تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي

تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

المؤلف:

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ١١٣٥

جهله وعدوانه ، قدرة الله على خلق عظامه التي هي عماد البدن ، فرد عليه بقوله :

[٤] (بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) (٤) ، أي : أطراف أصابعه وعظامه ، وذلك مستلزم لخلق جميع أجزاء البدن ، لأنها إذا وجدت الأنامل والبنان ، فقد تمت خلقة الجسد ، وليس إنكاره لقدرة الله تعالى قصورا بالدليل الدال على ذلك ، وإنما وقع ذلك منه ، لأن إرادته وقصده ، التكذيب بما أمامه من البعث. والفجور : الكذب مع التعمد.

[٧] ثمّ ذكر أحوال القيامة فقال : (فَإِذا بَرِقَ) ، إلى : (مَعاذِيرَهُ). أي : (فَإِذا) كانت القيامة (بَرِقَ الْبَصَرُ) من الهول العظيم ، وشخص فلا يطرف كما قال تعالى : (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) (٤٣).

[٨] (وَخَسَفَ الْقَمَرُ) (٨) ، أي : ذهب نوره وسلطانه.

[٩] (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) (٩) وهما لم يجتمعا منذ خلقهما الله تعالى ، فيجمع الله بينهما يوم القيامة ، ويخسف القمر ، وتكور الشمس ، ويقذفان في النار ، ليرى العباد ، أنهما عبدان مسخران ، وليرى من عبدهما ، أنهم كانوا كاذبين.

[١٠] (يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ) ، أي :

حين يرى تلك القلاقل المزعجات : (أَيْنَ الْمَفَرُّ)؟ أي : أين الخلاص والفكاك ، مما طرقنا وألمّ بنا؟

[١١] (كَلَّا لا وَزَرَ) (١١) ، أي : لا ملجأ لأحد دون الله.

[١٢] (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) (١٢) لسائر العباد ، فليس في إمكان أحد ، أن يستتر أو يهرب عن ذلك الموضع ، بل لا بد من إيقافه ، ليجزى بعمله.

[١٣] ولهذا قال : (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) (١٣) ، أي : بجميع عمله الحسن والسيّء ، في أول وقته وآخره ، وينبأ بخبر لا ينكره.

[١٤] (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) (١٤) ، أي : شاهد ومحاسب.

[١٥] (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) (١٥) فإنها معاذير لا تقبل ، بل يقرر بعمله ، فيقرّ به ، كما قال تعالى : (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (١٤). فالعبد وإن أنكر ، أو اعتذر عما عمله ، فإنكاره واعتذاره ، لا يفيدانه شيئا ، لأنه يشهد عليه سمعه وبصره ، وجميع جوارحه بما كان يعمل ، ولأن استعتابه ، قد ذهب وقته ، وزال نفعه : (فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) (٥٧).

[١٦] كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا جاءه جبريل بالوحي ، وشرع في تلاوته ، بادره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من الحرص قبل أن يفرغ ، وتلاه مع تلاوة جبريل إياه ، فنهاه الله عن ذلك ، وقال : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ). وقال هنا : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) (١٦) ، ثمّ ضمن له تعالى ، أنه لا بد أن يحفظه ويقرأه ، ويجمعه الله في صدره فقال :

[١٧] (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) (١٧) فالحرص الذي في خاطرك ، إنما الداعي له حذر الفوات والنسيان ، فإذا ضمنه الله لك ، فلا موجب لذلك.

[١٨] (فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) (١٨) ، أي : إذا أكمل جبريل ما يوحى إليك ، فحينئذ اتبع ما قرأه فاقراه.

[١٩] (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) (١٩) ، أي : بيان معانيه ، فوعده بحفظ لفظه ، وحفظ معانيه ، وهذا أعلى ما يكون ، فامتثل صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأدب ربه ، فكان إذا تلا عليه جبريل القرآن بعد هذا ، أنصت له ، فإذا فرغ قرأه. وفي هذه الآية ، أدب لأخذ العلم ، أن لا يبادر المتعلم للعلم ، قبل أن يفرغ المعلم من المسألة التي شرع فيها ، فإذا فرغ

١٠٨١

منها ، سأله عما أشكل عليه. وكذلك إذا كان في أول الكلام ما يوجب الرد أو الاستحسان ، أن لا يبادر برده أو قبوله ، قبل الفراغ من ذلك الكلام ، ليتبين ما فيه من حق أو باطل ، وليفهمه فهما يتمكن فيه من الكلام فيه على وجه الصواب. وفيها : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما بين للأمة ألفاظ الوحي ، فإنه قد بين لهم معانيه.

[٢٠ ـ ٢١] أي : هذا الذي أوجب لكم الغفلة والإعراض عن وعظ الله وتذكيره أنكم (تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) وتسعون فيما يحصلها ، وفي لذاتها وشهواتها ، وتؤثرونها على الآخرة ، فتذرون العمل لها ؛ لأن الدنيا نعيمها ولذاتها عاجلة ، والإنسان مولع بحب العاجل ، والآخرة متأخر ما فيها من النعيم المقيم ، فلذلك غفلتم عنها ، وتركتموها ، كأنكم لم تخلقوا لها ، وكأن هذه الدار هي دار القرار ، التي تبذل فيها نفائس الأعمار ، ويسعى لها آناء الليل والنهار ، وبهذا انقلبت عليكم الحقيقة ، وحصل من الخسار ما حصل. فلو آثرتم الآخرة على الدنيا ، ونظرتم العواقب نظر البصير العاقل ، لنجحتم ، وربحتم ربحا لا خسار معه ، وفزتم فوزا لا شقاء يصحبه.

[٢٢] ثمّ ذكر ما يدعو إلى إيثار الآخرة ، ببيان حال أهلها وتفاوتهم فيها ، فقال في جزاء المؤثرين للآخرة على الدنيا : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) (٢٢) ، أي : حسنة بهية ، لها رونق ونور ، مما هم فيه من نعيم القلوب ، وبهجة النفوس ، ولذة الأرواح.

[٢٣] (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (٢٣) أي : ينظرون إلى ربهم ، على حسب مراتبهم. ومنهم من ينظره كلّ يوم بكرة وعشيا ، ومنهم من ينظر كلّ جمعة مرة واحدة ، فيتمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم ، وجماله الباهر ، الذي ليس كمثله شيء ، فإذا رأوه نسوا ما هم فيه من النعيم ، وحصل لهم من اللذة والسرور ، ما لا يمكن التعبير عنه ، ونضرت وجوههم ، فازدادوا جمالا إلى جمالهم ، فنسأل الله الكريم أن يجعلنا منهم. وقال في المؤثرين العاجلة على الآجلة :

[٢٤] (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ) (٢٤) ، أي : معبسة كدرة ، خاشعة ذليلة

[٢٥] (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) (٢٥) ، أي :

عقوبة شديدة ، وعذاب أليم ، فلذلك تغيرت وجوههم وعبست.

[٢٦] يعظ تعالى عباده ، بذكر المحتضر حال السياق ، وأنه إذا بلغت روحه التراقي ، وهي العظام المكتنفة لثغرة النحر. فحينئذ يشتد الكرب ، ويطلب كلّ وسيلة وسبب ، يظن أن يحصل به الشفاء والراحة.

[٢٧] ولهذا قال : (وَقِيلَ مَنْ راقٍ) (٢٧) ، أي : من يرقيه ، من الرقية ، لأنهم انقطعت آمالهم من الأسباب العادية ، فتعلقوا بالأسباب الإلهية. ولكن القضاء والقدر ، إذا حتم وجاء فلا مرد له.

[٢٨] (وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ) (٢٨) للدنيا.

[٢٩] (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) (٢٩) ، أي : اجتمعت الشدائد ، والتفت ، وعظم الأمر وصعب الكرب ، وأريد أن تخرج الروح من البدن ، الذي ألفته ، ولم تزل معه ، فتساق إلى الله تعالى ، ليجازيها بأعمالها ويقررها بفعالها. فهذا الزجر الذي ذكره الله ، يسوق القلوب إلى ما فيه نجاتها ، ويزجرها عما فيه هلاكها. ولكن المعاند الذي لا تنفع فيه الآيات ، لا يزال مستمرا على غيه ، وكفره وعناده.

[٣١ ـ ٣٢] (فَلا صَدَّقَ) ، أي : لا آمن بالله وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، والقدر خيره وشره. (وَلا صَلَّى (٣٢) وَلكِنْ كَذَّبَ) بالحق في مقابلة التصديق (وَتَوَلَّى) عن الأمر والنهي ، هذا وهو

١٠٨٢

مطمئن قلبه ، غير خائف من ربه.

[٣٣] (ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) (٣٣) ، أي : ليس على باله شيء.

[٣٤ ـ ٣٥] ثمّ توعده بقوله : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) (٣٥) وهذه كلمات وعيد كررها لتكرير وعيده.

[٣٦] ثمّ ذكّر الإنسان بخلقه الأول ، فقال : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) (٣٦) ، أي : مهملا ، لا يؤمر ولا ينهى ، ولا يثاب ولا يعاقب؟ هذا حسبان باطل ، وظن بالله غير ما يليق بحكمته.

[٣٧ ـ ٣٨] (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ) بعد المني (عَلَقَةً) أي : دما (فَخَلَقَ) الله منها الحيوان (فَسَوَّى) أي :

أتقنه وأحكمه.

[٣٩ ـ ٤٠] (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ) ، أي : الذي خلق الإنسان وطوره إلى هذه الأطوار المختلفة (بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) ، بلى إنه على كلّ شيء قدير. تم تفسير سورة القيامة.

سورة الإنسان

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] ذكر الله في هذه السورة ، أول حال الإنسان ومنتهاها ومتوسطها. فذكر أنه مر عليه (حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) طويل ، وهو الذي قبل وجوده ، وهو معدوم (لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً).

[٢] ثمّ لما أراد خلقه خلق أباه آدم من طين ، ثمّ جعل نسله متسلسلا (مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) ، أي : ماء مهين مستقذر (نَبْتَلِيهِ) بذلك ، لنعلم هل يرى حاله الأولى ، ويتفطن لها أم ينساها وتغره نفسه؟ فأنشأه الله ، وخلق له القوى الظاهرة والباطنة ، كالسمع والبصر ، وسائر الأعضاء فأتمها له وجعلها سالمة ، يتمكن بها من تحصيل مقاصده.

[٣] ثمّ أرسل إليه الرسل ، وأنزل عليه الكتب ، وهداه الطريق الموصلة إليه ، وبيّنها ، ورغّبه فيها ، وأخبره بما له عند الوصول إليه. ثمّ أخبره بالطريق الموصلة إلى الهلاك ، ورهّبه عنها ، وأخبره بما له ، إذا سلكها ، وابتلاه بذلك ، فانقسم الناس إلى شاكر لنعمة الله عليه ، قائم بما حمله الله من حقوقه. وإلى كفور للنعم ، أنعم الله عليه بالنعم الدينية والدنيوية ، فردّها ، وكفر بربه ، وسلك الطريق الموصلة إلى الهلاك.

[٤] أي : إنا هيأنا ، وأرصدنا لمن كفر بالله ، وكذب رسله ، وتجرأ على معاصيه. (سَلاسِلَ) في نار جهنم ، كما قال تعالى : (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) (٣٢). (وَأَغْلالاً) تغل بها أيديهم إلى أعناقهم ، ويوثقون بها. (وَسَعِيراً) ، أي : نارا تستعر بها أجسامهم ، وتحرق بها أبدانهم ، (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ). وهذا العذاب الدائم ، مؤبد لهم ، مخلدون فيه سرمدا.

[٥] وأما (الْأَبْرارَ) وهم : الّذين برت قلوبهم ، بما فيها من معرفة الله ومحبته ، والأخلاق الجميلة ، فبرت أعمالهم ، واستعملوها بأعمال البر. فأخبر أنهم (يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ) ، أي : شراب لذيذ من خمر قد مزج بكافور ، أي : خلط به ، ليبرده ، ويكسر حدته ، وهذا الكافور في

١٠٨٣

غاية اللذة ، قد سلم من كلّ مكدر ومنغص موجود في كافور الدنيا ، فإن الآفة الموجودة في الدنيا ، تعدم من الأسماء التي ذكرها الله في الجنة. كما قال تعالى : (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) (٢٩) ، (وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) ، (لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ، (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ).

[٦] (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) ، أي : ذلك الكأس اللذيذ ، الذي يشربونه ، لا يخافون نفاده ، بل له مادة لا تنقطع ، وهي عين دائمة الفيضان والجريان ، يفجرها عباد الله تفجيرا ، أنى شاءوا ، وكيف أرادوا. فإن شاؤوا صرفوها إلى البساتين الزاهرات ، أو إلى الرياض النضرات ، أو بين جوانب القصور ، والمساكن المزخرفات ، أو إلى أي جهة يرونها من الجهات المونقات.

[٧] ثمّ ذكر جملة من أعمالهم ، فقال : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) ، أي : بما ألزموا به أنفسهم من النذور والمعاهدات. وإذا كانوا يوفون بالنذر ، الذي هو غير واجب في الأصل عليهم ، إلا بإيجابهم على أنفسهم ، كان فعلهم وقيامهم بالفروض الأصلية ، من باب أولى وأحرى. (وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) ، أي : قاسيا منتشرا. فخافوا أن ينالهم شره ، فتركوا كل سبب موجب لذلك.

[٨] (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) أي : وهم في حال يحبون فيها المال والطعام ، ولكنهم قدموا محبة الله على محبة نفوسهم ، ويتحرون في إطعامهم ، أولى الناس وأحوجهم (مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً).

[٩] ويقصدون بإنفاقهم وإطعامهم ، وجه الله تعالى ، ويقولون بلسان الحال : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) (٩) ، أي : لا جزاء ماليا ، ولا ثناء قوليا.

[١٠] (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً) ، أي : شديد الجهمة والشر (قَمْطَرِيراً) ، أي : ضنكا ضيقا.

[١١] (فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ) فلا يحزنهم الفزع الأكبر ، وتتلقاهم الملائكة ، هذا يومكم الذي كنتم توعدون.

(وَلَقَّاهُمْ) ، أي : أكرمهم وأعطاهم (نَضْرَةً) في وجوههم (وَسُرُوراً) في قلوبهم ، فجمع لهم بين نعيم الظاهر والباطن.

[١٢] (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا) على طاعته ، فعملوا ما أمكنهم منها ، وعن معاصيه ، فتركوها ، وعلى أقداره المؤلمة ، فلم يتسخطوها. (جَنَّةً) جامعة لكل نعيم ، سالمة من كلّ مكدر ومنغص. (وَحَرِيراً) كما قال تعالى : (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ). ولعل الله إنما خص الحرير ، لأنه لباسهم الظاهر ، الدال على حال صاحبه.

[١٣] (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) الاتكاء : التمكن من الجلوس ، في حال الطمأنينة ، والراحة ، والرفاهية ، والأرائك هي : السرر التي عليها اللباس المزين. (لا يَرَوْنَ فِيها) ، أي : في الجنة (شَمْساً) يضرهم حرها ، (وَلا زَمْهَرِيراً) ، أي : بردا شديدا ، بل جميع أوقاتهم في ظل ظليل ، لا حر ولا برد ، بحيث تلتذ به الأجساد ، ولا تتألم من حر ولا برد.

[١٤] (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً) (١٤) ، أي : قربت ثمراتها من مريدها ، تقريبا ينالها وهو قائم ، أو قاعد ، أو مضطجع.

[١٥ ـ ١٦] (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ) ، أي : يدور الولدان والخدم على أهل الجنة (بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٦) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ) ، أي : مادتها فضة ، وهي على صفاء القوارير ، وهذا من أعجب الأشياء ، أن تكون الفضة الكثيفة ، من صفاء جوهرها ، وطيب معدنها ، على صفاء القوارير. (قَدَّرُوها تَقْدِيراً) ، أي : قدروا الأواني

١٠٨٤

المذكورة على قدر ريّهم ، لا تزيد ولا تنقص ، لأنها لو زادت نقصت لذتها ، ولو نقصت لم تكفهم لريهم. ويحتمل أن المراد : قدرها أهل الجنة بمقدار ، يوافق لذاتهم ، فأتتهم على ما قدروا في خواطرهم.

[١٧] (وَيُسْقَوْنَ فِيها) ، أي : الجنة (كَأْساً) وهو الإناء من خمر ورحيق ، (كانَ مِزاجُها) ، أي : خلطها (زَنْجَبِيلاً) ليطيب طعمه وريحه.

[١٨] (عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) (١٨) سميت بذلك لسلاستها ولذتها وحسنها.

[١٩] (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ) ، أي : على أهل الجنة ، في طعامهم وشرابهم وخدمتهم. (وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) ، أي : خلقوا من الجنة للبقاء ، لا يتغيرون ولا يكبرون ، وهم في غاية الحسن. (إِذا رَأَيْتَهُمْ) منتشرين في خدمتهم (حَسِبْتَهُمْ) من حسنهم (لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) وهذا من تمام لذة أهل الجنة ، أن يكون خدامهم الولدان المخلدون ، الّذين تسر رؤيتهم ، ويدخلون في مساكنهم ، آمنين من تبعتهم ، ويأتونهم بما يدعون ، وتطلبه نفوسهم.

[٢٠] (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَ) ، أي : رمقت ما أهل الجنة عليه من النعيم الكامل. (رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) فتجد الواحد منهم ، عنده من المساكن والغرف المزينة المزخرفة ، ما لا يدركه الوصف. ولديه من البساتين الزاهرة ، والثمار الدانية ، والفواكه اللذيذة ، والأنهار الجارية ، والرياض المعجبة ، والطيور المطربة المشجية ، ما يأخذ بالقلوب ، ويفرح النفوس. وعنده من الزوجات ، اللاتي في غاية الحسن والإحسان ، الجامعات لجمال الظاهر والباطن ، الخيرات الحسان ، ما يملأ القلب سرورا ، ولذة وحبورا. وحوله من الولدان المخلدين ، والخدم المؤبدين ، ما به تحصل الراحة والطمأنينة ، وتتم لذة العيش ، وتكمل الغبطة. ثمّ علاوة ذلك ومعظمه ، الفوز برضا الرب الرحيم ، وسماع خطابه ، ولذة قربه ، والابتهاج برضاه ، والخلود الدائم ، وتزايد ما هم فيه من النعيم ، كل وقت وحين. فسبحان مالك الملك ، الحقّ المبين ، الذي لا تنفد خزائنه ، ولا يقل خيره ، فكما لا نهاية لأوصافه ، فلا نهاية لبره وإحسانه.

[٢١] (عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ) ، أي : قد جللتهم ثياب السندس والإستبرق الأخضران اللذان هما أجلّ أنواع الحرير ، فالسندس : ما غلظ من الحرير ، والإستبرق : ما رقّ منه. (وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) ، أي : حلوا في أيديهم أساور ، ذكورهم وإناثهم ، وهذا وعد وعدهم الله ، وكان وعده مفعولا ، لأنه لا أصدق منه قيلا ولا حديثا. وقوله : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) ، أي : لا كدر فيه بوجه من الوجوه ، مطهرا لما في بطونهم من كلّ أذى وقذى.

[٢٢] (إِنَّ هذا) الجزاء الجزيل (كانَ لَكُمْ جَزاءً) على ما أسلفتموه ، من الأعمال. (وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) أي : القليل منه ، يجعل الله لكم به ، من النعيم ، ما لا يمكن حصره.

[٢٣] وقوله تعالى لما ذكر نعيم الجنة (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً) (٢٣) ، وفيه الوعد والوعيد ، وبيان كلّ ما يحتاجه العباد. وفيه الأمر بالقيام بأوامره وشرائعه أتمّ القيام ، والسعي في تنفيذها ، والصبر على ذلك.

[٢٤] ولهذا قال : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) (٢٤) ، أي : اصبر لحكمه القدري ، فلا تسخطه ، ولحكمه الديني ، فامض عليه ، ولا يعوقنك عنه عائق. (وَلا تُطِعْ) من المعاندين ، الّذين يريدون أن يصدوك (آثِماً) ، أي : فاعلا

١٠٨٥

إثما ومعصية (أَوْ كَفُوراً) ، فإن طاعة الكفار والفجار والفساق ، لا بد أن تكون معصية لله ، فإنهم لا يأمرون إلا بما تهواه أنفسهم.

[٢٥] ولما كان الصبر يستمد من القيام بطاعة الله ، والإكثار من ذكره ، أمر الله بذلك ، فقال : (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٢٥) ، أي : أول النهار وآخره ، فدخل في ذلك الصلوات المكتوبات وما يتبعها من النوافل ، والذكر ، والتسبيح ، والتهليل ، والتكبير في هذه الأوقات.

[٢٦] (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ) ، أي : أكثر له من السجود ، وذلك متضمن لكثرة الصلاة. (وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) ، وقد تقدم تقييد هذا المطلق بقوله : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ).

[٢٧] وقوله : (إِنَّ هؤُلاءِ) ، أي : المكذبين لك أيها الرسول ، بعد ما بينت لهم الآيات ، ورغبوا ورهبوا ، ومع ذلك ، لم يفد فيهم ذلك شيئا بل لا يزالون (يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) ويطمئنون إليها. (وَيَذَرُونَ) ، أي : يتركون العمل ، ويهملون (وَراءَهُمْ) أي : أمامهم (يَوْماً ثَقِيلاً) وهو يوم القيامة ، الذي مقداره خمسون ألف سنة مما تعدون. وقال تعالى : (يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ). فكأنهم ما خلقوا إلا للدنيا ، والإقامة فيها.

[٢٨] ثم استدل عليهم وعلى بعثهم بدليل عقلي ، وهو دليل الابتداء ، فقال : (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ) ، أي : أوجدناهم من العدم (وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) ، أي : أحكمنا خلقتهم بالأعصاب ، والعروق ، والأوتار ، والقوى الظاهرة والباطنة ، حتى تم الجسم واستكمل ، وتمكن من كل ما يريده. فالذي أوجدهم على هذه الحالة ، قادر على أن يعيدهم بعد موتهم ، لجزائهم ، والذي نقلهم في هذه الدار إلى هذه الأطوار ، لا يليق به أن يتركهم سدى ، لا يؤمرون ، ولا ينهون ، ولا يثابون ، ولا يعاقبون ، ولهذا قال : (وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً) ، أي : أنشأناهم للبعث نشأة أخرى ، وأعدناهم بأعيانهم ، وهم بأنفسهم أمثالهم.

[٢٩] (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ) ، أي : يتذكر بها المؤمن ، فينتفع بما فيها ، من التخويف والترغيب. (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) ، أي : طريقا موصلا إليه. فالله ، يبين الحق والهدى ، ثم يخير الناس بين الاهتداء بها ، والنفور عنها ، إقامة للحجة (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)

[٣٠] (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) فإن مشيئة الله نافذة. (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) فله الحكمة في هداية المهتدي ، وإضلال الضال.

[٣١] (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) فيختصه بعنايته ، ويوفقه لأسباب السعادة ويهديه لطرقها. (وَالظَّالِمِينَ) الذين اختاروا الشقاء على الهدى (أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) بظلمهم وعدوانهم. تم تفسير سورة الإنسان ـ ولله الحمد.

١٠٨٦

سورة المرسلات

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] أقسم تعالى على البعث والجزاء على الأعمال ، بالمرسلات عرفا ، وهي : الملائكة التي يرسلها الله بشؤونه القدرية ، وتدبير العالم وبشؤونه الشرعية ، ووحيه إلى رسله. و (عُرْفاً) حال من المرسلات ، أي : أرسلت بالعرف ، والحكمة ، والمصلحة ، لا بالنكر والعبث.

[٢] (فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً) (٢) وهي أيضا الملائكة التي يرسلها الله تعالى ، وصفها بالمبادرة لأمره ، وسرعة تنفيذ أوامره ، كالريح العاصف. أو : أن العاصفات ، الرياح الشديدة ، التي يسرع هبوبها.

[٣] (وَالنَّاشِراتِ نَشْراً) (٣) يحتمل أن المراد بها الملائكة ، تنشر ما دبرت على نشره ، أو أنها : السحاب التي ينشر بها الله الأرض ، فيحييها بعد موتها.

[٥] (فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) (٥) هي الملائكة ، تلقي أشرف الأوامر ، وهي الذكر الذي يرحم الله به عباده ، ويذكرهم فيه منافعهم ومصالحهم ، تلقيه إلى الرسل.

[٦] (عُذْراً أَوْ نُذْراً) (٦) ، أي : إعذارا ، أو إنذارا للناس ، تنذر الناس ما أمامهم من المخاوف ، وتقطع أعذارهم ، فلا يكون لهم حجة على الله.

[٧] (إِنَّما تُوعَدُونَ) من البعث والجزاء على الأعمال (لَواقِعٌ) ، أي : متحتم وقوعه ، من غير شك ولا ارتياب. فإذا وقع حصل من التغير والأهوال الشديدة للعالم ، ما يزعج القلوب وتشتد له الكروب ، فتنطمس النجوم ، أي : تتناثر وتزول عن أماكنها وتنسف الجبال ، فتكون كالهباء المنثور ، وتكون هي والأرض قاعا صفصفا ، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا. وذلك اليوم هو اليوم الذي أقتت فيه الرسل ، وأجلت للحكم بينها وبين أممها ولهذا قال :

[١٢] (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) (١٢) استفهام للتعظيم والتفخيم ، والتهويل.

[١٣] ثم أجاب بقوله : (لِيَوْمِ الْفَصْلِ) (١٣) ، أي : بين الخلائق ، بعضهم من بعض ، وحساب كل منهم منفردا. ثم توعد المكذب بهذا اليوم ، فقال : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (١٥) ، أي : يا حسرتهم وشدة عذابهم ، وسوء منقلبهم ، أخبرهم الله ، وأقسم لهم ، فلم يصدقوه ، فلذلك استحقوا العقوبة البليغة.

[١٦] أي : أما أهلكنا المكذبين السابقين ، ثم نتبعهم بإهلاك من كذب من الآخرين ، وهذه سنته السابقة واللاحقة ، في كل مجرم لا بد من عقابه ، فلم لا تعتبرون بما ترون وتسمعون؟.

[١٩] (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (١٩) بعد ما شاهدوا من الآيات البينات ، والعقوبات والمثلات.

[٢٠ ـ ٢١] أي : أما خلقناكم أيها الآدميون (مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) ، أي : في غاية الحقارة ، خرج من بين الصلب والترائب ، حتى جعله الله (فِي قَرارٍ مَكِينٍ) وهو الرحم ، به يستقر وينمو.

[٢٢] (إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) (٢٢) ووقت مقدر.

[٢٣] (فَقَدَرْنا) ، أي : قدرنا ودبرنا ذلك الجنين ، في تلك الظلمات ، ونقلناه من النطفة إلى العلقة ، إلى المضغة ، إلى أن جعله الله جسدا ، ونفخ فيه الروح ومنهم من يموت قبل ذلك. (فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) يعني بذلك ، نفسه المقدسة ، لأن

١٠٨٧

قدره ، تابع لحكمته ، موافق للحمد.

[٢٤] (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٢٤).

[٢٥] أي : أما مننّا عليكم ، وأنعمنا ، بتسخير الأرض لمصالحكم ، فجعلناها (كِفاتاً) لكم.

[٢٦] (أَحْياءً) في الدور (وَأَمْواتاً) في القبور ، فكما أن الدور والقصور من نعم الله على عباده ومنته ، فكذلك القبور ، رحمة في حقهم ، وستر لهم ، عن كون أجسادهم بادية للسباع وغيرها.

[٢٧] (وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ) ، أي : جبالا ترسي الأرض ، لئلا تميد بأهلها ، فثبتها الله بالجبال الراسيات الشامخات ، أي : الطوال العراض. (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) ، أي : عذبا زلالا ، قال تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ) (٧٠).

[٢٨] (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٢٨) مع ما أراهم الله من النعم ، الّتي انفرد بها ، واختصهم بها ، فقابلوها بالتكذيب.

[٢٩] هذا من الويل ، الذي أعد للمجرمين المكذبين ، أن يقال لهم يوم القيامة : [٢٩] (انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) (٢٩) ثمّ فسر ذلك بقوله : [٣٠] (انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) (٣٠) ، أي : إلى ظل نار جهنم ، الّتي تتمايز في خلاله ثلاث شعب ، أي : قطع من النار ، تتعاوره وتتناوبه ، وتجتمع به. [٣١] (لا ظَلِيلٍ) ذلك الظل ، أي : لا راحة فيه ، ولا طمأنينة. (وَلا يُغْنِي) من مكث فيه (مِنَ اللهَبِ) ، بل اللهب قد أحاط به ، يمنة ويسرة ، ومن كلّ جانب ، كما قال تعالى : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) ، (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) (٤١). ثمّ ذكر عظيم شرر النار ، الدال على عظمها وفظاعتها ، وسوء منظرها ، فقال :

[٣٢] (إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ) (٣٣) وهي : السود الّتي تضرب إلى لون فيه صفرة ، وهذا يدل على أن النار مظلمة ، لهبها وجمرها وشررها ، وأنها سوداء ، كريهة المنظر ، شديدة الحرارة ، نسأل الله العافية منها ، ومن الأعمال المقربة منها. [٣٤] (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٣٤).

[٣٥] أي : هذا اليوم العظيم الشديد على المكذبين ، لا ينطقون فيه من الخوف والوجل الشديد.

[٣٦] (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) (٣٦) ، أي : لا تقبل معذرتهم ، ولو اعتذروا : (فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) (٥٧).

[٣٨] (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ) (٣٨) لنفصل بينكم ، ونحكم بين الخلائق.

[٣٩] (فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ) تقدرون على الخروج به عن ملكي ، وتنجون من عذابي ، (فَكِيدُونِ) ، أي : ليس لكم قدرة ولا سلطان ، كما قال تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) (٣٣). ففي ذلك اليوم ، تبطل حيل الظالمين ، ويضمحل مكرهم وكيدهم ، ويستسلمون لعذاب الله ، ويبين لهم كذبهم في تكذيبهم

[٤٠] (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٤٠).

[٤١] لما ذكر عقوبة المكذبين ، ذكر مثوبة المحسنين ، فقال : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) ، أي : للتكذيب ، المتصفين بالتصديق ، في أقوالهم وأفعالهم وأعمالهم. ولا يكونون كذلك ، إلا بأدائهم الواجبات ، وتركهم المحرمات. (فِي ظِلالٍ) من كثرة الأشجار المتنوعة ، الزاهرة البهية. (وَعُيُونٍ) جارية من السلسبيل ، والرحيق وغيرهما.

١٠٨٨

[٤٢] (وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ) (٤٢) ، أي : من خيار الفواكه وأطيبها ، ويقال لهم : (كُلُوا وَاشْرَبُوا) من المآكل الشهية ، والأشربة اللذيذة ، (هَنِيئاً) ، أي : من غير منغص ولا مكدر. ولا يتم هناؤه ، حتى يسلم الطعام والشراب ، من كل آفة ونقص ، وحتى يجزموا أنه غير منقطع ، ولا زائل. (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فأعمالكم ، هي السبب الموصل لكم إلى جنات النعيم المقيم. وهكذا كلّ من أحسن في عبادة الله ، وأحسن إلى عباد الله ، ولهذا قال : [٤٤ ـ ٤٥] (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٤٥) ، ولو لم يكن من هذا الويل ، إلا فوات هذا النعيم ، لكفى به حزنا وحرمانا.

[٤٦] هذا تهديد ووعيد للمكذبين ، أنهم وإن أكلوا في الدنيا ، وشربوا وتمتعوا باللذات ، وغفلوا عن القربات ، فإنهم مجرمون ، يستحقون ما يستحقه المجرمون ، فتنقطع عنهم اللذات ، وتبقى عليهم التبعات.

[٤٨] ومن إجرامهم أنهم إذا أمروا بالصلاة ، الّتي هي أشرف العبادات ، و (قِيلَ لَهُمُ : ارْكَعُوا) امتنعوا من ذلك. فأي إجرام فوق هذا؟ وأي تكذيب يزيد على هذا؟

[٤٩] (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٤٩) ، ومن الويل عليهم أنهم تنسد عنهم أبواب التوفيق ، ويحرمون كلّ خير ، فإنهم إذا كذبوا هذا القرآن ، الذي هو أعلى مراتب الصدق واليقين على الإطلاق.

[٥٠] (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (٥٠) ، أبالباطل ، الذي هو كاسمه ، لا يقوم عليه شبهة فضلا عن الدليل؟ أم بكلام مشرك كذاب ، أفاك مبين؟ فليس بعد النور المبين ، إلا دياجي الظلمات ، ولا بعد التصديق ، الذي قامت عليه الأدلة والبراهين القاطعة ، إلا الإفك الصراح ، والكذب المبين الذي لا يليق إلا بمن يناسبه. فتبّا لهم ، ما أعماهم وويحا لهم ما أخسرهم وأشقاهم نسأل الله العفو والعافية ، إنه جواد كريم. تم تفسير سورة المرسلات ـ ولله الحمد.

تفسير سورة النبأ

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣] أي : عن أي شيء يتساءل المكذبون بآيات الله؟ ثمّ بيّن ما يتساءلون عنه فقال : (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) (٣) ، أي : عن الخبر العظيم ، الذي طال فيه نزاعهم وانتشر فيه خلافهم على وجه التكذيب والاستبعاد ، وهو النبأ الذي لا يقبل الشك ، ولا يدخله الريب ، ولكن المكذبين بلقاء ربهم لا يؤمنون ، ولو جاءتهم كل آية ، حتى يروا العذاب الأليم.

[٤ ـ ٥] ولهذا قال : (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (٤) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) (٥) ، أي : سيعلمون إذا نزل بهم العذاب ، ما كانوا به يكذبون ، حين يدعّون إلى نار جهنم دعّا. ويقال لهم : (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) (١٤).

١٠٨٩

[٦] ثمّ ذكر تعالى النعم والأدلة الدالة على ما جاءت به الرسل ، فقال : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ) ، إلى : (أَلْفافاً). أي : أما أنعمنا عليكم بنعم جليلة ، فجعلنا لكم (الْأَرْضَ مِهاداً) ، أي : ممهدة مذللة لكم ولمصالحكم ، من الحروث ، والمساكن والسبل.

[٧] (وَالْجِبالَ أَوْتاداً) (٧) تمسك الأرض لئلا تضطرب بكم وتميد.

[٨] (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) (٨) ، أي : ذكورا وإناثا ، من جنس واحد ، ليسكن كلّ منهما إلى الآخر ، فتتكون المودة والرحمة ، وتنشأ عنهما الذرية ، وفي ضمن هذا الامتنان ، بلذة المنكح.

[٩] (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) (٩) ، أي : راحة لكم ، وقطعا لأشغالكم ، الّتي متى تمادت بكم ، أضرت بأبدانكم ، فجعل الله الليل والنوم ، يغشى الناس ، لتسكن حركاتهم الضارة ، وتحصل راحتهم النافعة.

[١٢] (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) (١٢) ، أي : سبع سموات ، في غاية القوة ، والصلابة والشدة. وقد أمسكها الله بقدرته ، وجعلها سقفا للأرض ، فيها عدة منافع لهم ، ولهذا ذكر من منافعها الشمس ، فقال :

[١٣] (وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً) (١٣) نبه بالسراج على النعمة بنورها الذي صار ضرورة للخلق ، وبالوهاج ، وهي : حرارتها ، على ما فيها من الإنضاج والمنافع.

[١٤] (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ) ، أي : السحاب (ماءً ثَجَّاجاً) ، أي : كثيرا جدا.

[١٥] (لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا) من برّ وشعير ، وذرة ، وأرز ، وغير ذلك مما يأكله الآدميون. (وَنَباتاً) يشمل سائر النبات ، الذي جعله الله قوتا لمواشيهم.

[١٦] (وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) (١٦) ، أي : بساتين ملتفة ، فيها من جميع أصناف الفواكه اللذيذة. فالذي أنعم بهذه النعم الجليلة ، الّتي لا يقدر قدرها ، ولا يحصى عددها كيف تكفرون به ، وتكذبون ما أخبركم به ، من البعث والنشور؟ أم كيف تستعينون بنعمه على معاصيه ، وتجحدونها؟

[١٧] ذكر تعالى ما يكون في يوم القيامة الذي يتساءل عنه المكذبون ، ويجحده المعاندون ، أنه يوم عظيم ، وأن الله جعله (مِيقاتاً) للخلق.

[١٨] (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) ، ويجري فيه من الزعازع والقلاقل ما يشيب له المولود ، وتنزعج له القلوب. فتسير الجبال ، حتى تكون كالهباء المبثوث ، وتنشق السماء حتى تكون أبوابا ، ويفصل الله بين الخلائق ، بحكمه الذي لا يجور ، وتوقد نار جهنم الّتي أرصدها الله ، وأعدها للطاغين وجعلها مثوى لهم ومآبا ، وأنهم يلبثون فيها أحقابا كثيرة ، و «الحقب» على ما قاله كثير من المفسرين : ثمانون سنة.

[٢٤] فإذا وردوها (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً) ، أي : لا ما يبرد جلودهم ، ولا ما يدفع ظمأهم. (إِلَّا حَمِيماً) ، أي : ماء حارا ، يشوي وجوههم ، ويقطع أمعاءهم. (وَغَسَّاقاً) وهو صديد أهل النار ، الذي هو في غاية النتن ، وكراهة المذاق.

[٢٦] وإنّما استحقوا هذه العقوبات الفظيعة (جَزاءً وِفاقاً) (٢٦) لهم على ما عملوا من الأعمال الموصلة إليها ، لم يظلمهم الله ، ولكن ظلموا أنفسهم ، ولهذا ذكر أعمالهم ، الّتي استحقوا بها هذا الجزاء ، فقال :

[٢٧] (إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً) (٢٧) ، أي : لا يؤمنون بالبعث ، ولا أن الله يجازي الخلق ، بالخير والشر ، فلذلك أهملوا العمل للآخرة.

[٢٨] (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً) (٢٨) ، أي : كذبوا بها ، تكذيبا واضحا ، صريحا ، وجاءتهم البينات فعاندوها.

١٠٩٠

[٢٩] (وَكُلَّ شَيْءٍ) من قليل أو كثير ، وخير وشر (أَحْصَيْناهُ كِتاباً) ، أي : أثبتناه في اللوح المحفوظ ، فلا يحسب المجرمون ، أنا عذبناهم بذنوب لم يعملوها ، ولا يحسبوا أنه يضيع من أعمالهم شيء ، أو ينسى منها مثقال ذرة. كما قال تعالى : (وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (٤٩).

[٣٠] (فَذُوقُوا) أيها المكذبون هذا العذاب الأليم ، والخزي الدائم (فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) ، فكل وقت وحين يزداد عذابهم. وهذه الآية أشد الآيات في شدة عذاب أهل النار ، أجارنا الله منها.

[٣١] لما ذكر حال المجرمين ، ذكر مآل المتقين ، فقال : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً) (٣١) ، أي : الّذين اتقوا سخط ربهم ، بالتمسك بطاعته ، والانكفاف عن معصيته فلهم مفاز ومنجى ، وبعد عن النار.

[٣٢] وفي ذلك المفاز لهم (حَدائِقَ) وهي البساتين الجامعة لأصناف الأشجار الزاهية بالثمار. (وَأَعْناباً) تنفجر خلالها الأنهار ، وخص العنب لشرفه وكثرته في تلك الحدائق.

[٣٣] ولهم فيها زوجات على مطالب النفوس (كَواعِبَ) ، وهي النواهد ، اللاتي لم ينكسر ثديهن من شبابهن وقوتهن ونضارتهن. (أَتْراباً) ، أي : على سن واحد متقارب. ومن عادة الأتراب أن يكن متآلفات ، متعاشرات ، وذلك السن الذي هن فيه ثلاث وثلاثون سنة ، أعدل ما يكون من الشباب.

[٣٤] (وَكَأْساً دِهاقاً) (٣٤) ، أي : مملوءة من رحيق ، لذة للشاربين.

[٣٥] (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً) ، أي : كلاما لا فائدة فيه (وَلا كِذَّاباً) ، أي : إثما. كما قال تعالى : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) (٢٦) ،

[٣٦] وإنّما أعطاهم الله هذا الثواب الجزيل من فضله وإحسانه (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً) (٣٦) ، أي : بسبب أعمالهم الّتي وفقهم الله لها ، وجعلها سببا للوصول إلى كرامته.

[٣٧] أي : الذي أعطاهم هذه العطايا هو ربهم (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) الذي خلقها ودبّرها (الرَّحْمنِ) الذي رحمته وسعت كلّ شيء ، فرباهم ورحمهم ، ولطف بهم ، حتى أدركوا ما أدركوا. ثمّ ذكر عظمته وملكه العظيم يوم القيامة ، وأن جميع الخلق كلهم ساكتون ذلك اليوم لا يتكلمون ، و (لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) ، إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ، فلا يتكلم أحد إلا بهذين الشرطين : أن يأذن الله له في الكلام ، وأن يكون ما تكلم به صوابا. لأن (ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُ) الذي لا يروج فيه الباطل ، ولا ينفع فيه الكذب.

[٣٨] وذلك (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ) وهو جبريل عليه‌السلام ، الذي هو أفضل الملائكة. (وَالْمَلائِكَةُ) أيضا يقوم الجميع (صَفًّا) خاضعين لله (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً). فلما رغّب ، ورهّب ، وبشّر ، وأنذر ، قال :

[٣٩] (ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) (٣٩) ، أي : عملا ، وقدم صدق ، يرجع إليه يوم القيامة.

[٤٠] (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً) لأنه قد أزف مقبلا ، وكلّ ما هو آت قريب. (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) ، أي : هذا الذي يهمه ، ويفزع إليه ، فلينظر في هذه الدار ، ما قدم لدار القرار. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١٨) الآيات. فإن وجد خيرا فليحمد الله ، وإن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ، ولهذا كان الكفار يتمنون الموت من شدة الحسرة والندم .. (وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) ، نسأل الله أن يعافينا من الكفر والشر كلّه ، إنه جواد كريم. تم تفسير سورة النبأ ـ ولله الحمد.

١٠٩١

سورة النازعات

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] هذه الإقسامات بالملائكة الكرام وأفعالهم الدالة على كمال انقيادهم لأمر الله ، وإسراعهم في تنفيذه ، يحتمل أن المقسم عليه ، الجزاء والبعث بدليل الإتيان بأحوال القيامة بعد ذلك. ويحتمل أن المقسم عليه ، والمقسم به متحدان ، وأنه أقسم على الملائكة لأن الإيمان بهم ، أحد أركان الإيمان الستة. ولأن في ذكر أفعالهم هنا ما يتضمن الجزاء الذي تتولاه الملائكة ، عند الموت وقبله ، وبعده ، فقال : (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً) (١) وهم الملائكة ، الّتي تنزع الأرواح بقوة ، وتغرق في نزعها ، حتى تخرج الروح ، فتجازى بعملها.

[٢] (وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً) (٢) وهي الملائكة أيضا ، تجتذب الأرواح بقوة ونشاط ، أو أن النشاط يكون لأرواح المؤمنين ، والنزع لأرواح الكفار.

[٣] (وَالسَّابِحاتِ) أي : المترددات في الهواء صعودا ونزولا (سَبْحاً).

[٤] (فَالسَّابِقاتِ) لغيرها (سَبْقاً) فتبادر لأمر الله ، وتسبق الشياطين في إيصال الوحي إلى رسل الله ، لئلا تسترقه.

[٥] (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) (٥) الملائكة ، الّذين جعلهم الله يدبرون كثيرا من أمور العالم ، العلوي والسفلي ، من الأمطار ، والنبات ، والرياح ، والبحار ، والأجنة ، والحيوانات ، والجنة ، والنار وغير ذلك.

[٦] (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) (٦) وهي قيام الساعة.

[٧] (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) (٧) ، أي : الرجفة الأخرى ، الّتي تردفها ، وتأتي تلوها.

[٨] (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) (٨) ، أي : منزعجة من شدة ما ترى وتسمع.

[٩] (أَبْصارُها خاشِعَةٌ) (٩) ، أي : ذليلة حقيرة ، قد ملك قلوبهم الخوف ، وأذهل أفئدتهم الفزع ، وغلب عليهم التأسف ، واستولت عليهم الحسرة.

[١٠] (يَقُولُونَ) أي : منكرو البعث في الدنيا ـ استهزاء وإنكارا للبعث ـ : (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) ، أي : أنرد بعد الموت إلى الخلقة الأولى؟ استفهام إنكاري مشتمل على غاية التعجب ، ونهاية الاستغراب ، أنكروا البعث ، ثمّ ازدادوا استبعادا فاستمروا.

[١١] يقولون ، أي : الكفار في الدنيا ، على وجه التكذيب : (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) (١١) ، أي : بالية فتاتا. والمعنى : «أنرد إلى الحياة بعد أن صرنا عظاما وهي رميم؟».

[١٢] (قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) (١٢) ، أي : استبعدوا أن يبعثهم الله ، ويعيدهم بعد ما كانوا عظاما نخرة ، جهلا منهم بقدرة الله ، وتجرّؤا عليه.

[١٣] قال الله في بيان سهولة هذا الأمر عليه : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) (١٣) ، ينفخ في الصور.

[١٤] (فَإِذا هُمْ) ، أي : الخلائق كلهم (بِالسَّاهِرَةِ) ، أي : على وجه الأرض ، قيام ينظرون ، فيجمعهم الله ، ويقضي بينهم ، بحكمه العدل ، ويجازيهم.

[١٥] يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) (١٥) ، وهذا الاستفهام عن أمر عظيم متحقق وقوعه.

[١٦] أي : هل أتاك حديثه (إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) (١٦) وهو المحل الذي كلمه الله فيه ، وامتنّ عليه بالرسالة ، وابتعثه بالوحي ، واجتباه فقال له :

[١٧] (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) (١٧) ، أي : فانهه عن طغيانه ، وشركه ،

١٠٩٢

وعصيانه ، بقول لين ، وخطاب لطيف لعله (يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى).

[١٨] (فَقُلْ) له : (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) ، أي : هل لك في خصلة حميدة ، ومحمدة جميلة ، يتنافس فيها أولو الألباب ، وهي أن تزكّي نفسك ، وتطهرها من دنس الكفر والطغيان ، إلى الإيمان والعمل الصالح؟

[١٩] (وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ) ، أي : أدلك عليه ، وأبيّن لك مواقع رضاه ، من مواقع سخطه. (فَتَخْشى) الله ، إذا علمت الصراط المستقيم ، فامتنع فرعون مما دعاه إليه موسى.

[٢٠] (فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى) (٢٠) ، أي : جنس الآية الكبرى ، فلا ينافي تعددها (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) (١٠٨).

[٢١ ـ ٢٣] (فَكَذَّبَ) بالحق (وَعَصى) الأمر ، (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى) (٢٢) ، أي : يجتهد في مبارزة الحقّ. (فَحَشَرَ) جنوده أي : جمعهم (فَنادى فَقالَ) لهم : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) فأذعنوا له ، وأقروا بباطله ، حين استخفهم.

[٢٥] (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) (٢٥) أي : جعل الله عقوبته ، دليلا وزاجرا ، ومبينة لعقوبة الدنيا والآخرة.

[٢٦] (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) (٢٦) ، فإن من يخشى الله ، هو الذي ينتفع بالآيات والعبر. فإذا رأى عقوبة فرعون ، عرف أن من تكبر وعصى ، وبارز الملك الأعلى ، يعاقبه في الدنيا والآخرة ، وأما من ترحلت خشية الله من قلبه ، فلو جاءته كل آية لا يؤمن بها.

[٢٧] يقول تعالى ـ مبينا دليلا واضحا لمنكري البعث ، ومستبعدي إعادة الله للأجساد ـ : (أَأَنْتُمْ) أيها البشر (أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ) ذات الجرم العظيم ، والخلق القوي ، والارتفاع الباهر (بَناها) الله.

[٢٨] (رَفَعَ سَمْكَها) ، أي :

جرمها وصورتها (فَسَوَّاها) بإحكام وإتقان ، يحير العقول ، ويذهل الألباب.

[٢٩] (وَأَغْطَشَ لَيْلَها) ، أي : أظلمه ، فعمت الظلمة ، جميع أرجاء السماء ، فأظلم وجه الأرض. (وَأَخْرَجَ ضُحاها) ، أي : أظهر فيه النور العظيم ، حين أتى بالشمس ، فانتشر الناس في مصالح دينهم ودنياهم.

[٣٠] (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ) أي : بعد خلق السماء (دَحاها) ، أي : أودع فيها منافعها.

[٣١ ـ ٣٢] وفسر ذلك بقوله : (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها) (٣٢) ، أي : ثبتها بالأرض. فدحى الأرض بعد خلق السماوات ، كما هو نص هذه الآيات الكريمة. وأما خلق نفس الأرض ، فمتقدم على خلق السماء كما قال تعالى : (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٩) إلى أن قال : (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ). فالذي خلق السماوات العظام وما فيها من الأنوار والأجرام ، والأرض الغبراء الكثيفة ، وما فيها من ضروريات الخلق ومنافعهم ، لا بد أن يبعث الخلق المكلفين ، فيجازيهم بأعمالهم ، فمن أحسن فله الحسنى ، ومن أساء فلا يلومن إلا نفسه.

[٣٤] ولهذا ذكر بعد هذا قيام الساعة ، ثم الجزاء ، فقال : (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ) ، إلى : (هِيَ الْمَأْوى). أي : إذا جاءت القيامة الكبرى ، والشدة العظمى ، الّتي يهون عندها كلّ شدة ، فحينئذ يذهل الوالد عن ولده ، والصاحب عن

١٠٩٣

صاحبه ، وكلّ محب عن حبيبه.

[٣٥] و (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى) في الدنيا ، من خير وشر ، فيتمنى زيادة مثقال ذرة في حسناته ، ويغمّ ويحزن لزيادة مثقال ذرة في سيئاته. ويعلم إذ ذاك أن مادة ربحه وخسرانه ما سعاه في الدنيا ، وينقطع كلّ سبب وصلة كانت له في الدنيا ، سوى الأعمال.

[٣٦] (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى) (٣٦) ، أي : جعلت في البراز ، ظاهرة لكل أحد قد هيئت لأهلها ، واستعدت لأخذهم ، منتظرة لأمر ربها.

[٣٧] (فَأَمَّا مَنْ طَغى) (٣٧) ، أي : جاوز الحد ، بأن تجرأ على المعاصي الكبار ، ولم يقتصر على ما حده الله.

[٣٨] (وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا) (٣٨) على الآخرة ، فصار سعيه لها ، ووقته مستغرقا في حظوظها وشهواتها ، ونسي الآخرة والعمل لها.

[٣٩] (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) (٣٩) له ، أي : المقر والمسكن لمن هذه حاله.

[٤٠] (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) أي : خاف القيام عليه ، ومجازاته بالعدل فأثّر هذا الخوف في قلبه ، (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) الذي يصدها عن طاعة الله ، وصار هواه تبعا لما جاء به الرسول ، وجاهد الهوى والشهوة ، الصادّين عن الخير.

[٤١] (فَإِنَّ الْجَنَّةَ) المشتملة على كلّ خير وسرور ونعيم (هِيَ الْمَأْوى) لمن هذا وصفه.

[٤٢] أي : يسألك المتعنتون المكذبون بالبعث (عَنِ السَّاعَةِ) متى وقوعها (أَيَّانَ مُرْساها) ، فأجابهم الله بقوله :

[٤٣] (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) (٤٣) ، أي : ما الفائدة لك ولهم في ذكرها ، ومعرفة وقت مجيئها؟ فليس تحت ذلك نتيجة. ولهذا لما كان علم العباد للساعة ، ليس لهم فيه مصلحة دينية ولا دنيوية ، بل المصلحة في إخفائه عليهم ، طوى علم ذلك عن جميع الخلق ، واستأثر بعلمه فقال :

[٤٤] (إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) (٤٤) ، أي : إليه ينتهي علمها ، كما قال في الآية الأخرى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ).

[٤٥] (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) (٤٥) ، أي : إنّما نذارتك ، نفعها لمن يخشى مجيء الساعة ، ويخاف الوقوف بين يدي الله ، فهم الّذين لا يهمهم إلا الاستعداد لها ، والعمل لأجلها. وأما من لم يؤمن بها ، فلا يبالي به ، ولا بتعنته ، لأنه تعنت مبني على التكذيب والعناد ، وإذا وصل إلى هذه الحال ، كانت الإجابة عنه عبثا ، ينزه أحكم الحاكمين عنه

[٤٦] (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) (٤٦). تم تفسير سورة النازعات ـ بعون الله وتوفيقه.

١٠٩٤

سورة عبس

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] سبب نزول هذه الآيات الكريمات ، أنه جاء رجل من المؤمنين أعمى يسأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويتعلم منه. وجاء رجل من الأغنياء ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم حريصا على هداية الخلق ، فمال صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصغى إلى الغني ، وصدّ عن الأعمى الفقير ، رجاء لهداية ذلك الغني ، وطمعا في تزكيته ، فعاتبه الله بهذا العتاب اللطيف ، فقال : (عَبَسَ) ، أي : في وجهه (وَتَوَلَّى) في بدنه ، لأجل مجيء الأعمى له. ثم ذكر الفائدة في الإقبال عليه ، فقال :

[٣] (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ) ، أي : الأعمى (يَزَّكَّى)؟ ، أي : يتطهر عن الأخلاق الرذيلة ، ويتصف بالأخلاق الجميلة؟

[٤] (أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى) (٤)؟ أي : يتذكر ما ينفعه ، فينتفع بتلك الذكرى. وهذه فائدة كبيرة ، هي المقصودة من بعثة الرسل ، ووعظ الوعاظ ، وتذكير المذكرين ، فإقبالك على من جاء بنفسه ، مفتقرا لذلك مقبلا ، هو الأليق الواجب. وأما تصديك ، وتعرضك للغني المستغني ، الذي لا يسأل ، ولا يستغني لعدم رغبته في الخير ، مع تركك من هو أهم منه فإنه لا ينبغي لك فإنه ليس عليك أن لا يزكى ، فلو لم يتزكّ ، فلست بمحاسب على ما عمله من الشر. فدل هذا ، على القاعدة المشهورة ، أنه : «لا يترك أمر معلوم لأمر موهوم ، ولا مصلحة متحققة لمصلحة متوهمة». وأنه ينبغي الإقبال على طالب العلم ، المفتقر إليه ، الحريص عليه ، أزيد من غيره.

[١١] يقول تعالى : (كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ) (١١) ، أي : حقا إن هذه الوعظة ، تذكرة من الله ، يذكر بها عباده ، ويبين لهم في كتابه ما يحتاجون إليه ، ويبين الرشد من الغي ، فإذا تبين ذلك (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) (١٢) ، أي : عمل به كقوله تعالى : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ). ثم ذكر محل هذه التذكرة ، وعظمها ، ورفع قدرها ، فقال : [١٢ ـ ١٣] (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ) القدر والرتبة (مُطَهَّرَةٍ) من الآفات ، وعن أن ينالها أذى الشياطين ، أو يسترقوها. بل هي

[١٥] (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) (١٥) وهم الملائكة ، الّذين هم سفراء بين الله وبين عباده.

[١٦] (كِرامٍ) ، أي : كثيري الخير والبركة (بَرَرَةٍ) قلوبهم وأعمالهم. وذلك كله حفظ من الله لكتابه ، أن جعل السفراء فيه إلى الرسل الملائكة الكرام الأقوياء الأتقياء ، ولم يجعل للشياطين عليه سبيلا ، وهذا مما يوجب الإيمان به ، وتلقّيه بالقبول. ولكن مع هذا أبى الإنسان إلا كفورا ، ولهذا قال تعالى :

[١٧ ـ ١٩] (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) (١٧) لنعمة الله ، وما أشد معاندته للحق ، بعد ما تبين ، وهو ما هو؟ هو من أضعف الأشياء ، خلقه من ماء مهين ، ثم قدر خلقه ، وسواه بشرا سويا ، وأتقن قواه الظاهرة والباطنة.

[٢٠] (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) (٢٠) ، أي : يسر له الأسباب الدينية والدنيوية ، وهداه السبيل ، وبيّنه وامتحنه بالأمر والنهي.

[٢١] (ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ) (٢١) ، أي : أكرهه بالدفن ، ولم يجعله كسائر الحيوانات ، الّتي تكون جيفها على وجه الأرض.

[٢٢] (ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) (٢٢) ، أي : بعثه بعد موته للجزاء. فالله

١٠٩٥

هو المنفرد بتدبير الإنسان وتصريفه بهذه التصاريف ، لم يشاركه فيه مشارك. وهو ـ مع هذا ـ لا يقوم بما أمره الله ، ولم يقض ما فرضه عليه ، بل لا يزال مقصرا تحت الطلب.

[٢٤ ـ ٢٥] ثم أرشده الله إلى النظر والتفكر في طعامه ، وكيف وصل إليه بعد ما تكررت عليه طبقات عديدة ، ويسره له ، فقال : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا) (٢٥) ، أي : أنزلنا المطر على الأرض بكثرة.

[٢٦ ـ ٢٧] (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ) للنبات (شَقًّا فَأَنْبَتْنا فِيها) أصنافا مصنفة من أنواع الأطعمة اللذيذة ، والأقوات الشهية (حَبًّا) ، وهذا شامل لسائر الحبوب على اختلاف أصنافها.

[٢٨] (وَعِنَباً وَقَضْباً) (٢٨) وهو القتّ : (وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً) (٢٩). وخصّ هذه الأربعة لكثرة فوائدها ومنافعها.

[٣٠] (وَحَدائِقَ غُلْباً) (٣٠) ، أي : بساتين فيها الأشجار الكثيرة الملتفة.

[٣١] (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) (٣١) الفاكهة : ما يتفكه فيه الإنسان ، من تين وعنب وخوخ ورمان ، وغير ذلك. والأبّ : ما تأكله البهائم والأنعام ، ولهذا قال :

[٣٢] (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) (٣٢) الّتي خلقها الله وسخرها لكم. فمن نظر في هذه النعم ، أوجب له ذلك ، شكر ربه ، وبدل الجهد في الإنابة إليه ، والإقبال على طاعته ، والتصديق لأخباره.

[٣٣] أي : إذا جاءت صيحة القيامة الّتي تصخ لهولها الأسماع ، وتنزعج لها الأفئدة يومئذ ، مما يرى الناس من الأهوال وشدة الحاجة لسالف الأعمال. (يَفِرُّ الْمَرْءُ) من أعز الناس عليه ، وأشفقهم عليه (مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ) ، أي : زوجته (وَبَنِيهِ).

[٣٧] وذلك لأنه (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (٣٧) ، أي : قد شغلته نفسه ، واهتم لفكاكها ، ولم يكن له التفات إلى غيرها. فحينئذ ينقسم الخلق إلى فريقين : سعداء ، وأشقياء.

[٣٨] فأما السعداء ، فوجوههم (يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) ، أي : قد ظهر فيها السرور والبهجة ، لما عرفوا من نجاتهم ، وفوزهم بالنعيم.

[٣٩ ـ ٤١] (ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ) ، الأشقياء (يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها) أي : تغشاها (قَتَرَةٌ) فهي سوداء مظلمة مدلهمة ، قد أيست من كلّ خير ، وعرفت شقاءها وهلاكها.

[٤٢] (أُولئِكَ) الّذين بهذا الوصف (هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) ، أي : الّذين كفروا بنعمة الله ، وكذبوا بآياته ، وتجرأوا على محارمه. نسأل الله العفو والعافية ، إنه جواد كريم. تم تفسير سورة عبس ـ والحمد لله رب العالمين.

تفسير سورة التكوير

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] أي : إذا حصلت هذه الأمور الهائلة ، تميز الخلق ، وعلم كلّ ما قدمه لآخرته ، وما أحضره فيها من خير

١٠٩٦

وشر ، وذلك أنه إذا كان يوم القيامة تكور الشمس ، أي : تجمع وتلف ، ويخسف القمر ، ويلقيان في النار.

[٢] (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) (٢) ، أي : تغيرت ، وتناثرت من أفلاكها.

[٣] (وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ) (٣) ، أي : صارت كثيبا مهيلا ، ثم صارت كالعهن المنفوش. ثم تغيرت وصارت هباء منبثا ، وأزيلت عن أماكنها.

[٤] (وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ) (٤) ، أي : عطل الناس يومئذ نفائس أموالهم ، الّتي كانوا يهتمون لها ويراعونها في جميع الأوقات ، فجاءهم ما يذهلهم عنها ، فنبّه بالعشار ـ وهي : النوق الّتي تتبعها أولادها ، وهي أنفس أموال العرب إذ ذاك عندهم ـ على ما هو في معناها من كل نفيس.

[٥] (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) (٥) ، أي : جمعت ليوم القيامة ، ليقتص الله من بعضها لبعض ، ويرى العباد كمال عدله ، حتى إنه يقتص للشاة الجماء ، من الشاة القرناء ، ثم يقال لها : كوني ترابا.

[٦] (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) (٦) ، أي : أوقدت فصارت ـ على عظمها ـ نارا تتوقد.

[٧] (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) (٧) ، أي : قرن كلّ صاحب عمل مع نظيره ، فجمع الأبرار مع الأبرار ، والفجار مع الفجار ، وزوج المؤمنون بالحور العين ، والكافرون بالشياطين ، وهذا كقوله تعالى : (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً) ، (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً) ، (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ).

[٨] (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ) (٨) ، وهي : ما كانت الجاهلية الجهلاء تفعله من دفن البنات ، وهن أحياء من غير سبب ، إلا خشية الفقر ، فتسأل : (بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) (٩) ، ومن المعلوم أنها ليس لها ذنب ، ولكن هذا فيه توبيخ وتقريع لقاتليها.

[١٠] (وَإِذَا الصُّحُفُ) المشتملة على ما عمله العاملون من خير وشر (نُشِرَتْ) ، وفرقت على أهلها ، فآخذ كتابه بيمينه ، وآخذ كتابه بشماله ، أو من وراء ظهره.

[١١] (وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ) (١١) ، أي : أزيلت ، كما قال تعالى : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) ، (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) ، (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ).

[١٢] (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) (١٢) ، أي : أوقد عليها فاستعرت ، والتهبت التهابا لم يكن لها قبل ذلك.

[١٣] (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) (١٣) ، أي : قرّبت للمتقين.

[١٤] (عَلِمَتْ نَفْسٌ) ، أي : كل نفس ، لإتيانها في سياق الشرط. (ما أَحْضَرَتْ) ، أي : ما حضر لديها من الأعمال ، الّتي قدمتها كما قال تعالى : (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً). وهذه الأوصاف الّتي وصف بها يوم القيامة ، من الأوصاف الّتي تنزعج لها القلوب ، وتشتد من أجلها الكروب ، وترتعد الفرائص ، وتعم المخاوف ، وتحث أولي الألباب للاستعداد لذلك اليوم ، وتزجرهم عن كلّ ما يوجب اللوم ، ولهذا قال بعض السلف : من أراد أن ينظر ليوم القيامة كأنه رأي عين ، فليتدبر سورة (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) (١).

[١٥] أقسم تعالى (بِالْخُنَّسِ) وهي من الكواكب الّتي تخنس ، أي : تتأخر عن سير الكواكب المعتاد إلى جهة الشرق ، وهي النجوم السبعة السيارة : «الشمس» ، و «القمر» ، و «الزهرة» ، و «المشتري» ، و «المريخ» ، و «زحل» ، و «عطارد» ، فهذه السبعة لها سيران : سير إلى جهة المغرب مع سائر الكواكب والفلك. وسير معاكس لهذا من جهة

١٠٩٧

المشرق تختص به هذه السبعة دون غيرها. فأقسم الله بها في حال خنوسها ، أي : تأخرها ، وفي حال جريانها ، وفي حال كنوسها ، أي : استتارها بالنهار. ويحتمل أن المراد بها جميع الكواكب السيارة وغيرها.

[١٧] (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ) (١٧) ، أي : أقبل ، وقيل : أدبر.

[١٨] (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) (١٨) ، أي : بدت علائم الصبح ، وانشق النور شيئا فشيئا ، حتى يستكمل وتطلع الشمس. وهذه آيات عظام ، أقسم الله عليها ، لقوة سند القرآن وجلالته ، وحفظه من كلّ شيطان رجيم ، فقال :

[١٩] (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) (١٩) وهو أي : جبريل عليه‌السلام ، نزل به من الله تعالى ، كما قال تعالى : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (١٩٤). ووصفه الله بالكريم لكرم أخلاقه ، وخصاله الحميدة ، فإنه أفضل الملائكة ، وأعظمهم رتبة عند ربه.

[٢٠] (ذِي قُوَّةٍ) على ما أمره الله به. ومن قوته أنه قلب ديار قوم لوط بهم ، فأهلكهم. (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ) ، أي : جبريل مقرب عند الله ، له منزلة رفيعة وخصيصة من الله ، اختصه بها. (مَكِينٍ) ، أي : له مكانة ومنزلة ، فوق منازل الملائكة كلهم.

[٢١] (مُطاعٍ ثَمَ) ، أي : جبريل مطاع في الملأ الأعلى ، لأنه من الملائكة المقربين ، نافذ فيهم أمره ، مطاع رأيه. (أَمِينٍ) ، أي : ذو أمانة ، وقيام بما أمر به ، لا يزيد ولا ينقص ولا يتعدى ما حدّ له ، وهذا كله يدل على شرف القرآن عند الله تعالى ، فإنه بعث به هذا الملك الكريم ، الموصوف بتلك الصفات الكاملة. والعادة أن الملوك لا ترسل الكريم عليها ، إلا في أهم المهمات ، وأشرف الرسائل.

[٢٢] ولما ذكر فضل الرسول الملكي الذي جاء بالقرآن ، ذكر فضل الرسول البشري الذي نزل عليه القرآن ، ودعا إليه الناس ، فقال : (وَما صاحِبُكُمْ) وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بِمَجْنُونٍ) كما يقوله أعداؤه المكذبون برسالته ، المتقولون عليه الأقوال ، الّتي يريدون أن يطفئوا بها ما جاء به. بل هو أكمل الناس عقلا ، وأجزلهم رأيا ، وأصدقهم لهجة.

[٢٣] (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) (٢٣) ، أي : رأى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل عليه‌السلام بالأفق البيّن ، الذي هو أعلى ما يلوح للبصر.

[٢٤] (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) (٢٤) ، أي : وما هو على ما أوحاه الله إليه ، بشحيح يكتم بعضه ، بل هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمين أهل السماء ، وأهل الأرض ، الذي بلغ رسالات ربه ، البلاغ المبين ، فلم يشح بشيء منه ، عن غنيّ ولا فقير ، ولا رئيس ولا مرؤوس ، ولا ذكر ولا أنثى ، ولا حضريّ ولا بدويّ ، ولذلك بعثه الله في أمة أمية ، جاهلة جهلاء. فلم يمت صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى كانوا علماء ربانيين ، وأحبارا متفرسين ، إليهم الغاية في العلوم ، وإليهم المنتهى في استخراج الدقائق والمفهوم ، وهم الأساتذة وغيرهم قصاراه أن يكون من تلاميذهم.

[٢٥] (وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) (٢٥) لما ذكر جلالة كتابه وفضله ، بذكر الرسولين الكريمين ، اللذين وصل إلى الناس على أيديهما ، وأثنى الله عليهما بما أثنى ، دفع عنه كلّ آفة ونقص ، مما يقدح في صدقه ، فقال : (وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) (٢٥) ، أي : في غاية البعد عن الله وعن قربه.

[٢٦] (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) (٢٦) ، أي : كيف يخطر هذا ببالكم ، وأين عزبت عنكم أذهانكم؟ حتى جعلتم الحقّ الذي هو في أعلى درجات الصدق ، بمنزلة الكذب ، الذي هو أنزل ما يكون ، وأرذل وأسفل الباطل؟ هل هذا إلا من انقلاب الحقائق.

[٢٧] (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) (٢٧) يتذكرون به ربهم ، وما له من صفات الكمال ، وما ينزه عنه من النقائص ، والرذائل والأمثال ، ويتذكرون به الأوامر والنواهي وحكمها ، ويتذكرون به الأحكام القدرية والشرعية والجزائية. وبالجملة ، يتذكرون به مصالح الدارين ، وينالون بالعمل به السعادتين.

[٢٨] (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) (٢٨) بعد ما تبين الرشد من الغي ، والهدى من الضلال.

[٢٩] (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٢٩) ، أي : فمشيئته نافذة ، لا يمكن أن تعارض أو تمانع. وفي هذه الآية وأمثالها ، ردّ على فرقتي القدرية النفاة ، والجبرية المجبرة كما تقدم من أمثالها ، والله أعلم ، والحمد لله. تم تفسير سورة التكوير.

١٠٩٨

سورة الإنفطار

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٥] أي : إذا انشقت السماء وانفطرت ، وتناثرت نجومها ، وزال جمالها ، وفجرت البحار ، فصارت بحرا واحدا ، وبعثرت القبور بأن أخرج ما فيها من الأموات ، وحشروا للموقف ، بين يدي الله ، للجزاء على الأعمال. فحينئذ ينكشف الغطاء ، ويزول ما كان خفيا ، وتعلم كل نفس ما معها من الأرباح والخسران. هنالك يعض الظالم على يديه ، إذا رأى ما قدمت يداه ، وأيقن بالشقاء الأبدي ، والعذاب السرمدي. وهنالك يفوز المتقون ، المقدمون لصالح الأعمال بالفوز العظيم ، والنعيم المقيم ، والسلامة من عذاب الجحيم.

[٦] يقول تعالى ، معاتبا للإنسان المقصر في حقه ، المتجرئ على معاصيه : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) (٦) أتهاونا منك في حقوقه؟ أم احتقارا منك لعذابه؟ أم عدم إيمان منك بجزائه؟

[٧] أليس هو (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ) في أحسن تقويم؟ (فَعَدَلَكَ) وركبك تركيبا قويما معتدلا ، في أحسن الأشكال ، وأجمل الهيئات. فهل يليق بك أن تكفر نعمة المنعم ، أو تجحد إحسان المحسن؟ إن هذا إلا من جهلك وظلمك ، وعنادك وغشمك ، فاحمد الله إذ لم يجعل صورتك صورة كلب أو حمار أو نحوهما من الحيوانات.

[٨] ولهذا قال تعالى : (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) (٨).

[٩] وقوله : (كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) (٩) ، أي : مع هذا الوعظ والتذكير ، لا تزالوا مستمرين على التكذيب بالجزاء.

[١٠ ـ ١٢] وأنتم لا بد أن تحاسبوا على ما عملتم ، وقد أقام الله عليكم ملائكة كراما يكتبون أقوالكم وأفعالكم ويعلمونها ، فدخل في هذا أفعال القلوب ، وأفعال الجوارح ، فاللائق بكم ، أن تكرموهم وتجلوهم.

[١٣] المراد بالأبرار ، هم القائمون بحقوق الله ، وحقوق عباده ، الملازمون للبر ، في أعمال القلوب ، وأعمال الجوارح ، فهؤلاء جزاؤهم النعيم في القلب ، والروح والبدن ، في دار الدنيا ، وفي دار البرزخ ، وفي دار القرار.

[١٤] (وَإِنَّ الْفُجَّارَ) الّذين قصروا في حقوق الله وحقوق عباده ، الّذين فجرت قلوبهم ففجرت أعمالهم (لَفِي جَحِيمٍ) ، أي : عذاب أليم ، في دار الدنيا ، ودار البرزخ ، وفي دار القرار.

[١٥] (يَصْلَوْنَها) ويعذبون بها أشد العذاب (يَوْمَ الدِّينِ) ، أي : يوم الجزاء على الأعمال.

[١٦] (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) (١٦) ، أي : بل هم ملازمون لها ، لا يخرجون منها.

[١٧ ـ ١٨] (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) (١٨) في هذا تهويل لذلك اليوم الشديد ، الذي يحير الأذهان.

[١٩] (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) ولو كانت قريبة أو حبيبة مصافية فكل مشتغل بنفسه لا يطلب الفكاك لغيرها. (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) فهو الذي يفصل بين العباد ، ويأخذ للمظلوم حقه من ظالمه ، والله أعلم.

١٠٩٩

سورة المطففين

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] (وَيْلٌ) كلمة عذاب وعقاب (لِلْمُطَفِّفِينَ) وفسر الله المطففين بأنهم (الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ) ، أي : أخذوا منهم ، وفاء لهم عما قبلهم (يَسْتَوْفُونَ) كاملا من غير نقص.

[٣] (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ) ، أي : إذا أعطوا الناس حقهم ، الذي لهم عليهم ، بكيل أو وزن (يُخْسِرُونَ) ، أي : ينقصونهم ذلك إما بمكيال وميزان ناقصين ، أو بعدم ملء المكيال والميزان ، أو بغير ذلك ، فهذا سرقة لأموال الناس ، وعدم إنصاف لهم منهم. وإذا كان هذا وعيدا على الذين يبخسون الناس ، بالمكيال والميزان ، فالذي يأخذ أموالهم قهرا وسرقة ، أولى بهذا الوعيد من المطففين. ودلت الآية الكريمة ، على أن الإنسان كما يأخذ من الناس ، الذي له ، يجب أن يعطيهم كل ما لهم من الأموال والمعاملات. بل يدخل في عموم هذا ، الحجج والمقالات ، فإنه كما أن المتناظرين ، قد جرت العادة أن كل واحد منهما ، يحرص على ما له من الحجج. فيجب عليه أيضا أن يبين ما لخصمه من الحجة ، التي لا يعلمها ، وأن ينظر في أدلة خصمه ، كما ينظر في أدلته هو ، وفي هذا الموضع ، يعرف إنصاف الإنسان ، من تعصبه واعتسافه ، وتواضعه من كبره ، وعقله من سفهه ، نسأل الله التوفيق لكل خير. ثم توعد تعالى المطففين ، وتعجب من حالهم وإقامتهم على ما هم عليه ، فقال :

[٤ ـ ٦] (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٦) ، فالذي جرأهم على التطفيف ، عدم إيمانهم باليوم الآخر ، وإلا فلو آمنوا به ، وعرفوا أنهم سيقومون بين يدي الله ، فيحاسبهم على القليل والكثير ، لأقلعوا عن ذلك ، وتابوا منه.

[٧] يقول تعالى : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ) وهذا شامل لكل فاجر ، من أنواع الكفرة والمنافقين ، والفاسقين (لَفِي سِجِّينٍ) ، ثم فسّر ذلك بقوله :

[٨ ـ ٩] (وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ) (٩) ، أي : كتاب مذكور فيه أعمالهم الخبيثة ، والسجّين : المحل الضيق الضنك ، و «سجين» ضد «عليين» الذي هو محل كتاب الأبرار ، كما سيأتي. وقد قيل : إن «سجين» هو أسفل الأرض السابعة ، مأوى الفجار ، ومستقرهم في معادهم.

[١٠ ـ ١١] (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (١٠) ثم بينهم بقوله : (الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) (١١) ، أي : يوم الجزاء ، يوم يدين الله الناس فيه بأعمالهم.

[١٢] (وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ) على محارم الله ، متعد الحلال إلى الحرام. (أَثِيمٍ) ، أي : كثير الإثم ، فهذا يحمله عدوانه على التكذيب ، ويوجب له كبره ، رد الحق ، ولهذا قال :

[١٣] (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا) الدالة على الحق ، وعلى صدق ما جاءت به الرسل ، كذبها وعاندها ، (قالَ) : هذه (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ، أي : من ترهات المتقدمين ، وأخبار الأمم الغابرين ، ليست من عند الله ، تكبّرا وعنادا. وأما من أنصف ، وكان مقصوده الحق المبين ، فإنه لا يكذب بيوم الدين ، لأن الله قد أقام عليه من الأدلة القاطعة ، والبراهين ، ما يجعله حق اليقين ، وصار لبصائرهم ، بمنزلة الشمس للأبصار ، بخلاف من ران على قلبه كسبه ، وغطته معاصيه ، فإنه محجوب عن الحق.

١١٠٠