تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي

تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

المؤلف:

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ١١٣٥

(الْبُكْمُ) عن النطق به ، (الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) ما ينفعهم ، ويؤثرونه على ما يضرهم. فهؤلاء شر عند الله ، من شرار الدواب ، لأن الله أعطاهم أسماعا وأبصارا وأفئدة ، ليستعملوها في طاعة الله ، فاستعملوها في معاصيه وعدموا ـ بذلك ـ الخير الكثير. فإنهم كانوا بصدد أن يكونوا من خيار البرية ، فأبوا هذا الطريق ، واختاروا لأنفسهم أن يكونوا من شر البرية. والسمع الذي نفاه الله عنهم ، سمع المعنى المؤثر في القلب ، وأما سمع الحجة ، فقد قامت حجة الله تعالى عليهم ، بما سمعوه من آياته ، وإنّما لم يسمعهم السماع النافع ، لأنه لم يعلم فيهم خيرا يصلحون به لسماع آياته.

[٢٣] (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ) على الفرض والتقدير (لَتَوَلَّوْا) عن الطاعة (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) لا التفات لهم إلى الحقّ ، بوجه من الوجوه. وهذا دليل على أن الله تعالى لا يمنع الإيمان والخير ، إلا عمن لا خير فيه ، والذي لا يزكو لديه ، ولا يثمر عنده. وله الحمد تعالى والحكمة في هذا.

[٢٤ ـ ٢٥] يأمر تعالى عباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان منهم وهو : الاستجابة لله وللرسول ، أي : الانقياد لما أمر به والمبادرة إلى ذلك ، والدعوة إليه ، والاجتناب لما نهيا عنه ، والانكفاف عنه ، والنهي عنه. وقوله : (إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) وصف ملازم ، لكل ما دعا الله ورسوله إليه ، وبيان لفائدته وحكمته ، فإن حياة القلب والروح بعبودية الله تعالى ، ولزوم طاعته ، وطاعة رسوله ، على الدوام. ثمّ حذر عن عدم الاستجابة لله وللرسول فقال : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) فإياكم أن تردوا أمر الله ، أول ما يأتيكم ، فيحال بينكم وبينه إذا أردتموه بعد ذلك ، وتختلف قلوبكم فإن الله يحول بين المرء وقلبه ، يقلب القلوب حيث شاء ، ويصرفها أنى شاء. فليكثر العبد من قول : «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ، يا مصرف القلوب ، اصرف قلبي إلى طاعتك». (وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي : تجمعون ليوم لا ريب فيه ، فيجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بعصيانه. (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) بل تصيب فاعل الظلم وغيره ، وذلك إذا ظهر الظلم فلم يغير ، فإن عقوبته ، تعم الفاعل وغيره. وتتّقى هذه الفتنة ، بالنهي عن المنكر ، وقمع أهل الشر والفساد ، وأن لا يمكنوا من المعاصي والظلم مهما أمكن. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن تعرض لمساخطه ، وجانب رضاه.

[٢٦] يقول تعالى ممتنا على عباده ، في نصرهم بعد الذلة ، وتكثير هم بعد القلة ، وإغنائهم بعد العيلة. (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ) أي : مقهورون تحت حكم غيركم (تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ) أي : يأخذوكم. (فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) فجعل لكم بلدا تأوون إليه ، وانتصر من أعدائكم على أيديكم ، وغنمتم من أموالهم ، ما كنتم به أغنياء. (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الله على منته العظيمة ، وإحسانه التام ، بأن تعبدوه ، ولا تشركوا به شيئا.

[٢٧ ـ ٢٨] يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يؤدوا ما ائتمنهم الله عليه من أوامره ونواهيه. فإن الأمانة قد عرضها الله على السموات والأرض والجبال ، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا. فمن أدى

٣٦١

الأمانة استحق من الله الثواب الجزيل ، ومن لم يؤدها بل خانها ، استحق العقاب الوبيل ، وصار خائنا لله وللرسول ولأمانته ، منقصا لنفسه بكونه اتصفت نفسه بأخس الصفات ، وأقبح الشيات ، وهي الخيانة ، مفوتا لها أكمل الصفات وأتمها ، وهي : الأمانة. ولما كان العبد ممتحنا بأمواله وأولاده ، فربما حملته محبته ذلك ، على تقديم هوى نفسه ، على أداء أمانته ، أخبر الله تعالى أن الأموال والأولاد فتنة يبتلي الله بهما عباده ، وأنهما عارية ، ستؤدى لمن أعطاها ، وترد لمن استودعها (وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ). فإن كان لكم عقل ورأي ، فآثروا فضله العظيم على لذة صغيرة فانية مضمحلة ، فالعاقل يوازن بين الأشياء ، ويؤثر أولاها بالإيثار ، وأحقها بالتقديم.

[٢٩] امتثال العبد لتقوى ربه ، عنوان السعادة ، وعلامة الفلاح ، وقد رتب الله على التقوى من خير الدنيا والآخرة ، شيئا كثيرا. فذكر هنا ، أن من اتقى الله ، حصل له أربعة أشياء ، كل واحد منها خير من الدنيا وما فيها : الأول : الفرقان وهو : العلم والهدى الذي يفرق به صاحبه بين الهدى والضلال ، والحقّ والباطل ، والحلال والحرام ، وأهل السعادة من أهل الشقاوة. الثاني والثالث : تكفير السيئات ، ومغفرة الذنوب ، وكل واحد منها داخل في الآخر ، عند الإطلاق وعند الاجتماع. يفسر تكفير السيئات بالذنوب الصغائر ، ومغفرة الذنوب بتكفير الكبائر. الرابع : الأجر العظيم ، والثواب الجزيل ، لمن اتقاه ، وآثر رضاه على هوى نفسه. (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).

[٣٠] أي : (وَ) اذكر ، أيها الرسول ، ما منّ الله به عليك. (إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) حين تشاور المشركون في دار الندوة ، فيما يصنعون بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إما أن يثبتوه عندهم بالحبس ، ويوثقوه. وإما أن يقتلوه فيستريحوا ـ بزعمهم ـ من دعوته. وإما أن يخرجوه ويجلوه من ديارهم. فكلّ أبدى من هذه الآراء رأيا رآه. فاتفق رأيهم ، على رأي رآه شريرهم ، أبو جهل لعنه الله ، وهو أن يأخذوا من كل قبيلة من قبائل قريش ، فتى ويعطوه سيفا صارما ، ويقتله الجميع قتلة رجل واحد ، ليتفرق دمه في القبائل ، فيرضى بنو هاشم ثمّ بديته ، فلا يقدرون على مقاومة جميع قريش ، فترصدوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الليل ليوقعوا به إذا قام من فراشه. فجاء الوحي من السماء وخرج عليهم ، فذرّ على رؤوسهم التراب وخرج ، وأعمى الله أبصارهم عنه ، حتى إذا استبطؤوه ، جاءهم آت وقال : خيبكم الله ، قد خرج محمد وذرّ على رؤوسكم التراب. فنفض كل منهم التراب عن رأسه ، ومنع الله رسوله منهم ، وأذن له في الهجرة إلى المدينة. فهاجر إليها ، وأيده الله بأصحابه المهاجرين والأنصار ، ولم يزل أمره يعلو حتى دخل مكة عنوة ، وقهر أهلها ، فأذعنوا له ، وصاروا تحت حكمه ، بعد أن خرج مستخفيا منهم ، خائفا على نفسه. فسبحان اللطيف بعباده الذي لا يغالبه مغالب.

[٣١] يقول تعالى ـ في بيان عناد المكذبين للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) الدالة على صدق ما جاء به الرسول. (قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) وهذا من عنادهم وظلمهم ، وإلا فقد تحداهم الله أن يأتوا بسورة من مثله ، ويدعوا من استطاعوا من دون الله ، فلم يقدروا على ذلك ، وتبين عجزهم. فهذا

٣٦٢

القول الصادر من هذا القائل ، مجرد دعوى ، كذبه الواقع. وقد علم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمّيّ ، لا يقرأ ولا يكتب ، ولا رحل ليدرس من أخبار الأولين ، فأتى بهذا الكتاب الجليل ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.

[٣٢] (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا) الذي يدعو إليه محمد (هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) قالوه على وجه الجزم منهم بباطلهم ، والجهل بما ينبغي من الخطاب. فلو أنهم إذ أقاموا على باطلهم من الشبه والتمويهات ما أوجب لهم أن يكونوا على بصيرة ويقين منه قالوا لمن ناظرهم وادعى أن الحقّ معه ، إن كان هذا هو الحقّ من عندك ، فاهدنا له ، لكان أولى لهم وأستر لظلمهم. فمذ قالوا : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) الآية ، علم بمجرد قولهم ، أنهم السفهاء الأغبياء ، الجهلة الظالمون. فلو عاجلهم الله بالعقاب لما أبقى منهم باقية ، ولكنه تعالى دفع عنهم العذاب ، بسبب وجود الرسول بين أظهرهم فقال : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ).

[٣٣ ـ ٣٤] فوجوده صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمنة لهم من العذاب. وكانوا مع قولهم هذه المقالة التي يظهرونها على رؤوس الأشهاد ، يدرون بقبحها فكانوا يخافون من وقوعها فيهم ، فيستغفرون الله تعالى فلهذا قال : (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ). فهذا مانع يمنع من وقوع العذاب بهم ، بعد ما انعقدت أسبابه. ثمّ قال : (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) أي : أي شيء يمنعهم من عذاب الله ، وقد فعلوا ما يوجب ذلك وهو صد الناس عن المسجد الحرام ، خصوصا صدهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، الّذين هم أولى به منهم. ولهذا قال : (وَما كانُوا) أي المشركون (أَوْلِياءَهُ) يحتمل أن الضمير يعود إلى الله ، أي : أولياء الله. ويحتمل أن يعود إلى المسجد الحرام ، أي : وما كانوا أولى به من غيرهم ، (إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) وهم الّذين آمنوا بالله ورسوله ، وأفردوا الله بالتوحيد والعبادة ، وأخلصوا له الدين ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) فلذلك ادّعوا لأنفسهم أمرا ، غيرهم أولى به.

[٣٥] يعني أن الله تعالى إنّما جعل بيته الحرام ليقام فيه دينه ، وتخلص له فيه العبادة. فالمؤمنون هم الّذين قاموا بهذا الأمر ، وأما هؤلاء المشركون الّذين يصدون عنه ، فما كانت صلاتهم فيه التي هي أكبر أنواع العبادات (إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) ، أي صفيرا وتصفيقا ، فعل الجهلة الأغبياء ، الّذين ليس في قلوبهم تعظيم لربهم ، ولا معرفة بحقوقه ، ولا احترام لأفضل البقاع وأشرفها ، فإذا كانت هذه صلاتهم فيه ، فكيف ببقية العبادات؟ فبأي شيء كانوا أولى بهذا البيت من المؤمنين ، الّذين هم في صلاتهم خاشعون ، والّذين هم عن اللغو معرضون ، إلى آخر ما وصفهم الله به من الصفات الحميدة ، والأفعال السديدة. لا جرم ، أورثهم الله بيته الحرام ، ومكنهم منه. وقال ـ بعد ما مكن لهم منه ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) وقال هنا :

(فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ).

[٣٦ ـ ٣٧] يقول تعالى مبينا عداوة المشركين ، وكيدهم ، ومكرهم ، ومبارزتهم لله ولرسوله ، وسعيهم في إطفاء

٣٦٣

نوره ، وإخماد كلمته ، وأن وبال مكرهم سيعود عليهم ، ولا يحيق المكر السيّء إلا بأهله ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي : ليبطلوا الحقّ ، وينصروا الباطل ، ويبطل توحيد الرحمن ، ويقوم دين عبادة الأوثان. (فَسَيُنْفِقُونَها) أي : فسيصدرون هذه النفقة ، وتخف عليهم ، لتمسكهم بالباطل ، وشدة بغضهم للحق ، (ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) أي : ندامة ، وخزيا ، وذلا. (ثُمَّ يُغْلَبُونَ) فتذهب أموالهم ، وما أملوا ، ويعذبون في الآخرة أشد العذاب ، ولهذا قال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) أي : يجمعون إليها ، ليذوقوا عذابها ، وذلك لأنها دار الخبث والخبثاء ، والله تعالى يريد أن يميز الخبيث من الطيب ، ويجعل كل واحد على حدة ، وفي دار تخصه ، فيجعل الخبيث بعضه على بعض ، من الأعمال والأموال والأشخاص. (فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) الّذين خسروا أنفسهم ، وأهليهم يوم القيامة ، ألا ذلك هو الخسران المبين.

[٣٨ ـ ٤٠] هذا من لطفه تعالى بعباده لا يمنعه كفر العباد ، ولا استمرار هم في العناد ، من أن يدعوهم إلى طريق الرشاد والهدى ، وينهاهم عما يهلكهم من أسباب الغي والردى ، فقال : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا) عن كفرهم ، وذلك بالإسلام لله وحده لا شريك له. (يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) منهم من الجرائم (وَإِنْ يَعُودُوا) إلى كفرهم وعنادهم (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) بإهلاك الأمم المكذبة ، فلينتظروا ما حل بالمعاندين ، فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون. فهذا خطابه للمكذبين ، وأما خطابه للمؤمنين عند ما أمرهم بمعاملة الكافرين فقال : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي : شرك ، وصد عن سبيل الله ويذعنوا لأحكام الإسلام ، (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ). فهذا المقصود من القتال والجهاد لأعداء الدين ، أن يدفع شرهم عن الدين ، وأن يذب عن دين الله ، الذي خلق الخلق له ، حتى يكون هو العالي على سائر الأديان. (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن ما هم عليه من الظلم (فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) لا تخفى عليه منهم خافية. (وَإِنْ تَوَلَّوْا) عن الطاعة وأوضعوا في الإضاعة (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى) الذي يتولى عباده المؤمنين ، ويوصل إليهم مصالحهم ، وييسر لهم منافعهم الدينية والدنيوية ، (وَنِعْمَ النَّصِيرُ) الذي ينصرهم ، فيدفع عنهم كيد الفجار ، وتكالب الأشرار. ومن كان الله مولاه وناصره فلا خوف عليه ومن كان الله عليه ، فلا عزّ له ، ولا قائمة تقوم له.

[٤١] يقول تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) أي : أخذتم من مال الكفار قهرا بحق ، قليلا كان أو كثيرا ، (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) أي : وباقيه لكم ، أيها الغانمون ، لأنه أضاف الغنيمة إليهم ، وأخرج منها خمسها ، فدل على أن الباقي لهم ، يقسم على ما قسمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : للراجل سهم ، وللفارس سهمان سهم لفرسه ، وسهم له. وأما هذا الخمس ، فيقسم خمسة أسهم ، سهم لله ولرسوله ، يصرف في مصالح المسلمين العامة ، من غير تعيين لمصلحة ، لأن الله جعله له ولرسوله ، والله ورسوله غنيان عنه ، فعلم أنه لعباد الله ، فإذا لم يعين الله له مصرفا ، دل على أن مصرفه للمصالح العامة. والخمس الثاني : لذي القربى ، وهم قرابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بني هاشم ، وبني المطلب ، وأضافه الله إلى

٣٦٤

القرابة ، دليلا على أن العلة فيه مجرد القرابة ، فيستوي فيه غنيهم وفقيرهم ، ذكرهم وأنثاهم. والخمس الثالث ، لليتامى وهم : الذين فقدت آباؤهم وهم صغار ، جعل الله لهم خمس الخمس ، رحمة بهم ، حيث كانوا عاجزين عن القيام بمصالحهم ، وقد فقد من يقوم بمصالحهم. والخمس الرابع للمساكين ، أي : المحتاجين الفقراء ، من صغار ، وكبار ، ذكور ، وإناث. والخمس الخامس ، لابن السبيل ، وهو : الغريب المنقطع به في غير بلده. وبعض المفسرين يقول : إن خمس الغنيمة ، لا يخرج عن هذه الأصناف ، ولا يلزم أن يكونوا فيه ، على السواء ، بل ذلك تبع للمصلحة ، وهذا هو الأولى. وجعل الله أداء الخمس على وجهه ، شرطا للإيمان فقال : (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ) وهو يوم «بدر» الذي فرق الله به بين الحق والباطل ، وأظهر الحق ، وأبطل الباطل. (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) جمع المسلمين ، وجمع الكافرين ، أي : إن كان إيمانكم بالله ، وبالحق الذي أنزله الله على رسوله يوم الفرقان ، الذي حصل فيه من الآيات والبراهين ، ما دل على أن ما جاء به هو الحق. (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لا يغالبه أحد إلا غلبه.

[٤٢] (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا) أي : بعدوة الوادي القريبة من المدينة ، (وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى) أي : جانبه البعيد من المدينة ، فقد جمعكم واد واحد. (وَالرَّكْبُ) الذي خرجتم لطلبه ، وأراد الله غيره (أَسْفَلَ مِنْكُمْ) مما يلي ساحل البحر. (وَلَوْ تَواعَدْتُمْ) أنتم وإياهم على هذا الوصف ، وبهذه الحال (لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ) أي : لا بد من تقدم أو تأخر ، أو اختيار منزل ، أو غير ذلك ، مما يعرض لكم ، أو لهم ، يصدفكم عن ميعادهم. (وَلكِنْ) الله جمعكم على هذه الحال (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) أي : مقدرا في الأزل ، لا بد من وقوعه. (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ) أي ليكون حجة وبينة للمعاند ، فيختار الكفر على بصيرة وجزم ببطلانه ، فلا يبقى له عذر عند الله. (وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) أي : يزداد المؤمن بصيرة ويقينا ، بما أرى الله الطائفتين من أدلة الحقّ وبراهينه ، ما هو تذكرة لأولي الألباب. (وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ) سميع لجميع الأصوات ، باختلاف اللغات ، على تفنن الحاجات. (عَلِيمٌ) بالظواهر ، والضمائر ، والسرائر ، والغيب ، والشهادة.

[٤٣ ـ ٤٤] وكان الله قد أرى رسوله المشركين في الرؤيا قليلا ، فبشر بذلك أصحابه ، فاطمأنت قلوبهم ، وتثبتت أفئدتهم. (وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً) فأخبرت بذلك أصحابك (لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) فمنكم من يرى الإقدام على قتالهم ، ومنكم من لا يرى ذلك ، والتنازع مما يوجب الفشل. (وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ) أي : لطف بكم (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي : بما فيها من ثبات وجزع ، وصدق وكذب. فعلم الله من قلوبكم ، ما صار سببا للطفه وإحسانه بكم ، وصدق رؤيا رسوله. فأرى الله المؤمنين عدوهم ، قليلا في أعينهم ، ويقللكم ـ يا معشر المؤمنين ـ في أعينهم ، فكل من الطائفتين ، ترى الأخرى قليلة ، لتقدم كل منهما على الأخرى. (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) من نصر المؤمنين ، وخذلان الكافرين وقتل قادتهم ، ورؤساء الضلال منهم ، ولم يبق منهم أحد ، له اسم يذكر ، فيتيسر بعد ذلك انقيادهم إذا دعوا إلى الإسلام ، فصار أيضا لطفا بالباقين ، الّذين منّ الله عليهم بالإسلام. (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي : جميع أمور الخلائق ترجع إلى الله ، فيميز الخبيث من الطيب ، ويحكم في الخلائق بحكمه العادل ، الذي لا جور فيه ، ولا ظلم.

[٤٥] يقول تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً) أي : طائفة من الكفار تقاتلكم. (فَاثْبُتُوا) لقتالها ، واستعملوا الصبر ، وحبس النفس ، على هذه الطاعة الكبيرة ، التي عاقبتها العز والنصر. واستعينوا على ذلك ، بالإكثار من ذكر الله (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي : تدركون ما تطلبون من الانتصار على أعدائكم ، فالصبر والثبات ، والإكثار من ذكر الله من أكبر الأسباب للنصر. (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) في استعمال ما أمروا به ، والمشي خلف ذلك في جميع الأحوال.

٣٦٥

[٤٦ ـ ٤٧] (وَلا تَنازَعُوا) تنازعا يوجب تشتيت القلوب وتفرقها ، (فَتَفْشَلُوا) أي : تجبنوا (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) أي : وتنحل عزائمكم ، وتفرق قوتكم ، ويرفع ما وعدتم به من النصر على طاعة الله ورسوله. (وَاصْبِرُوا) نفوسكم على طاعة الله (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) بالعون والنصر والتأييد ، واخشعوا لربكم ، واخضعوا له. (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي : هذا مقصدهم الذي خرجوا إليه ، وهذا الذي أبرزهم من ديارهم ، الأشر والبطر في الأرض ، وليراهم الناس ويفخروا لديهم. والمقصود الأعظم : أنهم خرجوا ليصدوا عن سبيل الله ، من أراد سلوكه ، (وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) فلذلك أخبركم بمقاصدهم ، وحذركم أن تشبهوا بهم ، فإنه سيعاقبهم على ذلك أشد العقوبة. فليكن قصدكم في خروجكم وجه الله تعالى ، وإعلاء دين الله ، والصد عن الطريق الموصلة إلى سخط الله وعقابه ، وجذب الناس إلى سبيل الله القويم ، الموصل لجنات النعيم.

[٤٨] (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) حسّنها في قلوبهم. (وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ) ، فإنكم في عدد وعدد ، وهيئة لا يقاومكم فيها محمد ومن معه. (وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) من أن يأتيكم أحد ، ممن تخشون غائلته ، لأن إبليس قد تبدّى لقريش في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي وكانوا يخافون من بني مدلج لعداوة كانت بينهم. فقال لهم الشيطان : أنا جار لكم ، فاطمأنت نفوسهم ، وأتوا على حرد قادرين. فلما (تَراءَتِ الْفِئَتانِ) المسلمون والكافرون ، فرأى الشيطان جبريل عليه‌السلام يزع الملائكة خاف خوفا شديدا و (نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) أي : ولى مدبرا ، (وَقالَ) لمن خدعهم وغرهم : (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) أي : أرى الملائكة الّذين لا يدان ، لأحد بقتالهم. (إِنِّي أَخافُ اللهَ) أي : أخاف أن يعاجلني بالعقوبة في الدنيا (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ). ومن المحتمل أن يكون الشيطان ، سوّل لهم ، ووسوس في صدورهم أنه لا غالب لهم اليوم من الناس ، وأنه جار لهم. فلما أوردهم مواردهم ، نكص عنهم ، وتبرأ منهم ، كما قال تعالى : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) (١٧).

[٤٩] (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي : شك وشبهة ، من ضعفاء الإيمان ، للمؤمنين ، حين أقدموا ـ مع قلتهم ـ على قتال المشركين مع كثرتهم. (غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ) أي : أوردهم الدين الذي هم عليه ، هذه الموارد التي لا يدان لهم بها ، ولا استطاعة لهم بها ، يقولونه احتقارا لهم ، واستخفافا بعقولهم ، وهم ـ والله ـ الأخفّاء عقولا ، الضعفاء أحلاما. فإن الإيمان ، يوجب لصاحبه الإقدام على الأمور الهائلة ، التي لا يقدم عليها الجيوش العظام. فإن المؤمن المتوكل على الله ، الذي يعلم أنه ما من حول ولا قوة ولا استطاعة لأحد إلا بالله تعالى ، وأن الخلق لو اجتمعوا كلّهم على نفع شخص بمثقال ذرّة ، لم ينفعوه ، ولو اجتمعوا على أن يضروه ، لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه ، وعلم أنه على الحقّ ، وأن الله تعالى حكيم رحيم ، في كل ما قدره وقضاه فإنه لا يبالي بما أقدم عليه ، من قوة وكثرة ، وكان واثقا بربه ، مطمئن القلب لا فزعا ولا جبانا. ولهذا قال : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ)

٣٦٦

لا تغالب قوته قوة ، (حَكِيمٌ) فيما قضاه وأجراه.

[٥٠ ـ ٥١] يقول تعالى : ولو ترى الّذين كفروا بآيات الله حين توفاهم الملائكة الموكلون بقبض أرواحهم وقد اشتد بهم القلق ، وعظم كربهم ، و (الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) يقولون لهم : أخرجوا أنفسكم ، ونفوسهم ممتنعة مستعصية على الخروج ، لعلمها ما أمامها من العذاب الأليم. ولهذا قال : (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أي : العذاب الشديد المحرق. ذلك العذاب ، حصل لكم غير ظلم ولا جور ، من ربكم ، وإنّما هو بما قدمت أيديكم من المعاصي التي أثرت لكم ما أثرت ، وهذه سنة الله في الأولين والآخرين ، فإن دأب هؤلاء المكذبين أي : سنتهم وما أجرى الله عليهم من الهلاك بذنوبهم.

[٥٢] (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ). من الأمم المكذبة ، (كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ) بالعقاب (بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) لا يعجزه أحد يريد أخذه (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها).

[٥٣] (ذلِكَ) العذاب الذي أوقعه الله بالأمم المكذبة ، وأزال عنهم ما هم فيه ، من النعم والنعيم ، بسبب ذنوبهم ، وتغييرهم ما بأنفسهم ، (بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ) من نعم الدين والدنيا ، بل يبقيها ، ويزيدهم منها ، إن ازدادوا له شكرا ، (حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) من الطاعة إلى المعصية ، فيكفروا نعمة الله ، ويبدلوا بها كفرا ، فيسلبهم إياها ، ويغيرها عليهم ، كما غيروا ما بأنفسهم. ولله الحكمة في ذلك والعدل والإحسان إلى عباده ، حيث لم يعاقبهم إلا بظلمهم ، وحيث جذب قلوب أوليائه إليه ، بما يذيق العباد من النكال إذا خالفوا أمره. (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يسمع جميع ما نطق به الناطقون ، سواء من أسر القول ومن جهر به. ويعلم ما تنطوي عليه الضمائر ، وتخفيه السرائر ، فيجري على عباده من الأقدار ما اقتضاه علمه وجرت به مشيئته.

[٥٤] (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) أي : فرعون وقومه (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) حين جاءتهم (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) كل بحسب جرمه. (وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌ) من المهلكين المعذبين (كانُوا ظالِمِينَ) لأنفسهم ، ساعين في هلاكها ، لم يظلمهم الله ، ولا أخذهم بغير جرم اقترفوه. فليحذر المخاطبون ، أن يشابهوهم في الظلم ، فيحل الله بهم من عقابه ، ما أحل بأولئك الفاسقين.

[٥٥] (إِنَ) هؤلاء الّذين جمعوا هذه الخصال الثلاث ـ الكفر ، وعدم الإيمان ، والخيانة ـ بحيث لا يثبتون على عهد عاهدوه ، ولا قول قالوه ، هم (شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ) فهم شر من الحمير والكلاب وغيرها ، لأن الخير معدوم منهم ، والشر متوقع فيهم. فإذهاب هؤلاء ومحقهم ، هو المتعين ، لئلا يسري داؤهم لغيرهم.

[٥٦ ـ ٥٧] ولهذا قال : (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ) أي : تجدنهم في حال المحاربة ، بحيث لا يكون لهم عهد وميثاق. (فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) أي : نكل بهم غيرهم ، وأوقع بهم من العقوبة ما يصيرون به عبرة لمن بعدهم (لَعَلَّهُمْ) أي : من خلفهم (يَذَّكَّرُونَ) صنيعهم ، لئلا يصيبهم ما أصابهم. وهذه من فوائد العقوبات والحدود ، المرتبة على المعاصي ، أنها سبب لازدجار من لم يعمل المعاصي ، بل وزجرا لمن عملها ، أن لا يعاودها. ودل تقييد هذه

٣٦٧

العقوبة في الحرب ، أن الكافر ـ ولو كان كثير الخيانة سريع الغدر ـ أنه إذا أعطي عهدا ، لا يجوز خيانته وعقوبته.

[٥٨] أي : وإذا كان بينك وبين قوم ، عهد وميثاق على ترك القتال فخفت منهم خيانة بأن ظهر من قرائن أحوالهم ما يدل على خيانتهم من غير تصريح منهم بالخيانة. (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ) عهدهم ، أي : ارمه عليهم ، وأخبرهم أنه لا عهد بينك وبينهم. (عَلى سَواءٍ) أي : حتى يستوي علمك وعلمهم بذلك ، ولا يحل لك أن تغدرهم ، أو تسعى في شيء مما منعه ، موجب العهد ، حتى تخبرهم بذلك. (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) بل يبغضهم أشد البغض ، فلا بد من أمر بيّن ، يبرئكم من الخيانة. ودلّت الآية على أنه إذا وجدت الخيانة المحققة منهم لم يحتج أن ينبذ إليهم عهدهم ، لأنه لم يخف منهم ، بل علم ذلك ، ولعدم الفائدة ولقوله : (عَلى سَواءٍ) ، وهنا قد كان معلوما عند الجميع غدرهم. ودل مفهومها أيضا ، أنه إذا لم يخف منهم خيانة ، بأن لم يوجد منهم ما يدل على ذلك ، أنه لا يجوز نبذ العهد إليهم ، بل يجب الوفاء إلى أن تتم مدته.

[٥٩] أي : لا يحسب الكافرون بربهم ، المكذبون بآياته ، أنهم سبقوا الله وفاتوه ، فإنهم لا يعجزونه ، والله لهم بالمرصاد. وله تعالى الحكمة البالغة ، في إمهالهم ، وعدم معاجلتهم بالعقوبة ، التي من جملتها ، ابتلاء عباده المؤمنين ، وامتحانهم ، وتزودهم من طاعته ومراضيه ، ما يصلون به المنازل العالية ، واتصافهم بأخلاق وصفات لم يكونوا بغيره بالغيها ، فلهذا قال لعباده المؤمنين : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ) إلى (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ).

[٦٠] أي : (وَأَعِدُّوا) لأعدائكم الكفار ، الساعين في هلاككم ، وإبطال دينكم ، (مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) أي : كل ما تقدرون عليه ، من القوة العقلية والبدنية ، وأنواع الأسلحة ونحو ذلك ، مما يعين على قتالهم. فدخل في ذلك أنواع الصناعات التي تعمل فيها أصناف الأسلحة والآلات من المدافع ، والرشاشات ، والبنادق ، والطيارات الجوية ، والمراكب البرية والبحرية ، والقلاع ، والخنادق ، وآلات الدفاع ، والرأي والسياسة التي بها يتقدم المسلمون ويندفع عنهم به شر أعدائهم ، وتعلّم الرّمي ، والشجاعة والتدبير. ولهذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا إن القوة الرّمي» ومن ذلك :

الاستعداد بالمراكب المحتاج إليها عند القتال ، ولهذا قال تعالى : (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) ، وهذه العلة موجودة فيها في ذلك الزمان ، وهي إرهاب الأعداء ، والحكم يدور مع علّته. فإذا كان شيء موجودا أكثر إرهابا منها ، كالسيارات البرية والهوائية ، المعدة للقتال التي تكون النكاية فيها أشد ، كانت مأمورا بالاستعداد بها ، والسعي لتحصيلها ، حتى إنها إذا لم توجد إلا بتعلّم الصناعة ، وجب ذلك ، لأن «ما لا يتم الواجب إلا به ، فهو واجب». وقوله : (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) ممن تعلمون أنهم أعداؤكم. (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ) ممن سيقاتلونكم بعد هذا الوقت ، الذي يخاطبهم الله به (اللهُ يَعْلَمُهُمْ) فلذلك أمرهم بالاستعداد لهم. ومن أعظم ما يعين على قتالهم بذلك ، النفقات المالية في جهاد الكفار. ولهذا قال تعالى مرغبا في ذلك : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ) قليلا كان أو كثيرا (يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) أجره يوم القيامة مضاعفا أضعافا كثيرة ، حتى إن النفقة في

٣٦٨

سبيل الله ، تضاعف إلى سبع مئة ضعف إلى أضعاف كثيرة. (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) أي : لا تنقصون من أجرها وثوابها شيئا.

[٦١ ـ ٦٣] يقول تعالى : (وَإِنْ جَنَحُوا) أي : الكفار المحاربون ، أي : مالوا (لِلسَّلْمِ) أي : الصلح وترك القتال. (فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي : أجبهم إلى ما طلبوا ، متوكلا على ربك ، فإن في ذلك فوائد كثيرة. منها : أن طلب العافية مطلوب كل وقت ، فإذا كانوا هم المبتدئين في ذلك ، كان أولى لإجابتهم. ومنها : أن في ذلك استجماما لقواكم ، واستعدادا منكم لقتالهم في وقت آخر ، إن احتيج إلى ذلك. ومنها : أنكم إذا أصلحتم وأمن بعضكم بعضا ، وتمكن كل من معرفة ما عليه الآخر ، فإن الإسلام يعلو ، ولا يعلى عليه. فكل من له عقل وبصيرة ، إذا كان معه إنصاف ، فلا بد أن يؤثره على غيره من الأديان ، لحسنه في أوامره ونواهيه ، وحسنه في معاملته للخلق ، والعدل فيهم ، وأنه لا جور فيه ولا ظلم بوجه ، فحينئذ يكثر الراغبون فيه ، والمتبعون له. فصار هذا السلم عونا للمسلمين على الكافرين ، ولا يخاف من السلم إلا خصلة واحدة ، وهي أن يكون الكفار قصدهم بذلك خدع المسلمين ، وانتهاز الفرصة فيهم. فأخبرهم الله ، أنه حسبهم وكافيهم خداعهم ، وأن ذلك يعود عليهم ضرره فقال : (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ) أي : كافيك ما يؤذيك ، وهو القائم بمصالحك ومهماتك ، فقد سبق لك من كفايته لك ونصره ، ما يطمئن به قلبك. وإنه (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) أي : أعانك بمعونة سماوية وهو : النصر منه الذي لا يقاومه شيء ، ومعونة بالمؤمنين بأن قيضهم لنصرك. (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) فاجتمعوا وائتلفوا ، وازدادت قوتهم ، بسبب اجتماعهم ، ولم يكن هذا بسعي أحد ، ولا بقوة ، غير قوة الله. وإنك (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) من ذهب ، وفضة وغيرهما ، لتأليفهم بعد تلك النفرة ، والفرقة الشديدة (ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) لأنه لا يقدر على تقليب القلوب إلا الله تعالى. (وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ومن عزته أن ألف بين قلوبهم ، وجمعها بعد الفرقة كما قال تعالى : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها).

[٦٤] ثمّ قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ) أي : كافيك (وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي : وكافي أتباعك من المؤمنين ، وهذا وعد من الله ، لعباده المؤمنين المتبعين لرسوله ، بالكفاية ، والنصرة على الأعداء. فإذا أتوا بالسبب الذي هو الإيمان والاتباع ، فلا بد أن يكفيهم ما أهمهم من أمور الدين والدنيا ، وإنّما تتخلف الكفاية بتخلف شرطها.

[٦٥ ـ ٦٦] يقول تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ) أي : حثّهم واستنهضهم إليه بكل ما يقوي عزائمهم ، وينشط هممهم ، من الترغيب في الجهاد ، ومقارعة الأعداء ، والترهيب من ضد ذلك ، وذكر فضائل الشجاعة والصبر ، وما يترتب على ذلك من خير في الدنيا والآخرة ، وذكر مضار الجبن ، وأنه من الأخلاق الرذيلة ، المنقصة للدين والمروءة ، وأن الشجاعة بالمؤمنين ، أولى من غيرهم (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما

٣٦٩

تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ). (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ) أيها المؤمنون (عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يكون الواحد بنسبة عشرة من الكفار. وذلك (بِأَنَّهُمْ) أي : الكفار (قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) أي : لا علم عندهم بما أعد الله للمجاهدين في سبيله ، فهم يقاتلون لأجل العلو في الأرض ، والفساد فيها ، وأنتم تفقهون المقصود من القتال ، أنه لإعلاء كلمة الله ، وإظهار دينه ، والذب عن كتاب الله ، وحصول الفوز الأكبر عند الله ، وهذه كلها دواع للشجاعة والصبر والإقدام على القتال. ثمّ إن هذا الحكم خففه الله على العباد فقال : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) فلذلك اقتضت رحمته وحكمته التخفيف ، (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) بعونه وتأييده. وهذه الآيات صورتها صورة الإخبار عن المؤمنين ، بأنهم إذا بلغوا هذا المقدار المعين ، يغلبون ذلك المقدار المعين في مقابلته من الكفار ، وأن الله يمتن عليهم ، بما جعل فيهم من الشجاعة الإيمانية. ولكن معناها وحقيقتها ، الأمر ، وأن الله أمر المؤمنين ـ في أول الأمر ـ أن الواحد لا يجوز له أن يفر من العشرة ، والعشرة من المائة ، والمائة من الألف. ثمّ إن الله خفف ذلك ، فصار لا يجوز فرار المسلمين من مثليهم من الكفار ، فإن زادوا على مثليهم ، جاز لهم الفرار ، ولكن يرد على هذا أمران : أحدهما : أنها بصورة الخبر ، والأصل في الخبر أن يكون على بابه ، وأن المقصود بذلك الامتنان والإخبار بالواقع. والثاني : تقييد ذلك العدد أن يكونوا صابرين بأن يكونوا متدربين على الصبر. ومفهوم هذا ، أنهم إذا لم يكونوا صابرين ، فإنه يجوز لهم الفرار ، ولو أقل من مثلهم ، إذا غلب على ظنهم الضرر ، كما تقتضيه الحكمة الإلهية. ويجاب عن الأول بأن قوله : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ) إلى آخرها ، دليل على أن هذا الأمر لازم ، وأمر محتم ، ثمّ إن الله خففه إلى ذلك العدد ، فهذا ظاهر في أنه أمر ، وإن كان في صيغة الخبر. وقد يقال : إن في إتيانه بلفظ الخبر ، نكتة بديعة ، لا توجد فيه إذا كان بلفظ الأمر ، وهي : تقوية قلوب المؤمنين ، والبشارة بأنهم سيغلبون الكافرين. ويجاب عن الثاني : أن المقصود بتقييد ذلك بالصابرين ، أنه حث على الصبر ، وأنه ينبغي منكم أن تفعلوا الأسباب الموجبة لذلك ، فإذا فعلوها ، صارت الأسباب الإيمانية ، والأسباب المادية ، مبشرة بحصول ما أخبر الله به ، من النصر لهذا العدد القليل.

[٦٧] هذه معاتبة من الله لرسوله وللمؤمنين يوم «بدر» إذ أسروا المشركين ، وأبقوهم لأجل الفداء ، وكان رأي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في هذه الحال ، قتلهم واستئصالهم. فقال تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) أي : ما ينبغي ، ولا يليق به إذا قاتل الكفار الّذين يريدون أن يطفئوا نور الله ويسعون لإخماد دينه ، وأن لا يبقى على وجه الأرض من يعبد الله ، أن يتسرع إلى أسرهم وإبقائهم ، لأجل الفداء ، الذي يحصل منهم ، وهو عرض قليل ، بالنسبة إلى المصلحة المقتضية لإبادتهم ، وإبطال شرهم ، فما دام لهم شر وصولة ، فالأوفق أن لا يؤسروا. فإذا أثخن في الأرض ، وبطل شر المشركين ، واضمحل أمرهم ، فحينئذ لا بأس بأخذ الأسرى منهم ، وإبقائهم. يقول تعالى : (تُرِيدُونَ) بأخذكم الفداء وإبقائهم (عَرَضَ الدُّنْيا) أي : لا لمصلحة تعود إلى دينكم. (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) بإعزاز دينه ، ونصر أوليائه ، وجعل كلمتهم عالية فوق غيرهم ، فيأمركم بما يوصل إلى ذلك. (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي : كامل العزة ، ولو شاء أن ينتصر من الكفار ، من دون قتال ، لفعل ولكنه حكيم ، يبتلي بعضكم ببعض.

[٦٨ ـ ٦٩] (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) به القضاء والقدر ، أنه قد أحل لكم الغنائم ، وأن الله رفع عنكم ـ أيتها الأمة ـ العذاب (لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) وفي الحديث : «لو نزل عذاب يوم بدر ، ما نجا منه إلا عمر». (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً) وهذا من لطفه تعالى بهذه الأمة ، أن أحل لها الغنائم ، ولم تحل لأمة قبلها. (وَاتَّقُوا اللهَ) في جميع أموركم ولازموها ، شكرا لنعم الله عليكم ، (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) يغفر لمن تاب إليه ، جميع الذنوب ، ويغفر لمن

٣٧٠

لم يشرك به شيئا ، جميع المعاصي. (رَحِيمٌ) بكم ، حيث أباح لكم الغنائم ، وجعلها حلالا طيبا.

[٧٠ ـ ٧١] وهذه نزلت في أسارى يوم بدر ، وكان من جملتهم ، العباس ، عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فلما طلب منه الفداء ، ادّعى أنه مسلم قبل ذلك ، فلم يسقطوا عنه الفداء ، فأنزل الله تعالى ، جبرا لخاطره ، ومن كان على مثل حاله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) أي : من المال ، بأن ييسر لكم من فضله ، خيرا كثيرا ، مما أخذ منكم. (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ذنوبكم ، ويدخلكم الجنة (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ). وقد أنجز الله وعده للعباس وغيره ، فحصل له ـ بعد ذلك ـ من المال شيء كثير ، حتى إنه مرة لما قدم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مال كثير ، أتاه العباس فأمره أن يأخذ منه بثوبه ، ما يطيق حمله فأخذ منه ، ما كاد أن يعجز عن حمله. (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ) في السعي لحربك ، ومنابذتك ، (فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ) فليحذروا خيانتك ، فإنه تعالى قادر عليهم ، وهم تحت قبضته. (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ، أي : عليم بكل شيء ، حكيم ، يضع الأشياء مواضعها. ومن علمه وحكمته أن شرع لكم هذه الأحكام الجليلة الجميلة ، وقد تكفل بكفايتكم ، شأن الأسرى وشرهم إن أرادوا خيانة.

[٧٢] هذا عقد موالاة ومحبة ، عقدها الله بين المهاجرين ، الّذين آمنوا وهاجروا في سبيل الله ، وتركوا أوطانهم لله ، لأجل الجهاد في سبيل الله ، وبين الأنصار الّذين آووا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وأعانوهم في ديارهم وأموالهم وأنفسهم ، فهؤلاء بعضهم أولياء بعض ، لكمال إيمانهم وتمام اتصال بعضهم ببعض. (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) فإنهم قطعوا ولايتكم بانفصالهم عنكم ، في وقت شدة الحاجة إلى الرجال ، فلما لما يهاجروا ، لم يكن لهم من ولاية المؤمنين شيء. لكنهم (إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ) أي : لأجل قتال من قاتلهم (فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) والقتال معهم ، وأما من قاتلوهم لغير ذلك ، من المقاصد فليس عليكم نصرهم. وقوله تعالى : (إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) أي : عهد بترك القتال ، فإنهم إذا أراد المؤمنون المتميزون ، الّذين لم يهاجروا قتالهم ، فلا تعينوهم عليهم ، لأجل ما بينكم وبينهم من الميثاق. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) يعلم ما أنتم عليه ، من الأحوال ، فيشرع لكم من الأحكام ما يليق بكم.

[٧٣] لما عقد الولاية بين المؤمنين ، أخبر أن الكفار ، حيث جمعهم الكفر فبعضهم أولياء بعض ، فلا يواليهم ، إلا كافر مثلهم. وقوله : (إِلَّا تَفْعَلُوهُ) أي : موالاة المؤمنين ، ومعاداة الكافرين ، بأن واليتموهم أو عاديتموهم كلهم ، أو واليتم الكافرين ، وعاديتم المؤمنين. (تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) فإنه يحصل بذلك من الشر ما لا ينحصر من اختلاط الحقّ بالباطل ، والمؤمن بالكافر ، وعدم كثير من العبادات الكبار ، كالجهاد ، والهجرة ، وغير ذلك من مقاصد الشرع ، والدين التي تفوت إذا لم يتخذ المؤمنون وحدهم أولياء بعضهم لبعض.

[٧٤ ـ ٧٥] الآيات السابقات في ذكر عقد الموالاة بين المؤمنين من المهاجرين والأنصار. وهذه الآيات في بيان مدحهم وثوابهم ، فقال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ) من

٣٧١

المهاجرين والأنصار ، أي : المؤمنون (حَقًّا) لأنهم صدقوا إيمانهم بما قاموا به من الهجرة والنصرة والموالاة بعضهم لبعض ، وجهادهم لأعدائهم من الكفار والمنافقين. (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) من الله ، تمحى بها سيئاتهم ، وتضمحل بها زلاتهم. (وَ) لهم (رِزْقٌ كَرِيمٌ) أي : خير كثير من الرب الكريم في جنات النعيم. وربما حصل لهم من الثواب المعجل ما تقرّ به أعينهم ، وتطمئن به قلوبهم ، وكذلك من جاء بعد هؤلاء المهاجرين والأنصار ، ممن اتبعهم بإحسان فآمن وهاجر وجاهد في سبيل الله. (فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) لهم ما لكم وعليهم ما عليكم. فهذه الموالاة الإيمانية ـ وقد كانت في أول الإسلام ـ لها وقع كبير ، وشأن عظيم ، حتى إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم آخى بين المهاجرين والأنصار أخوة خاصة ، غير الأخوة الإيمانية العامة ، وحتى كانوا يتوارثون بها ، فأنزل الله (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) ، فلا يرثه إلا أقاربه من العصبات ، وأصحاب الفروض. فإن لم يكونوا ، فأقرب قراباته ، من ذوي الأرحام ، كما دل عليه عموم الآية الكريمة ، وقوله : (فِي كِتابِ اللهِ) أي : في حكمه وشرعه. (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ومنه ما يعلمه ، من أحوالكم ، التي يجري من شرائعه الدينية عليكم ، ما يناسبها. تم تفسير سورة الأنفال ولله الحمد والمنة.

تفسير سورة التوبة

(بسم الله الرّحمن الرّحيم)

[١ ـ ٢] أي : هذه براءة من الله ، ومن رسوله إلى جميع المشركين المعاندين ، أن لهم أربعة أشهر ، يسيحون في الأرض على اختيارهم ، آمنين من المؤمنين ، وبعد الأربعة الأشهر ، فلا عهد له ولا ميثاق. وهذا لمن كان له عهد مطلق ، غير مقدر ، أو مقدر بأربعة أشهر ، فأقل. أما من كان له عهد مقدر ، بزيادة على أربعة أشهر ، فإنه يتعين أن يتمم له عهده ، إذا لم يخف منه خيانة ، ولم يبدأ بنقض العهد. ثمّ أنذر المعاهدين في مدة عهدهم ، أنهم وإن كانوا آمنين ، فإنهم لن يعجزوا الله ، ولن يفوتوه ، وأنه من استمر منهم على شركه فإنه لا بد أن يخزيه ، فكان هذا ، مما يجلبهم إلى الدخول في الإسلام ، إلا من عائد وأصر ، ولم يبال بوعيد الله.

[٣] هذا ما وعد الله به المؤمنين ، من نصر دينه ، وإعلاء كلمته ، وخذلان أعدائهم ، من المشركين ، الّذين أخرجوا الرسول ومن معه من مكة ، من بيت الله الحرام ، وأجلوهم مما لهم التسلط عليه من أرض الحجاز. نصر الله رسوله والمؤمنين حتى افتتح مكة ، وأذل المشركين ، وصار للمؤمنين الحكم والغلبة على تلك الديار. فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٣٧٢

مؤذنه أن يؤذن يوم الحج الأكبر ، وهو : يوم النحر ، وقت اجتماع الناس ، مسلمهم وكافرهم ، من جميع جزيرة العرب ، أن يؤذن بأن الله بريء ورسوله من المشركين ، فليس لهم عنده عهد وميثاق ، فأينما وجدوا قتلوا ، وقيل لهم : لا تقربوا المسجد الحرام بعد عامكم هذا ، وكان سنة تسع من الهجرة. وحج بالناس أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأذن ببراءة يوم النحر ، ابن عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ثمّ رغّب تعالى المشركين بالتوبة ، ورهبهم من الاستمرار على الشرك فقال : (فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ). أي : فائتيه ، بل أنتم في قبضته ، قادر أن يسلط عليكم عباده المؤمنين. (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي : مؤلم مفظع في الدنيا ، بالقتل ، والأسر ، والجلاء ، وفي الآخرة ، بالنار ، وبئس القرار.

[٤] أي هذه البراءة التامة المطلقة من جميع المشركين. (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) واستمروا على عهدهم ، ولم يجر منهم ما يوجب النقص ، فلا نقصوكم شيئا ، ولا عاونوا عليكم أحدا ، فهؤلاء أتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ، قلّت ، أو كثرت ، لأن الإسلام لا يأمر بالخيانة وإنّما يأمر بالوفاء. (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) الّذين أدوا ما أمروا به ، واتقوا الشرك والخيانة ، وغير ذلك من المعاصي.

[٥] يقول تعالى : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) أي : التي حرم فيها قتال المشركين المعاهدين ، وهي أشهر التسيير الأربعة ، وتمام المدة ، لمن له مدة أكثر منها ، فقد برئت منهم الذمة. (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) في أي مكان وزمان ، (وَخُذُوهُمْ) أسرى (وَاحْصُرُوهُمْ) أي : ضيقوا عليهم ، فلا تدعوهم يتوسعون في بلاد الله وأرضه ، التي جعلها معبدا لعباده. فهؤلاء ليسوا أهلا لسكناها ، ولا يستحقون منها شبرا ، لأن الأرض أرض الله ، وهم أعداؤه المنابذون له ولرسله ، والمحاربون الّذين يريدون أن تخلو الأرض من دينه ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ، ولو كره الكافرون. (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) أي : كل ثنية وموضع يمرون عليه ورابطوا في جهادهم ، وابذلوا غاية مجهودكم في ذلك ، ولا تزالوا على هذا الأمر ، حتى يتوبوا من شركهم. ولهذا قال : (فَإِنْ تابُوا) من شركهم (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أي : أدوها بحقوقها (وَآتَوُا الزَّكاةَ) لمستحقيها (فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) أي : اتركوهم ، وليكونوا مثلكم ، لهم ما لكم ، وعليهم ما عليكم. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر الشرك فما دونه ، للتائبين ، ويرحمهم ، بتوفيقهم للتوبة ، ثمّ قبولها منهم. وفي هذه الآية دليل على أن من امتنع من أداء الصلاة أو الزكاة ، فإنه يقاتل حتى يؤديها ، كما استدل بذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه.

[٦] لما كان ما تقدم من قوله : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) أمرا عاما في جميع الأحوال ، وفي كل الأشخاص منهم ، ذكر تعالى أن المصلحة إذا اقتضت تقريب بعضهم ، جاز ، بل وجب ذلك فقال : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ) أي : طلب منك أن تجيره ، وتمنعه من الضرر ، لأجل أن يسمع كلام الله ، وينظر حالة الإسلام. (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) ثمّ إن أسلم ، فذاك ، وإلا

٣٧٣

فأبلغه مأمنه ، أي : المحل الذي يأمن فيه. والسبب في ذلك أن الكفار قوم لا يعلمون ، فربما كان استمرارهم على كفرهم لجهل منهم ، إذا زال اختاروا عليه الإسلام ، فلذلك أمر الله رسوله ، وأمته أسوة في الأحكام ، أن يجيروا من طلب أن يسمع كلام الله. وفي هذا حجة صريحة لمذهب أهل السنة والجماعة ، القائلين بأن القرآن كلام الله غير مخلوق ، لأنه تعالى هو المتكلم به ، وأضافه إلى نفسه إضافة الصفة إلى موصوفها ، وبطلان مذهب المعتزلة ، ومن أخذ بقولهم : أن القرآن مخلوق. وكم من الأدلة الدالة على بطلان هذا القول ، ليس هذا ، محل ذكرها.

[٧] هذا بيان للحكمة الموجبة ، لأن يتبرأ الله ورسوله من المشركين ، فقال : (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ) هل قاموا بواجب الإيمان ، أم تركوا رسول الله والمؤمنين من أذيتهم؟ وحاربوا الحقّ ونصروا الباطل؟ أما سعوا في الأرض فسادا؟ فيحق عليهم أن يتبرأ الله منهم ، وأن لا يكون لهم عهد عنده ، ولا عند رسوله؟ (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ) من المشركين (عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) فإن لهم في العهد وخصوصا في هذا المكان الفاضل ، حرمة أوجب أن يراعوا فيها. (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) ولهذا قال : (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا) إلى قوله : (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).

[٨ ـ ١١] أي : (كَيْفَ) يكون للمشركين عند الله عهد وميثاق (وَ) الحال أنهم (إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) بالقدرة والسلطة ، لا يرحموكم ، و (لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) أي : لا ذمة ولا قرابة ، ولا يخافون الله فيكم ، بل يسومونكم سوء العذاب ، فهذه حالكم معهم لو ظهروا. ولا يغرنكم منهم ما يعاملونكم به وقت الخوف منكم ، فإنهم (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ) الميل والمحبة لكم ، بل هم الأعداء حقا ، المبغضون لكم صدقا ، (وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) لا ديانة لهم ، ولا مروءة. (اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) أي : اختاروا الحظ العاجل الخسيس في الدنيا ، على الإيمان بالله ، ورسوله ، والانقياد لآيات الله. (فَصَدُّوا) بأنفسهم ، وصدوا غيرهم (عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ). (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) أي : لأجل عداوتهم للإيمان وأهله. فالوصف الذي جعلهم يعادونكم لأجله ويبغضونكم هو الإيمان ، فذبوا عن دينكم ، وانصروه واتخذوا من عاداه عدوا ، ومن نصره لكم وليا ، واجعلوا الحكم يدور معه ، وجودا وعدما ، لا تجعلوا الولاية والعداوة ، طبعية تميلون بها ، حيثما مال الهوى ، وتتبعون فيها النفس الأمارة بالسوء ، ولهذا : (فَإِنْ تابُوا) عن شركهم ، ورجعوا إلى الإيمان (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) وتناسوا تلك العداوة إذ كانوا مشركين ، لتكونوا عباد الله المخلصين ، وبهذا يكون العبد عبدا حقيقة. لما بين من أحكامه العظيمة ما بين ، ووضح منها ما وضح ، أحكاما وحكما ، وحكما ، وحكمة قال : (وَنُفَصِّلُ الْآياتِ) أي : نوضحها ونميزها (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) فإليهم سياق الكلام ، وبهم تعرف الآيات والأحكام ، وبهم عرف دين الإسلام ، وشرائع الدين. اللهم اجعلنا من القوم الّذين يعلمون ، ويعملون بما يعلمون ، برحمتك وجودك ، وكرمك وإحسانك ، يا رب العالمين.

٣٧٤

[١٢ ـ ١٥] يقول تعالى : بعد ما ذكر أن المعاهدين من المشركين إن استقاموا على عهدهم فاستقيموا لهم على الوفاء : (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ) أي : نقضوها وحلوها ، أو أعانوا على قتالكم ، أو نقصوكم ، (وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ) أي : عابوه ، وسخروا منه. ويدخل في هذا جميع أنواع الطعن الموجهة إلى الدين ، أو إلى القرآن. (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) أي : القادة فيه ، الرؤساء الطاعنين في دين الرحمن ، الناصرين لدين الشيطان ، وخصهم بالذكر لعظم جنايتهم ، ولأن غيرهم تبع. وليدل على أن من طعن في الدين وتصدى للرد عليه ، فإنه من أئمة الكفر. (إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) أي : لا عهود ، ولا مواثيق ، يلازمون على الوفاء بها ، بل لا يزالون خائنين ، ناكثين للعهد ، لا يوثق منهم. (لَعَلَّهُمْ) في قتالهم إياهم (يَنْتَهُونَ) عن الطعن في دينكم ، وربما دخلوا فيه. ثمّ حث على قتالهم ، وهيج المؤمنين بذكر الأوصاف ، التي صدرت من هؤلاء الأعداء ، والتي هم موصوفون بها ، المقتضية لقتالهم فقال : (أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ) الذي يجب احترامه ، وتوقيره ، وتعظيمه؟ وهموا أن يجلوه ويخرجوه من وطنه ، وسعوا في ذلك ما أمكنهم ، (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) حيث نقضوا العهد ، وأعانوا عليكم ، وذلك حيث أعانت قريش ـ وهم معاهدون ـ بني بكر حلفاءهم ، على خزاعة ، حلفاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقاتلوا معهم كما هو مذكور مبسوط في السيرة. (أَتَخْشَوْنَهُمْ) في ترك قتالهم (فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). فالله أمركم بقتالهم ، وأكد ذلك عليكم غاية التأكيد. فإن كنتم مؤمنين ، فامتثلوا لأمر الله ، ولا تخشوهم ، فتتركوا أمر الله. ثمّ أمر بقتالهم وذكر ما يترتب على قتالهم من الفوائد ، وكل هذا ، حث وإنهاض للمؤمنين على قتالهم فقال : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) بالقتل (وَيُخْزِهِمْ) إذا نصركم الله عليهم ، وهم الأعداء الّذين يطلب خزيهم ويحرص عليه ، (وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ) هذا وعد من الله وبشارة ، قد أنجزها. (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) فإن في قلوبهم من الحنق والغيظ عليهم ، ما يكون قتالهم وقتلهم شفاء لما في قلوب المؤمنين من الغم والهمّ ، إذ يرون هؤلاء الأعداء محاربين لله ولرسوله ، ساعين في إطفاء نور الله ، وزوالا للغيظ الذي في قلوبكم ، وهذا يدل على محبة الله للمؤمنين ، واعتنائه بأحوالهم ، حتى إنه جعل ـ من جملة المقاصد الشرعية ـ شفاء ما في صدورهم وذهاب غيظهم. ثمّ قال : (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) من هؤلاء المحاربين ، بأن يوفقهم للدخول في الإسلام ، ويزينه في قلوبهم ، ويكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان. (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) يضع الأشياء مواضعها ، ويعلم من يصلح للإيمان فيهديه ، ومن لا يصلح ، فيبقيه في غيه وطغيانه.

[١٦] يقول تعالى لعباده المؤمنين ـ بعد ما أمرهم بالجهاد ـ : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا) من دون ابتلاء وامتحان ، وأمر بما يبين به الصادق والكاذب. (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) أي : علما يظهر ما في القوة إلى الخارج ، ليترتب عليه الثواب والعقاب ، فيعلم الّذين يجاهدون في سبيله : لإعلاء كلمته (وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) أي : وليا من الكافرين ، بل يتخذون الله ورسوله والمؤمنين أولياء. فشرع الله الجهاد ، ليحصل به

٣٧٥

هذا المقصود الأعظم ، وهو أن يتميز الصادقون ، الّذين لا يتحيزون إلا لدين الله ، من الكاذبين الّذين يزعمون الإيمان وهم يتخذون الولائج والأولياء من دون الله ورسوله والمؤمنين. (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي : ما يصير منكم ويصدر ، فيبتليكم بما تظهر به حقيقة ما أنتم عليه ، ويجازيكم على أعمالكم ، خيرها وشرها.

[١٧ ـ ١٨] يقول تعالى : (ما كانَ) أي ما ينبغي ولا يليق (لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) بالعبادة ، والصلاة ، وغيرها من أنواع الطاعات ، والحال أنهم شاهدون ومقرون على أنفسهم بالكفر ، بشهادة حالهم وفطرهم وعلم كثير منهم أنهم على الكفر والباطل. فإذا كانوا (شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) وعدم الإيمان الذي هو شرط لقبول الأعمال ، فكيف يزعمون أنهم عمّار مساجد الله ، والأصل منهم مفقود ، والأعمال منهم باطلة؟ ولهذا قال : (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) أي : بطلت وضلت (وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ). ثمّ ذكر من هم عمّار مساجد الله فقال : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ) الواجبة والمستحبة ، بالقيام بالظاهر منها والباطن. (وَآتَى الزَّكاةَ) لأهلها (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ) أي قصر خشيته على ربه ، فكف عن ما حرم الله ، ولم يقصر بحقوق الله الواجبة. فوصفهم بالإيمان النافع ، وبالقيام بالأعمال الصالحة ، التي أمّها ، الصلاة ، والزكاة ، وبخشية الله التي هي أصل كل خير. فهؤلاء عمار المساجد على الحقيقة وأهلها الّذين هم أهلها. (فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) و «عسى» من الله واجبة. وأما من لم يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ، ولا عنده خشية لله ، فهذا ليس من عمار مساجد الله ، ولا من أهلها ، الّذين هم أهلها ، وإن زعم ذلك وادعاه.

[١٩ ـ ٢٢] لما اختلف بعض المسلمين ، أو بعض المسلمين وبعض المشركين ، في تفضيل عمارة المسجد الحرام ، بالبناء ، والصلاة والعبادة فيه ، وسقاية الحاج ، على الإيمان بالله ، والجهاد في سبيله ، أخبر الله تعالى بالتفاوت بينهما ، فقال : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ) أي : سقيهم الماء من زمزم ، كما هو المعروف ، إذا أطلق هذا الاسم ، أنه هو المراد (وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ). فالجهاد والإيمان بالله ، أفضل من سقاية الحاج ، وعمارة المسجد الحرام ، بدرجات كثيرة ، لأن الإيمان أصل الدين ، وبه تقبل الأعمال ، وتزكو الخصال. وأما الجهاد في سبيل الله فهو ذروة سنام الدين ، به يحفظ الدين الإسلامي ، ويتسع ، وينصر الحقّ ، ويخذل الباطل. وأما عمارة المسجد الحرام ، وسقاية الحاج ، فهي ، وإن كانت أعمالا صالحة ، فهي متوقفة على الإيمان ، وليس فيها من المصالح ، ما في الإيمان والجهاد ، فلذلك قال : (لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي : الّذين وصفهم الظلم ، الّذين لا يصلحون لقبول شيء من الخير ، بل لا يليق بهم إلا الشر. ثمّ صرح بالفضل فقال : (الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ) بالنفقة في الجهاد ، وتجهيز الغزاة (وَأَنْفُسِهِمْ) بالخروج بالنفس (أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) أي : لا يفوز بالمطلوب ، ولا ينجو من المرهوب ، إلا من اتصف بصفاتهم ، وتخلق بأخلاقهم. (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ) رحمة منه ، وكرما ، وبرا بهم ، واعتناء ومحبة لهم ، (بِرَحْمَةٍ مِنْهُ) أزال بها

٣٧٦

عنهم الشرور ، وأوصل إليهم بها كل خير. (وَرِضْوانٍ) منه تعالى عليهم ، الذي هو أكبر نعيم الجنة وأجلّه ، فيحل عليهم رضوانه ، فلا يسخط عليهم أبدا. (وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ) من كل ما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين ، مما لا يعلم وصفه ومقداره ، إلا الله تعالى ، الذي منه أن الله أعد للمجاهدين في سبيله ، مئة درجة ، ما بين كل درجتين ، كما بين السماء والأرض ، ولو اجتمع الخلق في درجة واحدة منها لوسعتهم. (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) لا ينتقلون عنها ، ولا يبغون عنها حولا ، (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) لا تستغرب كثرته على فضل الله ، ولا يتعجب من عظمه وحسنه ، على من يقول للشيء كن فيكون.

[٢٣ ـ ٢٤] يقول تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) اعملوا بمقتضى الإيمان ، بأن توالوا من قام به ، وتعادوا من لم يقم به. و (لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ) الّذين هم أقرب الناس إليكم ، وغيرهم من باب أولى وأحرى ، فلا تتخذوهم (أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا) أي : اختاروا على وجه الرضا والمحبة (الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ). (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) لأنهم تجرأوا على معاصي الله ، واتخذوا أعداء الله أولياء ، وأصل الولاية : المحبة والنصرة. وذلك أن اتخاذهم أولياء ، موجب لتقديم طاعتهم على طاعة الله ، ومحبتهم على محبة الله ورسوله. ولهذا ذكر السبب الموجب لذلك ، هو أن محبة الله ورسوله ، يتعين تقديمها على محبة كل شيء ، وجعل جميع الأشياء تابعة لهما فقال : (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ) ومثلهم الأمهات (وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ) في النسب والعشيرة (وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ) أي : قراباتكم عموما (وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها) أي : اكتسبتموها ، وتعبتم في تحصيلها. خصها بالذكر ، لأنها أرغب عند أهلها ، وصاحبها أشد حرصا عليها ، ممن تأتيه الأموال من غير تعب ولا كدّ. (وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها) أي : رخصها ونقصها ، وهذا شامل لجميع أنواع التجارات والمكاسب من عروض التجارات ، من الأثمان ، والأواني ، والأسلحة ، والأمتعة ، والحبوب ، والحروث ، والأنعام ، وغير ذلك. (وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها) من حسنها وزخرفتها ، وموافقتها لأهوائكم ، فإن كانت هذه الأشياء (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ) فأنتم فسقة ظلمة. (فَتَرَبَّصُوا) أي : انتظروا ما يحل بكم من العقاب (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) الذي لا مرد له. (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي : الخارجين عن طاعة الله ، المقدّمين على محبة الله ، شيئا من المذكورات. وهذه الآية الكريمة ، أعظم دليل على وجوب محبة الله ورسوله ، وعلى تقديمها على محبة كل شيء ، وعلى الوعيد الشديد والمقت الأكيد ، على من كان شيء من المذكورات أحب إليه من الله ورسوله ، وجهاد في سبيله. وعلامة ذلك أنه إذا عرض عليه أمران ، أحدهما يحبه الله ورسوله ، وليس لنفسه فيها هوى ، والآخر تحبه نفسه وتشتهيه ، ولكنه يفوّت عليه محبوبا لله ورسوله ، أو ينقصه ، فإنه إن قدم ما تهواه نفسه ، على ما يحبه الله ، دل على أنه ظالم ، تارك لما يجب عليه.

[٢٥] يمتن تعالى ، على عباده المؤمنين ، بنصره إياهم في مواطن كثيرة من مواطن اللقاء ، ومواضع الحروب والهيجاء ، حتى في يوم «حنين» الذي اشتدت عليهم فيه الأزمة ، ورأوا من التخاذل والفرار ، ما ضاقت عليهم به

٣٧٧

الأرض على رحبها وسعتها. وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما فتح مكة ، سمع أن هوازن اجتمعوا لحربه ، فسار إليهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أصحابه الّذين فتحوا مكة ، وممن أسلم من الطلقاء ، أهل مكة ، فكانوا اثني عشر ألفا ، والمشركون أربعة آلاف ، فأعجب بعض المسلمين بكثرتهم ، وقال بعضهم : لن نغلب اليوم من قلة. فلما التقوا ، هم وهوازن ، حملوا على المسلمين حملة واحدة ، فانهزموا لا يلوي أحد على أحد ، ولم يبق مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا نحو مئة رجل ، ثبتوا معه ، وجعلوا يقاتلون المشركين ، وجعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يركض بغلته نحو المشركين ويقول : «أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب». ولما رأى من المسلمين ما رأى ، أمر العباس بن عبد المطلب أن ينادي في الأنصار ، وبقية المسلمين ، وكان رفيع الصوت فناداهم : يا أصحاب السمرة ، يا أهل سورة البقرة. فلما سمعوا صوته ، عطفوا عطفة رجل واحد ، فاجتلدوا مع المشركين ، فهزم الله المشركين هزيمة شنيعة ، واستولوا على معسكرهم ، ونسائهم ، وأموالهم. وذلك قوله تعالى : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) وهو اسم للمكان الذي كانت فيه الوقعة بين مكة والطائف. (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً) أي : لم تفدكم شيئا ، قليلا ولا كثيرا (وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ) بما أصابكم من الهم والغم ، حين انهزمتم (بِما رَحُبَتْ) أي على رحبها وسعتها ، (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) أي منهزمين.

[٢٦] (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) والسكينة ما يجعله الله في القلوب ، وقت القلاقل والزلازل ، والمفظعات ، ما يثبتها ، ويسكنها ، ويجعلها مطمئنة ، وهي من نعم الله العظيمة على العباد. (وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) وهم الملائكة ، أنزلهم الله معونة للمسلمين يوم حنين ، يثبتونهم ، ويبشرونهم بالنصر. (وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالهزيمة والقتل ، واستيلاء المسلمين على نسائهم وأولادهم وأموالهم. (وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) يعذبهم الله في الدنيا ، ثمّ يردهم في الآخرة إلى عذاب غليظ.

[٢٧] (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ) فتاب الله على كثير ممن كانت الواقعة عليهم ، وأتوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسلمين تائبين ، فرد عليهم نساءهم ، وأولادهم. (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي : ذو مغفرة واسعة ، ورحمة عامة ، يعفو عن الذنوب العظيمة للتائبين ، ويرحمهم ، بتوفيقهم للتوبة والطاعة ، والصفح في جرائمهم ، وقبول توباتهم.

فلا ييأسنّ أحد من رحمته ومغفرته ، ولو فعل من الذنوب والإجرام ، ما فعل.

[٢٨] يقول تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ) بالله الّذين عبدوا معه غيره (نَجَسٌ) أي خبثاء في عقائدهم وأعمالهم. وأي نجاسة أبلغ ، ممن كان يعبد مع الله آلهة ، لا تنفع ولا تضر ، ولا تغني عنه شيئا؟ وأعمالهم ما بين محاربة لله ، وصد عن سبيل الله ، ونصر للباطل ، ورد للحق ، وعمل بالفساد في الأرض لا في الصلاح. فعليكم أن تطهروا أشرف البيوت وأطهرها عنهم. (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) وهو سنة تسع من الهجرة ، حين حج بالناس أبو بكر الصديق ، وبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابن عمه عليا ، أن يؤذن يوم الحج الأكبر ب «براءة» ، فنادى أن لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان. وليس المراد هنا ، نجاسة البدن ، فإن الكافر ـ كغيره ـ طاهر البدن ، بدليل أن الله تعالى أباح وطء الكتابية ومباشرتها ، ولم يأمر بغسل ما أصاب منها. والمسلمون ما زالوا يباشرون أبدان الكفار ، ولم ينقل عنهم أنهم تقذروا منها ، تقذّرهم من النجاسات. وإنّما المراد ـ كما تقدم ـ نجاستهم المعنوية ، بالشرك ، فإن كان التوحيد والإيمان ، طهارة ، فالشرك نجاسة. وقوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ) أيها المسلمون (عَيْلَةً) أي : فقرا وحاجة ، من منع المشركين من قربان المسجد الحرام ، بأن تنقطع الأسباب التي بينكم وبينهم ، من الأمور الدنيوية ، (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) فليس الرزق مقصورا على باب واحد ، ومحل واحد ، بل لا ينغلق باب ، إلا وفتح غيره أبواب كثيرة ، فإن فضل الله واسع ، وجوده عظيم ، خصوصا لمن ترك شيئا لوجه الله الكريم ، فإن الله أكرم الأكرمين. وقد أنجز الله وعده ، فإن الله قد أغنى المسلمين من فضله ، وبسط لهم من الأرزاق

٣٧٨

ما كانوا به من أكبر الأغنياء والملوك. وقوله : (إِنْ شاءَ) تعليق للإغناء بالمشيئة ، لأن الغنى في الدنيا ، ليس من لوازم الإيمان ، ولا يدل على محبة الله ، فلهذا علقه الله بالمشيئة ، فإن الله يعطي الدنيا ، من يحب. ومن لا يحب ، ولا يعطي الإيمان والدين ، إلا من يحب. (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي : علمه واسع ، يعلم من يليق به الغنى ، ومن لا يليق به ، ويضع الأشياء مواضعها ، وينزلها منازلها. وتدل الآية الكريمة ، وهي قوله : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) أن المشركين بعد ما كانوا هم الملوك والرؤساء بالبيت ، ثمّ صار بعد الفتح ، الحكم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ، مع إقامتهم في البيت ، ومكة المكرمة ، ثمّ نزلت هذه الآية. ولما مات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أمر أن يجلوا من الحجاز ، فلا يبقى فيها دينان. وكل هذا لأجل بعد كل كافر عن المسجد الحرام ، فيدخل في قوله : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا).

[٢٩] هذه الآية أمر بقتال الكفار من اليهود والنصارى من (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) إيمانا صحيحا يصدقونه بأفعالهم وأعمالهم. (وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ) فلا يتبعون شرعه ، في تحريم المحرمات ، (وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ) أي : لا يدينون بالدين الصحيح ، وإن زعموا أنهم على دين ، فإنه دين ، غير الحقّ ، لأنه إما دين مبدل ، وهو الذي لم يشرعه أصلا ، وإما دين منسوخ قد شرعه الله ، ثمّ غيره بشريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيبقى التمسك به بعد النسخ غير جائز. فأمره بقتال هؤلاء ، وحثّ على ذلك ، لأنهم يدعون إلى ما هم عليه ، ويحصل الضرر الكثير منهم للناس ، بسبب أنهم أهل كتاب. وعين ذلك القتال (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) أي : المال الذي يكون جزاء لترك المسلمين قتالهم ، وإقامتهم آمنين على أنفسهم وأموالهم ، بين أظهر المسلمين ، يؤخذ منهم كل عام ، كلّ على حسب حاله ، من غني ، وفقير ، ومتوسط ، كما فعل ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وغيره ، من أمراء المؤمنين. وقوله : (عَنْ يَدٍ) أي : حتى يبذلوها في حال ذلهم ، وعدم اقتدارهم ، ويعطوها بأيديهم ، فلا يرسلون بها خادما ، ولا غيره ، بل لا تقبل إلا من أيديهم ، (وَهُمْ صاغِرُونَ). فإذا كانوا بهذه الحال ، وسألوا المسلمين أن يقروهم بالجزية ، وهم تحت أحكام المسلمين وقهرهم ، وحال الأمن من شرهم وفتنتهم ، واستسلموا للشروط التي أجراها المسلمون ، بما ينفي عزهم وتكبرهم ، ويوجب ذلهم وصغارهم ، وجب على الإمام أو نائبه أن يعقدها لهم. وإلا ، بأن لم يفوا ، ولم يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، لم يجز إقرارهم بالجزية ، بل يقاتلون حتى يسلموا. واستدل بهذه الآية ، الجمهور الّذين يقولون : لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب ، لأن الله لم يذكر أخذ الجزية إلا منهم. وأما غيرهم ، فلم يذكر إلا قتالهم حتى يسلموا. وألحق بأهل الكتاب في أخذ الجزية ، وإقرارهم في ديار المسلمين ، المجوس. فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر ، ثمّ أخذها أمير المؤمنين عمر ، من الفرس المجوس. وقيل : إن الجزية تؤخذ من سائر الكفار ، من أهل الكتاب وغيرهم ، لأن هذه الآية نزلت بعد الفراغ من قتال العرب المشركين ، والشروع في قتال أهل الكتاب ونحوهم ، فيكون هذا القيد إخبارا بالواقع ، لا مفهوما له. ويدل على هذا ، أن المجوس أخذت منهم الجزية ، وليسوا أهل كتاب ، ولأنه قد تواتر عن

٣٧٩

المسلمين من الصحابة ومن بعدهم أنهم يدعون من يقاتلونهم إلى إحدى ثلاث : إما الإسلام ، أو أداء الجزية ، أو السيف ، من غير فرق بين كتابي وغيره.

[٣٠] لما أمر تعالى بقتال أهل الكتاب ، ذكر من أقوالهم الخبيثة ، ما يهيج المؤمنين الّذين يغارون لربهم ولدينهم ، على قتالهم ، والاجتهاد وبذل الوسع فيه فقال : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) وهذه المقالة ، وإن لم تكن مقالة لعامتهم فقد قالها فرقة منهم ، فيدل ذلك على أن في اليهود من الخبث والشر ، ما أوصلهم إلى أن قالوا هذه المقالة ، التي تجرأوا فيها على الله ، وتنقصوا عظمته وجلاله. وقد قيل : إن سبب ادعائهم في «عزيز» أنه ابن الله ، أنه لما تسلط الملوك على بني إسرائيل ، ومزقوهم كل ممزق ، وقتلوا حملة التوراة ، وجدوا عزيزا بعد ذلك ، حافظا لها أو أكثرها ، فأملاها عليهم من حفظه ، واستنسخوها ، فادعوا فيه هذه الدعوى الشنيعة. (وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ) عيسى ابن مريم (ابْنُ اللهِ) ، قال الله تعالى : (ذلِكَ) القول الذي قالوه (قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) لم يقيموا عليه حجة ولا برهانا. ومن كان لا يبالي بما يقول ، لا يستغرب عليه أي قول يقوله ، فإنه لا دين ولا عقل ، يحجزه ، عما يريد من الكلام. ولهذا قال : (يُضاهِؤُنَ) أي : يشابهون في قولهم هذا (قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) أي : قول المشركين الّذين يقولون : «الملائكة بنات الله» تشابهت أقوالهم في البطلان. (قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي : كيف يصرفون عن الحقّ ، الصرف الواضح المبين ، إلى القول الباطل المبين.

[٣١] وهذا ـ وإن كان يستغرب على أمة كبيرة كثيرة ، أن تتفق على قول ـ يدل على بطلانه ، أدنى تفكر وتسليط للعقل عليه ـ فإن لذلك سببا وهو أنهم : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ) وهم علماؤهم (وَرُهْبانَهُمْ) أي : العبّاد المتجردين للعبادة. (أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) يحلّون لهم ما حرم الله ، فيحلونه ، ويحرمون عليهم ما أحل الله فيحرمونه ، ويشرعون لهم من الشرائع والأقوال المنافية لدين الرسل فيتبعونهم عليها. وكانوا أيضا يغلون في مشايخهم وعبّادهم ، ويعظمونهم ، ويتخذون قبورهم أوثانا ، تعبد من دون الله ، وتقصد بالذبائح ، والدعاء والاستغاثة. (وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) اتخذوه إلها من دون الله ، والحال أنهم خالفوا في ذلك ، أمر الله لهم على ألسنة رسله ، قال تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فيخلصون له العبادة والطاعة ، ويخصونه بالمحبة والدعاء ، فنبذوا أمر الله ، وأشركوا به ، ما لم ينزل به سلطانا. (سُبْحانَهُ) وتعالى (عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي : تنزه وتقدس ، وتعالت عظمته عن شركهم وافترائهم ، فإنهم ينتقصونه في ذلك ، ويصفونه بما لا يليق بجلاله ، والله تعالى العالي في أوصافه وأفعاله ، عن كل ما نسب إليه ، مما ينافي كماله المقدس.

[٣٢] فلما تبين أنه لا حجة لهم على ما قالوه ، ولا برهان لما أصّلوه ، وإنّما هو مجرد قول قالوه ، وافتراء افتروه أخبر أنهم (يُرِيدُونَ) بهذا (أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ). ونور الله : دينه ، الذي أرسل به الرسل ، وأنزل به الكتب. وسماه الله نورا ، لأنه يستنار به في ظلمات الجهل ، والأديان الباطلة. فإنه علم بالحق ، وعمل بالحق ، وما عداه ، فإنه بضده. فهؤلاء اليهود والنصارى ، ومن ضاهاهم من المشركين ، يريدون أن يطفئوا نور الله ، بمجرد أقوالهم ، التي ليس عليها دليل أصلا. (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) لأنه النور الباهر ، الذي لا يمكن لجميع الخلق ، لو اجتمعوا على إطفائه ، أن يطفئوه ، والذي أنزله ، جميع نواصي العباد بيده. وقد تكفل بحفظه من كل من يريده بسوء ، ولهذا قال : (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) وسعوا ما أمكنهم في رده وإبطاله ، فإن سعيهم لا يضر الحقّ شيئا.

[٣٣] ثمّ بين تعالى هذا النور الذي قد تكفل بإتمامه وحفظه فقال : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى) الذي هو العلم النافع (وَدِينِ الْحَقِ) الذي هو العمل الصالح فكان ما بعث الله به محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم مشتملا على بيان الحقّ من الباطل ، في أسماء الله ، وأوصافه ، وأفعاله ، وفي أحكامه وأخباره ، والأمر بكل مصلحة نافعة للقلوب ، والأرواح ،

٣٨٠