة بين المؤمنين والموالاة والنصح ، ونحو ذلك مما هو من حقوق المؤمنين. فوصف الله من بعد الصحابة بالإيمان ، لأن قولهم : (سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) دليل على المشاركة فيه ، وأنهم تابعون للصحابة في عقائد الإيمان وأصوله ، وهم أهل السنة والجماعة ، الّذين لا يصدق هذا الوصف التام إلا عليهم. ووصفهم بالإقرار بالذنوب. والاستغفار منها ، واستغفار بعضهم لبعض ، واجتهادهم في إزالة الغل والحقد لإخوانهم المؤمنين لأن دعاءهم بذلك ، مستلزم لما ذكرنا ، ومتضمن لمحبة بعضهم بعضا ، وأن يحب أحدهم لأخيه ما

١٠٢٥

يحب لنفسه ، وأن ينصح له حاضرا وغائبا ، حيا وميتا. ودلت الآية الكريمة على أن هذا من جملة حقوق المؤمنين بعضهم لبعض. ثم ختموا دعاءهم باسمين كريمين ، دالّين على كمال رحمة الله ، وشدة رأفته وإحسانه بهم ، الذي من جملته ، بل أجلّه ، توفيقهم للقيام بحقوقه وحقوق عباده. فهؤلاء الأصناف الثلاثة هم أصناف هذه الأمة ، وهم المستحقون للفيء الذي مصرفه راجع إلى مصالح الإسلام. وهؤلاء أهله الّذين هم أهله ، جعلنا الله منهم ، بمنه وكرمه.

[١١ ـ ١٢] ثمّ تعجب تعالى من حال المنافقين ، الّذين أطمعوا إخوانهم من أهل الكتاب ، في نصرتهم وموالاتهم على المؤمنين ، وأنهم يقولون لهم : (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً) ، أي : لا نطيع في عدم نصرتكم أحدا يعذلنا أو يخوفنا. (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في هذا الوعد الذي غروا به إخوانهم. ولا يستكثر هذا عليهم ، فإن الكذب وصفهم ، والغرور والخداع مقارنهم ، والنفاق والجبن يصحبهم ، ولهذا كذبهم الله بقوله ، الذي وجد مخبره كما أخبر به ، ووقع طبق ما قال ، فقال : (لَئِنْ أُخْرِجُوا) ، أي : من ديارهم جلاء ونفيا (لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ) لمحبتهم للأوطان وعدم صبرهم على القتال ، وعدم وفائهم بالوعد. (وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ) ، بل يستولي عليهم الجبن ، ويملكهم الفشل ، ويخذلون إخوانهم ، أحوج ما كانوا إليهم. (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ) على الفرض والتقدير ، (لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) أي : سيحصل منهم الإدبار عن القتال والنصرة ، ولا يحصل لهم نصر من الله.

[١٣] والسبب الذي حملهم على ذلك ، أنكم ـ أيها المؤمنون ـ (أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ) فخافوا منكم ، أعظم مما يخافون من الله ، وقدموا مخافة المخلوق ، الذي لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ، على مخافة الخالق ، الذي بيده الضر والنفع ، والعطاء والمنع. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) مراتب الأمور ، ولا يعرفون حقائق الأشياء ، ولا يتصورون العواقب ، وإنّما الفقه كلّ الفقه ، أن يكون خوف الخالق ورجاؤه ، ومحبته ، مقدما على غيره ، وغيرها تبعا لها.

[١٤] (لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً) ، أي : في حال الاجتماع (إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) ، أي : لا يثبتون على قتالكم ، ولا يعزمون عليه ، إلّا إذا كانوا متحصنين في القرى ، أو من وراء الجدر والأسوار. فإنهم إذ ذاك ربما يحصل منهم امتناع ، اعتمادا على حصونهم وجدرهم ، لا شجاعة بأنفسهم ، وهذا من أعظم الذم. (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) ، أي : بأسهم فيما بينهم شديد ، لا آفة في أبدانهم ولا في قوتهم ، وإنّما الآفة في ضعف إيمانهم ، وعدم اجتماع كلمتهم ، ولهذا قال : (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً) حين تراهم مجتمعين ومتظاهرين. (وَ) لكن (قُلُوبُهُمْ شَتَّى) ، أي : متباغضة متفرقة متشتتة. (ذلِكَ) الذي أوجب لهم اتصافهم بما ذكر (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) ، أي : لا عقل عندهم ، ولا لب ، فإنهم لو كانت لهم عقول ، لآثروا الفاضل على المفضول ، ولما رضوا لأنفسهم بأبخس الخطتين ، ولكانت كلمتهم مجتمعة ، وقلوبهم مؤتلفة ، فبذلك يتناصرون ، ويتعاضدون ، ويتعاونون على مصالحهم الدينية والدنيوية ، مثل هؤلاء المخذولين من أهل الكتاب ، الّذين انتصر الله لرسوله منهم ، وأذاقهم الخزي في الحياة

١٠٢٦

الدنيا.

[١٥] وعدم نصر من وعدهم بالمعاونة (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً) وهم كفار قريش الّذين زين لهم الشيطان أعمالهم ، وقال : (لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ). فغرتهم أنفسهم ، وغرهم من غرهم ، الّذين لم ينفعوهم ، ولم يدفعوا عنهم العذاب ، حتى أتوا «بدرا» بفخرهم وخيلائهم ، ظانين أنهم مدركون برسول الله والمؤمنين أمانيهم. فنصر الله رسوله والمؤمنين عليهم ، فقتلوا كبارهم وصناديدهم ، وأسروا من أسروا منهم ، وفرّ من فر. وبذلك (ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) وعاقبة شركهم وبغيهم. هذا في الدنيا (وَلَهُمْ) في الآخرة (عَذابٌ أَلِيمٌ).

[١٦] ومثل هؤلاء المنافقين الّذين غروا إخوانهم من أهل الكتاب (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ) ، أي : زين له الكفر وحسنه ودعاه إليه. فلما اغتر به وكفر ، وحصل له الشقاء ، لم ينفعه الشيطان ، الذي تولاه ودعاه إلى ما دعاه إليه ، بل تبرأ منه (قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) ، أي : ليس لي قدرة على دفع العذاب عنك ، ولست بمغن عنك مثقال ذرة من الخير.

[١٧] (فَكانَ عاقِبَتَهُما) ، أي : الداعي الذي هو الشيطان ، والمدعو الذي هو الإنسان حين أطاعه (أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها) كما قال تعالى : (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ). (وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) الّذين اشتركوا في الظلم والكفر ، وإن اختلفوا في شدة العذاب وقوته. وهذا دأب الشيطان مع كلّ أوليائه ، فإنه يدعوهم ويدليهم بغرور ، إلى ما يضرهم ، حتى إذا وقعوا في الشباك ، وحاق بهم أسباب الهلاك ، تبرأ منهم ، وتخلى عنهم. واللوم كلّ اللوم على من أطاعه ، فإن الله قد حذر منه ، وأنذر ، وأخبر بمقاصده وغايته ، ونهايته ، فالمقدم على طاعته عاص على بصيرة ، لا عذر له.

[١٨] يأمر تعالى عباده المؤمنين بما يوجبه الإيمان ، ويقتضيه من لزوم تقواه ، سرا وعلانية ، في جميع الأحوال ، وأن يراعوا ما أمرهم الله به ، من أوامره وحدوده ، وينظروا ما لهم وما عليهم ، وماذا حصلوا عليه من الأعمال الّتي تنفعهم أو تضرهم في يوم القيامة. فإنهم إذا جعلوا الآخرة نصب أعينهم ، وقبلة قلوبهم ، واهتموا للمقام بها ، اجتهدوا في كثرة الأعمال الموصلة إليها ، وتصفيتها من القواطع والعوائق ، الّتي توقفهم عن السير ، أو تعوقهم أو تصرفهم. وإذا علموا أيضا أن الله خبير بما يعملون ، لا تخفى عليه أعمالهم ، ولا تضيع لديه ، ولا يهملها ، أوجب لهم الجد والاجتهاد. وهذه الآية الكريمة ، أصل في محاسبة العبد نفسه ، وأنه ينبغي له أن يتفقدها ، فإن رأى زللا ، تداركه بالإقلاع عنه ، والتوبة النصوح ، والإعراض عن الأسباب الموصلة إليه ، وإن رأى نفسه مقصرا ، في أمر من أوامر الله ، بذل جهده ، واستعان بربه في تتميمه ، وتكميله ، وإتقانه. ويقايس بين منن الله عليه وإحسانه ، وبين تقصيره ، فإن ذلك يوجب له الحياء لا محالة. والحرمان كلّ الحرمان ، أن يغفل العبد عن هذا الأمر ، ويشابه قوما نسوا الله ، وغفلوا عن ذكره ، والقيام بحقه ، وأقبلوا على حظوظ أنفسهم وشهواتها ، فلم ينجحوا ، ولم يحصلوا على طائل. بل أنساهم الله مصالح أنفسهم ، وأغفلهم عن منافعها وفوائدها ، فصار أمرهم فرطا ، فرجعوا بخسارة

١٠٢٧

الدارين ، وغبنوا غبنا ، لا يمكن تداركه ، ولا يجبر كسره ، لأنهم هم الفاسقون ، الّذين خرجوا عن طاعة ربهم ، وأوضعوا في معاصيه. فهل يستوي من حافظ على تقوى الله ، ونظر لما قدم لغده ، فاستحق جنات النعيم ، والعيش السليم ـ مع الّذين أنعم الله عليهم ، من النبيين ، والصديقين ، والشهداء ، والصالحين ـ ومن غفل عن ذكره ، ونسي حقوقه فشقي في الدنيا ، واستحق العذاب في الآخرة. فالأولون هم الفائزون ، والآخرون هم الخاسرون. ولما بين تعالى لعباده ما بين ، وأمر عباده ونهاهم في كتابه العزيز ، كان هذا موجبا لأن يبادروا إلى ما دعاهم إليه ، وحثهم عليه ، ولو كانوا في القسوة وصلابة القلوب كالجبال الرواسي. فإن هذا القرآن لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ، أي : لكمال تأثيره في القلوب ، فإن مواعظ القرآن ، أعظم المواعظ على الإطلاق. وأوامره ونواهيه ، محتوية على الحكم والمصالح المقرونة بها ، وهي من أسهل شيء على النفوس ، وأيسرها على الأبدان ، خالية من التكلف لا تناقض فيها ، ولا اختلاف ، ولا صعوبة فيها ، ولا اعتساف ، تصلح لكل زمان ومكان ، وتليق لكل أحد. ثمّ أخبر تعالى أنه يضرب للناس الأمثال ، ويوضح لعباده الحلال والحرام ، لأجل أن يتفكروا في آياته ويتدبروها ، فإن التفكير فيها يفتح للعبد خزائن العلم ، ويبين له طرق الخير والشر ، ويحثه على مكارم الأخلاق ، ومحاسن الشيم ، ويزجره عن مساوئ الأخلاق ، فلا أنفع للعبد من التفكير في القرآن ، والتدبر لمعانيه.

[٢٢] هذه الآيات الكريمات ، قد اشتملت على كثير من أسماء الله الحسنى ، وأوصافه العلى ، عظيمة الشأن ، وبديعة البرهان. فأخبر أنه (اللهُ) المألوه المعبود ، (الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ، وذلك لكماله العظيم ، وإحسانه الشامل ، وتدبيره العام. وكلّ إله غيره ، فإنه باطل ، لا يستحق من العبادة مثقال ذرة ، لأنه فقير عاجز ناقص ، لا يملك لنفسه ولا لغيره شيئا. ثمّ وصف نفسه بعموم العلم الشامل ، لما غاب عن الخلق ، وما يشاهدونه ، وبعموم رحمته الّتي وسعت كلّ شيء ، ووصلت إلى كلّ حي. ثمّ كرر ذكر عموم إلهيته وانفراده بها ، وأنه المالك لجميع الممالك ، فالعالم العلوي والسفلي وأهله ، الجميع مماليك لله ، فقراء مدبرون. (الْقُدُّوسُ السَّلامُ) ، أي : المقدس السالم من كلّ عيب ونقص ، المعظم المجد ؛ لأن القدوس ، يدل على التنزيه من كلّ نقص ، والتعظيم لله في أوصافه وجلاله. (الْمُؤْمِنُ) ، أي : المصدق لرسله وأنبيائه ، بما جاءوا به ، بالآيات البينات ، والبراهين القاطعات ، والحجج الواضحات. (الْعَزِيزُ) الذي لا يغالب ولا يمانع ، بل قد قهر كلّ شيء ، وخضع له كلّ شيء. (الْجَبَّارُ) الّذي قهر جميع العباد ، وأذعن له سائر الخلق ، الذي يجبر الكسير ، ويغني الفقير. (الْمُتَكَبِّرُ) الذي له الكبرياء والعظمة ، المتنزه عن جميع العيوب والظلم والجور. (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) ، وهذا تنزيه عام ، عن كل ما وصفه به ، من أشرك به وعانده.

[٢٤] (هُوَ اللهُ الْخالِقُ) لجميع المخلوقات (الْبارِئُ) للمبروءات (الْمُصَوِّرُ) للمصورات ، وهذه الأسماء متعلقة بالخلق والتدبير والتقدير ، وأن ذلك كله ، قد انفرد الله به ، لم يشاركه فيه مشارك. (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) ، أي : له الأسماء الكثيرة جدا ، الّتي لا يحصيها ، ولا يعلمها أحد إلّا

١٠٢٨

هو ، ومع ذلك ، فكلها حسنى ، أي : صفات كمال ، بل تدل على أكمل الصفات وأعظمها ، لا نقص في شيء منها ، بوجه من الوجوه. ومن حسنها أن الله يحبها ، ويحب من يحبها ، ويحب من عباده أن يدعوه ويسألوه بها. ومن كماله ، أن له الأسماء الحسنى ، والصفات العليا ، وأن جميع من في السماوات والأرض ، مفتقرون إليه على الدوام ، يسبحون بحمده ، ويسألونه حوائجهم ، فيعطيهم من فضله وكرمه ما تقتضيه رحمته وحكمته. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الذي لا يريد شيئا إلّا ويكون ، ولا يكون شيئا إلّا لحكمة ومصلحة. تم تفسير سورة الحشر ـ والحمد لله وحده.

تفسير سورة الممتحنة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] ذكر كثير من المفسرين ، رحمهم‌الله ، أن سبب نزول هذه الآيات الكريمات في قصة حاطب بن أبي بلتعة ، حين غزا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غزاة الفتح. فكتب حاطب إلى المشركين من أهل مكة ، يخبرهم بمسير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم ، ليتخذ بذلك يدا عندهم ، لا شكا ونفاقا ، وأرسله مع امرأة. فأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشأنه ، فأرسل إلى المرأة قبل وصولها وأخذ منها الكتاب. وعاتب حاطبا ، فاعتذر بعذر ، قبله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهذه الآيات فيها النهي الشديد عن موالاة الكفار من المشركين وغيرهم ، وإلقاء المودة إليهم ، وأن ذلك مناف للإيمان ، ومخالف لملة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسّلام ، ومناقض للعقل الذي يوجب الحذر كلّ الحذر من العدو ، والذي لا يبقى من مجهوده في العداوة شيئا ، وينتهز الفرصة في إيصال الضرر إلى عدوه ، فقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ، أي : اعملوا بمقتضى إيمانكم ، من ولاية من قام بالإيمان ، ومعاداة من عاداه ، فإنه عدو لله ، وعدو للمؤمنين. (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي) عدو الله (وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) ، أي : تسارعون في مودتهم ، والسعي في أسبابها ، فإن المودة إذا حصلت ، تبعتها النصرة والموالاة ، فخرج العبد من الإيمان ، وصار من جملة أهل الكفران. وهذا المتخذ للكافر وليا ، عادم المروءة أيضا ، فإنه كيف يوالي أعدى أعدائه ، الذي لا يريد له إلّا الشر ، ويخالف ربه ووليه ، الذي يريد به الخير ، ويأمره به ، ويحثه عليه؟ ومما يدعو المؤمن أيضا إلى معاداة الكفار ، أنهم قد كفروا بما جاء المؤمنين من الحقّ ، ولا أعظم من هذه المخالفة والمشاقة ، فإنهم قد كفروا بأصل دينكم ، وزعموا أنّكم ضلّال ، على غير هدى. والحال أنهم كفروا بالحق الذي لا شك فيه ولا مرية ، ومن رد الحقّ ، فمحال أن يوجد له دليل أو حجة ، تدل على صحة قوله ، بل مجرد العلم بالحق ، يدل على بطلان قول من رده وفساده. ومن عداوتهم البليغة أنهم (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) أيها المؤمنون من دياركم ، ويشردونكم من أوطانكم. ولا ذنب لكم في ذلك عندهم ، إلّا (أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ) الذي يتعين على الخلق كلهم ، القيام بعبوديته ، لأنه رباهم ، وأنعم عليهم ، بالنعم الظاهرة والباطنة. فلما أعرضوا عن هذا الأمر ، الذي هو أوجب الواجبات ، وقمتم به ، عادوكم ، وأخرجوكم ـ من أجله ـ من دياركم. فأيّ دين ، وأيّ مروءة وعقل ، يبقى مع العبد إذا والى الكفار ، الّذين هذا وصفهم ، في كلّ زمان أو مكان؟ ولا يمنعهم منه إلّا خوف ، أو مانع قوي. (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي) ، أي : إن كان خروجكم ، مقصودكم به الجهاد في سبيل الله ، لإعلاء كلمة الله ، وابتغاء رضاه ، فاعملوا بمقتضى هذا ، من موالاة أولياء الله ، ومعاداة أعدائه ، فإن هذا من أعظم الجهاد في سبيله ، ومن أعظم ما يتقرب به المتقربون إلى الله ، ويبتغون به رضاه. (تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ) ، أي : كيف تسرون المودة للكافرين ، وتخفونها ، مع علمكم أن الله عالم بما تخفون ، وما تعلنون؟ ، فهو وإن

١٠٢٩

خفي على المؤمنين ، فلا يخفى على الله تعالى ، وسيجازي العباد بما يعلمه منهم ، من الخير والشر. (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ) ، أي : موالاة الكافرين بعد ما حذركم الله منها (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) ، لأنه سلك مسلكا مخالفا للشرع وللعقل ، والمروءة الإنسانية.

[٢] ثمّ بين تعالى شدة عداوتهم ، تهييجا للمؤمنين على عداوتهم ، فقال : (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ) ، أي : يجدوكم ، وتسنح لهم الفرصة في أذاكم. (يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً) ظاهرين (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) بالقتل والضرب ، ونحو ذلك. (وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) ، أي : بالقول الذي يسوء ، من شتم وغيره. (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) فإن هذا غاية ما يريدون منكم.

[٣] فإن احتججتم وقلتم نوالي الكفار ، لأجل القرابة والأموال (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ) من الله شيئا (يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). فلذلك حذركم من موالاة الكافرين الّذين تضركم موالاتهم.

[٤] (قَدْ كانَتْ لَكُمْ) يا معشر المؤمنين (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) ، أي : قدوة صالحة وائتمام ينفعكم. (فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) من المؤمنين ، لأنكم قد أمرتم أن تتبعوا ملة إبراهيم حنيفا. (إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) ، أي : إذ تبرأ إبراهيم عليه‌السلام ، ومن معه من المؤمنين ، من قومهم المشركين ، ومما يعبدون من دون الله. ثمّ صرحوا بعداوتهم غاية التصريح ، فقالوا : (كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا) ، أي : ظهر وبان (بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ) أي : البغض بالقلوب ، وزوال مودتها ، والعداوة بالأبدان ، وليس لتلك العداوة والبغضاء وقت ولا حدّ ، بل ذلك (أَبَداً) ما دمتم مستمرين على كفركم (حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) ، أي : فإذا آمنتم بالله وحده ، زالت العداوة والبغضاء ، وانقلبت مودة وولاية. فلكم أيها المؤمنون أسوة حسنة في إبراهيم ومن معه في القيام بالإيمان والتوحيد ، ولوازم ذلك ومقتضياته ، وفي كلّ شيء تعبدوا به الله وحده. (إِلَّا) في خصلة واحدة وهي (قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ) آزر المشرك ، الكافر المعاند ، حين دعاه إلى الإيمان والتوحيد ، فامتنع فقال إبراهيم له : (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَ) الحال أني (ما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) ، لكني أدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا. فليس لكم أن تقتدوا بإبراهيم ، في هذه الحالة ، الّتي دعا بها للمشرك. فليس لكم أن تدعوا للمشركين ، وتقولوا : إنا في ذلك متبعون لملة إبراهيم ، فإن الله ذكر عذر إبراهيم في ذلك بقوله : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) ، الآية. ولكم أسوة حسنة في إبراهيم ومن معه ، حين دعوا الله وتوكلوا عليه وأنابوا إليه ، واعترفوا بالعجز والتقصير ، فقالوا : (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا) ، أي : اعتمدنا عليك في جلب ما ينفعنا ، ودفع ما يضرنا ، ووثقنا بك يا ربنا في ذلك. (وَإِلَيْكَ أَنَبْنا) ، أي : رجعنا إلى طاعتك ومرضاتك ، وجميع ما يقرب إليك ، فنحن في ذلك ساعون ، وبفعل الخيرات مجتهدون ، ونعلم أنا إليك نصير ، فنستعد للقدوم عليك ، ونعمل ما يزلفنا إليك.

[٥] (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) ، أي : لا تسلطهم علينا بذنوبنا ، فيفتنونا ، ويمنعونا مما يقدرون عليه من أمور الإيمان ، ويفتنون أيضا بأنفسهم ، فإنهم إذا رأوا لهم الغلبة ، ظنوا أنهم على الحقّ ، وأنا على الباطل ، فازدادوا

١٠٣٠

كفرا وطغيانا. (وَاغْفِرْ لَنا) ما اقترفنا من الذنوب والسيئات ، وما قصرنا به من المأمورات. (رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) القاهر لكل شيء. (الْحَكِيمُ) الذي يضع الأشياء مواضعها ، فبعزتك وحكمتك انصرنا على أعدائنا ، واغفر لنا ذنوبنا ، وأصلح عيوبنا.

[٦] ثمّ كرر الحث على الاقتداء بهم ، قال : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ). وليس كلّ أحد ، تسهل عليه هذه الأسوة ، وإنّما تسهل (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) فإن الإيمان ، واحتساب الأجر والثواب ، يسهل على العبد كل عسير ، ويقلل لديه كلّ كثير ، ويوجب له الاقتداء بعباد الله الصالحين ، والأنبياء والمرسلين ، فإنه يرى نفسه مفتقرا مضطرّا إلى ذلك غاية الاضطرار. (وَمَنْ يَتَوَلَ) عن طاعة الله والتأسي برسل الله ، فلن يضر إلّا نفسه ، ولا يضر الله شيئا. (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ) الذي له الغنى التام المطلق ، من جميع الوجوه ، فلا يحتاج إلى أحد من خلقه بوجه من الوجوه. (الْحَمِيدُ) في ذاته وصفاته وأفعاله ، فإنه محمود على ذلك كله.

[٧] ثمّ أخبر تعالى أن هذه العداوة ، الّتي أمر بها المؤمنين للمشركين ، ووصفهم بالقيام بها أنهم ما داموا على شركهم وكفرهم ، وأنهم إن انتقلوا إلى الإيمان ، فإن الحكم يدور مع علته ، والمودة الإيمانية ترجع. فلا تيأسوا أيها المؤمنون من رجوعهم إلى الإيمان. ف (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) سببها رجوعهم إلى الإيمان. (وَاللهُ قَدِيرٌ) على كلّ شيء ، ومن ذلك ، هداية القلوب ، وتقليبها من حال إلى حال. (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لا يتعاظمه ذنب أن يغفره ، ولا عيب أن يستره ، (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (٥٣). وفي هذه الآية إشارة وبشارة بإسلام بعض المشركين ، الّذين كانوا إذ ذاك أعداء للمؤمنين ، وقد وقع ذلك ، ولله الحمد والمنة.

[٨] ولما نزلت هذه الآيات الكريمات ، المهيجة على عداوة الكافرين ، وقعت من المؤمنين كلّ موقع ، وقاموا بها أتم القيام ، وتأثموا من صلة بعض أقاربهم المشركين وظنوا أن ذلك داخل فيما نهى الله عنه. فأخبرهم الله أن ذلك لا يدخل في المحرم ، فقال : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (٨) ، أي : لا ينهاكم الله عن البر والصلة ، والمكافأة بالمعروف ، والقسط للمشركين ، من أقاربكم وغيرهم ، حيث كانوا بحال لم ينصبوا لقتالكم في الدين ، والإخراج من دياركم. فليس عليكم جناح أن تصلوهم ، فإن صلتهم في هذه الحالة ، لا محذور فيها ولا تبعة ، كما قال تعالى في الأبوين الكافرين ، إذا كان ولدهما مسلما : (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً).

[٩] وقوله : (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ) ، أي : لأجل دينكم ، عداوة لدين الله ، ولمن قام به. (وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا) ، أي : عاونوا غيرهم (عَلى إِخْراجِكُمْ). نهاكم الله (أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) بالنصر والمودة ، بالقول والفعل. وأما بركم وإحسانكم ، الذي ليس بتولّ للمشركين ، فلم ينهكم الله عنه ، بل ذلك داخل في عموم الأمر بالإحسان إلى الأقارب وغيرهم من الآدميين ، وغيرهم. (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ، وذلك الظلم يكون بحسب التولّي. فإن كان تولّيا

١٠٣١

تاما ، كان ذلك كفرا مخرجا عن دائرة الإسلام ، وتحت ذلك من المراتب ، ما هو غليظ ، وما هو دونه.

[١٠] لما كان صلح الحديبية ، صالح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المشركين ، على أن من جاء منهم إلى المسلمين مسلما ، أنه يرد إلى المشركين ، وكان هذا لفظا عاما مطلقا ، يدخل في عمومه النساء والرجال. فأما الرجال فإن الله لم ينه رسوله عن ردهم إلى الكفار ، وفاء بالشرط وتتميما للصلح ، الذي هو من أكبر المصالح. وأما النساء ، فلما كان ردهم فيه مفاسد كثيرة ، أمر المؤمنين ، إذا جاءهم المؤمنات مهاجرات ، وشكوا في صدق إيمانهن ، أن يمتحنوهن ويختبروهن ، بما يظهر به صدقهن ، من أيمان مغلظة وغيرها ، فإنه يحتمل أن يكون إيمانها غير صادق بل رغبة في زوج ، أو بلد أو غير ذلك ، من المقاصد الدنيوية. فإن كن بهذا الوصف ، تعين ردهن وفاء بالشرط ، من غير حصول مفسدة ، وإن امتحنوهن ، فوجدن صادقات ، أو علموا ذلك منهن ، من غير امتحان ، فلا يرجعوهن إلى الكفار. (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) فهذه مفسدة كبيرة راعاها الشارع ، وراعى أيضا الوفاء بالشرط ، بأن يعطوا الكفار أزواجهن ، ما أنفقوا عليهن من المهر وتوابعه ، عوضا عنهن. ولا جناح حينئذ على المسلمين ، أن ينكحوهن ولو كان لهن أزواج في دار الشرك ، ولكن بشرط أن يؤتوهن أجورهن ، من المهر والنفقة. وكما أن المسلمة لا تحل للكافر ، فكذلك الكافرة لا تحل للمسلم ، ما دامت على كفرها ، غير أهل الكتاب ، ولهذا قال تعالى : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) ، وإذا نهى عن الإمساك بعصمتها ، فالنهي عن ابتداء تزويجها أولى. (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ) أيها المؤمنون ، حين ترجع زوجاتكم مرتدات إلى الكفار ، فإذا كان الكفار يأخذون من المسلمين نفقة من أسلمت من نسائهم ، استحق المسلمون أن يأخذوا مقابله ما ذهب من زوجاتهم إلى الكفار. وفي هذا دليل على أن خروج البضع من الزوج متقوم ، فإذا أفسد مفسد ، نكاح امرأة رجل ، برضاع أو غيره ، كان عليه ضمان المهر. وقوله : (ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ) ، أي : ذلكم الحكم ، الذي ذكره الله ، هو حكم الله ، بيّنه لكم ووضحه. (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ، فيعلم تعالى ، ما يصلح لكم من الأحكام فيشرعه ، بحسب حكمته ورحمته.

[١١] وقوله : (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ) بأن ذهبن مرتدات (فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) كما تقدم أن الكفار كانوا يأخذون بدل ما يفوت من أزواجهم إلى المسلمين. فمن ذهبت زوجته من المسلمين إلى الكفار ، وفاتت عليه ، فعلى المسلمين أن يعطوه من الغنيمة ، بدل ما أنفق. (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) فإيمانكم بالله ، يقتضي منكم أن تكونوا ملازمين للتقوى ، على الدوام.

[١٢] هذه الشروط المذكورة في هذه الآية تسمى «مبايعة النساء» اللاتي كن يبايعن على إقامة الواجبات المشتركة ، الّتي تجب على الذكور والنساء ، في جميع الأوقات. وأما الرجال ، فيتفاوت ما يلزمهم بحسب أحوالهم ومراتبهم ، وما يتعين عليهم ، فكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمتثل ما أمره الله. فكان إذا جاءته النساء يبايعنه ، والتزمن بهذه الشروط بايعهن ، وجبر قلوبهن ، واستغفر لهن الله ، فيما يحصل منهن من التقصير ، وأدخلهن في جملة المؤمنين.

١٠٣٢

(عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً) بل يفردن الله وحده بالعبادة. (وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ) كما يجري لنساء الجاهلية الجهلاء «من وأد البنات». (وَلا يَزْنِينَ) كما كان ذلك موجودا كثيرا ، في البغايا وذوات الأخدان. (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ) ، والبهتان : الافتراء على الغير ، أي : لا يفترين بكل حالة ، سواء تعلقت بهن مع أزواجهن ، أو تعلق ذلك بغيرهم. (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) ، أي : لا يعصينك في كل أمر تأمرهن به ، لأن أمرك لا يكون إلا بمعروف ، ومن ذلك طاعتهن لك ، في النهي عن النياحة ، وشق الجيوب ، وخمش الوجوه ، والدعاء بدعوى الجاهلية. (فَبايِعْهُنَ) إذا التزمن بجميع ما ذكر. (وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ) عن تقصيرهن ، وتطييبا لخواطرهن. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) ، أي : كثير المغفرة للعاصين ، والإحسان إلى المذنبين التائبين. (رَحِيمٌ) وسعت رحمته كل شيء ، وعم إحسانه البرايا.

[١٣] أي : يا أيها المؤمنون ، إن كنتم مؤمنين بربكم ، ومتبعين لرضاه ومجانبين لسخطه. (لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) وإنما غضب عليهم لكفرهم ، هذا شامل لجميع أصناف الكفار. (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ) ، أي : قد حرموا من خير الآخرة ، فليس لهم منها نصيب ، فاحذروا أن تولوهم ، فتوافقوهم على شرهم وشركهم ، فتحرموا خير الآخرة كما حرموا. وقوله : (كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) حين أفضوا إلى الدار الآخرة ، وشاهدوا حقيقة الأمر ، وعلموا علم اليقين ، أنهم لا نصيب لهم منها. ويحتمل أن المعنى : قد يئسوا من الآخرة ، أي : قد أنكروها ، وكفروا بها. فلا يستغرب حينئذ منهم الإقدام على مساخط الله ، وموجبات عذابه ، وإياسهم من الآخرة ، كما يئس الكفار المنكرون للبعث في الدنيا ، من رجوع أصحاب القبور إلى الله تعالى. تم تفسير سورة الممتحنة ـ والله أعلم.

تفسير سورة الصف

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] وهذا بيان لعظمته تعالى وقهره ، وذل جميع الأشياء له ، تبارك وتعالى ، وأن جميع من في السماوات والأرض ، يسبحون بحمد الله ، ويعبدونه ، ويسألونه حوائجهم. (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي قهر الأشياء بعزته وسلطانه ، (الْحَكِيمُ) في خلقه وأمره.

[٢] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) (٢) ، أي : لم تقولون الخير ، وتحثون عليه ، وربما تمدحتم به ، وأنتم لا تفعلونه ، وتنهون عن الشر ، وربما نزهتم أنفسكم عنه ، وأنتم متلوثون متصفون به.

[٣] فهل تليق بالمؤمنين هذه الحالة الذميمة؟ أم من أكبر المقت عند الله أن يقول العبد ما لا يفعل؟ ولهذا ينبغي للآمر بالخير ، أن يكون أول الناس مبادرة إليه ، والناهي عن الشر ، أن يكون أبعد الناس عنه ، قال تعالى :

١٠٣٣

(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٤٤). وقال شعيب عليه‌السلام : (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ).

[٤] هذا حث من الله لعباده على الجهاد في سبيله صفا متراصا متساويا ، من غير خلل يحصل في الصفوف ، وتكون صفوفهم على نظام وترتيب ، به تحصل المساواة بين المجاهدين والتعاضد وإرهاب العدو ، وتنشيط بعضهم بعضا. ولهذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا حضر القتال ، صف أصحابه ، ورتبهم في مواقفهم ، بحيث لا يحصل اتكال بعضهم على بعض ، بل تكون كلّ طائفة منهم مهتمة بمركزها ، وقائمة بوظيفتها ، وبهذه الطريقة تتم الأعمال ، ويحصل الكمال.

[٥] أي : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) موبخا لهم على صنيعهم ، ومقرعا لهم على أذيته ، وهم يعلمون أنه رسول الله : (لِمَ تُؤْذُونَنِي) بالأقوال والأفعال (وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ). والرسول من حقه الإكرام والإعظام ، والقيام بأوامره ، والابتدار لحكمه. وأما أذية الرسول الذي إحسانه إلى الخلق ، فوق كلّ إحسان ، بعد إحسان الله ، ففي غاية الوقاحة والجراءة ، والزيغ عن الصراط المستقيم ، الذي قد علموه وتركوه ، ولهذا قال : (فَلَمَّا زاغُوا) ، أي : انصرفوا عن الحقّ بقصدهم (أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) عقوبة لهم على زيغهم ، الذي اختاروه لأنفسهم ، ورضوه لها ، ولم يوفقهم الله للهدى ، لأنهم لا يليق بهم الخير ، ولا يصلحون إلّا للشر. (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) ، أي : الّذين لم يزل الفسق وصفا لهم ، ليس لهم قصد في الهدى. وهذه الآية الكريمة ، تفيد أن إضلال الله لعبيده ، ليس ظلما منه ، ولا حجة لهم عليه ، وإنّما ذلك بسبب منهم ، فإنهم الّذين أغلقوا على أنفسهم باب الهدى بعد ما عرفوه ، فيجازيهم بعد ذلك بالإضلال والزيغ وتقليب القلوب ، عقوبة لهم وعدلا منه بهم ، كما قال تعالى : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١١٠).

[٦] يقول تعالى مخبرا عن عناد بني إسرائيل المتقدمين ، الذي دعاهم عيسى ابن مريم ، وقال لهم : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) ، أي : أرسلني الله لأدعوكم إلى الخير ، وأنهاكم عن الشر ، وأيدني بالبراهين الظاهرة ، ومما يدل على صدقي ، كوني (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) ، أي : جئت بما جاء به موسى من التوراة ، والشرائع السماوية. ولو كنت مدعيا للنبوة ، غير صادق في دعواي ، لجئت بغير ما جاء به المرسلون ، ومصدقا لما بين يديّ من التوراة أيضا ، أنها أخبرت بي وبشرت ، فجئت وبعثت مصدقا لها (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) ، وهو : محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي. فعيسى عليه الصلاة والسلام كسائر الأنبياء ، يصدق بالنبي السابق ، ويبشر بالنبي اللاحق ، بخلاف الكذابين ، فإنهم يناقضون الأنبياء أشد مناقضة ، ويخالفونهم في الأوصاف والأخلاق ، والأمر والنهي. (فَلَمَّا جاءَهُمْ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي بشر به عيسى (بِالْبَيِّناتِ) ، أي : الأدلة الواضحة ، الدالة على أنه هو ، وأنه رسول الله حقا. (قالُوا) معاندين للحق مكذبين له : (هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) ، وهذا من أعجب العجائب. الرسول الذي قد وضحت رسالته ، وصارت أبين من شمس النهار ، يجعل ساحرا بيّنا سحره ، فهل في الخذلان أعظم من هذا؟ وهل في الافتراء أبلغ من هذا الافتراء ، الذي نفى عنه ما كان معلوما من رسالته وأثبت له ما كان أبعد الناس عنه؟

[٧] (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) بهذا أو غيره ، والحال أنه لا عذر له ، وقد انقطعت حجته ، لأنه (يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ) ، وتبين له براهينه وبيناته. (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الّذين لا يزالون على ظلمهم مستقيمين ، لا تردهم عنه موعظة ، ولا يزجرهم بيان ولا برهان. خصوصا هؤلاء الظلمة القائمين بمقابلة الحقّ ليردوه ، ولينصروا الباطل ، ولهذا قال عنهم :

[٨] (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ) ، أي : بما يصدر منهم من المقالات الفاسدة ، الّتي يردّون بها الحقّ ، وهي لا حقيقة لها ، بل تزيد البصير معرفة بما هم عليه من الباطل. (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) ، أي : قد تكفل الله بنصر دينه ، وإتمام الحقّ ، الذي أرسل به رسله ، وإظهار نوره في سائر الأقطار ، ولو

١٠٣٤

كره الكافرون ، وبذلوا بسبب ـ كراهته ـ كل ما قدروا عليه ، مما يتوصلون به إلى إطفاء نور الله ، فإنهم مغلوبون. ومثلهم كمثل من ينفخ عين الشمس بفيه ليطفئها ، فلا على مرادهم حصلوا ، ولا سلمت عقولهم من النقص والقدح فيها.

[٩] ثمّ ذكر سبب الظهور والانتصار للدين الإسلامي ، الحسي والمعنوي فقال ، (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى) ، أي : بالعلم النافع ، والعمل الصالح. بالعلم : الذي يهدي إلى الله ، وإلى دار كرامته ، ويهدي لأحسن الأعمال والأخلاق ، ويهدي إلى مصالح الدنيا والآخرة. (وَدِينِ الْحَقِ) ، أي : الدين الذي يدان به ، ويتعبد لرب العالمين الذي هو حق وصدق ، لا نقص فيه ، ولا خلل يعتريه ، بل أوامره غذاء القلوب والأرواح ، وراحة الأبدان. وترك نواهيه سلامة من الشر والفساد ، فما بعث به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الهدى ودين الحقّ ، أكبر دليل وبرهان على صدقه ، وهو برهان باق ، ما بقي الدهر ، كلما ازداد العاقل تفكرا ، ازداد به فرحا وتبصرا. (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) ، أي : ليعليه على سائر الأديان ، بالحجة والبرهان ، ويظهر أهله القائمين به ، بالسيف والسنان. فأما نفس الدين ، فهذا الوصف ، ملازم له في كل وقت ، فلا يمكن أن يغالبه مغالب ، أو يخاصمه مخاصم إلّا فلجه ، وصار له الظهور والقهر ، وأما المنتسبون إليه ، فإنهم إذا قاموا به ، واستناروا بنوره ، واهتدوا بهديه ، في مصالح دينهم ودنياهم ، فكذلك لا يقوم لهم أحد ، ولا بد أن يظهروا على أهل الأديان. وإذا ضيعوه واكتفوا منه بمجرد الانتساب إليه ، لم ينفعهم ذلك ، وصار إهمالهم له ، سبب تسليط الأعداء عليهم. ويعرف هذا ، من استقرأ الأحوال والنظر ، في أول المسلمين وآخرهم.

[١٠] هذه وصية ودلالة وإرشاد من أرحم الراحمين لعباده المؤمنين ، لأعظم تجارة ، وأجلّ مطلوب ، وأعلى مرغوب ، يحصل بها النجاة من العذاب الأليم ، والفوز بالنعيم المقيم.

[١١] وأتى بأداة العرض ، الدالة على أن هذا أمر يرغب فيه كلّ معتبر ، ويسمو إليه كلّ لبيب ، فكأنه قيل : ما هذه التجارة الّتي هذا قدرها؟ فقال : (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ). ومن المعلوم أن الإيمان التام هو التصديق الجازم بما أمر الله بالتصديق به ، المستلزم لأعمال الجوارح ، الّتي من أجلّها الجهاد في سبيله ، فلهذا قال : (وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) ، بأن تبذلون نفوسكم ومهجكم ، لمصادمة أعداء الإسلام ، والقصد : دين الله ، وإعلاء كلمته. وتنفقون ما تيسر من أموالكم في ذلك المطلوب ، فإن ذلك ، وإن كان كريها للنفوس ، شاقا عليها ، فإنه (خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ، فإن فيه الخير الدنيوي ، من النصر على الأعداء ، والعز المنافي للذل والرزق الواسع ، وسعة الصدر ، وانشراحه. والخير الأخروي ، بالفوز بثواب الله ، والنجاة من عقابه ، ولهذا ذكر الجزاء في الآخرة ، فقال :

[١٢] (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) وهو شامل للصغائر والكبائر فإن الإيمان بالله ، والجهاد في سبيله ، مكفر للذنوب ، ولو كانت كبائر. (وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي : من تحت مساكنها وقصورها ، وغرفها ، وأشجارها ، أنهار من ماء غير آسن ، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ، وأنهار من خمر لذة للشاربين ، وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كلّ الثمرات. (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) ، أي : جمعت كلّ طيب ، من علو ، وارتفاع ، وحسن بناء

١٠٣٥

وزخرفة. حتى إن أهل الغرف من أهل عليين ، يتراءاهم أهل الجنة ، كما يتراءى الكوكب الدري في الأفق الشرقي ، أو الغربي. وحتى إن بناء الجنة بعضه من لبن ذهب ، وبعضه من لبن فضة ، وخيامها من اللؤلؤ والمرجان ، وبعض المنازل من الزمرد ، والجواهر الملونة بأحسن الألوان ، حتى إنها من صفائها يرى ظاهرها من باطنها ، وباطنها من ظاهرها ، وفيها من الطيب والحسن ما لا يأتي عليه وصف الواصفين ، ولا خطر على قلب أحد من العالمين ، لا يمكن أن يدركوه حتى يروه ، ويتمتعوا بحسنه وتقرّ به أعينهم. ففي تلك الحالة ، لولا أن الله خلق أهل الجنة ، وأنشأهم نشأة كاملة ، لا تقبل العدم ، لأوشك أن يموتوا من الفرح ، فسبحان من لا يحصي أحد من خلقه ، ثناء عليه ، بل هو كما أثنى على نفسه ، وفوق ما يثني عليه أحد من خلقه. وتبارك الجليل الجميل ، الذي أنشأ دار النعيم ، وجعل فيها من الجلال والجمال ما يبهر عقول الخلق ، ويأخذ بأفئدتهم. وتعالى من له الحكمة التامة ، الذي من جملتها ، أنه لو رأى العباد الجنة ، ونظروا إلى ما فيها من النعيم لما تخلف عنها أحد ، ولما هنأهم العيش في هذه الدار المنغصة المشوب نعيمها بألمها ، وفرحها بترحها. وسميت جنة عدن ، لأن أهلها مقيمون فيها ، لا يخرجون منها أبدا ، ولا يبغون عنها حولا ، ذلك الثواب الجزيل ، والأجر الجميل ، هو الفوز العظيم ، الذي لا فوز مثله ، فهذا الثواب الأخروي.

[١٣] وأما الثواب الدنيوي لهذه التجارة ، فذكره بقوله : (وَأُخْرى تُحِبُّونَها) ، أي : يحصل لكم خصلة أخرى تحبونها ، وهي : (نَصْرٌ مِنَ اللهِ) لكم على الأعداء ، يحصل به العز والفرح. (وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) تتسع به دائرة الإسلام ، ويحصل به الرزق الواسع ، فهذا جزاء المؤمنين المجاهدين. وأما المؤمنون من غير أهل الجهاد ، إذا قام غيرهم بالجهاد ، فلم يؤيسهم الله تعالى من فضله وإحسانه ، بل قال : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) ، أي : بالثواب العاجل والآجل كلّ على حسب إيمانه ، وإن كانوا لا يبلغون مبلغ المجاهدين في سبيل الله ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من رضي بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولا ، وجبت له الجنة». فعجب لها أبو سعيد الخدري ، راوي الحديث ، فقال : أعدها عليّ يا رسول الله ، فأعادها عليه. ثمّ قال : «وأخرى يرفع بها العبد مائة درجة في الجنة ، ما بين كلّ درجتين كما بين السماء والأرض» ، فقال : وما هي يا رسول الله؟ قال : «الجهاد في سبيل الله» رواه مسلم.

[١٤] ثمّ قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ) ، أي : بالأقوال والأفعال ، وذلك بالقيام بدين الله ، والحرص على تنفيذه على الغير ، وجهاد من عانده ونابذه ، بالأبدان والأموال ، وجهاد من نصر الباطل بما يزعمه من العلم ورد الحقّ ، بدحض حجته ، وإقامة الحجة عليه ، والتحذير منه. ومن نصر دين الله ، تعلّم كتاب الله وسنة رسوله ، والحث على ذلك ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثمّ هيج الله المؤمنين بالاقتداء بمن قبلهم من الصالحين بقوله : (كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) ، أي : قال لهم منبها : من يعاونني ، ويقوم معي في نصر دين الله ، ويدخل مدخلي ، ويخرج مخرجي؟ فابتدر الحواريون فقالوا : (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) فمضى عيسى عليه‌السلام ، على نصر دين الله ، هو ومن معه من الحواريين. (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) بسبب دعوة عيسى

١٠٣٦

والحواريين. (وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) منهم ، فلم ينقادوا لدعوتهم ، فجاهد المؤمنون الكافرين. (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ) ، أي : قويناهم ، ونصرناهم عليهم. (فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) عليهم قاهرين لهم. فأنتم يا أمة محمد ، كونوا أنصار الله ودعاة دينه ، ينصركم الله كما نصر من قبلكم ويظهركم على عدوكم. تم تفسير سورة الصف ـ والحمد لله رب العالمين.

سورة الجمعة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي : يسبح لله ، وينقاد لأمره ، ويتألهه ، ويعبده ، جميع ما في السماوات والأرض ، لأنه الكامل (الْمَلِكِ) ، الذي له مالك العالم العلوي والسفلي ، فالجميع مماليكه وتحت تدبيره. (الْقُدُّوسِ) المعظم ، المنزه عن كلّ آفة ونقص ، (الْعَزِيزِ) القاهر للأشياء كلها. (الْحَكِيمِ) في خلقه وأمره. فهذه الأوصاف العظيمة ، تدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له.

[٢] (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً) المراد بالأميين : الّذين لا كتاب عندهم ، ولا أثر رسالة ، من العرب وغيرهم ممن ليسوا من أهل الكتاب. فامتن الله تعالى عليهم ، منة عظيمة ، أعظم من منته على غيرهم ، لأنهم عادمون للعلم والخير ، وكانوا من قبل في ضلال مبين ، يتعبدون للأصنام والأشجار والأحجار ، ويتخلقون بأخلاق السباع الضارية ، يأكل قويهم ضعيفهم ، وقد كانوا في غاية الجهل بعلوم الأنبياء. فبعث الله فيهم رسولا منهم ، يعرفون نسبه ، وأوصافه الجميلة وصدقه. وأنزل عليه كتابه (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) القاطعة الموجبة للإيمان واليقين. (وَيُزَكِّيهِمْ) بأن يفصل لهم الأخلاق الفاضلة ، ويحثهم عليها ، ويزجرهم عن الأخلاق الرذيلة. (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) ، أي : علم الكتاب والسنة ، المشتمل على علوم الأولين والآخرين. فكانوا بعد هذا التعليم والتزكية ، من أعلم الخلق ، بل كانوا أئمة أهل العلم والدين ، وأكمل الخلق أخلاقا ، وأحسنهم هديا وسمتا. اهتدوا بأنفسهم ، وهدوا غيرهم فصاروا أئمة المهتدين ، وقادة المتقين ، فلله تعالى عليهم ، ببعثة هذا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أكمل نعمة ، وأجلّ منحة.

[٣] وقوله : (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) ، أي : وامتن على آخرين من غيرهم ، أي : من غير الأميين ، ممن يأتي بعدهم ، ومن أهل الكتاب ، لما يلحقوا بهم ، أي : فيمن باشر دعوة الرسول. ويحتمل أنهم لما يلحقوا بهم في الفضل ، ويحتمل أن يكونوا لما يلحقوا بهم في الزمان ، وعلى كل ، فكلا المعنيين صحيح. فإن الّذين بعث الله فيهم رسوله ، وشاهدوه ، وباشروا دعوته ، حصل لهم من الخصائص والفضائل ، ما لا يمكن أحدا أن يلحقهم فيها ، وهذا من عزته وحكمته ، حيث لم يترك عباده هملا ولا سدى ، بل ابتعث فيهم الرسل ، وأمرهم ونهاهم ، وذلك من فضله العظيم ، الذي يؤتيه من يشاء من عباده ، وهو أفضل من نعمته عليهم بعافية البدن وسعة الرزق ، وغير ذلك من النعم الدنيوية. فلا أعظم من نعمة الدين الّتي هي مادة الفوز ، والسعادة الأبدية.

[٥] لما ذكر تعالى منته على هذه الأمة ، الّذين بعث فيها النبي الأمي ، وما خصهم الله من المزايا والمناقب ، الّتي لا

١٠٣٧

يلحقهم فيها أحد. وهم الأمة الأمية الّذين فاقوا الأولين والآخرين ، حتى أهل الكتاب ، الّذين يزعمون أنهم العلماء الربانيون ، والأحبار المتقدمون ، ذكر أن الّذين حملهم الله التوراة من اليهود والنصارى ، وأمرهم أن يتعلموها ، ويعملوا بها فلم يحملوها ولم يقوموا بما حملوا به أنهم لا فضيلة لهم ، وأن مثلهم كمثل الحمار الذي يحمل فوق ظهره أسفارا من كتب العلم ، فهل يستفيد الحمار من تلك الكتب الّتي فوق ظهره؟ وهل تلحقه فضيلة بسبب ذلك؟ أم حظه منها حملها فقط؟ فهذا مثل علماء أهل الكتاب ، الّذين لم يعملوا بما في التوراة ، الذي من أجله وأعظمه الأمر باتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والبشارة به ، والإيمان بما جاء به من القرآن ، فهل استفاد من هذا وصفه ، من التوراة إلّا الخيبة والخسران ، وإقامة الحجة عليه؟ فهذا المثل مطابق لأحوالهم. (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) الدالة على صدق رسولنا وصحة ما جاء به. (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ، أي : لا يرشدهم إلى مصالحهم ، ما دام الظلم لهم وصفا ، والعناد لهم نعتا.

[٦] ومن ظلم اليهود وعنادهم ، أنهم يعلمون أنهم على باطل ، ويزعمون أنهم على حق ، وأنهم أولياء الله من دون الناس. ولهذا أمر الله رسوله أن يقول لهم : إن كنتم صادقين في زعمكم ، أنكم على الحقّ ، وأولياء الله : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) وهذا أمر خفيف ، فإنهم لو علموا أنهم على حق لما توقفوا عن هذا التحدي الذي جعله الله دليلا على صدقهم إن تمنوه ، وكذبهم إن لم يتمنوه.

[٧] ولما لم يقع منهم ، مع الإعلان لهم بذلك ، علم أنهم عالمون ببطلان ما هم عليه وفساده ، ولهذا قال : (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) ، أي : من الذنوب والمعاصي ، الّتي يستوحشون من الموت من أجلها. (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) فلا يمكن أن يخفى عليه من ظلمهم شيء.

[٨] هذا وإن كانوا لا يتمنون الموت بما قدمت أيديهم ، بل يفرون منه غاية الفرار ، فإن ذلك لا ينجيهم ، بل لا بد أن يلاقيهم الموت الذي قد حتمه الله على العباد. ثمّ بعد الموت واستكمال الآجال ، يرد الخلق كلهم يوم القيامة ، إلى عالم الغيب والشهادة ، فينبئهم بما كانوا يعملون ، من خير وشر ، قليل وكثير.

[٩] يأمر تعالى عباده المؤمنين بالحضور لصلاة الجمعة ، والمبادرة إليها من حين ينادى إليها والسعي إليها ، والمراد بالسعي هنا : المبادرة والاهتمام ، وجعلها أهم الأشغال : لا البيع الذي قد نهى عنه عند المضي إلى الصلاة. وقوله : (وَذَرُوا الْبَيْعَ) ، أي : اتركوا البيع ، إذا نودي للصلاة وامضوا إليها. فإن (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) من اشتغالكم بالبيع ، أو تفويتكم لصلاة الفريضة ، الّتي هي من آكد الفروض. (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ، أي : ما عند الله خير وأبقى ، وأن من آثر الدنيا على الدين ، فقد خسر الخسارة الحقيقية ، من حيث يظن أنه يربح ، وهذا الأمر بترك البيع ، مؤقت مدة الصلاة.

[١٠] (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) لطلب المكاسب والتجارات ، ولما كان الاشتغال بالتجارة ، مظنة الغفلة عن ذكر الله ، أمر الله بالإكثار من ذكره ، لينجبر بهذا ، فقال : (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) ، أي : في حال قيامكم وقعودكم ، وعلى جنوبكم. (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ، فإن الإكثار من ذكر الله أكبر أسباب الفلاح.

١٠٣٨

[١١] (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) ، أي : خرجوا من المسجد ، حرصا على ذلك اللهو ، وتلك التجارة ، وتركوا الخير (وَتَرَكُوكَ قائِماً) تخطب الناس ، وذلك في يوم الجمعة بينما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب الناس ، إذ قدم المدينة ، غير تحمل تجارة ، فلما سمع الناس بها ، وهم في المسجد ، انفضوا من المسجد ، وتركوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب استعجالا لما لا ينبغي أن يستعجل له ، وترك أدب. (قُلْ ما عِنْدَ اللهِ) من الأجر والثواب ، لمن لازم الخير ، وصبر نفسه على عبادة الله. (خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ) الّتي ، وإن حصل منها بعض المقاصد ، فإن ذلك قليل منقض ، مفوت لخير الآخرة ، وليس الصبر على طاعة الله مفوتا للرزق. (وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فمن اتقى الله رزقه من حيث لا يحتسب. وفي هذه الآيات فوائد عديدة : منها : أن الجمعة فريضة على المؤمنين ، يجب عليهم السعي إليها ، والمبادرة والاهتمام بشأنها. ومنها : أن الخطبتين يوم الجمعة ، فريضة يجب حضورهما ، لأنه فسر الذكر هنا بالخطبتين ، فأمر الله بالمضي إليه والسعي له. ومنها : مشروعية النداء للجمعة والأمر به. ومنها : النهي عن البيع والشراء بعد نداء الجمعة ، وتحريم ذلك ، وما ذاك إلّا أن يفوت الواجب ويشغل عنه. فدل ذلك على أن كلّ أمر ، وإن كان مباحا في الأصل ، إذا كان ينشأ عنه تفويت واجب ، فإنه لا يجوز في تلك الحال. ومنها : الأمر بحضور الخطبتين يوم الجمعة ، وذم من لم يحضرهما ، ومن لازم ذلك الإنصات لهما. ومنها : أنه ينبغي للعبد المقبل على عبادة الله ، وقت دواعي النفس لحضور اللهو والتجارات والشهوات أن يذكرها ، بما عند الله من الخيرات ، وما لمؤثر رضاه على هواه. تم تفسير سورة الجمعة ، بمنى الله وعونه ـ والحمد لله رب العالمين.

تفسير سورة المنافقون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] لما قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، وكثر الإسلام فيها وعز ، صار أناس من أهلها ، من الأوس والخزرج ، يظهرون الإيمان ، ويبطنون الكفر ، ليبقى جاههم ، وتحقن دماؤهم ، وتسلم أموالهم. فذكر الله من أوصافهم ما به يعرفون ، لكي يحذرهم العباد ، ويكونوا منهم على بصيرة ، فقال : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا) على وجه الكذب : (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) ، وهذه الشهادة من المنافقين على وجه الكذب والنفاق ، مع أنه لا حاجة لشهادتهم في تأييد رسوله. (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) في قولهم ودعواهم ، وأن ذلك ليس بحقيقة منهم.

[٢] (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) ، أي : ترسا يتترسون بها ، من نسبتهم إلى النفاق. (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ)

١٠٣٩

بأنفسهم ، وصدوا غيرهم ممن يخفى عليه حالهم. (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) حيث أظهروا الإيمان ، وأبطنوا الكفر ، وأقسموا على ذلك ، وأوهموا صدقهم.

[٣] (ذلِكَ) الذي زين لهم النفاق (ب) سبب (أنهم) لا يثبتون على الإيمان. بل (آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) بحيث لا يدخلها الخير أبدا. (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) ما ينفعهم ، ولا يعون ما يعود بمصالحهم.

[٤] (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) من روائها ، ونضارتها. (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) ، أي : من حسن منطقهم ، تستلذ لاستماعه. فأجسامهم وأقوالهم معجبة ، ولكن ليس وراء ذلك من الأخلاق الفاضلة ، والهدى الصالح ، شيء ، ولهذا قال : (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) لا منفعة فيها ، ولا ينال منها إلا الضرر المحض. (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) وذلك لجبنهم وفزعهم ، وضعف قلوبهم وريبها ، يخافون أن يطلع عليها. فهؤلاء (هُمُ الْعَدُوُّ) على الحقيقة ، لأن العدو البارز المتميز ، أهون من العدو ، الذي لا يشعر به ، وهو مخادع ماكر ، يزعم أنه وليّ ، وهو العدو المبين. (فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) ، أي : كيف يصرفون عن الدين الإسلامي بعد ما تبينت أدلته ، واتضحت معالمه ، إلى الكفر الذي لا يفيدهم ، إلّا الخسار والشقاء.

[٥] (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) ، أي : لهؤلاء المنافقين (تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ) عما صدر منكم ، لتحسن أحوالكم ، وتقبل أعمالكم ، امتنعوا من ذلك أشد الامتناع. (لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) امتناعا من طلب الدعاء من الرسول. (وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ) عن الحقّ ، بغضا له (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) عن اتباعه بغيا وعنادا. فهذه حالهم ، عند ما يدعون إلى طلب الدعاء من الرسول ، وهذا من لطف الله وكرامته لرسوله ، حيث لم يأتوا إليه ، فيستغفر لهم.

[٦] فإنه (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) وذلك لأنهم قوم فاسقون ، خارجون عن طاعة الله ، مؤثرون للكفر على الإيمان ، فلذلك لا ينفع فيهم استغفار الرسول ، لو استغفر لهم كما قال تعالى : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) ، ... (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ).

[٧] وهذا من شدة عداوتهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمسلمين ، لما رأوا اجتماع أصحابه ، وائتلافهم ، ومسارعتهم في مرضاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قالوا بزعمهم الفاسد : (لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) فإنهم ـ على زعمهم ـ لو لا أموال المنافقين ونفقاتهم عليهم ، لما اجتمعوا في نصرة دين الله. وهذا من أعجب العجب ، أن يدعي هؤلاء المنافقون ، الّذين هم أحرص الناس على خذلان الدين ، وأذية المسلمين ، مثل هذه الدعوى ، الّتي لا تروج إلّا على من لا علم له بالحقائق. ولهذا قال تعالى ، ردا لقولهم : (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، فيؤتي الرزق من يشاء ، ويمنعه من يشاء ، وييسر الأسباب لمن يشاء ، ويعسرها على من يشاء. (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) فلذلك قالوا تلك المقالة ، الّتي مضمونها أن خزائن الرزق في أيديهم ، وتحت مشيئتهم.

[٨] (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) وذلك في غزوة المريسيع ، حين صار بين بعض المهاجرين والأنصار بعض كلام ، كدر الخواطر ، ظهر حينئذ نفاق المنافقين ، وتبين ما في قلوبهم. وقال كبيرهم ، عبد الله بن أبيّ ابن سلول : ما مثلنا ، ومثل

١٠٤٠