تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي

تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

المؤلف:

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ١١٣٥

لكثيرة الأمر لصاحبها بالسوء ، أي : الفاحشة ، وسائر الذنوب ، فإنها مركب الشيطان ، ومنها يدخل على الإنسان (إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) فنجاه من نفسه الأمارة حتى صارت نفسه ، مطمئنة إلى ربها ، منقادة لداعي الهدى ، متعاصية عن داعي الردى ، فذلك ليس من النفس ، بل من فضل الله ورحمته بعبده. (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ) أي : هو غفور لمن تجرأ على الذنوب والمعاصي ، إذا تاب وأناب ، (رَحِيمٌ) بقبول توبته ، وتوفيقه للأعمال الصالحة. وهذا هو الصواب ، أن هذا من قول امرأة العزيز ، لا من قول يوسف ، فإن السياق في كلامها ، ويوسف إذ ذاك في السجن ، لم يحضر. فلما تحقق الملك والناس ، براءة يوسف التامة ، أرسل إليه الملك وقال : (ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) أي : أجعله من خلصائي ، ومقربا لديّ ، فائتوني به مكرما محترما ، (فَلَمَّا كَلَّمَهُ) أعجبه كلامه ، وزاد موقعه عنده فقال له : (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا) أي : عندنا (مَكِينٌ أَمِينٌ) أي : متمكن ، أمين على الأسرار. (قالَ) يوسف طلبا للمصلحة العامة : (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ) أي : على خزائن جبايات الأرض وغلالها ، وكيلا ، حافظا ، مدبرا. (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) أي : حفيظ للذي أتولاه ، فلا يضيع منه شيء في غير محله ، وضابط للداخل والخارج ، عليم بكيفية التدبير ، والإعطاء ، والمنع ، والتصرف في جميع أنواع التصرفات ، وليس ذلك حرصا من يوسف على الولاية ، وإنما هو رغبة منه ، في النفع العام ، وقد عرف من نفسه من الكفاية والأمانة ، والحفظ ، ما لم يكونوا يعرفونه. فلذلك طلب من الملك ، أن يجعله على خزائن الأرض فجعله الملك على خزائن الأرض ، وولاه إياها. قال تعالى : (وَكَذلِكَ) أي بهذه الأسباب والمقدمات المذكورة ، (مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ) في عيش رغد ، ونعمة واسعة ، وجاه عريض ، (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ) أي : هذا من رحمة الله بيوسف ، التي أصابه بها ، وقدرها له ، وليست مقصورة على نعمة الدنيا. (وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) ويوسف عليه‌السلام من سادات المحسنين فله في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة. ولهذا قال : (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) من أجر الدنيا (لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) أي : لمن جمع بين التقوى والإيمان. فبالتقوى ، تترك الأمور المحرمة ، من كبائر الذنوب وصغائرها ، وبالإيمان التام ، يحصل تصديق القلب ، بما أمر الله بالتصديق به ، وتتبعه أعمال القلوب ، وأعمال الجوارح ، من الواجبات والمستحبات.

أي : لما تولى يوسف عليه‌السلام خزائن الأرض ، دبرها أحسن تدبير ، فزرع في أرض مصر جميعها ، في السنين المخصبة ، زروعا هائلة ، واتخذ لها المحلات الكبار ، وجبى من الأطعمة ، شيئا كثيرا ، وحفظه ، وضبطه ضبطا تاما ، فلما دخلت السنون المجدبة ، وسرى الجدب ، حتى وصل إلى فلسطين ، التي يقيم فيها يعقوب وبنوه. فأرسل يعقوب بنيه ، لأجل الميرة إلى مصر ، (وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) (٥٨) أي : لم يعرفوه.

[٥٩ ـ ٦٠] (وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ) أي : كال لهم كما كان يكيل لغيرهم ، وكان من تدبيره الحسن ، أنه لا يكيل لكل واحد ، أكثر من حمل بعير ، وكان قد سألهم عن حالهم ، فأخبروه أن لهم أخا عند أبيه ، وهو بنيامين. (قالَ) لهم : (ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) ثم رغبهم في الإتيان به فقال : (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ)

٤٦١

في الضيافة والإكرام. ثم رهبهم بعدم الإتيان به ، فقال : (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ) (٦٠) ، وذلك ، لعلمه باضطرارهم إلى الإتيان إليه ، وأن ذلك يحملهم على الإتيان به.

[٦١ ـ ٦٢] (قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ) دل هذا على أن يعقوب عليه‌السلام ، كان مولعا به ، لا يصبر عنه ، وكان يتسلى به بعد يوسف ، فلذلك احتاج إلى مراودة في بعثه معهم (وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) لما أمرتنا به ، (وَقالَ) يوسف (لِفِتْيانِهِ) الذين في خدمته : (اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ) أي : الثمن الذي اشتروا به من الميرة. (فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها) أي : بضاعتهم إذا رأوها بعد ذلك ، في رحالهم ، (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) لا لأجل التحرج من أخذها على ما قيل ، والظاهر ، أنه أراد أن يرغبهم في إحسانه إليهم ، بالكيل لهم كيلا وافيا ثم إعادة بضاعتهم إليهم ، على وجه لا يحسون بها ، ولا يشعرون لما يأتي ، فإن الإحسان ، يوجب للإنسان ، تمام الوفاء للمحسن.

[٦٣ ـ ٦٥] (فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) أي : إن لم ترسل معنا أخانا ، (فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ) أي : ليكون ذلك سببا لكيلنا ، ثم التزموا له بحفظه فقالوا : (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) من أن يعرض له ما يكره. (قالَ) لهم يعقوب عليه‌السلام : (هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ) ، أي : تقدم منكم التزام أكثر من هذا ، في حفظ يوسف ، ومع هذا ، فلم تفوا بما عقدتم من التأكيد ، فلا أثق بالتزامكم وحفظكم ، وإنما أثق بالله تعالى. (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) أي : يعلم حالي ، وأرجو أن يرحمني ، فيحفظه ويرده عليّ ، وكأنه في هذا الكلام ، قد لان لإرساله معهم. ثم إنهم (لَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ) ، هذا دليل ، على أنه قد كان معلوما عندهم ، أن يوسف قد ردها عليهم بالقصد ، وأنه أراد أن يملكهم إياها ، (قالُوا) لأبيهم ـ ترغيبا في إرسال أخيهم معهم ـ : (يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ) أي : أي شيء نطلب بعد هذا الإكرام الجميل ، حيث وفّى لنا الكيل ، ورد علينا بضاعتنا ، على الوجه الحسن ، المتضمن للإخلاص ، ومكارم الأخلاق؟ (هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا) أي : إذا ذهبنا بأخينا ، صار سببا لكيله لنا ، فنمير أهلنا ، ونأتي لهم ، بما هم مضطرون إليه من القوت ، (وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) بإرساله معنا ، فإنه يكيل لكل واحد حمل بعير ، (ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) أي : سهل ، لا ينالك منه ضرر ، لأن المدة لا تطول ، والمصلحة قد تبينت.

[٦٦ ـ ٦٧] (قالَ) لهم يعقوب : (لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) أي : عهدا ثقيلا ، وتحلفون بالله (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) أي : إلا أن يأتيكم أمر ، لا قبل لكم به ، ولا تقدرون دفعه ، (فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ) على ما قال وأراد (قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) أي : تكفينا شهادته علينا ، وحفظه وكفالته ، ثم لما أرسله معهم ، وصاهم ، إذا هم قدموا مصر ، أن (لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) وذلك لأنه خاف عليهم العين ، لكثرتهم وبهاء منظرهم ، لكونهم أبناء رجل واحد ، وهذا سبب. (وَ) إلا (ما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) فالمقدر ، لا بد أن يكون ، (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) أي : القضاء قضاؤه ، والأمر أمره ، فما قضاه وحكم به ، لا بد أن يقع ، (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ)

٤٦٢

أي : اعتمدت على الله ، لا على ما وصيتكم به من السبب ، (وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) فإن بالتوكل ، يحصل كل مطلوب ، ويندفع كل مرهوب.

[٦٨] (وَلَمَّا) ذهبوا و (دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ) ذلك الفعل (يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها) وهو موجب الشفقة ، والمحبة للأولاد ، فحصل له في ذلك ، نوع طمأنينة ، وقضاء لما في خاطره. وليس هذا قصورا في علمه ، فإنه من الرسل الكرام ، والعلماء الربانيين ، ولهذا قال عنه : (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ) أي : لصاحب علم عظيم (لِما عَلَّمْناهُ) أي : لتعليمنا إياه ، لا بحوله وقوته أدركه ، بل بفضل الله وتعليمه ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) عواقب الأمور ، ودقائق الأشياء وكذلك أهل العلم منهم ، يخفى عليهم من العلم وأحكامه ، ولوازمه شيء كثير.

[٦٩] أي : لما دخل إخوة يوسف على يوسف (آوى إِلَيْهِ أَخاهُ) أي : شقيقه وهو «بنيامين» الذي أمرهم بالإتيان به ، وضمه إليه ، واختصه من بين إخوته ، وأخبره بحقيقة الحال ، (قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ) أي : لا تحزن (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) فإن العاقبة خير لنا. ثم أخبره بما يريد أن يصنع ويتحيل لبقائه عنده إلى أن ينتهي الأمر.

[٧٠ ـ ٧١] (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ) أي : كال لكل واحد من إخوته ، ومن جملتهم أخوه هذا ، (جَعَلَ السِّقايَةَ) وهو : الإناء الذي يشرب به ، ويكال فيه (فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَ) أوعوا متاعهم ، فلما انطلقوا ذاهبين ، (أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) ، ولعل هذا المؤذن ، لم يعلم بحقيقة الحال. (قالُوا) أي : إخوة يوسف (وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ) لإبعاد التهمة. فإن السارق ، ليس له همّ إلا البعد والانطلاق عمن سرق منه ، لتسلم له سرقته ، وهؤلاء جاءوا مقبلين إليهم ، ليس لهم همّ إلا إزالة التهمة ، التي رموا بها عنهم ، فقالوا في هذه الحال : (ما ذا تَفْقِدُونَ) ولم يقولوا : «ما الذي سرقنا» لجزمهم بأنهم برآء من السرقة. (قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) أي : أجرة له ، على وجدانه (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) أي : كفيل ، وهذا يقوله المتفقد.

[٧٣] (قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ) بجميع أنواع المعاصي ، (وَما كُنَّا سارِقِينَ) فإن السرقة ، من أكبر أنواع الفساد في الأرض ، وإنما أقسموا على علمهم ، أنهم ليسوا مفسدين ولا سارقين ، لأنهم عرفوا أنهم سبروا من أحوالهم ما يدلهم على عفتهم وورعهم ، وأن هذا الأمر لا يقع منهم بعلم من اتهموهم ، وهذا أبلغ في نفي التهمة ، من أن لو قالوا : «تالله لم نفسد في الأرض ولم نسرق».

[٧٤ ـ ٧٥] (قالُوا فَما جَزاؤُهُ) أي : جزاء هذا الفعل (إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ) بأن كان معكم؟ (قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ) أي الموجود في رحله (جَزاؤُهُ) بأن يتملكه صاحب السرقة ، وكان هذا في دينهم أن السارق إذا ثبتت عليه السرقة ، كان ملكا لصاحب المال المسروق ، ولهذا قالوا : (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ).

[٧٦ ـ ٧٧] (فَبَدَأَ) المفتش (بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ) وذلك لتزول الريبة التي يظن أنها فعلت بالقصد ، (ثُمَ) لما لم يجد في أوعيتهم شيئا (اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ) ولم يقل «وجدها ، أو سرقها أخوه» مراعاة للحقيقة

٤٦٣

الواقعة. فحينئذ تم ليوسف ما أراد من بقاء أخيه عنده ، على وجه لا يشعر به إخوته ، قال تعالى : (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) أي : يسّرنا له هذا الكيد ، الذي توصل به إلى أمر غير مذموم (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) لأنه ليس من دينه أن يتملك السارق ، وإنما له عندهم جزاء آخر ، فلو ردت الحكومة إلى دين الملك ، لم يتمكن يوسف من إبقاء أخيه عنده ، ولكنه جعل الحكم منهم ، ليتم له ما أراد. قال تعالى : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) بالعلم النافع ، ومعرفة الطرق الموصلة إلى مقصدها ، كما رفعنا درجات يوسف ، (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) فكل عالم ، فوقه من هو أعلم منه حتى ينتهي العلم إلى علام الغيب والشهادة. فلما رأى إخوة يوسف ما رأوا (قالُوا إِنْ يَسْرِقْ) هذا الأخ ، فليس هذا غريبا عنه ، (فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) يعنون : يوسف عليه‌السلام ، ومقصودهم تبرئة أنفسهم وأن هذا وأخاه قد يصدر منهم ما يصدر من السرقة ، وهما ليسا شقيقين لنا. وفي هذا من الغض عليهما ما فيه ، ولهذا : أسرها يوسف في نفسه (وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ) أي : لم يقابلهم على ما قالوه بما يكرهون ، بل كظم الغيظ ، وأسرّ الأمر في نفسه ، و (قالَ) في نفسه (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) حيث ذممتمونا بما أنتم على أشر منه ، (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) منا ، من وصفنا بالسرقة ، يعلم الله أنا برآء منها.

[٧٨ ـ ٧٩] ثم سلكوا معه ، مسلك التملق ، لعله يسمح لهم بأخيهم. (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً) أي : وإنه لا يصبر عنه ، وسيشق عليه فراقه ، (فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) فأحسن إلينا وإلى أبينا بذلك. (قالَ) يوسف (مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ) أي : هذا ظلم منا ، لو أخذنا البريء ، بذنب من وجدنا متاعنا عنده ، ولم يقل «من سرق» كل هذا تحرز من الكذب ، (إِنَّا إِذاً) أي : أخذنا غير من وجد في رحله (لَظالِمُونَ) حيث وضعنا العقوبة في غير موضعها.

[٨٠ ـ ٨٢] أي : فلما استيأس إخوة يوسف من يوسف أن يسمح لهم بأخيهم (خَلَصُوا نَجِيًّا) أي : اجتمعوا وحدهم ، ليس معهم غيرهم ، وجعلوا يتناجون فيما بينهم ، (قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) في حفظه ، وأنكم تأتون به إلا أن يحاط بكم (وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) ، فاجتمع عليكم الأمران ، تفريطكم السابق في يوسف ، وعدم إتيانكم بأخيه باللاحق ، فليس لي وجه أواجه به أبي. (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) أي : سأقيم في هذه الأرض ، ولا أزال بها (حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي) أي : يقدر لي المجيء وحدي ، أو مع أخي (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ). ثم وصاهم بما يقولون لأبيهم فقال : (ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) أي : وأخذ بسرقته ، ولم يحصل لنا أن نأتيك به ، مع ما بذلنا من الجهد في ذلك. والحال ، أنا ما شهدنا بشيء لم نعلمه ، وإنما شهدنا بما علمنا ، لأننا رأينا الصواع استخرج من رحله ، (وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) أي : لو كنا نعلم الغيب ، لما حرصنا ، وبذلنا المجهود في ذهابه معنا ، ولما أعطيناك عهودنا ومواثيقنا ، فلم نظن أن الأمر ، سيبلغ ما بلغ. (وَسْئَلِ) إن شككت في قولنا (الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) فقد اطلعوا على ما أخبرناك به

٤٦٤

(وَإِنَّا لَصادِقُونَ) لم نكذب ، ولم نغير ، ولم نبدل ، بل هذا الواقع.

[٨٣] فلما رجعوا إلى أبيهم ، وأخبروه بهذا الخبر ، اشتد حزنه ، وتضاعف كمده ، واتهمهم أيضا في هذه القضية ، كما اتهمهم في الأولى ، و (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أي : ألجأ في ذلك ، إلى الصبر الجميل ، الذي لا يصحبه تسخط ، ولا جزع ، ولا شكوى للخلق ، ثم لجأ إلى حصول الفرج ، لما رأى أن الأمر اشتد ، والكربة انتهت فقال : (عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً) أي : يوسف و «بنيامين» ، وأخوهم الكبير ، الذي أقام في مصر. (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) الذي يعلم حالي ، واحتياجي إلى تفريجه ومنّته ، واضطراري إلى إحسانه ، (الْحَكِيمُ) الذي جعل لكل شيء قدرا ، ولكل أمر منتهى ، بحسب ما اقتضته حكمته الربانية.

[٨٤ ـ ٨٦] أي : وتولى يعقوب عليه الصلاة والسلام عن أولاده ، بعد ما أخبروه هذا الخبر ، واشتد به الأسف والأسى ، وابيضت عيناه من الحزن ، الذي في قلبه ، والكمد الذي أوجب له كثرة البكاء ، حيث ابيضت عيناه من ذلك. (فَهُوَ كَظِيمٌ) أي : ممتلىء القلب من الحزن الشديد ، (وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) أي : ظهر منه ما كمن من الهم القديم ، والشوق المقيم ، وذكرته هذه المصيبة الخفيفة ، بالنسبة للأولى ، المصيبة الأولى ، فقال له أولاده ـ متعجبين من حاله ـ : (تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ) أي : لا تزال تذكر يوسف في جميع أحوالك ، (حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً) أي : فانيا لا حراك فيك ، ولا قدرة على الكلام. (أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) أي : لا تترك ذكره مع قدرتك على ذكره أبدا. (قالَ) يعقوب (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي) أي : ما أبث من الكلام (وَحُزْنِي) الذي في قلبي (إِلَى اللهِ) وحده لا إليكم ولا إلى غيركم من الخلق فقولوا ما شئتم (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) من أنه سيردهم عليّ ويقر عيني بالاجتماع بهم.

[٨٧ ـ ٨٨] أي : قال يعقوب عليه‌السلام لبنيه : (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ) ، أي : احرصوا واجتهدوا على التفتيش عنهما (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) ، فإن الرجاء ، يوجب للعبد ، السعي والاجتهاد ، فيما رجاه ، والإياس : يوجب له التثاقل والتباطؤ ، وأولى ما رجا العباد ، فضل الله وإحسانه ، ورحمته ، وروحه ، (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) ، فإنهم ـ لكفرهم ـ يستبعدون رحمته ، ورحمته بعيدة منهم ، فلا تتشبهوا بالكافرين. ودل هذا على أنه بحسب إيمان العبد ، يكون رجاؤه لرحمة الله وروحه. فذهبوا (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ) أي : على يوسف (قالُوا) متضرعين إليه : (يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) أي : قد اضطررنا نحن وأهلنا (وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ) أي : مدفوعة مرغوب عنها ، لقلتها ، وعدم وقوعها الموقع ، (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ) أي : مع عدم وفاء العرض ، وتصدق علينا بالزيادة عن الواجب. (إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) بثواب الدنيا والآخرة.

[٨٩] فلما انتهى الأمر ، وبلغ أشده ، رقّ لهم يوسف رقّة شديدة ، وعرّفهم بنفسه ، وعاتبهم. ف (قالَ : هَلْ

٤٦٥

عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ). أما يوسف فظاهر فعلهم فيه ، وأما أخوه ، فلعله ـ والله أعلم ـ قولهم : (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) ، أو أن الحادث الذي فرّق بينه وبين أبيه ، هم السبب فيه ، والأصل الموجب له ، (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) وهذا نوع اعتذار لهم بجهلهم ، أو توبيخ لهم إذ فعلوا فعل الجاهلين ، مع أنه لا ينبغي ، ولا يليق منهم.

[٩٠] فعرفوا أن الذي خاطبهم ، هو يوسف فقالوا : (أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) بالإيمان والتقوى. والتمكين في الدنيا ، وذلك بسبب الصبر والتقوى ، (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ) أي : يتقي فعل ما حرم الله ، ويصبر على الآلام والمصائب ، وعلى الأوامر ، بامتثالها (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) فإن هذا من الإحسان ، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.

[٩١] (قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) أي : فضلك علينا ، بمكارم الأخلاق ، ومحاسن الشيم ، وأسأنا إليك غاية الإساءة ، وحرصنا على إيصال الأذى إليك ، والتبعيد لك عن أبيك ، فآثرك الله تعالى ، ومكنك مما تريده (وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ).

[٩٢] (قالَ) لهم يوسف عليه‌السلام ، كرما وجودا : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) أي : لا أثرب عليكم ولا ألومكم (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) ، فسمح لهم سماحا تاما ، من غير تعيير لهم على ذكر الذنب السابق ، ودعا لهم بالمغفرة والرحمة ، وهذا نهاية الإحسان ، الذي لا يتأتى إلّا من خواص الخلق ، وخيار المصطفين.

[٩٣] أي : قال يوسف عليه‌السلام لإخوته : (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً) لأن كل داء يداوى بضده ، فهذا القميص ـ لما كان فيه أثر ريح يوسف ، الذي أودع قلب أبيه من الحزن ، والشوق ، ما الله به عليم ـ أراد أن يشمه ، فترجع إليه روحه ، وتتراجع إليه نفسه ، ويرجع إليه بصره ، ولله في ذلك حكم وأسرار ، لا يطلع عليها العباد ، وقد اطلع يوسف من ذلك على هذا الأمر. (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) أي : أولادكم وعشيرتكم ، وتوابعكم كلهم ، ليحصل تمام اللقاء ، ويزول عنكم نكد المعيشة ، وضنك الرزق.

[٩٤] (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ) عن أرض مصر ، مقبلة إلى أرض فلسطين ، شمّ يعقوب ريح القميص فقال : (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) أي : تسخرون مني ، وتزعمون أن هذا الكلام صدر مني ، من غير شعور ، لأنه رأى منهم من التعجب من حاله ، ما أوجب له هذا القول ، فوقع ما ظنه بهم فقالوا :

[٩٥] (تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) أي : لا تزال تائها في بحر لجيّ لا تدري ما تقول.

[٩٦] (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ) بقرب الاجتماع بيوسف وإخوته وأبيهم ، (أَلْقاهُ) أي : القميص (عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً) أي : رجع إلى حاله الأولى بصيرا ، بعد أن ابيضت عيناه من الحزن. فقال لمن حضره من أولاده وأهله ، الّذين كانوا يفندون رأيه ، ويتعجبون منه منتصرا عليهم ، مغتبطا بنعمة الله عليه : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) حيث كنت مترجيا للقاء يوسف ، مترقبا لزوال الهم والغم والحزن.

[٩٧] فأقروا بذنبهم و (قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ) (٩٧) حيث فعلنا معك ما فعلنا.

٤٦٦

[٩٨] (قالَ) مجيبا لطلبهم ، ومسرعا لإجابتهم : (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ورجائي به ، أن يغفر لكم ، ويرحمكم ، ويتغمدكم برحمته ، وقد قيل : إنه أخر الاستغفار لهم إلى وقت السحر الفاضل ، ليكون أتمّ للاستغفار ، وأقرب للإجابة.

[٩٩] أي : (فَلَمَّا) تجهز يعقوب وأولاده وأهلهم أجمعون ، وارتحلوا من بلادهم ، قاصدين الوصول إلى يوسف في مصر وسكناها ، فلما وصلوا إليه ، و (دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) أي : ضمهما إليه ، واختصهما بقربه ، وأبدى لهما من البر والإحسان ، والتبجيل والإعظام شيئا عظيما ، (وَقالَ) لجميع أهله : (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) من جميع المكاره والمخاوف ، فدخلوا في هذه الحال السارة ، وزال عنهم النصب ونكد المعيشة ، وحصل السرور والبهجة.

[١٠٠] (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) أي : على سرير الملك ، ومجلس العز ، (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) أي : أبوه ، وأمه ، وإخوته ، سجودا على وجه التعظيم والتبجيل والإكرام ، (وَقالَ) لما رأى هذه الحال ، ورأى سجودهم له : (يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ) حين رأى أحد عشر كوكبا ، والشمس والقمر له ساجدين ، فهذا وقوعها ، الذي آلت إليه ووصلت (قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) فلم يجعلها أضغاث أحلام. (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي) إحسانا جسيما (إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) ، وهذا من لطفه ، وحسن خطابه ، عليه‌السلام ، حيث ذكر حاله في السجن ، ولم يذكر حاله في الجب ، لتمام عفوه عن إخوته ، وأنه لا يذكر ذلك الذنب ، وأن إتيانكم من البادية ، من إحسان الله. فلم يقل : جاء بكم من الجوع والنصب ، ولا قال : «أحسن بكم» بل قال : (أَحْسَنَ بِي) ، جعل الإحسان ، عائدا إليه ، فتبارك من يختص برحمته من يشاء من عباده ، ويهب لهم من لدنه رحمة ، إنه هو الوهاب.

(مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) فلم يقل «نزع الشيطان إخوتي» بل كأن الذنب والجهل ، صدر من الطرفين ، فالحمد لله ، الذي أخزى الشيطان ودحره ، وجمعنا بعد تلك الفرقة الشاقة. (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) يوصل بره وإحسانه إلى العبد ، من حيث لا يشعر ، ويوصله إلى المنازل الرفيعة من أمور يكرهها ، (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) الذي يعلم ظواهر الأمور وبواطنها ، وسرائر العباد وضمائرهم ، (الْحَكِيمُ) في وضعه الأشياء مواضعها ، وسوقه الأمور إلى أوقاتها المقدرة لها.

[١٠١] لما أتم الله ليوسف ما أتم من التمكين في الأرض والملك ، وأقر عينه بأبويه وإخوته وبعد العلم العظيم الذي أعطاه الله إياه ، فقال مقرا بنعمة الله شاكرا لها داعيا بالثبات على الإسلام : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) وذلك أنه كان على خزائن الأرض وتدبيرها ووزيرا كبيرا للملك (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) أي : من تأويل أحاديث الكتب المنزلة وتأويل الرؤيا وغير ذلك من العلم (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً) أي : أدم علي الإسلام وثبتني عليه حتى تتوفاني عليه ، ولم يكن هذا دعاء باستعجال الموت ، (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) من الأنبياء الأبرار والأصفياء الأخيار.

٤٦٧

[١٠٢] لما قص الله هذه القصة على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال الله له : (ذلِكَ) النبأ الذي أخبرناك به (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) ولو لا إيجاؤنا إليك ، لما وصل إليك هذا الخبر الجليل ، (وَ) أنك (ما كُنْتَ) حاضرا (لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ) أي : إخوة يوسف (وَهُمْ يَمْكُرُونَ) به ، حين تعاقدوا على التفريق بينه وبين أبيه ، في حالة لا يطلع عليها إلّا الله تعالى ، ولا يمكن أحدا أن يصل إلى علمها ، إلّا بتعليم الله له إياها. كما قال تعالى لما قص قصة موسى ، وما جرى له ، ذكر الحال التي لا سبيل للخلق إلى علمها إلّا بوحيه فقال : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (٤٤) الآيات ، فهذا أدل دليل ، على أن ما جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حق وصدق.

[١٠٣] يقول تعالى لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ) على إيمانهم (بِمُؤْمِنِينَ) فإن مداركهم ومقاصدهم ، قد أصبحت فاسدة ، فلا ينفعهم حرص الناصحين عليهم ، ولو عدمت الموانع ، بأنهم كانوا يعلمونهم ، ويدعونهم إلى ما فيه الخير لهم ، ودفع الشر عنهم ، من غير أجر ولا عوض ، ولو أقاموا لهم من الشواهد والآيات الدالات على صدقهم ما أقاموا.

[١٠٤] ولهذا قال : (وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) (١٠٤) يتذكرون به ما ينفعهم ، ليفعلوه ، وما يضرهم ليتركوه.

[١٠٥] (وَكَأَيِّنْ) أي : وكم (مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها) دالة لهم على توحيد الله (وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ).

[١٠٦] ومع هذا (وَ) إن وجد منهم بعض الإيمان (ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (١٠٦) ، فهم وإن أقروا بربوبية الله تعالى ، وأنه الخالق الرازق المدبر لجميع الأمور ، فإنهم يشركون في ألوهية الله وتوحيده ، فهؤلاء الّذين وصلوا إلى هذه الحال ، لم يبق عليهم إلّا أن يحل بهم العذاب ، ويفاجئهم العقاب وهم آمنون.

[١٠٧] ولهذا قال : (أَفَأَمِنُوا) أي : الفاعلون لتلك الأفعال ، المعرضون عن آيات الله (أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ) أي : عذاب ، يغشاهم ويعمهم ، ويستأصلهم ، (أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) أي : فجأة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي : فإنهم قد استوجبوا ذلك ، فليتوبوا إلى الله ، وليتركوا ما يكون سببا في عقابهم.

[١٠٨] يقول تعالى لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلْ) للناس (هذِهِ سَبِيلِي) أي : طريقي ، التي أدعو إليها ، وهي السبيل الموصلة إلى الله ، وإلى دار كرامته ، المتضمنة للعلم بالحق ، والعمل به ، وإيثاره وإخلاص الدين لله وحده لا شريك له ، (أَدْعُوا إِلَى اللهِ) أي : أحثّ الخلق والعباد ، على الوصول إلى ربهم ، وأرهبهم في ذلك ، وأرغبهم مما يبعدهم عنه. ومع هذا ، فأنا (عَلى بَصِيرَةٍ) من ديني ، أي : على علم ويقين ، من غير شك ولا امتراء ، ولا مرية ، (أَنَا وَ) كذلك (مَنِ اتَّبَعَنِي) يدعو إلى الله ، كما أدعوه ، على بصيرة من أمره ، (وَسُبْحانَ اللهِ) عما ينسب إليه ، مما لا يليق بجلاله ، أو ينافي كماله. (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) في جميع أموري ، بل أعبد الله ، مخلصا له الدين.

٤٦٨

[١٠٩] ثم قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً) أي : لم نرسل ملائكة ولا غيرهم من أصناف الخلق ، فلأي شيء يستغرب قومك رسالتك ويزعمون أنه ليس عليهم فضل. فلك فيمن قبلك من المرسلين أسوة حسنة (نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) أي : لا من البادية ، بل من أهل القرى ، الّذين هم أكمل عقولا ، وأصح آراء ، وليتبين أمرهم ، ويتضح شأنهم. (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) إذا لم يصدقوا لقولك ، (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كيف أهلكهم الله بتكذيبهم ، فاحذروا ، أن تقيموا على ما قاموا عليه ، فيصيبكم ما أصابهم ، (وَلَدارُ الْآخِرَةِ) أي : الجنة وما فيها ، من النعيم المقيم ، (خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) الله ، في امتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ، فإن نعيم الدنيا منغص منكد ، منقطع. ونعيم الآخرة ، تام كامل ، لا يفنى أبدا ، بل هو على الدوام ، في تزايد وتواصل ، «عطاء غير مجذوذ» (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي : أفلا تكون لكم عقول ، تؤثر الذي هو خير ، على الأدنى.

[١١٠] يخبر تعالى : أنه يرسل الرسل الكرام ، فيكذبهم القوم المجرمون اللئام ، وأن الله تعالى يمهلهم ، ليرجعوا إلى الحق ، ولا يزال الله يمهلهم حتى إنه تصل الحال إلى غاية الشدة منهم على الرسل. حتى إن الرسل ـ على كمال يقينهم ، وشدة تصديقهم بوعد الله ووعيده ـ ربما أنه يخطر بقلوبهم ، نوع من الإياس ، ونوع من ضعف العلم والتصديق ، فإذا بلغ الأمر هذه الحال (جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ) وهم الرسل وأتباعهم ، (وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) أي : ولا يرد عذابنا ، عمن اجترم ، وتجرأ على الله (فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ).

[١١١] (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ) أي : قصص الأنبياء والرسل مع قومهم ، (عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي :

يعتبرون بها ، أهل الخير ، وأهل الشر ، وأن من فعل مثل فعلهم ، ناله ما نالهم ، من كرامة ، أو إهانة ، ويعتبرون بها أيضا ، ما لله من صفات الكمال والحكمة العظيمة ، وأنه الله ، الذي لا تنبغي العبادة إلّا له ، وحده لا شريك له. وقوله : (ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى) أي : ما كان هذا القرآن ، الذي قص الله به عليكم من أنباء الغيب ما قص ، من الأحاديث المفتراة المختلقة ، (وَلكِنْ) كان (تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب السابقة ، يوافقها ، ويشهد لها بالصحة ، (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) يحتاج إليه العباد ، من أصول الدين وفروعه ، ومن الأدلة والبراهين. (وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فإنهم ـ بسبب ما يحصل لهم به من العلم بالحق وإيثاره ـ يحصل لهم الهدى ، وبما يحصل لهم من الثواب العاجل والآجل ، تحصل لهم الرحمة.

فصل

في ذكر شيء من العبر والفوائد التي اشتملت عليها هذه القصة العظيمة التي قال الله في أولها : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) وقال : (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) (٧) وقال في آخرها : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) غير ما تقدم في مطاويها من الفوائد. فمن ذلك ، أن هذه القصة ، من أحسن القصص وأوضحها ، وأبينها ، لما فيها من أنواع التنقلات ، من حال إلى حال ، ومن محنة إلى منحة ، ومن محنة إلى منحة ومنّة ،

٤٦٩

ومن ذل إلى عز ومن رقّ إلى ملك ، ومن فرقة وشتات ، إلى اجتماع وائتلاف ، ومن حزن إلى سرور ، ومن رخاء إلى جدب ، ومن جدب إلى رخاء ، ومن ضيق إلى سعة ، ومن إنكار إلى قرار ، فتبارك من قصها ، فأحسنها ، ووضحها وبيّنها. ومنها : أن فيها أصلا لتعبير الرؤيا ، فإن علم التعبير ، من العلوم المهمة ، التي يعطيها الله من يشاء من عباده ، وإن أغلب ما تبنى عليه ، المناسبة والمشابهة في الاسم والصفة ، فإن رؤيا يوسف ، التي رأى فيها الشمس والقمر ، وأحد عشر كوكبا له ساجدين ، وجه المناسبة فيها : أن هذه الأنوار ، هي زينة السماء وجمالها ، وبها منافعها. فكذلك الأنبياء والعلماء ، زينة للأرض وجمال ، وبهم يهتدى في الظلمات ، كما يهتدى بهذه الأنوار ، ولأن الأصل أبوه وأمه ، وإخوته هم الفرع ، فمن المناسب أن يكون الأصل ، أعظم نورا ، وجرما ، لما هو فرع عنه. فلذلك كانت الشمس أمه ، والقمر أباه ، والكواكب إخوته. ومن المناسبة أن الشمس ، لفظ مؤنث ، فلذلك كانت أمه ، والقمر والكواكب ، مذاكرات ، فكانت لأبيه وإخوته. ومن المناسبة ، أن الساجد معظم محترم للمسجود له ، والمسجود له معظم محترم ، فلذلك ، دل ذلك ، على أن يوسف يكون معظما محترما ، عند أبويه وإخوته. ومن لازم ذلك ، أن يكون مجتبى مفضلا ، في العلم والفضائل ، الموجبة لذلك. ولذلك قال أبوه : (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ). ومن المناسبة في رؤيا الفتيين ، أن الرؤيا الأولى ، التي رأى صاحبها ، أنه يعصر خمرا ، أن الذي يعصر خمرا في العادة ، يكون خادما لغيره ، والعصر يقصد لغيره ، فلذلك أوّله بما يؤول إليه ، أنه يسقي ربه ، وذلك متضمن لخروجه من السجن. وأوّل رؤيا الآخر ، أي : أنه يحمل فوق رأسه خبزا ، تأكل الطير منه ، بأن جلدة رأسه ولحمه ، وما في ذلك من إلخ ، أنه هو الذي يحمل ، وأنه سيبرز للطيور ، بمحل تتمكن من الأكل من رأسه ، فرأى من حاله أنه سيقتل ويصلب بعد موته فيبرز للطيور فتأكل من رأسه ، وذلك لا يكون إلّا بالصلب بعد القتل. وأوّل رؤيا الملك ، للبقرات والسنبلات ، بالسنين المخصبة ، والسنين المجدبة ، ووجه المناسبة ، أن الملك ، به ترتبط أحوال الرعية ومصالحها ، وبصلاحه تصلح ، وبفساده تفسد ، وكذلك السنون ، بها صلاح أحوال الرعية ، واستقامة أمر المعاش ، أو عدمه. وأما البقر ، فإنها تحرث الأرض عليها ، ويستقى عليها الماء ، وإذا أخصبت السنة ، سمنت ، وإذا أجدبت ، صارت عجافا ، وكذلك السنابل في الخصب ، تكثر وتخضر ، وفي الجدب ، تقل وتيبس وهي أفضل غلال الأرض. ومنها : ما فيها من الأدلة ، على صحة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيث قص على قومه هذه القصة الطويلة ، وهو لم يقرأ كتب الأولين ، ولا دارس أحدا. يراه قومه ، بين أظهرهم ، صباحا ومساء ، وهو أمّيّ لا يخط ولا يقرأ ، وهي موافقة ، لما في الكتب السابقة ، وما كان لديهم ، إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون. ومنها : أنه ينبغي البعد عن أسباب الشر ، وكتمان ما تخشى مضرته ، لقول يعقوب ليوسف : (لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) ، ومنها : أنه يجوز ذكر الإنسان بما يكره على وجه النصيحة لغيره لقوله : (فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً). ومنها : أن نعمة الله على العبد ، نعمة على من يتعلق به ، من أهل بيته ، وأقاربه ، وأصحابه ، وأنه ربما شملهم ، وحصل لهم ما حصل له سببه ، كما قال يعقوب في تفسيره لرؤيا يوسف (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ) ، ولما تمت النعمة على يوسف ، حصل لآل يعقوب ، من العز والتمكين في الأرض ، والسرور والغبطة ، ما حصل بسبب يوسف. ومنها : أن العدل مطلوب في كل الأمور ، لا في معاملة السلطان رعيته فقط ، ولا فيما دونه ، بل حتى في معاملة الوالد لأولاده ، في المحبة والإيثار ، وغيره ، وأن في الإخلال بذلك ، يختل عليه الأمر ، وتفسد الأحوال. ولهذا ، لما قدم يعقوب يوسف في المحبة ، وآثره على إخوته ، جرى منهم ما جرى على أنفسهم ، وعلى أبيهم وأخيهم. ومنها : الحذر من شؤم الذنوب ، وأن الذنب الواحد يستتبع ذنوبا متعددة ، ولا يتم لفاعله ، إلّا بعد جرائم. فإخوة يوسف ، لما أرادوا التفريق بينه وبين أبيه ، احتالوا لذلك بأنواع من الحيل ، وكذبوا عدة مرات ، وزوروا على أبيهم في القميص والدم ، الذي فيه ، وفي إتيانهم عشاء يبكون ، ولا تستبعد أنه قد كثر البحث فيها ، في

٤٧٠

تلك المدة ، بل لعل ذلك اتصل إلى أن اجتمعوا بيوسف ، وكلما صار البحث ، حصل من الإخبار بالكذب ، والافتراء ، ما حصل ، وهذا شؤم الذنب ، وآثاره التابعة ، والسابقة ، واللاحقة. ومنها : أن العبرة في حال العبد ، بكمال النهاية ، لا بنقص البداية ، فإن أولاد يعقوب ، عليه‌السلام ، جرى منهم ما جرى ، في أول الأمر ، مما هو أكبر أسباب النقص واللوم ، ثم انتهى أمرهم إلى التوبة النصوح ، والسماح التام ، من يوسف ، ومن أبيهم ، والدعاء بالمغفرة والرحمة ، وإذا سمح العبد عن حقه ، فالله خير الراحمين. ولهذا ـ في أصح الأقوال ـ أنهم كانوا أنبياء لقوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) ، والأسباط هم : أولاد يعقوب الاثنا عشر ، وذريتهم. ومما يدل على ذلك ، أن في رؤيا يوسف ، أنه رآهم كواكب نيرة ، والكواكب فيها النور والهداية ، وذلك من صفات الأنبياء ، فإن لم يكونوا أنبياء ، فإنهم علماء هداة. ومنها : ما منّ الله به على يوسف ، عليه الصلاة والسّلام ، من العلم ، والحلم ، ومكارم الأخلاق ، والدعوة إلى الله ، وإلى دينه ، وعفوه عن إخوته الخاطئين ، عفوا بادرهم به ، وتم ذلك بأن لا يثرب عليهم ، ولا يعيرهم به. ثمّ برّه العظيم بأبويه ، وإحسانه لإخوته ، بل لعموم الخلق. ومنها : أن بعض الشر ، أهون من بعض ، وارتكاب أخف الضررين ، أولى من ارتكاب أعظمهما ، فإن إخوة يوسف ، لما اتفقوا على قتل يوسف ، أو إلقائه أرضا وقال قائل منهم : (لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) كان قوله أحسن منهم وأخف ، وبسببه خف عن إخوته الإثم الكبير. ومنها : أن الشيء إذا تداولته الأيدي ، وصار من جملة الأموال ، ولم يعلم أنه كان على غير الشرع ، أنه لا إثم على من باشره ، ببيع ، أو شراء ، أو خدمة ، أو انتفاع ، أو استعمال. فإن يوسف عليه‌السلام ، باعه إخوته بيعا حراما ، لا يجوز. ثمّ ذهبت به السيارة إلى مصر ، فباعوه بها ، وبقي عند سيده غلاما رقيقا ، وسماه الله سيدا ، وكان عندهم بمنزلة الغلام الرقيق المكرم. ومنها : الحذر من الخلوة بالنساء ، اللائي يخشى منهن الفتنة ، والحذر أيضا من المحبة ، التي يخشى ضررها. فإن امرأة العزيز ، جرى منها ما جرى ، بسبب انفرادها بيوسف ، وحبها الشديد له ، الذي ما تركها ، حتى راودته تلك المراودة ، ثمّ كذبت عليه ، فسجن ـ بسببها ـ مدة طويلة. ومنها : أن الهمّ الذي ، همّ به يوسف بالمرأة ، ثمّ تركه لله ، مما يرقيه إلى الله زلفى ، لأن الهم داع من دواعي النفس ، الأمارة بالسوء ، وهو طبيعة لأغلب الخلق. فلما قابل بينه وبين محبة الله وخشيته ، غلبت محبة الله وخشيته ، داعي النفس ، والهوى ، فكان ممن (خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) ، ومن السبعة الّذين يظلهم الله في ظل عرشه ، يوم لا ظل إلا ظله ، أحدهم رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال ، فقال : إني أخاف الله ، وإنّما الهم الذي يلام عليه العبد ، الهم الذي يساكنه ، ويصير عزما ، ربما اقترن به الفعل. ومنها : أن من دخل الإيمان قلبه ، وكان مخلصا لله ، في جميع أموره فإن الله يدفع عنه ببرهان إيمانه ، وصدق إخلاصه ، من أنواع السوء والفحشاء وأسباب المعاصي ، ما هو جزاء لإيمانه وإخلاصه لقوله : (وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) على قراءة من قرأها بكسر اللام ، ومن قرأها بالفتح ، فإنه من إخلاص الله إياه ، وهو متضمن لإخلاصه هو بنفسه ، فلما أخلص عمله لله ، أخلصه الله ، وخلصه من السوء والفحشاء.

ومنها : أنه ينبغي للعبد إذا رأى محلا فيه فتنة وأسباب معصية ، أن يفر منه ، ويهرب ، غاية ما يمكنه ، ليتمكن من التخلص من المعصية ، لأن يوسف عليه‌السلام ـ لما راودته التي هو في بيتها ـ فر هاربا ، يطلب الباب ، ليتخلص من

شرها. ومنها : أن القرائن يعمل بها ، عند الاشتباه ، فلو تخاصم رجل وامرأته في شيء من أواني الدار ، فما يصلح للرجل ، فإنه للرجل ، وما يصلح للمرأة ، فهو لها ، هذا إذا لم يكن بينة. وكذا لو تنازع نجار وحداد في آلة حرفتهما ، من غير بينة ، والعمل بالقيافة ، في الأشباه والأثر ، من هذا الباب. فإن شاهد يوسف شهد بالقرينة ، وحكم بها في قد القميص ، واستدل بقدّه من دبره على صدق يوسف وكذبها. ومما يدل على هذه القاعدة ، أن استدل بوجود الصّواع في رحل أخيه على الحكم عليه بالسرقة ، من غير بينة شهادة ، ولا إقرار. فعلى هذا ، إذا وجد

٤٧١

المسروق في يد السارق ، خصوصا إذا كان معروفا بالسرقة ، فإنه يحكم عليه بالسرقة ، وهذا أبلغ من الشهادة ، وكذلك وجود الرجل يتقيأ الخمر ، أو وجود المرأة التي لا زوج لها ولا سيد ، حاملا فإنه يقام بذلك الحد ، ما لم يقع مانع منه ، ولهذا سمى الله هذا الحكم شاهدا فقال : (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها). ومنها : ما عليه يوسف ، من الجمال الظاهر والباطن ، فإن جماله الظاهر ، أوجب للمرأة التي هو في بيتها ما أوجب. وللنساء اللاتي جمعتهن حين لمنها على ذلك أن قطعن أيديهن وقلن (ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ). وأما جماله الباطن ، فهو العفة العظيمة عن المعصية ، مع وجود الدواعي الكثيرة لوقوعها ، وشهادة امرأة العزيز والنسوة بعد ذلك ببراءته ، ولهذا قالت امرأة العزيز : (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) ، وقالت بعد ذلك : (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) ، وقالت النسوة : (حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ). ومنها : أن يوسف عليه‌السلام ، اختار السجن على المعصية. فهكذا ينبغي للعبد ، إذا ابتلي بين أمرين ـ إما فعل معصية ، وإما عقوبة دنيوية ـ أن يختار العقوبة الدنيوية ، على مواقعة الذنب الموجب للعقوبة الشديدة ، في الدنيا والآخرة. ولهذا من علامات الإيمان ، أن يكره العبد أن يعود في الكفر ، بعد أن أنقذه الله منه ، كما يكره أن يلقى في النار. ومنها : أنه ينبغي للعبد ، أن يلتجىء إلى الله ، ويحتمي بحماه عند وجود أسباب المعصية ، ويتبرأ من حوله وقوته ، لقول يوسف عليه‌السلام : (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ). ومنها : أن العلم والعقل يدعوان صاحبهما إلى الخير ، وينهيانه عن الشر ، وأن الجهل يدعو صاحبه إلى موافقة هوى النفس ، وإن كان معصية ضارا لصاحبه. ومنها : أنه كما على العبد عبودية لله في الرخاء ، فعليه عبودية له في الشدة. ف «يوسف» عليه‌السلام ، لم يزل يدعو إلى الله ، فلما دخل السجن ، استمر على ذلك ، ودعا الفتيين إلى التوحيد ، ونهاهما عن الشرك. ومن فطنته عليه‌السلام ، أنه لما رأى فيهما قابلية لدعوته ، حيث ظنا فيه الظن الحسن وقالا : (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) وأتياه لأن يعبر لهما رؤياهما ، فرآهما متشوقين لتعبيرها عنده ـ رأى ذلك فرصة ، فانتهزها ، فدعاهما إلى الله تعالى ، قبل أن يعبر رؤياهما ليكون أنجح لمقصوده ، وأقرب لحصول مطلوبه. وبين لهما أولا ، أن الذي أوصله إلى الحال التي رأياه فيها ، من الكمال والعلم ، إيمانه ، وتوحيده ، وتركه ملة من لا يؤمن بالله واليوم الآخر ، وهذا دعاء لهما بلسان الحال ، ثمّ دعاهما بالمقال ، وبين فساد الشرك ، وبرهن عليه ، وحقيقة التوحيد ، وبرهن عليه. ومنها : أنه يبدأ بالأهم فالأهم ، وأنه إذا سئل المفتي ، وكان السائل في حاجة أشد لغير ما سأل عنه ، أنه ينبغي له أن يعلمه ما يحتاج إليه قبل أن يجيب سؤاله ، فإن هذا علامة على نصح المعلم وفطنته ، وحسن إرشاده وتعليمه. فإن يوسف ـ لما سأله الفتيان عن الرؤيا ـ قدم لهما قبل تعبيرها ـ دعوتهما إلى الله وحده لا شريك له. ومنها : أن من وقع في مكروه وشدة ، لا بأس أن يستعين بمن له قدرة على تخليصه ، أو الإخبار بحاله ، وأن هذا ، لا يكون شكوى للمخلوق فإن هذا ، من الأمور العادية ، التي جرى العرف باستعانة الناس ، بعضهم ببعض ، ولهذا قال يوسف ، للذي ظن أنه ناج من الفتيين : (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ). ومنها : أنه ينبغي ويتأكد على المعلم ، استعمال الإخلاص التام في تعليمه وأن لا يجعل تعليمه ، وسيلة لمعاوضة أحد في مال ، أو جاه ، أو نفع ، وأن لا يمتنع من التعليم ، أو لا ينصح فيه ، إذا لم يفعل السائل ما كلفه به المعلم ، فإن يوسف عليه‌السلام قد قال ، ووصى أحد الفتيين ، أن يذكره عند ربه ، فلم يذكره ونسي ، فلما بدت حاجتهم إلى سؤال يوسف ، أرسلوا ذلك الفتى ، وجاءه سائلا مستفتيا عن تلك الرؤيا ، فلم يعنفه يوسف ، ولا وبّخه ، لتركه ذكره بل أجابه عن سؤاله ، جوابا تاما من كل وجه. ومنها : أنه ينبغي للمسؤول أن يدل السائل على أمر ينفعه ، مما يتعلق بسؤاله ، ويرشده إلى الطريق ، التي ينتفع بها ، في دينه ودنياه ، فإن هذا من كمال نصحه وفطنته ، وحسن إرشاده ، فإن يوسف ، عليه‌السلام ، لم يقتصر على تعبير رؤيا الملك ، بل دلهم ـ مع ذلك ـ على ما يصنعون في تلك السنين المخصبات ، من كثرة الزرع ، وكثرة جبايته. ومنها : أنه لا يلام الإنسان على السعي في دفع التهمة عن نفسه ، وطلب

٤٧٢

البراءة لها ، بل يحمد على ذلك ، كما امتنع يوسف عن الخروج من السجن حتى تتبين لهم براءته بحال النسوة ، اللاتي قطعن أيديهن. ومنها : فضيلة العلم ، علم الأحكام والشرع ، وعلم تعبير الرؤيا ، وعلم التدبير والتربية ؛ وأنه أفضل من الصورة الظاهرة ، ولو بلغت في الحسن جمال يوسف ، فإن يوسف ـ بسبب جماله ـ حصلت له تلك المحنة ، والسجن ، وبسبب علمه ، حصل له العز والرفعة ، والتمكين في الأرض ، فإن كل خير في الدنيا والآخرة ، من آثار العلم وموجباته. ومنها : أن علم التعبير ، من العلوم الشرعية ، وأنه يثاب الإنسان على تعلمه وتعليمه ، وأن تعبير الرؤيا ، داخل في الفتوى ، لقوله للفتيين : (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) وقال الملك : (أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ) ، وقال الفتى ليوسف : (أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ) الآيات ، فلا يجوز الإقدام على تعبير الرؤيا ، من غير علم. ومنها : أنه لا بأس أن يخبر الإنسان عما في نفسه ، من صفات الكمال من علم أو عمل ، إذا كان في ذلك مصلحة ، ولم يقصد به العبد الرياء ، وسلم من الكذب ، لقول يوسف : (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) ، وكذلك لا تذم الولاية ، إذا كان المتولي فيها يقوم بما يقدر عليه من حقوق الله ، وحقوق عباده ، وأنه لا بأس بطلبها ، إذا كان أعظم كفاءة من غيره. وإنّما الذي يذم ، إذا لم يكن فيه كفاية ، أو كان موجودا غيره مثله ، أو أعلى منه ، أو لم يرد بها إقامة أمر الله ، فبهذه الأمور ، ينهى عن طلبها ، والتعرض لها. ومنها : أن الله واسع الجود والكرم ، يجود على عبده ، بخير الدنيا والآخرة ، وأن خير الآخرة له سببان : الإيمان ، والتقوى. وأنه خير من ثواب الدنيا وملكها ، وأن العبد ينبغي له أن يدعو نفسه ، ويشوقها لثواب الله ، ولا يدعها تحزن ، إذا رأت زينة أهل الدنيا ولذاتها ، وهي غير قادرة عليها ، بل يسليها بثواب الله الأخروي ، وفضله العظيم لقوله تعالى : (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) (٥٧). ومنها : أن جباية الأرزاق ـ إذا أريد بها التوسعة على الناس ، من غير ضرر يلحقهم ـ لا بأس بها ، لأن يوسف أمرهم بجباية الأرزاق والأطعمة ، في السنين المخصبات ، للاستعداد للسنين المجدبة ، وأن هذا غير مناقض للتوكل على الله ، بل يتوكل العبد على الله ، ويعمل الأسباب التي تنفعه ، في دينه ودنياه. ومنها : حسن تدبير يوسف ، لما تولى خزائن الأرض ، حتى كثرت عندهم الغلات جدا ، وحتى صار أهل الأقطار ، يقصدون مصر لطلب الميرة منها ، لعلمهم بوفورها فيها ، وحتى إنه كان لا يكيل لأحد إلا مقدار الحاجة الخاصة أو أقل ، لا يزيد كل قادم على كيل بعير وحمله. ومنها : مشروعية الضيافة ، وأنها من سنن المرسلين ، وإكرام الضيف لقول يوسف لإخوته : (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ). ومنها : أن سوء الظن ـ مع وجود القرائن الدالة عليه ـ غير ممنوع ولا محرم. فإن يعقوب قال لأولاده ـ بعد ما امتنع من إرسال يوسف معهم حتى عالجوه أشد المعالجة ، ثمّ قال لهم بعد ما أتوه ، وزعموا أن الذئب أكله (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) ، قال لهم في الأخ الآخر : (هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ) ، ثمّ لما احتبسه يوسف عنده ، وجاء إخوته لأبيهم قال لهم : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) فهم في الأخيرة ـ وإن لم يكونوا مفرطين ـ فقد جرى منهم ، ما أوجب لأبيهم ، أن قال ما قال ، من غير إثم عليه ولا حرج. ومنها : أن استعمال الأسباب الدافعة للعين وغيرها من المكاره ، أو الرافعة لها بعد نزولها ، غير ممنوع ، بل جائز ، وإن كان لا يقع شيء إلا بقضاء وقدر. فإن الأسباب أيضا ، من القضاء والقدر لأمر يعقوب ، حيث قال لبنيه : (يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ). ومنها : جواز استعمال المكايد التي يتوصل بها إلى الحقوق ، وأن العلم بالطرق الخفية الموصلة ، إلى مقاصدها ، مما يحمد عليه العبد ، وإنّما الممنوع ، التحيل على إسقاط واجب ، أو فعل محرم. ومنها : أنه ينبغي لمن أراد أن يوهم غيره ، بأمر لا يحب أن يطلع عليه ، أن يستعمل المعاريض القولية والفعلية ، المانعة من الكذب ، كما فعل يوسف ، حيث ألقى الصّواع في رحل أخيه ، ثمّ استخرجها منه ، موهما أنه سارق ، وليس فيه إلا القرينة الموهمة لإخوته ، وقال بعد ذلك : (مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ) ولم يقل «من سرق متاعنا» وكذلك لم يقل «إنا وجدنا متاعنا عنده» بل أتى بكلام عام ، يصلح له ولغيره ، وليس في ذلك

٤٧٣

محذور ، وإنّما فيه إيهام أنه سارق ، ليحصل المقصود الحاضر ، وأن يبقى عنده أخوه ، وقد زال عن الأخ هذا الإيهام ، بعد ما تبينت الحال. ومنها : أنه لا يجوز للإنسان أن يشهد إلا بما علمه ، وتحققه بمشاهدة ، أو خبر من يثق به ، وتطمئن إليه النفس لقولهم : (وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا). ومنها : هذه المحنة العظيمة ، التي امتحن الله بها نبيه وصفيه ، يعقوب عليه‌السلام ، حيث قضى بالتفريق ، بينه وبين ابنه يوسف ، الذي لا يقدر على فراقه ساعة واحدة ، ويحزنه ذلك أشد الحزن ، فحصل التفريق بينه وبينه ، مدة طويلة ، لا تقصر عن ثلاثين سنة ، ويعقوب لم يفارق الحزن قلبه في هذه المدة (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ). ثمّ ازداد به الأمر شدة ، حين صار الفراق بينه وبين ابنه الثاني ، شقيق يوسف ، هذا وهو صابر لأمر الله ، محتسب الأجر من الله ، قد وعد من نفسه الصبر الجميل ، ولا شك أنه وفي بما وعد به. ولا ينافي ذلك ، قوله : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) فإن الشكوى إلى الله ، لا تنافي الصبر ، وإنّما الذي ينافيه ، الشكوى إلى المخلوقين. ومنها : أن الفرج مع الكرب ؛ وأن مع العسر يسرا ، فإنه لما طال الحزن على يعقوب ، واشتد به إلى أنهى ما يكون ، ثمّ حصل الاضطرار لآل يعقوب ، ومسهم الضر ، أذن الله حينئذ ، بالفرج ، فحصل التلاقي ، في أشد الأوقات إليه حاجة واضطرارا ، فتم بذلك الأجر ، وحصل السرور ، وعلم من ذلك ، أن الله يبتلي أولياءه بالشدة والرخاء ، والعسر واليسر ليمتحن صبرهم وشكرهم ، ويزداد ـ بذلك ـ إيمانهم ويقينهم وعرفانهم. ومنها : جواز إخبار الإنسان بما يجد ، وما هو فيه من مرض ، أو فقر ونحوهما ، على غير وجه التسخط ، لأن إخوة يوسف قالوا : (يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) ولم ينكر عليهم يوسف. ومنها : فضيلة التقوى ، وأن كل خير في الدنيا والآخرة ، فمن آثار التقوى والصبر ، وأن عاقبة أهلهما ، أحسن العواقب لقوله : (قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ). ومنها : أنه ينبغي لمن أنعم الله عليه بنعمة ، بعد شدة ، وفقر ، وسوء حال ، أن يعترف بنعمة الله عليه ، وأن لا يزال ذاكرا حاله الأولى ، ليحدث لذلك شكرا ، كلما ذكرها ، لقول يوسف عليه‌السلام : (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ). ومنها : لطف الله العظيم بيوسف ، حيث نقله في تلك الأحوال ، وأوصل إليه الشدائد والمحن ، ليوصله بها إلى أعلى الغايات ، ورفيع الدرجات. ومنها : أنه ينبغي للعبد أن يتملق إلى الله دائما ، في تثبيت إيمانه ، ويعمل الأسباب الموجبة لذلك ، ويسأل الله حسن الخاتمة ، وتمام النعمة لقول يوسف عليه الصلاة والسّلام : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (١٠١). فهذا ما يسر الله من الفوائد والعبر ، في هذه القصة المباركة ، ولا بد أن يظهر للمتدبر المتفكر غير ذلك. فنسأله تعالى ، علما نافعا ، وعملا متقبلا ، إنه جواد كريم. تم تفسير سورة يوسف عليه الصلاة والسّلام ، والحمد لله رب العالمين.

تفسير سورة الرعد

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] يخبر تعالى : أن هذا القرآن ، هو آيات الكتاب الدالة ، على كل ما يحتاج إليه العباد من أصول الدين وفروعه ، وأن الذي أنزل إلى الرسول من ربه ، هو الحقّ المبين ، لأن إخباره صدق ، وأوامره ، ونواهيه ، عدل ، مؤيدة بالأدلة

٤٧٤

والبراهين القاطعة ، فمن أقبل عليه ، وعلى علمه ، كان من أهل العلم بالحق ، الذي يوجب لهم علمهم به ، العمل بما أوجب الله. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) بهذا القرآن ، إما جهلا ، وإعراضا عنه ، وعدم اهتمام به ، وإما عنادا وظلما ، فلذلك أكثر الناس ، غير منتفعين به ، لعدم السبب الموجب للانتفاع.

[٢] يخبر تعالى عن انفراده بالخلق والتدبير ، والعظمة والسلطان ، الدال على أنه وحده المعبود ، الذي لا تنبغي العبادة إلا له فقال : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ) على عظمها واتساعها ، بقدرته العظيمة ، (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) أي : ليس لها عمد من تحتها ، فإنه لو كان لها عمد ، لرأيتموها ، (ثُمَ) بعد ما خلق السموات والأرض (اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) العظيم الذي هو أعلى المخلوقات ، استواء يليق بجلاله ، ويناسب كماله. (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) لمصالح العباد ومصالح مواشيهم وثمارهم ، (كُلٌ) من الشمس والقمر (يَجْرِي) بتدبير العزيز العليم ، (لِأَجَلٍ مُسَمًّى) بسير منتظم ، لا يفتران ، ولا ينيان ، حتى يجيء الأجل المسمى وهو طيّ الله هذا العالم ، ونقلهم إلى الدار الآخرة ، التي هي دار القرار ، فعند ذلك يطوي الله السموات ، ويبدلها ، ويغير الأرض ويبدلها. فتكور الشمس والقمر ، ويجمع بينهما ، فيلقيان في النار ، ليرى من عبدهما أنهما غير أهل للعبادة ؛ فيتحسر بذلك أشد الحسرة ، وليعلم الّذين كفروا ، أنهم كانوا كاذبين. وقوله : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ) هذا جمع بين الخلق والأمر ، أي : قد استوى الله العظيم على سرير الملك ، يدبر الأمور في العالم العلوي والسفلي ، فيخلق ويرزق ، ويغني ، ويفقر ، ويرفع أقواما ، ويضع آخرين ، ويعز ويذل ، ويخفض ويرفع ، ويقيل العثرات ، ويفرج الكربات ، وينفذ الأقدار في أوقاتها ، التي سبق بها علمه ، وجرى بها قلمه ، ويرسل ملائكته الكرام ، لتدبير ما جعلهم على تدبيره. وينزل الكتب الإلهية على رسله ، ويبين ما يحتاج إليه العباد من الشرائع ، والأوامر والنواهي ، ويفصلها غاية التفصيل ، ببيانها ، وإيضاحها وتمييزها ، (لَعَلَّكُمْ) بسبب ما أخرج لكم من الآيات الأفقية ، والآيات القرآنية ، (بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) فإن كثرة الأدلة وبيانها ووضوحها ، من أسباب حصول اليقين ، في جميع الأمور الإلهية ، خصوصا في العقائد الكبار ، كالبعث والنشور والإخراج من القبور. وأيضا ، فقد علم أن الله تعالى ، حكيم لا يخلق الخلق سدى ، ولا يتركهم عبثا ، فكما أنه أرسل رسله ، وأنزل كتبه ، لأمر العباد ونهيهم ، فلا بد أن ينقلهم إلى دار ، يحل فيها جزاؤه ، فيجازي المحسنين بأحسن الجزاء ، ويجازي المسيئين بإساءتهم.

[٣] (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) أي : خلقها للعباد ، ووسعها ، وبارك فيها ، ومدها للعباد ، وأودع فيها من مصالحهم ما أودع ، (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) أي : جبالا عظاما ، لئلا تميد بالخلق ، فإنه لو لا الجبال ، لمادت بأهلها ، لأنها على تيار ماء ، لا ثبوت لها ، ولا استقرار ، إلا بالجبال الرواسي ، التي جعلها الله أوتادا لها. (وَ) جعل فيها (أَنْهاراً) تسقي الآدميين وبهائمهم وحروثهم ، فأخرج بها من الأشجار والزروع والثمار ، خيرا كثيرا ولهذا قال : (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي : صنفين ، مما يحتاج إليه العباد. (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) فتظلم الآفاق ،

٤٧٥

فيسكن كل حيوان إلى مأواه ، ويستريحون من التعب والنصب في النهار ، ثمّ إذا قضوا مأربهم من النوم ، غشي النهار الليل ، فإذا هم مصبحون ينتشرون في مصالحهم وأعمالهم في النهار. (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٧٣) ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) على المطالب الإلهية (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فيها ، وينظرون فيها نظرة اعتبار دالة على أن الذي خلقها ودبرها ، وصرفها ، هو الله الذي لا إله إلا هو ، ولا معبود سواه ، وأنه عالم الغيب والشهادة ، الرحمن الرحيم ، وأنه القادر على كل شيء ، الحكيم في كل شيء ، المحمود على ما خلقه وأمر به ، تبارك وتعالى.

[٤] (وَ) من الآيات على كمال قدرته ، وبديع صنعته ، (فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ) فيها أنواع الأشجار (مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ) وغير ذلك ، والنخيل التي بعضها (صِنْوانٌ) أي : عدة أشجار في أصل واحد ، (وَغَيْرُ صِنْوانٍ) بأن كان كل شجرة على حدتها ، والجميع (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ) وأرضه واحدة (وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) لونا ، وطعما ، ونفعا ، ولذة ؛ فهذه أرض طيبة ، تنبت الكلأ والعشب الكثير ، والأشجار والزروع ، وهذه أرض تلاصقها ، لا تنبت كلأ ، ولا تمسك ماء. وهذه تمسك الماء ، ولا تنبت الكلأ ، وهذه تنبت الزرع والأشجار ، ولا تنبت الكلأ ، وهذه الثمرة حلوة ، وهذه مرة ، وهذه بين ذلك. فهل هذا التنوع ، في ذاتها ، وطبيعتها؟ أم ذلك تقدير العزيز الرحيم؟ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي : لقوم لهم عقول تهديهم إلى ما ينفعهم ، وتقودهم إلى ما يرشدون به ويعقلون عن الله ، وصاياه وأوامره ونواهيه ، وأما أهل الإعراض ، وأهل البلادة فهم في ظلماتهم يعمهون ، وفي غيهم يترددون ، لا يهتدون إلى ربهم سبيلا ، ولا يعون له قيلا.

[٥] يحتمل أن معنى قوله : (وَإِنْ تَعْجَبْ) من عظمة الله تعالى ، وكثرة أدلة التوحيد ، فإن العجب ـ مع هذا ـ إنكار المكذبين ، وتكذيبهم بالبعث ، وقولهم : (أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي : هذا بعيد في غاية الامتناع بزعمهم ، أنهم بعد ما كانوا ترابا ، أن الله يعيدهم ، فإنهم ـ من جهلهم ـ قاسوا قدرة الخالق بقدرة المخلوق. فلما رأوا هذا ممتنعا ، في قدرة المخلوق ، ظنوا أنه ممتنع على قدرة الخالق ، ونسوا أن الله خلقهم أول مرة ، ولم يكونوا شيئا. ويحتمل أن معناه : وإن تعجب من قولهم وتكذيبهم للبعث ، فإن ذلك من العجائب ، فإن الذي توضح له الآيات ، ويرى من الأدلة القاطعة على البعث ، ما لا يقبل الشك والريب ، ثمّ ينكر ذلك ، فإن قوله من العجائب. ولكن ذلك لا يستغرب على (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) وجحدوا وحدانيته ، وهي أظهر الأشياء وأجلاها ، (وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ) المانعة لهم من الهدى (فِي أَعْناقِهِمْ) حيث دعوا إلى الإيمان ، فلم يؤمنوا ، وعرض عليهم الهدى فلم يهتدوا ، فقلبت قلوبهم وأفئدتهم ، عقوبة على أنهم لم يؤمنوا به أول مرة ، (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) لا يخرجون منها أبدا.

[٦] يخبر تعالى ، عن جهل المكذبين لرسوله ، المشركين به ، الّذين وعظوا فلم يتعظوا ، وأقيمت عليهم الأدلة ، فلم ينقادوا لها ، بل جاهروا بالإنكار ، واستدلوا بحلم الله الواحد القهار عنهم ، وعدم معاجلتهم بذنوبهم ، أنهم على حق ، وجعلوا يتعجلون الرسول بالعذاب ، ويقول قائلهم : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ). (وَ) الحال أنه (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) أي : وقائع الله وأيامه في الأمم المكذبين ، أفلا يتفكرون في حالهم ، ويتركون جهلهم ، (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) أي : لا يزال خيره إليهم ، وإحسانه ، وبره ، وعفوه نازلا إلى العباد ، وهم لا يزال شركهم ، وعصيانهم إليه صاعدا. يعصونه فيدعوهم إلى بابه ، ويجرمون ، فلا يحرمهم خيره وإحسانه. فإن تابوا إليه ، فهو حبيبهم ، لأنه يحب التوابين ، ويحب المتطهرين ، وإن لم يتوبوا ، فهو طبيبهم ، يبتليهم بالمصائب ، ليطهرهم من المعايب : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَ

٤٧٦

اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (٥٣). (وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) على من لم يزل مصرا على الذنوب ، قد أبى التوبة والاستغفار والالتجاء إلى العزيز الغفار ، فليحذر العباد عقوباته بأهل الجرائم ، فإن أخذه أليم شديد.

[٧] أي : ويقترح الكفار عليك من الآيات ، التي يعينون ويقولون : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) ويجعلون هذا القول منهم. عذرا لهم في عدم الإجابة إلى الرسول ، والحال ، أنه منذر ، ليس له من الأمر شيء ، والله هو الذي ينزل الآيات. وقد أيده بالأدلة البينات ، التي لا تخفى على أولي الألباب ، وبها يهتدي من قصده الحقّ ، وأما الكافر ، الذي ـ من ظلمه وجهله ـ يقترح على الله الآيات ، فهذا اقتراح منه ، باطل وكذب وافتراء. فإنه لو جاءته أي آية كانت ، لم يؤمن ولم ينقد ، لأنه لم يمتنع من الإيمان ، لعدم ما يدله على صحته ، وإنّما ذلك ، لهوى نفسه ، واتباع شهوته ، (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) أي : داع يدعوهم إلى الهدى ، من الرسل وأتباعهم ، ومعهم من الأدلة والبراهين ، ما يدل على صحة ما معهم من الهدى.

[٨] يخبر تعالى ، بعموم علمه ، وسعة اطلاعه ، وإحاطته بكل شيء فقال : (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) من بني آدم وغيرهم ، (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ) أي : تنقص مما فيها ، إما أن يهلك الحمل ، أو يتضاءل أو يضمحل ، (وَما تَزْدادُ) الأرحام وتكبر الأجنة التي فيها ، (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) لا يتقدم عليه ولا يتأخر ، ولا يزيد ، ولا ينقص إلا بما تقتضيه حكمته وعلمه.

[٩] فإنه (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ) في ذاته ، وأسمائه ، وصفاته (الْمُتَعالِ) على جميع خلقه ، بذاته وقدرته ، وقهره.

[١٠] (سَواءٌ مِنْكُمْ) في علمه وسمعه ، وبصره. (مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) أي : مستقر بمكان خفي فيه ، (وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) أي : داخل سربه في النهار ، والسرب هو : ما يستخفي فيه الإنسان ، إما جوف بيته ، أو غار ، أو مغارة ، أو نحو ذلك.

[١١] (لَهُ) أي : للإنسان (مُعَقِّباتٌ) من الملائكة ، يتعاقبون في الليل والنهار. (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) أي : يحفظون بدنه وروحه ، من كل من يريده بسوء ، ويحفظون عليه أعماله ، وهم ملازمون له دائما. فكما أن علم الله محيط به ، فالله قد أرسل هؤلاء الحفظة على العباد ، بحيث لا تخفى أحوالهم ولا أعمالهم ، ولا ينسى منها شيء ، (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ) من النعمة والإحسان ، ورغد العيش (حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) بأن ينتقلوا من الإيمان إلى الكفر ، ومن الطاعة إلى المعصية ، أو من شكر نعم الله إلى البطر بها ، فيسلبهم الله إياها عند ذلك. وكذلك إذا غير العباد ، ما بأنفسهم من المعصية ، فانتقلوا إلى طاعة الله ، غيّر الله عليهم ، ما كانوا فيه من الشقاء ، إلى الخير والسرور والغبطة والرحمة ، (وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً) أي : عذابا وشدة ، وأمرا يكرهونه ، فإن إرادته ، لا بد أن تنفذ فيهم. (ف) إنه (لا (مَرَدَّ لَهُ)) ولا أحد يمنعهم منه ، (وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) يتولى

٤٧٧

أمورهم ، فيجلب لهم المحبوب ، ويدفع عنهم المكروه ، فليحذروا من الإقامة على ما يكره الله ، خشية أن يحل بهم من العقاب ما لا يرد عن القوم المجرمين.

[١٢] يقول تعالى : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) أي : يخاف منه الصواعق والهدم ، وأنواع الضرر ، على بعض الثمار ونحوها ، ويطمع في خيره ونفعه ، (وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ) بالمطر الغزير ، الذي به نفع العباد والبلاد.

[١٣] (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) وهو الصوت ، الذي يسمع من السحاب المزعج للعباد ، فهو خاضع لربه ، مسبح بحمده ، (وَ) تسبح (الْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) أي : خشعا لربهم ، خائفين من سطوته ، (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ) وهي هذه النار ، التي تخرج من السحاب ، (فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ) من عباده ، بحسب ما شاءه وأراده (وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) أي : شديد الحول والقوة ، فلا يريد شيئا إلا فعله ، ولا يتعاصى عليه شيء ، ولا يفوته هارب.

[١٤] فإذا كان هو وحده ، الذي يسوق للعباد الأمطار والسحب ، التي فيها مادة أرزاقهم ، وهو الذي يدبر الأمور ، وتخضع له المخلوقات العظام ، التي يخاف منها ، وتزعج العباد ، وهو شديد القوة ـ فهو الذي يستحق أن يعبد وحده ولا شريك له ، ولهذا قال : (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ) إلى (إِلَّا فِي ضَلالٍ). (لَهُ) أي : لله وحده (دَعْوَةُ الْحَقِ) وهي : عبادته وحده لا شريك له وإخلاص دعاء العبادة ، ودعاء المسألة له تعالى. أي : هو الذي ينبغي أن يصرف له الدعاء ، والخوف والرجاء ، والحب ، والرغبة ، والرهبة ، والإنابة ، لأن ألوهيته ، هي الحقّ ، وألوهية غيره باطلة ، (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) من الأوثان ، والأنداد ، التي جعلوها شركاء لله. (لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ) أي : لمن يدعوها ويعبدها ، (بِشَيْءٍ) قليل ولا كثير ، لا من أمور الدنيا ، ولا من أمور الآخرة ، (إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ) الذي لا تناله كفاه لبعده ، (لِيَبْلُغَ) ببسط كفيه إلى الماء (فاهُ) ، فإنه عطشان ، ومن شدة عطشه ، يتناول بيده ويبسطها إلى الماء الممتنع وصولها إليه ، فلا يصل إليه. كذلك الكفار ، الّذين يدعون مع الله آلهة ، لا يستجيبون لهم بشيء ولا ينفعونهم في أشد الأوقات إليهم حاجة ، لأنهم فقراء ، كما أن من دعوهم فقراء ، لا يملكون مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء وما لهم فيهما من شرك ، وما له منهم من ظهير. (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) لبطلان ما يدعون من دون الله ، فبطلت عبادتهم ودعاؤهم ، لأن الوسيلة تبطل ببطلان غايتها ، ولما كان الله تعالى ، هو الملك الحقّ المبين ، كانت عبادته حقا ، متصلة النفع بصاحبها في الدنيا والآخرة. وتشبيه دعاء الكافرين لغير الله ، بالذي يبسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه من أحسن الأمثلة ؛ فإن ذلك تشبيه بأمر محال ، فكما أن هذا محال ، فالمشبه به محال ، والتعليق على المحال ، من أبلغ ما يكون في نفي الشيء كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ).

[١٥] أي جميع ما احتوت عليه السموات والأرض كلها ، خاضعة لربها ، تسجد له (طَوْعاً وَكَرْهاً). فالطوع لمن يأتي بالسجود والخضوع ، اختيارا ، كالمؤمنين ، والكره ، لمن يستكبر عن عبادة ربه ، وحاله وفطرته ، تكذبه في ذلك.

٤٧٨

(وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) أي : وتسجد له ظلال المخلوقات ، أول النهار وآخره ، وسجود كل شيء ، بحسب حاله كما قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ).

[١٦] فإذا كانت المخلوقات كلها تسجد لربها طوعا وكرها ، كان هو الإله حقا ، المعبود المحمود حقا ، والإلهية غيره باطلة ، ولهذا ذكر بطلانها وبرهن عليه بقوله : (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ) إلى (الْواحِدُ الْقَهَّارُ) ، أي : قل لهؤلاء المشركين به ، أوثانا وأندادا ، يحبونها كما يحبون الله ، ويبذلون لها أنواع التقربات والعبادات : أفتاهت عقولكم ، حتى اتخذتم من دونه أولياء ، تتولونهم بالعبادة ، وليسوا بأهل لذلك؟ فإنهم (لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) ، وتتركون ولاية من هو كامل الأسماء والصفات ، المالك للأحياء والأموات ، الذي بيده الخلق والتدبير ، والنفع والضر؟ فما تستوي عبادة الله وحده ، وعبادة المشركين به ، (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ)؟ فإن كان عندهم شك واشتباه ، وجعلوا له شركاء ، زعموا أنهم خلقوا كخلقه ، وفعلوا كفعله ، فأزل عنهم هذا الاشتباه واللبس ، بالبرهان الدال على تفرد الإله بالوحدانية ، فقل لهم : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) فإنه من المحال أن يخلق شيء من الأشياء نفسه. ومن المحال أيضا ، أن يوجد من دون خالق ، فتعين أن لها إلها خالقا ، لا شريك له في خلقه ، لأنه الواحد القهر ، فإنه لا توجد الوحدة والقهر ، إلا لله وحده ، فالمخلوقات وكل مخلوق ، فوقه مخلوق يقهره ثمّ فوق ذلك القاهر ، قاهر أعلى منه ، حتى ينتهي القهر للواحد القهار. فالقهر والتوحيد ، متلازمان ، متعينان لله وحده ، فتبين بالدليل العقلي القاهر ، أن ما يدعى من دون الله ، ليس له شيء من خلق المخلوقات ، وبذلك كانت عبادته باطلة.

[١٧] شبه تعالى الهدى ، الذي أنزل على رسوله لحياة القلوب والأرواح ، بالماء الذي أنزله لحياة الأشياء. وشبه ما في الهدى من النفع العام الكثير ، الذي يضطر إليه العباد ، بما في المطر من النفع العام الضروري ، وشبه القلوب الحاملة للهدى وتفاوتها ، بالأودية التي تسيل فيها السيول ، فواد كبير ، يسع ماء كثيرا ، كقلب كبير ، يسع علما كثيرا ، وواد صغير ، يأخذ ماء قليلا ، كقلب صغير ، يسع علما قليلا ، وهكذا. وشبه ما يكون في القلوب من الشهوات والشبهات ، عند وصول الحقّ إليها ، بالزبد الذي يعلو الماء ، ويعلو ما يوقد عليه النار من الحلية التي يراد تخليصها وسبكها ، وأنها لا تزال فوق الماء طافية مكدرة له ، حتى تذهب وتضمحل ، ويبقى ما ينفع الناس من الماء الصافي ، والحلية الخالصة. كذلك الشبهات والشهوات ، لا يزال القلب يكرهها ، ويجاهدها بالبراهين الصادقة ، والإرادات الجازمة ، حتى تذهب وتضمحل ، ويبقى القلب خالصا صافيا ، ليس فيه إلا ما ينفع الناس من العلم بالحق ، وإيثاره ، والرغبة فيه ، فالباطل يذهب ويمحقه الحقّ (إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) ، وقال هنا : (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) ليتضح الحقّ من الباطل والهدى من الضلال.

[١٨] لما بيّن تعالى ، الحقّ من الباطل ، ذكر أن الناس على قسمين : مستجيب لربه ، فذكر ثوابه ، وغير مستجيب ، فذكر عقابه فقال : (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ) أي : انقادت قلوبهم للعلم والإيمان ، وجوارحهم للأمر

٤٧٩

والنهي ، وصاروا موافقين لربهم فيما يريده منهم ، فلهم (الْحُسْنى) أي : الحالة الحسنة ، والثواب الحسن. فلهم من الصفات أجلّها ، ومن المناقب أفضلها. ومن الثواب العاجل والآجل ، ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ) بعد ما ضرب لهم الأمثال ، وبين لهم الحقّ ، لهم الحالة غير الحسنة ، و (لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) من ذهب وفضة وغيرها ، (وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ) من عذاب يوم القيامة ، ما تقبل منهم ، وأنّى لهم ذلك؟ (أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ) ، وهو الحساب الذي يأتي على كل ما أسلفوه ، من عمل سيّىء ، وما ضيعوه من حقوق عباده قد كتب ذلك ، وسطر عليهم ، وقالوا : (يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً). (وَ) بعد هذا الحساب السيّء (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) الجامعة لكل عذاب ، من الجوع الشديد ، والعطش الوجيع ، والنار الحامية ، والزقوم ، والزمهرير ، والضريع ، وجميع ما ذكره الله من أصناف العذاب ، (وَبِئْسَ الْمِهادُ) أي : المقر ، والمسكن ، مسكنهم.

[١٩ ـ ٢٠] يقول تعالى : مفرقا بين أهل العلم والعمل وبين ضدهم : (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُ) ففهم ذلك ، وعمل به. (كَمَنْ هُوَ أَعْمى) لا يعلم الحقّ ، ولا يعمل به ، فبينهما من الفرق ، كما بين السماء والأرض ، فحقيق بالعبد أن يتذكر ويتفكر ، أيّ الفريقين أحسن حالا ، وخير مآلا ، فيؤثر طريقها ، ويسلك خلف فريقها ، ولكن ما كل أحد يتذكر ما ينفعه ويضره. (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي : أولو العقول الرزينة ، والآراء الكاملة ، الّذين هم ، لبّ العالم ، وصفوة بني آدم ، فإن سألت عن وصفهم ، فلا تجد أحسن من وصف الله لهم بقوله : (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ) الذي عهده إليهم ، والذي عاهدهم عليه من القيام بحقوقه كاملة موفرة ، فالوفاء بها ، توفيتها حقها ، من التنمية لها ، والنصح فيها ، (وَ) تمام الوفاء بها ، أنهم (لا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) أي : العهد الذي عاهدوا الله عليه ، فدخل في ذلك ، جميع المواثيق والعهود ، والأيمان والنذور ، التي يعقدها العباد. فلا يكون العبد من أولي الألباب ، الّذين لهم الثواب العظيم ، إلا بأدائها كاملة ، وعدم نقضها وبخسها.

[٢١] (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) وهذا عام في كلّ ما أمر الله بوصله ، من الإيمان به ، وبرسوله ، ومحبته ، ومحبة رسوله ، والانقياد لعبادته وحده لا شريك له ، ولطاعة رسوله. ويصلون آباءهم وأمهاتهم ، ببرهم بالقول والفعل ، وعدم عقوقهم ، ويصلون الأقارب والأرحام ، بالإحسان إليهم ، قولا وفعلا. ويصلون ما بينهم وبين الأزواج ، والأصحاب ، والمماليك ، بأداء حقهم ، كاملا موفرا ، من الحقوق الدينية والدنيوية. والسبب الذي يجعل العبد واصلا ما أمر الله به ، أن يوصل خشية الله ، وخوف يوم الحساب ، ولهذا قال : (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) أي : يخافونه ، فيمنعهم خوفهم منه ، ومن القدوم عليه يوم الحساب ، أن يتجرأوا على معاصي الله ، أو يقصروا في شيء مما أمر الله به ، خوفا من العقاب ، ورجاء للثواب.

[٢٢ ـ ٢٤] (وَالَّذِينَ صَبَرُوا) على المأمورات بامتثالها ، وعن المنهيات بالانكفاف عنها ، والبعد منها ، وعلى أقدار

٤٨٠