تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي

تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

المؤلف:

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ١١٣٥

تحزبوا على حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأصحابه ، لم يذهبوا حتى يستأصلوهم ، فخاب ظنهم ، وبطل حسبانهم. (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ) مرة أخرى (يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ) أي : لو أتى الأحزاب مرة ثانية مثل هذه المرة ، ودّ هؤلاء المنافقون ، أنهم ليسوا في المدينة ، ولا في القرب منها ، وأنهم مع الأعراب في البادية ، يستخبرون عن أخباركم ، ويسألون عن أنبائكم ، ماذا حصل عليكم؟ فتبا لهم ، وبعدا ، فليسوا ممن يغالى بحضورهم (وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً) فلا تبالوهم ، ولا تأسوا عليهم. (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) حيث حضر الهيجاء بنفسه الكريمة ، وباشر موقف الحرب ، وهو الشريف الكامل ، والبطل الباسل. فكيف تشحون بأنفسكم ، عن أمر جاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بنفسه فيه؟ فتأسوا به في هذا الأمر وغيره. واستدل الأصوليون في هذه الآية ، على الاحتجاج بأفعال الرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن الأصل ، أن أمته أسوته في الأحكام ، إلا ما دلّ الدليل الشرعي على الاختصاص به. فالأسوة نوعان : أسوة حسنة ، وأسوة سيئة. فالأسوة الحسنة ، في الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فإن المتأسّي به ، سالك الطريق الموصل إلى كرامة الله ، وهو الصراط المستقيم. وأما الأسوة بغيره ، إذا خالفه ، فهو الأسوة السيئة ، كقول المشركين حين دعتهم الرسل للتأسّي بهم] (١).

ومنها : لطف الله بأم موسى ، وتهوينه عليها المصيبة بالبشارة ، بأن الله سيرد إليها ابنها ، ويجعله من المرسلين. ومنها : أن الله يقدّر على عبده بعض المشاق ، لينيله سرورا أعظم من ذلك ، أو يدفع عنه شرا أكثر منه. كما قدّر على أم موسى ، ذلك الحزن الشديد ، والهم البليغ ، الذي هو وسيلة إلى أن يصل إليها ابنها ، على وجه تطمئن به نفسها ، وتقر به عينها ، وتزداد به غبطة وسرورا.

ومنها : أن الخوف الطبيعي من الخلق ، لا ينافي الإيمان ولا يزيله ، كما جرى لأم موسى ، ولموسى من تلك المخاوف.

ومنها : أن الإيمان يزيد وينقص. وأن من أعظم ما يزيد به الإيمان ، ويتم به اليقين ، الصبر عند المزعجات ، والتثبيت من الله ، عند المقلقات ، كما قال تعالى : (لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي : ليزداد إيمانها بذلك ، ويطمئن قلبها.

ومنها أن من أعظم نعم الله على عبده وأعظم معونة للعبد على أموره ، تثبيت الله إياه ، وربط جأشه وقلبه عند المخاوف ، وعند الأمور المذهلة ، فإنه بذلك ، يتمكن من القول الصواب ، والفعل الصواب. بخلاف من استمر قلقه وروعه ، وانزعاجه ، فإنه يضيع فكره ، ويذهل عقله ، فلا ينتفع بنفسه في تلك الحال.

ومنها : أن العبد ـ ولو عرف أن القضاء والقدر ووعد الله نافذ لا بد منه فإنه لا يهمل فعل الأسباب ، الّتي أمر بها ، ولا يكون ذلك منافيا لإيمانه بخبر الله. فإن الله قد وعد أم موسى أن يرده عليها ، ومع ذلك ، اجتهدت في رده ، وأرسلت أخته لتقصه وتطلبه.

ومنها : جواز خروج المرأة في حوائجها ، وتكليمها للرجال ، من غير محذور ، كما جرى لأخت موسى ، وابنتي صاحب مدين.

ومنها : جواز أخذ الأجرة على الكفالة والرضاع ، والدلالة على من يفعل ذلك.

ومنها : أن الله من رحمته بعبده الضعيف ، الذي يريد إكرامه ، أن يريه من آياته ، ويشهده من بيناته ، ما يزيد به إيمانه ، كما رد الله موسى إلى أمه ، لتعلم أن وعد الله حق.

ومنها : أن قتل الكافر ، الذي له عهد بعقد أو عرف ، لا يجوز. فإن موسى عليه‌السلام عدّ قتله القبطي الكافر ،

__________________

(١) ما بين المعكوفتين ساقط من المطبوعة الّتي بين أيدينا ، والنص موافق للسياق والله أعلم.

٧٤١

ذنبا ، واستغفر الله منه.

ومنها : أن الذي يقتل النفوس بغير حق ، يعد من الجبارين ، الذين يفسدون في الأرض.

ومنها : أن من قتل النفوس بغير حق ، وزعم أنه يريد الإصلاح في الأرض ، وتهييب أهل المعاصي ، فإنه كاذب في ذلك ، وهو مفسد كما حكى الله قول القبطي : (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) على وجه التقرير له ، لا الإنكار.

ومنها : أن إخبار الرجل غيره بما قيل فيه ، على وجه التحذير له من شر يقع فيه ، لا يكون ذلك نميمة ـ بل قد يكون واجبا ـ كما أخبر ذلك الرجل موسى ، ناصحا له ومحذرا.

ومنها : أنه إذا خاف القتل والتلف في الإقامة ، فإنه لا يلقي بيده إلى التهلكة ، ولا يستسلم لذلك ، بل يذهب عنه ، كما فعل موسى.

ومنها : أنه عند تزاحم المفسدتين ، إذا كان لا بد من ارتكاب إحداهما فإنه يرتكب الأخف منهما والأسلم. كما أن موسى ، لما دار الأمر بين بقائه في مصر ، ولكنه يقتل ، أو يذهب إلى بعض البلدان البعيدة ، الّتي لا يعرف الطريق إليها ، وليس معه دليل يدله غير ربه ، ولكن هذه الحالة أرجى للسلامة من الأولى ، فتبعها موسى.

ومنها : أن الناظر في العلم عند الحاجة إلى التكلم فيه ، إذا لم يترجح عنده أحد القولين ، فإنه يستهدي ربه ، ويسأله أن يهديه الصواب من القولين ، بعد أن يقصد بقلبه الحق ، ويبحث عنه ، فإن الله لا يخيب من هذه حاله. كما خرج موسى تلقاء مدين فقال : (عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ). ومنها : أن الرحمة بالخلق ، والإحسان على من يعرف ومن لا يعرف ، من أخلاق الأنبياء ، وأن من الإحسان سقي الماشية الماء ، وإعانة العاجز.

ومنها : استحباب الدعاء بتبيين الحال وشرحها ، ولو كان الله عالما لها ؛ لأنه تعالى ، يحب تضرع عبده وإظهار ذله ومسكنته ، كما قال موسى : (رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ). ومنها أن الحياء ـ خصوصا من الكرام ـ من الأخلاق الممدوحة. ومنها : أن المكافأة على الإحسان ، لم يزل دأب الأمم السابقين. ومنها : أن العبد إذا عمل العمل لله تعالى ، ثمّ حصل له مكافأة عليه ، من غير قصد بالقصد الأول ، فإنه لا يلام على ذلك ، كما قبل موسى مجازاة صاحب مدين ، عن معروفه الذي لم يبتغ له ، ولم يستشرف بقلبه على عوض. ومنها : مشروعية الإجارة ، وأنها تجوز على رعاية الغنم ونحوها ، مما لا يقدر به العمل ، وإنّما مرده ، العرف.

ومنها : أن خطبة الرجل لابنته الذي يتخيره ، لا يلام عليه. ومنها : أن خير أجير وعامل يعمل للإنسان ، أن يكون قويا أمينا. ومنها : أن من مكارم الأخلاق ، أن يحسن خلقه لأجيره وخادمه ، ولا يشق عليه بالعمل لقوله : (وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ).

ومنها : جواز عقد الإجارة وغيرها من العقود ، من دون إشهاد لقوله : (وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ). ومنها : ما أجرى الله على يد موسى من الآيات البينات ، والمعجزات الظاهرة ، من الحية ، وانقلاب يده بيضاء من غير سوء ، ومن عصمة الله لموسى وهارون ، من فرعون ، ومن الغرق.

ومنها : أن من أعظم العقوبات أن يكون الإنسان إماما في الشر ، وذلك بحسب معارضته لآيات الله وبيناته. كما أن أعظم نعمة أنعم الله بها على عبده ، أن يجعله إماما في الخير هاديا مهديا. ومنها : ما فيها من الدلالة على رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيث أخبر بذلك تفصيلا ، وتأصيلا موافقا ، قصه قصا ، صدّق به المرسلين ؛ وأيّد به الحقّ المبين ، من غير حضور شيء من تلك الوقائع ؛ ولا مشاهدة لموضع واحد من تلك المواضع ؛ ولا تلاوة درس فيها شيئا من هذه الأمور ؛ ولا مجالسة أحد من أهل العلم ؛ إن هو إلا رسالة الرحمن الرحيم ؛ ووحي أنزله عليه الكريم المنان ؛ لينذر به قوما جاهلين ؛ وعن النذر والرسل غافلين. فصلوات الله وسلامه ؛ على من مجرد خبره ينبىء أنه رسول الله ؛ ومجرد

٧٤٢

أمره ونهيه ينبه العقول النيرة ؛ أنه من عند الله. كيف وقد تطابق على صحة ما جاء به وصدّقه خبر الأولين والآخرين. والشرع الذي جاء به من رب العالمين ، وما جبل عليه من الأخلاق الفاضلة ؛ الّتي لا تناسب ؛ ولا تصلح إلا لأعلى الخلق درجة ؛ والنصر المبين لدينه وأمته. حتى بلغ دينه ؛ مبلغ الليل والنهار ؛ وفتحت أمته معظم بلدان الأمصار ؛ بالسيف والسنان ، وقلوبهم بالعلم والإيمان. ولم تزل الأمم المعاندة ؛ والملوك الكفرة ؛ ترميه بقوس واحدة ؛ وتكيد له المكايد ؛ وتمكر لإطفائه ؛ وإخفائه ؛ وإخماده من الأرض وهو قد بهرها وعلاها ، لا يزداد إلا نموا ، ولا آياته وبراهينه إلّا ظهورا. وكلّ وقت من الأوقات ، يظهر من آياته ، ما هو عبرة للعالمين ، وهداية للعالمين ، ونور وبصيرة للمتوسمين. والحمد لله وحده.

[٥٢] يذكر تعالى ، عظمة القرآن ، وصدقه ، وحقه ، وأن أهل العلم بالحقيقة يعرفونه ، ويؤمنون به ، ويقرون بأنه الحقّ : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ) وهم أهل التوراة ، والإنجيل ، الّذين لم يغيروا ولم يبدلوا (هُمْ بِهِ) أي : بهذا القرآن ، ومن جاء به (يُؤْمِنُونَ).

[٥٣] (وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ) استمعوا له ، وأذعنوا و (قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا) لموافقته ما جاءت به الرسل ، ومطابقته لما ذكر في الكتب ، واشتماله على الأخبار الصادقة ، والأوامر والنواهي الموافقة لغاية الحكمة. وهؤلاء الّذين تفيد شهادتهم ، وينفع قولهم ، لأنهم لا يقولون ما يقولون إلا عن علم وبصيرة ، لأنهم أهل الخبرة ، وأهل الكتب. وغيرهم لا يدل ردهم ومعارضتهم للحق ، على شبهة ، فضلا عن الحجة ، لأنهم ما بين جاهل فيه أو متجاهل معاند للحق. قال تعالى : (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) (١٠٧) الآيات. وقوله : (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) فلذلك ثبتنا على ما منّ الله به علينا من الإيمان والإسلام ، فصدقنا بهذا القرآن ، آمنا بالكتاب الأول ، والكتاب الآخر. وغيرنا ينقض تكذيبه بهذا الكتاب ، إيمانه بالكتاب الأول.

[٥٤] (أُولئِكَ) الّذين آمنوا بالكتابين (يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) أجرا على الإيمان الأول ، وأجرا على الإيمان الثاني. (بِما صَبَرُوا) على الإيمان ، وثبتوا على العمل ، فلم تزعزعهم عن ذلك ، شبهة ، ولا ثناهم عن الإيمان ، رياسة ولا شهوة. (وَ) من خصالهم الفاضلة ، الّتي هي من آثار إيمانهم الصحيح ، أنهم (يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي : دأبهم وطريقتهم الإحسان لكل أحد ، حتى للمسيء إليهم ، بالقول والفعل ، يقابلونه بالقول الحميد والفعل الجميل ، لعلمهم بفضيلة هذا الخلق العظيم ، وأنه لا يوفق له ذو حظ عظيم.

[٥٥] (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ) من جاهل خاطبهم به ، أعرضوا عنه ، و (قالُوا) مقالة عباد الرحمن أولي الألباب : (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) أي : كلّ سيجازى بعمله ، الذي عمله وحده ، ليس عليه من وزر غيره شيء. ولزم من ذلك ، أنهم يتبرؤون مما عليه الجاهلون ، من اللغو والباطل ، والكلام الذي لا فائدة فيه. (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أي : لا تسمعون منا إلا الخير ، ولا نخاطبكم بمقتضى جهلكم. فإنكم ، وإن رضيتم لأنفسكم هذا المرتع اللئيم ، فإننا ننزه

٧٤٣

أنفسنا عنه ، ونصونها عن الخوض فيه. (لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) من كلّ وجه.

[٥٦] يخبر تعالى أنك يا محمد ـ وغيرك من باب أولى ـ لا تقدر على هداية أحد ، ولو كان من أحب الناس إليك ، فإن هذا ، أمر غير مقدور للخلق هداية للتوفيق ، وخلق الإيمان في القلب ، وإنّما ذلك بيد الله تعالى ، يهدي من يشاء ، وهو أعلم بمن يصلح لها ، فيبقيه على ضلاله. وأما إثبات الهداية للرسول في قوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) فتلك هداية البيان والإرشاد. فالرسول يبيّن الصراط المستقيم ، ويرغّب فيه ، ويبذل جهده في سلوك الخلق له. وأما كونه يخلق في قلوبهم الإيمان ، ويوفقهم بالفعل ، فحاشا وكلا. ولهذا لو كان قادرا عليها ، لهدى من وصل إليه إحسانه ، ونصره ، ومنعه من قومه ، عمه أبا طالب ، ولكنه أوصل إليه من الإحسان بالدعوة له للدين والنصح التام ، ما هو أعظم مما فعله معه عمه ، ولكن الهداية بيد الله.

[٥٧] يخبر تعالى أن المكذبين من قريش ، وأهل مكة ، يقولون للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) بالقتل والأسر ، ونهب الأموال. فإن الناس قد عادوك وخالفوك ، فلو تابعناك ، لتعرضنا لمعاداة الناس كلهم ، ولم يكن لنا بهم طاقة. وهذا الكلام منهم ، يدل على سوء الظن بالله تعالى ، وأنه لا ينصر دينه ، ولا يعلي كلمته. بل يمكن الناس من أهل دينه ، فيسومونهم سواء العذاب ، وظنوا أن الباطل سيعلو على الحقّ. قال الله ـ مبينا لهم حالة اختصهم بها دون الناس ، فقال : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا) أي : أو لم نجعلهم متمكنين ، ممكنين في حرم ، يكثر المنتابون إليه ، ويقصده الزائرون ، قد احترمه القريب والبعيد ، فلا يهاج أهله ، ولا ينتقصون بقليل ولا كثير. والحال أن كلّ ما حولهم من الأماكن ، قد حف بها الخوف من كلّ جانب ، وأهلها غير آمنين ولا مطمئنين ، فليحمدوا ربهم على هذا الأمن التام ، الذي ليس فيه غيرهم ، وعلى الرزق الكثير ، الذي يجيء إليهم من كل مكان ، من الثمرات ، والأطعمة ، والبضائع ، ما به يرتزقون ويتوسعون. وليتّبعوا هذا الرسول الكريم ، ليتم لهم الأمن والرغد. وإيّاهم وتكذيبه ، والبطر بنعمته ، فيبدلوا من بعد أمنهم خوفا ، وبعد عزهم ذلا ، وبعد غناهم فقرا ولهذا توعدهم بما فعل بالأمم قبلهم ، فقال :

[٥٨] (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) أي : فخرت بها ، وألهتها ، واشتغلت بها عن الإيمان بالرسل ، فأهلكهم الله ، وأزال عنهم النعمة ، وأحل بهم النقمة. (فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً) لتوالي الهلاك والتلف عليهم ، وإيحاشها من بعدهم. (وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) للعباد ، نميتهم ، ثمّ يرجع إلينا جميع ما متعناهم به من النعم ، ثمّ نعيدهم إلينا فنجازيهم بأعمالهم. ومن حكمته ورحمته ، أن لا يعذب الأمم ، بمجرد كفرهم ، قبل إقامة الحجة عليهم ، بإرسال الرسل إليهم ، ولهذا قال :

[٥٩] (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى) أي بكفرهم وظلمهم (حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها) أي : في القرية والمدينة الّتي إليها يرجعون ، ونحوها يترددون ، وكلّ ما حولها ينتجعها ، ولا تخفى عليهم أخبارها. (رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) الدالة على صحة ما جاء به ، وصدق ما دعاهم إليه. فيبلغ قوله قاصيهم ودانيهم. بخلاف بعث الرسل في القرى البعيدة ، والأطراف النائية ، فإن ذلك ، مظنة الخفاء والجفاء ، والمدن الأمهات ، مظنة الظهور والانتشار ، وفي الغالب أنهم أقل جفاء من غيرهم. (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) بالكفر والمعاصي ، مستحقون للعقوبة. والحاصل ، أن الله لا يعذب أحدا إلا بظلمه ، وإقامة الحجة عليه.

[٦٠] هذا حض منه تعالى لعباده ، على الزهد في الدنيا ، وعدم الاغترار بها ، وعلى الرغبة في الأخرى ، وجعلها مقصود العبد ومطلوبه. ويخبرهم أن جميع ما أوتيه الخلق ، من الذهب ، والفضة ، والحيوانات والأمتعة ، والنساء ، والبنين ، والمآكل ، والمشارب ، واللذات ، كلها متاع الحياة الدنيا وزينتها ، أي : يتمتع به وقتا قصيرا ، متاعا قاصرا ، محشوا بالمنغصات ، ممزوجا بالغصص ، ويتزين به زمانا يسيرا ، للفخر والرياء ، ثمّ يزول ذلك سريعا ، وينقضي

٧٤٤

جميعا ، ولم يستفد صاحبه منه إلا الحسرة والندم ، والخيبة والحرمان. (وَما عِنْدَ اللهِ) من النعيم المقيم ، والعيش السليم (خَيْرٌ وَأَبْقى) أي : أفضل في وصفه وكميته ، وهو دائم أبدا ، ومستمر سرمدا. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي : أفلا تكون لكم عقول ، بها تزنون أي الأمرين أولى بالإيثار ، وأي الدارين أحق للعمل لها. فدل ذلك أنه بحسب عقل العبد ، يؤثر الأخرى على الدنيا ، وأنه ما آثر أحد الدنيا ، إلا لنقص في عقله. ولهذا نبه العقول على الموازنة ، بين عاقبة مؤثر الدنيا ، ومؤثر الآخرة فقال :

[٦١] (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ) أي : هل يستوي مؤمن ، ساع للآخرة سعيها قد عمل على وعد ربه له ، بالثواب الحسن ، الذي هو الجنة ، وما فيها من النعيم العظيم ، فهو لاقيه ، من غير شك ، ولا ارتياب لأنه وعد من كريم ، صادق الوعد ، لا يخلف الميعاد ، لعبد قام بمرضاته ، وجانب سخطه. (كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) فهو يأخذ فيها ، ويعطي ، ويأكل ويشرب ، ويتمتع كما تتمتع البهائم ، قد اشتغل بدنياه عن آخرته ، ولم يرفع بهدى الله رأسا ، ولم ينقد للمرسلين. فهو لا يزال كذلك ، لا يتزود من دنياه إلا الخسار والهلاك. (ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) للحساب وقد علم أنه لم يقدم خيرا لنفسه ، وإنّما قدّم جميع ما يضره ، وانتقل إلى دار الجزاء على الأعمال. فما ظنكم بما يصير إليه؟ وما تحسبون ما يصنع به؟ فليختر العاقل لنفسه ، وما هو أولى بالاختيار ، وأحق الأمرين بالإيثار.

[٦٢] هذا إخبار من الله تعالى ، عمّا يسأل عنه الخلائق يوم القيامة ، وأنه يسألهم عن أصول الأشياء ، عن عبادة الله ، وإجابة رسله فقال : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) أي : ينادي من أشركوا به شركاء ، يعبدونهم ، ويرجون نفعهم ، ودفع الضرر عنهم ، فيناديهم ، ليبين لهم عجزها ، وضلالهم. (فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ) ، وليس لله شريك ، ولكن ذلك بحسب زعمهم وافترائهم. ولهذا قال : (الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) فأين هم ، بذواتهم ، أين نفعهم وأين دفعهم؟ ومن المعلوم أنهم يتبين لهم في تلك الحال ، أن الذي عبدوه ، ورجوه باطل ، مضمحل في ذاته ، وما رجوا منه ، فيقولون : أي يحكمون على أنفسهم بالضلالة والغواية.

[٦٣] ولهذا (قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) من الرؤساء والقادة في الكفر والشر ، مقرين بغوايتهم وإغوائهم : (رَبَّنا هؤُلاءِ) التابعون (الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) أي : كلنا قد اشترك في الغواية ، وحق عليه كلمة العذاب.

(تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ) من عبادتهم ، أي نحن برآء منهم ، ومن عملهم. (ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) إنّما كانوا يعبدون الشياطين.

[٦٤] (وَقِيلَ) لهم : (ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) على ما أملتم فيهم من النفع. فأمروا بدعائهم في ذلك الوقت الحرج ، الذي يضطر فيه العابد إلى من عبده. (فَدَعَوْهُمْ) لينفعوهم ، أو يدفعوا عنهم من عذاب الله من شيء. (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) فعلم الّذين كفروا أنهم كانوا كاذبين ، مستحقين للعقوبة. (وَرَأَوُا الْعَذابَ) الذي سيحل بهم عيانا ، بأبصارهم بعد ما كانوا مكذبين به ، منكرين له. (لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) أي : لما حصل لهم ما حصل ، ولهدوا إلى صراط

٧٤٥

الجنة ، كما اهتدوا في الدنيا ، ولكن لم يهتدوا ، فلم يهتدوا.

[٦٥] (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) (٦٥) ، هل صدقتموهم واتبعتموهم ، أم كذبتموهم وخالفتموهم؟

[٦٦] (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) (٦٦) أي : لم يجدوا عن هذا السؤال جوابا ، ولم يهتدوا إلى الصواب. ومن المعلوم أنه لا ينجي في هذا الموضع إلا التصريح بالجواب الصحيح ، المطابق لأحوالهم ، من أننا أجبناهم بالإيمان ، والانقياد. ولكن لما علموا تكذيبهم لهم وعنادهم لأمرهم ، لم ينطقوا بشيء. ولا يمكن أن يتساءلوا ، ويتراجعوا بينهم ، في ماذا يجيبون به ، ولو كان كذبا.

[٦٧] لما ذكر تعالى سؤال الخلق عن معبودهم ، وعن رسلهم ، ذكر الطريق الذي ينجو به العبد ، من عقاب الله تعالى ، وأنه لا نجاة إلا لمن اتصف بالتوبة عن الشرك والمعاصي ، وآمن بالله فعبده ، وآمن برسله ، فصدقهم ، وعمل صالحا ، متبعا فيه للرسل. (فَعَسى أَنْ يَكُونَ) من جمع هذه الخصال (مِنَ الْمُفْلِحِينَ) الناجين بالمطلوب ، الناجين من المرهوب. فلا سبيل إلى الفلاح بدون هذه الأمور.

[٦٨ ـ ٧٠] هذه الآيات ، فيها عموم خلقه لسائر المخلوقات ، ونفوذ مشيئته بجميع البريات ، وانفراده باختيار من يختاره ويختصه ، من الأشخاص ، والأوامر والأزمان ، والأماكن. وأن أحدا ليس له من الأمر والاختيار شيء. وأنه تعالى ، منزه عن كلّ ما يشركون به ، من الشريك ، والظهير والعوين ، والولد ، والصاحبة ، ونحو ذلك ، مما أشرك به المشركون. وأنه العالم بما أكنته الصدور ، وما أعلنوه. وأنه وحده ، المعبود المحمود ، في الدنيا والآخرة ، على ما له من صفات الجلال والجمال ، وعلى ما أسداه إلى خلقه من الإحسان والإفضال. وأنه هو الحاكم في الدارين : في الدنيا ، بالحكم القدري ، الذي أثره جميع ما خلق وذرأ ، والحكم الديني ، الذي أثره جميع الشرائع ، والأوامر والنواهي. وفي الآخرة يحكم بحكمه القدري والجزائي ، ولهذا قال : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فيجازي كلا منكم بعمله ، من خير وشر.

[٧١] هذا امتنان من الله على عباده ، يدعوهم به إلى شكره ، والقيام بعبوديته وحقه ، أن جعل لهم من رحمته النهار ليبتغوا من فضل الله ، وينتشروا لطلب أرزاقهم ومعايشهم في ضيائه. والليل ليهدؤوا فيه ويسكنوا ، وتستريح أبدانهم وأنفسهم ، من تعب التصرف في النهار ، فهذا من فضله ورحمته بعباده. فهل أحد يقدر على شيء من ذلك؟ (إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ) مواعظ الله وآياته ، سماع فهم وقبول ، وانقياد.

[٧٢] و (إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ) مواقع العبر ، ومواضع الآيات فتستنير في بصائركم ، وتسلكوا الطريق المستقيم. وقال في الليل : (أَفَلا تَسْمَعُونَ) وفي النهار (أَفَلا تُبْصِرُونَ). لأن سلطان السمع في الليل أبلغ من سلطان البصر ، وعكسه

٧٤٦

النهار. وفي هذه الآيات ، تنبيه إلى أن العبد ينبغي له أن يتدبر نعم الله عليه ، ويستبصر فيها ، ويقيسها بحال عدمها. فإنه إذا وازن بين حالة وجودها ، وبين حالة عدمها ، تنبه عقله لموضع المنة. بخلاف من جرى مع العوائد ، ورأى أن هذا أمر لم يزل مستمرا ، ولا يزال. وعمي قلبه عن الثناء على الله ، بنعمه ، ورؤية افتقاره إليه في كلّ وقت. فإن هذا ، لا يحدث له فكرة شكر ، ولا ذكر.

[٧٤] أي : ويوم ينادي الله المشركين به ، العادلين به غيره ، الّذين يزعمون أن له شركاء ، يستحقون أن يعبدوا ، وينفعون ويضرون. فإذا كان يوم القيامة وأراد الله أن يظهر جراءتهم وكذبهم في زعمهم وتكذيبهم لأنفسهم (يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أي : بزعمهم ، لا بنفس الأمر كما قال : (وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ).

[٧٥] فإن حضروا ، هم وإياهم ، نزع الله (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ) من الأمم الكاذبة (شَهِيداً) يشهد على ما جرى في الدنيا ، من شركهم واعتقادهم ، وهؤلاء بمنزلة المنتخبين. أي : انتخبنا من رؤساء المكذبين ، من يتصدى للخصومة عنهم ، والمجادلة عن إخوانهم ، وهم على طريق واحد. فإذا برزوا للمحاكمة (فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أي : حجتكم ودليلكم ، على صحة شرككم. هل أمرناكم بذلك؟ هل أمرتكم رسلي؟ هل وجدتم ذلك في شيء من كتبي؟ هل فيهم أحد يستحق شيئا من الإلهية؟ هل ينفعونكم ، أو يدفعون عنكم من عذاب الله ، أو يغنون عنكم؟ فليفعلوا ، إذا كان فيهم أهلية ، وليروكم ، إن كان لهم قدرة. (فَعَلِمُوا) حينئذ ، بطلان قولهم وفساده ، و (أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ) تعالى. قد توجهت عليهم الخصومة ، وانقطعت حجتهم ، وأفلجت حجة الله. (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من الكذب ، والإفك ، واضمحل ، وتلاشى ، وعدم. وعلموا أن الله قد عدل فيهم ، حيث لم يضع العقوبة ، إلا بمن استحقها ، واستأهلها.

[٧٦] يخبر تعالى عن حالة قارون ، وما فعل ، وفعل به ونصح ووعظ ، فقال : (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى) أي : من بني إسرائيل ، الّذين فضّلوا على العالمين ، وفاقوهم في زمانهم ، وامتنّ الله عليهم بما امتنّ به ، فكانت حالهم مناسبة للاستقامة. ولكن قارون هذا ، انحرف عن سبيل قومه (فَبَغى عَلَيْهِمْ) وطغى ، بما أوتيه من الأمور العظيمة المطغية. (وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ) أي : كنوز الأموال شيئا كثيرا. (ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) والعصبة ، من العشرة إلى التسعة إلى السبعة ، ونحو ذلك. أي : حتى إن مفاتح خزائن أمواله ، تثقل الجماعة القوية عن حملها ، هذه المفاتيح ، فما ظنك بالخزائن؟ (إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ) ناصحين له محذرين له عن الطغيان : (لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) أي : لا تفرح بهذه الدنيا العظيمة ، وتفتخر بها ، وتلهيك عن الآخرة ، فإن الله لا يحب الفرحين بها ، المنكبين على محبتها.

[٧٧] (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ) أي : قد حصل عندك من وسائل الآخرة ، ما ليس عند غيرك من الأموال فابتغ بها ما عند الله ، وتصدق ولا تقتصر على مجرد نيل الشهوات ، وتحصيل اللذات. (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ

٧٤٧

مِنَ الدُّنْيا) أي : لا نأمرك أن تتصدق بجميع مالك ، وتبقى ضائعا ، بل أنفق لآخرتك ، واستمتع بدنياك ، استمتاعا لا يثلم دينك ، ولا يضر بآخرتك. (وَأَحْسِنْ) إلى عباد الله (كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) بهذه الأموال. (وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) بالتكبر ، والعمل بمعاصي الله والاشتغال بالنعم عن المنعم. (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) بل يعاقبهم على ذلك ، أشد العقوبة.

[٧٨] (قالَ) قارون ـ رادا لنصيحتهم ، كافرا بنعمة ربه ـ : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) أي : إنّما أدركت هذه الأموال ، بكسبي ، ومعرفتي بوجوه المكاسب ، وحذقي. أو على علم من الله بحالي ، يعلم أني أهل لذلك ، فلم تنصحوني على ما أعطاني الله؟ قال تعالى ـ مبينا أن عطاءه ، ليس دليلا على حسن حال المعطي : (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً) فما المانع من إهلاك قرون أخرى ، مع مضيّ عادتنا وسنتنا بإهلاك من هو مثله وأعظم منه ، إذا فعل ما يوجب الهلاك؟ (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) بل يعاقبهم الله ، ويعذبهم على ما يعلمه منهم. فهم ، وإن أثبتوا لأنفسهم حالة حسنة ، وشهدوا لها بالنجاة ، فليس قولهم مقبولا ، وليس ذلك رادا عنهم من العذاب شيئا ، لأن ذنوبهم غير خفية ، فإنكارهم لا محل له. فلم يزل قارون مستمرا على عناده وبغيه ، وعدم قبول نصيحة قومه ، فرحا بطرا قد أعجبته نفسه ، وغره ما أوتيه من الأموال.

[٧٩] (فَخَرَجَ) ذات يوم (عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) أي : بحالة أرفع ما يكون من أحوال دنياه ، قد كان له من الأموال ما كان ، وقد استعد وتجمّل بأعظم ما يمكنه. وتلك الزينة في العادة ، من مثله ، تكون هائلة ، جمعت زينة الدنيا وزهرتها وبهجتها وغضارتها وفخرها. فرمقته في تلك الحالة العيون ، وملأت بزّته القلوب ، واختلبت زينته النفوس. فانقسم فيه الناظرون قسمين ، كل تكلّم بحسب ما عنده من الهمة والرغبة. (قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) أي : الّذين تعلقت إرادتهم فيها ، وصارت منتهى رغبتهم ليس لهم إرادة في سواها : (يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ) من الدنيا ومتاعها وزهرتها (إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ). وصدقوا إنه لذو حظ عظيم ، لو كان الأمر منتهيا إلى رغباتهم ، وأنه ليس وراء الدنيا ، دار أخرى ، فإنه قد أعطي منها ما به غاية التنعم بنعيم الدنيا ، واقتدر بذلك على جميع مطالبه ، فصار هذا الحظ العظيم بحسب همتهم ، وإن همة جعلت هذا غاية مرادها ، ومنتهى مطلبها لمن أدنى الهمم ، وأسفلها ، وأدناها ، وليس لها أدنى صعود إلى المرادات العالية ، والمطالب الغالية.

[٨٠] (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) الّذين عرفوا حقائق الأشياء ، ونظروا إلى باطن الدنيا ، حين نظر أولئك إلى ظاهرها : (وَيْلَكُمْ) متوجعين مما تمنوا لأنفسهم ، راثين لحالهم ، منكرين لمقالهم. (ثَوابُ اللهِ) العاجل ، من لذة العبادة ومحبته ، والإنابة إليه ، والإقبال عليه. والآجل من الجنة ، وما فيها ، مما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين (خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) من هذا الذي تمنيتم ورغبتم فيه ، فهذه حقيقة الأمر. ولكن ما كلّ من يعلم ذلك يقبل عليه ، فما يلقّى ذلك ويوفق له (إِلَّا الصَّابِرُونَ) الّذين حبسوا أنفسهم على طاعة الله ، وعن معصيته ، وعلى أقداره المؤلمة ، وصبروا على جواذب الدنيا وشهواتها ، أن تشغلهم عن ربهم ، وأن تحول بينهم ، وبين ما خلقوا له. فهؤلاء الّذين يؤثرون ثواب الله على الدنيا الفانية.

[٨١] فلما انتهت بقارون حالة البغي والفخر ، وازّيّنت الدنيا عنده ، وكثر بها إعجابه ، بغتة العذاب (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) جزاء من جنس عمله. فكما رفع نفسه على عباد الله ، أنزله الله أسفل سافلين ، هو ما اغتر به ، من داره ، وأثاثه ، ومتاعه. (فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ) أي : جماعة ، وعصبة ، وخدم ، وجنود (يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ) أي : جاءه العذاب ، فما نصر ، ولا انتصر.

[٨٢] (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ) أي : الذي يريدون الحياة الدنيا ، الّذين قالوا : (يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ). (يَقُولُونَ) متوجعين ومعتبرين ، وخائفين من وقوع العذاب بهم : (وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ

٧٤٨

يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ) أي : يضيق الرزق على من يشاء ، فعلمنا حينئذ ، أن بسطه لقارون ، ليس دليلا على خير فيه ، وأننا غالطون في قولنا : (إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ). و (لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) فلم يعاقبنا على ما قلنا ، فلولا فضله ومنته (لَخَسَفَ بِنا) فصار هلاك قارون ، عقوبة له ، وعبرة وموعظة لغيره ، حتى إن الذين غبطوه ، سمعت كيف ندموا ، وتغير فكرهم الأول. (وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) أي : لا في الدنيا ولا في الآخرة.

[٨٣] لما ذكر تعالى ، قارون وما أوتيه من الدنيا ، وما صارت إليه عاقبة أمره ، وأن أهل العلم قالوا : (ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) رغب تعالى في الدار الآخرة ، وأخبر بالسبب الموصل إليها فقال : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ) التي أخبر الله بها في كتبه وأخبرت بها رسله ، التي جمعت كل نعيم ، واندفع عنها كل مكدر ومنغص. (نَجْعَلُها) دارا وقرارا (لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً) أي : ليس لهم إرادة فكيف العمل للعلو في الأرض ، على عباد الله ، والتكبر عليهم وعلى الحق (وَلا فَساداً) وهذا شامل لجميع المعاصي. فإذا كانوا لا إرادة لهم في العلو في الأرض ، ولا الفساد ، لزم من ذلك ، أن تكون إرادتهم مصروفة إلى الله ، وقصدهم الدار الآخرة ، وحالهم التواضع لعباد الله ، والانقياد للحق والعمل الصالح. وهؤلاء هم المتقون الذين لهم العاقبة الحسنى ، ولهذا قال : (وَالْعاقِبَةُ) أي : حالة الفلاح والنجاح ، التي تستقر وتستمر ، لمن اتقى الله تعالى. وغيرهم ـ وإن حصل لهم بعض الظهور والراحة ـ فإنه لا يطول وقته ، ويزول عن قريب. وعلم من هذا الحصر في الآية الكريمة ، أن الذين يريدون العلو في الأرض ، أو الفساد ، ليس لهم في الدار الآخرة ، نصيب ، ولا لهم منها حظ.

[٨٤] يخبر تعالى عن مضاعفة فضله ، وتمام عدله فقال : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) شرط فيها أن يأتي بها العامل ، لأنه قد يعملها ، ولكن يقترن بها ما لا تقبل منه ، أو يبطلها ، فهذا لم يجىء بالحسنة. والحسنة ، اسم جنس يشمل جميع ما أمر الله به ورسوله ، من الأقوال والأعمال الظاهرة ، والباطنة ، المتعلقة بحقه تعالى ، وحقوق العباد (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) أي : أعظم وأجلّ ، وفي الآية الأخرى (فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها). هذا التضعيف للحسنة ، لا بد منه ، وقد يقترن بذلك من الأسباب ، ما تزيد به المضاعفة كما قال تعالى : (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) بحسب حال العامل وعمله ، ونفعه ، ومحله ، ومكانه. (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) وهي كل ما نهى الشارع عنه ، نهي تحريم. (فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) كقوله تعالى : (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).

[٨٥] يقول تعالى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) أي : نزله ، وفرض فيه الأحكام ، وبيّن فيه الحلال والحرام ، وأمرك بتبليغه للعالمين ، والدعوة لأحكامه ، جميع المكلفين ، لا يليق بحكمته ، أن تكون هي الحياة الدنيا فقط ، من غير أن يثاب العباد ويعاقبوا. بل لا بد أن يردك إلى معاد ، يجازى فيه المحسنون بإحسانهم ، والمسيئون بمعصيتهم. وقد بيّنت لهم الهدى ، وأوضحت لهم المنهج. فإن تبعوك ، فذلك حظهم وسعادتهم. وإن أبوا إلا عصيانك ، والقدح بما جئت به من الهدى ، وتفضيل ما معهم من الباطل على الحق ، فلم يبق للمجادلة محل ، ولم يبق

٧٤٩

إلا المجازاة على الأعمال من العالم بالغيب والشهادة ، والمحق والمبطل ، ولهذا قال : (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) وقد علم أن رسوله هو المهتدي الهادي ، وأن أعداءه هم الضالون المضلون.

[٨٦] (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ) أي : لم تكن متحريا لنزول هذا الكتاب عليك ، ولا مستعدا له ، ولا متصديا. (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) وبالعباد ، فأرسلك بهذا الكتاب ، الذي رحم به العالمين ، وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون ، وزكاهم ، وعلمهم الكتاب والحكمة ، وإن كانو من قبل لفي ضلال مبين. فإذا علمت أنه أنزل إليك رحمة منه ، علمت ، أن جميع ما أمر به ، ونهى عنه ، رحمة ، وفضل من الله. فلا يكن في صدرك حرج من شيء منه ، وتظن أن مخالفته ، أصلح وأنفع. (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) أي : معينا لهم على ما هو من شعب كفرهم. ومن جملة مظاهرتهم ، أن يقال في شيء منه ، إنه خلاف الحكمة والمصلحة والمنفعة.

[٨٧] (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) بل أبلغها وأنفذها ، ولا تبال بمكرهم ولا يخدعنك عنها ، ولا تتبع أهواءهم. (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) أي : اجعل الدعوة إلى ربك ، منتهى قصدك وغاية عملك. فكل ما خالف ذلك ، فارفضه ، من رياء ، أو سمعة ، أو موافقة أغراض أهل الباطل ، فإن ذلك داع إلى الكون معهم ، ومساعدتهم على أمرهم ولهذا قال : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) لا في شركهم ، ولا في فروعه وشعبه ، التي هي جميع المعاصي.

[٨٨] (وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) بل أخلص لله عبادتك ، فإنه (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فلا أحد يستحق أن يؤله ، ويحب ، ويعبد ، إلا الله الكامل الباقي الذي (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) وإذا كان كل شيء سواه هالكا مضمحلا ، فعبادة الهالك الباطل باطلة ، ببطلان غايتها ، وفساد نهايتها. (لَهُ الْحُكْمُ) في الدنيا والآخرة (وَإِلَيْهِ) لا إلى غيره (تُرْجَعُونَ). فإذا كان ما سوى الله باطلا هالكا ، والله هو الباقي ، الذي لا إله إلا هو ، وله الحكم في الدنيا والآخرة ، وإليه مرجع الخلائق كلهم ، ليجازيهم بأعمالهم ، تعيّن على من له عقل ، أن يعبد الله وحده لا شريك له ، ويعمل لما يقربه ويدنيه ، ويحذر من سخطه وعقابه ، وأن يقدم على ربه غير تائب ، ولا مقلع عن خطئه وذنوبه. تم تفسير سورة القصص.

تفسير سورة العنكبوت

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣] يخبر تعالى ، عن تمام حكمته ، وأن حكمته لا تقتضي أن كل من قال : «إنه مؤمن» وادعى لنفسه

٧٥٠

الإيمان ، أن يبقوا في حالة ، يسلمون فيها من الفتن والمحن ، ولا يعرض لهم ما يشوش عليهم إيمانهم وفروعه. فإنه لو كان الأمر كذلك ، لم يتميز الصادق من الكاذب ، والمحق من المبطل. ولكن سنته تعالى وعادته في الأولين ، في هذه الأمة ، أن يبتليهم بالسراء والضراء ، والعسر واليسر ، والمنشط والمكره ، والغنى والفقر ، وإدالة الأعداء عليهم في بعض الأحيان ، ومجاهدة الأعداء بالقول والعمل ، ونحو ذلك من الفتن ، التي ترجع كلها ، إلى فتنة الشبهات المعارضة للعقيدة ، والشهوات المعارضة للإرادة. فمن كان عند ورود الشبهات ، يثبت إيمانه ولا يتزلزل ، ويدفعها بما معه من الحق وعند ورود الشهوات الموجبة والداعية إلى المعاصي والذنوب ، أو الصارفة عن ما أمر الله به ورسوله ، يعمل بمقتضى الإيمان ، ويجاهد شهوته ، دلّ على صدق إيمانه وصحته. ومن كان عند ورود الشبهات تؤثر في قلبه ، شكا وريبا ، وعند اعتراض الشهوات ، تصرفه إلى المعاصي أو تصدفه عن الواجبات ، دلّ ذلك على عدم صحة إيمانه وصدقه. والناس في هذا المقام : درجات ، لا يحصيها إلا الله ، فمستقل ومستكثر. فنسأل الله تعالى ، أن يثبتنا بالقول الثابت ، في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، وأن يثبت قلوبنا على دينه ، فالابتلاء والامتحان للنفوس ، بمنزلة الكير ، يخرج خبثها ، وطيبها.

[٤] أي : أحسب الذين همهم ، فعل السيئات ، وارتكاب الجنايات ، أن أعمالهم ستهمل ، وأن الله سيغفل عنهم ، أو يفوتونه ، فلذلك أقدموا عليها ، وسهل عليهم عملها؟ (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي : ساء حكمهم ، فإنه حكم جائر ، لتضمنه إنكار قدرة الله وحكمته ، وأن لديهم قدرة ، يمتنعون بها من عقاب الله ، وهم أضعف شيء وأعجزه.

[٥] (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٥) يعني : يا أيها المحب لربه المشتاق لقربه ولقائه ، المسارع في مرضاته ، أبشر بقرب لقاء الحبيب ، فإنه آت ، وكل ما هو آت قريب. فتزود للقائه ، وسر نحوه ، مستصحبا الرجاء ، مؤملا الوصول إليه. ولكن ، ما كل من يدّعي يعطى بدعواه ، ولا كل من تمنى ، يعطى ما تمناه ، فإن الله سميع للأصوات ، عليم بالنيات. فمن كان صادقا في ذلك ، أناله ما يرجو ، ومن كان كاذبا ، لم تنفعه دعواه. وهو العليم بمن يصلح لحبه ، ومن لا يصلح.

[٦] (وَمَنْ جاهَدَ) نفسه وشيطانه ، وعدوه الكافر ، (فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) لأن نفعه راجع إليه ، و (إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) لم يأمرهم به لينتفع به ، ولا نهاهم عمّا نهاهم عنه بخلا منه عليهم. وقد علم أن الأوامر والنواهي ، يحتاج المكلف فيها إلى جهاد ، لأن نفسه ، تتثاقل بطبعها عن الخير ، وشيطانه ينهاه عنه ، وعدوه الكافر ، يمنعه من إقامة دينه ، كما ينبغي. وكل هذه معارضات ، تحتاج إلى مجاهدات وسعي شديد.

[٧] (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) يعني أن الذين منّ الله عليهم بالإيمان والعمل الصالح ، سيكفر الله عنهم سيئاتهم ، لأن الحسنات يذهبن السيئات. (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) وهي أعمال الخير ، من واجبات ، ومستحبات ، فهي أحسن ما يعمل العبد ، لأنه يعمل المباحات أيضا ، وغيرها.

٧٥١

[٨] أي : وأمرنا الإنسان ، ووصيناه ، بوالديه حسنا ، أي : ببرهما ، والإحسان إليهما ، بالقول والعمل ، وأن يحافظ على ذلك ، ولا يعقهما ، ويسيء إليها ، في قوله وعمله. (وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ، وليس لأحد علم بصحة الشرك بالله ، وهذا تعظيم لأمر الشرك. (فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فأجازيكم بأعمالكم. فبروا والديكم وقدموا طاعتهما ، إلا على طاعة الله ورسوله ، فإنها مقدمة على كل شيء.

[٩] أي : من آمن بالله ، وعمل صالحا ، فإن الله وعده ، أن يدخله الجنة في جملة عباد الله الصالحين ، من النبيين ، والصديقين ، والشهداء ، والصالحين ، كل على حسب درجته ، ومرتبته عند الله. فالإيمان الصحيح ، والعمل الصالح ، عنوان على سعادة صاحبه ، وأنه من أهل الرحمن ، ومن الصالحين من عباد الله.

[١٠] لما ذكر تعالى ، أنه لا بد أن يمتحن من ادّعى الإيمان ، ليظهر الصادق من الكاذب ، بيّن تعالى أن من الناس فريقا ، لا صبر لهم على المحن ، ولا ثبات لهم على بعض الزلازل فقال : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ) بضرب ، أو أخذ مال ، أو تعيير ، ليرتد عن دينه ، وليراجع الباطل. (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ) أي : يجعلها صادّة له عن الإيمان ، والثبات عليه ، كما أن العذاب صادّ عمّا هو سببه. (وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) ، لأنه موافق للهوى ، فهذا الصنف من الناس من الذين قال الله فيهم : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) (١١). (أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ) حيث أخبركم بهذا الفريق ، الذي حاله كما وصف لكم ، فتعرفون بذلك ، كمال علمه ، وسعة حكمته.

[١١] (وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) (١١) أي : فلذلك قدّر محنا وابتلاء ، ليظهر علمه فيهم ، فيجازيهم بما ظهر منهم ، لا بما يعلمه بمجرده ، لأنهم قد يحتجون على الله ، أنهم لو ابتلوا ، لثبتوا.

[١٢ ـ ١٣] يخبر تعالى عن افتراء الكفار ودعوتهم للمؤمنين إلى دينهم ، وفي ضمن ذلك ، تحذير المؤمنين ، من الاغترار بهم ، والوقوع في مكرهم فقال : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا) فاتركوا دينكم أو بعضه ، واتبعونا في ديننا ، فإننا نضمن لكم الأمر (وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ). وهذا الأمر ليس بأيديهم ، فلهذا قال : (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ) لا قليل ولا كثير. فهذا التحمل ، ولو رضي به صاحبه ، فإنه لا يفيد شيئا ، فإن الحق لله والله تعالى لم يمكن العبد من التصرف في حقه ، إلا بأمره وحكمه ، وحكمه (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (٣٨). ولما كان قوله : (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ) قد يتوهم منه أيضا ، أن الكفار الداعين إلى كفرهم ـ ونحوهم ممن دعا إلى باطله ـ ليس عليهم إلا ذنبهم ، الذي ارتكبوه ، دون الذنب الذي فعله غيرهم ، ولو كانو متسببين فيه ، قال محترزا عن هذا الوهم : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ) أي : أثقال ذنوبهم التي عملوها (وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) وهي الذنوب التي حصلت بسببهم ، ومن جرائمهم. وفالذنب الذي فعله التابع ، لكل من التابع والمتبوع حصة منه حصلت ، هذا لأنه

٧٥٢

فعله وباشره ، والمتبوع ؛ لأنه تسبب في فعله ودعا إليه. كما أن الحسنة إذا فعلها التابع ، له أجرها بالمباشرة ، وللداعي أجره بالتسبب. (وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) من الشر وتزيينه ، وقولهم «ولنحمل خطاياكم».

[١٤] يخبر تعالى ، عن حكمه وحكمته ، في عقوبات الأمم المكذبة ، وأن الله أرسل عبده ورسوله ، نوحا عليه‌السلام ، إلى قومه ، يدعوهم إلى التوحيد ، وإفراد الله بالعبادة ، والنهي عن الأنداد والأصنام. (فَلَبِثَ فِيهِمْ) نبيا داعيا (أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) ، وهو لا يني بدعوتهم ، ولا يفتر في نصحهم ، يدعوهم ليلا ونهارا وسرا وجهارا ، فلم يرشدوا ، ولا اهتدوا. بل استمروا على كفرهم وطغيانهم ، حتى دعا عليهم نبيهم نوح ، عليه الصلاة والسلام ، مع شدة صبره ، وحلمه ، واحتماله فقال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً). (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ) أي : الماء الذي نزل من السماء بكثرة ، ونبع من الأرض بشدة (وَهُمْ ظالِمُونَ) مستحقون للعذاب.

[١٥] (فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ) الذين ركبوا معه ، أهله ومن آمن به. (وَجَعَلْناها) أي : السفينة ، أو قصة نوح (آيَةً لِلْعالَمِينَ) يعتبرون بها ، على أن من كذّب الرسل ، آخر أمره الهلاك ، وأن المؤمنين سيجعل الله لهم من كل همّ فرجا ، ومن كل ضيق مخرجا. وجعل الله أيضا السفينة ، أي : جنسها آية للعالمين ، يعتبرون بها رحمة ربهم ، الذي قيّض لهم أسبابها ، ويسّر لهم أمرها ، وجعلها تحملهم ، وتحمل متاعهم ، من محل إلى محل ، ومن قطر إلى قطر.

[١٦] يذكر تعالى ، أنه أرسل خليله ، إبراهيم عليه‌السلام إلى قومه ، يدعوهم إلى الله. فقال لهم : (اعْبُدُوا اللهَ) أي : وحّدوه ، وأخلصوا له العبادة ، وامتثلوا ما أمركم به. (وَاتَّقُوهُ) أن يغضب عليكم ، فيعذبكم ، وذلك بترك ما يغضبه من المعاصي. (ذلِكُمْ) أي : عبادة الله وتقواه (خَيْرٌ لَكُمْ) من ترك ذلك. وهذا من باب إطلاق «رد فعل التفضيل» بما ليس في الطرف الآخر منه شيء. فإن ترك عبادة الله ، وترك تقواه ، لا خير فيه بوجه ، وإنما كانت عبادة الله وتقواه ، خيرا للناس ، لأنه لا سبيل إلى نيل كرامته ، في الدنيا والآخرة ، إلا بذلك. وكل خير يوجد في الدنيا والآخرة ، فإنه من آثار عبادة الله وتقواه. (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ذلك ، فاعلموا الأمور ، وانظروا ، ما هو أولى بالإيثار. فلما أمرهم بعباده الله وتقواه ، نهاهم عن عبادة الأصنام ، وبيّن لهم نقصها ، وعدم استحقاقها للعبودية فقال :

[١٧ ـ ١٨] (إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) تنحتونها ، وتخلقونها بأيديكم ، وتخلقون لها أسماء الآلهة ، وتختلقون الكذب بالأمر بعبادتها والتمسك بذلك. (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) في نقصه ، وأنه ليس فيه ما يدعو إلى عبادته. (لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) فكأنه قيل : قد بان لنا أن هذه الأوثان مخلوقة ناقصة ، لا تملك نفعا ولا ضرا ، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، وأن من هذا وصفه ، لا يستحق أدنى أدنى أدنى مثقال مثقال مثقال ذرة ، من العبادة والتأله ، والقلوب لا بد أن تطلب معبودا تؤلهه ، وتسأله حوائجها. فقال ـ حاثا لهم على من يستحق العبادة ـ (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) فإنه هو الميسر له ، المقدر ، المجيب لدعوة من دعاه لمصالح دينه ودنياه. (وَاعْبُدُوهُ) وحده

٧٥٣

لا شريك له ، لكونه الكامل النافع الضار ، المتفرد بالتدبير. (وَاشْكُرُوا لَهُ) وحده ، لكون جميع ما وصل ويصل إلى الخلق ، من النعم ، فمنه. وجميع ما اندفع ، ويندفع من النقم عنهم ، فهو الدافع لها. (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فيجازيكم على ما عملتم ، وينبئكم بما أسررتم وأعلنتم. فاحذروا القدوم عليه وأنتم على شرككم ، وارغبوا فيما يقربكم إليه ، ويثيبكم ـ عند القدوم ـ عليه.

[١٩] (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) يوم القيامة (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ). كما قال تعالى : وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ).

[٢٠] (قُلْ) لهم ، إن حصل معهم ريب وشك في الابتداء : (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) بأبدانكم وقلوبكم (فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) فإنكم ستجدون أمما من الآدميين ، لا تزال توجد شيئا فشيئا ، وتجدون النبات والأشجار ، كيف تحدث ، وقتا بعد وقت ، وتجدون السحاب والرياح ونحوها ، مستمرة في تجددها. بل الخلق دائما في بدء وإعادة. فانظروا إليهم وقت موتتهم الصغرى ـ النوم ـ وقد هجم عليهم الليل بظلامه ، فسكنت منهم الحركات ، وانقطعت منهم الأصوات ، وصاروا في فرشهم ومأواهم كالميتين. ثم إنهم لم يزالوا على ذلك ، طول ليلهم ، حتى تنفلق الأصباح ، فانتبهوا من رقدتهم ، وبعثوا من موتتهم ، قائلين : «الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور» ولهذا قال : (ثُمَّ اللهُ) بعد الإعادة (يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) وهي النشأة التي لا تقبل موتا ، ولا نوما ، وإنما هو الخلود والدوام ، في إحدى الدارين. (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فقدرته تعالى ، لا يعجزها شيء ، وكما قدر بها على ابتداء الخلق ، فقدرته على الإعادة ، من باب أولى وأخرى.

[٢١] (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ) أي : هو المنفرد بالحكم الجزائي ، وهو : إثابة الطائعين ، ورحمتهم ، وتعذيب العاصين والتنكيل بهم. (وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) أي : ترجعون إلى الدار ، التي بها تجري عليكم أحكام عذابه ورحمته. فاكتسبوا في هذه الدار ، ما هو من أسباب رحمته من الطاعات. وابتعدوا عن أسباب عذابه ، وهي المعاصي.

[٢٢] (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) أي : يا هؤلاء المكذبين ، المتجرئين على المعاصي ، لا تحسبوا أنه مغفول عنكم ، أو أنكم معجزون لله في الأرض ، ولا في السماء. فلا تغرنكم قدرتكم ، وما زينت لكم أنفسكم ، وخدعتكم ، من النجاة من عذاب الله فلستم بمعجزين الله ، في جميع أقطار العالم. (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) يتولاكم ، فيحصل لكم مصالح دينكم ودنياكم. (وَلا نَصِيرٍ) ينصركم ، فيدفع عنكم المكاره.

[٢٣] يخبر تعالى ، من هم الذين زال عنهم الخير ، وحصل لهم الشر. وأنهم الذين كفروا به وبرسله ، وبما جاءوهم به ، وكذّبوا بلقاء الله. فليس عندهم ، إلا الدنيا ، فلذلك أقدموا ، على ما أقدموا عليه ، من الشرك والمعاصي ، لأنه ليس في قلوبهم ، ما يخوفهم من عاقبة ذلك ولهذا قال : (أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) أي : فلذلك لم يعملوا سببا واحدا ، يحصلون به الرحمة. وإلا ، فلو طمعوا في رحمته ، لعملوا لذلك أعمالا. والإياس من رحمة الله ، من أعظم المحاذير ، وهو نوعان : إياس الكفار منها ، وتركهم كل سبب يقربهم منها. وإياس العصاة ، بسبب كثرة جناياتهم ، أوحشتهم ، فملكت قلوبهم ، فأحدث لها الإياس. (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : مؤلم مؤجع. وكأن هذه الآيات ، معترضات ، بين كلام إبراهيم لقومه ، وردهم عليه ، والله أعلم بذلك.

[٢٤] أي : فما كان مجاوبة قوم إبراهيم لإبراهيم ، حين دعاهم إلى ربه ، قبول دعوته ، والاهتداء بنصحه ، ورؤية نعمة الله عليهم بإرساله إليهم. وإنما كان مجاوبتهم له ، شر مجاوبة. (قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ) أشنع القتلات ، وهم أناس مقتدرون ، لهم السلطان ، فألقوه في النار (فَأَنْجاهُ اللهُ) منها. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فيعلمون صحة ما جاءت به الرسل ، وبرّهم ونصحهم ، وبطلان قول من خالفهم ، وناقضهم وأن المعارضين للرسل ، كأنهم

٧٥٤

تواصوا وحث بعضهم بعضا على التكذيب.

[٢٥] (وَقالَ) لهم إبراهيم في جملة ما قاله من نصحه : (إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي : غاية ذلك ، مودة في الدنيا ستنقطع وتضمحل. (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي : يتبرأ كل من العابدين والمعبودين ، من الآخر (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) (٦). فكيف تتعلقون بمن يعلم أنه سيتبرأ من عابديه ويلعنهم؟ (وَ) أن (مَأْواكُمُ) جميعا ، العابدين والمعبودين (النَّارُ). وليس أحد ، ينصرهم من عذاب الله ، ولا يدفع عنهم عقابه.

[٢٦] أي : لم يزل إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، يدعو قومه ، وهم مستمرون على عنادهم ، إلا أنه آمن له بدعوته لوط ، الذي نبأه الله ، وأرسله إلى قومه كما سيأتي ذكره. (وَقالَ) إبراهيم حين رأى أن دعوة قومه لا تفيد شيئا : (إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) أي : هاجر أرض السوء ، ومهاجر إلى الأرض المباركة ، وهي الشام. (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ) أي : الذي له القوة ، وهو يقدر على هدايتكم. ولكنه (الْحَكِيمُ) ما اقتضت حكمته ذلك. ولما اعتزلهم وفارقهم ، وهم بحالهم ، لم يذكر الله عنهم ، أنه أهلكهم بعذاب. بل ذكر اعتزاله إياهم ، وهجرته من بين أظهرهم. فأما ما يذكر في الإسرائيليات ، أن الله تعالى فتح على قومه باب البعوض ، فشرب دماءهم ، وأكل لحومهم ، وأتلفهم عن آخرهم ، فهذا يتوقف الجزم به ، على الدليل الشرعي ، ولم يوجد. فلو كان الله استأصلهم بالعذاب لذكره ، كما ذكر إهلاك الأمم المكذبة. ولكن هل من أسرار ذلك ، أن الخليل عليه‌السلام ، من أرحم الخلق ، وأفضلهم وأحلمهم ، وأجلهم ، فلم يدع على قومه ، كما دعا غيره ، ولم يكن الله ليجري عليهم بسببه ، عذابا عاما؟ ومما يدل على ذلك ، أنه راجع الملائكة في إهلاك قوم لوط ، وجادلهم ، ودافع عنهم ، وهم ليسوا قومه ، والله أعلم بالحال.

[٢٧] (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) أي : بعد ما هاجر إلى الشام (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ). فلم يأت بعده نبي إلا من ذريته ، ولا نزل كتاب إلا على ذريته ، حتى ختموا بابنه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعليهم أجمعين. وهذا من أعظم المناقب والمفاخر ، أن تكون مواد الهداية والرحمة ، والسعادة ، والفلاح ، والفوز ، في ذريّته ، وعلى أيديهم اهتدى المهتدون ، وآمن المؤمنون ، وصلح الصالحون : (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا) من الزوجة الجميلة ، فائقة الجمال ، والرزق الواسع ، والأولاد ، الذين بهم قرت عينه ، ومعرفة الله ومحبته ، والإنابة إليه. (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) بل وهو ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أفضل الصالحين على الإطلاق ، وأعلاهم منزلة ، فجمع الله له بين سعادة الدنيا والآخرة.

[٢٨ ـ ٣١] تقدم أن لوطا عليه‌السلام ، آمن لإبراهيم ، وصار من المهتدين به. وقد ذكروا ، أنه ليس من ذرية إبراهيم ، وإنما هو ابن أخي إبراهيم. فقوله تعالى : (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) وإن كان عاما ، فلا يناقض كون لوط ، نبيا رسولا وهو ليس من ذريته ، لأن الآية ، جيء بها ، لسياق المدح والثناء ، على الخليل. وقد أخبر أن لوطا ، اهتدى على يديه. ومن اهتدى على يديه أكمل ممن اهتدى من ذريته بالنسبة إلى فضيلة الهادي ، والله أعلم.

٧٥٥

فأرسل الله لوطا إلى قومه ، وكانوا مع شركهم ، قد جمعوا بين فعل الفاحشة في الذكور ، وقطع السبيل ، وفشو المنكرات في مجالسهم. فنصحهم لوط عن هذه الأمور ، وبيّن لهم قبائحها في نفسها ، وما تؤول إليه من العقوبة البليغة ، فلم يرعووا ، ولم يذكروا. (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ). فأيس منهم نبيهم ، وعلم استحقاقهم العذاب ، وجزع من شدة تكذيبهم له ، فدعا عليهم و (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) (٣٠) فاستجاب الله دعاءه ، فأرسل الملائكة لإهلاكهم. فمروا بإبراهيم قبل ذلك ، وبشروه بإسحاق ، ومن وراء إسحاق يعقوب.

[٣٢] ثمّ سألهم إبراهيم أين يريدون؟ فأخبروه أنهم يريدون إهلاك قوم لوط فجعل يراجعهم ، ويقول : (إِنَّ فِيها لُوطاً) فقالوا له : (لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) ثمّ مضوا حتى أتوا لوطا.

[٣٣ ـ ٣٤] فساءه مجيئهم ، وضاق بهم ذرعا ، بحيث إنه لم يعرفهم ، وظن أنهم من جملة الضيوف أبناء السبيل ، فخاف عليهم من قومه ، فقالوا له : (لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ) وأخبروه أنهم رسل الله. (إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً) أي : عذابا (مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ). فأمروه أن يسري بأهله ليلا. فلما أصبحوا ، قلب الله عليهم ديارهم ، فجعل عاليها سافلها ، وأمطر عليهم حجارة من سجيل متتابعة حتى أبادتهم وأهلكتهم ، فصاروا سمرا من الأسمار ، وعبرة من العبر.

[٣٥] (وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٣٥) أي : تركنا من ديار قوم لوط ، آثارا بينة لقوم يعقلون العبر بقلوبهم ، فينتفعون بها. كما قال تعالى : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١٣٨).

[٣٦] أي : (وَ) أرسلنا (إِلى مَدْيَنَ) القبيلة المعروفة المشهورة (أَخاهُمْ شُعَيْباً) الذي أمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له ، والإيمان بالبعث ورجائه ، والعمل له ، ونهاهم عن الإفساد في الأرض ، ببخس المكاييل والموازين والسعي بقطع الطرق.

[٣٧] (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) أي : عذاب الله (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ). أي : وكذلك ما فعلنا بعاد وثمود ، وقد علمت قصتهم ، وتبين لكم بشيء تشاهدونه بأبصاركم من مساكنهم ، وآثارهم ، الّتي بانوا عنها. وقد جاءتهم رسلهم بالآيات البينات ، المفيدة للبصيرة فكذبوهم ، وجادلوهم.

[٣٨ ـ ٣٩] (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) حتى ظنوا أنها أفضل مما جاءتهم به الرسل. وكذلك قارون ، وفرعون ، وهامان ، حين بعث الله إليهم موسى بن عمران ، بالآيات البينات ، والبراهين الساطعات ، فلم ينقادوا ، واستكبروا في الأرض ، على عباد الله ، فأذلوهم ، وعلى الحقّ فردّوه ، فلم يقدروا على النجاء حين نزلت بهم العقوبة. (وَما كانُوا سابِقِينَ) الله ، ولا فائتين ، بل سلموا واستسلموا.

[٤٠] (فَكُلًّا) من هؤلاء الأمم المكذبة (أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) على قدره ، وبعقوبة مناسبة له. (فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ

٧٥٦

حاصِباً) أي : عذابا يحصبهم ، كقوم عاد ، حين أرسل الله عليهم الريح العقيم ، و (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) (٧). (وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) كقوم صالح ، (وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ) كقارون. (وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) كفرعون وهامان ، وجنودهما. (وَما كانَ اللهُ) أي : ما ينبغي ولا يليق به (لِيَظْلِمَهُمْ) لكمال عدله ، وغناه التام ، عن جميع الخلق. (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) منعوها حقها ، الذي هي بصدده ، فإنها مخلوقة لعبادة الله وحده. فهؤلاء وضعوها في غير موضعها ، وشغلوها بالشهوات والمعاصي ، فضروها غاية الضرر ، من حيث ظنوا أنهم ينفعونها.

[٤١] هذا مثل ضربه الله ، لمن عبد معه غيره ، يقصد به التعزز والتّقوي ، والنفع ، وأن الأمر بخلاف مقصوده ، فإن مثله كمثل العنكبوت ، اتخذت بيتا يقيها من الحر والبرد والآفات. (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ) أي : أضعفها وأوهاها (لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ). فالعنكبوت من الحيوانات الضعيفة ، وبيتها من أضعف البيوت ، فما ازدادت باتخاذه إلا ضعفا. كذلك هؤلاء ، الّذين يتخذون من دونه أولياء ، فقراء ، عاجزون ، من جميع الوجوه ، وحين اتخذوا الأولياء من دونه ، يتعززون بهم ، ويستنصرونهم ، ازدادوا ضعفا إلى ضعفهم ، ووهنا إلى وهنهم فإن اتكلوا عليهم ، في كثير من مصالحهم ، وألقوها عليهم ، تخلوا هم عنها. على أن أولئك سيقومون بها. فخذلوهم ، فلم يحصلوا منهم على طائل ، ولا أنالوهم من معونتهم ، أقل نائل. فلو كانوا يعلمون حقيقة العلم حالهم ، وحال من اتخذوهم ، لم يتخذوهم ، ولتبرؤوا منهم ، ولتولوا الرب القادر الرحيم ، الذي إذا تولاه عبده ، وتوكل عليه ، كفاه مؤونة دينه ودنياه ، وازداد قوة إلى قوته ، في قلبه وبدنه وحاله وأعماله. ولما بيّن نهاية ضعف آلهة المشركين ارتقى من هذا ، إلى ما هو أبلغ منه ، وأنها ليست بشيء ، بل هي مجرد أسماء سموها ، وظنون اعتقدوها. وعند التحقيق ، يتبين للعاقل بطلانها وعدمها ، ولهذا قال :

[٤٢] (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) أي : إنه تعالى يعلم ـ وهو عالم الغيب والشهادة ـ أنهم ما يدعون من دون الله شيئا موجودا ، ولا إلها له حقيقة ، كقوله تعالى : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ). وقوله : (وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ). (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي له القوة جميعا ، الذي قهر بها جميع الخلق. (الْحَكِيمُ) الذي يضع الأشياء مواضعها ، الذي أحسن كل شيء خلقه ، وأتقن ما أمره.

[٤٣] (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ) أي : لأجلهم ولانتفاعهم وتعليمهم لكونها من الطرق الموضحة للعلوم ، لأنها تقرب الأمور المعقولة ، بالأمور المحسوسة فيتضح المعنى المطلوب بسببها ، فهي مصلحة لعموم الناس. (وَ) لكن (ما يَعْقِلُها) بفهمها وتدبرها ، وتطبيقها على ما ضربت له ، وعقلها في القلب. (إِلَّا الْعالِمُونَ) أي : إلا أهل العلم الحقيقي ، الّذين وصل العلم إلى قلوبهم. وهذا مدح للأمثال ، الّتي يضربها ، وحثّ على تدبرها

٧٥٧

وتعقلها ، ومدح لمن يعقلها. وأنه عنوان على أنه من أهل العلم ، فعلم أن من لم يعقلها ، ليس من العالمين. والسبب في ذلك ، أن الأمثال الّتي يضربها الله في القرآن ، إنّما هي للأمور الكبار ، والمطالب العالية ، والمسائل الجليلة. فأهل العلم ، يعرفون أنها أهم من غيرها ، لاعتناء الله بها ، وحثه عباده على تعقلها وتدبرها. فيبذلون جهدهم في معرفتها. وأما من لم يعقلها ، مع أهميتها ، فإن ذلك دليل على أنه ليس من أهل العلم ، لأنه إذا لم يعرف المسائل المهمة ، فعدم معرفته غيرها ، من باب أولى وأحرى. ولهذا ، أكثر ما يضرب الله الأمثال في أصول الدين ، ونحوها.

[٤٤] أي : هو تعالى ، المنفرد بخلق السموات ، على علوها وارتفاعها وسعتها وحسنها وما فيها من الشمس والقمر والكواكب والملائكة. والأرض وما فيها من الجبال والبحار والبراري والقفار ، والأشجار ونحوها. وكلّ ذلك خلقه بالحق ، أي لم يخلقها عبثا ، ولا سدى ، ولا لغير فائدة. وإنّما خلقها ، ليقوم أمره وشرعه ، ولتتم نعمته على عباده ، وليروا من حكمته ، وقهره وتدبيره ، ما يدلهم على أنه وحده ، معبودهم ، ومحبوبهم ، وإلههم. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) على كثير من المطالب الإيمانية ، إذا تدبرها المؤمن رأى ذلك فيها عيانا.

[٤٥] يأمر تعالى بتلاوة وحيه وتنزيله ، وهو : هذا الكتاب العظيم. ومعنى تلاوته ، اتباعه ، بامتثال ما يأمر به ، واجتناب ما ينهى عنه ، والاهتداء بهداه ، وتصديق أخباره ، وتدبر معانيه ، وتلاوة ألفاظه ، فصار تلاوة لفظه جزء المعنى وبعضه. وإذا كان هذا معنى تلاوة الكتاب ، علم أن إقامة الدين كلها ، داخلة في تلاوة الكتاب. فيكون قوله : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) من باب عطف الخاص على العام ، لفضل الصلاة وشرفها ، وآثارها الجميلة ، وهي (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ). فالفحشاء ، كل ما استعظم ، واستفحش من المعاصي ، الّتي تشتهيها النفوس. والمنكر : كل معصية تنكرها العقول والفطر. ووجه كون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، أن العبد المقيم لها ، المتمم لأركانها وشروطها ، وخشوعها ، يستنير قلبه ، ويتطهر فؤاده ، ويزداد إيمانه ، وتقوى رغبته في الخير ، وتقل أو تنعدم رغبته في الشر. فبالضرورة ، مداومتها والمحافظة عليها على هذا الوجه ، تنهى عن الفحشاء والمنكر. فهذا من أعظم مقاصد الصلاة وثمراتها. وثمّ في الصلاة ، مقصود أعظم من هذا وأكبر ، وهو : ما اشتملت عليه من ذكر الله ، بالقلب ، واللسان ، والبدن. فإن الله تعالى ، إنّما خلق العباد لعبادته ، وأفضل عبادة تقع منهم الصلاة. وفيها من عبوديات الجوارح كلها ، ما ليس في غيرها ، ولهذا قال : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ). ويحتمل أنه لما أمر بالصلاة ومدحها ، أخبر أن ذكره تعالى ، خارج الصلاة ، أكبر من الصلاة كما هو قول جمهور المفسرين. لكن الأول ، أولى ، لأن الصلاة ، أفضل من الذكر خارجها ، ولأنها ـ كما تقدم ـ بنفسها من أكبر الذكر. (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) من خير وشر ، فيجازيكم على ذلك ، أكمل الجزاء ، وأوفاه.

[٤٦] ينهى تعالى عن مجادلة أهل الكتاب ، إذا كانت عن غير بصيرة من المجادل ، أو بغير قاعدة مرضية ، وأن لا يجادلوا ، إلا بالتي هي أحسن ، بحسن خلق ولطف ولين كلام ، ودعوة إلى الحقّ وتحسينه ، ورد الباطل وتهجينه ،

٧٥٨

بأقرب طريق موصل لذلك. وأن لا يكون القصد منها ، مجرد المجادلة والمغالبة ، وحب العلو ، بل يكون القصد بيان الحقّ ، وهداية الخلق. (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) من أهل الكتاب ، بأن ظهر من قصد المجادل منهم وحاله ، أنه لا إرادة له في الحقّ ، وإنّما يجادل ، على وجه المشاغبة والمغالبة. فهذا لا فائدة في جداله ، لأن المقصود منها ضائع. (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ) أي : ولتكن مجادلتكم لأهل الكتاب مبنية على الإيمان بما أنزل إليكم وأنزل إليهم ، وعلى الإيمان برسولكم ورسولهم ، وعلى أن الإله واحد. ولا تكن مناظرتكم إياهم ، على وجه يحصل به القدح ، في شيء من الكتب الإلهية ، أو بأحد من الرسل ، كما يفعله الجاهل عند مناظرة الخصوم ، يقدح بجميع ما معهم ، من حق وباطل ، فهذا ظلم ، وخروج عن الواجب وآداب النظر. فإن الواجب ، أن يرد ما مع الخصم من الباطل ، ويقبل ما معه من الحقّ. ولا يرد الحقّ لأجل قوله ، ولو كان كافرا. وأيضا فإن بناء مناظرة أهل الكتاب ، على هذا الطريق ، فيه إلزام لهم بالإقرار بالقرآن ، وبالرسول الذي جاء به. فإنه إذا تكلّم في الأصول الدينية ، والّتي اتفقت عليها الأنبياء والكتب وتقررت عند المتناظرين ، وثبتت حقائقها عندهما ، وكانت الكتب السابقة والمرسلون ، مع القرآن ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قد بينتها ، ودلت وأخبرت بها ، فإنه يلزم التصديق بالكتب كلها ، والرسل كلهم ، وهذا من خصائص الإسلام. فأما أن يقال : نؤمن بما دلّ عليه الكتاب الفلاني ، دون الكتاب الفلاني ، وهو الحقّ الذي صدق ما قلبه ، فهذا ظلم وهوى. وهو يرجع إلى قومه بالتكذيب ؛ لأنه إذا كذّب القرآن الدال عليها ، المصدق لما بين يديه ، فإنه مكذب لما زعم أنه به مؤمن. وأيضا فإن كلّ طريق تثبت بها نبوة أي نبي كان ، فإن مثلها وأعظم منها ، دالة على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وكلّ شبهة يقدح بها في نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن مثلها ، أو أعظم منها ، يمكن توجيهها إلى نبوة غيره. فإذا ثبت بطلانها في غيره ، فثبوت بطلانها في حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أظهر وأظهر. وقوله : (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أي : منقادون مستسلمون لأمره. ومن آمن به ، واتخذه إلها ، وآمن بجميع كتبه ، ورسله ، وانقاد لله واتبع رسله ، فهو السعيد. ومن انحرف عن هذا الطريق ، فهو الشقي.

[٤٧] أي : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) يا محمد ، هذا (الْكِتابَ) الكريم ، المبين كلّ نبأ عظيم. الداعي إلى كل خلق فاضل ، وأمر كامل ، المصدق للكتب السابقة ، المخبر به الأنبياء الأقدمون. (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) فعرفوه حق معرفته ، ولم يداخلهم حسد وهوى. (يُؤْمِنُونَ بِهِ) لأنهم تيقنوا صدقه ، بما لديهم من الموافقات ، وبما عندهم من البشارات ، وبما تميزوا به ، من معرفة الحسن والقبيح ، والصدق والكذب. (وَمِنْ هؤُلاءِ) الموجودين (مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) إيمانا عن بصيرة ، لا عن رغبة ولا رهبة. (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ) الّذين دأبهم الجحود للحق ، والعناد له. وهذا حصر لمن كفر به ، لا يكون من أحد ، قصده متابعة الحقّ. وإلا فكل من له قصد صحيح ، فإنه لا بد أن يؤمن به ، لما اشتمل عليه من البينات ، لكل من له عقل ، أو ألقى السمع وهو شهيد. ومما يدل على صحته ، أنه جاء به هذا النبي الأمين ، الذي عرف قومه صدقه ، وأمانته ، ومدخله ومخرجه ، وسائر أحواله ، وهو لا يكتب بيده خطأ ، بل ولا يقرأ خطأ مكتوبا. فإتيانه به في هذه الحال ، من أظهر البينات القاطعة ، الّتي لا تقبل الارتياب ، أنه من عند الله العزيز الحميد ، ولهذا قال :

[٤٨] (وَما كُنْتَ تَتْلُوا) أي : تقرأ (مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً) لو كنت بهذه الحال (لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) فقالوا : تعلمه من الكتب السابقة ، أو استنسخه منها.

[٤٩] فأما وقد نزل على قلبك ، كتابا جليلا تحديت به الفصحاء البلغاء ، الأعداء الألداء أن يأتوا بمثله ، أو بسورة من مثله ، فعجزوا غاية العجز ، بل ولا حدثتهم أنفسهم بالمعارضة ، لعلمهم ببلاغته وفصاحته ، وأن كلام أحد من البشر ، لا يبلغ أن يكون مجاريا له أو على منواله ، ولهذا قال : (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ) إلى (الظَّالِمُونَ). (بَلْ هُوَ) أي : هذا القرآن (آياتٌ بَيِّناتٌ) لا خفيات. (فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) وهم : سادة الخلق ،

٧٥٩

وعقلاؤهم ، وأولو الألباب منهم ، والكمل منهم. فإن كان آيات بيّنات ، في صدور أمثال هؤلاء ، كانوا حجة على غيرهم. وإنكار غيرهم ، لا يضر ، ولا يكون ذلك إلا ظلما ، ولهذا قال : (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ) لأنه لا يجحدها إلا جاهل ، تكلم بغير علم ، ولم يقتد بأهل العلم ، ومن هو متمكن من معرفته على حقيقته ، أو متجاهل ، عرف أنه حق فعائده ، وعرف صدقه ، فخالفه.

[٥٠] أي : واعترض هؤلاء الظالمون المكذبون للرسول ، ولما جاء به ، واقترحوا عليه ، نزول آيات ، عينوها كما قال الله عنهم : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) (٩٠) الآيات. فتعيين الآيات ، ليس عندهم ، ولا عند الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن في ذلك تدابير ، مع الله ، وأنه لو كان كذا ، وينبغي أن يكون كذا ، وليس لأحد من الأمر شيء. ولهذا قال : (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) إن شاء أنزلها ، أو منعها (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) وليس لي مرتبة ، فوق هذه المرتبة. وإذا كان القصد بيان الحقّ من الباطل ، فإذا حصل المقصود ـ بأي طريق ـ كان اقتراح الآيات المعينات على ذلك ، ظلما وجورا ، وتكبرا على الله ، وعلى الحقّ. بل لو قدر أن تنزل تلك الآيات ، ويكون في قلوبهم أنهم لا يؤمنون بالحق إلا بها ، كان ذلك ليس بإيمان ، وإنّما ذلك ، شيء وافق أهواءهم ، فآمنوا ، لا لأنه حق ، بل لتلك الآيات. فأي فائدة حصلت ، في إنزالها على التقدير الفرضي؟

[٥١] ولما كان المقصود بيان الحقّ ، ذكر تعالى طريقه فقال : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ) في علمهم بصدقك ، وصدق ما جئت به (أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ). وهذا كلام مختصر جامع ، فيه من الآيات البينات ، والدلالات الباهرات ، شيء كثير ، فإنه كما تقدم إتيان الرسول به بمجرده ، وهو أمي ، من أكبر الآيات على صدقه. ثمّ عجزهم عن معارضته ، وتحديهم إياه ، آية أخرى. ثمّ ظهوره ، وبروزه جهرا علانية ، يتلى عليهم ، ويقال : هو من عند الله ، قد أظهره الرسول ، وهو في وقت قلّ فيه أنصاره ، وكثر مخالفوه وأعداؤه ، فلم يخفه ، ولم يثن ذلك عزمه. بل خرج به على رؤوس الأشهاد ، ونادى به بين الحاضر والباد ، بأن هذا كلام ربي. فهل أحد يقدر على معارضته ، أو ينطق بمباراته أو يستطيع مجاراته؟ ثمّ هيمنته على الكتب المتقدمة ، وتصحيحه للصحيح ، ونفي ما أدخل فيها من التحريف ، والتبديل. ثمّ هدايته لسواء السبيل ، في أمره ونهيه. فما أمر بشيء فقال العقل «ليته لم يأمر به» ، ولا نهى عن شيء قال العقل : «ليته لم ينه عنه». بل هو مطابق للعدل والميزان ، والحكمة المعقولة لذوي البصائر والعقول. ثمّ مسايرة إرشاداته ، وهدايته ، وأحكامه ، لكل حال وكلّ زمان ، بحيث لا تصلح الأمور إلا به. فجميع ذلك ، يكفي من أراد تصديق الحقّ ، وعمل على طلب الحقّ. فلا كفى الله من لم يكفه القرآن ، ولا شفى الله من لم يشفه الفرقان ، ومن اهتدى به واكتفى ، فإنه رحمة له وخير ، فلذلك قال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) وذلك لما يحصل فيه من العلم الكثير ، والخير الغزير وتزكية القلوب والأرواح ، وتطهير العقائد ، وتكميل الأخلاق ، والفتوحات الإلهية ، والأسرار الربانية.

[٥٢] (قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً) فأنا قد استشهدته. فإن كنت كاذبا ، أحلّ بي ما به تعتبرون. وإن

٧٦٠