تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي

تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

المؤلف:

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ١١٣٥

في قوله : (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ).

[٧٥] ثم ذكر حقيقة المسيح وأمه ، الذي هو الحق ، فقال : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) أي : هذا غايته ، ومنتهى أمره ، أنه من عباد الله المرسلين ، الّذين ليس لهم من الأمر ، ولا من التشريع ، إلا ما أرسلهم به الله ، وهو من جنس الرسل قبله ، لا مزية له عليهم ، تخرجه عن البشرية ، إلى مرتبة الربوبية. (وَأُمُّهُ) مريم (صِدِّيقَةٌ) أي : هذا أيضا غايتها ، أن كانت من الصديقين ، الّذين هم أعلى الخلق رتبة بعد الأنبياء. والصديقية ، هي : العلم النافع ، المثمر لليقين ، والعمل الصالح. وهذا دليل على أن مريم ، لم تكن نبية ، بل أعلى أحوالها ، الصديقية ، وكفى بذلك فضلا وشرفا. وكذلك سائر النساء ، لم يكن منهن نبية ، لأن الله تعالى جعل النبوة في أكمل الصنفين. في الرجال ، كما قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ). فإذا كان عيسى عليه‌السلام من جنس الأنبياء والرسل من قبله ، وأمه صديقة ، فلأي شيء اتخذهما النصارى إلهين مع الله؟ وقوله : (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) دليل ظاهر ، على أنهما عبدان فقيران ، محتاجان كما يحتاج بنو آدم إلى الطعام والشراب ، فلو كانا إلهين ، لاستغنيا عن الطعام والشراب ، ولم يحتاجا إلى شيء ، فإن الإله ، هو الغني الحميد. ولما بيّن تعالى البرهان قال : (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ) الموضحة للحق ، الكاشفة لليقين ، ومع هذا ، لا تفيد فيهم شيئا ، بل لا يزالون على إفكهم ، وكذبهم ، وافترائهم وذلك ظلم وعناد منهم.

[٧٦] أي : (قُلْ) لهم أيها الرسول : (أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) من المخلوقين الفقراء المحتاجين. (ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) وتدعون من انفرد بالضر والنفع ، والعطاء والمنع. (وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ) لجميع الأصوات ، باختلاف اللغات ، على تفنن الحاجات. (الْعَلِيمُ) بالظواهر والبواطن ، والغيب والشهادة ، والأمور الماضية والمستقبلة. فالكامل تعالى ، الذي هذه أوصافه ، هو الذي يستحق أن يفرد بجميع أنواع العبادة ، ويخلص له الدين.

[٧٧] يقول تعالى ، لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِ) أي : لا تتجاوزوا وتتعدوا الحق إلى الباطل. وذلك كقولهم في المسيح ، ما تقدم حكايته عنهم. وكغلوهم في بعض المشايخ ، متبعين (أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) أي : تقدم ضلالهم. (وَأَضَلُّوا كَثِيراً) من الناس ، بدعوتهم إياهم إلى الدين ، الذي هم عليه. (وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) أي : قصد الطريق ، فجمعوا بين الضلال والإضلال. وهؤلاء هم أئمة الضلال الّذين حذّر منهم ، ومن اتباع أهوائهم المردية ، وآرائهم المضلة.

[٧٨] ثم قال تعالى : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي : طردوا وأبعدوا عن رحمة الله. (عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) أي : بشهادتهما وإقرارهما ، بأن الحجة قد قامت عليهم ، وعاندوها. (ذلِكَ) الكفر واللعن (بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) أي : بعصيانهم لله ، وظلمهم لعباد الله ، صار سببا لكفرهم ، وبعدهم عن رحمة الله ، فإن للذنوب والظلم ، عقوبات.

٢٦١

[٧٩] ومن معاصيهم التي أحلت بهم المثلات ، وأوقعت بهم العقوبات أنهم : (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ) أي : كانوا يفعلون المنكر ، ولا ينهى بعضهم بعضا. فيشترك بذلك المباشر وغيره ، الذي سكت عن النهي عن المنكر ، مع قدرته على ذلك. وذلك يدل على تهاونهم بأمر الله ، وأن معصيته خفيفة عليهم. فلو كان لديهم تعظيم لربهم ، لغاروا لمحارمه ، ولغضبوا لغضبه. وإنما كان السكوت عن المنكر ـ مع القدرة ـ موجبا للعقوبة ، لما فيه من المفاسد العظيمة. منها : أن مجرد السكوت ، فعل معصية ، وإن لم يباشرها الساكت. فإنه ـ كما يجب اجتناب المعصية ـ فإنه يجب الإنكار على من فعل المعصية. ومنها : ما تقدم ، أنه يدل على التهاون بالمعاصي ، وقلة الاكتراث بها. ومنها : أن ذلك يجرىء العصاة والفسقة ، على الإكثار من المعاصي ، إذا لم يردعوا عنها ، فيزداد الشر ، وتعظم المصيبة الدينية والدنيوية ، ويكون لهم الشوكة والظهور. ثم بعد ذلك ، يضعف أهل الخير ، عن مقاومة أهل الشر ، حتى لا يقدرون على ما كانوا يقدرون عليه أولا. ومنها : أنه ـ بترك الإنكار للمنكر ـ يندرس العلم ، ويكثر الجهل. فإن المعصية ـ مع تكررها وصدورها من كثير من الأشخاص ، وعدم إنكار أهل الدين والعلم لها ـ يظن أنها ليست بمعصية ، وربما ظن الجاهل أنها عبادة مستحسنة. وأي مفسدة أعظم من اعتقاد ما حرّم الله ، حلالا؟ وانقلاب الحقائق على النفوس ورؤية الباطل حقا؟ ومنها : أن بالسكوت على معصية العاصين ، ربما تزينت المعصية في صدور الناس ، واقتدى بعضهم ببعض. فالإنسان ، مولع بالاقتداء بأحزابه ، وبني جنسه. ومنها ومنها. فلما كان السكوت على الإنكار بهذه المثابة ، نص الله تعالى ، أن بني إسرائيل الكفار منهم ، لعنهم بمعاصيهم ، واعتدائهم ، وخص من ذلك هذا المنكر العظيم.

[٨٠] (لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ). (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالمحبة والموالاة والنصر. (لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ) البضاعة الكاسدة ، والصفقة الخاسرة. وهي : سخط الله ، الذي يسخط لسخطه كل شيء ، والخلود الدائم في العذاب العظيم. فقد ظلمتهم أنفسهم ، حيث قدمت لهم ، هذا النزل ، غير الكريم. وقد ظلموا أنفسهم إذ فوتوها النعيم المقيم.

[٨١] (وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ). فإن الإيمان بالله وبالنبي ، وما أنزل إليه ، يوجب على العبد موالاة ربه ، وموالاة أوليائه ، ومعاداة من كفر به وعاداه ، وأوضع في معاصيه. فشرط ولاية الله والإيمان به ، أن لا يتخذ أعداء الله أولياء. وهؤلاء لم يوجد منهم الشرط ، فدل على انتفاء المشروط. (وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ) أي : خارجون عن طاعة الله والإيمان به ، وبالنبي. ومن فسقهم ، موالاة أعداء الله.

[٨٢] ثم قال تعالى : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً) إلى (أَصْحابُ الْجَحِيمِ). يقول تعالى ـ في بيان أقرب الطائفتين إلى المسلمين ، وإلى ولايتهم ، ومحبتهم ، وأبعدهم من ذلك : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا). فهؤلاء الطائفتان على الإطلاق ، أعظم الناس معاداة للإسلام والمسلمين ، وأكثرهم سعيا في إيصال الضرر إليهم. وذلك ، لشدة بغضهم لهم ، بغيا ، وحسدا ، وعنادا ، وكفرا. (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى). وذكر تعالى لذلك عدة أسباب : منها : أن (مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً) أي : علماء متزهدين ، وعبّادا في الصوامع متعبدين. والعلم مع الزهد ، وكذلك العبادة ـ مما يلطف القلب ويرققه ، ويزيل عنه ما فيه ، من الجفاء والغلظة ، فلذلك لا يوجد فيهم غلظة اليهود ، وشدة المشركين. ومنها : (أَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) أي : ليس فيهم تكبر ولا عتو ، عن الانقياد للحق. وذلك موجب لقربهم من المسلمين ، ومن محبتهم. فإن المتواضع ، أقرب إلى الخير ، من المستكبر.

[٨٣] ومنها : أنهم (إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أثر ذلك في قلوبهم وخشعوا له ، وفاضت

٢٦٢

أعينهم ، بحسب ما سمعوا من الحق الذي تيقنوه ، فلذلك آمنوا ، وأقروا به فقالوا : (رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) وهم أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يشهدون لله بالتوحيد ، ولرسله بالرسالة ، وصحة ما جاؤوا به ، ويشهدون على الأمم السابقة ، بالتصديق والتكذيب. وهم عدول ، شهادتهم مقبولة ، كما قال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً).

[٨٤] فكأنهم ليموا على إيمانهم ، ومسارعتهم فيه ، فقالوا : (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) (٨٤) أي : وما الذي يمنعنا ، من الإيمان بالله ، والحال ، أنه قد جاءنا الحق من ربنا ، الذي لا يقبل الشك والريب. ونحن إذا آمنا واتبعنا الحق ، طمعنا أن يدخلنا الله الجنة ، مع القوم الصالحين. فأي مانع يمنعنا؟ أليس ذلك موجبا للمسارعة والانقياد للإيمان ، وعدم التخلف عنه.

[٨٥] قال الله تعالى : (فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا) أي : بما تفوهوا به من الإيمان ، ونطقوا به من التصديق بالحق. (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ). وهذه الآيات ، نزلت في النصارى الّذين آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كالنجاشي وغيره ، ممن آمن منهم. وكذلك لا يزال يوجد فيهم ، من يختار دين الإسلام ، ويتبين له بطلان ما كانوا عليه ، وهم أقرب من اليهود والمشركين ، إلى دين الإسلام.

[٨٦] ولما ذكر ثواب المحسنين ، ذكر عقاب المسيئين فقال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) (١٠) لأنهم كفروا بالله ، وكذبوا بآياته المبينة للحق.

[٨٧] يقول تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) من المطاعم والمشارب ، فإنها نعم أنعم الله بها عليكم ، فاحمدوه ، إذ أحلها لكم ، واشكروه ، ولا تردوا نعمته بكفرها ، أو عدم قبولها ، أو اعتقاد تحريمها. فتجمعوا بذلك بين قول الكذب على الله ، وكفر النعمة ، واعتقاد الحلال الطيب ، حراما خبيثا ، فإن هذا من الاعتداء. والله قد نهى عن الاعتداء فقال : (وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) بل يبغضهم ويمقتهم ، ويعاقبهم على ذلك.

[٨٨] ثم أمر بضد ما عليه المشركون ، الّذين يحرمون ، ما أحل الله فقال : (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) أي : كلوا من رزقه الذي ساقه إليكم ، بما يسره من الأسباب ، إذ كان حلالا ، لا سرقة ، ولا غصبا ، ولا غير ذلك ، من أنواع الأموال ، التي تؤخذ بغير حق. وكان أيضا طيبا ، وهو : الذي لا خبث فيه. فخرج بذلك الخبيث من السباع والخبائث. (وَاتَّقُوا اللهَ) في امتثال أوامره ، واجتناب نواهيه. (الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) فإن إيمانكم بالله ، يوجب عليكم تقواه ومراعاة حقه. فإنه لا يتم إلا بذلك. ودلّت الآية الكريمة ، على أنه إذا حرم حلالا عليه ، من طعام ، وشراب ، وسرية ، وأمة ، ونحو ذلك ، فإنه لا يكون حراما بتحريمه. لكن لو فعله ، فعليه كفارة يمين ، كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) الآية. إلا أن تحريم الزوجة ، فيه كفارة ظهار. ويدخل في هذه الآية ،

٢٦٣

أنه لا ينبغي للإنسان ، أن يتجنب الطيبات ، ويحرمها على نفسه ، بل يتناولها ، مستعينا بها ، على طاعة ربه.

[٨٩] أي : في أيمانكم ، التي صدرت على وجه اللغو ، وهي الأيمان ، التي حلف بها المقسم من غير نية ولا قصد ، أو عقدها يظن صدق نفسه فبان بخلاف ذلك. (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) أي : بما عزمتم عليه ، وعقدت عليه قلوبكم. كما قال في الآية الأخرى : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ). (فَكَفَّارَتُهُ) أي : كفارة الأيمان ، التي عقدتموها بقصدكم (إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ). وذلك الإطعام (مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ) أي : كسوة عشرة مساكين ، والكسوة هي التي تجزي في الصلاة. (أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) مؤمنة كما قيدت في غير هذا الموضع. فمتى فعل واحدا من هذه الثلاثة ، فقد انحلت يمينه. (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) واحدا من هذه الثلاثة (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ) المذكور (كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) تكفرها ، وتمحوها ، وتمنع من الإثم. (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) عن الحلف بالله كاذبا ، وعن كثرة الأيمان ، واحفظوها إذا حلفتم عن الحنث فيها ، إلا إذا كان الحنث خيرا ، فتمام الحفظ : أن يفعل الخير ، ولا يكون يمينه عرضة لذلك الخير. (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) المبينة للحلال من الحرام ، الموضحة للأحكام. (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الله ، حيث علمكم ما لم تكونوا تعلمون. فعلى العبد ، شكر الله تعالى ، على ما منّ به عليه ، من معرفة الأحكام الشرعية وتبيينها.

[٩٠] يذم تعالى هذه الأشياء القبيحة ، ويخبر أنها من عمل الشيطان ، وأنها رجس. (فَاجْتَنِبُوهُ) أي : اتركوه (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فإن الفلاح ، لا يتم إلا بترك ما حرّم الله ، خصوصا هذه الفواحش المذكورة. وهي : الخمر وهي : كل ما خامر العقل أي : غطاه بسكره. والميسر ، وهو : جميع المغالبات ، التي فيها عوض من الجانبين ، كالمراهنة ونحوها. والأنصاب ، وهي : الأصنام والأنداد ونحوها ، مما ينصب ويعبد من دون الله. والأزلام ، التي يقتسمون بها. فهذه الأربعة ، نهى الله عنها ، وزجر ، وأخبر عن مفاسدها الداعية إلى تركها ، واجتنابها. فمنها : أنها رجس ، أي : نجس ، خبث معنى ، وإن لم تكن نجسة حسا. والأمور الخبيثة ، مما ينبغي اجتنابها ، وعدم التدنس بأوضارها. ومنها : أنها من عمل الشيطان ، الذي هو أعدى الأعداء للإنسان. ومن المعلوم أن العدو يحذر منه ، وتحذر مصايده وأعماله ، خصوصا ، الأعمال التي يعملها ، ليوقع فيها عدوه ، فإنها فيها هلاكه. فالحزم كل الحزم ، البعد عن عمل العدو المبين ، والحذر منها ، والخوف من الوقوع فيها. ومنها : أنه لا يمكن الفلاح للعبد إلا باجتنابها. فإن الفلاح هو : الفوز بالمطلوب المحبوب ، والنجاة من المرهوب. وهذه الأمور مانعة من الفلاح ، ومعوقة له. ومنها : أن هذه موجبة للعداوة والبغضاء بين الناس ، والشيطان حريص على بثها ، خصوصا : الخمر والميسر ، ليوقع بين المؤمنين العداوة والبغضاء. فإن في الخمر ، من انقلاب العقل ، وذهاب حجاه ، ما يدعو إلى البغضاء بينه وبين إخوانه ، من المؤمنين. خصوصا ، إذا اقترن بذلك من الأسباب ، ما هو من لوازم شارب الخمر ، فإنه ربما أوصل إلى القتل. وما في الميسر من غلبة أحدهما للآخر ، وأخذ ماله الكثير في غير مقابلة ، ما هو من أكبر الأسباب

٢٦٤

للعداوة والبغضاء. ومنها : أن هذه الأشياء تصد القلب ، وتبعد البدن عن ذكر الله ، وعن الصلاة ، اللذين خلق لهما العبد ، وبهما سعادته. فالخمر والميسر ، يصدانه عن ذلك أعظم صد ، ويشتغل قلبه ، ويذهل لبه في الاشتغال بهما ، حتى يمضي عليه مدة طويلة ، وهو لا يدري أين هو. فأي معصية أعظم وأقبح ، من معصية تدنس صاحبها ، وتجعله من أهل الخبث ، وتوقعه في أعمال الشيطان وشباكه ، فينقاد له ، كما تنقاد البهيمة الذليلة لراعيها ، وتحول بين العبد ، وبين فلاحه ، وتوقع العداوة والبغضاء بين المؤمنين ، وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة؟ فهل فوق هذه المفاسد شيء أكبر منها؟

[٩١] ولهذا عرض تعالى ، على العقول السليمة ، النهي عنها ، عرضا بقوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ). لأن العاقل ـ إذا نظر إلى بعض تلك المفاسد ـ انزجر عنها ، وكفت نفسه ، ولم يحتج إلى وعظ كثير ، ولا زجر بليغ.

[٩٢] طاعة الله وطاعة رسوله ، واحدة ، فمن أطاع الله ، فقد أطاع الرسول ، ومن أطاع الرسول ، فقد أطاع الله. وذلك شامل للقيام ، بما أمر الله به ورسوله ، من الأعمال ، والأقوال الظاهرة ، والباطنة ، الواجبة والمستحبة ، المتعلقة بحقوق الله ، وحقوق خلقه ، والانتهاء عما نهى الله ورسوله عنه ، كذلك. وهذا الأمر أعم الأوامر ، فإنه كما ترى يدخل فيه كل أمر ونهي ، ظاهر ، وباطن. وقوله : (وَاحْذَرُوا) أي : من معصية الله ، ومعصية رسوله ، فإن في ذلك ، الشر والخسران المبين. (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) عمّا أمرتم به ، ونهيتم عنه. (فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) وقد أدى ذلك. فإن اهتديتم فلأنفسكم ، وإن أسأتم فعليها ، والله هو الذي يحاسبكم. والرسول قد أدى ما عليه ، وما حمل به.

[٩٣] لما نزل تحريم الخمر ، والنهي الأكيد والتشديد فيه ، تمنى أناس من المؤمنين ، أن يعلموا حال إخوانهم ، الّذين ماتوا على الإسلام ، قبل تحريم الخمر ، وهم يشربونها. فأنزل الله هذه الآية ، وأخبر تعالى أنه (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ) أي : حرج وإثم (فِيما طَعِمُوا) من الخمر والميسر قبل تحريمهما. ولما كان نفي الجناح ، يشمل المذكورات وغيرها ، قيد ذلك بقوله : (إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي : بشرط أنهم تاركون للمعاصي ، مؤمنون بالله إيمانا صحيحا ، موجبا لهم عمل الصالحات ، ثم استمروا على ذلك. وإلا ، فقد يتصف العبد بذلك ، في وقت دون آخر. فلا يكفي ، حتى يكون كذلك ، حتى يأتيه أجله ، ويدوم على إحسانه ، فإن الله يحب المحسنين في عبادة الخالق ، المحسنين في نفع العبيد. ويدخل في هذه الآية الكريمة ، من طعم المحرم ، أو فعل غيره بعد التحريم ، ثم اعترف بذنبه ، وتاب إلى الله ، واتقى وعمل صالحا ، فإن الله يغفر له ، ويرتفع عنه الإثم في ذلك.

[٩٤] هذا من منن الله على عباده ، أن أخبرهم بما سيفعل قضاء وقدرا ، ليطيعوه ، ويقدموا على بصيرة ، ويهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حي عن بينة. فقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) لا بد أن يختبر الله إيمانكم. (لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ) أي : بشيء غير كثير ، فتكون محنة يسيرة ، تخفيفا منه تعالى ولطفا. وذلك الصيد الذي يبتليكم الله به

٢٦٥

(تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ) أي : تتمكنون من صيده ، ليتم بذلك الابتلاء ، لا غير مقدور عليه بيد ولا رمح ، فلا يبقى للابتلاء فائدة. ثم ذكر الحكمة في ذلك الابتلاء فقال : (لِيَعْلَمَ اللهُ) علما ظاهرا للخلق يترتب عليه الثواب والعقاب (مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ). فيكف عما نهى الله عنه ، مع قدرته عليه ، وتمكنه ، فيثيبه الثواب الجزيل ، ممن لا يخافه بالغيب ، فلا يرتدع من معصية تعرض له فيصطاد ما تمكن منه. (فَمَنِ اعْتَدى) منكم (بَعْدَ ذلِكَ) البيان ، الذي قطع الحجج ، وأوضح السبيل. (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : مؤلم موجع ، لا يقدر على وصفه إلا الله ، لأنه لا عذر لذلك المعتدي ، والاعتبار بمن يخافه بالغيب ، وعدم حضور الناس عنده. وأما إظهار مخافة الله عند الناس ، فقد يكون ذلك ، لأجل مخافة الناس ، فلا يثاب على ذلك.

[٩٥] ثم خرج بالنهي ، عن قتل الصيد ، في حال الإحرام فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) أي : محرمون في الحج والعمرة. والنهي عن قتله ، يشمل النهي عن مقدمات القتل ، وعن المشاركة في القتل ، والدلالة عليه ، والإعانة على قتله ، حتى إن من تمام ذلك ، أنه ينهى المحرم عن أكل ما قتل أو صيد لأجله. وهذا كله تعظيم لهذا النسك العظيم ، أنه يحرم على المحرم ، قتل وصيد ما كان حلالا له قبل الإحرام. وقوله : (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) قتل صيدا عمدا (ف) عليه جزاء (مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) أي : الإبل ، أو البقر ، أو الغنم. فينظر ما يشبهه من ذلك ، فيجب عليه مثله ، يذبحه ويتصدق به. الاعتبار بالمماثلة (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي : عدلان يعرفان الحكم ، ووجه الشبه ، كما فعل الصحابة رضي الله عنهم ، حيث قضوا بالحمامة شاة ، وفي النعامة بدنة ، وفي بقر الوحش ـ على اختلاف أنواعه ـ بقرة. هكذا كل ما يشبه شيئا من النعم ، ففيه مثله. فإن لم يشبه شيئا ، ففيه قيمته ، كما هو القاعدة في المتلفات. وذلك الهدي لا بد أن يكون (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) أي : يذبح في الحرم. (أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ) أي : كفارة ذلك الجزاء ، طعام مساكين ، أي : يجعل مقابل المثل من النعم ، طعام يطعم المساكين. قال كثير من العلماء : يقوم الجزاء ، فيشترى بقيمته طعام ، فيطعم كل مسكين مدّ برّ أو نصف صاع من غيره. (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ) الطعام (صِياماً) أي : يصوم عن إطعام كل مسكين يوما. (لِيَذُوقَ) بإيجاب الجزاء المذكور عليه (وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ) بعد ذلك (فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ). وإنما نص الله على المتعمد لقتل الصيد ، مع أن الجزاء يلزم المتعمد والمخطئ ، كما هو القاعدة الشرعية ـ أن المتلف للنفوس والأموال المحترمة ، فإنه يضمنها على أي حال كان ، إذا كان إتلافه بغير حق. لأن الله رتب عليه الجزاء والعقوبة والانتقام ، وهذا للمتعمد. وأما المخطئ ، فليس عليه عقوبة ، إنما عليه الجزاء. هذا قول جمهور العلماء. والصحيح ، ما صرّحت به الآية ، أنه لا جزاء على غير المتعمد ، كما لا إثم عليه.

[٩٦] ولما كان الصيد يشمل الصيد البري والبحري ، استثنى تعالى ، الصيد البحري فقال : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ) أي : أحل لكم ـ في حال إحرامكم ـ صيد البحر وهو : الحي من حيواناته ، وطعامه ، وهو : الميت منها ، فدل ذلك على حل ميتة البحر. (مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) أي : الفائدة في إباحته لكم أنه لأجل انتفاعكم ، وانتفاع رفقتكم ، الّذين يسيرون معكم. (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً). ويؤخذ من لفظ «الصيد» أنه لا بد أن يكون وحشيا لأن الإنسي ليس بصيد. ومأكولا ، فإن غير المأكول ، لا يصاد ، ولا يطلق عليه اسم الصيد. (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي : اتقوه بفعل ما أمر به ، وترك ما نهى عنه. واستعينوا على تقواه بعلمكم أنكم إليه تحشرون. فيجازيكم ، هل قمتم بتقواه فيثيبكم الثواب الجزيل ، أم لم تقوموا ، فيعاقبكم؟

[٩٧] يخبر تعالى ، أنه جعل (الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ). يقوم ، بالقيام بتعظيمه ، دينهم ودنياهم ، فبذلك يتم إسلامهم ، وبه تحط أوزارهم ، وتحصل لهم ـ بقصده ـ العطايا الجزيلة ، والإحسان الكثير. وبسببه تنفق الأموال ، وتقتحم ـ من أجله ـ الأهوال. ويجتمع فيه ، من كل فج عميق ، جميع أجناس المسلمين ، فيتعارفون ،

٢٦٦

ويستعين بعضهم ببعض ، ويتشاورون على المصالح العامة ، وتنعقد بينهم الروابط ، في مصالحهم الدينية والدنيوية. قال تعالى : (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ) ... (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ). ومن أجل كون البيت قياما للناس قال : من قال من العلماء : إن حج بيت الله ، فرض كفاية في كل سنة. فلو ترك الناس حجه ، لأثم كل قادر ، بل لو ترك الناس حجه ، لزال ما به قوامهم ، وقامت القيامة. وقوله : (وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) أي : وكذلك جعل الهدي والقلائد ـ التي هي أشرف أنواع الهدي ـ قياما للناس ، ينتفعون بهما ، ويثابون عليهما. (ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). فمن علمه ، أن جعل لكم هذا البيت الحرام ، لما يعلمه من مصالحكم الدينية والدنيوية.

[٩٨] (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٩٨) أي : ليكن هذان العلمان ، موجودين في قلوبكم ، على وجه الجزم واليقين ، تعلمون أن الله شديد العقاب ـ العاجل والآجل ـ على من عصاه ، وأنه غفور رحيم ، لمن تاب إليه وأطاعه. فيثمر لكم هذا العلم ، الخوف من عقابه ، والرجاء لمغفرته وثوابه. وتعملون على ما يقتضيه الخوف والرجاء.

[٩٩] ثمّ قال تعالى : (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) وقد بلغ كما أمر ، وقام بوظيفته ، ما سوى ذلك ، فليس له من الأمر شيء. (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) فيجازيكم بما يعلمه ـ تعالى ـ منكم.

[١٠٠] أي (قُلْ) للناس ـ محذرا عن الشر ومرغبا في الخير ـ : (لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) من كل شيء. فلا يستوي الإيمان والكفر ، والطاعة والمعصية ، ولا أهل الجنة وأهل النار ، ولا الأعمال الخبيثة والأعمال الطيبة ، ولا يستوي المال الحرام ، بالمال الحلال. (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) فإنه لا ينفع صاحبه شيئا ، بل يضره في دينه ودنياه. (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). فأمر أولي الألباب ، أي : أهل العقول الوافية ، والآراء الكاملة ، فإن الله تعالى يوجه إليهم الخطاب. وهم : الّذين يؤبه لهم ، ويرجى أن يكون فيهم خير. ثمّ أخبر أن الفلاح ، متوقف على التقوى ، التي هي موافقة الله ، في أمره ونهيه. فمن اتقاه ، أفلح كل الفلاح. ومن ترك تقواه ، حصل له الخسران ، وفاتته الأرباح.

[١٠١] ينهى عباده المؤمنين ، عن سؤال الأشياء ، التي إذا بينت لهم ، ساءتهم وأحزنتهم. وذلك كسؤال بعض المسلمين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عن آبائهم ، وعن حالهم في الجنة أو النار. فهذا ربما أنه ، لو بيّن للسائل ، لم يكن له فيه خير ، كسؤالهم للأمور غير الواقعة. وكالسؤال ، الذي يترتب عليه ، تشديدات في الشرع ، ربما أحرجت الأمة. وكالسؤال عمّا لا يعني. فهذه الأسئلة ، وما أشبهها ، هي المنهي عنها. وأما السؤال الذي لا يترتب عليه شيء من ذلك ، فهو مأمور به ، كما قال تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ). (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) أي : وإذا وافق سؤالكم محله ، فسألتم عنها ، حين ينزل عليكم القرآن ، فتسألون عن آية أشكلت ، أو حكم خفي وجهه عليكم ، في وقت يمكن فيه نزول الوحي من السماء ، تبد لكم ، أي : تبين لكم وتظهر ، وإلا ، فاسكتوا

٢٦٧

عمّا سكت الله عنه. (عَفَا اللهُ عَنْها) أي : سكت معافيا لعباده منها. فكل ما سكت الله عنه ، فهو مما أباحه ، وعفا عنه. (وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) أي : لم يزل بالمغفرة موصوفا ، وبالحلم والإحسان معروفا. فتعرضوا لمغفرته وإحسانه واطلبوه ، من رحمته ورضوانه.

[١٠٢] وهذه المسائل التي نهيتم عنها (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي : جنسها وشبهها ، سؤال تعنت لا استرشاد. فلما بينت لهم وجاءتهم (أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ) كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الصحيح : «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ، وما أمرتكم به ، فأتوا منه ما استطعتم ، فإنما أهلك من كان قبلكم ، كثرة مسائلهم ، واختلافهم على أنبيائهم».

[١٠٣] هذا ذم للمشركين ، الّذين شرعوا في الدين ، ما لم يأذن به الله ، وحرموا ما أحله الله. فجعلوا بآرائهم الفاسدة ، شيئا من مواشيهم محرما ، على حسب اصطلاحاتهم ، التي عارضت ما أنزل الله ، فقال : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ) وهي : ناقة ، يشقون أذنها ، ثمّ يحرمون ركوبها ، ويرونها محترمة. (وَلا سائِبَةٍ) وهي : ناقة ، أو بقرة ، أو شاة ، إذا بلغت سنا اصطلحوا عليه ، سيبوها ، فلا تركب ، ولا يحمل عليها ، ولا تؤكل ، وبعضهم ينذر شيئا من ماله ، يجعله سائبة. (وَلا حامٍ) أي : جمل يحمى ظهره عن الركوب والحمل ، إذا وصل إلى حالة معروفة بينهم. فكل هذه ، مما جعلها المشركون محرمة ، بغير دليل ولا برهان. وإنّما ذلك ، افتراء على الله ، وصادرة من جهلهم ، وعدم عقلهم ، ولهذا قال : (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ). فلا نقل فيها ولا عقل ، ومع هذا ، فقد أعجبوا بآرائهم ، التي بنيت على الجهالة والظلم.

[١٠٤] فإذا دعوا (إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ) أعرضوا ، فلم يقبلوا ، و (قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) من الدين ، ولو كان غير سديد ، ولا دينا ينجي من عذاب الله. ولو كان في آبائهم كفاية ومعرفة ودراية ، لهان الأمر. ولكن آباءهم لا يعقلون شيئا ، أي : ليس عندهم من المعقول شيء ، ولا من العلم والهدى شيء. فتبا لمن قلّد من لا علم عنده صحيح ، ولا عقل رجيح ، وترك اتباع ما أنزل الله ، واتباع رسله ، الذي يملأ القلوب علما وإيمانا وهدى وإيقانا.

[١٠٥] يقول تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي : اجتهدوا في إصلاحها ، وكمالها ، وإلزامها سلوك الصراط المستقيم. فإنكم ـ إذا صلحتم ـ لا يضركم من ضل عن الصراط المستقيم ، ولم يهتد إلى الدين القويم ، وإنّما يضر نفسه. ولا يدل هذا ، أن الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر. لا يضر العبد تركهما وإهمالهما. فإنه لا يتم هداه ، إلا بالإتيان بما يجب عليه ، من الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر. نعم ، إذا كان عاجزا عن إنكار المنكر ، بيده ، ولسانه ، وأنكره بقلبه ، فإنه لا يضره ضلال غيره. وقوله : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) أي : مآلكم يوم القيامة ، واجتماعكم بين يدي الله تعالى. (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من خير وشر.

[١٠٦] يخبر تعالى خبرا متضمنا للأمر ، بإشهاد اثنين على الوصية ، إذا حضر الإنسان مقدمات الموت وعلائمه.

٢٦٨

فينبغي له ، أن يكتب وصيته ، ويشهد عليها اثنين ، ذوي عدل ، ممن يعتبر شهادتهما. (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) أي : من غير أهل دينكم ، من اليهود ، أو النصارى ، أو غيرهم ، وذلك عند الحاجة والضرورة وعدم غيرهما من المسلمين. (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أي : سافرتم فيها. (فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) أي : فأشهدوهما. ولم يأمر بإشهادهما ، إلا لأن قولهما في تلك الحال مقبول ، ويؤكد عليهما ، أن يحبسا (مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) التي يعظمونها. (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ) أنهما صدقا ، وما غيرا ، ولا بدّلا. هذا (إِنِ ارْتَبْتُمْ) في شهادتهما ، فإن صدقتموها ، فلا حاجة إلى القسم بذلك. ويقولان : (لا نَشْتَرِي بِهِ) أي : بأيماننا (ثَمَناً) بأن نكذب فيها ، لأجل عرض من الدنيا. (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) فلا نراعيه لأجل قربه منا (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ) بل نؤديها على ما سمعناها (إِنَّا إِذاً) أي : إن كتمناها (لَمِنَ الْآثِمِينَ).

[١٠٧] (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا) أي : الشاهدين (اسْتَحَقَّا إِثْماً) بأن وجد من القرآن ، ما يدل على كذبهما ، وأنهما خانا ، فآخران يقومان مقامهما ، من الّذين استحق عليهما الأوليان. أي : فليقم رجلان من أولياء الميت ، وليكونا من أقرب الأولياء إليه. (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما) أي : أنهما كذبا ، وغيرا ، وخانا. (وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أي : إن ظلمنا واعتدينا ، وشهدنا بغير الحقّ.

[١٠٨] قال الله تعالى في بيان حكمة تلك الشهادة ، وتأكيدها ، وردها على أولياء الميت ، حين تظهر من الشاهدين الخيانة. (ذلِكَ أَدْنى) أي : أقرب (أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها) حين تؤكد عليهما تلك التأكيدات. (أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) أي : أن لا تقبل أيمانهم ، ثمّ ترد على أولياء الميت. (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي : الّذين وصفهم الفسق ، فلا يريدون الهدى والقصد إلى الصراط المستقيم. وحاصل هذا ، أن الميت ـ إذا حضره الموت في سفر ونحوه ، مما هو مظنة قلة الشهود المعتبرين ـ أنه ينبغي أن يوصي شاهدين مسلمين عدلين. فإن لم يجد إلا شاهدين كافرين ، جاز أن يوصي إليهما. ولكن لأجل كفرهما ، فإن الأولياء ، إذا ارتابوا بهما فإنهم يحلفونهما بعد الصلاة ، أنهما ما خانا ، ولا كذبا ، ولا غيّرا ، ولا بدّلا ، فيبرآن بذلك من حق يتوجه إليهما. فإن لم يصدقوهما ، ووجدوا قرينة تدل على كذب الشاهدين فإن شاء أولياء الميت ، فليقم منهم اثنان ، فيقسمان بالله : لشهادتهما أحق من شهادة الشاهدين الأولين ، وأنهما خانا وكذبا ، فيستحقون منهما ما يدعون. وهذه الآيات الكريمة ، نزلت في قصة «تميم الداري» و «عدي بن بداء» المشهورة حين أوصى لهما العدوي ، والله أعلم. ويستدل بالآيات الكريمات ، على عدة أحكام : منها : أن الوصية مشروعة ، وأنه ينبغي لمن حضره الموت ، أن يوصي. ومنها : أنها معتبرة ، ولو كان الإنسان وصل إلى مقدمات الموت وعلامته ، ما دام عقله ثابتا. منها : أن شهادة الوصية ، لا بد فيها من اثنين عدلين. ومنها : أن شهادة الكافرين في هذه الوصية ونحوها ، مقبولة لوجود الضرورة. وهذا مذهب الإمام أحمد. وزعم كثير من أهل العلم : أن هذا الحكم منسوخ. وهذه دعوى لا دليل عليها. ومنها : أنه ربما استفيد من تلميح الحكم ومعناه ، أن شهادة الكفار ـ عند عدم غيرهم ، حتى في غير هذه المسألة ـ مقبولة ، كما ذهب إلى ذلك ، شيخ الإسلام ابن تيمية.

٢٦٩

ومنها : جواز سفر المسلم مع الكافر ، إذا لم يكن محذورا. ومنها : جواز السفر للتجارة. ومنها : أن الشاهدين ـ إذا ارتيب فيهما ، ولم تبد قرينة تدل على خيانتهما ، وأراد الأولياء ـ أن يؤكدوا عليهما اليمين ، يحبسونهما من بعد الصلاة ، فيقسمان بصفة ما ذكر الله تعالى. ومنها : أنه إذا لم تحصل تهمة ولا ريب لم يكن حاجة إلى حبسهما ، وتأكيد اليمين عليهما. ومنها : تعظيم أمر الشهادة ، حيث أضافها تعالى ، إلى نفسه ، وأنه يجب الاعتناء بها ، والقيام بها ، بالقسط. ومنها : أنه يجوز امتحان الشاهدين ، عند الريبة فيهما ، وتفريقهما ، لينظر في قيمة شهادتهما صدقا أو كذبا. ومنها : أنه إذا وجدت القرائن الدالة على كذب الوصيين في هذه المسألة ـ قام اثنان من أولياء الميت ، فأقسما بالله : أن أيماننا أصدق من أيمانهما ، ولقد خانا وكذّبا. ثمّ يدفع إليهما ما ادعياه ، وتكون القرينة ـ مع أيمانهما ـ قائمة مقام البينة.

[١٠٩] يخبر تعالى ، عن يوم القيامة ، وما فيه من الأهوال العظام ، وأن الله يجمع به جميع الرسل فيسألهم : (ما ذا أُجِبْتُمْ) أي : ماذا أجابتكم به أممكم؟ (قالُوا لا عِلْمَ لَنا) وإنّما العلم لك ـ يا ربنا ، فأنت أعلم منا. (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أي : تعلم الأمور الغائبة والحاضرة.

[١١٠] (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ) أي : اذكرها بقلبك ولسانك ، وقم بواجبها شكرا لربك ، حيث أنعم عليك نعما ، ما أنعم بها على غيرك. (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) أي : إذ قويتك بالروح والوحي ، الذي طهرك وزكاك ، وصار لك قوة على القيام بأمر الله والدعوة إلى سبيله. وقيل : إن المراد «بروح القدس» جبريل عليه‌السلام ، وأن الله أعانه به ، وبملازمته له ، وتثبيته ، في المواطن المشقة. (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) المراد بالتكليم هنا ، غير التكليم المعهود الذي هو مجرد الكلام. وإنّما المراد بذلك التكليم الذي ينتفع به المتكلم والمخاطب ، وهو الدعوة إلى الله. ولعيسى عليه‌السلام من ذلك ، ما لإخوانه ، من أولي العزم من المرسلين ، من التكليم في حال الكهولة ، بالرسالة والدعوة إلى الخير ، والنهي عن الشر. وامتاز عنهم ، بأنه كلّم الناس في المهد فقال : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) (٣١) الآية. (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) فالكتاب يشمل الكتب السابقة ، وخصوصا التوراة ، فإنه من أعلم أنبياء بني إسرائيل ـ بعد موسى ـ بها. ويشمل الإنجيل الذي أنزله الله عليه. والحكمة هي : معرفة أسرار الشرع ، وفوائده ، وحكمه ، وحسن الدعوة والتعليم ، ومراعاة ما ينبغي ، على الوجه الذي ينبغي. (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) أي : طيرا مصورا ، لا روح فيه. (وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ) الذي : لا بصر له ولا عين. (وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي). فهذه آيات بيّنات ، ومعجزات باهرات ، يعجز عنها الأطباء وغيرهم ، أيد الله بها عيسى ، وقوّى بها دعوته. (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) لما جاءهم الحقّ مؤيدا بالبينات الموجبة للإيمان به. (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ). وهمّوا بعيسى أن يقتلوه ، وسعوا في ذلك. فكفّ الله أيديهم عنه ، وحفظه منهم ، وعصمه. فهذه منن ، امتنّ الله بها على عبده ورسوله ، عيسى ابن مريم ، ودعاه إلى

٢٧٠

شكرها ، والقيام بها. فقام بها عليه‌السلام ، أتم القيام ، وصبر كما صبر إخوانه ، من أولي العزم.

[١١١] أي : واذكر نعمتي عليك ، إذ يسرت لك أتباعا وأعوانا. فأوحيت إلى الحواريين أي : ألهمتهم ، وأوزعت قلوبهم الإيمان بي وبرسولي ، وأوحيت إليهم على لسانك ، أي : أمرتهم بالوحي الذي جاءك من عند الله. فأجابوا لذلك وانقادوا ، وقالوا : آمنا ، واشهد بأننا مسلمون. فجمعوا بين الإسلام الظاهر ، والانقياد بالأعمال الصالحة والإيمان الباطن ، المخرج لصاحبه من النفاق ، ومن ضعف الإيمان. والحواريون هم : الأنصار ، كما قال عيسى ابن مريم للحواريين : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ).

[١١٢] (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) أي : مائدة فيها طعام. وهذا ليس منهم عن شك في قدرة الله ، واستطاعته على ذلك. وإنّما ذلك ، من باب العرض والأدب منهم. ولما كان سؤال آيات الاقتراح ، منافيا للانقياد للحق ، وكان هذا الكلام الصادر من الحواريين ، ربما أوهم ذلك ، وعظهم عيسى عليه‌السلام فقال : (اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فإن المؤمن ، يحمله ما معه من الإيمان على ملازمة التقوى ، وأن ينقاد لأمر الله ، ولا يطلب من آيات الاقتراح التي لا يدري ما يكون بعدها.

[١١٣] فأخبر الحواريون ، أنهم ليس مقصودهم هذا المعنى ، وإنّما لهم مقاصد صالحة. لأجل الحاجة إلى ذلك (قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها) وهذا دليل على أنهم محتاجون لها. (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) بالإيمان ، حين نرى الآيات العيانية ، حتى يكون الإيمان عين اليقين. كما سأل الخليل ، عليه الصلاة والسّلام ربه ، أن يريه كيف يحيي الموتى (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي). فالعبد محتاج إلى زيادة العلم ، واليقين ، والإيمان كل وقت ، ولهذا قال : (وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) أي : نعلم صدق ما جئت به ، أنه حق وصدق. (وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) فتكون مصلحة لمن بعدنا. نشهدها لك ، فتقوم الحجة ، ويحصل زيادة البرهان بذلك.

[١١٤] فلما سمع عيسى عليه الصلاة والسّلام ذلك ، وعلم مقصودهم ، أجابهم إلى طلبهم في ذلك. فقال : (اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ) أي : يكون وقت نزولها ، عيدا وموسما ، يتذكر به هذه الآية العظمة ، فتحفظ ولا تنسى على مرور الأوقات ، وتكرر السنين. كما جعل الله تعالى أعياد المسلمين ومناسكهم ، مذكرة لآياته ، ومنبها على سنن المرسلين وطرقهم القويمة ، وفضله وإحسانه عليهم. (وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أي : اجعلها لنا رزقا. فسأل عيسى عليه‌السلام نزولها أن تكون لهاتين المصلحتين ، مصلحة الدين ، بأن تكون آية باقية ، ومصلحة الدنيا ، وهي : أن تكون رزقا.

[١١٥] (قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) لأنه شاهد الآية الباهرة وكفر ، عنادا وظلما ، فاستحق العذاب الأليم ، والعقاب الشديد. واعلم أن الله تعالى وعد أنه سينزلها ، وتوعدهم ـ إن كفروا ـ بهذا الوعيد. ولم يذكر أنه أنزلها. فيحتمل أنه لم ينزلها ، بسبب أنهم لم يختاروا ذلك. ويدل على ذلك ، أنه لم يذكر في الإنجيل الذي بأيدي النصارى ، ولا له وجود. ويحتمل أنها نزلت ، كما وعد الله ، وأنه لا يخلف الميعاد. ويكون عدم ذكرها في الأناجيل التي بأيديهم ، من الحظ الذي ذكروا به فنسوه. أو أنه لم يذكر في الإنجيل أصلا ، وإنّما ذلك كان متوارثا بينهم ، ينقله الخلف عن السلف ، فاكتفى الله بذلك ، عن ذكره في الإنجيل. ويدل على هذا المعنى قوله : (وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) والله أعلم بحقيقة الحال.

[١١٦] (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ). وهذا توبيخ للنصارى ، الّذين قالوا : إن الله ثالث ثلاثة فيقول الله هذا الكلام لعيسى. فيتبرأ منه عيسى ويقول : (سُبْحانَكَ) عن هذا الكلام القبيح ، وعمّا لا يليق بك. (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) أي : ما ينبغي لي ، ولا يليق أن أقول شيئا ، ليس من أوصافي ، ولا من حقوقي. فإنه ليس أحد من المخلوقين ، لا الملائكة

٢٧١

المقربون ، ولا الأنبياء المرسلون ولا غيرهم ، له حق ولا استحقاق لمقام الإلهية. وإنّما الجميع عباد ، مدبرون ، وخلق مسخرون ، وفقراء عاجزون. (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) فأنت أعلم بما صدر مني. (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) وهذا من كمال أدب المسيح عليه الصلاة والسّلام ، في خطابه لربه. فلم يقل عليه‌السلام : «لم أقل شيئا من ذلك». وإنّما أخبر بكلام ينفي عن نفسه ، أن يقول كل مقالة تنافي منصبه الشريف ، وأن هذا من الأمور المحالة. ونزه ربه عن ذلك أتم تنزيه ، ورد العلم إلى عالم الغيب والشهادة.

[١١٧] ثمّ صرّح بذكر ما أمر به بني إسرائيل فقال : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) فأنا عبد متبع لأمرك ، لا متجرىء على عظمتك. (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) أي : ما أمرتهم إلا بعبادة الله وحده ، وإخلاص الدين له ، المتضمن للنهي ، عن اتخاذي وأمي إلهين ، من دون الله ، وبيان أني عبد مربوب ، فكما أنه ربكم فهو ربي. (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) أشهد على من قام بهذا الأمر ، ممن لم يقم به. (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) أي : المطلع على سرائرهم وضمائرهم. (وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) علما وسمعا وبصرا. فعلمك قد أحاط بالمعلومات ، وسمعك بالمسموعات ، وبصرك بالمبصرات ، فأنت الذي تجازي عبادك ، بما تعلمه فيهم من خير وشر.

[١١٨] (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) وأنت أرحم بهم من أنفسهم ، وأعلم بأحوالهم ، فلو لا أنهم عباد متمردون ، لم تعذبهم. (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي : فمغفرتك صادرة عن تمام عزة وقدرة ، لا كمن يغفر ويعوف ، عن عجز وعدم قدرة. الحكيم حيث كان من مقتضى حكمتك ، أن تغفر لمن أتى بأسباب المغفرة.

[١١٩] (قالَ اللهُ) مبينا لحال عباده يوم القيامة ، ومن الفائز منهم ، ومن الهالك ، من الشقي ، ومن السعيد. (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) والصادقون هم الّذين استقامت أعمالهم وأقوالهم ، ونياتهم ، على الصراط المستقيم ، والهدى القويم. فيوم القيامة يجدون ثمرة ذلك الصدق ، إذا أحلهم الله في مقعد صدق ، عن مليك مقتدر. ولهذا قال : (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). والكاذبون بضدهم ، سيجدون ضرر كذبهم وافترائهم ، وثمرة أعمالهم الفاسدة.

[١٢٠] (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَ) لأنه الخالق لهما والمدبر لذلك بحكمه القدري ، وحكمه الشرعي ، وحكمه الجزائي ، ولهذا قال : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فلا يعجزه شيء ، بل جميع الأشياء منقادة لمشيئته ، ومسخرة بأمره.

٢٧٢

سورة الأنعام

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] هذا إخبار عن حمده والثناء عليه ، بصفات الكمال ، ونعوت العظمة والجلال عموما ، وعلى هذه المذكورات خصوصا. فحمد نفسه على خلقه السموات والأرض ، الدالة على كمال قدرته ، وسعة علمه ورحمته ، وعموم حكمته ، وانفراده بالخلق والتدبير ، وعلى جعله الظلمات والنور. وذلك شامل للحسي من ذلك ، كالليل والنهار ، والشمس والقمر. والمعنوي ، كظلمات الجهل ، والشك ، والشرك ، والمعصية ، والغفلة ، ونور العلم والإيمان ، واليقين ، والطاعة. وهذا كه ، يدل دلالة قاطعة أنه تعالى ، هو المستحق للعبادة ، وإخلاص الدين له. ومع هذا الدليل ووضوح البرهان (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) به سواه. يسوونهم به في العبادة والتعظيم ، مع أنهم لم يساووا الله في شيء من الكمال ، وهم فقراء عاجزون ناقصون من كل وجه.

[٢] (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) وذلك بخلق مادتكم وأبيكم آدم عليه‌السلام. (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) أي : ضرب لمدة إقامتكم في هذه الدار أجلا ، فتمتعون به وتمتحنون ، وتبتلون بما يرسل إليك به رسله. (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ويعمركم ما يتذكر فيه من تذكر. (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) وهي : الدار الآخرة ، التي ينتقل العباد إليها من هذه الدار ، فيجازيهم بأعمالهم من خير وشر. (ثُمَ) مع هذا البيان التام وقطع الحجة (أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) أي : تشكّون في وعد الله ووعيده ، ووقوع الجزاء يوم القيامة. وذكر الله الظلمات بالجمع ، لكثرة موادها ، وتنوع طرقها. ووحّد النور ، لكون الصراط الموصلة إلى الله واحدة ، لا تعدد فيها ، وهي : الصراط المتضمنة للعلم بالحق ، والعمل به كما قال تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ).

[٣] أي : وهو المألوه المعبود ، في السموات وفي الأرض ، فأهل السماء والأرض ، متعبدون لربهم ، خاضعون لعظمته ، مستكينون لعزه وجلاله ، الملائكة المقربون ، والأنبياء ، والمرسلون ، والصديقون ، والشهداء ، والصالحون. وهو تعالى ، يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون ، فاحذروا معاصيه وارغبوا في الأعمال ، التي تقربكم منه ، وتدنيكم من رحمته ، واحذروا من كل عمل يبعدكم عنه ، ومن رحمته.

[٤] هذا إخبار منه تعالى ، عن إعراض المشركين ، وشدة تكذيبهم وعداوتهم ، وأنهم لا تنفع فيهم الآيات ، حتى تحل بهم المثلاث فقال : (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) الدالة على الحقّ دلالة قاطعة ، الداعية لهم إلى اتباعه وقبوله. (إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) لا يلقون له بالا ، ولا يصغون لها سمعا ، قد انصرفت قلوبهم إلى غيرها ، وولوها أدبارهم.

[٥] (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) والحقّ حقه ، أن يتبع ، ويشكر الله على تيسيره لهم ، وإتيانهم به. فقابلوه بضد

٢٧٣

ما يجب مقابلته به فاستحقوا العقاب الشديد. (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي : فسوف يرون ما استهزؤوا به ، أنه الحق والصدق ، ويبين الله للمكذبين كذبهم وافتراءهم وكانوا يستهزئون بالبعث والجنة والنار. فإذا كان يوم القيامة قيل للمكذبين : (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) (١٤). وقال تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ) (٣٩).

[٦] ثمّ أمرهم أن يعتبروا بالأمم السابقة فقال : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) أي : كم تتابع إهلاكنا للأمم المكذبين ، وأمهلناهم قبل ذلك الإهلاك ، بأن (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) من الأموال والبنين والرفاهية. (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ) تنبت لهم بذلك ما شاء الله ، من زروع وثمار ، يتمتعون بها ، ويتناولون منها ما يشتهون. فلم يشكروا الله على نعمه ، بل أقبلوا على الشهوات ، وألهتهم اللذات. فجاءتهم رسلهم بالبينات ، فلم يصدقوها ، بل ردوها وكذبوها (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) أي : فأهلكهم الله بذنوبهم ، وأنشأ من بعدهم قرنا آخرين. فهذه سنّة الله ودؤبه ، في الأمم السابقين واللاحقين. فاعتبروا بمن قص الله عليكم نبأهم.

[٧] هذا إخبار من الله لرسوله عن شدة عناد الكافرين ، وأنه ليس تكذيبهم لقصور فيما جئتهم به ، ولا لجهل منهم بذلك ، وإنّما ذلك ظلم وبغي ، لا حيلة لكم فيه. فقال : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) وتيقنوه (لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ظلما وعدوانا (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ). فأي بينة أعظم من هذه البينة ، وهذا قولهم الشنيع فيها ، حيث كابروا المحسوس ، الذي لا يمكن من له أدنى مسكة من عقل دفعه؟

[٨] (وَقالُوا) أيضا ـ تعنتا مبنيا على الجهل ، وعدم العلم بالمعقول. (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) أي : هلا أنزل مع محمد ملك ، يعاونه ويساعده على ما هو عليه بزعمهم أنه بشر ، وأن رسالة الله ، لا تكون إلا على أيدي الملائكة. قال الله ـ في بيان رحمته ولطفه بعباده ، حيث أرسل إليهم بشرا منهم يكون الإيمان بما جاء به ، عن علم ، وبصيرة ، وغيب. (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً) برسالتنا ، لكان الإيمان لا يصدر عن معرفة بالحق ولكان إيمانا بالشهادة ، الذي لا ينفع شيئا وحده. وهذا إن آمنوا ، والغالب أنهم لا يؤمنون بهذه الحالة. فلو لم يمنوا (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) بتعجيل الهلاك عليهم ، وعدم إنظارهم ، لأن هذه سنّة الله ، فيمن طلب الآيات المقترحة ، فلم يؤمن بها. فإرسال الرسول البشري إليهم ، بالآيات البينات ، التي يعلم الله أنها أصلح للعباد ، وأرفق بهم ، مع إمهال الله للكافرين والمكذبين ـ خير لهم وأنفع. فطلبهم لإنزال الملك ، شر لهم ، لو كانوا يعلمون. ومع ذلك ، فالملك لو أنزل عليهم ، وأرسل ، لم يطيقوا التلقي عنه ، ولا احتملوا ذلك ، ولا أطاقته قواهم الفانية.

[٩] (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) لأن الحكمة لا تقتضي سوى ذلك. (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) أي : ولكان الأمر ، مختلطا عليهم ، وملبوسا. وذلك بسبب ما لبسوه على أنفسهم ، فإنهم بنوا أمرهم على هذه القاعدة

٢٧٤

التي فيها اللبس ، وعدم بيان الحقّ. فلما جاءهم الحقّ ، بطرقه الصحيحة ، وقواعده التي هي قواعده ، لم يكن ذلك هداية لهم ، إذا اهتدى بذلك غيرهم. والذنب ذنبهم ، حيث أغلقوا على أنفسهم باب الهدى ، وفتحوا أبواب الضلال.

[١٠] يقول تعالى ـ مسليا لرسوله ، ومصبرا ومتهددا أعداءه ، ومتوعدا. (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) لما جاؤوا أممهم بالبينات ، كذبوهم واستهزؤوا بهم ، وبما جاؤوا به. فأهلكهم الله بذلك الكفر والتكذيب ، ووفر لهم من العذاب أكمل نصيب. (فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) فاحذروا ـ أيها المكذبون ـ أن تستمروا على تكذيبكم ، فيصيبكم ما أصابكم.

[١١] (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) أي : فإن شككتم في ذلك ، أو ارتبتم ، فسيروا في الأرض ، ثمّ انظروا ، كيف كان عاقبة المكذبين ، فلن تجدوا إلا قوما مهلكين ، وأمما في المثلاث تالفين. قد أوحشت منهم المنازل ، وعدم من تلك الربوع كل متمتع بالسرور نازل. أبادهم الملك الجبار ، وكان نبأهم عبرة لأولي الأبصار. وهذا السير المأمور به ، سير القلوب والأبدان ، الذي يتولد منه الاعتبار. وأما مجرد النظر من غير اعتبار ، فإن ذلك لا يفيد شيئا.

[١٢] يقول تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلْ) لهؤلاء المشركين ، مقررا لهم وملزما بالتوحيد : (لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : من الخالق لذلك ، المالك له ، المتصرف فيه؟ (قُلْ) لهم : (لِلَّهِ) وهم مقرون بذلك لا ينكرونه ، أفلا حين اعترفوا بانفراد الله ، بالملك والتدبير أن يعترفوا له بالإخلاص والتوحيد؟ وقوله : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أي : العالم العلوي والسفلي ، تحت ملكه وتدبيره ، وهو تعالى ، قد بسط عليهم رحمته وإحسانه ، وتغمدهم برحمته وامتنانه ، وكتب على نفه كتابا «أن رحمته تغلب غضبه» و «أن العطاء أحب إليه من المنع» و «أن الله قد فتح لجميع العباد أبواب الرحمة ، إن لم يغلقوا عليهم أبوابها بذنوبهم ، ودعاهم إليها ، إن لم تمنعهم من طلبها معاصيهم وعيوبهم». وقوله : (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) وهذا قسم منه ، وهو أصدق المخبرين. وقد أقام على ذلك ، من الحجج والبراهين. ما يجعله حق اليقين. ولكن أبى الظالمون إلا جحودا ، وأنكروا قدرة الله على بعث الخلائق ، فأوضعوا في معاصيه ، وتجرأوا على الكفر به ، فخسروا دنياهم وأخراهم. ولهذا قال : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).

[١٣] اعلم أن هذه السورة الكريمة ، قد اشتملت على تقرير التوحيد ، بكل دليل عقلي ، ونقلي. بل كادت أن تكون كلها ، في شأن التوحيد ، ومجادلة المشركين بالله ، المكذبين لرسوله. فهذه الآيات ، ذكر الله فيها ، ما يتبين به الهدى ، وينقمع به الشرك. فذكر أن (لَهُ) تعالى (ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ). وذلك هو المخلوقات كلها ، من آدميها ، وجنّها ، وملائكتها ، وحيواناتها وجماداتها. فالكل خلق مدبرون ، وعبيد مسخرون لربهم العظيم ، القاهر المالك. فهل يصح في عقل ونقل ، أن يعبد من هؤلاء المماليك ، الذي لا نفع عنده ولا ضر؟ ويترك الإخلاص للخالق ، المدبر المالك ، الضار النافع؟ أم العقول السليمة ، والفطر المستقيمة ، تدعو إلى إخلاص العبادة ، والحب ، والخوف ،

٢٧٥

والرجاء لله رب العالمين؟ (السَّمِيعُ) لجميع الأصوات ، على اختلاف اللغات ، بتفنن الحاجات. (الْعَلِيمُ) بما كان ، وما يكون ، وما لم يكن ، لو كان كيف كان يكون ، المطلع على الظواهر والبواطن.

[١٤] (قُلْ) لهؤلاء المشركين بالله : (أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) من هؤلاء المخلوقات العاجزة ، يتولاني ، وينصرني؟ فلا أتّخذ من دونه تعالى وليا لأنه ، فاطر السموات والأرض ، أي : خالقهما ومدبرهما. (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) أي : وهو الرازق لجميع الخلق ، عن غير حاجة منه تعالى إليهم. فكيف يليق أن أتخذ وليا غير الخالق الرازق ، الغني ، الحميد؟ (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) لله بالتوحيد ، وانقاد له بالطاعة. لأني أولى من غيري ، بامتثال أوامر ربي. (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي : ونهيت أيضا ، عن أن أكون من المشركين ، لا في اعتقادهم ، ولا في مجالستهم ، ولا في الاجتماع بهم ، فهذا أفرض الفروض عليّ ، وأوجب الواجبات.

[١٥ ـ ١٦] (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) فإن المعصية في الشرك ، توجب الخلود في النار ، وسخط الجبار. وذلك اليوم ، هو اليوم الذي يخاف عذابه ، ويحذر عقابه ؛ لأنه من صرف عنه العذاب يومئذ ، فهو المرحوم ، ومن نجا فيه ، فهو الفائز حقا. كما أن من لم ينج منه ، فهو الهالك الشقي.

[١٧] ومن أدلة توحيده ، أنه تعالى ، المنفرد بكشف الضراء ، وجلب الخير والسراء. ولهذا قال : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) من فقر ، أو مرض ، أو عسر ، أو غم ، أو هم أو نحوه. (فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). فإذا كان وحده النافع الضار ، فهو الذي يستحق أن يفرد بالعبودية والإلهية.

[١٨] (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) فلا يتصرف منهم متصرف ، ولا يتحرك متحرك ، ولا يسكن ساكن ، إلا بمشيئته. وليس للملوك وغيرهم ، الخروج عن ملكه وسلطانه ، بل هم مدبرون مقهورون. فإذا كان هو القاهر ، وغيره مقهور ، كان هو المستحق للعبادة. (وَهُوَ الْحَكِيمُ) فيما أمر به ونهى ، وأثاب ، وعاقب ، وفيما خلق وقدّر. (الْخَبِيرُ) المطّلع على السرائر والضمائر ، وخفايا الأمور ، وهذا كله من أدلة التوحيد.

[١٩] (قُلْ) لهم ـ لما بينا لهم الهدى ، وأوضحنا لهم المسالك ـ : (أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) على هذا الأصل العظيم. (قُلِ اللهُ) أكبر شهادة ، فهو (شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) فلا أعظم منه شهادة ، ولا أكبر ، وهو يشهد لي بإقراره وفعله ، فيقرني على ما قلت لكم. كما قال تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) (٤٥). فالله حكيم قدير ، فلا يليق بحكمته وقدرته ، أن يقر كاذبا عليه ، زاعما أن الله أرسله ولم يرسله ، وأن الله أمره بدعوة الخلق ، ولم يأمره ، وأن الله أباح له دماء من خالفه ، وأموالهم ونساءهم ، وهو مع ذلك ، يصدقه بإقراره وبفعله ، فيؤيده على ما قال بالمعجزات الباهرة ، والآيات الظاهرة ، وينصره ، ويخذل من خالفه وعاداه ، فأي شهادة أكبر من هذه الشهادة؟ وقوله : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) أي : وأوحى الله إلي هذا القرآن ، لمنفعتكم ومصلحتكم ، لأنذركم به ، من العقاب الأليم. والنذارة ، إنّما تكون بذكر ما ينذرهم به ، من الترغيب ، والترهيب ، وببيان الأعمال

٢٧٦

والأقوال ، الظاهرة والباطنة ، التي من قام بها ، فقد قبل النذارة. فهذا القرآن ، فيه النذارة لكم ، أيها المخاطبون ، وكل من بلغه القرآن إلى يوم القيامة ، فإن فيه بيان كل ما يحتاج إليه من المطالب الإلهية. لما بيّن تعالى شهادته ، التي هي أكبر الشهادات على توحيده ، قال : قل لهؤلاء المعارضين لخبر الله ، والمكذبين لرسله : (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ) أي : إن شهدوا ، فلا تشهد معهم. فوازن بين شهادة أصدق القائلين ، ورب العالمين ، وشهادة أزكى الخلق المؤيدة بالبراهين القاطعة والحجج الساطعة ، على توحيد الله ، وحده لا شريك له ، وشهادة أهل الشرك ، الّذين مرجت عقولهم وأديانهم ، وفسدت آراؤهم وأخلاقهم ، وأضحكوا على أنفسهم العقلاء. بل خالفت شهادتهم فطرهم ، وتناقضت أقوالهم على إثبات أن مع الله آلهة أخرى. مع أنه لا يقوم على ما خالفوه أدنى شبهة ، فضلا عن الحجج. واختر لنفسك أي الشهادتين ، إن كنت تعقل. ونحن نختار لأنفسنا ، ما اختاره الله لنبيه ، الذي أمرنا الله بالاقتداء به فقال : (قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) أي : منفرد ، لا يستحق العبودية والإلهية سواه ، كما أنه المنفرد بالخلق والتدبير. (وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) به ، من الأوثان ، والأنداد ، وكل ما أشرك به مع الله. فهذا حقيقة التوحيد ، إثبات الإلهية لله ونفيها عمّا عداه.

[٢٠] لما بيّن شهادته ، وشهادة رسوله على التوحيد ، وشهادة المشركين ، الّذين لا علم لديهم على ضده ، ذكر أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى. (يَعْرِفُونَهُ) أي : يعرفون صحة التوحيد (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) أي : لا شك عندهم فيه ، بوجه ، كما أنهم لا يشتبهون بأولادهم ، خصوصا البنين الملازمين في الغالب لآبائهم. ويحتمل أن الضمير ، عائد إلى الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن أهل الكتاب لا يشتبهون بصحة رسالته ، ولا يمترون بها ، لما عندهم من البشارات به ، ونعوته التي تنطبق عليه ، ولا تصلح لغيره. والمعنيان متلازمان. قوله : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أي : فوتوها ما خلقت له ، من الإيمان والتوحيد ، وحرموها الفضل من الملك المجيد (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ). فإذا لم يوجد الإيمان منهم ، فلا تسأل عن الخسار والشر ، الذي يحصل لهم.

[٢١] أي : لا أعظم ظلما وعنادا ، ممن كان فيه أحد الوصفين ، فكيف لو اجتمعا ، افتراء الكذب على الله ، أو التكذيب بآياته ، التي جاء بها المرسلون ، فإن هذا ، أظلم الناس ، والظالم لا يفلح أبدا. ويدخل في هذا ، كل من كذب على الله ، بادعاء الشريك له والمعين وزعم أنه ينبغي أن يعبد غيره أو اتخذ له صاحبة أو ولدا ، وكل من رد الحقّ الذي جاءت به الرسل أو من قام مقامهم.

[٢٢ ـ ٢٤] يخبر تعالى عن مآل أهل الشرك يوم القيامة وأنهم يسألون ويوبخون فيقال لهم : (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أي : إن الله ليس له شريك ، وإنّما ذلك على وجه الزعم منهم والافتراء (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ) أي : لم يكن جوابهم حين يفتنون ويختبرون بذلك السؤال إلا إنكارهم لشركهم وحلفهم أنهم ما كانوا مشركين (انْظُرْ) متعجبا منهم ومن أحوالهم. (كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) أي : كذبوا كذبا عاد بالخسار على أنفسهم وضرهم ـ والله ـ

٢٧٧

غاية الضرر (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من الشركاء الّذين زعموهم مع الله ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

[٢٥] أي : ومن هؤلاء المشركين ، قوم يحملهم بعض الأوقات ، بعض الدواعي إلى الاستماع. ولكنه استماع خال من قصد الحقّ واتباعه ، ولهذا لا ينتفعون بذلك الاستماع ، لعدم إرادتهم للخير. (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) أي : أغطية وأغشية ، لئلا يفقهوا كلام الله ، فصان كلامه عن أمثال هؤلاء. (وَفِي آذانِهِمْ) جعلنا (وَقْراً) أي : صمما ، فلا يستمعون ما ينفعهم. (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) ، وهذا غاية الظلم والعناد ، أن الآيات البينات الدالة على الحقّ ، لا ينقادون لها ، ولا يصدقون بها ، بل يجادلون بالباطل ، ليدحضوا به الحقّ. ولهذا قال : (حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي : مأخوذ من صحف الأولين المسطورة ، التي ليست عن الله ، ولا عن رسله. وهذا من كفرهم ، وإلا فكيف يكون هذا الكتاب الحاوي لأنباء السابقين واللاحقين ، والحقائق التي جاءت بها الأنبياء والمرسلون ، والحقّ ، والقسط ، والعدل التام ، من كل وجه ، أساطير الأولين؟

[٢٦] وهم : أي المشركون بالله ، المكذبون لرسوله ، يجمعون بين الضلال والإضلال. ينهون الناس عن اتباع الحقّ ، ويحذرونهم منه ، ويبعدون بأنفسهم عنه. ولن يضرّوا الله ولا عباده المؤمنين ، بفعلهم هذا ، شيئا ، (وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) بذلك.

[٢٧ ـ ٢٨] يقول تعالى ـ مخبرا عن حال المشركين يوم القيامة ، وإحضارهم النار : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) ليوبخوا ويقرعوا ، لرأيت أمرا هائلا ، وحالا مفظعة. ولرأيتهم كيف أقروا على أنفسهم بالكفر والفسوق ، وتمنوا أن لو يردون إلى الدنيا. (فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ). فإنهم كانوا يخفون في أنفسهم ، أنهم كانوا كاذبين ، ويبدو في قلوبهم ، في كثير من الأوقات. ولكن الأغراض الفاسدة ، صدتهم عن ذلك ، وصدفت قلوبهم عن الخير ، وهم كذبة في هذه الأمنية وإنّما قصدهم ، أن يدفعوا بها عن أنفسهم العذاب. (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ).

[٢٩] (وَقالُوا) منكرين للبعث (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) أي : ما حقيقة الحال والأمر وما المقصود من إيجادنا ، إلا الحياة الدنيا وحدها. (وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ).

[٣٠] أي : (وَلَوْ تَرى) الكافرين (إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) لرأيت أمرا عظيما ، وهولا جسيما. (قالَ) لهم موبخا ومقرعا (أَلَيْسَ هذا) الذي ترون من العذاب (بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا) فأقروا ، واعترفوا ، حيث لا ينفعهم ذلك. (قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ).

[٣١] أي : قد خاب وخسر ، وحرم الخير كله ، من كذّب بلقاء الله ، فأوجب له هذا التكذيب ، الاجتراء على المحرمات ، واقتراف الموبقات. (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ) وهم على أقبح حال وأسوئه ، فأظهروا غاية الندم. (قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها) ولكن هذا تحسّر ذهب وقته. (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ). فإن وزرهم

٢٧٨

وزر يثقلهم ، ولا يقدرون على التخلص منه ، ولهذا خلدوا في النار ، واستحقوا التأبيد في غضب الجبار.

[٣٢] أما حقيقة الدنيا : فإنها لعب ولهو ، لعب في الأبدان ، ولهو في القلوب. فالقلوب لها والهة ، والنفوس لها عاشقة ، والهموم فيها متعلقة ، والاشتغال بها ، كلعب الصبيان. وأما الآخرة ، فإنها (خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) في ذاتها وصفاتها ، وبقائها ودوامها. وفيها ما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين ، من نعيم القلوب والأرواح ، وكثرة السرور والأفراح. ولكنها ليست لكل أحد ، وإنّما هي للمتقين ، الّذين يفعلون أوامر الله ، ويتركون نواهيه وزواجره. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي : أفلا يكون لكم عقول ، بها تدركون ، أي الدارين أحق بالإيثار.

[٣٣] أي : قد نعلم أن الذي يقول المكذبون فيك ، يحزنك ويسوؤك. ولم نأمرك بما أمرناك به من الصبر ، إلا لتحصل لك المنازل العالية والأحوال الغالية. فلا تظن أن قولهم ، صادر عن اشتباه في أمرك ، وشك فيك. (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) لأنهم يعرفون صدقك ، ومدخلك ومخرجك ، وجميع أحوالك ، حتى إنهم كانوا يسمونه ـ قبل بعثته ـ الأمين. (وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) أي : فإن تكذيبهم لآيات الله ، التي جعلها الله على يديك.

[٣٤] (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا). فاصبر كما صبروا ، تظفر كما ظفروا. (وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) ما به يثبت فؤادك ، ويطمئن به قلبك.

[٣٥] (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ) أي : شق عليك ، من حرصك عليهم ، ومحبتك لإيمانهم ، فابذل وسعك في ذلك ، فليس في مقدورك ، أن تهدي من لم يرد الله هدايته. (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) أي : فافعل ذلك ، فإنه لا يفيدهم شيئا. وهذا قطع لطمعه في هداية أشباه هؤلاء المعاندين. (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) ولكن حكمته تعالى ، اقتضت أنهم يبقون على الضلال. (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) الّذين لا يعرفون حقائق الأمور ، ولا ينزلونها على منازلها.

[٣٦] يقول تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ) لدعوتك ، ويلبي رسالتك ، وينقاد لأمرك ونهيك (الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) بقلوبهم ، ما ينفعهم وهم أولو الألباب والأسماع. والمراد بالسماع هنا : سماع القلب والاستجابة ، وإلا فمجرد سماع الأذن ، يشترك فيه البر والفاجر. فكل المكلفين قد قامت عليهم حجة الله تعالى ، باستماع آياته ، فلم يبق لهم عذر ، في عدم القبول. (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) يحتمل أن المعنى ، مقابل للمعنى المذكور. أي : إنّما يستجيب لك أحياء القلوب. وأما أموات القلوب ، الّذين لا يشعرون بسعادتهم ، ولا يحسون بما ينجيهم ، فإنهم لا يستجيبون لذلك ، ولا ينقادون ، وموعدهم يوم القيامة ، يبعثهم الله ، ثمّ إليه يرجعون. ويحتمل أن المراد بالآية ، على ظاهرها ، وأن الله تعالى يقرر المعاد ، وأنه سيبعث الأموات يوم القيامة ثمّ ينبئهم بما كانوا يعملون. ويكون هذا ، متضمنا للترغيب في الاستجابة ، لله ورسوله ، والترهيب من عدم ذلك.

[٣٧] (وَقالُوا) أي : المكذبون بالرسول ، تعنتا وعنادا : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ). يعنون بذلك ، آيات الاقتراح ، التي يقترحونها بعقولهم الفاسدة ، وآرائهم الكاسدة. كقولهم : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) الآيات. (قُلْ) مجيبا لقولهم : (إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) فليس في قدرته قصور عن ذلك. كيف ، وجميع الأشياء منقادة لعزته ، مذعنة لسلطانه؟ (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) فهم ـ لجهلهم وعدم علمهم ـ يطلبون ما هو شر لهم من الآيات ، التي لو جاءتهم ، فلم يؤمنوا بها ـ لعوجلوا بالعقاب ، كما هي سنّة الله ، التي لا تبديل لها. ومع هذا ، فإن كان قصدهم ، الآيات التي تبين لهم الحقّ ، وتوضح السبيل. فقد أتى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بكل آية قاطعة ، وحجة ساطعة ، دالة على ما جاء به من الحقّ ، بحيث يتمكن العبد في كل مسألة من مسائل الدين ، أن يجد فيما جاء به ، عدة أدلة عقلية ونقلية ، بحيث لا يتبقى في القلوب ، أدنى شك وارتياب. فتبارك الذي أرسل

٢٧٩

رسوله بالهدى ودين الحقّ ، وأيده بالآيات البينات ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حيّ عن بينة ، وإن الله لسميع عليم.

[٣٨] أي : جميع الحيوانات ، الأرضية والهوائية ، من البهائم والوحوش ، والطيور ، كلها أمم أمثالكم خلقناها كما خلقناكم ، ورزقناها كما رزقناكم ونفذت فيها مشيئتنا وقدرتنا ، كما كانت نافذة فيكم. (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) أي : ما أهملنا ولا أغفلنا ، في اللوح المحفوظ ، شيئا من الأشياء. بل جميع الأشياء ، صغيرها ، وكبيرها ، مثبتة في اللوح المحفوظ ، على ما هي عليه. فتقع جميع الحوادث ، طبق ما جرى به القلم. وفي هذه الآية ، دليل على أن الكتاب الأول ، قد حوى جميع الكائنات. وهذا أحد مراتب القضاء والقدر ، فإنها أربع مراتب : علم الله الشامل ، لجميع الأشياء ، وكتابه المحيط بجميع الموجودات ، ومشيئته وقدرته العامة النافذة في كل شيء ، وخلقه لجميع المخلوقات ، حتى أفعال العباد. ويحتمل أن المراد بالكتاب ، هذا القرآن ، وأن المعنى كالمعنى في قوله تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ). وقوله : (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) أي : جميع الأمم تجمع وتحشر إلى الله في موقف القيامة ، في ذلك الموقف العظيم الهائل. فيجازيهم بعدله وإحسانه ، ويمضي عليهم حكمه الذي يحمده عليه الأولون والآخرون ، أهل السماء وأهل الأرض.

[٣٩] هذا بيان لحال المكذبين بآيات الله ، المكذبين لرسله ، أنهم قد سدوا على أنفسهم باب الهدى ، وفتحوا باب الردى. وأنهم (صُمٌ) عن سماع الحقّ (وَبُكْمٌ) عن النطق به ، فلا ينطقون إلا بالباطل. (فِي الظُّلُماتِ) أي : منغمسون في ظلمات الجهل ، والكفر ، والظلم ، والعناد ، والمعاصي. وهذا من إضلال الله إياهم ، فإنه (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) لأنه المنفرد بالهداية والإضلال ، بحسب ما اقتضاه فضله وحكمته.

[٤٠] يقول تعالى لرسوله : (قُلْ) للمشركين بالله ، العادلين به غيره : (أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي : إذا حصلت هذه المشقات ، وهذه الكروب ، التي يضطر إلى دفعها ، هل تدعون آلهتكم وأصنامكم ، أم تدعون ربكم الملك الحقّ المبين.

[٤١] (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) (٤١). فإذا كانت هذه حالكم مع أندادكم عند الشدائد ، تنسونهم ، لعلمكم أنهم لا يملكون لكم ضرا ولا نفعا ، ولا موتا ، ولا حياة ، ولا نشورا. وتخلصون لله الدعاء ، لعلمكم أنه هو الضار النافع ، المجيب لدعوة المضطر. فما بالكم في الرخاء ، تشركون به ، وتجعلون له شركاء؟ هل دلكم على ذلك ، عقل أو نقل ، أم عندكم من سلطان بهذا؟ أم تفترون على الله الكذب؟

[٤٢] يقول تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) من الأمم السالفين ، والقرون المتقدمين ، فكذبوا رسلنا ، وجحدوا بآياتنا. (فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) أي : بالفقر والمرض والآفات ، والمصائب ، رحمة منا بهم. (لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) إلينا ، ويلجأون عند الشدة إلينا.

[٤٣] (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) أي : استحجرت فلا تلين للحق. (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ

٢٨٠