تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي

تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

المؤلف:

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ١١٣٥

تَأْمُرُونَ) أن نفعل به؟

[٣٦] (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ) أي : أخرهما (وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) جامعين للناس.

[٣٧] (يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) (٣٧) أي : ابعث في جميع مدنك ، التي هي مقر العلم ، ومعدن السحر ، من يجمع لك كل ساحر ماهر ، عليم في سحره فإن الساحر يقاتل بسحر من جنس سحره. وهذا من لطف الله أن يرى العباد ، بطلان ما موه به فرعون الجاهل ، الضال ، المضل أن ما جاء به موسى سحر ، قيضهم أن جمعوا أهل المهارة بالسحر ، لينعقد المجلس عن حضرة الخلق العظيم ، فيظهر الحقّ على الباطل ، ويقر أهل العلم وأهل الصناعة ، بصحة ما جاء به موسى ، وأنه ليس بسحر. فعمل فرعون برأيهم ، فأرسل في المدائن ، من يجمع السحرة ، واجتهد في ذلك ، وجد.

[٣٨] (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) (٣٨) قد واعدهم إياه موسى ، وهو يوم الزينة ، الذي يتفرغون فيه من أشغالهم.

[٣٩] (وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ) (٣٩) أي : نودي بعموم الناس بالاجتماع في ذلك اليوم الموعود.

[٤٠] (لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) (٤٠) أي : قالوا للناس : اجتمعوا لتنظروا غلبة السحرة لموسى ، وأنهم ماهرون في صناعتهم ، فنتبعهم ، ونعظمهم ، ونعرف فضيلة علم السحر ، فلو وفقوا للحق ، لقالوا ، لعلنا نتبع المحق منهم ، ولنعرف الصواب ، فلذلك ما أفاد فيهم ذلك ، إلا قيام الحجة عليهم.

[٤١] (فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا) ووصلوا لفرعون قالوا له : (أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) لموسى؟

[٤٢] (قالَ نَعَمْ) لكم أجر ، وثواب (وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) عندي ، وعدهم الأجر والقربة منه ، ليزداد نشاطهم ، ويأتوا بكل مقدورهم ، في معارضة ما جاء به موسى. فلما اجتمعوا للموعد ، هم وموسى ، وأهل مصر ، وعظهم موسى وذكرهم وقال : (وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى) فتنازعوا وتخاصموا ثمّ شجعهم فرعون ، وشجع بعضهم بعضا.

[٤٣] (قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) (٤٣) أي : ألقوا كل ما في خواطركم إلقاؤه ، ولم يقيدهم بشيء دون شيء ، لجزمه ببطلان ما جاؤوا به من معارضة الحقّ.

[٤٤] (فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ) فإذا هي حيات تسعى ، وسحروا بذلك أعين الناس. (وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) فاستعانوا بعزة عبد ضعيف ، عاجز من كل وجه ، إلا أنه قد تجبر ، وحل على صورة ملك وجنود ، فغرتهم تلك الأبهة ، ولم تنفذ بصائرهم إلى حقيقة الأمر ، أو أن هذا قسم منهم بعزة فرعون والمقسم عليه ، أنهم غالبون.

[٤٥] (فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ) تبتلع وتأخذ (ما يَأْفِكُونَ) فالتقفت ، جميع ما ألقوا ، من الحبال والعصي ، لأنها إفك ، وكذب ، وزور وذلك كله ، باطل لا يقوم للحق ، ولا يقاومه. فلما رأى السحرة هذه الآية

٧٠١

العظيمة ، تيقنوا ـ لعلمهم ـ أن هذا ليس بسحر ، وإنّما هو آية من آيات الله ، ومعجزة تنبىء بصدق موسى ، وصحة ما جاء به.

[٤٦] (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) (٤٦) لربهم.

[٤٧ ـ ٤٨] (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) (٤٨). وانقمع الباطل ، في ذلك المجمع ، وأقر رؤساؤه ببطلانه ، ووضح الحقّ ، وظهر حتى رأى ذلك الناظرون بأبصارهم.

[٤٩] ولكن أبى فرعون ، إلا عتوا وضلالا ، وتماديا في غيه وعنادا. فقال للسحرة : (آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) يتعجب ، ويعجب قومه من جراءتهم عليه ، وإقدامهم على الإيمان من غير إذنه ومؤامرته. (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ). هذا ، وهو الذي جمع السحرة ، وملأه ، الّذين أشاروا عليه بجمعهم من مدائنهم. وقد علموا أنهم ما اجتمعوا بموسى ، ولا رأوه قبل ذلك ، وأنهم جاؤوا من السحر ، بما يحير الناظرين ، ويهيلهم ، ومع ذلك ، فراج عليهم هذا القول ، الذي هم بأنفسهم ، وقفوا على بطلانه ، فلا يستنكر على أهل هذه العقول ، أن لا يؤمنوا بالحق الواضح ، والآيات الباهرة ، لأنهم لو قال لهم فرعون عن أي شيء كان ، إنه على خلاف حقيقته ، صدقوه. ثمّ توعد السحرة فقال : (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) أي : اليد اليمنى ، والرجل اليسرى ، كما يفعل بالمفسد في الأرض. (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) لتختزوا ، وتذلوا.

[٥٠ ـ ٥١] فقال السحرة ـ حين وجدوا حلاوة الإيمان ، وذاقوا لذته ـ : (لا ضَيْرَ) أي : لا نبالي بما توعدتنا به (إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا) من الكفر والسحر ، وغيرهما (أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) بموسى ، من هؤلاء الجنود. فثبتهم الله وصبّرهم. فيحتمل أن فرعون ، فعل ما توعدهم به ، لسلطانه ، واقتداره إذ ذاك ويحتمل ، أن الله منعه منهم ، ثمّ لم يزل فرعون وقومه ، مستمرين على كفرهم ، يأتيهم موسى بالآيات البينات ، وكلما جاءتهم آية ، وبلغت منهم كل مبلغ ، وعدوا موسى ، وعاهدوه لئن كشف الله عنهم ، ليؤمنن به ، وليرسلن معه بني إسرائيل ، فيكشفه الله ، ثمّ ينكثون.

[٥٢] فلما يئس موسى من إيمانهم ، وحقت عليهم كلمة العذاب ، وآن لبني إسرائيل أن ينجيهم الله من أسرهم ، ويمكن لهم في الأرض ، أوحى الله إلى موسى : (أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي) أي : اخرج ببني إسرائيل أول الليل ، ليتمادوا ، ويتمهلوا في ذهابهم. (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) أي : سيتبعكم فرعون وجنوده. ووقع كما أخبر ، فإنهم لما أصبحوا ، إذا بنو إسرائيل ، قد سروا كلهم مع موسى.

[٥٣ ـ ٥٥] (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) (٥٣) يجمعون الناس ، ليوقع ببني إسرائيل ، ويقول مشجعا لقومه (إِنَّ هؤُلاءِ) أي : بني إسرائيل (لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ) (٥٥) فلا بد أن ننفذ غيظنا في هؤلاء العبيد ، الّذين أبقوا منا.

[٥٦] (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ) (٥٦) أي : الحذر على الجميع منهم ، وهم أعداء للجميع ، والمصلحة مشتركة. فخرج

٧٠٢

فرعون وجنوده ، في جيش عظيم ، ونفير عام ، لم يتخلف منهم ، سوى أهل الأعذار ، الّذين منعهم العجز.

[٥٧] قال الله تعالى : (فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) (٥٧) أي : بساتين مصر وجناتها الفائقة ، وعيونها المتدفقة ، وزروع ، قد ملأت أراضيهم ، وعمرت بها حاضرتهم وبواديهم.

[٥٨] (وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ) (٥٨) يعجب الناظرين ، ويلهي المتأملين ، تمتعوا به دهرا طويلا ، وقضوا بلذته وشهواته ، عمرا مديدا ، على الكفر والفساد ، والتكبر على العباد والتيه العظيم.

[٥٩] (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها) أي : هذه البساتين والعيون ، والزروع ، والمقام الكريم. (بَنِي إِسْرائِيلَ) الّذين جعلوهم من قبل عبيدهم ، وسخروا في أعمالهم الشاقة. فسبحان من يؤتي الملك من يشاء ، وينزعه عمن يشاء ، ويعز من يشاء بطاعته ، ويذل من يشاء بمعصيته.

[٦٠] (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) (٦٠) أي : اتبع قوم فرعون ، قوم موسى ، وقت شروق الشمس ، وساقوا خلفهم محثين ، على غيظ وحنق قادرين.

[٦١] (فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ) أي : رأى كل منهما صاحبه ، (قالَ أَصْحابُ مُوسى) شاكين لموسى وحزنين (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) ،

[٦٢] ف (قالَ) موسى ، مثبتا لهم ، ومخبرا لهم بوعد ربه الصادق : (كَلَّا) أي : ليس الأمر كما ذكرتم ، أنكم مدركون. (إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) لما فيه نجاتي ونجاتكم.

[٦٣] (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ) فضربه (فَانْفَلَقَ) اثني عشر طريقا (فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ) أي : الجبل (الْعَظِيمِ) فدخله موسى وقومه.

[٦٤] (وَأَزْلَفْنا ثَمَ) في ذلك المكان (الْآخَرِينَ) أي : فرعون وقومه ، وقربناهم ، وأدخلناهم في ذلك الطريق ، الذي سلك منه موسى وقومه.

[٦٥] (وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ) (٦٥) استكملوا خارجين ، لم يتخلف منهم أحد.

[٦٦] (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) (٦٦) لم يتخلف منهم عن الغرق أحد.

[٦٧] (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) عظيمة ، على صدق ما جاء به موسى عليه‌السلام ، وبطلان ما عليه فرعون وقومه. (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) مع هذه الآيات ، المقتضية للإيمان ، لفساد قلوبهم.

[٦٨] (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) بعزته أهلك الكافرين المكذبين ، وبرحمته نجى موسى ، ومن معه أجمعين.

[٦٩] (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ) (٦٩) أي : واتل يا محمد على الناس ، نبأ إبراهيم الخليل ، وخبره الجليل ، في هذه الحالة بخصوصها ، وإلا ، فله أنباء كثيرة ، ولكن من أعجب أنبائه ، وأفضلها ، هذا النبأ المتضمن لرسالته ، ودعوته قومه ، ومحاجته إياهم ، وإبطاله ما هم عليه.

[٧٠ ـ ٧١] ولذلك قيده بالظرف فقال : (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا) متبجحين بعبادتهم. (نَعْبُدُ أَصْناماً) ننحتها ونعملها بأيدينا. (فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ) أي : مقيمين على عبادتها في كثير من أوقاتنا.

٧٠٣

[٧٢] فقال لهم إبراهيم ، مبينا عدم استحقاقهم للعبادة : (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ) ، فيستجيبون دعاءكم ، ويفرجون كربكم ، ويزيلون عنكم كل مكروه؟

[٧٣] (أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ) (٧٣) فأقروا أن ذلك كله ، غير موجود فيها ، فلا تسمع دعاء ، ولا تنفع ، ولا تضر. ولهذا لما كسرها قال : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ). قالوا له : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) أي : هذا أمر متقرر من حالها ، لا يقبل الإشكال والشك.

[٧٤] فلجؤوا إلى تقليد آبائهم الضالين ، فقالوا : (بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ) ، فتبعناهم على ذلك ، وسلكنا سبيلهم ، وحافظنا على عاداتهم. فقال لهم إبراهيم : أنتم وآباؤكم ، كلكم خصوم في الأمر ، والكلام مع الجميع واحد.

[٧٥ ـ ٧٦] (أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) فليضروني بأدنى شيء من الضرر ، وليكيدوني ، فلا يقدرون.

[٧٧ ـ ٧٨] (إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) (٧٨) هو المتفرد بنعمة الخلق ، ونعمة الهداية للمصالح الدينية والدنيوية.

[٧٩ ـ ٨٢] ثمّ خصص منها بعض الضروريات فقال : (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (٨٢). فهذا هو وحده المنفرد بذلك ، فيجب أن يفرد بالعبادة والطاعة ، وتترك هذه الأصنام ، التي لا تخلق ، ولا تهدي ، ولا تمرض ، ولا تشفي ، ولا تطعم ولا تسقي ، ولا تميت ، ولا تحيي ، ولا تنفع عابديها ، بكشف الكروب ، ولا مغفرة الذنوب. فهذا دليل قاطع ، وحجة باهرة ، لا تقدرون أنتم وآباؤكم على معارضتها ، فدل على اشتراككم في الضلال ، وترككم طريق الهدى والرشد. قال الله تعالى : (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ) الآيات.

[٨٣] ثمّ دعا عليه‌السلام ربه فقال : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً) أي : علما كثيرا ، أعرف به الأحكام ، والحلال والحرام ، وأحكم به بين الأنام. (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) من إخوانه الأنبياء ، والمرسلين.

[٨٤] (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) (٨٤) أي : اجعل لي ثناء صدق ، مستمر إلى آخر الدهر. فاستجاب الله دعاءه ، فوهب له من العلم والحكم ، ما كان به من أفضل المرسلين ، وألحق بإخوانه المرسلين ، وجعله محبوبا مقبولا ، معظما مثنيا عليه ، في جميع الملل ، في كل الأوقات. قال تعالى : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) (١١١).

[٨٥] (وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ) (٨٥) أي : من أهل الجنة ، التي يورثهم الله إياها ، فأجاب الله دعاءه ، فرفع منزلته في جنات النعيم.

[٨٦] (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) (٨٦) وهذا الدعاء ، بسبب الوعد الذي قال لأبيه : (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا). قال تعالى : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ

٧٠٤

عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ).

[٨٧] (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) (٨٧) أي : بالتوبيخ على بعض الذنوب ، والعقوبة عليها ، والفضيحة.

[٨٨ ـ ٨٩] بل أسعدني في ذلك اليوم الذي فيه (لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (٨٩) فهذا الذي ينفعه عندك ، وهذا الذي ينجو به من العقاب ، ويستحق جزيل الثواب. والقلب السليم ، معناه ، الذي سلّم من الشرك والشك ، ومحبة الشر ، والإصرار على البدعة ، والذنوب ، ويلزم من سلامته مما ذكر ، اتصافه بأضدادها ، من الإخلاص ، والعلم ، واليقين ، ومحبة الخير ، وتزيينه في قلبه. وأن تكون إرادته ومحبته ، تابعة لمحبة الله ، وهواه ، تابعا لما جاء عن الله.

[٩٠] ثمّ ذكر من صفات ذلك اليوم العظيم ، وما فيه من الثواب والعقاب فقال : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ) أي : قربت (لِلْمُتَّقِينَ) ربهم ، الّذين امتثلوا أوامره ، واجتنبوا زواجره ، واتقوا سخطه وعقابه.

[٩١ ـ ٩٣] (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ) أي : برزت ، واستعدت بجميع ما فيها من العذاب ، (لِلْغاوِينَ) الّذين أوضعوا في معاصي الله ، وتجرؤوا على محارمه ، وكذبوا رسله ، وردوا ما جاؤوهم به من الحقّ. (وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ) (٩٣) بأنفسهم أي : فلم يكن من ذلك من شيء. وظهر كذبهم وخزيهم ، ولاحت خسارتهم وفضيحتهم ، وبان ندمهم ، وضل سعيهم.

[٩٤] (فَكُبْكِبُوا فِيها) أي : ألقوا في النار (هُمْ) أي : ما كانوا يعبدون. (وَالْغاوُونَ) العابدون لها.

[٩٥] (وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ) (٩٥) من الإنس والجن ، الّذين أزّهم إلى المعاصي أزّا ، وتسلط عليهم بشركهم وعدم إيمانهم ، فصاروا من دعاته ، والساعين في مرضاته ، وهم ما بين داع لطاعته ، ومجيب لهم ، ومقلد لهم على شركهم.

[٩٦] (قالُوا) أي : جنود إبليس الغاوون ، لأصنامهم ، وأوثانهم التي عبدوها :

[٩٧ ـ ٩٨] (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٩٨) في العبادة والمحبة ، والخوف ، والرجاء ، وندعوكم كما ندعوه ، فتبين لهم حينئذ ، ضلالهم ، وأقروا بعدل الله في عقوبتهم ، وأنها في محلها ، وهم لم يسووهم برب العالمين ، إلا في العبادة ، لا في الخلق بدليل قولهم (بِرَبِّ الْعالَمِينَ) إنهم مقرون أن الله رب العالمين كلهم ، الّذين من جملتهم أصنامهم وأوثانهم.

[٩٩] (وَما أَضَلَّنا) عن طريق الهدى والرشد ، ودعانا إلى طريق الغي والفسق ، (إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) وهم الأئمة الّذين يدعون إلى النار.

[١٠٠] (فَما لَنا) حينئذ (مِنْ شافِعِينَ) يشفعون لنا ، لينقذونا من عذابه.

[١٠١] (وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) (١٠١) أي : قريب مصاف ، ينفعنا بأدنى نفع ، كما جرت العادة بذلك في الدنيا. فأيسوا من كل خير ، وأبلوا بما كسبوا ، وتمنوا العودة إلى الدنيا ، ليعملوا صالحا.

٧٠٥

[١٠٢] (فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً) أي : رجعة إلى الدنيا ، وإعادة إليها (فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) لنسلم من العقاب ، ونستحق الثواب. هيهات هيهات ، قد حيل بينهم وبين ما يشتهون ، وقد غلقت منهم الرهون.

[١٠٣] (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي ذكرنا لكم ووصفنا (لَآيَةً) لكم (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) مع نزول الآيات.

[١٠٥ ـ ١٠٦] يذكر تعالى ، تكذيب قوم نوح لرسولهم نوح ، وما رد عليهم وردوا عليه ، وعاقبة الجميع فقال : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) (١٠٥) جميعهم ، لأن تكذيب نوح ، كتكذيب جميع المرسلين ، لأنهم كلهم ، اتفقوا على دعوة واحدة ، وأخبار واحدة ، فتكذيب أحدهم ، كتكذيب ، بجميع ما جاؤوا به من الحقّ. كذبوه (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ) في النسب (نُوحٌ). وإنّما ابتعث الله الرسل ، من نسب من أرسل إليهم ، لئلا يشمئزوا من الانقياد له ، ولأنهم يعرفون حقيقته ، فلا يحتاجون أن يبحثوا عنه ، فقال لهم مخاطبا ، بألطف خطاب ، كما هي طريقة الرسل ، صلوات الله وسلامه عليهم. (أَلا تَتَّقُونَ) الله تعالى ، فتتركون ما أنتم مقيمون عليه ، من عبادة الأوثان ، وتخلصون العبادة لله وحده.

[١٠٧] (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) (١٠٧) فكونه رسولا إليهم بالخصوص ، يوجب لهم تلقي ما أرسل به إليهم ، والإيمان به ، وأن يشكروا الله تعالى ، على أن خصهم بهذا الرسول الكريم. وكونه أمينا ، يقتضي أنه لا يقول على الله ، ولا يزيد في وحيه ، ولا ينقص. وهذا يوجب لهم التصديق بخبره والطاعة لأمره.

[١٠٨] (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) (١٠٨) فيما أمركم به ، ونهاكم عنه ، فإن هذا ، هو الذي يترتب على كونه رسولا إليهم ، أمينا ، فلذلك رتبه بالفاء ، الدالة على السبب.

[١٠٩] فذكر السبب الموجب ، ثمّ ذكر انتفاء المانع فقال : (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) فتتكلفون من المغرم الثقيل. (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) أرجو بذلك ، القرب منه ، والثواب الجزيل. وأما أنتم فمنيتي ، ومنتهى إرادتي منكم ، النصح لكم ، وسلوككم الصراط المستقيم.

[١١٠] (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) كرر ذلك عليه‌السلام ، لتكريره دعوة قومه ، وطول مكثه في ذلك ، كما قال تعالى : (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) ، وقال : (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) (٦) الآيات.

[١١١] فقالوا ردا لدعوته ، ومعارضة له بما ليس يصلح للمعارضة : (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) أي : كيف نتبعك ونحن لا نرى أتباعك إلا أسافل الناس ، وأراذلهم وسقطهم. بهذا يعرف عن تكبرهم عن الحقّ ، وجهلهم بالحقائق ، فإنهم لو كان قصدهم الحقّ ، لقالوا ـ إن كان عندهم إشكال وشك في دعوته ـ بيّن لنا صحة ما جئت به بالطرق الموصلة إلى ذلك. ولو تأملوا حق التأمل ، لعلموا أن أتباعه ، هم الأعلون ، خيار الخلق ، أهل العقول الرزينة ، والأخلاق الفاضلة ، وأن الأرذل ، من سلب خاصية عقله ، فاستحسن عبادة الأحجار ، ورضي أن يسجد لها ، ويدعوها ، وأبى الانقياد لدعوة الرسل الكمل. وبمجرد ما يتكلم أحد الخصمين في الكلام الباطل ، يعرف فساد ما عنده بقطع النظر عن صحة دعوى خصمه. فقوم نوح ، لما سمعنا عنهم ، أنهم قالوا في ردهم دعوة نوح : (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) فبنوا على هذا الأصل ، الذي كل أحد يعرف فساده ، رد دعوته ، ـ عرفنا أنهم ضالون مخطئون ، ولو لم نشاهد من آيات نوح ودعوته العظيمة ، ما يفيد الجزم واليقين ، بصدقه وصحة ما جاء به.

[١١٢ ـ ١١٣] فقال نوح عليه‌السلام : (وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ) (١١٣) أي : أعمالهم وحسابهم على الله ، إنّما عليّ التبليغ ، وأنتم دعوهم عنكم ، إن كان ما جئتكم به الحقّ ، فانقادوا له ، وكلّ له عمله.

٧٠٦

[١١٤] (وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) (١١٤) كأنهم ـ قبحهم الله ـ طلبوا منه أن يطردهم عنه ، تكبرا ، وتجبرا ، ليؤمنوا. فقال : (وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) (١١٤) فإنهم لا يستحقون الطرد والإهانة ، إنما يستحقون الإكرام القولي ، والفعلي ، كما قال تعالى : (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ).

[١١٥] (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (١١٥) أي : ما أنا إلا منذر ، ومبلغ عن الله ، ومجتهد في نصح العباد ، وليس لي من الأمر شيء ، إن الأمر إلا لله. فاستمر نوح ، عليه الصلاة والسّلام ، على دعوتهم ليلا ونهارا ، سرا وجهارا ، فلم يزدادوا إلا نفورا ، (قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ) من دعوتك إيانا ، إلى الله وحده (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) أي : لنقتلك شر قتلة ، بالرمي بالحجارة ، كما يقتل الكلب. فتبا لهم ، ما أقبح هذه المقابلة ، يقابلون الناصح الأمين الذي هو أشفق عليهم من أنفسهم ، بشر مقابلة. لا جرم لما انتهى ظلمهم ، واشتد كفرهم ، دعا عليهم نبيهم ، بدعوة أحاطت بهم فقال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) الآيات.

[١١٧ ـ ١١٨] وهنا (قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً) أي : أهلك الباغي منا ، وهو يعلم أنهم البغاة الظلمة ، ولهذا قال : (وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).

[١١٩] (فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) أي : السفينة (الْمَشْحُونِ) من الخلق والحيوانات.

[١٢٠] (ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ) أي : بعد نوح ، ومن معه من المؤمنين (الْباقِينَ) أي : جميع قومه.

[١٢١] (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : نجاة نوح وأتباعه ، وإهلاك من كذبه (لَآيَةً) دالة على صدق رسلنا ، وصحة ما جاؤوا به ، وبطلان ما عليه أعداؤهم المكذبون بهم.

[١٢٢] (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي قهر بعزه أعداءه ، فأغرقهم بالطوفان (الرَّحِيمُ) بأوليائه ، حيث نجى نوحا ومن معه ، من أهل الإيمان.

[١٢٣] أي : كذبت القبيلة المسماة عادا ، رسولهم هودا ، وتكذيبهم له ، تكذيب لغيره ، لاتفاق الدعوة.

[١٢٤] (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ) في النسب (هُودٌ) بلطف وحسن خطاب : (أَلا تَتَّقُونَ) الله ، فتتركون الشرك وعبادة غيره.

[١٢٥] (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) (١٢٥) أي : أرسلني الله إليكم ، رحمة بكم ، واعتناء بكم ، وأنا أمين ، تعرفون ذلك مني ، رتب على ذلك قوله :

[١٢٦] (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) أي : أدوا حق الله تعالى ، وهو : التقوى ، وأدوا حقي ، بطاعتي فيما آمركم به ، وأنهاكم عنه ، فهذا موجب ، لأن تتبعوني وتطيعوني وليس ثمّ مانع يمنعكم من الإيمان.

[١٢٧] فلست أسألكم على تبليغي إياكم ، ونصحي لكم ، أجرا ، حتى تستثقلوا ذلك المغرم. (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) الذي رباهم بنعمه ، وأدرّ عليهم فضله وكرمه ، خصوصا ما ربّى به أولياءه وأنبياءه.

٧٠٧

[١٢٨] (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ) أي : مدخل بين الجبال (آيَةً) أي : علامة (تَعْبَثُونَ) أي : تفعلون ذلك عبثا لغير فائدة تعود بمصالح دينكم ودنياكم.

[١٢٩] (وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ) أي : بركا ومجابي للحياة (لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) والحال أنه لا سبيل إلى الخلود لأحد.

[١٣٠] (وَإِذا بَطَشْتُمْ) بالخلق (بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) قتلا وضربا ، وأخذ أموال. وكان الله تعالى قد أعطاهم قوة عظيمة ، وكان الواجب عليهم أن يستعينوا بقوتهم على طاعة الله ، ولكنهم فخروا ، واستكبروا ، وقالوا : (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) واستعملوا قوتهم في معاصي الله ، وفي العبث والسفه ، فلذلك نهاهم نبيهم عن ذلك.

[١٣١] (فَاتَّقُوا اللهَ) واتركوا شرككم وبطركم (وَأَطِيعُونِ) حيث علمتم أني رسول الله إليكم ، أمين ناصح.

[١٣٢] (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ) أي : أعطاكم (بِما تَعْلَمُونَ) أي : أمدكم بما لا يجهل ولا ينكر من الإنعام.

[١٣٣ ـ ١٣٤] (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ) من إبل ، وبقر ، وغنم (وَبَنِينَ) أي : وكثرة نسل. كثّر أموالكم ، وكثّر أولادكم ، خصوصا الذكور ، أفضل القسمين.

[١٣٥] هذا تذكيرهم بالنعم ، ثمّ ذكرهم حلول عذاب الله فقال : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (١٣٥) أي : أي إني ـ من شفقتي عليكم وبري بكم ـ أخاف أن ينزل بكم عذاب يوم عظيم ، إذا نزل لا يرد ، إن استمررتم على كفركم وبغيكم.

[١٣٦] فقالوا معاندين للحق مكذبين لنبيهم : (سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ) أي : الجميع على حد سواء. وهذا غاية العتو ، فإن أقواما بلغت بهم الحال إلى أن صارت مواعظ الله ، التي تذيب الجبال الصم الصلاب ، وتتصدع لها أفئدة أولي الألباب ، وجودها وعدمها ـ عندهم ـ على حد سواء ـ لقوم انتهى ظلمهم ، واشتد شقاؤهم ، وانقطع الرجاء من هدايتهم.

[١٣٧] ولهذا قالوا : (إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) (١٣٧) أي : هذه الأحوال والنعم ، ونحو ذلك ، عادة الأولين ، تارة يستغنون ، وتارة يفتقرون. وهذه أحوال الدهر ، لأن هذه محن ومنح من الله تعالى ، وابتلاء لعباده.

[١٣٨] (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (١٣٨) وهذا إنكار منهم للبعث أو تنزل مع نبيهم وتهكم به. إننا على فرض أننا نبعث ، فإننا كما أدرّت علينا النعم في الدنيا ، كذلك لا تزال مستمرة علينا إذا بعثنا.

[١٣٩] (فَكَذَّبُوهُ) أي : صار التكذيب سجية لهم وخلقا ، لا يردعهم عنه رادع. (فَأَهْلَكْناهُمْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ). (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) على صدق نبينا ، هود عليه‌السلام ، وصحة ما جاء به ، وبطلان ما عليه قومه ، من الشرك والجبروت. (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) مع وجود الآيات المقتضية للإيمان.

[١٤٠] (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي أهلك بقدرته قوم هود ، على قوتهم وبطشهم. (الرَّحِيمُ) بنبيه هود ، حيث نجاه ومن معه من المؤمنين.

٧٠٨

[١٤١] (كَذَّبَتْ ثَمُودُ) القبيلة المعروفة في مدائن الحجر (الْمُرْسَلِينَ) كذبوا صالحا عليه‌السلام ، الذي جاء بالتوحيد ، الذي دعت إليه المرسلون ، فكان تكذيبهم له ، تكذيبا للجميع.

[١٤٢] (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ) في النسب ، برفق ولين : (أَلا تَتَّقُونَ) الله تعالى ، وتدعون الشرك والمعاصي.

[١٤٣ ـ ١٤٤] (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ) ، من الله ربكم أرسلني إليكم ، لطفا بكم ورحمة ، فتلقوا رحمته بالقبول ، وقابلوها بالإذعان. (أَمِينٌ) تعرفون ذلك مني ، وذلك يوجب عليكم أن تؤمنوا بي ، وبما جئت به.

[١٤٥] (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) فتقولون : يمنعنا من اتباعك ، أنك تريد أخذ أموالنا. (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) أي : لا أطلب الثواب إلا منه.

[١٤٦ ـ ١٤٨] (أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ) (١٤٨) أي : نضيد كثير. أي : أتحسبون أنكم تتركون في هذه الخيرات ، والنعم سدى ، تنعمون وتتمتعون ، كما تتمتع الأنعام ، وتتركون سدى ، لا تؤمرون ، ولا تنهون وتستعينون بهذه النعم على معاصي الله.

[١٤٩] (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ) (١٤٩) أي : بلغت بكم الفراهة والحذق إلى أن اتخذتم بيوتا من الجبال الصم الصلاب.

[١٥٠ ـ ١٥١] (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ) (١٥١) الّذين تجاوزوا الحد.

[١٥٢] (الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) (١٥٢) أي : الّذين وصفهم وداؤهم ، الإفساد في الأرض ، بعمل المعاصي ، والدعوة إليها ، إفسادا لا إصلاح فيه ، وهذا أضر ما يكون لأنه شر محض. وكان أناسا عندهم مستعدون لمعارضة نبيهم ، موضعون في الدعوة لسبيل الغي ، فنهاهم صالح ، عن الاغترار بهم. ولعلهم الّذين قال الله فيهم : (وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) (٤٨).

[١٥٣] فلم يفد فيهم هذا النهي والوعظ شيئا ، فقالوا لصالح : (إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) أي : قد سحرت ، فأنت تهذي ، بما لا معنى له.

[١٥٤] (ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) فأي : فضيلة فقتنا بها ، حتى تدعونا إلى اتباعك؟ (فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) هذا ، مع أن مجرد اعتبار حالته وحالة ما دعا إليه ، من أكبر الآيات البينات على صحة ما جاء به وصدقه ، ولكنهم من قسوتهم ، سألوا آيات الاقتراح ، التي في الغالب ، لا يفلح من طلبها ، لكون طلبه مبنيا على التعنت ، لا على الاسترشاد.

[١٥٥] فقال صالح : (هذِهِ ناقَةٌ) تخرج من صخرة صماء ملساء ـ تابعنا في هذا كثير من المفسرين ، ولا مانع في ذلك ـ ترونها وتشاهدونها بأجمعكم ، (لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) أي : تشرب ماء البئر يوما ، وأنتم تشربون لبنها ، ثمّ تصدر عنكم اليوم الآخر ، وتشربون أنتم ماء البئر.

٧٠٩

[١٥٦] (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) بعقر أو غيره (فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ) فخرجت واستمرت عندهم بتلك الحال ، فلم يؤمنوا ، واستمروا على طغيانهم.

[١٥٧ ـ ١٥٩] (فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ) وهي صيحة نزلت عليهم ، فدمرتهم أجمعين ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) على صدق ما جاءت به رسلنا ، وبطلان قول معارضيهم. (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (٩).

[١٦٠ ـ ١٦٨] قال لهم وقالوا ، كما قال من قبلهم ، تشابهت قلوبهم في الكفر ، فتشابهت أقوالهم. وكانوا ـ مع شركهم ـ يأتون فاحشة ، لم يسبقهم إليها أحد من العالمين. يختارون نكاح الذكران ، المستقذر الخبيث ، ويرغبون عما خلق لهم من أزواجهم لإسرافهم وعدوانهم فلم يزل ينهاهم حتى (قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) (١٦٧) أي : من البلد ، فلما رأى استمرارهم عليه (قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ) (١٦٨) أي : المبغضين الناهين عنه المحذرين منه.

[١٦٩] قال : (رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ) (١٦٩) من فعله وعقوبته فاستجاب الله له.

[١٧٠ ـ ١٧١] (فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) (١٧١) أي : الباقين في العذاب ، وهي امرأته.

[١٧٢ ـ ١٧٣] (ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) أي : حجارة من سجيل (فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) أهلكهم الله عن آخرهم.

[١٧٤ ـ ١٧٥] (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (١٧٥).

[١٧٦] أصحاب الأيكة : أي : البساتين الملتفة الأشجار ، وهم أصحاب مدين ، فكذبوا نبيهم شعيبا ، الذي جاء بما جاء به المرسلون.

[١٧٧] (إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ) (١٧٧) الله تعالى ، فتتركون ما يسخطه ويغضبه ، من الكفر والمعاصي.

[١٧٨] (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) (١٧٨) يترتب على ذلك ، أن تتقوا الله وتطيعونني. وكانوا ـ مع شركهم ـ يبخسون المكاييل والموازين.

[١٨١] فلذلك قال لهم : (أَوْفُوا الْكَيْلَ) أي : أتموه وأكملوه (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ) الّذين ينقصون الناس أموالهم ويسلبونها ، ببخس المكيال والميزان.

[١٨٢] (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) (١٨٢) أي : بالميزان العادل ، الذي لا يميل.

[١٨٤] (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ) (١٨٤) أي : الخليقة الأولين ، فكما انفرد بخلقكم ، وخلق من قبلكم من غير مشاركة له في ذلك ، فأفردوه بالعبادة والتوحيد ، وكما أنعم عليكم بالإيجاد والإمداد بالنعم ، فقابلوه بشكره.

[١٨٥] قالوا له ، مكذبين له ، رادّين لقوله : (إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) فأنت تهذي وتتكلم كلام المسحور ، الذي غايته ، أن لا يؤاخذ به.

[١٨٦] (وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) فليس فيك فضيلة ، اختصصت بها علينا ، حتى تدعونا إلى اتباعك. وهذا مثل قول من قبلهم ومن بعدهم ، ممن عارضوا الرسل بهذه الشبهة التي لم يزالوا ، يدلون بها ويصولون ، ويتفقون عليها ،

٧١٠

لاتفاقهم على الكفر ، وتشابه قلوبهم. وقد أجابت عنها الرسل بقولهم : (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ). (وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) وهذا جراءة منهم وظلم ، وقول زور ، قد انطووا على خلافه. فإنه ما من رسول من الرسل ، واجه قومه ودعاهم ، وجادلهم وجادلوه ، إلا وقد أظهر الله على يديه من الآيات ، ما به يتيقنون صدقه وأمانته ، خصوصا شعيبا عليه‌السلام ، الذي يسمى خطيب الأنبياء ، لحسن مراجعته قومه ، ومجادلتهم بالتي هي أحسن. فإن قومه قد تيقنوا صدقه ، وأن ما جاء به حق ، ولكن إخبارهم عن ظن كذبه ، كذب منهم.

[١٨٧] (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) أي : قطع عذاب تستأصلنا. (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) كقول إخوانهم (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٣٢) ، أو أنهم طلبوا بعض آيات الاقتراح ، التي لا يلزم تتميم مطلوب من سألها.

[١٨٨] (قالَ) شعيب عليه‌السلام : (رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) أي : نزول العذاب ، ووقوع آيات الاقتراح ، لست أنا الذي آتي بها وأنزلها بكم ، وليس عليّ إلا تبليغكم ونصحكم وقد فعلت ، وإنّما الذي يأتي بها ، ربّي العالم بأعمالكم وأحوالكم ، الذي يجازيكم ويحاسبكم.

[١٨٩] (فَكَذَّبُوهُ) أي : صار التكذيب لهم ، وصفا والكفر لهم ديدنا ، بحيث لا تفيدهم الآيات ، وليس بهم حيلة إلا نزول العذاب. (فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) أظلتهم سحابة فاجتمعوا تحتها مستلذين ، لظلها غير الظليل ، فأحرقهم بالعذاب ، فظلوا تحتها خامدين ، ولديارهم مفارقين ، وبدار الشقاء والعذاب نازلين. (إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) لا كرة لهم إلى الدنيا ، فيستأنفوا العمل ولا يفتّر عنهم العذاب ساعة ، ولا هم ينظرون.

[١٩٠] (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) دالة على صدق شعيب ، وصحة ما دعا إليه ، وبطلان رد قومه عليه. (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) مع رؤيتهم الآيات ، لأنهم لا زكاء فيهم ، ولا خير لديهم (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) (١٠٣).

[١٩١] (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي امتنع بقدرته ، عن إدراك أحد ، وقهر كل مخلوق. (الرَّحِيمُ) الذي ، الرحمة وصفه ومن آثارها ، جميع الخيرات في الدنيا والآخرة ، من حين أوجد الله العالم إلى ما لا نهاية له. ومن عزته ، أن أهلك أعداءه حين كذبوا رسله ، ومن رحمته ، أن نجّى أولياءه ومن معهم من المؤمنين.

[١٩٢] لما ذكر قصص الأنبياء مع أممهم ، وكيف دعوهم ، وما ردوا عليهم به ، وكيف أهلك الله أعداءهم ، وصارت لهم العاقبة. ذكر هذا الرسول الكريم ، والنبي المصطفى العظيم وما جاء به من الكتاب ، الذي فيه هداية لأولي الألباب فقال : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٩٢) فالذي أنزله ، فاطر الأرض والسموات ، المربّي جميع العالم ، العلوي والسفلي ، وكما أنه رباهم بهدايتهم لمصالح دنياهم وأبدانهم ، فإنه يربيهم أيضا ، بهدايتهم لمصالح دينهم وأخراهم. ومن أعظم ما رباهم به ، إنزال هذا الكتاب الكريم ، الذي اشتمل على الخير الكثير ، والبر العزير. وفيه من الهداية ، لمصالح الدارين ، والأخلاق الفاضلة ، ما ليس في غيره في قوله : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٩٢) من

٧١١

تعظيمه وشدة الاهتمام به ، من كونه نزل من الله ، لا من غيره ، مقصودا فيه نفعكم وهدايتكم.

[١٩٣] (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) (١٩٣) وهو : جبريل عليه‌السلام ، الذي هو أفضل الملائكة وأقواهم ، (الْأَمِينُ) الذي قد أمن أن يزيد فيه أو ينقص.

[١٩٤] (عَلى قَلْبِكَ) يا محمد (لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) تهدي به إلى طريق الرشاد ، وتنذر به عن طريق الغي.

[١٩٥] (بِلِسانٍ عَرَبِيٍ) وهو أفضل الألسنة ، بلغة من بعث إليهم ، وباشر دعوتهم أصلا ، اللسان البيّن الواضح. وتأمل كيف اجتمعت هذه الفضائل الفاخرة في هذا الكتاب الكريم ، فإنه أفضل الكتب ، نزل به أفضل الملائكة ، على أفضل الخلق ، على أفضل أمة أخرجت للناس ، بأفضل الألسنة وأفصحها ، وأوسعها ، وهو : اللسان العربي المبين.

[١٩٦] (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) (١٩٦) أي : قد بشرت به كتب الأولين وصدقته ، وهو لما نزل ، طبق ما أخبرت به ، صدقها ، بل جاء بالحق ، وصدق المرسلين.

[١٩٧] (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً) على صحته ، وأنه من الله (أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) الّذين قد انتهى إليهم العلم ، وصاروا أعلم الناس ، وهم أهل الصنف. فإن كل شيء يحصل به اشتباه ، يرجع فيه إلى أهل الخبرة والدراية ، فيكون قولهم حجة على غيرهم. كما عرف السحرة الّذين مهروا في علم السحر ، صدق معجزة موسى ، وأنه ليس بسحر. فقول الجاهلين بعد هذا ، لا يؤبه به.

[١٩٨ ـ ١٩٩] (وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ) (١٩٨) الّذين لا يفقهون لسانهم ، ولا يقدرون على التعبير كما ينبغي (فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) (١٩٩) يقولون : ما نفقه ما يقول ، ولا ندري ما يدعو إليه ، فليحمدوا ربهم ، أن جاءهم على لسان أفصح الخلق ، وأقدرهم على التعبير عن المقاصد ، بالعبارات الواضحة ، وأنصحهم. وليبادروا إلى التصديق به ، وتلقّيه بالتسليم والقبول. ولكن تكذيبهم له من غير شبهة ، إن هو إلا محض الكفر والعناد ، وأمر قد توارثته الأمم المكذبة.

[٢٠٠] فلهذا قال : (كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) (٢٠٠) أي : أدخلنا التكذيب ، ونظمناه في قلوب أهل الإجرام ، كما يدخل السلك في الإبرة ، فتشربته ، وصار وصفا لها.

[٢٠١] وذلك بسبب ظلمهم وجرمهم ، فلذلك (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (٢٠١) على تكذيبهم.

[٢٠٢] (فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (٢٠٢) أي : يأتيهم على حين غفلة ، وعدم إحساس منهم ، ولا استشعار بنزوله ، ليكون أبلغ في عقوبتهم والنكال بهم.

[٢٠٣] (فَيَقُولُوا) إذ ذاك : (هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ) أي : يطلبون أن ينظروا ويمهلوا ، والحال إنه قد فات الوقت ، وحل بهم العذاب ، الذي لا يرفع عنهم ، ولا يفتّر ساعة.

[٢٠٤] يقول تعالى : (أَفَبِعَذابِنا) وهو العذاب الأليم العظيم ، الذي لا يستهان به ، ولا يحتقر ، (يَسْتَعْجِلُونَ) فما الذي غرهم؟ هل فيهم قوة وطاقة ، للصبر عليه؟ ، أم عندهم قوة يقدرون بها على دفعه ، أو رفعه ، إذا نزل؟ ، أم يعجزوننا ، ويظنون أننا ، لا نقدر على ذلك.

[٢٠٥ ـ ٢٠٦] (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ) (٢٠٥) أي : أفرأيت إذا لم نستعجل عليهم ، بإنزال العذاب ، وأمهلناهم عدة سنين ، يتمتعون في الدنيا (ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ) (٢٠٦) من

٧١٢

العذاب.

[٢٠٧] (ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) (٢٠٧) من اللذات ، والشهوات ، أي : أي شيء يغني عنهم ، ويفيدهم ، وقد مضت اللذات ، وبطلت ، واضمحلت ، وأعقبت تبعا لها ، وضوعف لهم العذاب عند طول المدة. القصد أن الحذر ، من وقوع العذاب ، واستحقاقهم له. وأما تعجيله وتأخيره ، فلا أهمية تحته ، ولا جدوى عنده.

[٢٠٨] يخبر تعالى عن كمال عدله ، في إهلاك المكذبين ، وأنه ما أوقع بقرية ، هلاكا وعذابا ، إلا بعد أن يعذر منهم ، ويبعث فيه النّذر بالآيات البينات ، فيدعونهم إلى الهدى ، وينهونهم عن الردى ، ويذكرونهم بآيات الله ، وينبهونهم على أيامه في نعمه ونقمه.

[٢٠٩] (ذِكْرى) لهم وإقامة حجة عليهم. (وَما كُنَّا ظالِمِينَ) فنهلك القرى ، قبل أن ننذرهم ، ونأخذهم ، وهم غافلون عن النذر ، كما قال تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) ، (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ).

[٢١٠ ـ ٢١١] ولما بين تعالى ، كمال القرآن وجلالته ، نزهه عن كل صفة نقص ، وحماه ـ وقت نزوله ، وبعد نزوله ـ من شياطين الجن والإنس فقال : (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ) أي : لا يليق بحالهم ولا يناسبهم (وَما يَسْتَطِيعُونَ) ذلك.

[٢١٢] (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) (٢١٢) قد : أبعدوا عنه ، وأعدت لهم الرجوم لحفظه ، ونزل به جبريل ، أقوى الملائكة ، الذي لا يقدر شيطان أن يقربه ، أو يحوم حول ساحته ، وهذا كقوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٩).

[٢١٣] ينهى تعالى رسوله أصلا ، وأمته أسوة له في ذلك ، عن دعاء غير الله ، من جميع المخلوقين ، وأن ذلك موجب للعذاب الدائم ، والعقاب السرمدي ، لكونه شركا ، (مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ) ، والنهي عن الشيء ، أمر بضده ، فالنهي عن الشرك ، أمر بإخلاص العبادة وحده لا شريك له ، محبة ، وخوفا ، ورجاء ، وذلا ، وإنابة إليه في جميع الأوقات.

[٢١٤] ولما أمره بما فيه كمال نفسه ، أمره بتكميل غيره فقال : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (٢١٤) الّذين هم أقرب الناس إليك ، وأحقهم بإحسانك الديني والدنيوي ، وهذا لا ينافي أمره بإنذار جميع الناس. كما إذا أمر الإنسان بعموم الإحسان ، ثمّ قيل له «أحسن إلى قرابتك» ، فيكون هذا الخصوص ، دالا على التأكيد ، وزيادة الحث. فامتثل صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، هذا الأمر الإلهي ، فدعا سائر بطون قريش ، فعمم وخصص ، وذكرهم ووعظهم ، ولم يبق صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من مقدوره شيئا ، من نصحهم ، وهدايتهم ، إلا فعله ، فاهتدى من اهتدى ، وأعرض من أعرض.

[٢١٥ ـ ٢١٦] (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢١٥) بلين جانبك ، ولطف خطابك لهم ، وتوددك ، وتحببك إليهم ، وحسن خلقك والإحسان التام بهم. وقد فعل صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ذلك كما قال تعالى : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ

٧١٣

وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) ، فهذه أخلاقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أكمل الأخلاق ، التي يحصل به من المصالح العظيمة ، ودفع المضار ، ما هو مشاهد. فهل يليق بمؤمن بالله ورسوله ، ويدّعي اتباعه والاقتداء به ، أن يكون كلا على المسلمين ، شرس الأخلاق ، شديد الشكيمة ، غليظ القلب ، فظّ القول ، فظيعه؟. وإن رأى منهم معصية ، أو سوء أدب ، هجرهم ، ومقتهم ، وأبغضهم ، لا لين عنده ، ولا أدب لديه ، ولا توفيق. قد حصل من هذه المعاملة ، من المفاسد ، وتعطيل المصالح ، ما حصل ، ومع ذلك تجده محتقرا ، لمن اتصف بصفات الرسول الكريم ، وقد رماه بالنفاق والمداهنة ، وذكر نفسه ورفعها ، وأعجب بعمله. فهل يعدّ هذا ، إلا من جهله ، وتزيين الشيطان ، وخدعه له ، ولهذا قال الله لرسوله : (فَإِنْ عَصَوْكَ) في أمر من الأمور ، فلا تتبرأ منهم ، ولا تترك معاملتهم ، بخفض الجناح ، ولين الجانب ، بل تبرأ من عملهم ، فعظهم عليه ، وأنصحهم ، وابذل قدرتك في ردهم عنه ، وتوبتهم منه. وهذا الدفع ، احتراز وهم من يتوهم ، أن قوله : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ) للمؤمنين ، يقتضي الرضاء بجميع ما يصدر منهم ، ماداموا مؤمنين ، فدفع هذا ، والله أعلم.

[٢١٧] أعظم مساعد للعبد على القيام بما أمر به ، الاعتماد على ربه ، والاستعانة بمولاه ، على توفيقه للقيام بالمأمور ، فلذلك أمر الله تعالى بالتوكل عليه فقال : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) (٢١٧) والتوكل هو : اعتماد القلب على الله تعالى ، في جلب المنافع ، ودفع المضار ، مع ثقته به ، وحسن ظنه بحصول مطلوبه ، فإنه عزيز رحيم ، بعزته يقدر على إيصال الخير ، ودفع الشر عن عبده ، وبرحمته به ، يفعل ذلك.

[٢١٨ ـ ٢١٩] ثمّ نبهه على الاستعانة ، باستحضار قرب الله ، والنزول في منزل الإحسان فقال : (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) (٢١٩) أي : يراك في هذه العبادة العظيمة ، التي هي الصلاة ، وقت قيامك ، وتقلبك راكعا وساجدا. خصها بالذكر ، لفضلها وشرفها ، ولأن من استحضر فيها قرب ربه ، خشع وذل ، وأكملها ، وبتكميلها ، يكمل سائر عمله ، ويستعين بها على جميع أموره.

[٢٢٠] (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لسائر الأصوات ، على اختلافها ، وتشتتها ، تنوعها ، (الْعَلِيمُ) الذي أحاط بالظواهر والبواطن ، والغيب والشهادة. فاستحضار العبد برؤية الله له في جميع أحواله ، وسمعه لكل ما ينطق به ، وعلمه بما ينطوي عليه قلبه ، من الهم ، والعزم ، والنيات ، يعينه على منزلة الإحسان.

[٢٢١] هذا جواب لمن قال من مكذبي الرسول : إن محمدا ينزل عليه شيطان. وقول من قال : إنه شاعر فقال : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ) أي : أخبركم الخبر الحقيقي ، الذي لا شك فيه ، ولا شبهة ، (عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ) ، عليه أي : بصفة الأشخاص ، الّذين تنزل عليهم الشياطين.

[٢٢٢] (تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ) أي : كذاب ، كثير القول للزور ، والإفك بالباطل ، (أَثِيمٍ) في فعله ، كثير المعاصي ، هذا الذي تنزل عليه الشياطين ، وتناسب حاله حالهم؟.

[٢٢٣] (يُلْقُونَ) عليه (السَّمْعَ) الذي يسترقونه من السماء ، (وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) أي : أكثر ما يلقون إليه ، كذب ، فيصدق واحدة ، ويكذب معها مائة ، فيختلط الحقّ بالباطل ، ويضمحل الحقّ بسبب قلته ، وعدم علمه. فهذه صفة الأشخاص ، الّذين تنزل عليهم الشياطين ، وهذه صفة وحيهم له. وأما محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فحاله مباينة لهذه الأحوال ، أعظم مباينة ، لأنه الصادق الأمين ، البار ، الراشد ، الذي جمع بين برّ القلب ، وصدق اللهجة ، ونزاهة الأفعال ، من المحرم. والوحي الذي ينزل عليه من عند الله ، ينزل محروسا محفوظا ، مشتملا على الصدق العظيم ، الذي لا شك فيه ولا ريب. فهل يستوي ـ يا أهل العقول ـ هديه وإفكهم؟. وهل يشتبهان ، إلا على مجنون ، لا يميز ، ولا يفرق بين الأشياء؟

[٢٢٤] فلما نزهه عن نزول الشياطين عليه ، برّأه أيضا من الشعر فقال : (وَالشُّعَراءُ) أي : هل أنبئكم أيضا عن

٧١٤

حالة الشعراء ، ووصفهم الثابت ، فإنهم (يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) عن طريق الهدى ، المقبلون على طريق الغي والردى. فهم في أنفسهم غاوون ، وتجد أتباعهم كل غاو ، ضال فاسد.

[٢٢٥] (أَلَمْ تَرَ) غوايتهم وشدة ضلالهم (أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ) من أودية الشعر ، (يَهِيمُونَ) فتارة في مدح ، وتارة في قدح ، وتارة يتغزلون ، وأخرى يسخرون ، ومرة يمرحون ، وآونة يحزنون ، فلا يستقر لهم قرار ، ولا يثبتون على حال من الأحوال.

[٢٢٦] (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) (٢٢٦) أي : هذا وصف الشعراء ، أنهم تخالف أقوالهم أفعالهم. فإذا سمعت الشاعر يتغزل بالغزل الرقيق ، قلت هذا أشد الناس غراما ، وقلبه فارغ من ذاك ، وإذا سمعته يمدح أو يذم ، قلت : هذا صدق ، وهو كذب. وتارة يتمدح بأفعال لم يفعلها ، وتروك لم يتركها ، وكرم لم يحم حول ساحته ، وشجاعة يعلو بها على الفرسان ، وتراه أجبن من كل جبان ، هذا وصفهم. فانظر ، هل يطابق حالة الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الراشد البار ، الذي يتبعه كل راشد ومهتد ، الذي قد استقام على الهدى ، وجانب الردى ، ولم تتناقض أفعاله؟ ، فهو لا يأمر إلا بالخير ، ولا ينهى إلا عن الشر ، ولا أخبر بشيء إلا صدق ، ولا أمر بشيء إلا كان أول الفاعلين له ، ولا نهى عن شيء إلا كان أول التاركين له. فهل تناسب حاله ، حالة الشعراء ، ويقاربهم؟ أم هو مخالف لهم من جميع الوجوه؟ فصلوات الله وسلامه ، على هذا الرسول الأكمل ، والهمام الأفضل ، أبد الآبدين ، ودهر الداهرين ، الذي ليس بشاعر ، ولا ساحر ، ولا مجنون ، لا يليق به إلا كل الكمال.

[٢٢٧] ولما وصف الشعراء بما وصفهم به ، استثنى منهم من آمن بالله ورسوله ، وعمل صالحا ، وأكثر من ذكر الله ، وانتصر من أعدائه المشركين ، من بعد ما ظلموهم. فصار شعرهم ، من أعمالهم الصالحة ، وآثار إيمانهم ، لاشتماله على مدح أهل الإيمان ، والانتصار من أهل الشرك والكفر ، والذّبّ عن دين الله ، وتبيين العلوم النافعة ، والحث على الأخلاق الفاضلة فقال : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (٢٢٧) إلى موقف وحساب ، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ، إلا أحصاها ، ولا حقا إلا استوفاه. والحمد لله ربّ العالمين. تم تفسير سورة الشعراء.

تفسير سورة النمل

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] ينبه تعالى عباده على عظمة القرآن ، ويشير إليه إشارة دالة على التعظيم فقال : (تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ) أي : هي أعلى الآيات ، وأقوى البينات ، وأوضح الدلالات ، وأبينها على أجل المطالب ، وأفضل المقاصد ،

٧١٥

وخير الأعمال ، وأزكى الأخلاق. آيات تدل على الأخبار الصادقة ، والأوامر الحسنة ، والنهي عن كل عمل وخيم ، وخلق ذميم. آيات بلغت في وضوحها وبيانها البصائر النيرة ، مبلغ الشمس للأبصار. آيات دلت على الإيمان ، ودعت للوصول إلى الإيمان ، وأخبرت عن الغيوب الماضية والمستقبلة ، طبق ما كان ويكون. آيات دعت إلى معرفة الرب العظيم ، بأسمائه الحسنى ، وصفاته العليا ، وأفعاله الكاملة. آيات عرفتنا برسله وأوليائه ، ووصفتهم حتى كأننا ننظر إليهم بأبصارنا. ولكن مع هذا لم ينتفع بها كثير من العالمين ، ولم يهتد بها جميع المعاندين ، صونا لها ، عن من لا خير فيه ولا صلاح ، ولا زكاء في قلبه. وإنّما اهتدى بها ، من خصهم الله بالإيمان ، واستنارت بذلك قلوبهم ، وصفت سرائرهم.

[٢] فلهذا قال : (هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) (٢) أي : تهديهم إلى سلوك الصراط المستقيم ، وتبين لهم ، ما ينبغي أن يسلكوه أو يتركوه ، وتبشرهم بثواب الله ، المرتب على الهداية لهذا الطريق. ربما قيل : لعله يكثر مدعو الإيمان فهل يقبل من كل أحد ادّعى أنه مؤمن ذلك؟ أم لا بد لذلك من دليل؟ وهو الحقّ ، فلذلك بيّن تعالى صفة المؤمنين فقال :

[٣] (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) فرضها ، ونفلها ، فيأتون بأفعالها الظاهرة ، من أركانها ، وشروطها ، وواجباتها ، ومستحباتها. وأفعالها الباطنة ، وهو : الخشوع الذي روحها ولبها ، باستحضار قرب الله ، وتدبر ما يقول المصلي ويفعله. (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) المفروضة لمستحقيها (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) أي : قد بلغ معهم الإيمان إلى أن وصل إلى درجة اليقين ، وهو : العلم التام ، والواصل إلى القلب ، الداعي إلى العمل. ويقينهم بالآخرة ، يقتضي كمال سعيهم لها ، وحذرهم من أسباب العذاب وموجبات العقاب ، وهذا أصل كل خير.

[٤] (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) ويكذبون بها ، ويكذبون من جاء بإثباتها. (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ) حائرين مترددين ، مؤثرين سخط الله على رضاه ، قد انقلبت عليهم الحقائق ، فرأوا الباطل حقا ، والحقّ باطلا.

[٥] (أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ) أي : أشده ، وأسوأه ، وأعظمه ، (وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) حصر الخسار فيهم ، بكونهم خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ، وخسروا الإيمان الذي دعتهم إليه الرسل.

[٦] (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) (٦) أي : وإن هذا القرآن الذي ينزل عليك ، وتتلقنه ، ينزل من عند حكيم يضع الأشياء مواضعها ، وينزلها منازلها. عليم بأسرار الأحوال ، وبواطنها كظواهرها. وإذا كان من عند (حَكِيمٍ عَلِيمٍ) علم أنه كله حكمة ومصالح للعباد ، من الذي هو أعلم بمصالحهم منهم؟

[٧] (إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً) إلى آخر قصته ، يعني : اذكر هذه الحالة الفاضلة الشريفة من أحوال موسى ابن عمران ، وابتداء الوحي إليه واصطفاءه برسالته ، وتكليم الله إياه. وذلك أنه لما مكث في مدين عدة سنين ، وسار بأهله من مدين ، متوجها إلى مصر ، فلما كان في أثناء الطريق ، ضل ، وكان في ليلة مظلمة باردة ، فقال لهم : (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) أي : أبصرت نارا من بعيد (سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) عن الطريق. (أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) أي : تستدفئون ، وهذا دليل على أنه تائه ، ومشتد برده ، هو وأهله.

٧١٦

[٨] (فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها) أي : ناداه الله تعالى وأخبره ، أن هذا محل مقدس مبارك. ومن بركته ، أن جعله الله موضعا لتكليم الله لموسى وإرساله. (وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) على أن يظن به نقص ، أو سوء ، بل هو الكامل ، في وصفه ، وفعله.

[٩] (يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٩) أي : أخبره الله أنه الله المستحق للعبادة ، وحده لا شريك له ، كما في الآية الأخرى (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) (١٤). (الْعَزِيزُ) الذي قهر جميع الأشياء ، وأذعنت له كل المخلوقات ، (الْحَكِيمُ) في أمره وخلقه. ومن حكمته ، أن أرسل عبده ، موسى بن عمران ، الذي علم الله منه ، أنه أهل لرسالته ووحيه وتكليمه. ومن عزته ، أن تعتمد عليه ، ولا تستوحش من انفرادك ، وكثرة أعدائك ، وجبروتهم. فإن نواصيهم ، بيد الله ، وحركاتهم وسكونهم ، بتدبيره.

[١٠] (وَأَلْقِ عَصاكَ) فألقاها (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌ) وهو ذكر الحيات ، سريع الحركة. (وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) ذعرا من الحية التي رأى ، على مقتضى الطبائع البشرية. فقال الله له : (يا مُوسى لا تَخَفْ) وقال في الآية الأخرى : (أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ). (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) لأن جميع المخاوف مندرجة في قضائه وقدره ، وتصريفه ، وأمره. فالذين اختصهم الله برسالته ، واصطفاهم لوحيه ، لا ينبغي لهم أن يخافوا غير الله ، خصوصا عند زيادة القرب منه ، والحظوة بتكليمه.

[١١] (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ) أي : فهذا الذي هو محل الخوف والوحشة بسبب ما أسدى من الظلم ، وما تقدم له من الجرم. وأما المرسلون ، فما لهم وللوحشة ، والخوف؟ ومع هذا ، من ظلم نفسه بمعاصي الله ، وتاب وأناب ، فبدل سيئاته حسنات ، ومعاصيه طاعات ، فإن الله غفور رحيم. فلا يبأس أحد من رحمته ومغفرته ، فإنه يغفر الذنوب جميعا ، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها.

[١٢] (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) لا برص ولا نقص ، بل بياض يبهر الناظرين شعاعه. (فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ) أي : هاتان الآيتان ، انقلاب العصا حية تسعى ، وإخراج اليد من الجيب ، فتخرج بيضاء في جملة تسع آيات ، تذهب بها ، وتدعو فرعون وقومه (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) ، فسقوا بشركهم ، وعتوهم ، وعلوهم على عباد الله ، واستكبارهم في الأرض ، بغير الحقّ. فذهب موسى عليه‌السلام إلى فرعون وملئه ، ودعاهم إلى الله تعالى ، وأراهم الآيات.

[١٣] (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً) مضيئة ، تدل على الحقّ ، ويبصر بها كما تبصر الأبصار بالشمس. (قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) لم يكفهم مجرد القول بأنه سحر ، بل قالوا : (مُبِينٌ) ظاهر لكل أحد. وهذا من أعجب العجائب ، الآيات المبصرات ، والأنوار الساطعات تجعل من بين الخزعبلات ، وأظهر السحر. هل هذا ، إلا من أعظم المكابرة ، وأوقح السفسطة.

[١٤] (وَجَحَدُوا بِها) أي كفروا بآيات الله ، جاحدين لها. (وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) أي : ليس جحدهم ، مستندا إلى الشك والريب. وإنّما جحدهم مع علمهم ، وتيقنهم بصحتها (ظُلْماً) منهم لحق ربهم ولأنفسهم. (وَعُلُوًّا) على الحقّ وعلى العباد ، وعلى الانقياد للرسل. (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) أسوأ عاقبة ، دمرهم الله وأغرقهم في البحر ، وأخزاهم ، وأورث مساكنهم المستضعفين من عباده.

[١٥] يذكر في هذا القرآن ، وينوه بمنته على داود وسليمان ابنه ، بالعلم الواسع الكثير ، بدليل التنكير ، كما قال تعالى : (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) الآية. (وَقالا) شاكرين لربهما منته ، الكبرى بتعليمهما : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) فحمدا الله على جعلهما من المؤمنين ، أهل السعادة ، وأنهما كانا من خواصهم. ولا شك أن المؤمنين أربع

٧١٧

درجات : الصالحون ، ثمّ فوقهم : الشهداء ، ثمّ فوقهم : الصديقون ، ثمّ فوقهم : الأنبياء. وداود وسليمان ، من خواص الرسل ، وإن كانا دون درجة أولي العزم الخمسة. لكنهما من جملة الرسل الفضلاء الكرام ، الّذين نوه الله بذكرهم ، ومدحهم في كتابه ، مدحا عظيما ، فحمدا الله على بلوغ هذه المنزلة. وهذا عنوان سعادة العبد ، أن يكون شاكرا لله على نعمه ، الدينية والدنيوية ، وأن يرى جميع النعم من ربه. فلا يفخر بها ولا يعجب بها ، بل يرى أنها تستحق عليه شكرا كثيرا. فلما مدحهما مشتركين ، خص سليمان ، بما خصه به ، لكون الله أعطاه ملكا عظيما ، وصار له من المجريات ، ما لم يكن لأبيه ، صلى الله عليهما وسلم ، فقال :

[١٦] (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) أي : ورث علمه ونبوته ، فانضم علم أبيه إلى علمه ، فلعله ، تعلم من أبيه ما عنده ، من العلم ، مع ما كان عليه من العلم وقت أبيه ، كما تقدم من قوله ففهمناها سليمان. وقالا : شكرا لله ، وتبجحا بإحسانه ، وتحدثا بنعمته : (يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) فكان عليه الصلاة والسّلام ، يفقه ما تقول ، وتتكلم به ، كما راجع الهدهد ، وراجعه ، وكما فهم قول النملة للنمل ، كما يأتي ، وهذا ، لم يكن لأحد غير سليمان عليه‌السلام. (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أي : أعطانا الله من النعم ، ومن أسباب الملك ، ومن السلطنة والقهر ، ما لم يؤت أحدا من الآدميين. ولهذا دعا ربه فقال : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) فسخر الله له الشياطين ، يعملون له كل ما شاء ، من الأعمال ، التي يعجز عنها غيرهم ، وسخر له الريح ، غدوها شهر ، ورواحها شهر. (إِنَّ هذا) الذي أعطانا الله ، وفضلنا ، واختصنا به (لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) الواضح الجلي ، فاعترف أكمل اعتراف بنعمة الله تعالى.

[١٧] (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) (١٧) أي : جمع له جنوده الكثيرة ، الهائلة ، المتنوعة ، من بني آدم ، ومن الجن ، والشياطين ، ومن الطيور فهم يوزعون ، يدبرون ، ويرد أولهم على آخرهم ، وينظمون غاية التنظيم ، في سيرهم ونزولهم ، وحلهم ، وترحالهم قد استعد لذلك ، وأعد له عدته. وكل هذه الجنود مؤتمرة بأمره ، لا تقدر على عصيانه ، ولا تتمرد عليه ، كما قال تعالى : (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ) أي : أعط بغير حساب ، فسار بهذه الجنود الضخمة في بعض أسفاره.

[١٨] (حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ) منبهة لرفقتها ، وبني جنسها : (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ). فنصحت هذه النملة ، وأسمعت النمل ، إما بنفسها ، ويكون الله قد أعطى النمل أسماعا خارقة للعادة ، لأن التنبيه للنمل ، الذي قد ملأ الوادي بصوت نملة واحدة ، من أعجب العجائب. وإما بأنها أخبرت من حولها من النمل ، ثمّ سرى الخبر من بعضهن لبعض ، حتى بلغ الجميع ، وأمرتهن بالحذر ، والطريق في ذلك ، وهو دخول مساكنهن. وعرفت حالة سليمان وجنوده ، وعظمة سلطانه ، واعتذرت عنهم ، أنهم إن حطموكم ، فليس عن قصد منهم ، ولا شعور ، فسمع سليمان عليه الصلاة والسّلام قولها ، وفهمه.

[١٩] (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها) إعجابا منه ، بنصح أمتها ، ونصحها ، وحسن تعبيرها. وهذا حال الأنبياء ،

٧١٨

عليهم الصلاة والسّلام ، الأدب الكامل ، والتعجب في موضعه ، وأن لا يبلغ بهم الضحك ، إلا إلى التبسم. كما كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم جلّ ضحكه ، التبسم ، فإن القهقهة ، تدل على خفة العقل ، وسوء الأدب. وعدم التبسم والعجب ، مما يتعجب منه ، يدل على شراسة الخلق ، والجبروت. والرسل منزهون عن ذلك. وقال شاكرا لله ، الذي أوصله إلى هذه الحال : (رَبِّ أَوْزِعْنِي) أي : ألهمني ووفقني (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ). فإن النعمة على الوالدين ، نعمة على الولد. فسأل ربه ، التوفيق للقيام بشكر نعمته ، الدينية ، والدنيوية ، عليه وعلى والديه. (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) أي : ووفقني أن أعمل صالحا ترضاه ، لكونه موافقا لأمرك ، مخلصا فيه ، سالما من المفسدات والمنقصات. (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ) التي منها الجنة (فِي) جملة (عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) فإن الرحمة مجعولة للصالحين ، على اختلاف درجاتهم ومنازلهم. فهذا نموذج ، ذكره الله من حالة سليمان ، عند سماعه خطاب النملة ونداءها.

[٢٠] ثمّ ذكر نموذجا آخر من مخاطبته للطير فقال : (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ) دل هذا ، على كمال عزمه وحزمه ، وحسن تنظيمه لجنوده ، وتدبيره بنفسه ، للأمور الصغار والكبار. حتى إنه لم يهمل هذا الأمر ، وهو : تفقد الطيور ، والنظر ، هل هي موجودة كلها ، أم مفقود منها شيء؟ وهذا هو المعنى للآية. ولم يصنع شيئا من قال : إنه تفقد الطير ، لينظر أين الهدهد منه ، ليدله على بعد الماء وقربه ، كما زعموا عن الهدهد ، أنه يبصر الماء تحت الأرض الكثيفة ، فإن هذا القول ، لا يدل عليه دليل ، بل الدليل العقلي واللفظي ، دال على بطلانه. أما العقلي : فإنه قد عرف بالعادة ، والتجارب ، والمشاهدات ، أن هذه الحيوانات كلها ، ليس منها شيء يبصر هذا البصر الخارق للعادة ، وينظر الماء تحت الأرض الكثيفة ، ولو كان كذلك ، لذكره الله ، لأنه من أكبر الآيات. وأما الدليل اللفظي : فلو أريد هذا المعنى ، لقال : «وطلب الهدهد لينظر له الماء ، فلما فقده قال ما قال» أو «فتش عن الهدهد ، أو بحث عنه» ونحو ذلك من العبارات. وإنّما تفقد الطير ، لينظر الحاضر منها والغائب ، ولزومها للمراكز والمواضع ، التي عينها لها. وأيضا فإن سليمان عليه‌السلام ، لا يحتاج ، ولا يضطر إلى الماء ، بحيث يحتاج لهندسة الهدهد. فإن عنده من الشياطين ، والعفاريت ، ما يحفرون له الماء ، ولو بلغ في العمق ما بلغ. وسخر الله له الريح ، غدوها شهر ، ورواحها شهر ، فكيف ـ مع ذلك ـ يحتاج إلى الهدهد؟ وهذه التفاسير ، التي توجد ، وتشتهر بها أقوال ، لا يعرف غيرها ، تنقل هذه الأقوال عن بني إسرائيل ، مجردة ، ويغفل الناقل عن مناقضتها للمعاني الصحيحة ، وتطبيقها على الأقوال ، ثمّ لا تزال تتناقل ، وينقلها المتأخر مسلما للمتقدم ، حتى يظن أنها الحقّ. فيقع من الأقوال الردية في التفاسير ، ما يقع. واللبيب الفطن ، يعرف أن هذا القرآن الكريم ، العربي المبين ، الذي خاطب الله به الخلق كلهم ، عالمهم ، وجاهلهم ، وأمرهم بالتفكر في معانيه ، وتطبيقها على ألفاظه العربية المعروفة المعاني ، التي لا تجهلها العرب العرباء ، وإذا وجد أقوالا منقولة عن غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ردها إلى هذا الأصل. فإن وافقه ، قبلها ، لكون اللفظ دالا عليها ، وإن خالفته لفظا ومعنى ، أو لفظا أو معنى ، ردها ، وجزم ببطلانها ، لأن عنده أصلا معلوما ، مناقضا لها ، وهو ما يعرفه من معنى الكلام ودلالته. والشاهد أن تفقد سليمان عليه‌السلام للطير ، وفقده الهدهد ، يدل على كمال حزمه وتدبيره للملك بنفسه ، وكمال فطنته ، حتى تفقد هذا الطائر الصغير (فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) أي : هل عدم رؤيتي إياه ، لقلة فطنتي به ، لكونه خفيا بين هذه الأمم الكثيرة؟. أم على بابها ، بأن كان غائبا من غير إذني ، ولا أمري؟.

[٢١] فحينئذ تغيظ عليه ، وتوعده فقال : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً) دون القتل ، (أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي : حجة واضحة على تخلفه. وهذا من كمال ورعه وإنصافه ، أنه لم يقسم على مجرد عقوبته ، بالعذاب أو القتل ، لأن ذلك لا يكون إلا من ذنب. وغيبته ، قد تحتمل أنها لعذر واضح ، فلذلك استثناه ، لورعه وفطنته.

٧١٩

[٢٢] (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ) ثمّ جاء ، وهذا يدل على هيبة جنوده منه ، وشدة ائتمارهم لأمره ، حتى إن هذا الهدهد ، الذي خلفه العذر الواضح ، لم يقدر على التخلف زمنا كثيرا. (فَقالَ) لسليمان (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) عندي من العلم ، علم ما أحطت به ، على علمك الواسع ، وعلو درجتك فيه. (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ) القبيلة ، المعروفة في اليمن (بِنَبَإٍ يَقِينٍ) أي : خبر متيقن.

[٢٣] ثمّ فسر هذا النبأ فقال : (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ) أي : تملك قبيلة سبأ ، وهي امرأة (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) يؤتاه الملوك ، من الأموال ، والسلاح ، والجنود ، والحصون ، والقلاع ونحو ذلك. (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) أي : كرسي ملكها ، الذي تجلس عليه ، عرش هائل. وعظم العروش ، تدل على عظمة المملكة وقوة السلطان وكثرة رجال الشورى.

[٢٤] (وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ) أي : هم مشركون يعبدون الشمس. (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) فرأوا ما هم عليه هو الحقّ. (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) لأن الذي يرى أن الذي هو عليه حق ، لا مطمع في هدايته حتى تتغير عقيدته.

[٢٥] ثمّ قال : (أَلَّا) أي : هلا (يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : يعلم الخفي الخبيء ، في أقطار السموات ، وأنحاء الأرض ، من صغار المخلوقات ، وبذور النباتات ، وخفايا الصدور. ويخرج خبء الأرض والسماء ، بإنزال المطر ، وإنبات النباتات ، ويخرج خبء الأرض عند النفخ في الصور وإخراج الأموات من الأرض ، ليجازيهم بأعمالهم (وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ).

[٢٦] (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي : لا تنبغي العبادة ، والإنابة ، والذل ، والحب ، إلا له ، لأنه المألوه ، لما له من الصفات الكاملة ، والنعم الموجبة لذلك. (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) الذي هو سقف المخلوقات ووسع الأرض والسموات. فهذا الملك ، عظيم السلطان ، كبير الشأن ، هو الذي يذل له ، ويخضع ، ويسجد له ، ويركع. فسلم الهدهد ، حين ألقي إليه هذا النبأ العظيم ، وتعجب سليمان كيف خفي عليه.

[٢٧ ـ ٢٨] وقال مثبتا لكمال عقله ورزانته : (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا) وسيأتي نصه (فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ) أي : استأخر غير بعيد (فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) إليك وما يتراجعون به.

[٢٩] فذهب به فألقاه عليها ، فقالت لقومها : (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) أي : جليل المقدار ، من أكبر ملوك الأرض.

[٣٠ ـ ٣١] ثمّ بينت مضمونه فقالت : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) (٣١) أي : لا تكونوا فوقي ، بل اخضعوا تحت سلطاني ، وانقادوا لأوامري ، وأقبلوا إليّ مسلمين. وهذا في غاية الوجازة ، مع البيان التام ، فإنه تضمن نهيهم عن العلو عليه ، والبقاء على حالهم ، التي هم عليها والانقياد لأمره ، والدخول تحت طاعته ، ومجيئهم إليه ، ودعوتهم إلى الإسلام. وفيه استحباب ابتداء الكتب بالبسملة كاملة ،

٧٢٠