تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي

تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

المؤلف:

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ١١٣٥

هو عليه ، من إقامة دين الله والدعوة إليه ، كالزرع الذي أخرج شطأه ، فآزره فاستغلظ. ولهذا قال : (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) حين يرون اجتماعهم ، وشدتهم على أعداء دينهم ، وحين يتصادمون معهم في معارك النزال ، ومعامع القتال. (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) ، فالصحابة رضي الله عنهم ، الّذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح ، قد جمع الله لهم بين المغفرة ، الّتي من لوازمها ، وقاية شرور الدنيا والآخرة ، والأجر العظيم في الدنيا والآخرة. ولنسق قصة الحديبية بطولها ، كما ساقها الإمام شمس الدين ابن القيم في «الهدي النبوي» فإن فيها إعانة على فهم هذه السورة ، وقد تكلم على معانيها وأسرارها.

فصل في قصة الحديبية

قال رحمه‌الله : قال نافع : كانت سنة ست في ذي القعدة ، وهذا هو الصحيح ، وهو قول الزهري ، وقتادة ، وموسى بن عقبة ، ومحمد بن إسحاق وغيرهم. وقال هشام بن عروة ، عن أبيه ، خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الحديبية في رمضان ، وكانت في شوال ، وهذا وهم ، وإنما كانت غزاة الفتح في رمضان. وفي الصحيحين ، عن أنس : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، اعتمر أربع عمر ، كلهن في ذي القعدة ، فذكر منهن عمرة الحديبية ، وكان معه ألف وخمسمائة ، وهكذا في الصحيحين ، عن جابر ، وعنه فيهما : كانوا ألفا وأربعمائة. وفيهما ، عن عبد الله بن أبي أوفى : كنا ألفا وثلاثمائة. قال قتادة : قلت لسعيد بن المسيب : كم كان الجماعة الّذين شهدوا بيعة الرضوان؟ قال : خمس عشرة مائة ، قال : قلت : فإن جابر بن عبد الله قال : كانوا أربع عشرة مائة ، قال : يرحمه‌الله ، وهم ، وهو حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة ، قلت : صح عن جابر القولان ، وصح عنه أنهم نحروا عام الحديبية ، سبعين بدنة ، البدنة عن سبعة ، فقيل له : كم كنتم؟ قال : ألفا وأربعمائة ، بخيلنا ورجلنا ، يعني : فارسهم وراجلهم. والقلب إلى هذا أميل ، وهو قول البراء بن عازب ، ومعقل بن يسار ، وسلمة بن الأكوع ، في أصح الروايتين ، وقول المسيب بن حزن ، قال شعبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبيه : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحت الشجرة ألفا وأربعمائة ، وغلط غلطا بيّنا من قال : كانوا سبعمائة. وعذرهم أنهم نحروا يومئذ ، سبعين بدنة ، والبدنة قد جاء إجزاؤها عن سبعة ، أو عشرة ، وهذا لا يدل على ما قاله هذا القائل ، فإنه قد صرح بأن البدنة ، كانت في هذه الغزوة عن سبعة ، فلو كانت السبعون عن جميعهم ، لكانوا أربعمائة وتسعين رجلا ، وقد قال بتمام الحديث بعينه ، أنهم كانوا ألفا وأربعمائة.

فصل

فلما كان بذي الحليفة ، قلد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الهدي وأشعره ، وأحرم بالعمرة ، وبعث عينا له بين يديه من خزاعة ، يخبره عن قريش ، حتى إذا كانوا قريبا عن عسفان ، أتاه عينه ، فقال : إني قد تركت كعب بن لؤي ، قد جمعوا لك الأحابيش ، وجمعوا لك جموعا ، وهم مقاتلوك ، وصادّوك عن البيت. واستشار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه أن نميل إلى ذراري هؤلاء ، الّذين أعانوهم فنصيبهم ، فإن قعدوا ، قعدوا موتورين محزونين ، وإن نجوا ، يكن عنق قطعه الله ، أم ترون أن نؤم البيت؟ فمن صدنا عنه قاتلناه؟ قال أبو بكر : الله ورسوله أعلم ، إنما جئنا معتمرين ، لم نجىء لقتال أحد ، ولكن من حال بيننا وبين البيت ، قاتلناه ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فروحوا إذا». فراحوا ، حتى إذا كانوا ببعض الطريق ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش ، فخذوا ذات اليمين» ، فو الله ما شعر بهم خالد ، حتى إذا هو بقترة الجيش ، فانطلق يركض نذيرا لقريش. وسار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى إذا كان بالثنية ، الّتي يهبط عليهم منها ، بركت راحلته ، فقال الناس : حل حل ، فألحت ، فقالوا : خلأت القصواء ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما خلأت

٩٦١

القصواء ، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل» ، ثمّ قال : «والذي نفسي بيده ، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتموها» ، ثمّ زجرها ، فوثبت به ، فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية ، على ثمد قليل الماء ، إنما يتبرضه الناس تبرضا ، فلم يلبث الناس أن نزحوه ، فشكوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العطش. فانتزع سهما من كنانته ، ثمّ أمرهم أن يجعلوها فيه ، قال : فو الله ما زال يجيش لهم بالري ، حتى صدروا عنها. وفزعت قريش لنزوله عليهم ، فأحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبعث إليهم رجلا من أصحابه ، فدعا عمر بن الخطاب ليبعثه إليهم ، فقال : يا رسول الله ، ليس بمكة من بني كعب ، أحد يغضب لي ، إن أوذيت ، فأرسل عثمان بن عفان ، فإن عشيرته بها ، وإنه مبلغ ما أردت. فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عثمان بن عفان ، فأرسله إلى قريش ، وقال : «أخبرهم أنا لم نأت لقتال ، إنما جئنا عمّارا ، وادعهم إلى الإسلام». وأمره أن يأتي رجالا بمكة مؤمنين ، ونساء مؤمنات ، فيدخل عليهم ويبشرهم بالفتح ، ويخبرهم أن الله عزوجل مظهر دينه بمكة ، حتى لا يستخفى فيها بالإيمان ، فانطلق عثمان ، فمر على قريش ببلدح ، فقالوا : أين تريد؟ فقال : بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أدعوكم إلى الله ، وإلى الإسلام ، ويخبركم أنا لم نأت لقتال ، وإنما جئنا عمّارا ، قالوا : قد سمعنا ما تقول ، فانفذ لحاجتك. وقام إليه أبان بن سعيد ، فرحب به ، وأسرج فرسه ، فحمل عثمان على الفرس ، فأجاره ، وأردفه أبان ، حتى جاء مكة ، وقال المسلمون قبل أن يرجع عثمان : خلص عثمان قبلنا إلى البيت ، وطاف به. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أظنه طاف بالبيت ونحن محصورون» ، فقالوا : وما يمنعه يا رسول الله وقد خلص؟ قال : «ذاك ظني به أن لا يطوف بالكعبة حتى نطوف معه» ، واختلط المسلمون بالمشركين في أمر الصلح. فرمى رجل من أحد الفريقين رجلا من الفريق الآخر ، وكانت معركة ، وتراموا بالنبل والحجارة ، وصاح الفريقان كلاهما ، وارتضى كلّ واحد من الفريقين بمن فيهم ، وبلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن عثمان قد قتل ، فدعا إلى البيعة. فثار المسلمون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو تحت الشجرة ، فبايعوه على أن لا يفروا ، فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيد نفسه ، وقال : «هذه عن عثمان» ، ولما تمت البيعة ، رجع عثمان ، فقال له المسلمون : اشتفيت يا أبا عبد الله ، من الطواف بالبيت ، فقال : بئسما ظننتم بي ، والذي نفسي بيده ، ولو مكثت بها سنة ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقيم بالحديبية ، ما طفت بها ، حتى يطوف بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولقد دعتني قريش إلى الطواف بالبيت فأبيت ، فقال المسلمون : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان أعلمنا بالله ، وأحسننا ظنا. وكان عمر أخذ بيد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للبيعة تحت الشجرة ، فبايعه المسلمون كلهم إلا الجد بن قيس ، وكان معقل بن يسار ، أخذ بغصنها ، يرفعه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان أول من بايعه ، أبو سنان الأسدي ، وبايعه سلمة بن الأكوع ، ثلاث مرات ، في أول الناس ، وأوسطهم ، وآخرهم. فبينما هم كذلك ، إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي ، في نفر من خزاعة ، وكانوا عيبة نصح لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من أهل تهامة ، فقال : إني تركت كعب بن لؤي ، وعامر بن لؤي ، نزلوا أعداد مياه الحديبية ، معهم العوذ المطافيل ، وهم مقاتلوك ، وصادوك عن البيت. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنا لم نجىء لقتال أحد ، ولكن جئنا معتمرين ، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب ، وأضرت بهم ، فإن شاؤوا ماددتهم ويخلوا بيني وبين الناس ، وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس ، فعلوا ، وإلا فقد جموا ، وإن أبوا إلا القتال ، فو الذي نفسي بيده ، لأقاتلنهم على أمري هذا ، حتى تنفرد سالفتي ، أو لينفذن الله أمره» ، قال بديل : سأبلغهم ما تقول. فانطلق حتى أتى قريشا ، فقال : إني قد جئتكم من عند هذا الرجل ، وسمعته يقول قولا ، فإن شئتم عرضته عليكم ، فقال سفهاؤهم : لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء ، وقال ذوو الرأي منهم : هات ما سمعته ، قال : سمعته يقول كذا وكذا ، فقال عروة بن مسعود الثقفي : إن هذا قد عرض عليكم خطة رشد ، فاقبلوها ، ودعوني آته ، فقالوا : ائته. فأتاه ، فجعل يكلمه ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحوا من قوله لبديل ، فقال له عروة عند ذلك : أي محمد ، أرأيت لو استأصلت قومك ، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى ، فو الله إني لأرى وجوها وأرى أوباشا من الناس ، خليقا أن يفروا ، ويدعوك ، فقال له أبو بكر : امصص بظر اللات ،

٩٦٢

أنحن نفر عنه وندعه؟ قال : من ذا؟ قال : أبو بكر ، قال : أما والذي نفسي بيده ، لو لا يد كانت لك عندي ، لم أجزك بها ، لأجبتك. وجعل يكلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكلما كلمه أخذ بلحيته ، والمغيرة بن شعبة على رأس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومعه السيف ، وعليه المغفر. فكلما أهوى عروة إلى لحية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ضرب يده بنعل السيف ، وقال : أخّر يدك عن لحية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فرفع عروة رأسه ، وقال : من ذا؟ قال : المغيرة بن شعبة ، فقال : أي غدر ، أو لست أسعى في غدرتك؟ وكان المغيرة صحب قوما ، فقتلهم ، وأخذ أموالهم ، ثمّ جاء فأسلم. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما الإسلام فأقبل ، وأما المال ، فلست منه في شيء». ثمّ إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فو الله ما تنخم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نخامة ، إلا وقعت في كف رجل منهم ، فذلك بها جلده ووجهه. وإذا أمرهم ابتدروا إلى أمره ، وإذا توضأ ، كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم ، خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدّون إليه النظر ، تعظيما له. فرجع عروة إلى أصحابه ، فقال : أي قوم ، والله ، لقد وفدت على الملوك : على كسرى ، وقيصر ، والنجاشي ، والله ما رأيت ملكا يعظمه أصحابه ، ما يعظم أصحاب محمد محمدا ، والله ما تنخم نخامة ، إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ ، كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم ، خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدّون إليه النظر ، تعظيما له ، وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. فقال رجل من بني كنانة : دعوني آته ، فقالوا : ائته. فلما أشرف على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذا فلان ، وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له» ، فبعثوها فاستقبله القوم يلبون ، فلما رأى ذلك ، قال : سبحان الله ، لا ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت. فرجع إلى أصحابه ، فقال : رأيت البدن قد قلدت ، وأشعرت ، وما أرى يصدون عن البيت. فقام مكرز بن حفص ، وقال : دعوني آته ، فقالوا : ائته. فلما أشرف عليهم ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذا مكرز بن حفص ، وهو رجل فاجر». فجعل يكلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبينما هو يكلمه ، إذ جاء سهيل بن عمرو ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قد سهل لكم من أمركم» ، فقال : هات ، اكتب بيننا وبينك كتابا ، فدعا الكاتب ، فقال : «اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم» ، فقال سهيل : أما الرحمن ، فو الله ما ندري ما هو ، ولكن اكتب : «باسمك اللهم» كما كنت تكتب. فقال المسلمون : والله ما نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اكتب باسمك اللهم». ثمّ قال : «اكتب : هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله» ، فقال سهيل : فو الله لو نعلم أنك رسول الله ، ما صددناك عن البيت ، ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : محمد بن عبد الله ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني رسول الله ، وإن كذبتموني ، اكتب : محمد بن عبد الله» ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به» ، فقال سهيل : والله لا تتحدث العرب ، أنا أخذنا ضغطة ، ولكن من العام المقبل ، فكتب. فقال سهيل : على أن لا يأتيك منا رجل ، وإن كان في دينك ، إلا رددته علينا. فقال المسلمون : سبحان الله ، كيف يرد إلى المشركين ، وقد جاء مسلما؟ فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل ، يرسف في قيوده ، قد خرج من أسفل مكة ، حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين ، فقال سهيل : هذا يا محمد أول ما قاضيتك عليه ، أن ترده ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنا لم نقض الكتاب بعد» ، فقال : فو الله إذا ، لا أصالحك على شيء أبدا ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فأجزه لي» ، فقال : ما أنا بمجيزه ، فقال : «بلى فافعل» ، قال : ما أنا بفاعل ، قال مكرز : قد أجزناه. فقال أبو جندل : يا معشر المسلمين ، أرد إلى المشركين ، وقد جئت مسلما ، ألا ترون ما لقيت؟ وكان قد عذب في الله عذابا شديدا. قال عمر بن الخطاب : والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ ، فأتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقلت : فقلت : يا رسول الله ألست نبي الله؟ قال : «بلى» ، قال : قلت : ألسنا على الحقّ ، وعدونا على الباطل؟ قال : «بلى» ، فقلت : علام نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبين أعدائنا؟ فقال : «إني رسول الله ، وهو ناصري ، ولست أعصيه» ، قلت : أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال : «بلى ، أفأخبرتك أنك تأتيه العام؟» قلت : لا ، قال : «فإنك آتيه ومطوف به». قال : فأتيت أبا بكر ، فقلت له كما قلت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورد عليه أبو بكر كما رد عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سواء ، وزاد :

٩٦٣

فاستمسك بغرزه حتى تموت ، فو الله إنه لعلى الحق ، قال عمر : فعملت لذلك أعمالا. فلما فرغ من قضية الكتاب ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قوموا وانحروا ، ثمّ احلقوا» ، فو الله ما قام منهم رجل حتى قال ثلاث مرات. فلما لم يقم منهم أحد ، قام فدخل على أم سلمة ، فذكر لها ما لقي من الناس ، فقالت : يا رسول الله أتحب ذلك؟ اخرج ، ثمّ لا تكلم أحدا كلمة ، حتى تنحر بدنك ، وتدعو حالقك ، فيحلق لك ، فقام فخرج ، فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك ، نحر بدنه ، ودعا حالقه فحلقه. فلما رأى الناس ذلك ، قاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضا ، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما. ثمّ جاءت نسوة مؤمنات ، فأنزل الله عزوجل : (إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ) حتى بلغ (بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) ، فطلّق عمر يومئذ امرأتين ، كانتا عنده في الشرك ، فتزوج إحداهما معاوية ، والأخرى صفوان بن أمية ، ثمّ رجع إلى المدينة. وفي مرجعه أنزل الله عليه : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) (١) إلى آخرها ، فقال عمر : أفتح هو يا رسول الله؟ فقال : «نعم» ، فقال الصحابة : هنيئا لك يا رسول الله ، فما لنا؟ فأنزل الله عزوجل : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) الآية. انتهى. وهذا آخر تفسير سورة الفتح ولله الحمد ، وصلّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. نقلته من خط المفسر رحمه‌الله وعفا عنه ، وكان الفراغ من كتابته في ١٣ ذي الحجة سنة ١٣٤٥ ه‍ ، وصلّى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين آمين. بقلم الفقير إلى ربه ، سليمان بن حمد العبد الله البسام ، غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين آمين. وصلّى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وسلّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

تفسير سورة الحجرات

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] هذا متضمن للأدب مع الله تعالى ، ومع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والتعظيم والاحترام له ، وإكرامه. فأمر الله عباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان بالله ورسوله ، من امتثال أوامر الله ، واجتناب نواهيه ، وأن يكونوا ماشين ، خلف أوامر الله ، متبعين لسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جميع أمورهم ، وأن لا يتقدموا بين يدي الله ورسوله ، فلا يقولوا حتى يقول ، ولا يأمروا حتى يأمر. فإن هذا حقيقة الأدب الواجب مع الله ورسوله ، وهو عنوان سعادة العبد وفلاحه ، وبفواته تفوته السعادة الأبدية ، والنعيم السرمدي. وفي هذا ، النهي الشديد عن تقديم قول غير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قوله ، فإنه متى. استبانت سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجب اتباعها ، وتقديمها على غيرها ، كائنا من كان. ثمّ أمر الله بتقواه عموما ، وهي كما

٩٦٤

قال طلق بن حبيب : أن تعمل بطاعة الله ترجو ثواب الله ، وأن تترك معصية الله على نور الله ، تخشى عقاب الله. وقوله : (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) ، أي : لجميع الأصوات في جميع الأوقات ، في خفي المواضع والجهات. (عَلِيمٌ) بالظواهر والبواطن ، والسوابق واللواحق ، والواجبات والمستحيلات والجائزات. وفي ذكر الاسمين الكريمين ـ بعد النهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله ، والأمر بتقواه ـ حث على امتثال تلك الأوامر الحسنة ، والآداب المستحسنة ، وترهيب عن ضده.

[٢] ثمّ قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ) ، وهذا أدب مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في خطابه ، أي : لا يرفع المخاطب له ، صوته معه فوق صوته ، ولا يجهر له بالقول ، بل يغض الصوت ، ويخاطبه بأدب ولين ، وتعظيم وتكريم ، وإجلال وإعظام. ولا يكون الرسول كأحدهم ، بل يميزونه في خطابهم ، كما تميز عن غيره في وجوب حقه على الأمة ، ووجوب الإيمان به ، والحب الذي لا يتم الإيمان إلا به ، فإن في عدم القيام بذلك محذورا ، خشية أن يحبط عمل العبد وهو لا يشعر ، كما أن الأدب معه من أسباب حصول الثواب ، وقبول الأعمال.

[٣] ثمّ مدح من غض صوته عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بأن الله امتحن قلوبهم للتقوى ، أي : ابتلاها واختبرها ، فظهرت نتيجة ذلك ، بأن صلحت قلوبهم للتقوى. ثمّ وعدهم المغفرة لذنوبهم المتضمنة لزوال الشر والمكروه ، وحصول الأجر العظيم ، الذي لا يعلم وصفه إلا الله تعالى ، وفيه حصول كلّ محبوب ، وفي هذا ، دليل على أن الله يمتحن القلوب ، بالأمر والنهي والمحن. فمن لازم أمر الله ، واتبع رضاه ، وسارع إلى ذلك ، وقدمه على هواه ، تمحض وتمحص للتقوى ، وصار قلبه صالحا ، ومن لم يكن كذلك ، علم أنه لا يصلح للتقوى.

[٤] نزلت هذه الآيات الكريمة في ناس من الأعراب ، الّذين وصفهم الله بالجفاء ، وأنهم أجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ، قدموا وافدين على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فوجدوه في بيته وحجرات نسائه ، فلم يصبروا ويتأدبوا حتى يخرج ، بل نادوه : يا محمد يا محمد ، أي : اخرج إلينا. فذمهم الله بعدم العقل ، حيث لم يعقلوا عن الله الأدب مع رسوله واحترامه ، كما أن من العقل استعمال الأدب.

[٥] فأدب العبد ، عنوان عقله ، وأن الله مريد به الخير ، ولهذا قال : (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥) ، أي : غفور لما صدر عن عباده من الذنوب ، والإخلال بالآداب ، رحيم بهم ، حيث لم يعاجلهم بذنوبهم بالعقوبات والمثلات.

[٦] وهذا أيضا من الآداب الّتي على أولي الألباب التأدب بها واستعمالها ، وهو أنه إذا أخبرهم فاسق بنبإ ، أي : خبر أن يتثبتوا في خبره ، ولا يأخذوه مجردا ، فإن في ذلك خطرا كبيرا ، ووقوعا في الإثم ، فإن خبره إذا جعل بمنزلة خبر الصادق العدل ، حكم بموجب ذلك ومقتضاه ، فحصل من تلف النفوس والأموال ، بغير حق بسبب ذلك الخبر ما يكون سببا للندامة ، بل الواجب عند سماع خبر الفاسق ، التثبت والتبين. فإن دلت الدلائل والقرائن على صدقه ، عمل به وصدّق ، وإن دلت على كذبه ، كذّب ، ولم يعمل به ، ففيه دليل على أن خبر الصادق مقبول ، وخبر الكاذب مردود ، وخبر الفاسق متوقف فيه ، ولهذا السبب كان السلف يقبلون روايات كثير من الخوارج المعروفين بالصدق ،

٩٦٥

ولو كانوا فساقا.

[٧] أي : وليكن لديكم معلوما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أظهركم وهو الرسول الكريم ، البار ، الراشد ، الذي يريد بكم الخير ، وينصح لكم ، وتريدون لأنفسكم من الشر والمضرة ، ما لا يوافقكم الرسول عليه ، ولو يطيعكم في كثير من الأمر ، لشق عليكم ، وأعنتكم ولكن الرسول يرشدكم. والله تعالى يحبب إليكم الإيمان ، ويزينه في قلوبكم ، بما أودع في قلوبكم من محبة الحقّ وإيثاره ، وبما نصب على الحقّ من الشواهد والأدلة الدالة على صحته ، وقبول القلوب والفطر له ، وبما يفعله تعالى بكم ، من توفيقه للإنابة إليه. ويكره إليكم الكفر والفسوق ، أي : الذنوب الصغار ـ بما أودع في قلوبكم من كراهة الشر ، وعدم إرادة فعله ، وبما نصبه من الأدلة والشواهد على فساده ومضرته ، وعدم قبول الفطر له ، وبما يجعل الله في القلوب من الكراهة له. (أُولئِكَ) الّذين زين الله الإيمان في قلوبهم ، وحببه إليهم ، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان (هُمُ الرَّاشِدُونَ) ، أي : الّذين صلحت علومهم وأعمالهم ، واستقاموا على الدين القويم ، والصراط المستقيم. وضدهم الغاوون الّذين حبب إليهم الكفر والفسوق والعصيان ، وكره إليهم الإيمان ، والذنب ذنبهم ، فإنهم لما فسقوا طبع الله على قلوبهم ، (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) ، ولما لم يؤمنوا بالحق لما جاءهم أول مرة ، قلب أفئدتهم.

[٨] وقوله : (فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً) ، أي : ذلك الخير الذي حصل لهم ، هو بفضل الله عليهم وإحسانه ، لا بحولهم وقوتهم. (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ، أي : عليم بمن يشكر النعمة ، فيوفقه لها ، ممن لا يشكرها ، ولا تليق به ، فيضع فضله ، حيث تقتضيه حكمته.

[٩] هذا متضمن لنهي المؤمنين عن أن يبغي بعضهم على بعض ، ويقتل بعضهم بعضا ، وأنه إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين ، فإن على غيرهم من المؤمنين أن يتلافوا هذا الشر الكبير ، بالإصلاح بينهم ، والتوسط على أكمل وجه يقع به الصلح ، ويسلكوا الطرق الموصلة إلى ذلك ، فإن صلحتا فبها ونعمت ، (فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ). أي : ترجع إلى ما حد الله ورسوله ، من فعل الخير وترك الشر ، الذي من أعظمه الاقتتال. وقوله : (فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ) هذا أمر بالصلح ، وبالعدل في الصلح ، فإن الصلح قد يوجد ، ولكن لا يكون بالعدل ، بل بالظلم والحيف على أحد الخصمين ، فهذا ليس هو الصلح المأمور به ، فيجب أن لا يراعى أحدهما لقرابة ، أو وطن ، أو غير ذلك من المقاصد والأغراض ، الّتي توجب العدول عن العدل. (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) ، أي : العادلين في حكمهم بين الناس وفي جميع الولايات الّتي تولوها ، حتى إنه قد يدخل في ذلك عدل الرجل في أهله وعياله في أداء حقوقهم. وفي الحديث الصحيح : «المقسطون عند الله على منابر من نور : الّذين يعدلون في حكمهم وأهليهم ، وما ولوا».

[١٠] (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) هذا عقد ، عقده الله بين المؤمنين ، أنه إذا وجد من أي شخص كان في مشرق الأرض ومغربها ، الإيمان بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، فإنه أخ للمؤمنين ، أخوة توجب أن يحب

٩٦٦

له المؤمنون ما يحبون لأنفسهم ، ويكرهوا له ما يكرهون لأنفسهم ، ولهذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، آمرا بالأخوة الإيمانية : «لا تحاسدوا ، ولا تناجشوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخوانا ، المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ، ولا يخذله ، ولا يكذبه» متفق عليه. وفيهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المؤمن للمؤمن ، كالبنيان يشد بعضهم بعضا» وشبك صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أصابعه. ولقد أمر الله ورسوله بالقيام بحقوق المؤمنين بعضهم لبعض ، ومما يحصل به التآلف والتوادد ، والتواصل بينهم ، كل هذا تأييد لحقوق بعضهم على بعض ، فمن ذلك ، إذا وقع الاقتتال بينهم ، الموجب لتفرق القلوب وتباغضها وتدابرها ، فليصلح المؤمنون بين إخوانهم ، وليسعوا فيما به يزول شنآنهم. ثمّ أمر بالتقوى عموما ، ورتب على القيام بالتقوى وبحقوق المؤمنين ، الرحمة ، فقال : (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ، وإذا حصلت الرحمة ، حصل خير الدنيا والآخرة ، ودل ذلك على أن عدم القيام بحقوق المؤمنين ، من أعظم حواجب الرحمة. وفي هاتين الآيتين من الفوائد ، غير ما تقدم : أن الاقتتال بين المؤمنين مناف للأخوة الإيمانية ، ولهذا كان من أكبر الكبائر ، وأن الإيمان والأخوة الإيمانية لا يزولان مع وجود الاقتتال كغيره من الذنوب الكبائر ، الّتي دون الشرك ، وعلى ذلك مذهب أهل السنة والجماعة. وعلى وجوب الإصلاح بين المؤمنين بالعدل ، وعلى وجوب قتال البغاة ، حتى يرجعوا إلى أمر الله ، وعلى أنهم لو رجعوا لغير أمر الله ، بأن رجعوا على وجه لا يجوز الإقرار عليه والتزامه ، أنه لا يجوز ذلك ، وأن أموالهم معصومة ، لأن الله أباح دماءهم وقت استمرارهم على بغيهم خاصة ، دون أموالهم.

[١١] وهذا أيضا من حقوق المؤمنين بعضهم على بعض ، أن (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) بكل كلام ، وقول ، وفعل دال على تحقير الأخ المسلم ، فإن ذلك حرام ، لا يجوز ، وهو دال على إعجاب الساخر بنفسه. وعسى أن يكون المسخور به خيرا من الساخر ، وهو الغالب والواقع ، فإن السخرية لا تقع إلا من قلب ممتلىء من مساوئ الأخلاق ، متحلّ بكل خلق ذميم ، متخلّ عن كلّ خلق كريم ، ولهذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بحسب امرئ من الشر ، أن يحقر أخاه المسلم». ثمّ قال : (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) ، أي : لا يعب بعضكم على بعض ، واللمز بالقول ، والهمز بالفعل ، وكلاهما منهيّ عنه حرام ، متوعد عليه بالنار ، كما قال تعالى : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) (١) الآية. وسمى الأخ المسلم نفسا لأخيه ، لأن المؤمنين ينبغي أن يكون هذا حالهم كالجسد الواحد ، ولأنه إذا همز غيره ، أوجب للغير أن يهمزه ، فيكون هو المتسبب لذلك. (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) ، أي : لا يعير أحدكم أخاه ، ويلقبه بلقب يكره أن يقال فيه ، وهذا هو التنابز ، وأما الألقاب غير المذمومة ، فلا تدخل في هذا. (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) ، أي : بئسما تبدلتم عن الإيمان والعمل بشرائعه ، وما يقتضيه بالإعراض عن أوامره ونواهيه ، باسم الفسوق والعصيان ، الذي هو التنابز بالألقاب. (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ، وهذا هو الواجب على العبد ، أن يتوب إلى الله تعالى ، ويخرج من حق أخيه المسلم ، باستحلاله والاستغفار ، والمدح مقابلة على ذمه. (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) فالناس قسمان : ظالم لنفسه غير تائب ، وتائب مفلح ، ولا ثمّ غيرهما.

[١٢] نهى الله عزوجل عن كثير من الظن السيّء بالمؤمنين ، حيث قال : (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) ، وذلك كالظن الخالي من الحقيقة والقرينة ، وكظن السوء ، الذي يقترن به كثير من الأقوال ، والأفعال المحرمة ، فإن بقاء ظن السوء بالقلب ، لا يقتصر صاحبه على مجرد ذلك ، بل لا يزال به ، حتى يقول ما لا ينبغي ، ويفعل ما لا ينبغي. وفي ذلك أيضا إساءة الظن بالمسلم ، وبغضه ، وعداوته المأمور بخلافها منه. (وَلا تَجَسَّسُوا) ، أي : لا تفتشوا عن عورات المسلمين ، ولا تتبعوها ، ودعوا المسلم على حاله ، واستعملوا التغافل عن زلاته ، الّتي إذا فتشت ظهر منها ما لا ينبغي. (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) والغيبة كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ذكرك أخاك بما يكره ولو كان فيه». ثمّ ذكر مثلا منفرا عن الغيبة ، فقال : (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ) ، شبه أكل لحمه ميتا ، المكروه للنفوس غاية الكراهة ، باغتيابه ، فكما أنكم تكرهون أكل لحمه ، خصوصا إذا كان ميتا ، فاقد الروح ، فكذلك ، فلتكرهوا

٩٦٧

غيبته وأكل لحمه حيّا. (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) ، والتواب : الذي يأذن بتوبة عبده ، فيوفقه لها ، ثمّ يتوب عليه ، بقبول توبته ، رحيم بعباده ، حيث دعاهم إلى ما ينفعهم ، وقبل منهم التوبة ، وفي هذه الآية دليل على التحذير الشديد من الغيبة ، وأنها من الكبائر ، لأن الله شبهها بأكل لحم الميت ، وذلك من الكبائر.

[١٣] يخبر تعالى أنه خلق بني آدم من أصل واحد ، وجنس واحد ، وكلهم من ذكر وأنثى ، ويرجعون جميعهم إلى آدم وحواء ، ولكن الله تعالى بث منهما رجالا كثيرا ونساء ، وفرقهم ، وجعلهم شعوبا وقبائل ، أي : قبائل صغارا وكبارا ، وذلك لأجل أن يتعارفوا ، فإنه لو استقل كلّ واحد منهم بنفسه ، لم يحصل بذلك التعارف الذي يترتب عليه التناصر والتعاون والتوارث ، والقيام بحقوق الأقارب ، ولكن الله جعلهم شعوبا وقبائل ، لأجل أن تحصل هذه الأمور وغيرها مما يتوقف على التعارف ، ولحوق الأنساب ، ولكن الكرم بالتقوى. فأكرمهم عند الله أتقاهم ، وهو أكثرهم طاعة ، وانكفافا عن المعاصي ، لا أكثرهم قرابة وقوما ، ولا أشرفهم نسبا. ولكن الله تعالى عليم خبير ، يعلم منهم من يقوم بتقوى الله ، ظاهرا وباطنا ، فيجازي كلّا بما يستحق. وفي هذه الآية دليل على أن معرفة الأنساب مطلوبة مشروعة ، لأن الله جعلهم شعوبا وقبائل لأجل ذلك.

[١٤] يخبر تعالى عن مقالة بعض الأعراب الّذين دخلوا في الإسلام على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخولا من غير بصيرة ، ولا قيام بما يجب ويقتضيه الإيمان ، أنهم مع هذا ادعوا وقالوا : آمنا ، أي : إيمانا كاملا ، مستوفيا لجميع أموره ، فأمر الله رسوله ، أن يرد عليهم ، فقال : (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا) ، أي : لا تدّعوا لأنفسكم مقام الإيمان ، ظاهرا وباطنا ، كاملا. (وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) ، أي : دخلنا في الإسلام ، واقتصروا على ذلك. (وَ) السبب في ذلك ، أنه (لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) وإنما أسلمتم خوفا أو رجاء أو نحو ذلك ، مما هو السبب في إيمانكم ، فلذلك لم تدخل بشاشة الإيمان في قلوبكم. وفي قوله : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) ، أي : وقت هذا الكلام الذي صدر منكم ، فكان فيه إشارة إلى أحوالهم بعد ذلك ، فإن كثيرا منهم منّ الله عليهم بالإيمان الحقيقي ، والجهاد في سبيل الله. (وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) بفعل خير ، أو ترك شر (لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً) ، أي : لا ينقصكم منها مثقال ذرة ، بل يوفيكم إياها ، أكمل ما تكون لا تفقدون منها صغيرا ولا كبيرا. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، أي : غفور لمن تاب إليه وأناب ، رحيم به ، حيث قبل توبته.

[١٥] (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) ، أي : على الحقيقة (الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) ، أي : من جمعوا بين الإيمان بالله ورسوله ، والجهاد في سبيله. فإن من جاهد الكفار ، دل ذلك على الإيمان التام في قلبه ؛ لأن من جاهد غيره على الإسلام ، والإيمان ، والقيام بشرائعه ، فجهاده لنفسه على ذلك ، من باب أولى وأحرى ؛ ولأن من لم يقو على الجهاد ، فإن ذلك دليل على ضعف إيمانه. وشرط تعالى في الإيمان عدم الريب ، أي : الشك ، لأن الإيمان النافع هو الجزم اليقيني بما أمر الله بالإيمان به ، الذي لا يعتريه شك بوجه من الوجوه. وقوله : (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) ، أي : الّذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم

٩٦٨

الجميلة ، فإن الصدق دعوى عظيمة في كلّ شيء يحتاج صاحبه إلى حجة وبرهان. وأعظم ذلك دعوى الإيمان الذي هو مدار السعادة ، والفوز الأبدي ، والفلاح السرمدي ، فمن ادعاه وقام بواجباته ولوازمه ، فهو الصادق المؤمن حقا ، ومن لم يكن كذلك علم أنه ليس بصادق في دعواه ، وليس لدعواه فائدة ، فإن الإيمان في القلب لا يطلع عليه إلا الله تعالى.

[١٦] فإثباته ونفيه من باب تعليم الله بما في القلب ، وهو سوء أدب ، وظن بالله ، ولهذا قال : (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١٦) وهذا شامل للأشياء كله ، الّتي من جملتها ما في القلوب من الإيمان والكفران ، والبر والفجور ، فإنه تعالى يعلم ذلك كله ، ويجازي عليه ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر. هذه حالة من أحوال من ادّعى لنفسه الإيمان ، وليس به ، فإنه إما أن يكون ذلك تعليما ، وقد علم أنه عالم بكل شيء ، وإما أن يكون قصدهم بهذا الكلام المنّة على رسوله ، وأنهم قد بذلوا وتبرعوا بما ليس من مصالحهم ، بل هو من حظوظه الدنيوية ، وهذا تجمّل بما لا يجمل ، وفخر بما لا ينبغي لهم الفخر به على رسوله ، فإن المنة لله تعالى عليهم.

[١٧] فكما أنه تعالى هو المانّ عليهم بالخلق والرزق ، والنعم الظاهرة والباطنة ، فمنته عليهم بهدايتهم إلى الإسلام ، ومنته عليهم بالإيمان ، أفضل من كلّ شيء ، ولهذا قال : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٧).

[١٨] (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، أي : الأمور الخفية فيها ، الّتي تخفى على الخلق ، كالذي في لجج البحار ، ومهامه القفار ، وما جنّه الليل أو واراه النهار ، يعلم قطرات الأمطار ، وحبّات الرمال ، ومكنونات الصدور ، وخبايا الأمور. (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ). (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) ، يحصي عليكم أعمالكم ، ويوفيكم إياها ، ويجازيكم عليها بما تقتضيه رحمته الواسعة ، وحكمته البالغة. تم تفسير سورة الحجرات بعون الله ومنّه وجوده وكرمه ، والحمد لله.

تفسير سورة ق

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] يقسم تعالى بالقرآن المجيد ، أي : وسيع المعاني عظيمها ، كثير الوجوه كثير البركات ، جزيل المبرات ، والمجد : سعة الأوصاف وعظمتها. وأحق كلام يوصف بذلك ، هذا القرآن ، الذي قد احتوى على علوم الأولين والآخرين ، الذي حوى من الفصاحة أكملها ، ومن الألفاظ أجزلها ، ومن المعاني أعمها وأحسنها ، وهذا موجب

٩٦٩

لكمال اتباعه وسرعة الانقياد له ، وشكر الله على المنة به.

[٢] ولكن أكثر الناس ، لا يقدر نعم الله قدرها ، ولهذا قال تعالى : (بَلْ عَجِبُوا) ، أي : المكذبون للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ) منهم ، أي : ينذرهم ما يضرهم ، ويأمرهم بما ينفعهم ، وهو من جنسهم ، يمكنهم التلقي عنه ، ومعرفة أحواله وصدقه. فتعجبوا من أمر لا ينبغي لهم التعجب منه ، بل يتعجب من عقل ، من تعجب منه. (فَقالَ الْكافِرُونَ) ، أي : الّذين حملهم كفرهم وتكذيبهم ، لا نقص بذكائهم وآبائهم. (هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) ، أي : مستغرب ، وهم في هذا الاستغراب ، بين أمرين : إما صادقون في استغرابهم وتعجبهم ، فهذا يدل على غاية جهلهم ، وضعف عقولهم. بمنزلة المجنون الذي يستغرب كلام العاقل ، وبمنزلة الجبان الذي يتعجب من لقاء الفارس للفرسان ، وبمنزلة البخيل الذي يستغرب سخاء أهل السخاء ، فأي ضرر يلحق من تعجب من هذه حاله؟ وهل تعجبه إلا دليل على زيادة جهله وظلمه؟ وإما أن يكونوا متعجبين ، على وجه يعلمون خطأهم فيه ، فهذا من أعظم الظلم وأشنعه.

[٣] ثمّ ذكر وجه تعجبهم ، فقال : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) (٣) ، فقاسوا قدرة من هو على كلّ شيء قدير ، الكامل من كلّ وجه ، بقدرة العبد الفقير العاجز. من جميع الوجوه ، وقاسوا الجاهل الذي لا علم له ، بمن هو بكل شيء عليم.

[٤] (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) ، أي : من أجسادهم مدة مقامهم في البرزخ ، وقد أحصي في كتابه. (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) ، أي : محفوظ عن التغيير والتبديل ، بكل ما يجري عليهم في حياتهم ، أو مماتهم ، وهذا الاستدلال بكمال سعة علمه ـ الّتي لا يحيط بها إلا هو ـ على قدرته على إحياء الموتى.

[٥] أي : (بَلْ) كلامهم الذي صدر منهم ، إنما هو عناد وتكذيب ، فقد (كَذَّبُوا بِالْحَقِ) الذي هو أعلى أنواع الصدق (لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) ، أي : مختلط مشتبه ، لا يثبتون على شيء ، ولا يستقر لهم قرار ، فتارة يقولون عنك : إنك ساحر ، وتارة مجنون ، وتارة شاعر. وكذلك جعلوا القرآن عضين ، كل قال فيه ، ما اقتضاه رأيه الفاسد ، وهكذا كلّ من كذب بالحقّ ، فإنه في أمر مختلط ، لا يدرى له وجه ولا قرار ، فترى أموره متناقضة مؤتفكة. كما أن من اتبع الحقّ وصدق به ، قد استقام أمره ، واعتدل سبيله ، وصدق فعله قيله.

[٦] لما ذكر تعالى حالة المكذبين ، وما ذمهم به ، دعاهم إلى النظر في آياته الأفقية ، كي يعتبروا ، ويستدلوا بها على ما جعلت أدلة عليه ، فقال : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ) ، أي : لا يحتاج ذلك النظر إلى كلفة وشد رحل ، بل هو في غاية السهولة. فينظروا (كَيْفَ بَنَيْناها) قبة مستوية الأرجاء ، ثابتة البناء ، مزينة بالنجوم الخنس ، والجواري الكنس ، الّتي ضربت من الأفق إلى الأفق في غاية الحسن والملاحة ، لا ترى فيها عيبا ، ولا فروجا ، ولا خلالا ، ولا إخلالا. قد جعلها الله سقفا لأهل الأرض ، وأودع فيها من مصالحهم الضرورية ما أودع.

[٧ ـ ١١] (وَ) إلى (الْأَرْضَ مَدَدْناها) ووسعناها ، حتى أمكن كلّ حيوان السكون فيها والاستقرار ، والاستعداد لجميع مصالحه ، وأرساها بالجبال ، لتستقر من التزلزل والتموج. (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) ، أي :

٩٧٠

من كل صنف من أصناف النبات ، التي تسر ناظريها ، وتعجب مبصريها ، وتقر عين رامقيها ، لأكل بني آدم ، وأكل بهائمهم ، ومنافعهم. وخص من تلك المنافع ، الجنات المشتملة على الفواكه اللذيذة ، من العنب والرمان والأترج والتفاح ، وغير ذلك من أصناف الفواكه. ومن النخيل الباسقات ، أي : الطوال ، التي يطول نفعها ، وترتفع إلى السماء حتى تبلغ مبلغا لا يبلغه كثير من الأشجار ، فتخرج من الطلع النضيد ، في قنوانها ، ما هو رزق للعباد قوتا وأدما وفاكهة ، يأكلون منه ويدخرون ، هم ومواشيهم. وكذلك يخرج الله بالمطر ، وما هو أثره من الأنهار ، التي على وجه الأرض وتحتها من (حَبَّ الْحَصِيدِ) ، أي : من الزرع المحصود ، من برّ وشعير ، وذرة ، وأرز ، ودخن وغيره. فإن في النظر في هذه الأشياء (تَبْصِرَةً) يتبصر بها من عمى الجهل ، (وَذِكْرى) يتذكر بها ، ما ينفع في الدين والدنيا ، ويتذكر بها ، ما أخبر الله به ، وأخبرت به رسله ، وليس ذلك لكل أحد ، بل (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) إلى الله ، أي : مقبل عليه بالحق والخوف والرجاء ، وإجابة داعيه. وأما المكذب والمعرض ، فما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون. وحاصل هذا ، أن ما فيها من الخلق الباهر ، والقوة والشدة ، دليل على كمال قدرة الله تعالى. وما فيها من الحسن والإتقان ، وبديع الصنعة ، وبديع الخلقة ، دليل على أن الله أحكم الحاكمين ، وأنه بكل شيء عليم. وما فيها من المنافع والمصالح للعباد ، دليل على رحمة الله التي وسعت كل شيء ، وجوده الذي عم كل حي. وما فيها من عظمة الخلقة ، وبديع النظام ، دليل على أن الله تعالى ، هو الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، ولم يكن له كفوا أحد ، وأنه الذي لا تنبغي العبادة والذل والحب إلا له. وما فيها من إحياء الأرض بعد موتها ، دليل على إحياء الله الموتى ، ليجازيهم بأعمالهم ، ولهذا قال : (وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ).

[١٢ ـ ١٥] ولما ذكرهم بهذه الآيات السماوية والأرضية ، خوّفهم أخذات الأمم ، وألا يستمروا على ما هم عليه من التكذيب ، فيصيبهم ما أصاب إخوانهم من المكذبين ، فقال : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) إلى : (مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ). أي : كذب الذين من قبلهم من الأمم ، رسلهم الكرام ، وأنبياءهم العظام ك «نوح» كذبه قومه ، و «ثمود» كذبوا «صالحا» ، وعاد كذبوا «هودا» ، وإخوان لوط كذبوا «لوطا» ، وأصحاب الأيكة كذبوا «شعيبا» ، وقوم تبع ـ «وتبع» كل ملك ملك اليمن في الزمان السابق قبل الإسلام ـ فقوم تبع كذبوا الرسول ، الذي أرسله الله إليهم ، ولم يخبرنا الله من هو ذلك الرسول ، وأي تبّع من التبابعة ، لأنه ـ والله أعلم ـ كان مشهورا عند العرب العرباء ، الذين لا تخفى ما جرياتهم على العرب ، خصوصا مثل هذه الحادثة العظيمة. فهؤلاء كلهم كذبوا الرسل ، الذين أرسلهم الله إليهم ، فحق عليهم وعيد الله وعقوبته. ولستم أيها المكذبون لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيرا منهم ، ولا رسلهم أكرم على الله من رسولكم ، فاحذروا جرمهم ، لئلا يصيبكم ما أصابهم. ثم استدل تعالى بالخلق الأول ـ وهو النشأة الأولى ـ على الخلق الآخر ، وهو النشأة الآخرة. فكما أنه الذي أوجدهم بعد العدم ، كذلك يعيدهم بعد موتهم وصيرورتهم إلى الرفات والرمم ، فقال : (أَفَعَيِينا) ، أي : أفعجزنا وضعفت قدرتنا (بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ)؟ ليس الأمر كذلك ، فلم نعجز ونعي عن ذلك ، وليسوا في شك من ذلك. (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) هذا الذي شكوا فيه ، والتبس عليهم أمره ، مع أنه لا محل للبس فيه ، لأن الإعادة أهون من الابتداء كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ).

[١٦] يخبر تعالى ، أنه المتفرد بخلق جنس الإنسان ، ذكورهم وإناثهم ، وأنه يعلم أحواله ، وما يسرّه ، وتوسوس به نفسه. وأنه (أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) الذي هو أقرب شيء إلى الإنسان ، وهو : العظم المكتنف لثغرة النحر ، وهذا مما يدعو الإنسان إلى مراقبة خالقه ، المطلع على ضميره وباطنه ، القريب إليه في جميع أحواله ، فيستحيي منه أن يراه حيث نهاه ، أو يفقده حيث أمره.

[١٧] وكذلك ينبغي له أن يجعل الملائكة الكرام الكاتبين منه على بال ، فيجلهم ويوقرهم ، ويحذر أن يفعل أو يقول ما يكتب عنه ، مما لا يرضي رب العالمين ، ولهذا قال : (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ) ، أي : يتلقيان عن العبد أعماله كلها ، واحد (عَنِ الْيَمِينِ) يكتب الحسنات ، (وَ) الآخر (عَنِ الشِّمالِ) يكتب السيئات ،

٩٧١

وكل منهما (قَعِيدٌ) بذلك متهيىء لعمله الذي أعد له ، ملازم لذلك.

[١٨] (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ) من خير أو شر (إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) ، أي : مراقب له ، حاضر لحاله ، كما قال تعالى : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) (١٢).

[١٩] أي :. (وَجاءَتْ) هذا الغافل المكذب بآيات الله (سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ) الذي لا مرد له ولا مناص ، (ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) ، أي : تتأخر وتنكص عنه.

[٢٠] (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) (٢٠) ، أي : اليوم الذي يلحق الظالمين ما أوعدهم الله به من العقاب ، والمؤمنين ما وعدهم به من الثواب.

[٢١] (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ) يسوقها إلى موقف القيامة ، فلا يمكنها أن تتأخر عنه ، (وَشَهِيدٌ) يشهد عليها بأعمالها ، خيرها وشرها ، وهذا يدل على اعتناء الله بالعباد ، وحفظه لأعمالهم ، ومجازاته لهم بالعدل ، فهذا الأمر ، مما يجب أن يجعله العبد منه على بال.

[٢٢] ولكن أكثر الناس غافلون ، ولهذا قال : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) ، أي : يقال للمعرض المكذب يوم القيامة هذا الكلام ، توبيخا ، ولوما وتعنيفا ، أي : لقد كنت مكذبا بهذا ، تاركا العمل له (ف) الآن كشفنا (عَنْكَ غِطاءَكَ) الذي غطى قلبك ، فكثر نومك ، واستمر إعراضك ، (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) ينظر ما يزعجه ويروعه ، من أنواع العذاب والنكال. أو هذا خطاب من الله للعبد ، فإنه في الدنيا ، في غفلة عما خلق له ، ولكنه يوم القيامة ينتبه ويزول عنه وسنه ، في وقت لا يمكنه أن يتدارك الفارط ، ولا يستدرك الفائت ، وهذا كله تخويف من الله للعباد ، وترهيب بذكر ما يكون على المكذبين في ذلك اليوم العظيم.

[٢٣] يقول تعالى : (وَقالَ قَرِينُهُ) ، أي : قرين هذا المكذب المعرض ، من الملائكة ، الذين وكلهم الله على حفظه ، وحفظ أعماله ، فيحضره يوم القيامة ويحضر أعماله ويقول : (هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) ، أي : قد أحضرت ما جعلت عليه ، من حفظه وحفظ عمله ، فيجازى بعمله.

[٢٤] ويقال لمن استحق النار : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) (٢٤) ، أي : كثير الكفر والعناد لآيات الله ، المكثر من المعاصي ، المجترئ على المحارم والمآثم.

[٢٥ ـ ٢٦] (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) ، أي : يمنع الخير الذي قبله ، الذي أعظمه ، الإيمان بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، مناع ، لنفع ماله وبدنه. (مُعْتَدٍ) على عباد الله ، وعلى حدوده ، (مُرِيبٍ) ، أي : شاك في وعد الله ووعيده ، فلا إيمان ولا إحسان ولكن وصفه الكفر والعدوان ، والشك والريب والشح ، واتخاذ الآلهة من دون الرحمن ، ولهذا قال : (الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) ، أي : عبد معه غيره ، ممن لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ، ولا موتا ولا حياة ، ولا نشورا. (فَأَلْقِياهُ) أيها الملكان القرينان (فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ) الذي هو معظمها وأشدها وأشنعها.

[٢٧] (قالَ قَرِينُهُ) الشيطان ، متبرئا منه ، حاملا عليه إثمه : (رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) لأني لم يكن لي عليه سلطان ولا حجة ولا برهان. (وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) ، فهو الذي ضل وبعد عن الحق ، باختياره. كما قال في الآية الأخرى : (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ) الآية.

[٢٨] قال الله تعالى مجيبا لاختصامهم : (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ) ، أي : لا فائدة في اختصامكم عندي ، (وَ) الحال أني (قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) ،

٩٧٢

أي : جاءتكم رسلي بالآيات البينات ، والحجج الواضحات ، والبراهين الساطعات ، فقامت عليكم حجتي ، وانقطعت حجتكم ، وقدمتم إليّ بما أسلفتم من الأعمال التي وجب جزاؤها.

[٢٩] (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) ، أي : لا يمكن أن يخلف ما قاله الله وأخبر به ، لأنه لا أصدق من الله قيلا ، ولا أصدق حديثا. (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ، بل أجزيهم بما عملوا من خير وشر ، فلا يزاد في سيئاتهم ، ولا ينقص من حسناتهم.

[٣٠] يقول تعالى مخوفا لعباده : (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ) ، وذلك من كثرة ما ألقي فيها. (وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) ، أي : لا تزال تطلب الزيادة ، من المجرمين العاصين ، غضبا لربها ، وغيظا على الكافرين. وقد وعدها الله ملأها ، كما قال تعالى : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) حتى يضع رب العزة عليها قدمه الكريمة المنزهة عن التشبيه ، فينزوي بعضها على بعض ، وتقول : قط قط ، قد اكتفيت وامتلأت.

[٣١] (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ) ، أي : قربت (لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) بحيث تشاهد وينظر ما فيها ، من النعيم المقيم ، والحبرة والسرور ، وإنما أزلفت وقربت ، لأجل المتقين لربهم ، التاركين للشرك ، كبيره وصغيره ، الممتثلين لأوامر ربهم ، المنقادين له.

[٣٢] ويقال لهم على وجه التهنئة : (هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ) (٣٢) ، أي : هذه الجنة وما فيها ، ما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين ، هي التي وعد الله كل أواب ، أي : رجّاع إلى الله ، في جميع الأوقات ، بذكره وحبه ، والاستعانة به ، ودعائه وخوفه ورجائه. (حَفِيظٍ) ، أي : محافظ على ما أمر الله به ، بامتثاله على وجه الإخلاص ، والإكمال له على أتم الوجوه ، حفيظ لحدوده.

[٣٣] (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ) ، أي : خافه على وجه المعرفة بربه ، والرجاء لرحمته ولازم على خشية الله في حال غيبه ، أي : مغيبه عن أعين الناس ، وهذه هي الخشية الحقيقية. وأما خشيته في حال نظر الناس وحضورهم ، فقد تكون رياء وسمعة ، فلا تدل على الخشية ، وإنما الخشية النافعة ، خشيته في الغيب والشهادة. (وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) ، أي : وصفه الإنابة إلى مولاه ، وانجذاب دواعيه إلى مراضيه.

[٣٤] ويقال لهؤلاء الأتقياء الأبرار : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ) ، أي : دخولا مقرونا بالسلامة من الآفات والشرور ، مأمونا فيه جميع مكاره الأمور ، فلا انقطاع لنعيمهم ، ولا كدر ، ولا تنغيص. (ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) الذي لا زوال له ولا موت ، ولا شيء من المكدرات.

[٣٥] (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها) ، أي : كل ما تعلقت به مشيئتهم ، فهو حاصل فيها. (وَلَدَيْنا) فوق ذلك (مَزِيدٌ) ، أي : ثواب يمدهم به الرحمن الرحيم ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. وأعظم ذلك وأجلّه وأفضله ، النظر إلى وجهه الكريم ، والتمتع بسماع كلامه ، والتنعم بقربه ، فنسأله ذلك من فضله.

[٣٦] يقول تعالى ـ مخوفا للمشركين المكذبين للرسول ـ : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) ، أي : أمما كثيرة (هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً) ، أي : قوة وآثارا في الأرض. ولهذا قال : (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) ، أي : بنوا الحصون المنيعة والمنازل الرفيعة ، وغرسوا الأشجار ، وأجروا الأنهار ، وزرعوا ، وعمروا ، ودمروا. فلما كذبوا رسل الله ، وجحدوا آياته ، أخذهم الله بالعقاب الأليم ، والعذاب الشديد. (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) ، أي : لا مفر لهم من عذاب الله ، حين نزل بهم ،

٩٧٣

ولا منقذ ، فلم تغن عنهم قوتهم ، ولا أموالهم ، ولا أولادهم.

[٣٧] (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) ، أي : قلب عظيم حيّ ، ذكيّ ، زكيّ ، فهذا إذا ورد عليه شيء من آيات الله ، تذكر بها ، وانتفع ، فارتفع. وكذلك من ألقى سمعه إلى آيات الله ، واستمعها ، استماعا يسترشد به ، وقلبه (شَهِيدٌ) ، أي : حاضر ، فهذا أيضا له ذكرى وموعظة ، وشفاء وهدى. وأما المعرض ، الذي لم يصغ سمعه إلى الآيات ، فهذا لا تفيده شيئا ، لأنه لا قبول عنده ، ولا تقتضي حكمة الله هداية من هذا نعته.

[٣٨] وهذا إخبار منه تعالى عن قدرته العظيمة ، ومشيئته النافذة ، التي أوجد بها أعظم المخلوقات (خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) ، أولها يوم الأحد ، وآخرها يوم الجمعة ، من غير تعب ولا نصب ، ولا لغوب ، ولا إعياء. فالذي أوجدها ـ على كبرها وعظمها ـ قادر على إحياء الموتى ، من باب أولى وأحرى.

[٣٩] (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) من الذم لك والتكذيب بما جئت به ، واشتغل عنهم بطاعة ربك وتسبيحه ، أول النهار وآخره ، في أوقات الليل ، وأدبار الصلوات. فإن ذكر الله تعالى مسلّ للنفس ، مؤنس لها ، مهوّن للصبر.

[٤١] أي : (وَاسْتَمِعْ) بقلبك (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ) وهو إسرافيل عليه‌السلام ، أي : حين ينفخ في الصور (مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) من الأرض.

[٤٢] (يَوْمَ يَسْمَعُونَ) تلك (الصَّيْحَةَ) المزعجة المهولة (بِالْحَقِ) الذي لا شك فيه ولا متراء. (ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) من القبور ، الذي انفرد به القادر على كل شيء ، ولهذا قال :

[٤٣ ـ ٤٤] (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ) ، أي : عن الخلائق. (سِراعاً) ، أي : يسرعون لإجابة الداعي لهم إلى موقف القيامة. (ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) ، أي : سهل على الله ، لا تعب فيه ولا كلفة.

[٤٥] (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) لك ، مما يحزنك من الأذى. وإذا كنا أعلم بذلك ، فقد علمت كيف اعتناؤنا بك ، وتيسيرنا لأمورك ، ونصرنا لك على أعدائك ، فليفرح قلبك ، ولتطمئن نفسك ، ولتعلم أننا أرحم بك وأرأف من نفسك. فلم يبق لك إلا انتظار وعد الله والتأسّي بأولي العزم ، من رسل الله. (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) ، أي : مسلط عليهم (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) ، ولهذا قال : (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) والتذكير ، هو تذكير بما تقرر في العقول والفطر ، من محبة الخير وإيثاره وفعله ، ومن بغض الشر ومجانبته ، وإنما يتذكر بالتذكير ، من يخاف وعيد الله. وأما من لم يخف الوعيد ولم يؤمن به ، فهذا فائدة تذكيره إقامة الحجة عليه ، لئلا يقول : (ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ). آخر تفسير سورة (ق) والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.

٩٧٤

سورة الذاريات

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] هذا قسم من الله الصادق في قيله ، بهذه المخلوقات العظيمة التي جعل الله فيها من المصالح والمنافع ، ما جعل على أن وعده صدق ، وأن الدين الذي هو يوم الجزاء والمحاسبة على الأعمال ، لواقع لا محالة ، ما له من دافع. فإذا أخبر به الصادق العظيم وأقسم عليه ، وأقام الأدلة والبراهين عليه ، فلم يكذب به المكذبون ، ويعرض عن العمل له العاملون. (وَالذَّارِياتِ) هي الرياح التي تذور في هبوبها (ذَرْواً) بلينها ، ولطفها ، وقوتها ، وإزعاجها.

[٢] (فَالْحامِلاتِ وِقْراً) (٢) ، هي : السحاب ، تحمل الماء الكثير ، الذي ينفع الله به العباد والبلاد.

[٣] (فَالْجارِياتِ يُسْراً) (٣) : النجوم التي تجري على وجه اليسر والسهولة ، فتتزين بها السماوات ، ويهتدى بها في ظلمات البر والبحر ، وينتفع بالاعتبار بها.

[٤] (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) (٤) الملائكة التي تقسم الأمر وتدبره بإذنه الله ، فكل منهم قد جعله الله على تدبير أمر من أمور الدنيا والآخرة ، لا يتعدى ما حدّ له وقدر ، ورسم ، ولا ينقص منه.

[٧] (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) (٧) ، أي : ذات الطرائق الحسنة ، التي تشبه حبك الرمال ، ومياه الغدران ، حين يحركها النسيم.

[٨] (إِنَّكُمْ) أيها المكذبون لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) منكم من يقول : ساحر ، ومنكم من يقول : كاهن ، ومنكم من يقول : مجنون ، إلى غير ذلك من الأقوال المختلفة ، الدالة على حيرتهم وشكهم ، وأن ما هم عليه باطل.

[٩] (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) (٩) ، أي : يصرف عنه من صرف عن الإيمان ، وانصرف عن أدلة الله اليقينية وبراهينه ، واختلاف قولهم ، دليل على فساده وبطلانه ، كما أن الحق الذي جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم متفق ، يصدق بعضه بعضا ، لا تناقض فيه ، ولا اختلاف ، وذلك دليل على صحته ، وأنه من عند الله (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً).

[١٠] يقول تعالى : (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) (١٠) ، أي : قاتل الله الذين كذبوا على الله ، وجحدوا آياته ، وخاضوا بالباطل ، ليدحضوا به الحق ، الذين يقولون على الله ما لا يعلمون.

[١١] (الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ) ، أي : في لجة من الكفر ، والجهل ، والضلال (ساهُونَ).

[١٢] (يَسْئَلُونَ) عن وجه الشك والتكذيب في (أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) ، أي : متى يبعثون ، مستبعدين لذلك.

[١٣] فلا تسأل عن حالهم وسوء مآلهم (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) (١٣) ، أي : يعذبون بسبب ما انطووا عليه من خبث الباطن والظاهر ، ويقال لهم :

[١٤] (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) ، أي : العذاب والنار ، الذي هو أثر ما افتتنوا به ، من الابتلاء الذي صيرهم إلى الكفر والضلال. (هذَا) العذاب ، الذي وصلتم إليه ، هو (الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ). فالآن تمتعوا بأنواع العقاب والنكال ، والسلاسل والأغلال ، والسخط والوبال.

[١٥] يقول تعالى ـ في ذكر ثواب المتقين وأعمالهم ، التي وصلوا بها إلى ذلك الجزء ـ : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) ، أي : الذين كانت التقوى شعارهم ، وطاعة الله دثارهم. (فِي جَنَّاتٍ) مشتملات على جميع أصناف الأشجار والفواكه التي يوجد لها نظير في الدنيا ، والتي لا يوجد لها نظير ، مما لم تنظر العيون إلى مثله ، ولم يخطر على قلب بشر. (وَعُيُونٍ) سارحة ، تشرب منها تلك البساتين ، ويشرب بها عباد الله ، يفجرونها تفجيرا.

[١٦] (آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) : يحتمل أن المعنى أن أهل الجنة قد أعطاهم مولاهم جميع مناهم ، من جميع أصناف النعيم ، فأخذوا ذلك ، راضين به ، قد قرت به أعينهم ، وفرحت به نفوسهم ، ولم يطلبوا منه بدلا ، ولا يبغون عنه حولا ، وكل قد ناله من النعيم ، ما لا يطلب عليه المزيد. ويحتمل أن هذا وصف المتقين في الدنيا ، وأنهم آخذون ما آتاهم الله ، من الأوامر والنواهي ، أي :

٩٧٥

قد تلقوها بالرحب ، وانشراح الصدر ، منقادين لما أمر الله به ، بالامتثال على أكمل الوجوه. ولما نهى عنه ، بالانزجار عنه لله ، على أكمل وجه ، فإن الذين أعطاهم الله من الأوامر والنواهي هو أفضل العطايا ، التي حقها ، أن تتلقى بالشكر لله عليها ، والانقياد. والمعنى الأول ، ألصق بسياق الكلام ، لأنه ذكر وصفهم في الدنيا ، وأعمالهم بقوله : (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ) الوقت الذي وصلوا به إلى النعيم (مُحْسِنِينَ). وهذا شامل لإحسانهم بعبادة ربهم ، أن يعبدوه كأنهم يرونه ، فإن لم يكونوا يرونه ، فإنه يراهم ، وللإحسان إلى عباد الله ببذل النفع والإحسان ، من مال ، أو علم ، أو جاه ، أو نصيحة ، أو أمر بمعروف ، أو نهي عن منكر ، أو غير ذلك من وجوه البر ، وطرق الخيرات. حتى إنه يدخل في ذلك ، الإحسان بالقول ، والكلام اللين والإحسان إلى المماليك ، والبهائم المملوكة ، وغير المملوكة.

[١٧] ومن أفضل أنواع الإحسان في عبادة الخالق ، صلاة الليل ، الدالة على الإخلاص ، وتواطؤ القلب واللسان ، ولهذا قال : (كانُوا) ، أي : المحسنون (قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) ، أي : كان هجوعهم ، أي : نومهم بالليل ، قليلا. وأما أكثر الليل ، فإنهم قانتون لربهم ، ما بين صلاة ، وقراءة ، وذكر ، ودعاء ، وتضرع.

[١٨] (وَبِالْأَسْحارِ) التي هي قبيل الفجر (هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) الله تعالى. فمدوا صلاتهم إلى السحر ، ثم جلسوا في خاتمة قيامهم بالليل ، يستغفرون الله تعالى ، استغفار المذنب لذنبه ، وللاستغفار بالأسحار فضيلة وخصيصة ليست لغيره ، كما قال تعالى في وصف أهل الإيمان والطاعة : (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ).

[١٩] (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌ) واجب ومستحب (لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) ، أي : للمحتاجين الذين يطلبون من الناس ، والذين لا يسألونهم.

[٢٠] يقول تعالى ـ داعيا عباده إلى التفكر والاعتبار ـ : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ) (٢٠) ، وذلك شامل لنفس الأرض ، وما فيها من جبال ، وبحار وأنهار ، وأشجار ونبات ، تدل المتفكر فيها ، المتأمل لمعانيها ، على عظمة خالقها ، وسعة سلطانه ، وعميم إحسانه ، وإحاطة علمه ، بالظواهر والبواطن. وكذلك في نفس العبد من العبر والحكمة والرحمة ما يدل على أن الله واحد صمد ، وأنه لم يخلق الخلق سدى.

[٢٢] وقوله : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) ، أي : مادة رزقكم من الأمطار ، وصنوف الأقدار ، الرزق الديني ، والدنيوي. (وَما تُوعَدُونَ) من الجزاء في الدنيا والآخرة ، فإنه ينزل من عند الله كسائر الأقدار.

[٢٣] فلما بين الآيات ونبه عليها تنبيها ، ينتبه به الذكي اللبيب ، أقسم تعالى على أن وعده وجزاءه حق ، وشبه ذلك بأظهر الأشياء لنا ، وهو النطق ، فقال : (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) (٢٣). فكما أنكم لا تشكون في نطقكم ، فكذلك ينبغي أن لا يعتريكم الشك في البعث والجزاء.

[٢٤] يقول تعالى : (هَلْ أَتاكَ) ، أي : أما جاءك (حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) ، ونبأهم الغريب العجيب ، وهم الملائكة الذين أرسلهم الله لإهلاك قوم لوط ، وأمرهم بالمرور على إبراهيم ، فجاءوه في صورة أضياف.

[٢٥] (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ) مجيبا لهم (سَلامٌ) ، أي : عليكم (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) ، أي : أنتم قوم منكرون ، فأحب أن تعرفوني بأنفسكم ، ولم يعرفهم إلا بعد ذلك.

[٢٦] (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ) ، أي : ذهب سريعا في خفية ، ليحضر لهم

٩٧٦

قراهم. (فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ).

[٢٧] (فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) وعرض عليهم الأكل. (قالَ أَلا تَأْكُلُونَ).

[٢٨] (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) حين رأى أيديهم لا تصل إليه. (قالُوا لا تَخَفْ) وأخبروه بما جاءوا له (وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) وهو : إسحاق عليه‌السلام.

[٢٩] (ف) لما سمعت المرأة البشارة أقبلت فرحة مستبشرة (فِي صَرَّةٍ) ، أي : صيحة (فَصَكَّتْ وَجْهَها) وهذا من جنس ما يجري للنساء عند السرور ونحوه ، من الأقوال والأفعال المخالفة للطبيعة والعادة. (وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) ، أي : أنّى لي الولد ، وأنا عجوز ، قد بلغت من السن ، ما لا تلد معه النساء ، ومع ذلك ، فأنا عقيم ، غير صالح رحمي للولادة أصلا فثمّ مانعان ، كل منهما مانع من الولد. وقد ذكرت المانع الثالث في سورة هود في قولها : (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ).

[٣٠] (قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ) ، أي : الله الذي قدر ذلك وأمضاه ، فلا عجب في قدرة الله. (إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) ، أي : الذي وضع الأشياء مواضعها ، وقد وسع كل شيء علما فسلموا لحكمه ، واشكروه على نعمته.

[٣١] (قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) (٣١) ، أي : قال لهم إبراهيم عليه‌السلام : ما شأنكم أيها المرسلون؟

وما ذا تريدون؟ لأنه استشعر أنهم رسل ، أرسلهم الله لبعض الشؤون المهمة.

[٣٢] (قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) (٣٢) وهم قوم لوط ، قد أجرموا بإشراكهم بالله ، وتكذيبهم لرسولهم ، وإتيانهم الفاحشة ، التي لم يسبقهم إليها أحد من العالمين.

[٣٣] (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ) (٣٣).

[٣٤] (مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ) (٣٤) ، أي : معلمة ، على كل حجر اسم صاحبه ، لأنهم أسرفوا ، وتجاوزوا الحد. فجعل إبراهيم يجادلهم في قوم لوط ، لعل الله يدفع عنهم العذاب ، فقيل له : (يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) (٧٦).

[٣٥ ـ ٣٦] (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٣٦) وهم بيت لوط عليه‌السلام ، إلا امرأته ، فإنها من المهلكين.

[٣٧] (وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (٣٧) يعتبرون بها ويعلمون ، أن الله شديد العقاب ، وأن رسله صادقون ، مصدقون.

فصل في ذكر بعض ما تضمنته هذه القصة من الحكم والأحكام

منها : أن من الحكمة ، أن قص الله على عباده ، نبأ الأخيار والفجار ، ليعتبروا بهم ، وأين وصلت بهم الأحوال. ومنها : فضيلة إبراهيم الخليل ، عليه الصلاة والسلام ، حيث ابتدأ الله قصته ، بما يدل على الاهتمام بشأنها ، والاعتناء بها. ومنها : مشروعية الضيافة ، وأنها من سنن إبراهيم الخليل ، الذي أمر الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته ، أن يتبعوا ملته ، وساقها الله في هذا الموضع ، على وجه المدح له والثناء. ومنها : أن الضيف يكرم بأنواع الإكرام ، بالقول والفعل ، لأن الله وصف أضياف إبراهيم بأنهم مكرمون ، أي : أكرمهم إبراهيم ، ووصف الله ما صنع بهم من الضيافة قولا

٩٧٧

وفعلا ، ومكرمون أيضا عند الله. ومنها : أن إبراهيم عليه‌السلام ، قد كان بيته ، مأوى للطارقين والأضياف ، لأنهم دخلوا عليه من غير استئذان ، وإنما سلكوا طريق الأدب ، في ابتداء السلام ، فرد عليهم إبراهيم سلاما ، أكمل من سلامهم وأتم ، لأنه أتى به جملة اسمية دالة على الثبوت والاستمرار.

فصل

ومنها : مشروعية تعرف من جاء إلى الإنسان ، أو صار له فيه نوع اتصال ، لأن في ذلك فوائد كثيرة. ومنها : إبراهيم ولطفه في الكلام ، حيث قال : (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) ولم يقل : «أنكرتكم» ، وبين اللفظين من الفرق ما لا يخفى. ومنها : المبادرة إلى الضيافة والإسراع بها ، لأن خير البر عاجله ، ولهذا بادر إبراهيم بإحضار قرى أضيافه. ومنها : أن الذبيحة الحاضرة ، الّتي قد أعدت لغير الضيف الحاضر ، إذا جعلت له ، ليس فيها أقل إهانة ، بل ذلك من الإكرام ، كما فعل إبراهيم عليه‌السلام ، وأخبر الله أن ضيفه مكرمون. ومنها : ما منّ الله به على خليله إبراهيم ، من الكرم الكثير ، وكون ذلك حاضرا لديه ، وفي بيته معدا ، لا يحتاج إلى أن يأتي به من السوق أو الجيران ، أو غير ذلك. ومنها : أن إبراهيم ، هو الذي خدم أضيافه ، وهو خليل الرحمن ، وسيد من ضيّف الضيفان. ومنها : أنه قرّبه إليهم في المكان الذي هم فيه ، فلم يجعله في موضع ، ويقول لهم : «تفضلوا ، أو ائتوا عليه» لأن هذا أيسر وأحسن. ومنها : حسن ملاطفة الضيف في الكلام اللين ، خصوصا عند تقديم الطعام إليه ، فإن إبراهيم عرض عليهم عرضا لطيفا ، فقال : (أَلا تَأْكُلُونَ) ، ولم يقل : «كلوا» ونحوه من الألفاظ ، الّتي غيرها أولى منها ، بل أتى بأداة العرض ، فقال : (أَلا تَأْكُلُونَ). فينبغي للمقتدى به أن يستعمل من الألفاظ الحسنة ، ما هو المناسب واللائق بالحال ، كقوله لأضيافه : «ألا تأكلون» أو : «ألا تتفضلون» أو «تشرفوننا وتحسنون إلينا» ، ونحو ذلك. ومنها : أن من خاف من أحد ، لسبب من الأسباب ، فإن عليه أن يزيل عنه الخوف ، ويذكر له ما يؤمن روعه ، ويسكّن جأشه ، كما قالت الملائكة لإبراهيم لما خافهم : (لا تَخَفْ) ، وأخبروه بتلك البشارة السارة ، بعد الخوف منهم. ومنها : شدة فرح سارة ، امرأة إبراهيم ، حتى جرى منها ما جرى ، من صك وجهها ، وصرّتها غير المعهود. ومنها : ما أكرم الله به إبراهيم وزوجته سارة ، من البشارة ، بغلام عليم.

[٣٨ ـ ٣٩] أي : (وَفِي مُوسى) وما أرسله الله به إلى فرعون وملئه ، بالآيات البينات ، والمعجزات الظاهرات ، آية للذين يخافون العذاب الأليم ، فلما أتى موسى بذلك السلطان المبين ، تولى فرعون (بِرُكْنِهِ) ، أي : أعرض بجانبه عن الحقّ ، ولم يلتفت إليه ، وقدحوا فيه أعظم القدح ، فقالوا : (ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) ، أي : إن موسى ، لا يخلو ، إما أن يكون ما أتى به سحرا وشعوذة ، ليس من الحقّ في شيء ، وإما أن يكون مجنونا ، لا يؤخذ بما صدر منه لعدم عقله. هذا ، وقد علموا ، خصوصا فرعون ، أن موسى صادق ، كما قال تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا). وقال موسى لفرعون : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) الآية.

[٤٠] (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ) (٤٠) ، أي : مذنب طاغ ، عات على الله ، فأخذه أخذ عزيز مقتدر.

[٤١] أي : (وَ) آية لهم (فِي عادٍ) القبيلة المعروفة (إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) ، أي : الّتي لا خير فيها ، حين كذبوا نبيهم هودا عليه‌السلام.

[٤٢] (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) (٤٢) ، أي : كالرمم البالية ، فالذي أهلكهم على قوتهم وبطشهم ، دليل على كمال قوته واقتداره ، الذي لا يعجزه شيء ، المنتقم ممن عصاه.

[٤٣] أي : (وَفِي ثَمُودَ) آية عظيمة ، حين أرسل الله إليهم صالحا عليه‌السلام ، فكذبوه وعاندوه ، وبعث الله له الناقة ، آية مبصرة ، فلم يزدهم ذلك إلا عتوا ونفورا. (إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ)

[٤٤] (فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) ، أي : الصيحة العظيمة المهلكة (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) إلى عقوبتهم بأعينهم.

[٤٥] (فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ) ينجون به من العذاب (وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ) لأنفسهم.

٩٧٨

[٤٦] (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) (٤٦) أي : وكذلك ما فعل الله بقوم نوح ، حين كذبوا نوحا عليه‌السلام ، وفسقوا عن أمر الله. فأرسل عليهم السماء والأرض بماء منهمر ، فأغرقهم عن آخرهم ، ولم يبق من الكافرين ديارا ، وهذه عادة الله وسنته ، فيمن عصاه.

[٤٧] يقول تعالى مبينا لقدرته العظيمة : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها) ، أي : خلقناها وأتقنّاها ، وجعلناها سقفا للأرض وما عليها. (بِأَيْدٍ) ، أي : بقوة وقدرة عظيمة (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) لأرجائها وأنحائها. وإنا لموسعون أيضا على عبادنا بالرزق الذي ما ترك دابة في مهامه القفار ، ولجج البحار ، وأقطار العالم العلوي والسفلي ، إلا وأوصل إليها من الرزق ، ما يكفيها ، وساق إليها من الإحسان ما يغنيها. فسبحان من عم بجوده جميع المخلوقات ، وتبارك الذي وسعت رحمته ، جميع البريات.

[٤٨] (وَالْأَرْضَ فَرَشْناها) ، أي : جعلناها فراشا للخلق ، يتمكنون فيها من كلّ ما تتعلق به مصالحهم ، من مساكن وغراس وزرع وحرث وجلوس ، وسلوك للسبل الموصلة إلى مقاصدهم ومآربهم. ولما كان الفراش قد يكون صالحا للانتفاع من كلّ وجه ، وقد يكون من وجه دون وجه ، أخبر تعالى أنه مهدها أحسن مهاد ، على أكمل الوجوه وأحسنها ، وأثنى على نفسه بذلك ، فقال : (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) الذي مهد لعباده ما اقتضته حكمته ورحمته.

[٤٩] (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) ، أي : صنفين ، ذكر وأنثى ، من كلّ نوع من أنواع الحيوانات. (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) لنعم الله الّتي أنعم بها عليكم في تقدير ذلك ، وحكمته حيث جعل ما هو السبب لبقاء نوع الحيوانات كلها ، لتقوموا بتنميتها وخدمتها وتربيتها ، فيحصل من ذلك ما يحصل من المنافع.

[٥٠] فلما دعا العباد إلى النظر إلى آياته الموجبة لخشيته ، والإنابة إليه ، أمر بما هو المقصود من ذلك ، وهو الفرار إليه ، أي : الفرار مما يكرهه الله ظاهرا وباطنا إلى ما يحبه ، ظاهرا وباطنا ، فرار من الجهل إلى العلم ، ومن الكفر إلى الإيمان ، ومن المعصية إلى الطاعة ، ومن الغفلة إلى الذكر. فمن استكمل هذه الأمور ، فقد استكمل الدين كله ، وزال عنه المرهوب ، وحصل له غاية المراد والمطلوب. وسمى الله الرجوع إليه فرارا ، لأن في الرجوع إلى غيره أنواع المخاوف والمكاره ، وفي الرجوع إليه أنواع المحاب والأمن والسرور والسعادة والفوز. فيفرّ العبد من قضائه وقدره إلى قضائه وقدره ، وكلّ من خفت منه فررت منه إلى الله تعالى ، فإنه بحسب الخوف منه ، يكون الفرار إليه. (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) ، أي : منذر لكم من عذاب الله ، ومخوف بيّن النذارة.

[٥١] (وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) ، هذا من الفرار إلى الله ، بل هذا أصل الفرار إليه أن يفر العبد من اتخاذ آلهة غير الله من الأوثان والأنداد والقبور ، وغيرها ، مما عبد من دون الله ، ويخلص لربه العبادة والخوف ، والرجاء والدعاء ، والإنابة.

[٥٢] يقول الله ـ مسليا لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن تكذيب المشركين بالله ، المكذبين له ، القائلين فيه من الأقوال الشنيعة ، ما هو منزه عنه ، وأن هذه الأقوال ما زالت دأبا وعادة للمجرمين المكذبين للرسل ، فما أرسل الله من رسول إلا رماه قومه بالسحر أو الجنون.

[٥٣] يقول الله تعالى : هذه الأقوال الّتي صدرت منهم ـ الأولين والآخرين ـ هل هي أقوال

٩٧٩

تواصوا بها ، ولقن بها بعضهم بعضا؟ فلا يستغرب ـ بسبب ذلك ـ اتفاقهم عليها : (أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) تشابهت قلوبهم وأعمالهم بالكفر والطغيان ، فتشابهت أقوالهم الناشئة عن طغيانهم؟ وهذا هو الواقع ، كما قال تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) ، وكذلك المؤمنون ، لما تشابهت قلوبهم بالإذعان للحق وطلبه ، والسعي فيه بادروا إلى الإيمان برسلهم وتعظيمهم ، وتوقيرهم ، وخطابهم بالخطاب اللائق بهم.

[٥٤] يقول تعالى آمرا رسوله بالإعراض عن المعرضين المكذبين : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) ، أي : لا تبال بهم ولا تؤاخذهم ، وأقبل على شأنك. (فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) في ذنبهم ، وإنما عليك البلاغ ، وقد أديت ما حملت ، وبلّغت ما أرسلت به.

[٥٥] (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (٥٥) والتذكير نوعان : تذكير بما لم يعرف تفصيله ، مما عرف مجمله بالفطر والعقول ، فإن الله فطر العقول على محبة الخير وإيثاره ، وكراهة الشر والزهد فيه ، وشرعه موافق لذلك ، فكل أمر ونهي من الشرع ، فهو من التذكير ، وتمام التذكير ، أن يذكر ما في المأمور ، من الخير والحسن والمصالح ، وما في المنهي عنه من المضار. والنوع الثاني من التذكير : تذكير بما هو معلوم للمؤمنين ، ولكن انسحبت عليه الغفلة والذهول ، فيذكّرون بذلك ، ويكرر عليهم ليرسخ في أذهانهم ، وينتبهوا ويعملوا بما تذكروه من ذلك ، وليحدث لهم نشاطا وهمة ، توجب لهم الانتفاع والارتفاع. وأخبر الله أن الذكرى تنفع المؤمنين ، لأن ما معهم من الإيمان والخشية والإنابة ، واتباع رضوان الله ، يوجب لهم أن تنفع فيهم الذكرى وتقع الموعظة منهم موقعها كما قال تعالى : (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى) (١١). وأما من ليس له معه إيمان ولا استعداد لقبول التذكير ، فهذا لا ينفع تذكيره ، بمنزلة الأرض السبخة الّتي لا يفيدها المطر شيئا ، وهؤلاء الصنف ، لو جاءتهم كلّ آية لا يؤمنوا بها حتى يروا العذاب الأليم.

[٥٦] هذه الغاية الّتي خلق الله الجن والإنس لها ، وبعث جميع الرسل يدعون إليها ، وهي عبادته المتضمنة لمعرفته ومحبته ، والإنابة إليه ، والإقبال عليه ، والإعراض عما سواه. وذلك متوقف على معرفة الله تعالى ، فإن تمام العبادة ، متوقف على المعرفة بالله ، بل كلما ازداد العبد معرفة بربه ، كانت عبادته أكمل ، فهذا الذي خلق الله المكلفين لأجله ، فما خلقهم لحاجة منه إليهم.

[٥٧] (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) (٥٧) تعالى الله الغني عن الحاجة إلى أحد بوجه من الوجوه ، وإنما جميع الخلق فقراء إليه ، في جميع حوائجهم ومطالبهم ، الضرورية وغيرها ، ولهذا قال :

[٥٨] (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ) ، أي : كثير الرزق ، الذي ما من دابة في الأرض ولا في السماء إلا على الله رزقها ، ويعلم مستقرها ومستودعها. (ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) ، أي : الذي له القوة والقدرة كلها ، الذي أوجد بها الأجرام العظيمة ، السفلية والعلوية ، وبها تصرف في الظواهر والبواطن ونفذت مشيئته في جميع البريات ، فما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، ولا يعجزه هارب ، ولا يخرج على سلطانه أحد ، ومن قوته أنه أوصل رزقه إلى جميع العالم. ومن قدرته وقوته أن يبعث الأموات بعد ما مزقهم البلى ، وعصفت بهم الرياح ، وابتلعتهم الطيور والسباع ، وتمزقوا

٩٨٠