تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي

تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

المؤلف:

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ١١٣٥

تعاقب في الحياة عقوبة ، لا يدنو منك أحد ، ولا يمسك أحد ، حتى إن من أراد القرب منك ، قلت : لا تمسني ، ولا تقرب مني ، عقوبة على ذلك ، حيث مس ما لم يمسه غيره ، وأجرى ما لم يجره أحد. (وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ) فتجازى بعملك ، من خير وشر. (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً) أي : العجل (لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً) ففعل موسى ذلك. فلو كان إلها ، لامتنع ممن يريده بأذى ، ويسعى له بالإتلاف ، وكان قد أشرب العجل في قلوب بني إسرائيل. فأراد موسى عليه‌السلام ، إتلافه ـ وهم ينظرون ، على وجه لا تمكن إعادته ـ وبالحرق والسحق ذريه في اليم ، ونسفه ، ليزول ما في قلوبهم من حبه ، كما زال شخصه ، ولأن في إبقائه ، محنة لأن في النفوس ، أقوى داع إلى الباطل. فلما تبين لهم بطلانه ، أخبرهم بمن يستحق العبادة وحده لا شريك له.

[٩٨ ـ ٩٩] فقال : (إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) (٩٨). أي : لا معبود إلّا وجهه الكريم ، فلا يؤله ، ولا يحبّ ، ولا يرجى ولا يخاف ، ولا يدعى إلّا هو لأنه الكامل الذي له الأسماء الحسنى ، والصفات العلى ، المحيط علمه ، بجميع الأشياء ، الذي ما من نعمة بالعباد ، إلّا منه ، ولا يدفع السوء إلّا هو. فلا إله إلّا هو ، ولا معبود سواه. يمتن الله تعالى على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بما قصه عليه من أنباء السابقين ، وأخبار السالفين ، كهذه القصة العظيمة ، وما فيها من الأحكام وغيرها ، التي لا ينكرها أحد من أهل الكتاب ، فأنت لم تدرس أخبار الأولين ، ولم تتعلم ممن دراها ، فإخبارك بالحق اليقين من أخبارهم ، دليل على أنك رسول الله حقا ، وما جئت به صدق. ولهذا قال : (وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا) أي : عطية نفيسة ومنحة جزيلة من عندنا. (ذِكْراً) وهو : هذا القرآن الكريم ، ذكر للأخبار السابقة واللاحقة ، وذكر يتذكر به ما لله تعالى من الأسماء ، والصفات الكاملة ، ويتذكر به أحكام الأمر والنهي ، وأحكام الجزاء. وهذا مما يدل على أن القرآن مشتمل على أحسن ما يكون من الأحكام ، التي تشهد العقول والفطر ، بحسنها ، وكمالها ، ويذكر هذا القرآن ما أودع الله فيها. وإذا كان القرآن ذكرا للرسول ولأمته ، فيجب تلقيه بالقبول والتسليم ، والانقياد ، والتعظيم ، وأن يهتدى بنوره إلى الصراط المستقيم ، وأن يقبلوا عليه بالتعلم والتعليم. وأما مقابلته بالإعراض ، أو ما هو أعم منه من الإنكار فإنه كفر لهذه النعمة ، ومن فعل ذلك ، فهو مستحق للعقوبة.

[١٠٠] ولهذا قال : (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ) فلم يؤمن به ، أو تهاون بأوامره ونواهيه ، أو بتعلم معانيه الواجبة (فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً) وهو ذنبه ، الذي بسببه ، أعرض عن القرآن وأولاه الكفر والهجران.

[١٠١] (خالِدِينَ فِيهِ) أي : في وزرهم ، لأن العذاب هو نفس الأعمال ، تنقلب عذابا على أصحابها ، بحسب صغرها وكبرها. (وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً) أي : بئس الحمل الذي يحملونه ، والعذاب الذي يعذبونه يوم القيامة.

[١٠٢ ـ ١٠٥] ثمّ استطرد ، فذكر أحوال يوم القيامة وأهواله فقال : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) إلى (إِلَّا يَوْماً). أي : إذا نفخ في الصور ، وخرج الناس من قبورهم كلّ على حسب حاله ، فالمتقون يحشرون إلى الرحمن وفدا ، والمجرمون

٦٠١

يحشرون زرقا ألوانهم من الخوف والقلق ، والعطش ، يتناجون بينهم ، ويتخافتون في قصر مدة الدنيا ، وسرعة الآخرة ، فيقول بعضهم : ما لبثتم إلّا عشرة أيام ، ويقول بعضهم غير ذلك ، والله يعلم تخافتهم ، ويسمع ما يقولون (إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً) ، أي : أعدلهم وأقربهم إلى التقدير (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً). المقصود من هذا ، الندم العظيم ، كيف ضيعوا الأوقات القصيرة ، وقطعوها ساهين لاهين ، معرضين عما ينفعهم ، مقبلين على ما يضرهم ، فها قد حضر الجزاء ، وحق الوعيد ، فلم يبق إلّا الندم والدعاء ، بالويل والثبور. كما قال تعالى : (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (١١٤).

[١٠٥ ـ ١٠٧] يخبر تعالى عن أهوال القيامة ، وما فيها من الزلازل والقلاقل ، فقال : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ) أي : ماذا يصنع بها يوم القيامة ، وهل تبقى بحالها أم لا؟ (فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) أي : يزيلها ويقلعها من أماكنها فتكون كالعهن ، وكالرمل ، ثمّ يدكها فيجعلها هباء منبثا ، فتضمحل وتتلاشى ، ويسويها بالأرض ، ويجعل الأرض قاعا صفصفا ، مستويا لا يرى فيها الناظر (عِوَجاً) ، هذا من تمام استوائها (وَلا أَمْتاً) أي : أودية وأماكن منخفضة ، أو مرتفعة ، فتبرز الأرض ، وتتسع للخلائق ويمدها الله مدّ الأديم ، فيكونون في موقف واحد ، يسمعهم الداعي ، وينفذهم البصر.

[١٠٨] ولهذا قال : (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ) وذلك حين يبعثون من قبورهم ، ويقومون منها ، يدعوهم الداعي إلى الحضور والاجتماع للموقف ، فيتبعون مهطعين إليه ، لا يلتفتون عنه ، ولا يعرجون يمنة ولا يسرة. وقوله : (لا عِوَجَ لَهُ) أي : لا عوج لدعوة الداعي بل تكون دعوته حقا وصدقا ، لجميع الخلق ، يسمعهم جميعهم ، ويصيح لهم أجمعين ، فيحضرون لموقف القيامة ، خاشعة أصواتهم للرحمن. (فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) أي : إلّا وطء الأقدام ، أو المخافتة سرا بتحريك الشفتين فقط ، يملكهم الخشوع والسكوت ، والإنصات ، انتظارا لحكم الرحمن فيهم ، وتعنو وجوههم أي : تذل وتخضع ، فترى في ذلك الموقف العظيم ، الأغنياء والفقراء ، والرجال والنساء ، والأحرار والأرقاء ، والملوك والسوقة ، ساكتين منصتين ، خاشعة أبصارهم ، خاضعة رقابهم ، جاثين على ركبهم ، عانية وجوههم ، لا يدرون ماذا ينفصل كل منهم به ، ولا ماذا يفعل به ، قد اشتغل كلّ بنفسه وشأنه ، عن أبيه وأخيه ، وصديقه وحبيبه (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (٣٧) ، يحكم فيه الحاكم العدل الديان ، ويجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بالحرمان. والأمل بالرب الكريم ، الرحمن الرحيم ، أن يرى الخلائق منه ، من الفضل والإحسان ، والعفو والصفح والغفران ، ما لا تعبر عنه الألسنة ، ولا تتصوره الأفكار. ويتطلع لرحمته إذ ذاك ، جميع الخلق لما يشاهدونه فيختص المؤمنون به وبرسله ، بالرحمة ، فإن قيل : من أين لكم هذا الأمل؟ وإن شئت قلت : من أين لكم هذا العلم بما ذكر؟ قلنا : لما نعلمه من غلبة رحمته لغضبه ، ومن سعة جوده ، الذي عم جميع البرايا ، ومما نشاهده في أنفسنا وفي غيرنا ، من النعم المتواترة في هذه الدار ، وخصوصا في فضل القيامة ، فإن قوله : (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ) ، (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) مع قوله : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) مع قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لله مائة رحمة أنزل لعباده رحمة ، بها يتراحمون ويتعاطفون ، حتى إن البهيمة ترفع حافرها عن ولدها ، خشية أن تطأه ، من الرحمة المودعة في قلبها ، فإذا كان يوم القيامة ضم هذه الرحمة إلى تسع وتسعين رحمة ، فرحم بها العباد». مع قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الله أرحم بعباده من الوالدة بولدها» ، فقل ما شئت عن رحمته ، فإنها فوق ما تقول ، وتصور فوق ما شئت ، فإنها فوق ذلك ، فسبحان من رحم في عدله وعقوبته ، كما رحم في فضله وإحسانه ومثوبته. وتعالى من وسعت رحمته كل شيء ، وعم كرمه كل حي وجلّ من غني عن عباده ، رحيم بهم ، وهم مفتقرون إليه على الدوام ، في جميع أحوالهم ، فلا غنى لهم عنه ، طرفة عين.

[١٠٩ ـ ١١٢] وقوله : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) (١٠٩) أي : لا يشفع أحد عنده

٦٠٢

من الخلق ، إلا من أذن له في الشفاعة ، ولا يأذن إلا لمن رضي قوله ، أي : شفاعته ، من الأنبياء والمرسلين ، وعباده المقربين ، فيمن ارتضى قوله ، وهو المؤمن المخلص ، فإذا اختل واحد من هذه الأمور ، فلا سبيل لأحد إلى شفاعة من أحد. وينقسم الناس في ذلك الموقف قسمين : ظالمين بكفرهم فهؤلاء ، لا ينالهم إلا الخيبة والحرمان ، والعذاب الأليم في جهنم ، وسخط الديان. والقسم الثاني : من آمن الإيمان المأمور به ، وعمل صالحا ، من واجب ومسنون (فَلا يَخافُ ظُلْماً) أي : زيادة في سيئاته (وَلا هَضْماً) أي : نقصا من حسناته ، بل تغفر ذنوبه ، وتطهر عيوبه ، وتضاعف حسناته ، (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً).

[١١٣] أي : وكذلك أنزلنا هذا الكتاب ، باللسان الفاضل العربي ، الذي تفهمونه وتفقهونه ، ولا يخفى عليكم لفظه ، ولا معناه. (وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ) أي : نوّعناها أنواعا كثيرة ، تارة بذكر أسمائه الدالة على العدل والانتقام ، وتارة بذكر المثلات التي أحلها بالأمم السابقة ، وأمر أن تعتبر بها الأمم اللاحقة ، وتارة بذكر آثار الذنوب ، وما تكسبه من العيوب ، وتارة بذكر أهوال القيامة ، وما فيها من المزعجات ، والمقلقات ، وتارة ، بذكر جهنم ، وما فيها من أنواع العذاب ، وأصناف العذاب ، كل هذا ، رحمة بالعباد ، لعلهم يتقون الله فيتركون من الشر والمعاصي ، ما يضرهم. (أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) فيعملون من الطاعات والخير ، ما ينفعهم ، فكونه عربيا ، وكونه مصرفا فيه من الوعيد ، أكبر سبب ، وأعظم داع للتقوى ، والعمل الصالح ، فلو كان غير عربي أو غير مصرف فيه ، لم يكن له هذا الأثر.

[١١٤] لما ذكر تعالى حكمه الجزائي في عباده ، وحكمه الأمري الديني ، الذي أنزل في الكتاب وكان هذا من آثار ملكه قال : (فَتَعالَى اللهُ) أي : جلّ وارتفع ، وتقدس ، عن كل نقص وآفة. (الْمَلِكُ) الذي الملك وصفه ، والخلق كلهم ، مماليك له ، وأحكام الملك القدرية والشرعية ، نافذة فيهم. (الْحَقُ) أي : وجوده ، وملكه ، وكماله ، حق ، فصفات الكمال ، لا تكون حقيقة ، إلا لذي الجلال ، ومن ذلك : الملك ، فإن غيره من الخلق ، وإن كان له ملك في بعض الأوقات ، على بعض الأشياء ، فإنه ملك قاصر باطل ، يزول ، وأما الرب ، فلا يزال ولا يزول ملكا حيا قيّوما جليلا. (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) أي : لا تبادر بتلقّف القرآن حين يتلوه عليك جبريل ، واصبر حتى يفرغ منه ، فإذا فرغ منه فاقرأه ، فإن الله قد ضمن لك جمعه في صدرك ، وقراءتك إياه. كما قال تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) (١٩). ولما كانت عجلته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، على تلقّف الوحي ومبادرته إليه ، تدل على محبته التامة للعلم ، وحرصه عليه ، أمره تعالى أن يسأله زيادة العلم ، فإن العلم خير ، وكثرة الخير مطلوبة ، وهي من الله ، والطريق إليها ، الاجتهاد ، والشوق للعلم ، وسؤال الله ، والاستعانة به ، والافتقار إليه في كل وقت. ويؤخذ من هذه الآية الكريمة ، الأدب في تلقي العلم ، وأن المستمع للعلم ، ينبغي له أن يتأنّى ويصبر ، حتى يفرغ المملي والمعلم من كلامه ، المتصل بعضه ببعض ، فإذا فرغ منه ، سأل ،

٦٠٣

إن كان عنده سؤال ، ولا يبادر بالسؤال ، وقطع كلام ملقي العلم فإنه سبب للحرمان ، وكذلك المسئول ، ينبغي له أن يستملي سؤال السائل ، ويعرف المقصود فيه قبل الجواب ، فإن ذلك سبب لإصابة الصواب.

[١١٥] أي : ولقد وصّينا آدم ، وأمرناه ، وعهدنا إليه عهدا ليقوم به ، فالتزمه ، وأذعن له ، وانقاد ، وعزم على القيام به ومع ذلك ، نسي ما أمر به ، وانتقضت عزيمته المحكمة ، فجرى عليه ما جرى ، فصار عبرة لذريته ، وصارت طبائعهم مثل طبيعة آدم ، نسي فنسيت ذريته ، وخطىء فخطئوا ، ولم يثبت على العزم المؤكد ، وهم كذلك ، وبادر بالتوبة من خطيئته ، وأقرّ بها واعترف ، فغفرت له ، ومن يشابه أباه فما ظلم.

[١١٦ ـ ١١٧] ثمّ ذكر تفصيل ما أجمله فقال : (وَإِذْ قُلْنا) إلى (فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى). أي : لما أكمل خلق آدم بيده ، وعلمه الأسماء ، وفضله ، وكرمه ، أمر الملائكة بالسجود له ، إكراما ، وتعظيما ، وإجلالا ، فبادروا بالسجود ممتثلين ، وكان بينهم إبليس ، فاستكبر عن أمر ربه ، وامتنع من السجود لآدم وقال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) فتبينت حينئذ ، عداوته البليغة لآدم وزوجه ، لما كان عدو الله ، وظهر من حسده ، ما كان سبب العداوة ، فحذر الله آدم وزوجه منه ، وقال : (فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) إذا أخرجت منها ، فإن لك فيها الرزق الهني والراحة التامة.

[١١٨ ـ ١٢٢] (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) (١١٩) أي : تصيبك الشمس بحرها ، فضمن له ، استمرار الطعام والشراب ، والكسوة ، والماء ، وعدم التعب والنصب. ولكنه نهاه عن أكل شجرة معينة فقال : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) ، فلم يزل الشيطان يوسوس لهما ، ويزين أكل الشجرة ، ويقول : (هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ) أي : التي من أكل منها خلّد في الجنة. (وَمُلْكٍ لا يَبْلى) أي : لا ينقطع ، إذا أكلت منها ، فأتاه بصورة ناصح ، وتلطف له في الكلام ، فاغتر به آدم ، فأكلا من الشجرة فسقط في أيديهما ، وسقطت كسوتهما ، واتضحت معصيتهما ، وبدا لكل منهما سوأة الآخر ، بعد أن كانا مستورين ، وجعلا يخصفان على أنفسهما من ورق أشجار الجنة ، ليستترا بذلك ، وأصابهما من الخجل ، ما الله به عليم. (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) فبادرا إلى التوبة والإنابة ، وقالا : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) ، فاجتباه ربه ، واختاره ، ويسر له التوبة (فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) فكان بعد التوبة ، أحسن منه قبلها ، ورجع كيد العدو عليه ، وبطل مكره ، فتمت النعمة عليه ، وعلى ذريته ، ووجب عليهم القيام بها ، والاعتراف ، وأن يكونوا على حذر من هذا العدو المرابط الملازم لهم ، ليلا ونهارا (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) أي : ينزع عنهما لباسهما ، ليريهما سوءاتهما ، (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ).

[١٢٣] يخبر تعالى ، أنه أمر آدم وإبليس أن يهبطا إلى الأرض ، وأن يتخذ آدم وبنوه الشيطان عدوا لهم ، فيأخذوا الحذر منه ، ويعدّوا له عدّته ويحاربوه ، وأنه سينزل عليهم كتبا ، ويرسل إليهم رسلا يبينون لهم الطريق المستقيم

٦٠٤

الموصلة إليه وإلى جنته ، ويحذرونهم من هذا العدو المبين ، وأنهم أي وقت جاءهم ذلك الهدى ، الذي هو : الكتب والرسل ، فإن من اتبعه ، اتبع ما أمر به ، واجتنب ما نهى عنه ، فإنه لا يضل في الدنيا ، ولا في الآخرة ، ولا يشقى فيهما ، بل قد هدي إلى صراط مستقيم ، في الدنيا والآخرة ، وله السعادة والأمن في الآخرة. وقد نفى عنه الخوف والحزن في آية أخرى بقوله : (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). واتباع الهدى ، بتصديق الخبر ، وعدم معارضته بالشبه ، وامتثال الأمر بأن لا يعارضه بشهوة.

[١٢٤] (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي) أي : كتابي الذي يتذكر به جميع المطالب العالية ، وأن يتركه على وجه الإعراض عنه ، أو ما هو أعظم من ذلك ، بأن يكون على وجه الإنكار له ، والكفر به (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) أي :

فإن جزاءه ، أن نجعل معيشته ضيقة مشقة ، ولا يكون ذلك إلا عذابا. وفسرت المعيشة الضنك ، بعذاب القبر ، وأنه يضيق عليه قبره ، ويحصر فيه ، ويعذب ، جزاء لإعراضه عن ذكر ربه ، وهذه إحدى الآيات الدالة على عذاب القبر. والثانية قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) الآية. والثالثة قوله : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ). والرابعة قوله عن آل فرعون (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) الآية. والذي أوجب لمن فسرها بعذاب القبر فقط من السلف ، وقصرها على ذلك ـ والله أعلم ـ آخر الآية ، وأن الله ذكر في آخرها عذاب يوم القيامة. وبعض المفسرين ، يرى أن المعيشة الضنك ، عامة في دار الدنيا ، بما يصيب المعرض عن ذكر ربه ، من الهموم ، والغموم ، والآلام ، التي هي عذاب معجل ، وفي دار البرزخ ، وفي الدار الآخرة ، لإطلاق المعيشة الضنك ، وعدم تقييدها. (وَنَحْشُرُهُ) أي : هذا المعرض عن ذكر ربه (يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) البصر على الصحيح ، كما قال تعالى : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا).

[١٢٥] قال على وجه الذل ، والمراجعة ، والتألم ، والضجر من هذه الحالة (رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ) في دار الدنيا (بَصِيراً) فما الذي صيرني إلى هذه الحالة البشعة.

[١٢٦] (قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها) بإعراضك عنها (وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) أي : تترك في العذاب. فأجيب ، بأن هذا هو عين عملك ، والجزاء ، من جنس العمل ، فكما عميت عن ذكر ربك ، وغشيت عنه ، ونسيته ، ونسيت حظك منه ، أعمى الله بصرك في الآخرة ، فحشرت إلى النار أعمى ، أصم ، أبكم ، وأعرض عنك ، ونسيك في العذاب.

[١٢٧] (وَكَذلِكَ) أي : هذا الجزاء (نَجْزِي) ه (مَنْ أَسْرَفَ) بأن تعدى الحدود ، وارتكب المحارم وجاوز ما أذن له (وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ) الدالة على جميع مطالب الإيمان دلالة واضحة صريحة ، فالله لم يظلمه ولم يضع العقوبة في غير محلها وإنّما السبب إسرافه وعدم إيمانه. (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ) من عذاب الدنيا أضعافا مضاعفة (وَأَبْقى) ، لكونه لا ينقطع ، بخلاف عذاب الدنيا فإنه منقطع ، فالواجب ، الخوف والحذر من عذاب الآخرة.

[١٢٨] أي : أفلم يهد لهؤلاء المكذبين المعرضين ، ويدلهم على سلوك طريق الرشاد ، وتجنب طريق الغي والفساد ، ما أحل الله بالمكذبين قبلهم ، من القرون الخالية ، والأمم المتتابعة ، الّذين يعرفون قصصهم ، ويتناقلون أسمارهم ، وينظرون بأعينهم ، مساكنهم من بعدهم ، كقوم هود ، وصالح ، ولوط وغيرهم ، وأنهم لما كذبوا رسلنا ، وأعرضوا عن كتبنا ، أصبناهم بالعذاب الأليم؟ فما الذي يؤمن هؤلاء ، أن يحل بهم ، ما حل بأولئك؟ (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) (٤٤) ، لا شيء من هذا كله فليس هؤلاء الكفار ، خيرا من أولئك ، حتى يدفع عنهم العذاب بخيرهم ، بل هم شر منهم ، لأنهم كفروا بأشرف الرسل ، وخير الكتب ، وليس لهم براءة مزبورة ، وعهد عند الله ، وليسوا كما يقولون ، أن جمعهم ينفعهم ، ويدفع عنهم ، بل هم أذل وأحقر من ذلك. فإهلاك القرون الماضية بذنوبهم ، من أسباب الهداية ، لكونها من الآيات الدالة على صحة رسالة الرسل ،

٦٠٥

الّذين جاؤوهم ، وبطلان ما هم عليه ، ولكن ما كل أحد ينتفع بالآيات ، إنّما ينتفع بها ، أولو النهى ، أي : العقول السليمة ، والفطر المستقيمة ، والألباب التي تزجر أصحابها عما لا ينبغي.

[١٢٩] هذه تسلية للرسول ، وتصبير له عن المبادرة إلى إهلاك المكذبين ، المعرضين ، وأن كفرهم وتكذيبهم ، سبب صالح ، لحلول العذاب بهم ، ولزومه لهم ، لأن الله جعل العقوبات ، سببا ناشئا عن الذنوب ، ملازما لها. وهؤلاء قد أتوا بالسبب ، ولكن الذي أخره عنهم ، كلمة ربك ، المتضمنة لإمهالهم وتأخيرهم ، وضرب الأجل المسمى ، فالأجل المسمى ونفوذ كلمة الله ، هو الذي أخر عنهم العقوبة إلى إبان وقتها ، ولعلهم يراجعون أمر الله ، فيتوب عليهم ، ويرفع عنهم العقوبة ، إذا لم تحق عليهم الكلمة.

[١٣٠] ولهذا أمر الله رسوله ، بالصبر على أذيتهم بالقول ، وأمره أن يتعوض عن ذلك ، ويستعين عليه ، بالتسبيح بحمد ربه ، في هذه الأوقات الفاضلة ، قبل طلوع الشمس ، وقبل غروبها ، وفي أطراف النهار ، أوله وآخره ، عموم بعد خصوص ، وأوقات الليل وساعاته ، ولعلك إن فعلت ذلك ، ترضى بما يعطيك ربك من الثواب العاجل والآجل ، وليطمئن قلبك ، وتقر عينك بعبادة ربك ، وتتسلى بها عن أذيتهم ، فيخف حينئذ عليك الصبر.

[١٣١] أي : ولا تمد عينيك معجبا ، ولا تكرر النظر مستحسنا ـ إلى أحوال الدنيا والممتعين بها ، من المآكل والمشارب اللذيذة ، والملابس الفاخرة ، والبيوت المزخرفة ، والنساء المجملة. فإن ذلك كله ، زهرة الحياة الدنيا ، تبتهج بها نفوس المغترين ، وتأخذ إعجابا ، بأبصار المعرضين ، ويتمتع بها ـ بقطع النظر عن الآخرة ـ القوم الظالمون. ثمّ تذهب سريعا ، وتمضي جميعا ، وتقتل محبيها وعشاقها ، فيندمون حيث لا تنفع الندامة ، ويعلمون ما هم عليه إذا قدموا يوم القيامة ، وإنّما جعلها الله فتنة واختبارا ، ليعلم من يقف عندها ، ويغتر بها ، ومن هو أحسن عملا كما قال تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) (٨). (وَرِزْقُ رَبِّكَ) العاجل من العلم والإيمان ، وحقائق الأعمال الصالحة ، والآجل من النعيم المقيم ، والعيش السليم في جوار الرب الرحيم (خَيْرٌ) مما متعنا به أزواجا ، في ذاته وصفاته (وَأَبْقى) لكونه لا ينقطع أكلها دائم وظلها كما قال تعالى : (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) (١٧). وفي هذه الآية ، إشارة إلى أن العبد إذا رأى من نفسه ، طموحا إلى زينة الدنيا ، وإقبالا عليها ، أن يذكر ما أمامها من رزق ربه ، وأن يوازن بين هذا وهذا.

[١٣٢] (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ) أي : حث أهلك على الصلاة وأزعجهم إليها من فرض ونفل. والأمر بالشيء ، أمر بجميع ما لا يتم إلا به ، فيكون أمرا بتعليمهم ، ما يصلح الصلاة ، ويفسدها ، ويكملها. (وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) أي : على الصلاة بإقامتها ، بحدودها ، وأركانها ، وخشوعها ، فإن ذلك ، مشق على النفس ، ولكن ينبغي إكراهها وجهادها على ذلك ، والصبر معها دائما ، فإن العبد إذا أقام صلاته على الوجه المأمور به ، كان لما سواها من دينه ، أحفظ وأقوم ، وإذا ضيعها ، كان لما سواها أضيع ، ثمّ ضمن تعالى لرسوله الرزق ، وأن لا يشغله الاهتمام به عن إقامة دينه

٦٠٦

فقال : (نَحْنُ نَرْزُقُكَ) أي : رزقك علينا ، قد تكفلنا به ، كما تكفلنا بأرزاق الخلائق ، كلهم ، فكيف بمن قام بأمرنا ، واشتغل بذكرنا؟ ورزق الله عام للمتقي وغيره. فينبغي الاهتمام ، بما يجلب السعادة الأبدية ، وهو : التقوى ، ولهذا قال : (وَالْعاقِبَةُ) في الدنيا والآخرة (لِلتَّقْوى) التي هي فعل المأمور وترك المنهي. فمن قام بها ، كان له العاقبة ، كما قال تعالى : (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).

[١٣٣ ـ ١٣٤] أي : قال المكذبون للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هلا يأتينا بآية من ربه؟ يعنون آيات الاقتراح كقولهم : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً). وهذا تعنت منهم ، وعناد وظلم ، فإنهم ، هم والرسول ، بشر عبيد لله ، فلا يليق منهم الاقتراح ، بحسب أهوائهم ، وإنّما الذي ينزلها ، ويختار منها ما يختار بحسب حكمته ، هو الله. ولما كان قولهم : (لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ) يقتضي أنه لم يأتهم بآية على صدقه ، ولا بينة على حقه ، وهذا كذب وافتراء ، فإنه أتى من المعجزات الباهرات ، والآيات القاهرات ، ما يحصل ببعضه ، المقصود. ولهذا قال : (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ) إن كانوا صادقين في قولهم ، وأنهم يطلبون الحق بدليله. (بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) أي : هذا القرآن العظيم ، المصدق لما في الصحف الأولى ، من التوراة والإنجيل ، والكتب السابقة المطابق لها ، المخبر بما أخبرت به ، وتصديقه أيضا مذكور فيها ، ومبشر بالرسول بها ، وهذا كقوله تعالى :

(أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ، فالآيات تنفع المؤمنين ، ويزداد بها إيمانهم وإيقانهم ، وأما المعرضون عنها المعارضون لها ، فلا يؤمنون بها ، ولا ينتفعون بها ، (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (٩٧) ، وإنّما الفائدة في سوقها إليهم ومخاطبتهم بها ، لتقوم عليهم حجة الله ، ولئلا يقولوا حين ينزل بهم العذاب : (لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) بالعقوبة ، فها قد جاءكم رسولي ومعه آياتي وبراهيني ، فإن كنتم كما تقولون ، فصدقوه.

[١٣٥] قل يا محمد مخاطبا للمكذبين لك الّذين يقولون تربصوا به ريب المنون (قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ) فتربصوا بي الموت ، وأنا أتربص بكم العذاب (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) أي : الظفر أو الشهادة (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا). (فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِ) أي المستقيم. (وَمَنِ اهْتَدى) بسلوكه ، أنا أم أنتم؟ فإن صاحبه ، هو الفائز الراشد ، الناجي المفلح ، ومن حاد عنه فهو خاسر خائب معذب. وقد علم أن الرسول هو الذي بهذه الحالة ، وأعداؤه ، بخلافه ، والله أعلم. تم تفسير سورة طه ولله الحمد.

تفسير سورة الأنبياء

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] هذا تعجب من حالة الناس ، وأنهم لا ينجع فيهم تذكير ، ولا يرعون إلى نذير ، وأنهم قد قرب حسابهم ، ومجازاتهم على أعمالهم الصالحة ، والحال أنهم في غفلة معرضون أي : غفلة عما خلقوا له ، وإعراض عما زجروا به. كأنهم للدنيا خلقوا ، وللتمتع بها ولدوا ، وأن الله تعالى لا يزال يجدد لهم التذكير والوعظ ، ولا يزالون في غفلتهم

٦٠٧

وإعراضهم.

[٢] ولهذا قال : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) يذكرهم ما ينفعهم ، ويحثهم عليه وما يضرهم ، ويرهبهم منه (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ) سماعا ، تقوم عليهم به الحجة. (وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) ، أي : قلوبهم غافلة معرضة بمطالبها الدنيوية وأبدانهم لاعبة ، قد اشتغلوا بتناول الشهوات ، والعمل بالباطل ، والأقوال الردية ، مع أن الذي ينبغي لهم أن يكونوا بغير هذه الصفة ، تقبل قلوبهم على أمر الله ونهيه ، وتستمعه استماعا ، تفقه المراد منه ، وتسعى جوارحهم ، في عبادة ربهم ، التي خلقوا لأجلها ، ويجعلون القيامة والحساب ، والجزاء منهم على بال ، فبذلك يتم لهم أمرهم وتستقيم أحوالهم ، وتزكوا أعمالهم. وفي معنى قوله : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) قولان : أحدهما : أن هذه الأمة ، هي آخر الأمم ، ورسولها ، آخر الرسل ، وعلى أمته تقوم الساعة ، فقد قرب الحساب منها ، بالنسبة لما قبلها ، من الأمم ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بعثت أنا والساعة كهاتين ، وقرن بين إصبعيه ، السبابة والتي تليها». والقول الثاني : أن المراد بقرب الحساب الموت ، وأن من مات ، قامت قيامته ، ودخل في دار الجزاء على الأعمال ، وأن هذا تعجب من كل غافل معرض ، لا يدري متى يفاجئه الموت ، صباحا أو مساء ، فهذه حالة الناس كلهم إلا من أدركته العناية الربانية ، فاستعد للموت وما بعده.

[٣] ثمّ ذكر ما يتناجى به الكافرون الظالمون ، على وجه العناد ، ومقابلة الحق بالباطل ، وأنهم تناجوا ، وتواطؤوا فيما بينهم ، أن يقولوا في الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إنه بشر مثلكم ، فما الذي فضله عليكم ، وخصه من بينكم ، فلو ادعى أحد منكم مثل دعواه ، لكان قوله من جنس قوله ، ولكنه يريد أن يتفضل عليكم ، ويرأس فيكم ، فلا تطيعوه ، ولا تصدقوه ، وأنه ساحر ، وما جاء به من القرآن ، سحر ، فانفروا عنه ، ونفروا الناس ، وقولوا : (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) هذا ، وهم يعلمون أنه رسول الله حقا بما يشاهدون من الآيات الباهرة ، ما لم يشاهده غيرهم ، ولكن حملهم على ذلك ، الشقاء والظلم والعناد. والله تعالى قد أحاط علما بما تناجوا به ، وسيجازيهم عليه.

[٤] ولهذا قال : (قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ) الخفي والجلي (فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي : في جميع ما احتوت عليه أقطارهما (وَهُوَ السَّمِيعُ) لسائر الأصوات ، باختلاف اللغات ، على تفنن الحاجات (الْعَلِيمُ) بما في الضمائر ، وأكنته السرائر.

[٥] يذكر تعالى ائتفاك المكذبين بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبما جاء به من القرآن العظيم ، وأنهم تقوّلوا فيه ، وقالوا فيه الأقاويل الباطلة المختلفة ، فتارة يقولون : (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) بمنزلة كلام النائم الهاذي ، الذي لا يحس بما يقول ، وتارة يقولون : (افْتَراهُ) واختلقه وتقوّله من عند نفسه ، وتارة يقولون : إنه شاعر وما جاء به شعر. وكل من له أدنى معرفة بالواقع ، من حالة الرسول ، ونظر في هذا الذي جاء به ، جزم جزما لا يقبل الشك. أنه أجل الكلام وأعلاه ، وأنه من عند الله ، وأن أحدا من البشر ، لا يقدر على الإتيان بمثل بعضه ، كما تحدى الله أعداءه بذلك ، ليعارضوه مع توفر دواعيهم لمعارضته ، وعداوته ، فلم يقدروا على شيء من معارضته ، وهم يعلمون ذلك ، وإلا ،

٦٠٨

فما الذي أقامهم ، وأقعدهم؟ وأقض مضاجعهم ، وبلبل ألسنتهم إلا الحق الذي لا يقوم له شيء؟ وإنّما يقولون هذه الأقوال فيه ، حيث لم يؤمنوا به ، تنفيرا عنه لمن لم يعرفه. وهو أكبر الآيات المستمرة ، الدالة على صحة ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصدقه ، وهو كاف شاف. فمن طلب دليلا غيره ، أو اقترح آية من الآيات سواه ، فهو جاهل ظالم مشبه لهؤلاء المعاندين الّذين كذبوه ، وطلبوا من الآيات الاقتراحية ، ما هو أضر شيء عليهم ، وليس لهم فيها مصلحة لأنهم إن كان قصدهم معرفة الحق إذا تبين دليله ، فقد تبين دليله بدونها ، وإن كان قصدهم التعجيز وإقامة العذر لأنفسهم ، إن لم يأت بما طلبوا فإنهم بهذه الحالة ـ على فرض إتيان ما طلبوا من الآيات ـ لا يؤمنون قطعا ، فلو جاءتهم كل آية ، لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم. ولهذا قال الله عنهم : (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) أي : كناقة صالح ، وعصا موسى ، ونحو ذلك.

[٦] قال الله : (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) أي : بهذه الآيات المقترحة ، وإنّما سنته تقتضي أن من طلبها ، ثمّ حصلت له لم يأمن أن يعاجله بالعقوبة. فالأولون ما آمنوا بها أفيؤمن هؤلاء بها؟ ما الذي فضلهم على أولئك وما الخير الذي فيهم ، يقتضي الإيمان عند وجودها؟ وهذا الاستفهام ، بمعنى النفي ، أي : لا يكون ذلك منهم أبدا.

[٧ ـ ٩] هذا جواب لشبه المكذبين للرسول القائلين : هلّا كان ملكا ، لا يحتاج إلى طعام وشراب ، وتصرّف في الأسواق؟ وهلّا كان خالدا؟ فإذا لم يكن كذلك ، دل على أنه ليس برسول. وهذه الشبه ما زالت في قلوب المكذبين للرسل ، تشابهوا في الكفر ، فتشابهت أقوالهم ، فأجاب تعالى عن هذه الشبه لهؤلاء المكذبين للرسول ، المقرين بإثبات الرسل قبله ، ولو لم يكن إلا إبراهيم عليه‌السلام ، الذي قد أقر بنبوته جميع الطوائف. والمشركون ، يزعمون أنهم على دينه وملته ـ بأن الرسل قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كلهم من البشر ، الّذين يأكلون الطعام ، ويمشون في الأسواق ، وتطرأ عليهم العوارض البشرية ، من الموت وغيره ، وأن الله أرسلهم إلى قومهم وأممهم ، فصدقهم من صدقهم ، وكذبهم من كذبهم ، وأن الله صدقهم ما وعدهم به من النجاة ، والسعادة لهم ، ولأتباعهم ، وأهلك المسرفين المكذبين لهم. فما بال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تقام الشبه الباطلة على إنكار رسالته وهي موجودة في إخوانه المرسلين ، الّذين يقرّ بهم المكذبون لمحمد؟ فهذا إلزام لهم ، في غاية الوضوح ، وأنهم إن أقروا برسول من البشر ، ولن يقروا برسول من غير البشر ، فإن شبههم باطلة ، قد أبطلوها بإقرارهم بفسادها ، وتناقضهم بها ، فلو قدر انتقالهم هذا إلى إنكار نبوة البشر رأسا ، وأنه لا يكون نبي إن لم يكن ملكا مخلّدا ، لا يأكل الطعام ، فقد أجاب الله عن هذه الشبهة بقوله : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ). وأن البشر لا طاقة لهم بتلقي الوحي من الملائكة (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) (٩٥) ، فإن حصل معكم شك وعدم علم بحالة الرسل المتقدمين (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) من الكتب السالفة ، كأهل التوراة والإنجيل ، يخبروكم بما عندهم من العلم ، وأنهم كلهم بشر من جنس المرسل إليهم. وهذه الآية وإن

٦٠٩

كان سببها خاصا بالسؤال عن حالة الرسل المتقدمين من أهل الذكر ، وهم أهل العلم ، فإنها عامة في كل مسألة من مسائل الدين ، أصوله وفروعه ، إذا لم يكن عند الإنسان علم منها ، أن يسأل من يعلمها. ففيه الأمر بالتعلم والسؤال لأهل العلم ، ولم يؤمر بسؤالهم ، إلا لأنه يجب عليهم التعليم والإجابة عما علموه.

وفي تخصيص السؤال بأهل الذكر والعلم ، نهي عن سؤال المعروف بالجهل ، وعدم العلم ، ونهي له أن يتصدى لذلك ، وفي هذه الآية ، دليل على أن النساء ليس منهن نبية ، لا مريم ولا غيرها ، لقوله : (إِلَّا رِجالاً).

[١٠] أي : لقد أنزلنا إليكم ـ أيها المرسل إليهم ، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ـ كتابا جليلا ، وقرآنا مبينا (فِيهِ ذِكْرُكُمْ) أي : شرفكم وفخركم ، وارتفاعكم ، إن تذكرتم به ، ما فيه من الأخبار الصادقة ، فاعتقدتموها ، وامتثلتم ما فيه من الأوامر ، واجتنبتم ما فيه من النواهي ، وارتفع قدركم ، وعظم أمركم. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) ما ينفعكم وما يضركم؟ كيف لا تعملون على ما فيه ذكركم ، وشرفكم في الدنيا والآخرة ، فلو كان لكم عقل ، لسلكتم ، هذا السبيل. فلما لم تسلكوه ، وسلكتم غيره ، من الطرق ، التي فيها ضعتكم وخسّتكم في الدنيا والآخرة وشقاوتكم فيهما ، علم أنه ليس لكم معقول صحيح ، ولا رأي رجيح. وهذه الآية ، مصداقها ما وقع. فإن المؤمنين بالرسول ، والّذين تذكروا بالقرآن ، من الصحابة ، فمن بعدهم ، حصل لهم من الرفعة والعلو الباهر ، والصيت العظيم ، والشرف على الملوك ، ما هو أمر معلوم لكل أحد. كما أنه معلوم ما حصل ، لمن لم يرفع بهذا القرآن رأسا ، ولم يهتد ، ولم يتزكّ به ، من المقت والضعة ، والتدسية ، والشقاوة ، فلا سبيل إلى سعادة الدنيا والآخرة ، إلا بالتذكر بهذا الكتاب.

[١١ ـ ١٢] يقول تعالى ـ محذرا لهؤلاء الظالمين ، المكذبين للرسول ، بما فعل بالأمم المكذبة لغيره من الرسل ـ (وَكَمْ قَصَمْنا) أي : أهلكنا بعذاب مستأصل (مِنْ قَرْيَةٍ) تلفت عن آخرها (وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ) وأن هؤلاء المهلكين ، لما أحسوا بعذاب الله وعقابه ، وباشرهم نزوله ، لم يمكن لهم الرجوع ولا طريق لهم إلى النزوع ، وإنّما ضربوا الأرض بأرجلهم ، ندما ، وقلقا ، وتحسروا على ما فعلوا.

[١٣] فقيل لهم على وجه التهكم بهم : (لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) (١٣) أي : لا يفيدكم الركض والندم ، ولكن إن كان لكم اقتدار ، فارجعوا إلى ما أترفتم فيه ، من اللذات ، والمشتهيات ، ومساكنكم المزخرفات ، ودنياكم التي غرتكم وألهتكم ، حتى جاءكم أمر الله. فكونوا فيها متمكنين ، وللذاتها جانين ، وفي منازلكم مطمئنين معظمين ، لعلكم أن تكونوا مقصودين في أموركم ، كما كنتم سابقا ، مسؤولين من مطالب الدنيا ، كحالتكم الأولى ، وهيهات ، أين الوصول إلى هذا؟ وقد فات الوقت ، وحل بهم العقاب والمقت ، وذهب عنهم عزهم ، وشرفهم ودنياهم ، وحضرهم ندمهم وتحسرهم؟

[١٤ ـ ١٥] ولهذا (قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ) أي : الدعاء بالويل والثبور ، والندم ، والإقرار على أنفسهم بالظلم وأن الله عادل فيما أحل بهم. (حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ) أي : بمنزلة النبات الذي قد حصد وأنيم ، قد خمدت منهم الحركات ، وسكنت منهم الأصوات ، فاحذروا ـ أيها المخاطبون ـ أن تستمروا على تكذيب أشرف الرسل ، فيحل بكم كما حل بأولئك.

[١٦] يخبر تعالى أنه ما خلق السموات والأرض عبثا ، ولا لعبا من غير فائدة بل خلقها بالحق وللحق ، ليستدل بها العباد على أنه الخالق العظيم ، المدبر الحكيم ، الرحمن الرحيم ، الذي له الكمال كله ، والحمد كله ، والعزة كلها ، الصادق في قيله ، الصادقة رسله ، فيما تخبر عنه ، وأن القادر على خلقهما مع سعتهما وعظمهما ، قادر على إعادة الأجساد بعد موتها ، ليجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته.

[١٧] (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً) على الفرض والتقدير المحال (لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) أي : من عندنا (إِنْ كُنَّا

٦١٠

فاعِلِينَ) ولم نطلعكم على ما فيه عبث ولهو ، لأن ذلك نقص ومثل سوء ، لا نحب أن نريه إياكم. فالسموات والأرض اللذان بمرأى منكم على الدوام ، لا يمكن أن يكون القصد منهما العبث واللهو. كل هذا تنزّل مع العقول الصغيرة وإقناعها بجميع الوجوه المقنعة ، فسبحان الحليم الرحيم ، الحكيم ، في تنزيله الأشياء منازلها.

[١٨] يخبر تعالى ، أنه تكفل بإحقاق الحق وإبطال الباطل ، وإن كان باطل قبل وجوده ، فإن الله ينزل من الحق والعلم والبيان ، ما يدمغه فيضمحل ، ويتبين لكل أحد بطلانه (فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) ، أي : مضمحل ، فان ، وهذا عام في جميع المسائل الدينية ، لا يورد مبطل ، شبهة ، عقلية ولا نقلية ، في إحقاق باطل ، أو رد حق ، إلا وفي أدلة الله ، من القواطع العقلية والنقلية ، ما يذهب ذلك القول الباطل ويقمعه فإذا هو متبين بطلانه لكل أحد. وهذا يتبين باستقراء المسائل ، مسألة مسألة ، فإنك تجدها كذلك. ثمّ قال : (وَلَكُمُ) أيها الواصفون الله ، بما لا يليق به ، من اتخاذ الولد والصاحبة ، ومن الأنداد والشركاء ، حظكم من ذلك ، ونصيبكم الذي تدركون به (الْوَيْلُ) والندامة والخسران. ليس لكم مما قلتم فائدة ، ولا يرجع عليكم بعائدة تؤملونها ، وتعملون لأجلها ، وتسعون في الوصول إليها ، إلا عكس مقصودكم ، وهو : الخيبة والحرمان. ثمّ أخبر أنه له ملك السموات والأرض وما بينهما ، فالكل عبيده ومماليكه ، فليس لأحد منهم ملك ولا قسط من الملك ، ولا معاونة عليه ، ولا يشفع إلا بإذن الله ، فكيف يتخذ من هؤلاء آلهة وكيف يجعل لله منها ولد؟

[١٩] فتعالى وتقدس ، المالك العظيم ، الذي خضعت له الرقاب ، وذلّت له الصعاب ، وخشعت له الملائكة المقربون ، وأذعنوا له بالعبادة الدائمة المستمرة ، أجمعون. ولهذا قال : (وَمَنْ عِنْدَهُ) أي : الملائكة (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) أي : لا يملون ولا يسأمون ، لشدة رغبتهم ، وكمال محبتهم ، وقوة أبدانهم.

[٢٠] (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) (٢٠) أي : مستغرقون في العبادة والتسبيح في جميع أوقاتهم فليس في أوقاتهم وقت فارغ ولا خال منها وهم على كثرتهم بهذه الصفة ، وفي هذا من بيان عظمته وجلالة سلطانه وكمال علمه وحكمته ، ما يوجب أن لا يعبد إلا هو ، ولا تصرف العبادة لغيره.

[٢١] لما بيّن تعالى كمال اقتداره وعظمته ، وخضوع كل شيء له ، أنكر على المشركين الّذين اتخذوا من دون الله آلهة من الأرض ، في غاية العجز وعدم القدرة (هُمْ يُنْشِرُونَ). استفهام بمعنى النفي ، أي : لا يقدرون على نشرهم وحشرهم ، يفسرها قوله تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) ، (وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) ... (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) (٧٥). فالمشرك يعبد المخلوق ، الذي لا ينفع ولا يضر ، ويدع الإخلاص لله ، الذي له الكمال كله وبيده الأمر والنفع والضر.

[٢٢ ـ ٢٣] وهذا من عدم توفيقه ، وسوء حظه ، وتوفّر جهله ، وشدة ظلمه ، فإنه لا يصلح الوجود ، إلا على

٦١١

إله واحد ، كما أنه لم يوجد ، إلا برب واحد. ولهذا قال : (لَوْ كانَ فِيهِما) أي : في السموات والأرض (آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) في ذاتهما ، وفسد من فيهما ، من المخلوقات. وبيان ذلك : أن العالم العلوي والسفلي ، على ما يرى ، في أكمل ما يكون من الصلاح والانتظام ، الذي ما فيه خلل ولا عيب ، ولا ممانعة ، ولا معارضة ، فدل ذلك على أن مدبره واحد ، وربه واحد ، وإلهه واحد ، فلو كان له مدبران وربان أو أكثر من ذلك ، لاختل نظامه ، وتقوضت أركانه ، فإنهما يتمانعان ويتعارضان ، وإذا أراد أحدهما تدبير شيء ، وأراد الآخر عدمه ، فإنه محال وجود مرادهما معا. ووجود مراد أحدهما دون الآخر ، يدل على عجز الآخر ، وعدم اقتداره واتفاقهما على مراد واحد في جميع الأمور ، غير ممكن. فإذا ، يتعين أن القاهر الذي يوجد مراده وحده ، من غير ممانع ولا مدافع ، هو الله الواحد القهار ، ولهذا ذكر الله دليل التمانع في قوله : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (٩١). ومنه ـ على أحد التأويلين ـ قوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً) (٤٣). ولهذا قال هنا : (فَسُبْحانَ اللهِ) أي : تنزه وتقدس عن كل نقص لكماله وحده. (رَبِّ الْعَرْشِ) الذي هو سقف المخلوقات وأوسعها ، وأعظمها ، فربوبية ما دونه من باب أولى. (عَمَّا يَصِفُونَ) أي : الجاحدون الكافرون ، من اتخاذ الولد والصاحبة ، وأن يكون له شريك بوجه من الوجوه. (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) لعظمته وعزته ، وكمال قدرته ، لا يقدر أحد أن يمانعه أو يعارضه ، لا بقول ، ولا بفعل. ولكمال حكمته ووضعه الأشياء مواضعها وإتقانها ، أحسن كل شيء يقدره العقل ، فلا يتوجه إليه سؤال ، لأن خلقه ليس فيه خلل ولا إخلال. (وَهُمْ) أي : المخلوقون كلهم (يُسْئَلُونَ) عن أفعالهم وأقوالهم ، لعجزهم وفقرهم ، ولكونهم عبيدا ، قد استحقت أفعالهم وحركاتهم فليس لهم من التصرف والتدبير في أنفسهم ، ولا في غيرهم ، مثقال ذرة.

[٢٤] ثمّ رجع إلى تهجين حال المشركين ، وأنهم اتخذوا من دونه آلهة فقال لهم موبخا ومقرعا (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أي : حجتكم ودليلكم على صحة ما ذهبتم إليه ، ولن يجدوا لذلك سبيلا بل قد قامت الأدلة القطعية على بطلانه ، ولهذا قال : (هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) أي : قد اتفقت الكتب والشرائع على صحة ما قلت لكم ، من إبطال الشرك ، فهذا كتاب الله الذي فيه ذكر كل شيء ، بأدلته العقلية والنقلية ، وهذه الكتب السابقة كلها ، براهين وأدلة لما قلت. ولما علم أنهم قامت عليهم الحجة والبرهان على بطلان ما ذهبوا ليه ، علم أنه لا برهان لهم ، لأن البرهان القاطع ، يجزم أنه لا معارض له ، وإلا لم يكن قطعيا ، وإن وجد معارضات ، فإنه شبه لا تغني من الحق شيئا. وقوله : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَ) أي : وإنّما أقاموا على ما هم عليه ، تقليدا لأسلافهم يجادلون بغير علم ولا هدى ، وليس عدم علمهم بالحق لخفائه وغموضه ، وإنّما ذلك ، لإعراضهم عنه ، وإلا فلو التفتوا إليه أدنى التفات ، لتبين لهم الحق من الباطل تبينا واضحا جليا ، ولهذا قال : (فَهُمْ مُعْرِضُونَ).

[٢٥] ولما حول تعالى على ذكر المتقدمين ، وأمر بالرجوع إليهم في بيان هذه المسألة ، بيّنها أتم تبيين في قوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (٢٥). فكل الرسل ، الّذين من قبلك مع كتبهم ، زبدة رسالتهم وأصلها ، الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له ، وبيان أنه الإله الحق المعبود ، وأن عبادة ما سواه ، باطلة.

[٢٦] يخبر تعالى عن سفاهة المشركين المكذبين للرسول ، وأنهم زعموا ـ قبحهم الله ـ أن الله اتخذ ولدا فقالوا : الملائكة بنات الله ، تعالى الله عن قولهم. وأخبر عن وصف الملائكة ، بأنهم عبيد مربوبون مدبرون ، ليس لهم من الأمر شيء ، وإنّما هم مكرمون عند الله ، قد ألزمهم الله ، وصيرهم من عبيد كرامته ورحمته ، وذلك لما خصهم به من الفضائل والتطهير عن الرذائل ، وأنهم في غاية الأدب مع الله ، والامتثال لأوامره.

٦١٢

[٢٧] (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) أي : لا يقولون قولا مما يتعلق بتدبير المملكة ، حتى يقول الله ، لكمال أدبهم ، وعلمهم بكمال حكمته وعلمه. (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) أي : مهما أمرهم ، امتثلوا لأمره ، ومهما دبرهم عليه ، فعلوه. فلا يعصونه طرفة عين ، ولا يكون لهم عمل بأهواء أنفسهم من دون أمر الله ، ومع هذا ، فالله قد أحاط بهم علمه.

[٢٨] (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أي : أمورهم الماضية والمستقبلة ، فلا خروج لهم عن علمه ، كما لا خروج لهم عن أمره وتدبيره. ومن جزئيات وصفهم بأنهم لا يسبقونه بالقول ، وأنهم لا يشفعون لأحد بدون إذنه ، ورضاه ، فإذا أذن لهم ، وارتضى من يشفعون فيه ، شفعوا فيه ، ولكنه تعالى لا يرضى من القول والعمل ، إلا ما كان خالصا لوجهه ، متبعا فيه الرسول. وهذه الآية من أدلة إثبات الشفاعة ، وأن الملائكة يشفعون. (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) أي : خائفون وجلون ، قد خضعوا لجلاله ، وعنت وجوههم لعزه وجماله.

[٢٩] فلما بين أنه لا حق لهم في الألوهية ، ولا يستحقون شيئا من العبودية بما وصفهم به من الصفات المقتضية لذلك ـ ذكر أيضا أنه لا حظ لهم ، من الألوهية ، ولا بمجرد الدعوى ، وأن من قال منهم : (إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ) على سبيل الفرض والتنزل (فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ). وأي : ظلم أعظم من ادعاء المخلوق الناقص ، الفقير إلى الله من جميع الوجوه ، مشاركته الله في خصائص الإلهية والربوبية؟!!

[٣٠] أي : أو لم ينظر هؤلاء الّذين كفروا بربهم ، وجحدوا الإخلاص له في العبودية ، ما يدلهم دلالة مشاهدة ، على أنه الرب المحمود الكريم المعبود ، فيشاهدون السماء والأرض ، فيجدونهما رتقا : هذه ليس فيها سحاب ولا مطر. وهذه هامدة ميتة ، لا نبات فيها ، ففتقناهما : السماء بالمطر ، والأرض بالنبات ، أليس الذي أوجد في السماء السحاب ، بعد أن كان الجو صافيا لا قزعة فيه ، وأودع فيه الماء الغزير ، ثمّ ساقه إلى بلد ميت ؛ قد اغبرّت أرجاؤه ، وقحط عنه ماؤه ، فأمطره فيها ، فاهتزت ، وتحركت ، وربت ، وأنبتت من كل زوج بهيج ، مختلف الأنواع ، متعدد المنافع ، أليس ذلك دليلا على أنه الحق ، وما سواه باطل ، وأنه محيي الموتى ، وأنه الرحمن الرحيم؟ ولهذا قال : (أَفَلا يُؤْمِنُونَ) أي : إيمانا صحيحا ، ما فيه شك ولا شرك.

[٣١] ثمّ عدد تعالى الأدلة الأفقية فقال : (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ) إلى (فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ).

أي : ومن الأدلة على قدرته وكماله ووحدانيته ، ورحمته ، أنه لما كانت الأرض لا تستقر إلا بالجبال ، أرساها بها وأوتدها ، لئلا تميد بالعباد ، أي : لئلا تضطرب ، فلا يتمكن العباد من السكون فيها ، ولا حرثها ، ولا الاستقرار بها. فأرساها بالجبال ، فحصل بسبب ذلك ، من المصالح والمنافع ، ما حصل ، ولما كانت الجبال المتصل بعضها ببعض ، قد اتصلت اتصالا كثيرا جدا ، فلو بقيت بحالها ، جبالا شامخات ، وقللا باذخات ، لتعطل الاتصال بين كثير من البلدان. فمن حكمة الله ورحمته ، أن جعل بين تلك الجبال فجاجا سبلا. أي : طرقا سهلة لا حزنة ، لعلهم يهتدون

٦١٣

إلى الوصول ، إلى مطالبهم من البلدان ، ولعلهم يهتدون بالاستدلال بذلك على وحدانية المنان.

[٣٢ ـ ٣٣] (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً) للأرض التي أنتم عليهم (مَحْفُوظاً) من السقوط (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) محفوظا أيضا من استراق الشياطين للسمع. (وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) أي : غافلون لاهون ، وهذا عام في جميع آيات السماء ، من علوها ، وسعتها ، وعظمتها ، ولونها الحسن ، وإتقانها العجيب ، وغير ذلك من المشاهد فيها ، من الكواكب الثوابت ، والسيارات ، وشمسها ، وقمرها النيران ، المتولد عنهما ، الليل والنهار ، وكونهما دائما في فلكهما سابحين ، وكذلك النجوم. فتقوم بسبب ذلك منافع العباد من الحر والبرد ، والفصول ، ويعرفون حساب عباداتهم ومعاملاتهم ، ويستريحون في ليلهم ، ويهدؤون ويسكنون وينتشرون في نهارهم ، ويسعون في معايشهم. كل هذه الأمور إذا تدبرها اللبيب ، وأمعن فيها النظر ، جزم جزما لا شك فيه ، أن الله جعلها مؤقتة في وقت معلوم ، إلى أجل محتوم ، يقضي العباد منها مآربهم ، وتقوم بها منافعهم ، وليستمتعوا وينتفعوا. ثمّ بعد هذا ، ستزول وتضمحل ، ويفنيها الذي أوجدها ، ويسكنها الذي حركها. وينتقل المكلفون إلى دار غير هذه الدار ، يجدون فيها جزاء أعمالهم ، كاملا موفرا ويعلم أن المقصود من هذه الدار أن تكون مزرعة لدار القرار ، وأنها منزل سفر ، لا محل إقامة.

[٣٤] لما كان أعداء الرسول يقولون : (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) قال الله تعالى : هذا طريق مسلوك ومعبد ، منهوك ، فلم نجعل لبشر (مِنْ قَبْلِكَ) يا محمد (الْخُلْدَ) في الدنيا ، فإذا مت ، فسبيل أمثالك ، من الرسل والأنبياء ، والأولياء. (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) أي : فهل إذا مت خلّدوا بعدك ، فليهنهم الخلود ، إذا ، إن كان ، وليس الأمر كذلك ، بل كل من عليها فان ، ولهذا قال : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) ، وهذا يشمل سائر نفوس الخلائق ، وإن هذا كأس لا بد من شربه وإن طال بالعبد المدى ، وعمر سنين.

[٣٥] ولكن الله تعالى ، أوجد عباده في الدنيا ، وأمرهم ، ونهاهم ، وابتلاهم بالخير والشر ، وبالغنى والفقر ، والعز والذل ، والحياة والموت ، فتنة منه تعالى (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ومن يفتتن عند مواقع الفتن ومن ينجو.

(وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) فنجازيكم بأعمالكم ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ). وهذه الآية ، تدل على بطلان قول من يقول ببقاء الخضر ، وأنه مخلد في الدنيا ، فهو قول ، لا دليل عليه ، ومناقض للأدلة الشرعية.

[٣٦] وهذا من شدة كفرهم ، فإن المشركين إذا رأوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، استهزؤوا به ، وقالوا : (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) ، أي : هذا المحتقر بزعمهم ، الذي يسب آلهتكم ويذمها ، ويقع فيها ، أي : فلا تبالوا به ، ولا تحتفلوا به. هذا استهزاؤهم واحتقارهم له ، بما هو من كماله ، فإنه الأكمل الأفضل الذي من فضائله ومكارمه ، إخلاص العبادة لله ، وذم كل ما يعبد من دونه وتنقصه ، وذكر محله ومكانته. ولكن محل الازدراء والاستهزاء ، هؤلاء الكفار ، الّذين جمعوا كل خلق ذميم ، ولو لم يكن إلا كفرهم بالرب ، وجحدهم لرسله فصاروا بذلك ، من أخسأ

٦١٤

الخلق وأراذلهم ، ومع هذا ، فذكرهم للرحمن ، الذي هو أعلى حالاتهم ، كافرون به ، لأنهم لا يذكرونه ولا يؤمنون به إلا وهم مشركون فذكرهم كفر وشرك ، فكيف بأحوالهم بعد ذلك؟ ولهذا قال : (وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ) وفي ذكر اسمه (الرَّحْمنِ) هنا ، بيان لقباحة حالهم ، وأنهم كيف قابلوا الرحمن ـ مسدي النعم كلها ، ودافع النقم الذي ، ما بالعباد من نعمة إلا منه ، ولا يدفع السوء إلا هو ـ بالكفر والشرك.

[٣٧] (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) أي : خلق عجولا ، يبادر الأشياء ، ويستعجل وقوعها ، فالمؤمنون ، يستعجلون عقوبة الله للكافرين ، ويستبطئونها ، والكافرون ، يتولون ويستعجلون بالعذاب ، تكذيبا وعنادا.

[٣٨] ويقولون : (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) والله تعالى ، يمهل ولا يهمل ويحلم ، ويجعل لهم أجلا مؤقتا (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ). ولهذا قال : (سَأُرِيكُمْ آياتِي) أي : في انتقامي ممن كفر بي وعصاني (فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) ذلك ، وكذلك الّذين كفروا (يَقُولُونَ : مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) قالوا هذا القول ، اغترارا ، ولما يحق عليهم العقاب ، وينزل بهم العذاب.

[٣٩] ف (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) حالهم الشنيعة (حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ) إذ قد أحاط بهم من كل جانب وغشيهم من كل مكان (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي : لا ينصرهم غيرهم ، فلا نصروا ولا انتصروا.

[٤٠] (بَلْ تَأْتِيهِمْ) النار (بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ) من الانزعاج والذعر والخوف العظيم. (فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها)

إذ هم أذل وأضعف ، من ذلك. (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي : يمهلون ، فيؤخر عنهم العذاب ، فلو علموا هذه الحالة حق المعرفة ، لما استعجلوا بالعذاب ، ولخافوه أشد الخوف ، ولكن لما ترحل عنهم هذا العلم ، قالوا ما قالوا ، ولما ذكر استهزاءهم برسوله بقولهم (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) سلّاه بأن هذا دأب الأمم السالفة مع رسلهم فقال :

[٤١] (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ) ، أي : نزل بهم (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي : نزل بهم العذاب ، وتقطعت عنهم الأسباب ، فليحذر هؤلاء ، أن يصيبهم ما أصاب أولئك المكذبين.

[٤٢] يقول تعالى ـ ذاكرا عجز هؤلاء ، الّذين اتخذوا من دونه آلهة ، وأنهم محتاجون مضطرون إلى ربهم الرحمن ، الذي رحمته ، شملت البرّ ، والفاجر ، في ليلهم ونهارهم فقال : (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ) أي : يحرسكم ويحفظكم (بِاللَّيْلِ) إذا كنتم نائمين على فرشكم ، وذهبت حواسكم (وَالنَّهارِ) وقت انتشاركم وغفلتكم (مِنَ الرَّحْمنِ) أي : بدله غيره ، أي : هل يحفظكم أحد غيره؟ لا حافظ إلا هو. (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) فلهذا أشركوا به ، وإلا فلو أقبلوا على ربهم ، وتلقوا نصائحه ، لهدوا لرشدهم ، ووفّقوا في أمرهم.

[٤٣] (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا) أي : إذا أردناهم بسوء هل من آلهتهم ، من يقدر على منعهم من ذلك السوء ، والشر النازل بهم. (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) أي : لا يعانون على أمورهم من

٦١٥

جهتنا ، وإذا لم يعانوا من الله ، فهم مخذولون في أمورهم ، لا يستطيعون جلب منفعة ، ولا دفع مضرة.

[٤٤] والذي أوجب لهم استمرارهم على كفرهم ، وشركهم قوله : (بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) أي : أمددناهم بالأموال والبنين ، وأطلنا أعمارهم ، فاشتغلوا بالتمتع بها ، ولهوا بها ، عما له خلقوا ، وطال عليهم الأمد ، فقست قلوبهم ، وعظم طغيانهم ، وتغلظ كفرانهم ، فلو لفتوا أنظارهم إلى من عن يمينهم ، وعن يسارهم من الأرض ، لم يجدوا إلا هالكا ، ولم يسمعوا إلا صوت ناعية ، ولم يحسوا إلا بقرون متتابعة على الهلاك ، وقد نصب الموت في كل طريق لاقتناص النفوس ، الأشراك. ولهذا قال : (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) أي : بموت أهلها وفنائهم ، شيئا فشيئا ، حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. فلو رأوا هذه الحالة ، لم يغتروا ، ويستمروا على ما هم عليه. (أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) الّذين بوسعهم ، الخروج عن قدر الله؟ وبطاقتهم الامتناع عن الموت؟ فهل هذا وصفهم حتّى يغتروا بطول البقاء؟ أم إذا جاءهم رسول ربهم لقبض أرواحهم ، أذعنوا ، وذلوا ، ولم يظهر منهم أدنى ممانعة؟

[٤٥] أي : (قُلْ) يا محمد ، للناس كلهم : (إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) أي : إنّما أنا رسول ، لا آتيكم بشيء من عندي ، ولا عندي خزائن الله ، ولا أعلم الغيب ، ولا أقول إني ملك ، وإنّما أنذركم بما أوحاه الله إليّ ، فإن استجبتم ، فقد استجبتم لله ، وسيثيبكم على ذلك ، وإن أعرضتم وعارضتم ، فليس بيدي من الأمر شيء ، وإنّما الأمر لله ، والتقدير كله لله. (وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ) أي : الأصم لا يسمع صوتا ، لأن سمعه قد فسد وتعطل ، وشرط السماع مع الصوت ، أن يوجد محل قابل لذلك ، كذلك الوحي سبب لحياة القلوب والأرواح ، والفقه عن الله ، ولكن إذا كان القلب غير قابل لسماع الهدى ، كان بالنسبة للهدى والإيمان ، بمنزلة الأصم ، بالنسبة إلى الأصوات ، فهؤلاء المشركون ، صم عن الهدى ، فلا يستغرب عدم اهتدائهم ، خصوصا في هذه الحالة ، التي لم يأتهم العذاب ، ولا مسّهم ألمه.

[٤٦] (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ) أي : ولو جزء يسير من عذابه. (لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) أي : لم يكن قولهم إلا الدعاء بالويل والثبور ، والندم ، والاعتراف بظلمهم وكفهرم واستحقاقهم العذاب.

[٤٧] يخبر تعالى عن حكمه العدل ، وقضائه القسط بين عباده إذا جمعهم يوم القيامة ، وأنه يضع لهم الموازين العادلة ، التي يبين فيها مثاقيل الذر ، الذي توزن به الحسنات والسيئات. (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ) مسلمة ولا كافرة (شَيْئاً) بأن تنقص من حسناتها ، أو يزاد في سيئاتها. (وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) التي هي أصغر الأشياء وأحقرها ، من خير أو شر (أَتَيْنا بِها) وأحضرناها ، ليجازى بها صاحبها ، كقوله : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٨). (وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً). (وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) يعني بذلك نفسه الكريمة ، فكفى بها حاسبا ، أي : عالما بأعمال العباد ، حافظا لها ، مثبتا لها في الكتاب ، عالما بمقاديرها ومقادير ثوابها واستحقاقها ، موصلا للعمال جزاءها.

[٤٨] كثيرا ما يجمع تعالى ، بين هذين الكتابين الجليلين ، اللذين لم يطرق العالم أفضل منهما ، ولا أعظم ذكرا ، ولا أبرك ، ولا أعظم هدى وبيانا ، وهما : التوراة والقرآن. فأخبر أنه آتى موسى أصلا ، وهرون تبعا (الْفُرْقانَ) وهي التوراة الفارقة بين الحق والباطل ، والهدى والضلال ، وأنها (ضِياءً) أي : نور يهتدي به المهتدون ، ويأتم به السالكون ، وتعرف به الأحكام ، ويميز به بين الحلال والحرام ، وينير في ظلمة الجهل والبدع والغواية. (وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ) يتذكرون به ، ما ينفعهم ، وما يضرهم ، ويتذكر به الخير والشر ، وخص المتقين بالذكر ، لأنهم

٦١٦

المنتفعون بذلك ، علما وعملا.

[٤٩] ثم فسر المتقين فقال : (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) أي : يخشونه في حال غيبتهم ، وعدم مشاهدة الناس لهم ، فمع المشاهدة أولى ، فيتورعون عما حرم ، ويقومون بما ألزم. (وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) أي : خائفون وجلون ، لكمال معرفتهم بربهم ، فجمعوا بين الإحسان والخوف ، والعطف ، هنا ، من باب عطف الصفات المتغايرات ، الواردة على شيء واحد ، وموصوف واحد.

[٥٠] (وَهذا) أي : القرآن (ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ) فوصفه بوصفين جليلين ، كونه ذكرا يتذكر به جميع المطالب ، من معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله ، ومن صفات الرسل والأولياء وأحوالهم ، ومن أحكام الجزاء ، والجنة ، والنار ، فيتذكر به المسائل والدلائل العقلية والنقلية ، وسماه ذكرا ، لأنه يذكر ما ركزه الله في العقول والفطر ، من التصديق بالأخبار الصادقة ، والأمر بالحسن عقلا ، والنهي عن القبيح عقلا ، وكونه مباركا يقتضي كثرة خيره ونمائه ، وزيادته ، ولا شيء أعظم بركة من هذا القرآن ، فإن كل خير ونعمة ، وزيادة دينية أو دنيوية ، أو أخروية ، فإنها بسببه ، وأثر عن العمل به. فإذا كان ذكرا مباركا ، وجب تلقيه بالقبول والانقياد ، والتسليم ، وشكر الله على هذه المنحة الجليلة ، والقيام بها ، واستخراج بركته ، بتعلم ألفاظه ومعانيه ، ومقابلته بضد هذه الحالة ، من الإعراض عنه ، والإضراب عنه صفحا ، وإنكاره ، وعدم الإيمان به فهذا من أعظم الكفر وأشد الجهل والظلم ، ولهذا أنكر تعالى ، على من أنكره فقال : (أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ).

[٥١] لما ذكر تعالى موسى ومحمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكتابيهما قال : (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ) أي : من قبل إرسال موسى ومحمد ، ونزول كتابيهما. فأراه الله ملكوت السموات والأرض ، وأعطاه من الرشد ، الذي كمل به نفسه ، ودعا الناس إليه ، ما لم يؤته أحدا من العالمين ، غير محمد ، وأضاف الرشد إليه ، لكونه رشدا بحسب حاله ، وعلو مرتبته ، وإلا ، فلا مؤمن ، له من الرشد ، بحسب ما معه في الإيمان. (وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) أي : أعطيناه رشده ، واختصصناه بالرسالة والخلة ، واصطفيناه في الدنيا والآخرة ، لعلمنا أنه أهل لذلك ، وكفء له ، لزكائه وذكائه ، ولهذا ذكر محاجته لقومه ، ونهيهم عن الشرك ، وتكسير الأصنام ، وإلزامهم بالحجة.

[٥٢] فقال : (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ) التي مثلتموها ونحتموها بأيديكم ، على صور بعض المخلوقات (الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) مقيمون على عبادتها ، ملازمون لذلك ، فما هي؟ وأي فضيلة ثبتت لها؟ وأين عقولكم ، التي ذهبت حتى أفنيتم أوقاتكم بعبادتها؟ والحال أنكم مثلتموها ، ونحتموها بأيديكم ، فهذا من أكبر العجائب ، تعبدون ما تنحتون.

[٥٣] فأجابوا بغير حجة ، جواب العاجز ، الذي ليس بيده أدنى شبهة فقالوا : (وَجَدْنا آباءَنا) كذلك يفعلون ، فسلكنا سبيلهم ، واتبعناهم على عبادتها.

[٥٤] ومن المعلوم أن فعل أحد من الخلق سوى الرسل ، ليس بحجة ، ولا تجوز به القدوة : خصوصا ، في أصل

٦١٧

الدين ، وتوحيد ربّ العالمين ، ولهذا قال لهم إبراهيم ـ مضللا للجميع : (لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي : ضلال بين واضح ، وأي ضلال ، أبلغ من ضلالهم في الشرك ، وترك التوحيد؟ أي : فليس ما قلتم ، يصلح للتمسك به ، وقد اشتركتم وإياهم في الضلال الواضح ، البيّن لكل أحد.

[٥٥] (قالُوا) على وجه الاستغراب لقوله ، والاستفهام لما قال ، وكيف بادأهم بتسفيههم ، وتسفيه آبائهم ـ : (أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) أي : هذا القول الذي قلته ، والذي جئتنا به ، هل هو حق وجد؟ أم كلامك لنا ، كلام لاعب مستهزىء ، لا يدري ما يقول؟ وهذا الذي أرادوا. وإنّما رددوا الكلام بين الأمرين ، لأنهم نزلوه منزلة المتقرر المعلوم عند كل أحد ، أن الكلام الذي جاء به إبراهيم ، كلام سفيه لا يعقل ما يقول.

[٥٦] فرد عليهم إبراهيم ردا يبين به وجه سفههم ، وقلة عقولهم فقال : (بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) فجمع لهم بين الدليل العقلي ، والدليل السمعي. أما الدليل العقلي ، فإنه قد علم كل أحد حتى هؤلاء الّذين جادلهم إبراهيم ، أن الله وحده ، الخالق لجميع المخلوقات ، من بني آدم ، والملائكة ، والجن ، والبهائم ، والسموات ، والأرض ، المدبر لهن ، بجميع أنواع التدبير ، فيكون كل مخلوق مفطورا مدبّرا متصرفا فيه ، ودخل في ذلك ، جميع ما عبد من دون الله. أفيليق عند من له أدنى مسكة من عقل وتمييز ، أن يعبد مخلوقا متصرفا فيه ، لا يملك نفعا ، ولا ضرا ، ولا موتا ، ولا حياة ، ولا نشورا ، ويدع عبادة الخالق الرازق المدبر؟ أما الدليل السمعي : فهو المنقول عن الرسل ، عليهم‌السلام ، فإن ما جاؤوا به معصوم لا يغلط ولا يخبر بغير الحقّ ، ومن أنواع هذا القسم شهادة أحد من الرسل على ذلك فلهذا قال إبراهيم : (وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ) أي : أن الله وحده المعبود وأن عبادة ما سواه باطل (مِنَ الشَّاهِدِينَ) وأي شهادة بعد شهادة الله أعلى من شهادة الرسل؟ خصوصا أولي العزم منهم خصوصا خليل الرحمن.

[٥٧ ـ ٥٨] ولما بين أن أصنامهم ليس لها من التدبير شيء أراد أن يريهم بالفعل عجزها وعدم انتصارها وليكيد كيدا يحصل به إقرارهم بذلك فلهذا قال : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) أي : أكسرها على وجه الكيد (بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) عنها إلى عيد من أعيادهم ، فلما تولوا مدبرين ، ذهب إليها بخفية. (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً) أي : كسرا وقطعا ، وكانت مجموعة في بيت واحد ، فكسرها كلها. (إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ) أي : إلا صنمهم الكبير ، فإنه تركه لمقصد سيبينه. وتأمل هذا الاحتراز العجيب ، فإن كل ممقوت عند الله ، لا يطلق عليه ألفاظ التعظيم ، إلا على وجه إضافته لأصحابه ، كما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا كتب إلى ملوك الأرض المشركين يقول : «إلى عظيم الفرس» «إلى عظيم الروم» ونحو ذلك ، ولم يقل «إلى العظيم». وهنا قال تعالى : (إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ) ولم يقل «كبيرا من أصنامهم». فهذا ينبغي التنبه له ، والاحتراز من تعظيم ما حقره الله ، إلا إذا أضيف إلى من عظمه. وقوله : (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) أي : ترك إبراهيم تكسير صنمهم هذا لأجل أن يرجعوا إليه ، ويستملوا حجته ، ويلتفتوا إليها ، ولا يعرضوا عنها ولهذا قال في آخرها : (فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ).

[٥٩ ـ ٦١] فحين رأوا ما حل بأصنامهم من الإهانة والخزي (قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (٥٩) فرموا إبراهيم بالظلم الذي هم أولى به حيث كسرها ولم يدروا أن تكسيره لها من أفضل مناقبه ومن عدله وتوحيده ، وإنّما الظالم من اتخذها آلهة ، وقد رأى ما يفعل بها (قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ) أي : يعيبهم ويذمهم ، ومن هذا شأنه لا بد أن يكون هو الذي كسرها أو أن بعضهم سمعه يذكر أنه سيكيدها (يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) فلما تحققوا أنه إبراهيم (قالُوا فَأْتُوا بِهِ) أي : بإبراهيم (عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ) أي : بمرأى منهم ومسمع (لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) أي : يحضرون ما يصنع بمن كسر آلهتهم ، وهذا الذي أراد إبراهيم وقصد أن يكون بيان الحقّ بمشهد من الناس ليشاهدوا الحقّ وتقوم عليهم الحجة ، كما قال موسى حين واعد فرعون (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى).

٦١٨

[٦٢] فحين حضر الناس وأحضر إبراهيم (قالُوا) له : (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا) أي : التكسير (بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ)؟ وهذا استفهام تقرير ، أي : فما الذي جرأك ، وما الذي أوجب لك الإقدام على هذا الأمر؟

[٦٣] فقال إبراهيم والناس مشاهدون (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) أي : كسرها غضبا عليها ، لما عبدت معه ، وأراد أن تكون العبادة منكم لصنمكم الكبير وحده. وهذا الكلام من إبراهيم ، المقصد منه إلزام الخصم وإقامة الحجة عليه. ولهذا قال : (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) ، وأراد : الأصنام المكسرة اسألوها لم كسرت؟ والصنم الذي لم يكسر ، اسألوه لأي شيء كسرها ، إن كان عندهم نطق ، فسيجيبونكم إلى ذلك ، وأنا وأنتم ، وكل أحد يدري أنها لا تنطق ولا تتكلم ، ولا تنفع ولا تضر ، بل ولا تنصر نفسها ممن يريدها بأذى.

[٦٤ ـ ٦٥] (فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ) أي : ثابت إليهم عقولهم ، ورجعت إليهم أحلامهم ، وعلموا أنهم ضالون في عبادتها ، وأقروا على أنفسهم بالظلم والشرك. (فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) فحصل بذلك المقصود ، ولزمتهم الحجة بإقرارهم أن ما هم عليه باطل وأن فعلهم كفر وظلم. ولكن لم يستمروا على هذه الحالة ، بل (نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) أي : انقلب الأمر عليهم ، وانتكست عقولهم وضلت أحلامهم ، فقالوا لإبراهيم : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) فكيف تتهكم بنا وتستهزئ بنا وتأمرنا أن نسألها وأنت تعلم أنها لا تنطق؟

[٦٦] فقال إبراهيم ـ موبخا لهم ومعلنا بشركهم على رؤوس الأشهاد ، ومبينا عدم استحقاق آلهتهم للعبادة ـ :

(أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ) فلا نفع ولا دفع.

[٦٧] (أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي : ما أضلكم وأخسر صفقتكم ، وما أخسكم ، أنتم وما عبدتم من دون الله. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) لتعرفوا هذه الحال ، فلما عدمتم العقل ، وارتكبتم الجهل والضلال على بصيرة ، صارت البهائم ، أحسن حالا منكم.

[٦٨ ـ ٦٩] فحينئذ لما أفحمهم ، ولم يبينوا حجة ، استعملوا قوتهم في معاقبته ، و (قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) (٦٨) أي : اقتلوه أشنع القتلات ، بالإحراق ، غضبا لآلهتكم ، ونصرة لها. فتعسا لهم ثمّ تعسا ، حيث عبدوا من أقروا أنه يحتاج إلى نصرهم ، واتخذوه إلها. فانتصر الله لخليله لما ألقوه في النار وقال لها : (كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) فكانت عليه بردا وسلاما ، لم ينله فيها أذى ، ولا أحس بمكروه.

[٧٠] (وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً) حيث عزموا على إحراقه. (فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) أي : في الدنيا والآخرة ، كما جعل الله خليله وأتباعه ، هم الرابحين المفلحين.

[٧١] (وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً) وذلك أنه لم يؤمن به من قومه إلا لوط عليه‌السلام قيل : إنه ابن أخيه ، فنجاه الله ، وهاجر (إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) أي : الشام ، فغادر قومه في «بابل» من أرض العراق. (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) إنه هو العزيز الحكيم ، ومن بركة الشام ، أن كثيرا من الأنبياء ، كانوا فيها ، وأن الله اختارها ، مهاجرا

٦١٩

لخليله ، وفيها أحد بيوته الثلاثة المقدسة ، وهو بيت المقدس.

[٧٢] (وَوَهَبْنا لَهُ) حين اعتزل قومه (إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) ابن إسحق (نافِلَةً) بعد ما كبر ، وكانت زوجته عاقرا ، فبشرته الملائكة بإسحاق. (وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) ويعقوب ، هو إسرائيل ، الذي كانت منه الأمة العظيمة ، وإسماعيل بن إبراهيم ، الذي كانت منه الأمة الفاضلة العربية ، ومن ذريته ، سيد الأولين والآخرين. (وَكُلًّا) من إبراهيم وإسحق ويعقوب (جَعَلْنا صالِحِينَ) أي : قائمين بحقوقه ، وحقوق عباده ، ومن صلاحهم ، أنه جعلهم أئمة يهدون بأمره ، وهذا من أكبر نعم الله على عبده أن يكون إماما يهتدي به المهتدون ، ويمشي خلفه السالكون ، وذلك لما صبروا ، وكانوا بآيات الله يوقنون.

[٧٣] وقوله : (يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) أي : يهدون الناس بديننا ، لا يأمرون بأهواء أنفسهم ، بل بأمر الله ودينه ، واتباع مرضاته ، ولا يكون العبد إماما حتى يدعو إلى أمر الله. (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ) يفعلونها ويدعون الناس إليها ، وهذا شامل للخيرات كلها ، من حقوق الله ، وحقوق العباد. (وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ) هذا من باب عطف الخاص على العام ، لشرف هاتين العبادتين وفضلهما ، ولأن من كملهما كما أمر ، كان قائما بدينه ، ومن ضيعهما ، كان لما سواهما أضيع ، ولأن الصلاة أفضل الأعمال ، التي فيها حقه ، والزكاة أفضل الأعمال ، التي فيها الإحسان لخلقه. (وَكانُوا لَنا) أي : لا لغيرنا (عابِدِينَ) أي : مديمين على العبادات القلبية والقولية والبدنية في أكثر أوقاتهم ، فاستحقوا أن تكون العبادة وصفهم ، فاتصفوا بما أمر الله به الخلق ، وخلقهم لأجله.

[٧٤] هذا ثناء من الله على رسوله (لوط) عليه‌السلام بالعلم الشرعي ، والحكم بين الناس ، بالصواب والسداد ، وأن الله أرسله إلى قومه ، يدعوهم إلى عبادة الله ، وينهاهم عما هم عليه من الفواحش ، فلبث يدعوهم ، فلم يستجيبوا له ، فقلب الله عليهم ديارهم وعذبهم عن آخرهم لأنهم (كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ). كذبوا الداعي ، وتوعدوه بالإخراج ، ونجى الله لوطا وأهله ، فأمره أن يسري بهم ليلا ، ليبعدوا عن القرية ، فسروا ونجوا ، وذلك من فضل الله عليهم ومنّته.

[٧٥] (وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا) التي من دخلها ، كان من الآمنين ، من جميع المخاوف ، النائلين كل خير وسعادة ، وبر ، وسرور ، وثناء ، وذلك لأنه من الصالحين ، الّذين صلحت أعمالهم ، وزكت أحوالهم ، وأصلح الله فاسدهم. والصلاح ، هو السبب لدخول العبد برحمة الله ، كما أن الفساد ، سبب لحرمانه الرحمة والخير ، وأعظم الناس صلاحا ، الأنبياء عليهم‌السلام ولهذا يصفهم بالصلاح ، وقال سليمان عليه‌السلام : (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ).

[٧٦ ـ ٧٧] أي : واذكر عبدنا ورسولنا ، نوحا عليه‌السلام ، مثنيا مادحا ، حين أرسله الله إلى قومه ، فلبث فيهم ألف سنة ، إلا خمسين عاما ، يدعوهم إلى عبادة الله ، وينهاهم عن الشرك به ، ويبدي فيهم ويعيد ، ويدعوهم سرا وجهارا ، وليلا ونهارا. فلما رآهم لا ينجع فيهم الوعظ ، ولا يفيد لديهم الزجر ، نادى ربه وقال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى

٦٢٠