تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي

تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

المؤلف:

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ١١٣٥

كما تعاملون عباده (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ).

[٦١] ذلك الذي شرع لكم تلك الأحكام الحسنة العادلة ، هو حسن التصرف ، في تقديره ، وتدبيره ، الذي (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) أي : يدخل هذا على هذا ، وهذا على هذا. فيأتي بالليل بعد النهار ، وبالنهار بعد الليل ، ويزيد في أحدهما ، ما ينقصه ، من الآخر ، ثم بالعكس ، فيترتب على ذلك ، قيام الفصول ، ومصالح الليل والنهار ، والشمس والقمر ، التي هي من أجل نعمه على العباد ، وهي من الضروريات لهم. (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ) يسمع ضجيج الأصوات ، باختلاف اللغات ، على تفنن الحاجات. (بَصِيرٌ) يرى دبيب النملة السوداء ، تحت الصخرة الصماء ، في الليلة الظلماء (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) (١٠).

[٦٢] (ذلِكَ) صاحب الحكم والأحكام ، (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) أي : الثابت ، الذي لا يزال ولا يزول ، الأول ، الذي ليس قبله شيء ، الآخر ، الذي ليس بعده شيء ، كامل الأسماء والصفات ، صادق الوعد ، الذي وعده حق ولقاؤه حق ، ودينه حق ، وعبادته هي الحقّ النافعة الباقية على الدوام. (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) من الأصنام والأنداد ، من الحيوانات والجمادات. (هُوَ الْباطِلُ) الذي ، هو باطل في نفسه ، وعبادته باطلة ، لأنها متعلقة بمضمحل فان ، فتبطل تبعا لغايتها ومقصودها. (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) العلي في ذاته ، فهو عال على جميع المخلوقات وفي قدره ، فهو كامل الصفات ، وفي قهره لجميع المخلوقات ، الكبير في ذاته ، وفي أسمائه ، وفي صفاته ، الذي من عظمته وكبريائه ، أن الأرض قبضته يوم القيامة ، والسموات مطويات بيمينه. ومن كبريائه ، أن كرسيه ، وسع السموات والأرض ، ومن عظمته وكبريائه ، أن نواصي العباد بيده ، فلا يتصرفون إلّا بمشيئته ، ولا يتحركون ويسكنون ، إلّا بإرادته. وحقيقة الكبرياء ، التي لا يعلمها إلّا هو ، لا ملك مقرب ، ولا نبي مرسل ، أنها كل صفة كمال وجلال ، وكبرياء ، وعظمة ، فهي ثابتة له ، وله من تلك الصفة ، أجلها وأكملها ، ومن كبريائه ، أن العبادات كلها ، الصادرة من أهل السموات والأرض ، كلها المقصود منها ، تكبيره وتعظيمه ، وإجلاله وإكرامه. ولهذا كان التكبير ، شعارا للعبادات الكبار ، كالصلاة وغيرها.

[٦٣] هذا ، حث منه تعالى ، وترغيب في النظر بآياته الدالة على وحدانيته ، وكماله فقال : (أَلَمْ تَرَ) أي : ألم تشاهد ببصرك وبصيرتك (أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) وهو : المطر ، فينزل على أرض خاشعة مجدبة ، قد اغبرت أرجاؤها ، ويبس ما فيها ، من شجر ، ونبات. (فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) قد اكتست من كلّ زوج كريم ، وصار لها بذلك ، منظر بهيج ، إن الذي أحياها بعد موتها وهمودها ، لمحيي الموتى ، بعد أن كانوا رميما. (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) اللطيف الذي يدرك بواطن الأشياء ، وخفياتها ، وسرائرها ، الذي يسوق إلى عباده الخير ، ويدفع عنهم الشر ، بطرق لطيفة تخفى على العباد ، ومن لطفه ، أنه يري عبده ، عزته في انتقامه وكمال اقتداره ، ثم يظهر لطفه بعد أن أشرف العبد على الهلاك. ومن لطفه ، أنه يعلم مواقع القطر من الأرض ، وبذور الأرض في بواطنها ، فيسوق ذلك الماء ، إلى ذلك البذر ، الذي خفي على علم الخلائق فينبت منه أنواع النبات. (خَبِيرٌ) بسرائر الأمور ، وخبايا الصدور ، وخفايا الأمور.

[٦٤] (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) خلقا وعبيدا ، يتصرف فيهم بملكه وحكمته ، وكمال اقتداره ، ليس لأحد غيره من الأمر شيء. (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُ) بذاته الذي له الغنى المطلق التام ، من جميع الوجوه. ومن غناه ، أنه لا يحتاج إلى أحد من خلقه ، ولا يواليهم من ذلة ، ويتكثر بهم من قلة. ومن غناه ، أنه ما اتخذ صاحبة ولا ولدا ، ومن غناه ، أنه صمد ، لا يأكل ولا يشرب ، ولا يحتاج إلى ما يحتاج إليه الخلق ، بوجه من الوجوه ، فهو يطعم ولا يطعم ، ومن غناه ، أن الخلق كلهم ، مفتقرون إليه ، في إيجادهم ، وإعدادهم ، وإمدادهم ، وفي دينهم ، ودنياهم ، ومن غناه ، أنه لو اجتمع من في السموات ومن في الأرض ، الأحياء منهم والأموات ، في صعيد واحد ،

٦٤١

فسأل كلّ منهم ما بلغت أمنيته ، فأعطاهم فوق أمانيهم ، ما نقص ذلك من ملكه شيئا ، ومن غناه أنّ يده سحّاء بالخير والبركات ، الليل والنهار ، لم يزل إفضاله على الأنفاس. ومن غناه وكرمه ، ما أودعه في دار كرامته ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. (الْحَمِيدُ) أي : المحمود في ذاته ، وفي أسمائه ، لكونها حسنى ، وفي صفاته ، لكونها كلها صفات كمال ، وفي أفعاله ، لكونها دائرة بين العدل والإحسان ، والرحمة ، والحكمة. وفي شرعه ، لكونه لا يأمر إلّا بما فيه مصلحة خالصة ، أو راجحة ، ولا ينهى إلّا عما فيه ، مفسدة خالصة أو راجحة ، الذي له الحمد ، الذي يملأ ما في السموات والأرض ، وما بينهما ، وما شاء بعدهما ، الذي لا يحصي العباد ثناء على حمده ، بل هو كما أثنى على نفسه ، وفوق ما يثني عليه عباده ، وهو المحمود على توفيق من يوفقه ، وخذلان من يخذله ، وهو الغني في حمده ، الحميد في غناه.

[٦٥] أي : ألم تشاهد ببصرك وقلبك ، نعمة ربك السابغة ، وأياديه الواسعة. (أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) من حيوانات ، ونبات ، وجمادات ، فجميع ما في الأرض ، مسخر لبني آدم ، حيواناتها ، لركوبه ، وحمله ، وأعماله ، وأكله ، وأنواع انتفاعه ، وأشجارها ، وثمارها ، يقتاتها ، وقد سلط على غرسها واستغلالها ، ومعادنها ، يستخرجها ، وينتفع بها. (وَالْفُلْكَ) أي : وسخر لكم الفلك ، وهي السفن (تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) تحملكم ، وتحمل تجاراتكم ، وتوصلكم من محل إلى محل ، وتستخرجون من البحر ، حلية تلبسونها. ومن رحمته بكم أنه (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ) فلو لا رحمته وقدرته ، لسقطت السماء على الأرض ، فتلف ما عليها ، وهلك من فيها (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) (٤١). (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أرحم بهم من والديهم ، ومن أنفسهم ، ولهذا يريد لهم الخير ، ويريدون لأنفسهم الشر والضر. ومن رحمته ، أن سخر لهم ، ما سخر من هذه الأشياء.

[٦٦] (وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ) وأوجدكم من العدم (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) بعد أن أحياكم. (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) بعد موتكم ، ليجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته. (إِنَّ الْإِنْسانَ) أي : جنسه ، إلّا من عصمه الله (لَكَفُورٌ) لنعم الله ، كفور بالله ، لا يعترف بإحسانه ، بل ربما كفر بالبعث وقدرة ربه.

[٦٧] يخبر تعالى أنه جعل لكلّ أمّة منسكا أي : معبدا وعبادة ، قد تختلف في بعض الأمور ، مع اتفاقها على العدل والحكمة ، كما قال تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) الآية. (هُمْ ناسِكُوهُ) أي : عاملون عليه ، بحسب أحوالهم ، فلا اعتراض على شريعة من الشرائع ، خصوصا من الأميين ، أهل الشرك ، والجهل المبين. فإنه إذا ثبتت رسالة الرسول بأدلتها ، وجب أن يتلقى جميع ما جاء به بالقبول والتسليم ، وترك الاعتراض ، ولهذا قال : (فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) أي : لا ينازعك المكذبون لك ، ويعترضوا على بعض ما جئتهم به ، بعقولهم الفاسدة ، مثل منازعتهم في حل الميتة ، بقياسهم الفاسد يقولون : «تأكلون ما قتلتم ، ولا تأكلون ما قتل الله». وكقولهم : (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) ونحو ذلك من اعتراضاتهم ، التي

٦٤٢

لا يلزم الجواب عن أعيانها ، وهم منكرون لأصل الرسالة ، وليس فيها مجادلة ومحاجة بانفرادها ، بل لكل مقام مقال. فصاحب هذا الاعتراض ، المنكر لرسالة الرسول ، إذا زعم أنه يجادل ليسترشد ، يقال له : الكلام معك في إثبات الرسالة وعدمها ، وإلّا ، فالاقتصار على هذه ، دليل على أن مقصوده ، العنت والتعجيز ، ولهذا أمر الله رسوله ، أن يدعو إلى ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ، ويمضي على ذلك ، سواء اعترض المعترضون أم لا ، وأنه لا ينبغي أن يثنيك ، عن الدعوة شيء لأنك (لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) أي : معتدل موصل للمقصود ، متضمن علم الحقّ والعمل به ، فأنت على ثقة من أمرك ، ويقين من دينك ، فيوجب ذلك لك الصلابة والمضي لما أمرك به ربك ، ولست على أمر مشكوك فيه ، أو حديث مفترى ، فتقف مع الناس ، ومع أهوائهم ، وآرائهم ، ويوقفك اعتراضهم. ونظير هذا قوله تعالى : (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) (٧٩). مع أن في قوله : (إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) إرشادا لأجوبة المعترضين ، على جزئيات الشرع ، بالعقل الصحيح ، فإن الهدى ، وصف لكل ما جاء به الرسول. والهدى : ما تحصل به الهداية ، في مسائل الأصول والفروع ، وهي المسائل التي يعرف حسنها ، وعدلها ، وحكمتها ، بالعقل ، والفطرة السليمة ، وهذا يعرف بتدبر تفاصيل المأمورات والمنهيات.

[٦٨ ـ ٦٩] ولهذه أمره الله بالعدول عن جدالهم في هذه الحالة فقال : (وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) (٦٨) أي : هو عالم بمقاصدكم ، ونياتكم ، فمجازيكم عليها وهو (يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ). فمن وافق الصراط المستقيم ، فهو من أهل النعيم ، ومن زاغ عنه ، فهو من أهل الجحيم ، ومن تمام حكمه ، أن يكون حكما بعلم ، فلذلك ذكر إحاطة علمه ، وإحاطة كتابه فقال :

[٧٠] (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) لا يخفى عليه منها خافية ، من ظواهر الأمور ، وبواطنها ، خفيها ، وجليها ، متقدمها ، ومتأخرها ، ذلك العلم المحيط بما في السماء والأرض قد أثبته الله في كتاب ، وهو اللوح المحفوظ ، حين خلق الله القلم قال له : «اكتب» قال : ما أكتب؟ قال : «اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة». (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) وإن كان تصوره عندكم لا يحاط به ، فالله تعالى يسير عليه أن يحيط علما بجميع الأشياء ، وأن يكتب ذلك في كتاب مطابق للواقع.

[٧١ ـ ٧٢] يذكر تعالى حالة المشركين به ، العادلين به غيره ، وأن حالهم أقبح الحالات ، وأنه لا مستند لهم على ما فعلوه ، فليس لهم به علم ، وإنما هو تقليد ، تلقوه عن آبائهم الضالين ، وقد يكون الإنسان لا علم عنده بما فعله ، وهو ـ في نفس الأمر ـ له حجة ما علمها. فأخبر هنا ، أن الله لم ينزل في ذلك سلطانا ، أي : حجة تدل عليه ، ويجوزه ، بل قد أنزل البراهين القاطعة ، على فساده ، وبطلانه ، ثم توعد الظالمين منهم المعاندين للحق فقال : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) ينصرهم من عذاب الله ، إذا نزل بهم وحل. وهل لهؤلاء الذين لا علم لهم بما هم عليه ، قصد في اتباع الآيات والهدى إذا جاءهم؟ أم هم راضون بما هم عليه من الباطل؟ ذكر ذلك بقوله : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا

٦٤٣

بَيِّناتٍ) التي هي آيات الله الجليلة المستلزمة لبيان الحقّ من الباطل ، لم يلتفتوا إليها ، ولم يرفعوا بها رأسا. بل (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ) من بغضها وكراهتها ، ترى وجوههم معبّسة ، وأبشارهم مكفهرة. (يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا) أي : يكادون يوقعون بهم القتل والضرب البليغ ، من شدة بغضهم ، وبغض الحقّ وعداوته ، فهذه الحالة من الكفار بئست الحالة ، وشرها بئس الشر ، ولكن ثمّ ما هو شر منها ، حالتهم التي يؤولون إليها ، فلهذا قال : (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) فهذه شرها طويل عريض ، ومكروهها وآلامها ، تزداد على الدوام.

[٧٣] هذا مثل ضربه الله ، لقبح عبادة الأوثان ، وبيان نقصان عقول من عبدها ، وضعف الجميع فقال :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ) هذا خطاب للمؤمنين والكفار ، المؤمنون يزدادون علما وبصيرة ، والكافرون ، تقوم عليهم الحجة. (ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) أي : ألقوا إليه أسماعكم وافهموا ما احتوى عليه ، ولا يصادف منكم قلوبا لاهية ، وأسماعا معرضة ، بل ألقوا إليه القلوب والأسماع ، وهو هذا. (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) شمل ما يدعى من دون الله. (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً) الذي هو من أحقر المخلوقات وأخسها ، فليس في قدرتهم ، خلق هذا المخلوق الضعيف ، فما فوقه من باب أولى. (وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) بل أبلغ من ذلك (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) وهذا غاية ما يصير من العجز. (ضَعُفَ الطَّالِبُ) الذي هو المعبود من دون الله (وَالْمَطْلُوبُ) الذي هو الذباب ، فكل منهما ضعيف. وأضعف منهما ، من يتعلقون بهذا الضعيف ، وينزلونه منزلة رب العالمين.

[٧٤] فهؤلاء (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) حيث سووا الفقير العاجز من جميع الوجوه ، بالغني القوي من جميع الوجوه. سووا من لا يملك لنفسه ، ولا لغيره نفعا ولا ضرا ، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، بمن هو النافع الضار ، المعطي المانع ، مالك الملك ، والمتصرف فيه بجميع أنواع التصريف. (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي : كامل القوة ، كامل العزة ، ومن كمال قوته وعزته ، أن نواصي الخلق بيديه ، وأنه لا يتحرك متحرك ، ولا يسكن ساكن ، إلّا بإرادته ومشيئته ، فما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن. ومن كمال قوته ، أن يمسك السموات والأرض أن تزولا ، ومن كمال قوته ، أنه يبعث الخلق كلهم ، أولهم وآخرهم ، بصيحة واحدة. ومن كمال قوته ، أنه أهلك الجبابرة ، والأمم العاتية ، بشيء يسير ، وسوط من عذابه.

[٧٥ ـ ٧٦] لما بين تعالى كماله وضعف الأصنام ، وأنه المعبود حقا ، بين حالة الرسل ، وتميزهم عن الخلق ، بما تميزوا به ، من الفضائل فقال : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) أي : يختار ويجتبي من الملائكة رسلا ، ومن الناس رسلا ، يكونون أزكى ذلك النوع ، وأجمعه لصفات المجد ، وأحقه بالاصطفاء. فالرسل ، لا يكونون إلّا صفوة الخلق على الإطلاق ، والذي اختارهم ، واجتباهم ، ليس جاهلا بحقائق الأشياء ، أو يعلم شيئا دون شيء وأن المصطفي لهم ، السميع ، البصير ، الذي قد أحاط علمه وسمعه وبصره بجميع الأشياء. فاختياره إياهم ، عن علم منه ، أنهم أهل لذلك ، وأن الوحي يصلح فيهم كما قال تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ). (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي : هو يرسل الرسل ، يدعون الناس إلى الله ، فمنهم المجيب ، ومنهم الراد لدعوتهم ، ومنهم العامل ، ومنهم الناكل فهذه وظيفة الرسل ، وأما الجزاء على تلك الأعمال ، فمصيرها إلى الله ، فلا تعدم منه ، فضلا وعدلا.

[٧٧] يأمر تعالى ، عباده المؤمنين بالصلاة ، وخص منها الركوع والسجود ، لفضلهما وركنيتهما ، وعبادته التي هي قرة العيون ، وسلوة القلب المحزون ، وأن ربوبيته وإحسانه على العباد ، يقتضي منهم أن يخلصوا له العبادة ، ويأمرهم بفعل الخير عموما. وعلق تعالى ، الفلاح على هذه الأمور فقال : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). أي : تفوزون بالمطلوب المرغوب ، وتنجون من المكروه المرهوب ، فلا طريق للفلاح ، سوى الإخلاص في عبادة الخالق ، والسعي في نفع عبيده ، فمن وفق لذلك ، فله القدح المعلّى ، من السعادة ، والنجاح والفلاح.

٦٤٤

[٧٨] (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) والجهاد بذل الوسع ، في حصول الغرض المطلوب. فالجهاد في الله حق جهاده ، هو القيام التام بأمر الله ، ودعوة الخلق إلى سبيله بكل طريق موصل إلى ذلك ، من نصيحة وتعليم وقتال وأدب وزجر ، ووعظ ، وغير ذلك. (هُوَ اجْتَباكُمْ) أي : اختاركم ـ يا معشر المسلمين ـ من بين الناس ، واختار لكم الدين ، ورضيه لكم ، واختار لكم أفضل الكتب ، وأفضل الرسل. فقابلوا هذه المنحة العظيمة ، بالقيام بالجهاد فيه حق القيام. ولما كان قوله : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) ربما توهم متوهم أن هذا ، من باب تكليف ما لا يطاق ، أو تكليف ما يشق ، احترز منه بقوله : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) أي : مشقة وعسر ، بل يسره غاية التيسير ، وسهله بغاية السهولة ، فأولا ما أمر وألزم إلا بما هو سهل على النفوس ، لا يثقلها ، ولا يؤودها ، ثم إذا عرض بعض الأسباب الموجبة للتخفيف ، خفف ما أمر به. إما بإسقاطه ، أو إسقاط بعضه. ويؤخذ من هذه الآية ، قاعدة شرعية وهي أن «المشقة تجلب التيسير» و «الضرورات تبيح المحظورات» ، فيدخل في ذلك من الأحكام الفرعية ، شيء كثير معروف في كتب الأحكام. (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) أي : هذه الملة المذكورة ، والأوامر المزبورة ، ملة أبيكم إبراهيم ، التي ما زال عليها ، فالزموها واستمسكوا بها. (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) أي : في الكتب السابقة ، أنتم مذكورون ومشهورون أي : بأن إبراهيم سمّاكم : مسلمين. (وَفِي هذا) أي : هذا الكتاب ، وهذا الشرع. أي : ما زال هذا الاسم لكم قديما وحديثا. (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ) بأعمالكم خيرها وشرها (وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) لكونكم خير أمة أخرجت للناس ، أمة وسطا عدلا خيارا. تشهدون للرسل أنهم بلغوا أممهم ، وتشهدون على الأمم أن رسلهم بلغتهم بما أخبركم الله به في كتابه. (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) بأركانها وشروطها ، وحدودها ، وجميع لوازمها. (وَآتُوا الزَّكاةَ) المفروضة لمستحقيها شكرا لله ، على ما أولاكم. (وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ) أي : امتنعوا به وتوكلوا عليه في ذلك ، ولا تتكلوا على حولكم وقوتكم. (هُوَ مَوْلاكُمْ) الذي يتولى أموركم ، فيدبركم بحسن تدبيره ، ويصرفكم على أحسن تقديره. (فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) أي : نعم المولى لمن تولاه ، فحصل له مطلوبه (وَنِعْمَ النَّصِيرُ) لمن استنصره فدفع عنه المكروه. تم تفسير سورة الحج ، والحمد لله رب العالمين.

تفسير سورة المؤمنون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] هذا تنويه من الله ، يذكر عباده المؤمنين ، وذكر فلاحهم وسعادتهم ، وبأي شيء وصلوا إلى ذلك ، وفي

٦٤٥

ضمن ذلك ، الحث على الاتصاف بصفاتهم ، والترغيب فيها. فليزن العبد نفسه ، وغيره ، على هذه الآيات ، يعرف بذلك ، ما معه ، وما مع غيره ، من الإيمان ، زيادة ونقصا ، كثرة وقلة. فقوله : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) (١) أي : قد فازوا وسعدوا ونجحوا ، وأدركوا كل ما يروم المؤمنون الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين الذين من صفاتهم الكاملة أنهم (فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ). والخشوع في الصلاة هو : حضور القلب بين يدي الله تعالى ، مستحضرا لقربه ، فيسكن لذلك قلبه ، وتطمئن نفسه ، وتسكن حركاته ويقل التفاته ، متأدبا بين يدي ربه ، مستحضرا جميع ما يقوله ويفعله في صلاته ، من أول صلاته إلى آخرها ، فتنتفي بذلك ، الوساوس والأفكار الردية. وهذا روح الصلاة ، والمقصود منها ، وهو الذي يكتب للعبد. فالصلاة التي لا خشوع فيها ولا حضور قلب ، وإن كانت مجزية مثابا عليها ، فإن الثواب على حسب ما يعقل القلب منها.

[٣] (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ) وهو الكلام الذي لا خير فيه ، ولا فائدة. (مُعْرِضُونَ) رغبة عنه ، وتنزيها لأنفسهم ، وترفعا عنه ، وإذا مروا باللغو ، مروا كراما ، وإذا كانوا معرضين عن اللغو ، فإعراضهم عن المحرم ، من باب أولى ، وأحرى. وإذا ملك العبد لسانه وخزنه ـ إلا في الخير ـ كان مالكا لأمره ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لمعاذ بن جبل حين وصاه بوصايا قال : «ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت : بلى يا رسول الله ، فأخذ بلسان نفسه وقال : كفّ عليك هذا». فالمؤمنون من صفاتهم الحميدة ، كفّ ألسنتهم ، عن اللغو والمحرمات.

[٤] (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) (٤) أي : مؤدون لزكاة أموالهم ، على اختلاف أجناس الأموال ، مزكين لأنفسهم من أدناس الأخلاق ومساوئ الأعمال التي تزكو النفوس بتركها وتجنّبها ، فأحسنوا في عبادة الخالق ، في الخشوع في الصلاة ، وأحسنوا إلى خلقه بأداء الزكاة.

[٥ ـ ٦] (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) (٥) عن الزنا ، ومن تمام حفظها تجنّب ما يدعو إلى ذلك كالنظر واللمس ونحوهما. فحفظوا فروجهم عن كل أحد (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) من الإماء المملوكات (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) بقربهما ، لأن الله تعالى أحلهما.

[٧] (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ) غير الزوجة والسرية (فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) الذين تعدوا ما أحل الله إلى ما حرمه ، المتجرءون على محارم الله. وعموم هذه الآية ، يدل على تحريم المتعة ، فإنها ليست زوجة حقيقة مقصودا بقاؤها ، ولا مملوكة ، وتحريم نكاح المحلل لذلك. ويدل قوله : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) أنه يشترط في حل المملوكة ، أن تكون كلها في ملكه ، فلو كان له بعضها لم تحل ، لأنها ليست مما ملكت يمينه ، بل هي ملك له ولغيره ، فكما أنه لا يجوز أن يشترك في المرأة الحرة زوجان ، فلا يجوز أن يشترك في الأمة المملوكة سيدان.

[٨] (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) (٨) ، أي : مراعون لها ، ضابطون ، حافظون ، حريصون على القيام بها وتنفيذها. وهذا عام في جميع الأمانات ، التي هي حق لله ، والتي هي حق للعباد. قال تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ

٦٤٦

عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها) ، فجميع ما أوجبه الله على عبده ، أمانة ، على العبد حفظها بالقيام التام بها ، وكذلك يدخل في ذلك ، أمانات الآدميين ، كأمانات الأموال ، والأسرار ، ونحوهما. فعلى العبد ، مراعاة الأمرين ، وأداء الأمانتين (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) ، وكذلك العهد ، يشمل العهد الذي بينهم وبين العباد ، وهي الالتزامات والعقود ، التي يعقدها العبد ، فعليه مراعاتها والوفاء بها ، ويحرم عليه ، التفريط فيها ، وإهمالها.

[٩] (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) (٩) أي : يداومون عليها في أوقاتها وحدودها وأشراطها وأركانها ، فمدحهم بالخشوع في الصلاة ، وبالمحافظة عليها ، لأنه لا يتم أمرهم إلا بالأمرين : فمن يداوم على الصلاة من غير خشوع ، أو على الخشوع من دون محافظة عليها ، فإنه مذموم ناقص.

[١٠ ـ ١١] (أُولئِكَ) الموصوفون بتلك الصفات (هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) الذي هو أعلى الجنة ووسطها وأفضلها ، لأنهم حلوا من صفات الخير أعلاها وذروتها ، أو المراد بذلك ، جميع الجنة ، ليدخل بذلك ، عموم المؤمنين ، على درجاتهم في مراتبهم ، كل بحسب حاله. (هُمْ فِيها خالِدُونَ) لا يظعنون عنها ، ولا يبغون عنها حولا ، لاشتمالها على أكمل النعيم وأفضله ، وأتمه ، من غير مكدر ولا منغص.

[١٢] ذكر الله في هذه الآيات أطوار الآدمي وتنقلاته ، من ابتداء خلقه إلى آخر ما يصير إليه ، فذكر ابتداء خلق أبي النوع البشري آدم عليه‌السلام ، وأنه (مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) أي : قد سلت ، وأخذت من جميع الأرض ، ولذلك جاء بنوه على قدر الأرض : منهم الطيب والخبيث ، وبين ذلك ، والسهل ، والحزن ، وبين ذلك.

[١٣] (ثُمَّ جَعَلْناهُ) أي : جنس الآدميين (نُطْفَةً) تخرج من بين الصلب والترائب ، فتستقر (فِي قَرارٍ مَكِينٍ) وهو : الرحم محفوظة من الفساد والريح وغير ذلك.

[١٤] (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ) التي قد استقرت قبل (عَلَقَةً) أي : دما أحمر ، بعد مضي أربعين يوما من النطفة. (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ) بعد أربعين يوما (مُضْغَةً) أي : قطعة لحم صغيرة ، بقدر ما يمضغ من صغرها. (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ) اللينة (عِظاماً) صلبة ، قد تخللت اللحم ، بحسب حاجة البدن إليها. (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) أي : جعلنا اللحم ، كسوة للعظام ، كما جعلنا العظام ، عمادا للحم ، وذلك في الأربعين الثالثة. (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) نفخ فيه الروح ، فانتقل من كونه جمادا ، إلى أن صار حيوانا. (فَتَبارَكَ اللهُ) أي : تعالى ، وتعاظم ، وكثر خيره (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (٩) فخلقه كله حسن ، والإنسان من أحسن مخلوقاته ، بل هو أحسنها على الإطلاق كما قال تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (٤) ولهذا كان خواصه ، أفضل المخلوقات وأكملها.

[١٥] (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ) الخلق ، ونفخ الروح (لَمَيِّتُونَ) في أحد أطواركم وتنقلاتكم.

[١٦] (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) (١٦) فتجازون بأعمالكم ، حسنها وسيئها. قال تعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) (٤٠).

[١٧] لما ذكر تعالى خلق الآدمي ، ذكر مسكنه ، وتوفّر النعم عليه ، من كل وجه فقال : (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ) سقفا للبلاد ، ومصلحة للعباد (سَبْعَ طَرائِقَ) أي : سبع سموات طباقا ، كل طبقة فوق الأخرى ، قد زينت بالنجوم ، والشمس ، والقمر ، وأودع فيها من مصالح الخلق ، ما أودع. (وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) فكما أن خلقنا عام لكل مخلوق ، فعلمنا أيضا ، محيط بما خلقنا ، فلا تغفل مخلوقا ، ولا ننساه ، ولا نخلق خلقا فنضيعه ، ولا نغفل عن السماء

٦٤٧

فتقع على الأرض ، ولا ننسى ذرة في لجج البحار ، وجوانب الفلوات ، ولا دابة إلا سقنا إليها رزقا (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها). وكثير ما يقرن تعالى بين خلقه وعلمه كقوله : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١٤) ، (بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) لأن خلق المخلوقات ، من أقوى الأدلة العقلية ، على علم خالقها وحكمته.

[١٨ ـ ١٩] (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً) يكون رزقا لكم ولأنعامكم ، بقدر ما يكفيكم ، فلا ينقصه ، بحيث يتلف المساكن ، ولا تعيش منه النباتات والأشجار ، بل أنزله وقت الحاجة لنزوله ، ثم صرفه ، عند التضرر من دوامه. (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) أي : أنزلناه عليها ، فسكن واستقر ، وأخرج بقدرة منزله ، جميع الأزواج النباتية ، وأسكنه أيضا معدا ، في خزائن الأرض ، بحيث لم يذهب نازلا ، حتى لا يوصل إليه ، ولا يبلغ قعره. (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) ، إما بأن لا ننزله ، أو ننزله ، فيذهب نازلا ، لا يوصل إليه ، أو لا يوجد منه المقصود منه ، وهذا تنبيه منه لعباده ، أن يشكروه على نعمته ، ويقدروا عدمها ، ما ذا يحصل به من الضرر ، كقوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) (٣٠). (فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ) أي : بذلك الماء (جَنَّاتٍ) أي : بساتين (مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ). خص تعالى ، هذين النوعين ، مع أنه ينشر منه غيرهما من الأشجار ، لفضلهما ، ومنافعهما ، التي فاقت بها الأشجار ، ولهذا ذكر العام في قوله : (لَكُمْ) أي : في تلك الجنات (فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) من تين ، وأترج ، ورمان ، وتفاح وغيرها.

[٢٠] (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ) وهي شجرة الزيتون ، أي : جنسها. خصت بالذكر ، لأن مكانها خاص ، في أرض الشام ، ولمنافعها ، التي ذكر بعضها في قوله : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) أي : فيها الزيت ، الذي هو دهن ، يكثر استعماله من الاستصباح به ، واصطباغ للآكلين ، أي : يجعل إداما للآكلين ، وغير ذلك من المنافع.

[٢١] أي : ومن نعمه عليكم ، أن سخر لكم الأنعام من الإبل ، والبقر ، والغنم ، فيها عبرة للمعتبرين ، ومنافع ، للمنتفعين. (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها) من لبن ، يخرج من بين فرث ودم ، لبن ، خالص ، سائغ للشاربين. (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ) من أصوافها ، وأوبارها ، وأشعارها ، وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا ، تستخفونها يوم ظعنكم ، ويوم إقامتكم (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) أفضل المآكل من لحم وشحم.

[٢٢] (وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) (٢٢) أي : جعلها لكم في البر ، تحملون عليها أثقالكم إلى بلد ، لم تكونوا بالغيه ، إلا بشق الأنفس ، كما جعل لكم السفن في البحر ، تحملكم ، وتحمل متاعكم ، قليلا كان ، أو كثيرا. فالذي أنعم بهذه النعم ، وصنف أنواع الإحسان ، وأدر علينا من خيره المدرار ، هو الذي يستحق كمال الشكر ، وكمال الثناء ، والاجتهاد في عبوديته وأن لا يستعان بنعمه على معاصيه.

[٢٣] يذكر تعالى رسالة عبده ورسوله ، نوح عليه‌السلام ، أو رسول أرسله لأهل الأرض فأرسله إلى قومه ، وهم يعبدون الأصنام ، فأمرهم بعبادة الله وحده (فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) أي : أخلصوا له العبادة ، لأن العبادة ، لا تصح إلا بإخلاصها. (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) فيه إبطال ألوهية غير الله ، وإثبات الإلهية لله تعالى ، لأنه الخالق الرازق ،

٦٤٨

الذي له الكمال كله ، وغيره بخلاف ذلك. (أَفَلا تَتَّقُونَ) ما أنتم عليه من عبادة الأوثان ، والأصنام ، التي صورت على صور قوم صالحين ، فعبدوها مع الله ، فاستمر على ذلك ، يدعوهم سرا وجهارا ، وليلا ونهارا ، ألف سنة إلا خمسين عاما ، وهم لا يزدادون إلا عتوا ونفورا.

[٢٤] (فَقالَ الْمَلَأُ) من قومه الأشراف والسادة المتبوعون ـ على وجه المعارضة لنبيهم نوح ، والتحذير من اتباعه ـ : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) أي : ما هذا إلا بشر مثلكم ، قصده حين ادعى النبوة أن يزيد عليكم فضيلة ، ليكون متبوعا ، وإلا فما الذي يفضله عليكم ، وهو من جنسكم؟ وهذه المعارضة ، لا زالت موجودة ، في مكذبي الرسل. وقد أجاب الله عنها بجواب شاف ، على ألسنة رسله كما في (قالُوا) أي : لرسلهم (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) ، فأخبروا أن هذا فضل الله ومنته ، فليس لكم أن تحجروا على الله ، وتمنعوه من إيصال فضله علينا. وقالوا أيضا : ولو شاء الله لأنزل ملائكة ، وهذه أيضا معارضة بالمشيئة باطلة ، فإنه وإن كان لو شاء لأنزل ملائكة ، فإنه حكيم رحيم ، حكمته ورحمته ، تقتضي أن يكون الرسول من جنس الآدميين لأن الملائكة ، لا قدرة للناس على مخاطبته ، ولا يمكن أن يكون إلا بصورة رجل ثم يعود اللبس عليهم كما كان. وقولهم : (ما سَمِعْنا بِهذا) أي : بإرسال الرسول (فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) ، وأي حجة في عدم سماعهم إرسال رسول في آبائهم الأولين؟ لأنهم لم يحيطوا علما ، بما تقدم ، فلا يجعلوا جهلهم حجة لهم. وعلى تقدير أنه لم يرسل منهم رسولا ، فإما أن يكونوا على الهدى ، فلا حاجة لإرسال الرسول إذ ذاك ، وإما أن يكونوا على غيره ، فليحمدوا ربهم ، ويشكروه أن خصهم بنعمة ، لم تأت آباءهم ، ولا شعروا بها ، ولا يجعلوا عدم الإحسان على غيرهم ، سببا لكفرهم للإحسان إليهم.

[٢٥] (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) أي : مجنون (فَتَرَبَّصُوا) أي : انتظروا به (حَتَّى حِينٍ) إلى أن يأتيه الموت. وهذه الشّبه التي أوردوها ، معارضة لنبوة نبيهم ، دالة على شدة كفرهم وعنادهم ، وعلى أنهم في غاية الجهل والضلال ، فإنها لا تصلح للمعارضة ، بوجه من الوجوه ، كما ذكرنا ، بل هي في نفسها متناقضة متعارضة. فقولهم : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) أثبتوا أن له عقلا يكيدهم ، به ، ليعلوهم ، ويسودهم ، ويحتاج ـ مع هذا ـ أن يحذر منه لئلا يغتر به. فكيف يلتئم مع قولهم : (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) وهل هذا إلا من مشبه ضال ، منقلب عليه الأمر ، قصده : الدفع بأي طريق اتفق له ، غير عالم بما يقول؟ ويأبى الله إلا أن يظهر خزي من عاداه وعادى رسله.

[٢٦] فلما رأى نوح أنه لا يفيدهم دعاؤه إلا فرارا (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) (٢٦) فاستنصر ربه عليهم ، غضبا ، حيث ضيعوا أمره ، وكذبوا رسله وقال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) (٢٧). قال تعالى : (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) (٧٥).

٦٤٩

[٢٧] (فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) عند استجابتنا له ، سببا ، ووسيلة للنجاة ، قبل وقوع أسبابه. (أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ) أي : السفينة (بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) أي : بأمرنا لك ، ومعونتنا ، وأنت في حفظنا وكلاءتنا بحيث نراك ونسمعك. (فَإِذا جاءَ أَمْرُنا) بإرسال الطوفان الذي عذبوا به (وَفارَ التَّنُّورُ) ، أي : فارت الأرض ، وتفجرت عيونا ، حتى محل النار ، الذي لم تجر العادة إلا ببعده من الماء. (فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي : أدخل في الفلك من كل جنس من الحيوانات ، ذكرا وأنثى ، تبقى مادة النسل لسائر الحيوانات ، التي اقتضت الحكمة الربانية إيجادها في الأرض. (وَأَهْلَكَ) أي : أدخلهم (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) كابنه. (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي : لا تدعني أن أنجيهم ، فإن القضاء والقدر ، قد حتم أنهم مغرقون.

[٢٨] (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ) أي : علوتم عليها ، واستقلت بكم في تيار الأمواج ، ولجج اليم ، فاحمدوا الله على النجاة والسلامة. فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين ، وهذا تعليم منه له ، ولمن معه ، أن يقولوا هذا شكرا له ، وحمدا على نجاتهم ، من القوم الظالمين في عملهم وعذابهم.

[٢٩] (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) (٢٩) أي : وبقيت عليكم نعمة أخرى ، فادعوا الله فيها ، وهي أن ييسر الله لكم منزلا مباركا ، فاستجاب الله دعاءه ، قال الله : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) إلى أن قال : (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) الآية.

[٣٠] (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : في هذه القصة (لَآياتٍ) تدل على أن الله وحده المعبود ، وعلى أن رسوله نوحا ، صادق ، وأن قومه كاذبون ، وعلى رحمة الله بعباده ، حيث حملهم في صلب أبيهم نوح ، في الفلك لما غرق أهل الأرض. والفلك أيضا من آيات الله قال تعالى : (وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (١٥) ولهذا جمعها هنا لأنها تدل على عدة آيات ومطالب. (وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ).

[٣١] لما ذكر نوحا وقومه ، وكيف أهلكهم قال : (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) (٣١) ، الظاهر أنهم «ثمود» قوم صالح ، عليه‌السلام لأن هذه القصة ، تشبه قصتهم.

[٣٢] (فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) من جنسهم ، يعرفون نسبه وحسبه ، وصدقه ، ليكون ذلك أسرع لانقيادهم ، إذا كان منهم ، وأبعد عن اشمئزازهم ، فدعا إلى ما دعت إليه الرسل أممهم (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) ، فكلهم اتفقوا على هذه الدعوة ، وهي أول دعوة يدعون بها أممهم ، الأمر بعبادة الله ، والإخبار أنه المستحق لذلك ، والنهي عن عبادة ما سواه ، والإخبار ببطلان ذلك وفساده. ولهذا قال : (أَفَلا تَتَّقُونَ) ربكم ، فتجتنبوا هذه الأوثان والأصنام.

[٣٣] (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي : قال الرؤساء الذين جمعوا بين الكفر والمعاندة ، وإنكار البعث والجزاء ، وأطغاهم ترفهم في الحياة الدنيا ، معارضة لنبيهم ، وتكذيبا ، وتحذيرا منه : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) أي : من جنسكم (يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) ، فما الذي يفضله عليكم؟ فهلا كان ملكا ، لا يأكل الطعام ، ولا يشرب الشراب.

[٣٤] (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) (٣٤) أي : إن تبعتموه وجعلتموه لكم رئيسا ، وهو مثلكم إنكم لمسلوبو العقل ، نادمون على ما فعلتم. وهذا من العجب ، فإن الخسارة والندامة حقيقة ، لمن لم يتابعه ، ولم ينقد له. والجهل والسفه العظيم ، لمن تكبر عن الانقياد لبشر ، خصه الله بوحيه ، وفضله برسالته ، وابتلي بعبادة الشجر والحجر. وهذا نظير قولهم : (فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) (٢٥) ، فلما أنكروا رسالته وردوها ، أنكروا ما جاء به من البعث بعد الموت ، والمجازاة على الأعمال فقالوا :

[٣٥ ـ ٣٦] (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥) * هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ) (٣٦) أي : بعيد بعيد

٦٥٠

ما يعدكم به ، من البعث ، بعد أن تمزقتم ، وكنتم ترابا وعظاما ، فنظروا نظرا قاصرا ، ورأوا هذا ، بالنسبة إلى قدرهم غير ممكن ، فقاسوا قدرة الخالق بقدرتهم. تعالى الله عن ذلك. فأنكروا قدرته على إحياء الموتى وعجزوه غاية التعجيز ، ونسوا خلقهم أول مرة ، وأن الذي أنشأهم من العدم ، فإعادته لهم بعد البلى ، أهون عليه وكلاهما هين لديه ، فلم لا ينكرون أول خلقهم ، ويكابرون المحسوسات ، ويقولون : إننا ، لم نزل موجودين ، حتى يسلم لهم إنكارهم البعث ، وينتقلوا معهم إلى الاحتجاج على إثبات وجود الخالق العظيم؟ وهنا دليل آخر ، وهو : أن الذي أحيا الأرض بعد موتها ، إن ذلك لمحيي الموتى ، إنه على كل شيء قدير ، وثمّ دليل آخر ، وهو ما أجاب به المنكرين للبعث في قوله : (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) (٣) فقال في جوابهم : (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) أي : في البلى ، (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ).

[٣٧ ـ ٤١] (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا) أي : يموت أناس ، ويحيا أناس (وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ). (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) (١) فلهذا أتى بما أتى به ، من توحيد الله ، وإثبات المعاد (فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ) أي : ارفعوا عنه العقوبة بالقتل وغيره ، احتراما له ، ولأنه مجنون غير مؤاخذ بما يتكلم به. أي : فلم يبق بزعمهم الباطل ، مجادلة معه ، لصحة ما جاء به ، فإنهم قد زعموا بطلانه ، وإنما بقي الكلام ، هل يوقعون به أم لا؟ فبزعمهم أن عقولهم الرزينة ، اقتضت الإبقاء عليه ، وترك الإيقاع به ، مع قيام الموجب ، فهل فوق هذا العناد والكفر غاية؟ ولهذا لما اشتد كفرهم ، ولم ينفع فيهم الإنذار ، دعا عليهم نبيهم ف : (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) أي : بإهلاكهم ، وخزيهم الدنيوي ، قبل الآخرة. ف (قالَ) الله مجيبا لدعوته : (عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِ) لا بالظلم والجور ، بل بالعدل وظلمهم ، أخذتهم الصيحة ، فأهلكتهم عن آخرهم. (فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً) أي : هشيما يبسا بمنزلة غثاء السيل الملقى في جنبات الوادي ، وقال في الآية الأخرى : (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) (٣١). (فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي : أتبعوا مع عذابهم ، البعد واللعنة والذم من العالمين. (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) (٢٩) ، هذا التعبير مجاز عن عدم الاكتراث بهلاكهم والاعتداد بوجودهم ، وفيه تهكم بهم ، وبحالهم المنافية لحال من يعظم فقده ، فيقال عنه : «بكت عليه السماء والأرض». ومنه ما روي : «أن المؤمن إذا مات ، ليبكي عليه مصلاه ، ومحل عبادته ، ومصاعد عمله ، ومهابط رزقه ، وآثاره في الأرض» ، وعن الحسن «يبكي عليه أهل السماء والأرض». (وَما كانُوا) لما جاءهم وقت هلاكهم (مُنْظَرِينَ) أي : ممهلين إلى وقت آخر ، بل عجل لهم العذاب في الدنيا ، والمعنى الإجمالي : فما حزنت عليهم السماء والأرض عند ما أخذهم العذاب ، لهوان شأنهم ، لأنهم ماتوا كفارا ، ولم ينظروا لتوبة ، ولم يمهلوا

__________________

(١) هكذا في الأصل ، وجرى عليه تفسير الآية [٢٥] من سورة المؤمنون ، وهو خطأ ، وفي المصحف الشريف الآية [٣٨] (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) ، فتأمل.

٦٥١

لتدارك تقصيرهم احتقارا لهم.

[٤٢ ـ ٤٤] أي : ثم أنشأنا من بعد هؤلاء المكذبين المعاندين ، قرونا آخرين ، كل أمة في وقت مسمى ، وأجل محدود ، لا تتقدم عنه ولا تتأخر. وأرسلنا إليهم رسلا متتابعة ، لعلهم يؤمنون ويبينون. فلم يزل الكفر والتكذيب ، دأب الأمم العصاة ، والكفرة البغاة كلما جاء أمة رسولها ، كذبوه ، مع أن كل رسول يأتي من الآيات ، ما يؤمن على مثله البشر ، بل مجرد دعوة الرسل وشرعهم ، يدل على حقية ما جاؤوا به. (فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً) بالهلاك ، فلم يبق منهم باقية ، وتعطلت مساكنهم من بعدهم (وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) يتحدث بهم من بعدهم ، ويكونون عبرة للمتقين ، ونكالا للمكذبين ، وخزيا عليهم مقرونا بعذابهم. (فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) ما أشقاهم وتعسا لهم ، ما أخسر صفقتهم!! مر علي منذ زمان طويل ، كلام لبعض العلماء لا يحضرني الآن اسمه ، وهو أنه بعد موسى ونزول التوراة ، رفع الله العذاب عن الأمم ، أي : عذاب الاستئصال ، وشرع للمكذبين المعاندين بالجهاد ، ولم أدر من أين أخذه ، فلما تدبرت هذه الآيات ، مع الآيات التي في سورة القصص ، تبين لي وجهه. أما هذه الآيات ، فلأن الله ، ذكر الأمم المهلكة المتتابعة على الهلاك ، ثم أخبر أنه أرسل موسى بعدهم ، وأنزل عليه التوراة ، فيها الهداية للناس ، ولا يرد على هذا ، إهلاك فرعون ، فإنه قبل نزول التوراة ، وأما الآيات التي في سورة القصص ، فهي صريحة جدا ، فإنه لما ذكر هلاك فرعون قال : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٤٣) فهذا صريح أنه آتاه الكتاب بعد هلاك الأمم الباغية. وأخبر أنه أنزل بصائر للناس ، وهدى ورحمة. ولعل من هذا ، ما ذكر الله في سورة «يونس» من قوله : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ) أي : من بعد نوح (رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ) الآيات والله أعلم.

[٤٥ ـ ٤٦] فقوله : (ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى) بن عمران ، كليم الرحمن (وَأَخاهُ هارُونَ) حين سأل ربه أن يشركه في أمره فأجاب سؤله. (بِآياتِنا) الدالة على صدقهما وصحه ما جاءا به (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي : حجة بينة ، من قوتها ، أن تقهر القلوب ، وتتسلط عليها لقوتها فتنقاد لها قلوب المؤمنين ، وتقوم الحجة البينة على المعاندين. وهذا كقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) ولهذا رئيس المعاندين عرف الحق وعاند (فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ) بتلك الآيات البينات (فَقالَ) له (فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً). وقال تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا). وقال هنا : (ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) ك «هامان» وغيره من رؤسائهم. (فَاسْتَكْبَرُوا) أي : تكبروا عن الإيمان بالله ، واستكبروا على أنبيائه. (وَكانُوا قَوْماً عالِينَ) أي : وصفهم العلو ، والقهر ، والفساد في الأرض ، فلهذا صدر منهم الاستكبار ، ذلك غير مستكثر منهم.

[٤٧] (فَقالُوا) كبرا وتيها ، وتحذيرا لضعفاء العقول ، وتمويها : (أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا) كما قاله من قبلهم سواء

٦٥٢

بسواء ، وتشابهت قلوبهم في الكفر ، فتشابهت أقوالهم وأفعالهم ، وجحدوا منة الله عليهما بالرسالة. (وَقَوْمُهُما) أي : بنو إسرائيل (لَنا عابِدُونَ) أي : معبدون بالأعمال والأشغال الشاقة كما قال تعالى : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) (٤٩) ، فكيف نكون تابعين بعد أن كنا متبوعين؟ وكيف يكون هؤلاء رؤساء علينا؟ ونظير قولهم ، قول قوم نوح : (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ). من المعلوم أن هذا ، لا يصلح لدفع الحق ، وأنه تكذيب ومعاندة.

[٤٨] ولهذا قال : (فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ) (٤٨) في الغرق في البحر ، وبنو إسرائيل ينظرون.

[٤٩] (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى) بعد ما أهلك الله فرعون وخلص الشعب الإسرائيلي مع موسى ، وتمكن حينئذ ، من إقامة أمر الله فيهم ، وإظهار شعائره ، وعده الله أن ينزل عليه التوراة ، أربعين ليلة ، ذهب لميقات ربه ، قال الله تعالى : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) ولهذا قال هنا : (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) أي : بمعرفة تفاصيل الأمر والنهي ، والثواب والعقاب ، ويعرفون ربهم ، بأسمائه وصفاته.

[٥٠] (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) أي : وامتننّا على عيسى ابن مريم ، وجعلناه وأمه ، من آيات الله العجيبة ، حيث حملته ، وولدته ، من غير أب ، وتكلم في المهد صبيا ، وأجرى الله على يديه من الآيات ، ما أجرى. (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ) أي : مكان مرتفع ، وهذا ـ والله أعلم ـ وقت وضعها. (ذاتِ قَرارٍ) أي : مستقر وراحة (وَمَعِينٍ) أي : ماء جار ، بدليل قوله : (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ) أي : تحت المكان الذي أنت فيه ، لارتفاعه ، (سَرِيًّا) أي : نهرا وهو الماء المعين (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً).

[٥١] هذا أمر منه تعالى لرسله بأكل الطيبات ، التي هي الرزق ، والطيب الحلال ، والشكر لله ، بالعمل الصالح ، الذي به يصلح القلب والبدن ، والدنيا والآخرة. ويخبرهم أنه بما يعملون عليم ، فكل عمل عملوه ، وكل سعي اكتسبوه ، فإن الله يعلمه ، وسيجازيهم عليه ، أتم الجزاء وأفضله. فدل هذا على أن الرسل كلهم ، متفقون على إباحة الطيبات ، من المآكل وتحريم الخبائث منها ، وأنهم متفقون على كل عمل صالح ، وإن تنوعت بعض أجناس المأمورات ، واختلفت بها الشرائع ، فإنها كلها عمل صالح ولكن تتفاوت بتفاوت الأزمنة. ولهذا ، الأعمال الصالحة ، التي هي صلاح في جميع الأزمنة ، قد اتفقت عليها الأنبياء والشرائع ، كالأمر بتوحيد الله ، وإخلاص الدين له ، ومحبته ، وخوفه ، ورجائه ، والبر ، والصدق ، والوفاء بالعهد ، وصلة الأرحام ، وبر الوالدين والإحسان إلى الضعفاء والمساكين ، واليتامى ، والحنوّ والإحسان إلى الخلق ، ونحو ذلك من الأعمال الصالحة ، ولهذا كان أهل العلم ، والكتب السابقة ، والعقل ، حين بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يستدلون على نبوته بأجناس ما يأمر به ، وينهى عنه. كما جرى لهرقل وغيره ، فإنه إذا أمر بما أمر به الأنبياء ، الذين من قبله ، ونهى عما نهوا عنه ، دل على أنه من جنسهم ، بخلاف الكذاب ، فلا بد أن يأمر بالشر ، وينهى عن الخير.

[٥٢] ولهذا قال تعالى للرسل : (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ) أي : جماعتكم ـ يا معشر الرسل ـ (أُمَّةً واحِدَةً) متفقة على دين واحد ، وربكم واحد. (فَاتَّقُونِ) بامتثال أوامري ، واجتناب زواجري ، وقد أمر الله المؤمنين ، بما أمر به المرسلين ، لأنهم بهم يقتدون ، وخلفهم يسلكون ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) فالواجب على كل المنتسبين إلى الأنبياء وغيرهم ، أن يمتثلوا هذا ، ويعملوا به ، ولكن أبى الظالمون الجاحدون ، إلا عصيانا ، ولهذا قال :

[٥٣] (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً) أي : تقطع المنتسبون إلى اتباع الأنبياء (أَمْرَهُمْ) أي : دينهم (بَيْنَهُمْ زُبُراً) أي : قطعا (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ) أي : بما عندهم من العلم والدين. (فَرِحُونَ) يزعمون أنهم المحقون ، وغيرهم على غير الحق ، مع أن المحق منهم ، من كان على طريق الرسل ، من أكل الطيبات ، والعمل الصالح ، وما عداهم ، فإنهم

٦٥٣

مبطلون.

[٥٤] (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ) أي : في وسط جهلهم بالحق ، ودعواهم : أنهم ، هم المحقون. (حَتَّى حِينٍ) أي : إلى أن ينزل العذاب بهم ، فإنهم لا ينفع فيهم وعظ ، ولا يفيدهم زجر ، فكيف يفيد بمن يزعم أنه على الحق ، ويطمع في دعوة غيره إلى ما هو عليه؟

[٥٥ ـ ٥٦] (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ) ، أي : أيظنون أن زيادتنا إياهم بالأموال والأولاد ، دليل على أنهم من أهل الخير والسعادة ، وأن لهم خير الدنيا والآخرة؟ وهذا مقدم لهم ، ليس الأمر كذلك. (بَلْ لا يَشْعُرُونَ) أنما نملي لهم ، ونمهلهم ، ونمدهم بالنعم ، ليزدادوا إثما ، وليتوفر عقابهم في الآخرة ، وليغتبطوا بما أوتو (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً).

[٥٧] لما ذكر تعالى ، الذين جمعوا بين الإساءة والأمن ، الذين يزعمون أن عطاء الله إياهم في الدنيا ، دليل على خيرهم وفضلهم ، ذكر الذين جمعوا بين الإحسان والخوف فقال : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) (٥٧) أي : وجلون ، مشفقة قلوبهم كل ذلك ، من خشية ربهم ، خوفا أن يضع عليهم عدله ، فلا يبقي له حسنة ، وسوء ظن بأنفسهم أن لا يكونوا قد قاموا بحق الله تعالى ، وخوفا على إيمانهم من الزوال ، ومعرفة منهم بربهم ، وما يستحقه من الإجلال والإكرام ، وخوفهم وإشفاقهم يوجب لهم الكف عما يوجب الأمر المخوف من الذنوب ، والتقصير في الواجبات.

[٥٨] (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) (٥٨) أي : إذا تليت عليهم آياته ، زادتهم إيمانا ، ويتفكرون أيضا في الآيات القرآنية ، ويتدبرونها ، فيبين لهم من معاني القرآن وجلالته واتفاقه ، وعدم اختلافه ، وتناقضه ، وما يدعو إليه من معرفة الله ، وخوفه ، ورجائه وأحوال الجزاء ، فيحدث لهم بذلك ، من تفاصيل الإيمان ، ما لا يعبر عنه اللسان. ويتفكرون أيضا في الآيات الأفقية ، كما في قوله : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) (١٩٠) إلى آخر الآيات.

[٥٩] (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ) (٥٩) أي : لا شركا جليا ، كاتخاذ غير الله معبودا ، يدعونه ، ويرجونه ، ولا شركا خفيا كالرياء ونحوه ، بل هم مخلصون لله ، في أقوالهم ، وأعمالهم ، وسائر أحوالهم.

[٦٠] (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا) أي : يعطون من أنفسهم ، مما أمروا به ، ما آتوا من كل ما يقدرون عليه ، من صلاة ، وزكاة ، وحج ، وصدقة ، وغير ذلك. (وَ) مع هذا (قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) أي : خائفة (أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ). أي : خائفة عند عرض أعمالها عليه ، والوقوف بين يديه ، أن تكون أعمالهم غير منجية من عذاب الله ، لعلمهم بربهم ، وما يستحقه من أصناف العبادات.

[٦١] (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) أي : في ميدان التسارع في أفعال الخير ، همهم ما يقربهم إلى الله ، وإرادتهم مصروفة فيما ينجي من عذابه ، فكل خير سمعوا به ، أو سنحت لهم الفرصة ، انتهزوه وبادروه. قد نظروا إلى أولياء الله وأصفيائه ، أمامهم ، ويمنة ، ويسرة ، يسارعون في كل خير ، وينافسون في الزلفى عند ربهم ، فنافسوهم. ولما

٦٥٤

كان المسابق لغيره المسارع ، قد يسبق لجده وتشميره ، وقد لا يسبق لتقصيره ، أخبر تعالى أن هؤلاء من القسم السابقين فقال : (وَهُمْ لَها) أي : للخيرات (سابِقُونَ) قد بلغوا ذروتها ، وتباروا ، هم والرعيل الأول ، ومع هذا ، قد سبقت لهم من الله ، سابقة السعادة ، أنهم سابقون.

[٦٢] ولما ذكر مسارعتهم إلى الخيرات ، وسبقهم إليها ، ربما وهم واهم ، أن المطلوب منهم ومن غيرهم ، أمر غير مقدور ، أو متعسر ، قال تعالى : (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي : بقدر ما تسعه ، ويفضل من قوتها عنه ، ليس مما يستوعب قوتها ، رحمة منه وحكمة ، لتيسير طريق الوصول إليه ، ولتعمر جادة السالكين في كل وقت إليه. (وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِ) وهو الكتاب الأول ، الذي فيه كل شيء ، وهو يطابق كل واقع يكون ، فلذلك كان حقا. (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي : لا ينقص من إحسانهم ، ولا يزداد في عقوبتهم وعصيانهم.

[٦٣] يخبر تعالى أن هؤلاء المكذبين ، في غمرة من هذا ، أي : وسط غمرة من الجهل والظلم ، والغفلة والإعراض ، تمنعهم من الوصول إلى هذا القرآن ، فلا يهتدون به ، ولا يصل إلى قلوبهم منه شيء. (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) ، فلما كانت قلوبهم في غمرة منه ، عملوا بحسب هذا الحال ، من الأعمال الكفرية ، والمعاندة للشرع ، ما هو موجب لعقابهم. (وَ) لكن (لَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ) هذه الأعمال (هُمْ لَها عامِلُونَ) ، أي : فلا يستغربوا عدم وقوع العذاب فيهم ، فإن الله يمهلهم ، ليعملوا هذه الأعمال ، التي بقيت عليهم ، مما كتب عليهم ، فإذا عملوها ، واستوفوها انتقلوا بشر حالة ، إلى غضب الله وعقابه.

[٦٤] (حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ) أي : متنعميهم ، الذين ما اعتادوا إلا الترف ، والرفاهية ، والنعيم ، ولم تحصل لهم المكاره ، فإذا أخذناهم (بِالْعَذابِ) ووجدوا مسّه (إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) يصرخون ، ويتوجعون ، لأنه أصابهم أمر ، خالف ما هم عليه.

[٦٥] ويستغيثون ، فيقال لهم : (لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) (٦٥) ، وإذا لم تأتهم النصرة من الله ، وانقطع عنهم الغوث ، من جانبه ، لم يستطيعوا نصر أنفسهم ، ولم ينصرهم أحد.

[٦٦] فكأنه قيل : ما السبب الذي أوصلهم إلى هذه الحال؟ قال : (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) لتؤمنوا بها وتقبلوا عليها ، فلم تفعلوا ذلك ، بل كنتم (عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) أي : راجعين القهقرى إلى الخلف ، وذلك لأن باتباعهم القرآن ، يتقدمون ، وبالإعراض عنه ، يستأخرون وينزلون إلى أسفل سافلين.

[٦٧ ـ ٦٨] (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ) (٦٧) قال المفسرون معناه : مستكبرين به ، الضمير يعود إلى البيت ، المعهود عند المخاطبين ، أو الحرم ، أي : متكبرين على الناس بسببه ، تقولون : نحن أهل الحرم ، فنحن أفضل من غيرنا ، وأعلى (سامِراً) أي : جماعة يتحدثون بالليل حول البيت (تَهْجُرُونَ) أي : تقولون الكلام الهجر ، الذي هو القبيح في هذا القرآن. فالمكذبون كانت طريقتهم في القرآن ، الإعراض عنه ، ويوصي بعضهم بعضا بذلك (وَقالَ

٦٥٥

الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (٢٦) وقال الله عنهم : (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) (٦١) (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ). فلما كانوا جامعين لهذه الرذائل ، لا جرم حقت عليهم العقوبة ، ولما وقعوا فيها ، لم يكن لهم ناصر ينصرهم ، ولا مغيث ينقذهم ، ويوبخون عند ذلك بهذه الأعمال الساقطة (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) ، أي : أفلا يتفكرون في القرآن ، ويتأملونه ويتدبرونه ، أي : فإنهم لو تدبروه ، لأوجب لهم الإيمان ، ولمنعهم من الكفر ، ولكن المصيبة ، التي أصابتهم ، بسبب إعراضهم عنه ، ودل هذا ، على أن تدبر القرآن ، يدعو إلى كل خير ، ويعصم من كل شر ، والذي منعهم ، من تدبره أن على قلوبهم أقفالها. (أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) أي : أو منعهم من الإيمان ، أنه جاءهم رسول ، وكتاب ، ما جاء آباءهم الأولين ، فرضوا بسلوك طريق آبائهم الضالين ، وعارضوا كل ما خالف ذلك ، ولهذا قالوا ، هم ومن أشبههم من الكفار ، ما أخبر الله عنهم : (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (٢٣) ، فأجابهم بقوله : (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ) ، فهل تتبعون إن كان قصدكم الحق. فأجابوا بحقيقة أمرهم (قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ).

[٦٩] وقوله : (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) (٦٩) أي : أو منعهم من اتباع الحق ، أن رسولهم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، غير معروف عندهم ، فهم منكرون له؟ يقولون : لا نعرفه ، ولا نعرف صدقه ، دعونا ننظر حاله ، ونسأل عنه ، من لديه خبره ، أي : لم يكن الأمر كذلك ، فإنهم يعرفون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، معرفة تامة ، صغيرهم ، وكبيرهم يعرفون منه كل خلق جميل ، ويعرفون صدقه ، وأمانته ، حتى كانوا يسمونه قبل البعثة «الأمين» فلم لا يصدقونه ، حين جاءهم بالحق العظيم ، والصدق المبين؟

[٧٠] (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) أي : جنون ، فلهذا قال ما قال ، والمجنون ، غير مسموع عنه ، ولا عبرة بكلامه ، لأنه يهذي بالباطل ، والكلام السخيف. قال الله في الرد عليهم في هذه المقالة : (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِ) أي : بالأمر الثابت ، الذي هو صدق وعدل ، لا اختلاف فيه ، ولا تناقض ، فكيف يكون من جاء به ، به جنة؟! وهلا يكون إلا في أعلى درجات الكمال ، من العلم والعقل ، ومكارم الأخلاق. [وأيضا ، فإن في هذا ، الانتقال ، مما تقدم. أي : بل الحقيقة التي منعتهم من الإيمان ، أنه (جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ). وأعظم الحق الذي جاءهم به ، إخلاص العبادة لله وحده ، وترك ما يعبد من دون الله. وقد علم كراهتهم لهذا الأمر ، وتعجبهم منه. فكون الرسول أتى بالحق ، وكونهم كارهين للحق بالأصل ، هو الذي أوجب لهم التكذيب بالحق ، لا شكّا ولا تكذيبا للرسول ، كما قال تعالى : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ). فإن قيل : لم لم يكن الحق موافقا لأهوائهم لأجل أن يؤمنوا أو يسرعوا الانقياد؟ أجاب تعالى بقوله : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ). ووجه ذلك ، أن أهواءهم ، متعلقة بالظلم ، والكفر ، والفساد ، من الأخلاق ، والأعمال. فلو اتبع الحق أهواءهم ، لفسدت السموات والأرض ، لفساد التصرف والتدبير ، المبني على الظلم وعدم العدل. فالسموات والأرض ، ما استقامتا إلا بالحق والعدل. (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ) أي : بهذا القرآن المذكر لهم ، بكل خير ، الذي به فخرهم] (١) ، وشرفهم ، حين يقومون به ، ويكونون به سادة الناس ،

[٧١] (فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) شقاوة منهم ، وعدم توفيق (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ). فالقرآن ومن جاء به ، أعظم نعمة ساقها الله إليهم ، فلم يقابلوها إلا بالرد والإعراض ، فهل بعد هذا الإيمان حرمان؟ وهل يكون وراءه إلا نهاية الخسران؟

__________________

(١) سقط من المطبوعة التي بين أيدينا ، وهو موافق للسياق.

٦٥٦

[٧٢] أي : أو منعهم من اتباعك يا محمد ، أنك تسألهم على الإجابة أجرا (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) يتكلفون من اتباعك ، بسبب ما تأخذ منهم من الأجر والخراج ، ليس الأمر كذلك (فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) ، وهذا كما قال الأنبياء لأممهم (وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) ، أي : ليسوا يدعون الخلق ، طمعا فيما يصيبهم منهم ، من الأموال ، وإنما يدعونهم ، نصحا لهم ، وتحصيلا لمصالحهم ، بل كان الرسل ، أنصح للخلق من أنفسهم ، فجزاهم الله عن أممهم ، خير الجزاء ، ورزقنا الاقتداء بهم ، في جميع الأحوال.

[٧٣ ـ ٧٤] ذكر الله تعالى في هذه الآيات الكريمات ، كل سبب موجب للإيمان ، وذكر الموانع ، وبين فسادها ، واحدا بعد واحد ، فذكر من الموانع أن قلوبهم في غمرة ، وأنهم لم يدبروا القول ، وأنهم اقتدوا بآبائهم ، وأنهم قالوا : برسولهم جنة ، كما تقدم الكلام عليها. وذكر من الأمور الموجبة لإيمانهم ، تدبر القرآن ، وتلقّي نعمة الله بالقبول ، ومعرفة حال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكمال صدقه وأمانته ، وأنه لا يسألهم عليه أجرا ، وإنما سعيه لنفعهم ومصلحتهم ، وأن الذي يدعوهم إليه ، صراط مستقيم ، وسهل على العاملين لاستقامته ، موصل إلى المقصود ، من قرب ، حنيفية سمحة ، حنيفية في التوحيد ، سمحة في العمل ، فدعوتك إياهم إلى الصراط المستقيم ، توجب لمن يريد الحق أن يتبعك ، لأنه مما تشهد العقول والفطر بحسنه ، وموافقته للمصالح ، فأين يذهبون إن لم يتابعوك؟ فإنهم ليس عندهم ، ما يغنيهم ويكفيهم عن متابعتك ، لأنهم (عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ) متجنبون منحرفون ، عن الطريق الموصل إلى الله ، وإلى دار كرامته ، ليس في أيديهم إلا ضلالات وجهالات. وهكذا كل من خالف الحق ، لا بد أن يكون منحرفا في جميع أموره ، قال تعالى : (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ).

[٧٥] هذا بيان لشدة تمردهم ، وأنهم إذا أصابهم الضر ، دعوا الله أن يكشف عنهم ، ليؤمنوا ، أو ابتلاهم بذلك ، ليرجعوا إليه. إن الله إذا كشف الضر عنهم ، لجّوا ، أي : استمروا في طغيانهم يعمهون ، أي : يجولون في كفرهم ، حائرين مترددين. كما ذكر الله حالهم عند ركوب الفلك ، وأنهم يدعون مخلصين له الدين ، وينسون ما يشركون به ، فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بالشرك وغيره.

[٧٦] (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) قال المفسرون : المراد بذلك : الجوع الذي أصابهم سبع سنين ، وأن الله ابتلاهم بذلك ، ليرجعوا إليه ، بالذل والاستسلام ، فلم ينجع فيهم ، ولا نجح منهم أحد. (فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ) أي : خضعوا وذلوا (وَما يَتَضَرَّعُونَ) إليه ويفتقرون ، بل مرّ عليهم ذلك ، ثمّ زال ، كأنه لم يصبهم ، لم يزالوا في غيهم وكفرهم.

[٧٧] ولكن وراءهم ، العذاب الذي لا يرد ، وهو قوله : (حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ) كالقتل يوم بدر وغيره ، (إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) آيسون من كل خير ، قد حضرهم الشر وأسبابه ، فليحذروا قبل نزول عذاب الله

٦٥٧

الشديد ، الذي لا يرد ، بخلاف مجرد العذاب ، فإنه ربما أقلع عنهم ، كالعقوبات الدنيوية ، التي يؤدب الله بها عباده. قال تعالى فيها : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٤١).

[٧٨] يخبر تعالى ، بمنته على عباده الداعية لهم إلى شكره ، والقيام بحقه فقال : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ) لتدركوا به المسموعات فتنتفعوا في دينكم ودنياكم. (وَالْأَبْصارَ) لتدركوا بها المبصرات ، فتنتفعوا بها في مصالحكم. (وَالْأَفْئِدَةَ) أي : العقول التي تدركون بها الأشياء ، وتتميزون بها عن البهائم. فلو عدمتم السمع ، والأبصار ، والعقول ، بأن كنتم صما عميا بكما ما ذا تكون حالكم؟ وماذا تفقدون من ضرورياتكم وكمالكم؟ أفلا تشكرون الذي منّ عليكم بهذه النعم ، فتقومون بتوحيده وطاعته؟ ولكنكم ، قليل شكركم ، مع توالي النعم عليكم.

[٧٩] (وَهُوَ) تعالى (الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي : بثّكم في أقطارها ، وجهاتها ، وسلطكم على استخراج مصالحها ومنافعها ، وجعلها كافية لمعايشكم ، ومساكنكم. (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) بعد موتكم ، فيجازيكم بما عملتم في الأرض ، من خير وشر ، وتحدث الأرض التي كنتم فيها بأخبارها.

[٨٠] (وَهُوَ) تعالى وحده (الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي : المتصرف في الحياة والموت ، هو الله وحده. (وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي : تعاقبهما وتناوبهما ، فلو شاء أن يجعل النهار سرمدا ، من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه؟ ولو شاء أن يجعل الليل سرمدا ، من إله غير الله ، يأتيكم بضياء أفلا تبصرون؟ ومن رحمته ، جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ، ولتبتغوا من فضله ، ولعلكم تشكرون. ولهذا قال هنا : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) فتعرفون أن الذي وهب لكم ، من النعم ، السمع ، والأبصار ، والأفئدة ، والذي نشركم في الأرض ، وحده ، والذي يحيي ويميت ، وحده ، والذي يتصرف بالليل والنهار ، وحده ، أن ذلك موجب لكم ، أن تخلصوا له العبادة ، وحده لا شريك له ، وتتركوا عبادة من لا ينفع ولا يضر ، ولا يتصرف بشيء ، بل هو عاجز من كل وجه ، فلو كان لكم عقل ، لم تفعلوا ذلك.

[٨١ ـ ٨٢] أي : بل سلك هؤلاء المكذبون ، مسلك الأولين ، من المكذبين بالبعث ، واستبعدوه غاية الاستبعاد وقالوا : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) أي : هذا لا يتصور ، ولا يدخل العقل ، بزعمهم.

[٨٣] (لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ) أي : ما زلنا نوعد بأن البعث كائن ، نحن وآباؤنا ، ولم نره ، ولم يأت بعد. (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي : قصصهم وأسمارهم ، التي يتحدث بها ويتلهى ، وإلا فليس لها حقيقة ، وكذبوا ـ قبحهم الله ـ فإن الله أراهم ، من آياته أكبر من البعث ، ومثله ، ما قاله الله تعالى : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ). (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) (٧٨) الآيات (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) الآيات.

[٨٤ ـ ٨٥] أي : قل لهؤلاء المكذبين بالبعث ، العادلين بالله غيره ، محتجا عليهم بما أثبتوه ، وأقروا به ، من توحيد الربوبية ، وانفراد الله بها ـ على ما أنكروه ، من توحيد الإلهية والعبادة ، وبما أثبتوه من خلق المخلوقات العظيمة ، على ما أنكروه من إعادة الموتى ، الذي هو أسهل من ذلك : (لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها) أي : من هو الخالق للأرض ، ومن عليها ، من حيوان ، ونبات ، وجماد ، وبحار ، وأنهار ، وجبال ، ومن المالك لذلك ، المدبر له؟ فإنك إذا سألتهم عن ذلك ، لا بد أن يقولوا : الله وحده ، فقل لهم إذا أقروا بذلك : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي : أفلا ترجعون إلى ما ذكركم الله به ، مما هو معلوم عندكم ، مستقر في فطركم ، قد يغيبه الإعراض في بعض الأوقات. الحقيقة أنكم إن رجعتم إلى ذاكرتكم ، بمجرد التأمل ، علمتم أن مالك ذلك ، هو المعبود وحده ، وأن إلهية من هو مملوك ، أبطل الباطل.

[٨٦] ثمّ انتقل إلى ما هو أعظم من ذلك ، فقال : (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ) وما فيها من النيرات ، والكواكب السيارات ، والثوابت (وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) الذي هو أعلى المخلوقات وأوسعها وأعظمها؟ فمن الذي

٦٥٨

خلق ذلك ، ودبره ، وصرفه بأنواع التدبير؟

[٨٧] (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) أي : سيقرون بأن الله رب ذلك كله ، قل لهم حين يقرون بذلك : (أَفَلا تَتَّقُونَ) عبادة المخلوقات العاجزة ، وتتقون الرب العظيم ، كامل القدرة ، عظيم السلطان؟ وفي هذا من لطف الخطاب ، من قوله : (أَفَلا تَتَّقُونَ) والوعظ بأداة العرض الجاذبة للقلوب ، ما لا يخفى.

[٨٨] ثم انتقل إلى إقرارهم بما هو أعم من ذلك كله فقال : (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) أي : ملك كل شيء ، من العالم العلوي ، والعالم السفلي ، ما نبصره ، وما لا نبصره؟ و (الملكوت) صيغة مبالغة ، بمعنى الملك. (وَهُوَ يُجِيرُ) عباده من الشر ، ويدفع ، عنهم المكاره ، ويحفظهم مما يضرهم. (وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) أي : لا يقدر أحد أن يجير على الله ، ولا يدفع الشر الذي قدره الله. بل ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه.

[٨٩] (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) أي : سيقرون أن الله المالك لكل شيء ، المجير ، الذي لا يجار عليه. (قُلْ) لهم حين يقرون بذلك ، ملزما لهم ، (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) أي : فأين تذهب عقولكم ، حيث عبدتم من علمتم أنهم لا ملك لهم ، ولا قسط من الملك ، وأنهم عاجزون من جميع الوجوه ، وتركتم الإخلاص للمالك العظيم القادر المدبر لجميع الأمور ، فالعقول التي دلتكم على هذا ، لا تكون إلا مسحورة ، وهي ـ بلا شك ـ قد سحرها الشيطان ، بما زيّن لهم ، وحسّن لهم ، وقلب الحقائق لهم ، فسحر عقولهم ، كما سحرت السحرة ، أعين الناس.

[٩٠] يقول تعالى : بل أتينا هؤلاء المكذبين بالحق ، المتضمن للصدق في الأخبار ، العدل في الأمر والنهي ، فما بالهم لا يعترفون به ، وهو أحق أن يتبع؟ وليس عندهم ، ما يعوضهم عنه ، إلا الكذب والظلم ولهذا قال : (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ).

[٩١] (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ) كذب يعرف بخبر الله ، وخبر رسله ، ويعرف بالعقل الصحيح ، ولهذا نبه تعالى على الدليل العقلي ، على امتناع إلهين فقال : (إِذاً) أي : لو كان معه آلهة كما يقولون (لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) أي : لانفرد كلّ واحد من الإلهين ، بمخلوقاته واستقل بها ، ولحرص على ممانعة الآخر ومغالبته. (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) فالغالب ، يكون هو الإله ، فمن التمانع ، لا يمكن وجود العالم ، ولا يتصور أن ينتظم هذا الانتظام المدهش للعقول ، واعتبر ذلك بالشمس والقمر ، والكواكب الثابتة ، والسيارة ، فإنها منذ خلقت ، وهي تجري على نظام واحد ، وترتيب واحد ، كلها مسخرة بالقدرة ، مدبرة بالحكمة لمصالح الخلق كلهم ، ليست مقصورة على أحد دون أحد ، ولن ترى فيها خللا ، ولا تناقضا ، ولا معارضة في أدنى تصرف ، فهل يتصور أن يكون ذلك ، تقدير إلهين ربّين؟ (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) قد نطقت بلسان حالها ، وأفهمت ببديع أشكالها ، أن المدبر لها ، إله واحد ، كامل الأسماء والصفات ، قد افتقرت إليه جميع المخلوقات ، في ربوبيته لها ، وفي إلهيته لها. فكما لا وجود لها ولا دوام ، إلا بربوبيته ، كذلك ، لا صلاح لها ولا قوام إلا بعبادته وإفراده بالطاعة.

٦٥٩

[٩٢] ولهذا نبه على عظمة صفاته بأنموذج من ذلك ، وهو علمه المحيط. فقال : (عالِمِ الْغَيْبِ) أي : الذي غاب عن أبصارنا ، وعلمنا ، من الواجبات ، والمستحيلات ، والممكنات. (وَالشَّهادَةِ) وهو ما نشاهد من ذلك (فَتَعالى) أي : ارتفع وعظم. (عَمَّا يُشْرِكُونَ) به ، ولا علم عندهم ، إلا ما علمه الله.

[٩٣] لما أقام تعالى على المكذبين أدلته العظيمة ، فلم يلتفتوا إليها ، ولم يذعنوا لها ، حق عليهم العذاب ، ووعدوا بنزوله ، وأرشد الله رسوله أن يقول : (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ) (٩٣) أي : أيّ وقت أريتني عذابهم ، وأحضرتني ذلك.

[٩٤] (رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٩٤) أي : اعصمني وارحمني ، مما ابتليتهم به من الذنوب الموجبة للنعم ، وارحمني أيضا من العذاب الذي ينزل بهم ، لأن العقوبة العامة ، تعم ـ عند نزولها ـ العاصي وغيره.

[٩٥] قال الله في تقريب عذابهم : (وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ) (٩٥) ولكن إن أخرناه فلحكمة ، وإلا ، فقدرتنا صالحة لإيقاعه.

[٩٦] هذا من مكارم الأخلاق ، التي أمر الله رسوله بها فقال : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) أي : إذا أساء إليك أعداؤك ، بالقول والفعل ، فلا تقابلهم بالإساءة ، مع أنه يجوز معاقبة المسيء بمثل إساءته ، ولكن ادفع إساءتهم إليك ، بالإحسان منك إليهم ، فإن ذلك فضل منك على المسيء. ومن مصالح ذلك ، أنه تخف الإساءة عنك ، في الحال ، وفي المستقبل ، وأنه أدعى لجلب المسيء إلى الحقّ ، وأقرب إلى ندمه وأسفه ، ورجوعه بالتوبة عما فعل. ويتصف العافي بصفة الإحسان ، ويقهر بذلك عدوه الشيطان ، ويستوجب الثواب من الرب قال تعالى : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) وقال تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَما يُلَقَّاها) أي : ما يوفق لهذا الخلق الجميل (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ). وقوله : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) أي : بما يقولون من الأقوال المتضمنة ، للكفر ، والتكذيب بالحق ، قد أحاط علمنا بذلك ، وقد حلمنا عنهم ، وأمهلناهم ، وصبرنا عليهم ، والحقّ لنا ، وتكذيبهم لنا. فأنت ـ يا محمد ـ ينبغي لك أن تصبر على ما يقولون ، وتقابلهم بالإحسان ، هذه وظيفة العبد في مقابلة المسيء من البشر. وأما المسيء من الشياطين ، فإنه لا يفيد فيه الإحسان. ولا يدعو حزبه ، إلّا ليكونوا من أصحاب السعير.

[٩٧ ـ ٩٨] فالوظيفة في مقابلته ، أن يسترشد بما أرشد الله إليه رسوله فقال : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) (٩٨) ، أي : أعوذ بك من الشر ، الذي يصيبني بسبب مباشرتهم ، وهمزهم ومسّهم ، ومن الشر ، الذي بسبب حضورهم ، ووسوستهم ، وهذه استعاذة من مادة الشر كله وأصله ، ويدخل فيها ، الاستعاذة من جميع نزغات الشيطان ، ومن مسّه ووسوسته ، فإذا أعاذ الله عبده من هذا الشر ، وأجاب دعاءه ، سلم من كلّ شر ، ووفق لكل خير.

[٩٩] يخبر تعالى عن حال من حضره الموت ، من الفرطين الظالمين ، أنه يندم في تلك الحال ، إذا رأى مآله ، وشاهد قبح أعماله. فيطلب الرجعة إلى الدنيا ، لا للتمتع بلذاتها واقتطاف شهواتها وإنّما ذلك ليقول :

[١٠٠] (لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) من العمل ، وفرطت في جنب الله. (كَلَّا) أي : لا رجعة له ولا إمهال ، قد قضى الله أنهم إليها لا يرجعون ، (إِنَّها) أي : مقالته التي تمنى فيها الرجوع إلى الدنيا (كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) أي : مجرد قول اللسان ، لا يفيد صاحبه إلّا الحسرة والندم ، وهو أيضا غير صادق في ذلك ، فإنه لو ردّ لعاد لما نهي عنه. (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي : من أمامهم وبين أيديهم ، برزخ ، وهو الحاجز بين الشيئين ، فهو هنا : الحاجز بين الدنيا والآخرة. وفي هذا البرزخ ، يتنعم المطيعون ، ويعذب العاصون ، من ابتداء موتهم ، واستقرارهم في قبورهم ، إلى يوم يبعثون ، أي : فليعدوا له عدّته ، وليأخذوا له أهبته.

٦٦٠