تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي

تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

المؤلف:

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ١١٣٥

غني عنهم ، وعن أعمالهم. ومن غناه ، أن أغناهم وأقناهم في دنياهم وأخراهم.

[٢٦] ثمّ أخبر تعالى عن سعة حمده ، وأن حمده من لوازم ذاته ، فلا يكون إلا حميدا من جميع الوجوه ، فهو حميد في ذاته ، وهو حميد في صفاته. فكل صفة من صفاته ، يستحق عليها أكمل حمد وأتمه ، لكونها صفات عظمة وكمال. وجميع ما فعله وخلقه ، يحمد عليه ، وجميع ما أمر به ونهى عنه ، يحمد عليه. وجميع ما حكم به في العباد ، وبين العباد ، في هذه الحياة الدنيا ، وفي الآخرة ، يحمد عليه.

[٢٧] ثمّ أخبر عن سعة كلامه عزوجل ، وعظمة قوله ، بشرح يبلغ من القلوب كلّ مبلغ ، وتنبهر له العقول ، وتتحير فيه الأفئدة ، وتسيح في معرفته أولو الألباب والبصائر ، فقال : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) يكتب بها (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) مدادا يستمد بها ، لتكسرت تلك الأقلام ولفني ذلك المداد ، و (ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ). وهذا ليس مبالغة لا حقيقة له. بل لما علم تبارك وتعالى ، أن العقول تتقاصر عن الإحاطة ببعض صفاته ، وعلم تعالى ، أن معرفته لعباده ، أفضل نعمة ، أنعم بها عليهم ، وأجلّ منقبة حصلوها ، وهي لا تمكن على وجهها ، ولكن ما لا يدرك كله ، لا يترك كله ، فنبههم تعالى على بعضها تنبيها تستنير به قلوبهم ، وتنشرح له صدورهم ، ويستدلون بما وصلوا إليه إلى ما لم يصلوا إليه ، ويقولون كما قال أفضلهم وأعلمهم بربه : «لا نحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك». وإلا ، فالأمر أجلّ من ذلك ، وأعظم. وهذا التمثيل ، من باب تقريب المعنى ، الذي لا يطاق الوصول به إلى الأفهام والأذهان. وإلا ، فالأشجار ، وإن تضاعفت على ما ذكر ، أضعافا كثيرة ، والبحور لو امتدت بأضعاف مضاعفة ، فإنه يتصور نفادها وانقضاؤها ، لكونها مخلوقة. وأما كلام الله تعالى ، فلا يتصور نفاده ، بل دلنا الدليل الشرعي والعقلي ، على أنه لا نفاد له ولا منتهى ، فكل شيء ينتهى إلا الباري وصفاته (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) (٤٢). وإذا تصور العقل حقيقة أوليته تعالى وآخريته ، وأن كلّ ما فرضه الذهن والعقل ، من الأزمان السابقة ، مهما تسلسل الفرض والتقدير ، فهو تعالى قبل ذلك إلى غير نهاية. وأنه مهما فرض الذهن والعقل ، من الأزمان المتأخرة ، وتسلسل الفرض والتقدير ، وساعد على ذلك من ساعد ، بقلبه ولسانه ، فالله تعالى ، بعد ذلك إلى غير غاية ولا نهاية. والله من جميع الأوقات ، يحكم ، ويتكلم ، ويقول ، ويفعل كيف أراد ، وإذا أراد ، لا مانع له من شيء ، من أقواله وأفعاله. فإذا تصور العقل ذلك ، عرف أن المثل الذي ضربه الله لكلامه ، ليدرك العباد شيئا منه ، وإلا ، فالأمر أعظم وأجل. ثمّ ذكر جلالة عزته وكمال حكمته فقال : (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي : له العزة جميعا ، الذي ما في العالم العلوي والسفلي من القوة ، إلا هي منه ، هو الذي أعطاها للخلق ، فلا حول ولا قوة إلا به. وبعزّته قهر الخلق كلهم ، وتصرف فيهم ، ودبرهم. وبحكمته خلق الخلق ، وابتدأه بالحكمة ، وجعل غايته والمقصود منه الحكمة. وكذلك الأمر والنهي ، وجد بالحكمة ، وكانت غايته المقصودة ، الحكمة فهو الحكيم في خلقه وأمره.

[٢٨] ثمّ ذكر عظمة قدرته وكمالها وأنه لا يمكن أن يتصورها العقل فقال : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ

٧٨١

واحِدَةٍ) وهذا شيء يحير العقول. إن خلق جميع الخلق ـ على كثرتهم وبعثهم بعد موتهم ، بعد تفرقهم في لمحة واحدة ـ كخلقه نفسا واحدة. فلا وجه لاستبعاد البعث والنشور ، والجزاء على الأعمال ، إلا الجهل بعظمة الله وقوة قدرته. ثمّ ذكر عموم سمعه لجميع المسموعات ، وبصره لجميع المبصرات فقال : (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)

[٢٩] وهذا فيه أيضا ، انفراده بالتصرف والتدبير ، وسعة تصرفه بإيلاج الليل في النهار ، وإيلاج النهار في الليل ، أي : إدخال أحدهما على الآخر ، فإذا دخل أحدهما ، ذهب الآخر. وتسخيره للشمس والقمر ، ويجريان بتدبير ونظام ، لم يختل منذ خلقهما ، ليقيم بذلك من مصالح العباد ومنافعهم ، في دينهم ودنياهم ، ما به يعتبرون وينتفعون. و (كُلٌ) منهما (يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) إذا جاء ذلك الأجل ، انقطع جريانهما ، وتعطّل سلطانهما ، وذلك في يوم القيامة ، حين تكور الشمس ، ويخسف القمر ، وتنتهي دار الدنيا ، وتبتدئ الدار الآخرة. (وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) من خير وشر (خَبِيرٌ) لا يخفى عليه شيء من ذلك ، وسيجازيكم على تلك الأعمال ، بالثواب للمطيعين ، والعقاب للعاصين.

[٣٠] (ذلِكَ) الذي بين لكم من عظمته وصفاته ، ما بيّن (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) في ذاته وفي صفاته ، ودينه حق ، ورسله حق ، ووعده حق ، ووعيده حق ، وعبادته هي الحقّ. (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ) في ذاته وصفاته. فلو لا إيجاد الله له ، لما وجد ، ولو لا إمداده ، لما بقي. فإذا كان باطلا ، كانت عبادته أبطل وأبطل. (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُ) بذاته ، فوق جميع مخلوقاته ، الذي علت صفاته عن أن يقاس بها صفات ، وعلا على الخلق فقهرهم (الْكَبِيرُ) الذي له الكبرياء في ذاته وصفاته ، وله الكبرياء في قلوب أهل السماء والأرض.

[٣١] أي : ألم تر من آثار قدرته ورحمته ، وعنايته بعباده ، أن سخّر البحر ، تجري فيه الفلك ، بأمره القدري ، ولطفه وإحسانه. (لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ) ففيها الانتفاع والاعتبار. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ). المنتفعون بالآيات ، كل صبّار على الضراء ، شكور على السرّاء ، صبّار على طاعة الله وعن معصيته ، وعلى أقداره ، شكور لله ، على نعمه الدينية والدنيوية.

[٣٢] وذكر تعالى حال الناس ، عند ركوبهم البحر ، وغشيان الأمواج كالظلل فوقهم ، أنهم يخلصون الدعاء لله والعبادة فقال : (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ) وانقسموا فريقين : (فَمِنْهُمْ) فريق (مُقْتَصِدٌ) أي : لم يقم بشكر الله على وجه الكمال ، بل هم مذنبون ظالمون لأنفسهم. وفريق كافر بنعمة الله ، جاحد لها ، ولهذا قال : (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ) أي : غدار ، ومن غدره أنه عاهد ربه ، لئن أنجيتنا من البحر وشدته ، لنكونن من الشاكرين. فغدر هذا الفريق ولم يف بذلك ، وهو مع ذلك (كَفُورٍ) بنعم الله. فهل يليق بمن نجاهم الله من هذه الشدة ، إلا القيام التام بشكر نعم الله؟

[٣٣] يأمر تعالى الناس بتقواه ، الّتي هي : امتثال أوامره ، وترك زواجره. ويستلفتهم لخشية يوم القيامة ، اليوم

٧٨٢

الشديد ، الذي فيه كلّ أحد ، لا يهمه إلا نفسه (وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) يزيد في حسناته ولا ينقص من سيئاته ، قد تم على كلّ عبد عمله ، وتحقق عليه جزاؤه. فلفت النظر لهذا اليوم المهول ، مما يقوي العبد ، ويسهّل عليه تقوى الله. وهذا من رحمة الله بالعباد ، يأمرهم بتقواه الّتي فيها سعادتهم ، ويعدهم عليها الثواب ، ويحذرهم من العقاب ، ويزجرهم عنه بالمواعظ والمخوفات. فلك الحمد يا رب العالمين. (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) فلا تمتروا فيه ، ولا تعملوا عمل غير المصدق ، فلهذا قال : (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) بزينتها وزخارفها ، وما فيها من الفتن والمحن. (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) الذي هو الشيطان ، ما زال يخدع الإنسان ولا يغفل عنه في جميع الأوقات. فإن لله على عباده حقا ، وقد وعدهم موعدا يجازيهم فيه بأعمالهم ، وهل وفوا حقه ، أم قصروا فيه. وهذا أمر يجب الاهتمام به ، وأن يجعله العبد نصب عينيه ، ورأس مال تجارته الّتي يسعى إليها. ومن أعظم العوائق عنه والقواطع دونه ، الدنيا الفتانة ، والشيطان الموسوس المسوّل. فنهى تعالى عباده ، أن تغرهم الدنيا ، أو يغرهم بالله الغرور (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) (١٢٠).

[٣٤] قد تقرر أن الله تعالى ، أحاط علمه بالغيب والشهادة ، والظواهر والبواطن ، وقد يطلع الله عباده على كثير من الأمور الغيبية ، وهذه الأمور الخمسة ، من الأمور الّتي طوى علمها عن جميع الخلق ، فلا يعلمها نبي مرسل ، ولا ملك مقرب ، فضلا عن غيرهما ، فقال : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي : يعلم متى مرساها ، كما قال تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) الآية. (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) أي : هو المنفرد بإنزاله ، وعلم وقت نزوله. (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) فهو الذي أنشأ ما فيها ، وعلم ما هو ، هل هو ذكر أم أنثى. ولهذا يسأل الملك الموكل بالأرحام ربه : هل هو ذكر أم أنثى؟ فيقضي الله ما يشاء. (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً) من كسب دينها ودنياها. (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) بل الله تعالى هو المختص بعلم ذلك جميعه. ولما خصص هذه الأشياء ، عمم علمه بجميع الأشياء فقال : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) محيط بالظواهر والبواطن ، والخفايا والخبايا ، والسرائر. ومن حكمته التامة ، أن أخفى علم هذه الخمسة عن العباد ؛ لأن في ذلك من المصالح ، ما لا يخفى على من تدبر ذلك. تم تفسير سورة لقمان.

تفسير سورة السجدة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] يخبر تعالى أن هذا الكتاب الكريم ، تنزيل من رب العالمين ، الذي رباهم بنعمته. ومن أعظم ما رباهم به ، هذا الكتاب ، الذي فيه كلّ ما يصلح أحوالهم ، ويتمم أخلاقهم. وأنه لا ريب فيه ، ولا شك ، ولا امتراء ، ومع ذلك قال المكذبون للرسول الظالمون في ذلك : افتراه محمد ، واختلقه من عند نفسه. وهذا من أكبر الجراءة على إنكار كلام الله ، ورمي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بأعظم الكذب ، وقدرة الخلق على كلام مثل كلام الخالق. وكلّ واحد من هذه من الأمور العظائم. قال الله ـ رادّا على من قال : افتراه :

[٣] (بَلْ هُوَ الْحَقُ) الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. (مِنْ رَبِّكَ) أنزله رحمة للعباد (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) أي : في حالة ضرورة وفاقة لإرسال الرسول ، وإنزال الكتاب ، لعدم النذير. بل هم في جهلهم يعمهون ، وفي ظلمة ضلالهم يترددون. فأنزلنا الكتاب عليك (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ)

٧٨٣

من ضلالهم ، فيعرفون الحق ويؤثرونه. وهذه الأشياء التي ذكرها الله ، كلها مناقضة لتكذيبهم له : وإنها تقتضي منهم الإيمان والتصديق التام به ، وهو كونه (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) وأنه (الْحَقُ) والحق مقبول على كل حال ، وأنه (لا رَيْبَ فِيهِ) بوجه من الوجوه. فليس فيه ، ما يوجب الريبة ، لا بخبر غير مطابق للواقع ، ولا بخفاء واشتباه معانيه. وأنهم في ضرورة وحاجة إلى الرسالة ، وأن فيه الهداية لكل خير وإحسان.

[٤] يخبر تعالى عن كمال قدرته بأنه (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أولها ، يوم الأحد ، وآخرها الجمعة ، مع قدرته على خلقها بلحظة ، ولكنه تعالى رفيق حكيم. (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) الذي هو سقف المخلوقات ، استواء يليق بجلاله. (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍ) يتولاكم في أموركم ، فينفعكم (وَلا شَفِيعٍ) يشفع لكم ، إن توجه عليكم العقاب. (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) فتعلمون أن خالق الأرض والسموات ، المستوي على العرش العظيم ، الذي انفرد بتدبيركم ، وتوليكم ، وله الشفاعة كلها ، هو المستحق لجميع أنواع العبادة.

[٥] (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) القدري والأمر الشرعي ، الجميع هو المتفرد بتدبيره ، نازلة تلك التدابير من عند الملك القدير (مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) فيسعد بها ويشقي ، ويغني ويفقر ، ويعزّ ، ويذلّ ، ويكرم ، ويهين ، ويرفع أقواما ، ويضع آخرين ، وينزّل الأرزاق. (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) أي : الأمر ينزل من عنده ، ويعرج إليه (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) وهو يعرج إليه ، ويصله في لحظة.

[٦] (ذلِكَ) الذي خلق تلك المخلوقات العظيمة ، الذي استوى على العرش العظيم ، وانفرد بالتدابير في المملكة (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ). فبسعة علمه ، وكمال عزته ، وعموم رحمته ، أوجدها ، وأودع فيها من المنافع ما أودع ، ولم يعسر عليه تدبيرها.

[٧] (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) أي : كل مخلوق خلقه الله ، فإن الله أحسن خلقه ، وخلقه خلقا يليق به ، ويوافقه ـ فهذا عام. ثم خص الآدمي لشرفه وفضله فقال : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) وذلك بخلق آدم عليه‌السلام ، أبي البشر.

[٨] (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ) أي : ذرية آدم ناشئة (مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) وهو النطفة المستقذرة الضعيفة.

[٩] (ثُمَّ سَوَّاهُ) بلحمه ، وأعضائه ، وأعصابه ، وعروقه ، وأحسن خلقته ، ووضع كل عضو منه ، بالمحل الذي لا يليق به غيره. (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) بأن أرسل إليه الملك ، فينفخ فيه الروح ، فيعود بإذن الله ، حيوانا ، بعد أن كان جمادا. (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) أي : ما زال يعطيكم من المنافع شيئا فشيئا ، حتى أعطاكم السمع والأبصار (وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) الذي خلقكم وصوركم.

[١٠] أي : قال المكذبون بالبعث على وجه الاستبعاد : (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) أي : بلينا وتمزقنا ، وتفرقنا في المواضع التي لا تعلم. (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي : لمبعوثون بعثا جديدا. بزعمهم أن هذا من أبعد الأشياء ، وذلك

٧٨٤

بقياسهم قدرة الخالق ، على قدرهم. وكلامهم هذا ، ليس لطلب الحقيقة ، وإنما هو ظلم ، وعناد ، وكفر بلقاء ربهم وجحد ، ولهذا قال : (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) فكلامهم على مصدره وغايته. وإلا ، فلو كان قصدهم بيان الحق ، لبيّن لهم من الأدلة القاطعة على ذلك ، ما يجعله مشاهدا للبصيرة ، بمنزلة الشمس للبصر. ويكفيهم علمهم أنهم قد ابتدئوا من العدم ، فالإعادة أسهل من الابتداء ، وكذلك الأرض الميتة ، ينزل الله عليها المطر ، فتحيا بعد موتها ، وينبت به متفرق بذورها.

[١١] (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) أي : جعله الله وكيلا على قبض الأرواح ، وله أعوان. (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) فيجازيكم بأعمالكم ، وقد أنكرتم البعث ، فانظروا ماذا يفعل الله بكم.

[١٢] لما ذكر تعالى رجوعهم إليه يوم القيامة ، ذكر حالهم في مقامهم بين يديه ، فقال : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ) الذين أصروا على الذنوب العظيمة. (ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) خاشعين خاضعين أذلاء ، مقرين بجرمهم ، سائلين الرجعة قائلين : (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) أي ؛ بان لنا الأمر ، ورأيناه عيانا ، فصار عين يقين. (فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) أي : صار عندنا الآن ، يقين بما كنا نكذب به. أي لرأيت أمرا فظيعا ، وحالا مزعجة ، أقواما خاسرين ، وسؤالا غير مجاب ، لأنه قد مضى وقت الإمهال.

[١٣] وكل هذا بقضاء الله وقدره ، حيث خلى بينهم وبين الكفر والمعاصي ، فلهذا قال : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) أي : لهدينا الناس كلهم ، وجمعناهم على الهدى. فمشيئتنا صالحة لذلك ، ولكن الحكمة ، تأبى أن يكونوا كلهم على الهدى ، ولهذا قال : (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) أي : وجب ، وثبت ثبوتا لا تغير فيه. (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) فهذا الوعد ، لا بد منه ، ولا محيد عنه. فلا بد من تقرير أسبابه من الكفر والمعاصي.

[١٤] (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي : يقال للمجرمين ، الذين ملكهم الذل ، وسألوا الرجعة إلى الدنيا ، ليستدركوا ما فاتهم : قد فات وقت الرجوع ولم يبق إلا العذاب ، فذوقوا العذاب الأليم ، بما نسيتم لقاء يومكم هذا. وهذا النسيان نسيان ترك ، أي : بما أعرضتم عنه ، وتركتم العمل له ، وكأنكم غير قادمين عليه ، ولا ملاقيه. (إِنَّا نَسِيناكُمْ) أي : تركناكم بالعذاب ، جزاء من جنس عملكم ، فكما نسيتم نسيتم. (وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ) أي : العذاب غير المنقطع. فإن العذاب إذا كان له أجل وغاية ، كان فيه بعض التنفيس والتخفيف. وأما عذاب جهنم ـ أعاذنا الله منه ـ فليس فيه روح راحة ، ولا انقطاع لعذابهم فيها. (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من الكفر والفسوق والمعاصي.

[١٥] لما ذكر الكافرين بآياته ، وما أعد لهم من العذاب ، ذكر المؤمنين بها ، ووصفهم ، وما أعد لهم من الثواب فقال : (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا) أي : إيمانا حقيقيا ، من يوجد منه شواهد الإيمان. وهم : (الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها)

٧٨٥

فتليت عليهم آيات القرآن ، وأتتهم النصائح على أيدي رسل الله ، ودعوا إلى التذكر ، سمعوها فقبلوها ، وانقادوا ، و (خَرُّوا سُجَّداً) أي : خاضعين لها ، خضوع ذكر لله ، وفرح بمعرفته. (وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) لا بقلوبهم ، ولا بأبدانهم ، فيمتنعون من الانقياد لها بل متواضعون لها ، وقد تلقوها بالقبول ، وقابلوها بالانشراح والتسليم ، وتوصلوا بها إلى مرضاة الرب الرحيم ، واهتدوا بها إلى الصراط المستقيم.

[١٦] (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) أي : ترتفع جنوبهم ، وتنزعج عن مضاجعها اللذيذة ، إلى ما هو ألذ عندهم منه وأحب إليهم ، وهو : الصلاة في الليل ، ومناجاة الله تعالى. ولهذا قال : (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) أي : في جلب مصالحهم الدينية والدنيوية ، ودفع مضارهما. (خَوْفاً وَطَمَعاً) أي : جامعين بين الوصفين ، خوفا أن ترد أعمالهم ، وطمعا في قبولها. خوفا من عذاب الله ، وطمعا في ثوابه. (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ) من الرزق ، قليلا أو كثيرا (يُنْفِقُونَ) ولم يذكر قيد النفقة ، ولا المنفق عليه ، ليدل على العموم. فإنه يدخل فيه ، النفقة الواجبة ، كالزكوات ، والكفارات ، ونفقة الزوجات والأقارب ، والنفقة المستحبة في وجوه الخير ، والنفقة والإحسان المالي ، خير مطلقا ، سواء وافق فقيرا أو غنيا ، قريبا أو بعيدا ، ولكن الأجر يتفاوت ، بتفاوت النفع ، فهذا عملهم.

[١٧] وأما جزاؤهم ، فقال : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ) يدخل فيه جميع نفوس الخلق ، لكونه نكرة في سياق النفي. أي : فلا يعلم أحد (ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) من الخير الكثير ، والنعيم الغزير ، والفرح والسرور ، واللذة والحبور. كما قال تعالى على لسان رسوله : «أعددت لعبادي الصالحين ، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر». فكما صلوا في الليل ، ودعوا ، وأخفوا العمل ، جازاهم من جنس عملهم ، فأخفى أجرهم ، ولهذا قال : (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ).

[١٨] ينبه تعالى ، العقول على ما تقرر فيها ، من عدم تساوي المتفاوتين المتباينين ، وأن حكمته تقضي عدم تساويهما فقال : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً) قد عمّر قلبه الإيمان ، وانقادت جوارحه لشرائعه ، واقتضى إيمانه آثاره وموجباته ، من ترك مساخط الله ، التي يضر وجودها بالإيمان. (كَمَنْ كانَ فاسِقاً) قد خرب قلبه ، وتعطل من الإيمان ، فلم يكن فيه وازع ديني ، فأسرعت عنه جوارحه بموجبات الجهل والظلم ، في كل إثم ومعصية ، وخرج بفسقه عن طاعة ربه. أفيستوي هذان الشخصان؟ (لا يَسْتَوُونَ) عقلا وشرعا ، كما لا يستوي الليل والنهار ، والضياء ، والظلمة ، وكذلك لا يستوي ثوابهما في الآخرة.

[١٩] و (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) من فروض ونوافل (فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى) أي : الجنات التي هي مأوى اللذات ، ومعدن الخيرات ، ومحل الأفراح ، ونعيم القلوب ، والنفوس ، والأرواح ، ومحل الخلود ، وجوار الملك المعبود ، والتمتع بقربه ، والنظر إلى وجهه ، وسماع خطابه. (نُزُلاً) لهم أي : ضيافة ، وقرى (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ). فأعمالهم التي تفضل الله بها عليهم ، هي التي أوصلتهم لتلك المنازل الغالية العالية ، التي لا يمكن التوصل إليها ببذل

٧٨٦

الأموال ، ولا بالجنود والخدم ، ولا بالأولاد ، بل ولا بالنفوس والأرواح ، ولا يتقرب إليها بشيء أصلا ، سوى الإيمان والعمل الصالح.

[٢٠] (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ) أي : مقرهم ومحل خلودهم ، النار التي جمعت كل عذاب وشقاء ، ولا يفتّر عنهم العقاب ساعة. (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها) فكلما حدثتهم إرادتهم بالخروج ، لبلوغ العذاب منهم كل مبلغ ، ردوا إليها ، فذهب عنهم روح ذلك الفرج ، واشتد عليهم الكرب. (وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) فهذا عذاب النار ، الذي يكون فيه مقرهم ومأواهم.

[٢١] وأما العذاب الذي قبل ذلك ، ومقدمة له وهو عذاب البرزخ ، فقد ذكر بقوله : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ) إلى (يَرْجِعُونَ). أي : ولنذيقن الفاسقين المكذبين ، نموذجا من العذاب الأدنى ، وهو عذاب البرزخ ، فنذيقهم طرفا منه ، قبل أن يموتوا. إما بعذاب بالقتل ونحوه ، كما جرى لأهل بدر من المشركين. وإما عند الموت ، كما في قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) ثم يكمل لهم العذاب الأدنى في برزخهم. وهذه الآية من الأدلة على إثبات عذاب القبر ، ودلالتها ظاهرة ، فإنه قال : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى) أي : بعض وجزء منه ، فدلّ على أن ثمّ عذابا أدنى قبل العذاب الأكبر ، وهو عذاب النار. ولما كانت الإذاقة من العذاب الأدنى في الدنيا ، قد لا يتصل بها الموت ، أخبر تعالى ، أنه يذيقهم ذلك لعلهم يرجعون إليه ويتوبون من ذنوبهم كما قال تعالى : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٤١).

[٢٢] أي : لا أحد أظلم ، وأزيد تعديا ، ممن ذكر بآيات ربه ، التي أوصلها إليه ربه ، الذي يريد تربيته ، وتكميل نعمته على أيدي رسله ، تأمره ، وتذكره بمصالحه الدينية والدنيوية ، وتنهاه عن مضاره الدينية والدنيوية ، التي تقتضي أن تقابلها بالإيمان والتسليم ، والانقياد والشكر. فقابلها هذا الظالم بضد ما ينبغي ، فلم يؤمن بها ، ولا اتبعها ، بل أعرض عنها وتركها وراء ظهره ، فهذا من أكبر المجرمين ، الذين يستحقون شديد النقمة. ولهذا قال : (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ).

[٢٣] لما ذكر تعالى ، آياته التي ذكر بها عباده ، وهو : القرآن ، الذي أنزله على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ذكّر أنه ليس ببدع من الكتب ، ولا من جاء به ، بغريب من الرسل. (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) الذي هو التوراة المصدقة للقرآن ، والتي قد صدقها القرآن ، فتطابق حقهما ، وثبت برهانهما. (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) لأنه قد تواردت أدلة الحق وبيناته ، فلم يبق للشك والمرية محل. (وَجَعَلْناهُ) أي : الكتاب الذي آتيناه موسى (هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) يهتدون به في أصول دينهم ، وفروعه ، وشرائعه وموافقة لذلك الزمان ، في بني إسرائيل. وأما هذا القرآن الكريم ، فجعله الله هداية للناس كلهم ، لأنه هداية للخلق في أمر دينهم ودنياهم ، إلى يوم القيامة ، وذلك لكماله وعلوه (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) (٤).

[٢٤] (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ) أي : من بني إسرائيل (أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) أي : علماء بالشرع ، وطرق الهداية ، مهتدين في أنفسهم يهدون غيرهم بذلك الهدى. فالكتاب الذي أنزل إليهم هدى ، والمؤمنون به منهم على قسمين : أئمة يهدون بأمر الله ، وأتباع مهتدون بهم. والقسم الأول ، أرفع الدرجات بعد درجة النبوة والرسالة ، وهي درجة الصديقين. وإنما نالوا هذه الدرجة العالية (لَمَّا صَبَرُوا) على التعلم والتعليم ، والدعوة إلى الله ، والأذى في سبيله ، وكفوا نفوسهم عن جماحها في المعاصي ، واسترسالها في الشهوات. (وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) أي : وصلوا في الإيمان بآيات الله ، إلى درجة اليقين ، وهو العلم التام ، الموجب للعمل. وإنما وصلوا إلى درجة اليقين ، لأنهم تعلموا تعلما صحيحا ، وأخذوا المسائل عن أدلتها المفيدة لليقين. فما زالوا يتعلمون المسائل ، ويستدلون عليها بكثرة

٧٨٧

الدلائل ، حتى وصلوا لذلك. فبالصبر واليقين ، تنال الإمامة في الدين.

[٢٥] وثمّ مسائل اختلف فيها بنو إسرائيل ، منهم من أصاب فيها الحق ، ومنهم من أخطأه خطأ ، أو عمدا ، والله تعالى (يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) وهذا القرآن يقص على بني إسرائيل ، بعض الذي يختلفون فيه ، فكل خلاف وقع بينهم ، ووجد في القرآن تصديق لأحد القولين ، فهو الحق ، وما عداه مما خالفه ، باطل.

[٢٦] يعني : أو لم يتبين لهؤلاء المكذبين للرسول ، ويهدهم إلى الصواب. (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ) الذين سلكوا مسلكهم. (يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) فيشاهدونها عيانا ، كقوم هود ، وصالح ، وقوم لوط. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) يستدل بها ، على صدق الرسل التي جاءتهم ، وبطلان ما هم عليه ، من الشرك والشر ، وعلى أن من فعل مثل فعلهم ، فعل به كما فعل بأشياعه من قبل. وعلى أن الله تعالى مجازي العباد ، وباعثهم للحشر والتناد. (أَفَلا يَسْمَعُونَ) آيات الله ، فيعونها ، فينتفعون بها. فلو كان لهم سمع صحيح ، وعقل رجيح ، لم يقيموا على حالة يجزم بها بالهلاك.

[٢٧] (أَوَلَمْ يَرَوْا) بأبصارهم نعمتنا ، وكمال حكمتنا (أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) التي لا نبات فيها ، فيسوق الله المطر ، الذي لم يكن قبل موجودا فيها ، فيفرغه فيها ، من السحاب ، أو من الأنهار. (فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً) أي : نباتا ، مختلف الأنواع (تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ) وهو نبات البهائم (وَأَنْفُسُهُمْ) وهو طعام الآدميين. (أَفَلا يُبْصِرُونَ) تلك المنة ، التي أحيا الله بها البلاد والعباد ، فيستبصرون فيهتدون بذلك البصر ، وتلك البصيرة ، إلى الصراط المستقيم. ولكن غلب عليهم العمى ، واستولت عليهم الغفلة ، فلم يبصروا في ذلك بصر الرجال. وإنما نظروا إلى ذلك نظر الغفلة ، ومجرد العادة ، فلم يوفقوا للخير.

[٢٨] أي : يستعجل المجرمون بالعذاب ، الذي وعدوا به على التكذيب ، جهلا منهم ومعاندة. (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ) الذي يفتح بيننا وبينكم ، بتعذيبنا على زعمكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم.

[٢٩] (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ) الذي يحصل به عقابكم ، لا يستفيدون به شيئا. فلو كان إذا حصل ، حصل إمهالكم ، لتستدركوا ما فاتكم ، حين صار الأمر عندكم يقينا ، لكان لذلك وجه. ولكن إذا جاء يوم الفتح ، انقضى الأمر ، ولم يبق للمحنة والابتلاء محل إذ (لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ) لأنه صار إيمان ضرورة. (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي : يمهلون ، فيؤخر عنهم العذاب ، فيستدركون أمرهم. (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) لما وصل خطابهم لك وظلمهم إلى حالة الجهل ، واستعجال العذاب. (وَانْتَظِرْ) الأمر الذي يحل بهم ، فإنه لا بد منه ، ولكن له أجل ، إذا جاء لا يتقدم ولا يتأخر. (إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) بك ريب المنون ، ومتربصون بكم دوائر السوء ، والعاقبة للتقوى. تم تفسير سورة السجدة.

٧٨٨

تفسیرسورة الأحزاب

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] أي : يا أيها الذي منّ الله عليه بالنبوة ، واختصه بوحيه ، وفضله على سائر الخلق. اشكر نعمة ربك عليك ، باستعمال تقواه ، التي أنت أولى بها من غيرك ، والتي يجب عليك منها ، أعظم من سواك ، فامتثل أوامره ونواهيه ، وبلّغ رسالاته ، وأدّ إلى عباده وحيه ، وابذل النصيحة للخلق. ولا يصدنك عن هذا المقصود صاد ، ولا يردك عنه راد. فلا تطع كل كافر ، قد أظهر العداوة لله ولرسوله ، ولا منافق ، قد أبطن التكذيب والكفر ، وأظهر ضده. فهؤلاء هم الأعداء على الحقيقة ، فلا تطعهم في بعض الأمور ، التي تنقض التقوى ، وتناقضها ، ولا تتبع أهواءهم ، فيضلوك عن الصواب.

[٢] (وَ) لكن (اتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) فإنه هو الهدى والرحمة. وارج بذلك ثواب ربك (إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) يجازيكم بحسب ما يعلمه منكم ، من الخير والشر. فإن وقع في قلبك ، أنك إن لم تطعهم في أهوائهم المضلة ، حصل عليك منهم ضرر ، أو حصل نقص في هداية الخلق ، فادفع ذلك عن نفسك ، واستعمل ما يقاومه ويقاوم غيره ، وهو التوكل على الله ، بأن تعتمد على ربك ، اعتماد من لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ، ولا موتا ولا حياة ، ولا نشورا ، في سلامتك من شرهم ، وفي إقامة الدين ، الذي أمرت به ، وثق بالله في حصول ذلك الأمر على أي حال كان.

[٣] (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) توكل إليه الأمور ، فيقوم بها ، وبما هو أصلح للعبد. وذلك لعلمه بمصالح عبده ، من حيث لا يعلم العبد ، وقدرته على إيصالها إليه ، من حيث لا يقدر عليها العبد ، وأنه أرحم بعبده من نفسه ، ومن والديه ، وأرأف به من كل أحد ، خصوصا خواص عبيده ، الذين لم يزل يربيهم ببره ، ويدرّ عليهم بركاته الظاهرة والباطنة. خصوصا وقد أمره بإلقاء أموره إليه ، ووعده أن يقوم بها. فهناك لا تسأل عن كل أمر يتيسر ، وصعب يتسهل ، وخطوب تهون وكروب تزول ، وأحوال وحوائج تقضى ، وبركات تنزل ، ونقم تدفع وشرور ترفع. وهناك ترى العبد الضعيف ، الذي يفوض أمره لسيده ، قد قام بأمور ، لا تقوم بها أمة من الناس ، وقد سهل الله عليه ، ما كان يصعب على فحول الرجال وبالله المستعان.

[٤] يعاتب تعالى عباده ، عن التكلم بما لا حقيقة له من الأقوال ، ولم يجعله الله تعالى كما قالوا ، فإن ذلك القول منهم كذب وزور ، يترتب عليه منكرات من الشرع. وهذه قاعدة عامة في التكلم في كل شيء ، والإخبار بوقوع ووجود ما لم يجعله الله تعالى. ولكن خص هذه الأشياء المذكورة ، لوقوعها ، وشدة الحاجة إلى بيانها فقال : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) هذا لا يوجد. فإياكم أن تقولوا عن أحد : إن له قلبين في جوفه ، فتكونوا كاذبين على الخلقة الإلهية. (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَ) بأن يقول أحدكم لزوجته : «أنت عليّ كظهر أمي أو كأمي»

٧٨٩

فما جعلهن الله (أُمَّهاتِكُمْ) ، أمك من ولدتك ، وصارت أعظم النساء عليك ، حرمة وتحريما. وزوجتك أحلّ النساء لك ، فكيف تشبه أحد المتناقضين بالآخر؟ هذا أمر لا يجوز ، كما قال تعالى : (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً). (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) والأدعياء ، جمع «دعيّ» وهو : الولد الذي كان الرجل يدعيه ، وهو ليس له ، أو يدعى إليه ، بسبب تبنيه إياه ، كما كان الأمر في الجاهلية ، وأول الإسلام. فأراد الله تعالى أن يبطله ويزيله ، فقدم بين يدي ذلك بيان قبحه ، وأنه باطل وكذب ، وكل باطل وكذب ، لا يوجد في شرع الله ، ولا يتصف به عباد الله. يقول تعالى ؛ فالله لم يجعل الأدعياء الذين تدعونهم ، أو يدعون إليكم ، أبناءكم. فإن أبناءكم في الحقيقة ، من ولدتموهم ، وكانوا منكم. أما هؤلاء الأدعياء من غيركم ، فلا جعل الله هذا كهذا. (ذلِكُمْ) القول ، الذي تقولون في الدعي : إنه ابن فلان الذي ادعاه ، أو والده فلان (قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) أي : قول لا حقيقة له ولا معنى له. (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ) أي : اليقين والصدق ، فلذلك أمركم باتباعه ، على قوله وشرعه. فقوله حق ، وشرعه حق ، والأقوال والأفعال الباطلة لا تنسب إليه بوجه من الوجوه وليست من هدايته ؛ لأنه لا يهدي إلا إلى السبيل المستقيمة ، والطرق الصادقة. وإن كان ذلك واقعا بمشيئته ، فمشيئته عامة ، لكل ما وجد من خير وشر.

[٥] ثم صرّح لهم بترك الحالة الأولى ، المتضمنة للقول الباطل فقال : (ادْعُوهُمْ) أي : الأدعياء (لِآبائِهِمْ) الذين ولدوهم (هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) أي : أعدل ، وأقوم ، وأهدى. (فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ) الحقيقيين (فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ) أي : إخوتكم في دين الله ، ومواليكم في ذلك ، فادعوهم بالأخوة الإيمانية الصادقة ، والموالاة على ذلك ، فترك الدعوة إلى من تبناهم حتم ، لا يجوز فعلها. وأما دعاؤهم لآبائهم ، فإن علموا ، دعوا إليهم ، وإن لم يعلموا ، اقتصر على ما يعلم منهم ، وهو أخوة الدين والموالاة. فلا تظنوا أن حالة عدم علمكم بآبائهم ، عذر في دعوتهم إلى من تبناهم ، لأن المحذور لا يزول بذلك. (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) بأن سبق على لسان أحدكم ، دعوته إلى من تبناه ، فهذا غير مؤاخذ به ، أو علم أبوه ظاهرا ، فدعوتموه إليه وهو في الباطن غير أبيه ، فليس في ذلك حرج ، إذا كان خطأ. (وَلكِنْ) يؤاخذكم في (ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) من الكلام ، بما لا يجوز. (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) غفر لكم ، ورحمكم ، حيث لم يعاقبكم بما سلف ، وسمح لكم بما أخطأتم به ، ورحمكم حيث بيّن لكم أحكامه ، التي تصلح دينكم ودنياكم ، فله الحمد تعالى.

[٦] يخبر تعالى المؤمنين ، خبرا يعرفون به حالة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومرتبته ، فيعاملونه بمقتضى تلك الحالة فقال : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أقرب ما للإنسان ، وأولى ما له نفسه. فالرسول أولى بالمؤمن من نفسه ، لأنه عليه الصلاة والسلام ، بذل لهم من النصح ، والشفقة ، والرأفة ، ما كان به أرحم الخلق ، وأرأفهم. فرسول الله ، أعظم الخلق منّة عليهم ، من كل أحد ، فإنه لم يصل إليهم مثقال ذرة من الخير ، ولا اندفع عنهم مثقال ذرة من الشر ، إلا

٧٩٠

على يديه وبسببه. فلذلك وجب عليهم إذا تعارض مراد النفس ، أو مراد أحد من الناس ، مع مراد الرسول ، أن يقدم مراد الرسول ، وأن لا يعارض قول الرسول ، بقول أحد ، كائنا من كان ، وأن يفدوه بأنفسهم وأموالهم وأولادهم ، ويقدموا محبته على الخلق كلهم ، وألا يقولوا حتى يقول ، ولا يتقدموا بين يديه. وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أب للمؤمنين ، كما في قراءة بعض الصحابة ، يربيهم كما يربي الوالد أولاده. فترتب على هذه الأبوة ، أن كان نساؤه أمهاتهم ، أي : في الحرمة والاحترام ، والإكرام ، لا في الخلوة والمحرمية ، وكأن هذا مقدمة ، لما سيأتي في قصة زيد بن حارثة ، الذي كان يدعى قبل «زيد بن محمد» حتى أنزل الله (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) فقطع نسبه وانتسابه منه. فأخبر في هذه الآية ، أن المؤمنين كلهم ، أولاد للرسول ، فلا مزيد لأحد عن أحد. وإن انقطع عن أحدهم انتساب الدعوة ، فإن النسب الإيماني لم ينقطع عنه ، فلا يحزن ولا يأسف. وترتب على أن زوجات الرسول أمهات المؤمنين ، أنهن لا يحللن لأحد من بعده ، كما صرّح بذلك في قوله : (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً). (وَأُولُوا الْأَرْحامِ) أي : الأقارب ، قربوا أو بعدوا (بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) أي : في حكمه ، فيرث بعضهم بعضا ، ويبر بعضهم بعضا ، فهم أولى من الحلف والنصرة. والأدعياء الّذين كانوا من قبل ، يرثون بهذه الأسباب ، دون ذوي الأرحام. فقطع تعالى ، التوارث بذلك ، وجعله للأقارب ، لطفا منه وحكمة ، فإن الأمر لو استمر على العادة السابقة ، لحصل من الفساد والشر ، والتحيل لحرمان الأقارب من الميراث ، شيء كثير. (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) أي : سواء كان الأقارب مؤمنين مهاجرين ، أو غير مهاجرين ، فإن ذوي الأرحام مقدمون في ذلك. وهذه الآية حجة على ولاية ذوي الأرحام ، في جميع الولايات ، كولاية النكاح والمال وغير ذلك. (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) أي ليس لهم حق مفروض ، وإنّما هو بإرادتكم. إن شئتم أن تتبرعوا لهم تبرعا ، وتعطوهم معروفا منكم ، (كانَ) ذلك الحكم المذكور (فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) أي : قد سطر ، وكتب ، وقدره الله ، فلا بد من نفوذه.

[٧ ـ ٨] يخبر تعالى أنه أخذ من النبيين عموما ، ومن أولي العزم ـ وهم هؤلاء الخمسة المذكورون ـ خصوصا ، ميثاقهم الغليظ وعهدهم الثقيل المؤكد ، على القيام بدين الله والجهاد في سبيله ، وأن هذا سبيل قد مشى عليه الأنبياء المتقدمون ، حتى ختموا بسيدهم وأفضلهم ، محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمر الناس بالاقتداء بهم. وسيسأل الله الأنبياء وأتباعهم ، عن هذا العهد الغليظ هل وفوا فيه ، وصدقوا؟ فيثيبهم جنات النعيم؟ أم كفروا ، فيعذبهم العذاب الأليم؟ قال تعالى : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ).

[٩ ـ ١٠] يذكر تعالى عباده المؤمنين ، نعمته عليهم ، ويحثهم على شكرها ، حين جاءتهم جنود أهل مكة والحجاز ، من فوقهم ، وأهل نجد ، من أسفل منهم ، وتعاقدوا ، وتعاهدوا على استئصال الرسول والصحابة ، وذلك في وقعة الخندق. ومالأتهم طوائف اليهود ، الّذين حوالي المدينة ، فجاءوا بجنود عظيمة وأمم كثيرة. وخندق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، على المدينة ، فحصروا المدينة ، واشتد الأمر ، وبلغت القلوب الحناجر ، حتى بلغ الظن من كثير من الناس كل مبلغ ، لما رأوا من الأسباب المستحكمة ، والشدائد الشديدة ، فلم يزل الحصار على المدينة ، مدة طويلة ، والأمر كما وصف الله في قوله : (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) أي : الظنون السيئة ، أن الله لا ينصر دينه ، ولا يتم كلمته.

[١١] (هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ) بهذه الفتنة العظيمة (وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) بالخوف والقلق ، والجوع ، ليتبين إيمانهم ، ويزيد إيقانهم. فظهر ـ ولله الحمد ـ من إيمانهم ، وشدة يقينهم ، ما فاقوا فيه الأولين والآخرين. وعند ما اشتد الكرب ، وتفاقمت الشدائد ، صار إيمانهم عين اليقين. (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً) (٢٢).

٧٩١

[١٢] وهنالك تبين نفاق المنافقين ، وظهر ما كانوا يضمرون ، قال تعالى : (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) إلى (إِلَّا غُرُوراً). وهذه عادة المنافق عند الشدة والمحنة ، لا يثبت إيمانه ، وينظر بعقله القاصر ، إلى الحالة الحاضرة ، ويصدق ظنه.

[١٣] (وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) أي : من المنافقين ، بعد ما جزعوا وقلّ صبرهم ، وصاروا أيضا من المخذولين ، فلا صبروا بأنفسهم ، ولا تركوا الناس من شرهم. فقالت هذه الطائفة : (يا أَهْلَ يَثْرِبَ) يريدون «يا أهل المدينة». فنادوهم باسم الوطن المنبئ عن التسمية فيه ، إشارة إلى أن الدين والأخوة الإيمانية ، ليس لهما في قلوبهم قدر ، وأن الذي حملهم على ذلك مجرد الخور الطبيعي. (يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ) أي : في موضعكم الذي خرجتم إليه خارج المدينة. وكانوا عسكروا دون الخندق ، وخارج المدينة (فَارْجِعُوا) إلى المدينة. فهذه الطائفة تخذل عن الجهاد ، وتبين أنهم لا قوة لهم بقتال عدوهم ، ويأمرونهم بترك القتال. فهذه الطائفة ، شر الطوائف وأضرها. وطائفة أخرى دونهم ، أصابهم الجبن والجزع ، وأحبوا أن ينخذلوا عن الصفوف. فجعلوا يعتذرون بالأعذار الباطلة ، وهم الّذين قال الله فيهم : (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) أي : عليها الخطر ، ونخاف عليها أن يهجم عليها الأعداء ، ونحن غيّب عنها ، فائذن لنا نرجع إليها ، فنحرسها ، وهم كذبة في ذلك. (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ) أي : ما قصدهم (إِلَّا فِراراً) ولكن جعلوا هذا الكلام ، وسيلة وعذرا لهم. فهؤلاء قلّ إيمانهم ، وليس لهم ثبوت عند اشتداد المحن.

[١٤] (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ) المدينة (مِنْ أَقْطارِها) أي : لو دخل الكفار إليها من نواحيها ، واستولوا عليها (ثُمَ) سئل هؤلاء (الْفِتْنَةَ) أي : الانقلاب عن دينهم ، والرجوع إلى دين المستولين المتغلبين (لَآتَوْها) أي : لأعطوها مبادرين. (وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً) أي : ليس لهم منعة ولا تصلّب على الدين ، بل بمجرد ما تكون الدولة للأعداء ، يعطونهم ما طلبوا ، ويوافقونهم على كفرهم ، هذه حالهم.

[١٥] والحال أنهم (كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ) سيسألهم عن ذلك العهد ، فيجدهم قد نقضوه ، فما ظنهم إذا بربهم؟

[١٦] (قُلْ) لهم ـ لائما على فرارهم ، ومخبرا أنهم لا يفيدهم ذلك شيئا (لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ) فلو كنتم في بيوتكم ، لبرز الّذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعكم. والأسباب تنفع ، إذا لم يعارضها القضاء والقدر ، فإذا جاء القضاء والقدر ، تلاشى كلّ سبب ، وبطلت كلّ وسيلة ظنها الإنسان تنجيه. (وَإِذاً) حين فررتم لتسلموا من الموت والقتل ، ولتنعموا في الدنيا فإنكم (لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً) متاعا ، لا يسوي فراركم ، وترككم أمر الله ، وتفويتكم على أنفسكم ، التمتع الأبدي ، في النعيم السرمدي.

[١٧] ثمّ بيّن أن الأسباب كلها ، لا تغني عن العبد شيئا ، إذا أراده الله بسوء فقال : (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ) أي : يمنعكم (مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً) أي : شرا. (أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً) فإنه هو المعطي المانع ، الضار النافع ، الذي لا يأتي بالخير إلا هو ، ولا يدفع السوء إلا هو. (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا) يتولاهم ، فيجلب لهم المنافع (وَلا

٧٩٢

نَصِيراً) ينصرهم ، فيدفع عنهم المضار. فليمتثلوا طاعة المنفرد بالأمور كلها ، الذي نفذت مشيئته ، ومضى قدره ، ولم ينفع مع ترك ولايته ونصرته ، وليّ ولا ناصر.

[١٨ ـ ١٩] ثمّ توعّد تعالى المخذلين المعوقين ، وتهددهم فقال : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ) عن الخروج ، لمن لم يخرجوا (وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ) الّذين خرجوا (هَلُمَّ إِلَيْنا) أي : ارجعوا ، كما تقدم من قولهم : (يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا). وهم مع تعويقهم وتخذيلهم (لا يَأْتُونَ الْبَأْسَ) أي : القتال والجهاد ، بأنفسهم (إِلَّا قَلِيلاً) فهم أشد الناس حرصا على التخلف ، لعدم الداعي لذلك ، من الإيمان والصبر. ولوجود المقتضي للجبن ، من النفاق ، وعدم الإيمان. (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) بأبدانهم عن القتال ، وبأموالهم عند النفقة فيه ، فلا يجاهدون بأموالهم وأنفسهم. (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ) أي : نظر المغشي عليه (مِنَ الْمَوْتِ) من شدة الجبن ، الذي خلع قلوبهم ، والقلق الذي أذهلهم ، وخوفا من إجبارهم على ما يكرهون من القتال. (فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ) وصاروا في حال الأمن والطمأنينة. (سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) أي : خاطبوكم ، وتكلموا معكم ، بكلام حديد ، ودعاوى غير صحيحة. وحين تسمعهم ، تظنهم أهل الشجاعة والإقدام ، (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) الذي يراد منهم. وهذا شر ما في الإنسان ، أن يكون شحيحا بما أمر به ، شحيحا بماله أن ينفقه في وجهه ، شحيحا في بدنه أن يجاهد أعداء الله ، أو يدعو إلى سبيل الله ، شحيحا بجاهه ، شحيحا بعلمه ، ونصيحته ، ورأيه. (أُولئِكَ) الّذين بتلك الحالة (لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ) بسبب عدم إيمانهم ، (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً). وأما المؤمنون ، فقد وقاهم الله ، شح أنفسهم ، ووفقهم لبذل ما أمروا به ، من بذل أبدانهم في القتال في سبيله ، وإعلاء كلمته ، وأموالهم ، للنفقة في طرق الخير ، وجاههم وعلمهم.

[٢٠] (يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا) أي : يظنون أن هؤلاء الأحزاب ، الّذين تحزبوا على حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأصحابه ، لم يذهبوا حتى يستأصلوهم ، فخاب ظنهم ، وبطل حسبانهم. (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ) مرة أخرى (يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ) أي : لو أتى الأحزاب مرة ثانية مثل هذه المرة ، ودّ هؤلاء المنافقون ، أنهم ليسوا في المدينة ، ولا في القرب منها ، وأنهم مع الأعراب في البادية ، يستخبرون عن أخباركم ، ويسألون عن أنبائكم ، ماذا حصل عليكم؟ فتبا لهم ، وبعدا ، فليسوا ممن يغالى بحضورهم (وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً) فلا تبالوهم ، ولا تأسوا عليهم.

[٢١] (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) حيث حضر الهيجاء بنفسه الكريمة ، وباشر موقف الحرب ، وهو الشريف الكامل ، والبطل الباسل. فكيف تشحون بأنفسكم ، عن أمر جاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بنفسه فيه؟ فتأسّوا به في هذا الأمر وغيره. واستدل الأصوليون في هذه الآية ، على الاحتجاج بأفعال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن الأصل ، أن أمته أسوته في الأحكام ، إلا ما دلّ الدليل الشرعي على الاختصاص به. فالأسوة نوعان : أسوة حسنة ، وأسوة سيئة.

فالأسوة الحسنة ، في الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فإن المتاسّي به ، سالك الطريق الموصل إلى كرامة الله ، وهو الصراط المستقيم.

٧٩٣

وأما الأسوة بغيره ، إذا خالفه ، فهو الأسوة السيئة ، كقول المشركين حين دعتهم الرسل للتأسّي بهم : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ). وهذه الأسوة الحسنة ، إنّما يسلكها ويوفق لها ، من كان يرجو الله واليوم الآخر. فإن ما معه من الإيمان ، وخوف الله ، ورجاء ثوابه ، وخوف عقابه ، يحثه على التأسي بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

[٢٢] لما ذكر حالة المنافقين عند الخوف ، ذكر حال المؤمنين فقال : (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ) الّذين تحزبوا ، ونزلوا منازلهم ، وانتهى الخوف. (قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) في قوله : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) (٢١٤). (وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ) ، فإنا رأينا ما أخبرنا به (وَما زادَهُمْ) ذلك الأمر (إِلَّا إِيماناً) في قلوبهم (وَتَسْلِيماً) في جوارحهم ، وانقيادا لأمر الله.

[٢٣] ولما ذكر أن المنافقين ، عاهدوا الله ، لا يولون الأدبار ، ونقضوا ذلك العهد ، ذكر وفاء المؤمنين به ، فقال : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) أي : وفوا به ، وأتموه ، وأكملوه. فبذلوا مهجهم في مرضاته ، وسبّلوا نفوسهم في طاعته. (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) أي : إرادته ومطلوبه ، وما عليه من الحقّ ، فقتل في سبيل الله ، أو مات مؤديا لحقه ، لم ينقصه شيئا. (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) تكميل ما عليه ، فهو شارع في قضاء ما عليه ، ووفاء نحبه ولما يكمله ، وهو في رجاء تكميله ، ساع في ذلك ، مجد. (وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) كما بدّل غيرهم ، بل لم يزالوا على العهد ، لا يلوون ، ولا يتغيرون. فهؤلاء ، هم الرجال على الحقيقة ، ومن عداهم ، فصورهم صور رجال ، وأما الصفات ، فقد قصرت عن صفات الرجال.

[٢٤] (لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ) أي : بسبب صدقهم ، في أقوالهم ، وأحوالهم ، ومعاملتهم مع الله ، واستواء ظاهرهم وباطنهم ، قال الله تعالى : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) الآية. أي : قدرنا ما قدرنا ، من هذه الفتن ، والمحن ، والزلازل ، ليتبين الصادق من الكاذب. فيجزي الله الصادقين بصدقهم (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ) الّذين تغيرت قلوبهم وأعمالهم ، عند حلول الفتن ، ولم يفوا بما عاهدوا الله عليه. (إِنْ شاءَ) تعذيبهم ، بأن لم يشأ هدايتهم ، بل علم أنهم لا خير فيهم ، فلم يوفقهم. (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) بأن يوفقهم للتوبة والإنابة. وهذا هو الغالب ، على كرم الكريم ، ولهذا ختم الآية باسمين دالين على المغفرة ، والفضل ، والإحسان فقال : (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً) لذنوب المسرفين على أنفسهم ، ولو أكثروا من العصيان ، إذا أتوا بالمتاب. [(رَحِيماً) بهم حيث وفقهم التوبة ، ثمّ قبلها منهم ، وستر عليهم ما اجترحوه] (١).

[٢٥] (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً) أي : ردهم خائبين ، لم يحصل لهم الأمر الذي كانوا حريصين عليه ، مغتاظين قادرين عليه جازمين ، بأن لهم الدائرة ، قد غرتهم جموعهم ، وأعجبوا بتحزبهم ، وفرحوا بعددهم

__________________

(١) ما بين المعكوفتين ساقط من المطبوعة الّتي بين أيدينا ، والنص موافق للسياق والله أعلم.

٧٩٤

وعددهم. فأرسل الله عليهم ، ريحا عظيمة ، وهي ريح الصبا ، فزعزعت مراكزهم ، وقوّضت خيامهم ، وكفأت قدورهم وأزعجتهم ، وضربهم الله بالرعب ، فانصرفوا بغيظهم ، وهذا من نصر الله لعباده المؤمنين. (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) بما صنع لهم من الأسباب العادية والقدرية. (وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً) لا يغالبه أحد ، إلا غلب ، ولا يستنصره أحد ، إلا غلب ، ولا يعجزه أمر أراده ، ولا ينفع أهل القوة والعزة ، قوتهم وعزتهم ، إن لم يعنهم الله بقوته وعزته.

[٢٦] (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ) أي : عاونوهم (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) أي : من اليهود (مِنْ صَياصِيهِمْ) أي : أنزلهم من حصونهم ، نزولا مظفورا بهم ، مجعولين تحت حكم الإسلام. (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) فلم يقووا على القتال ، بل استسلموا وخضعوا وذلوا. (فَرِيقاً تَقْتُلُونَ) وهم الرجال المقاتلون (وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً) من عداهم من النساء والصبيان.

[٢٧] (وَأَوْرَثَكُمْ) أي : غنّمكم (أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) أي : أرضا كانت من قبل ، من شرفها وعزتها عند أهلها ، لا تتمكنون من وطئها. فمكّنكم الله منها ، ومن أهلها ، وخذلهم ، وغنمتم أموالهم ، وقتلتموهم ، وأسرتموهم. (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) لا يعجزه شيء ، ومن قدرته قدّر لكم ما قدّر. وكانت هذه الطائفة من أهل الكتاب ، هم بنو قريظة من اليهود ، في قرية خارج المدينة ، غير بعيدة. وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حين هاجر إلى المدينة ، وادعهم ، وهادنهم ، فلم يقاتلهم ولم يقاتلوه ، وهم باقون على دينهم ، لم يغير عليهم شيئا. فلما رأوا يوم الخندق ، الأحزاب الّذين تحزبوا على رسول الله وكثرتهم ، وقلة المسلمين ، وظنوا أنهم سيستأصلون الرسول والمؤمنين ، وساعد على ذلك ، تدجيل بعض رؤسائهم عليهم ، نقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومالأوا المشركين على قتاله. فلما خذل الله المشركين ، تفرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقتالهم ، فحاصرهم في حصنهم. فنزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه ، فحكم فيهم ، أن تقتل مقاتلتهم ، وتسبى ذراريهم ، وتغنم أموالهم. فأتم الله لرسوله والمؤمنين المنة ، وأسبغ عليهم النعمة ، وأقرّ أعينهم ، بخذلان من انخذل من أعدائهم ، وقتل من قتلوا ، وأسر من أسروا ، ولم يزل لطف الله بعباده المؤمنين مستمرا.

[٢٨] لما اجتمع نساء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الغيرة ، وطلبن منه أمرا لا يقدر عليه في كلّ وقت ، ولم يزلن في طلبهن متفقات ، وفي مرادهن متعنتات شقّ ذلك على الرسول ، حتى وصلت به الحال إلى أنه آلى منهن شهرا. فأراد الله أن يسهل الأمر على رسوله ، وأن يرفع درجة زوجاته ، ويذهب عنهن كلّ أمر ينقص أجرهن ، فأمر رسوله أن يخيرهن فقال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها) أي : ليس لكن في غيرها مطلب ، وصرتن ترضين لوجودها ، وتغضبن لفقدها ، فليس لي فيكن إرب وحاجة ، وأنتن بهذه الحال. (فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَ) شيئا مما عندي ، من الدنيا (وَأُسَرِّحْكُنَ) أي : أفارقكن (سَراحاً جَمِيلاً) من دون مغاضبة ولا مشاتمة ، بل بسعة صدر ، وانشراح بال ، قبل أن تبلغ الحال إلى ما لا ينبغي.

[٢٩] (وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ) أي : هذه الأشياء مرادكن ، وغاية مقصودكن ، وإذا حصل لكنّ الله ورسوله والجنة ، لما تبالين بسعة الدنيا وضيقها ، ويسرها وعسرها ، وقنعتن من رسول الله بما تيسر ، ولم تطلبن منه ما يشق عليه. (فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) رتب الأجر على وصفهن بالإحسان ، لأنه السبب الموجب لذلك ، لا لكونهن زوجات الرسول فإن مجرد ذلك ، لا يكفي بل لا يفيد شيئا مع عدم الإحسان. فخيّرهن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك ، فاخترن كلهن الله ورسوله ، والدار الآخرة ، لم يتخلف منهن واحدة ، رضي الله عنهن. وفي هذا التخيير فوائد عديدة : منها : الاعتناء برسوله ، والغيرة عليه ، أن يكون بحالة يشق عليه كثرة مطالب زوجاته الدنيوية. ومنها : سلامته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بهذا التخيير من تبعة حقوق الزوجات ، وأنه يبقى في حرية نفسه ، إن شاء

٧٩٥

أعطى ، وإن شاء منع (ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ). ومنها : تنزيهه عمّا لو كان فيهن من تؤثر الدنيا على الله ورسوله ، والدار الآخرة ، وعن مقارنتها. ومنها : سلامة زوجاته ، رضي الله عنهن ، عن الإثم ، والتعرض لسخط الله ورسوله. فحسم الله بهذا التخيير عنهن ، التسخط على الرسول ، الموجب لسخطه ، المسخط لربه ، الموجب لعقابه. ومنها : إظهار رفعتهن ، وعلو درجتهن ، وبيان علو هممهن ، أن كان الله ورسوله والدار الآخرة ، مرادهن ومقصودهن ، دون الدنيا وحطامها. ومنها : استعدادهن بهذا الاختيار ، للأمر المختار للوصول إلى خيار درجات الجنة ، وأن يكنّ زوجاته في الدنيا والآخرة. ومنها : ظهور المناسبة بينه وبينهن ، فإنه أكمل ، وأراد الله أن تكون نساؤه ، كاملات مكملات ، طيبات مطيبات (وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ). ومنها : أن هذا التخيير داع ، وموجب للقناعة ، الّتي يطمئن لها القلب ، وينشرح لها الصدر ، ويزول عنهن جشع الحرص ، وعدم الرضا الموجب لقلق القلب واضطرابه ، وهمه وغمه. ومنها : أن يكون اختيارهن هذا ، سببا لزيادة أجرهن ومضاعفته ، وأن يكنّ بمرتبة ليس فيها أحد من النساء ، ولهذا قال : (يا نِساءَ النَّبِيِ) إلى (رِزْقاً كَرِيماً).

[٣٠] لما اخترن الله ورسوله والدار الآخرة ، ذكر مضاعفة أجرهن ، ومضاعفة وزرهن وإثمهن لو جرى منهن ، ليزداد حذرهن ، وشكرهن الله تعالى ، فجعل لمن أتى منهن بفاحشة ظاهرة ، العذاب ضعفين.

[٣١] (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَ) أي : تطيع (لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً) قليلا أو كثيرا. (نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ) أي : مثل ما نعطي غيرها مرتين (وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً) وهي الجنة. فقنتن لله ورسوله ، وعملن صالحا ، فعلم بذلك أجرهن.

[٣٢] يقول تعالى : (يا نِساءَ النَّبِيِ) خطاب لهن كلهن (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَ) الله ، فإنكن بذلك تفقن النساء ، ولا يلحقكن أحد من النساء ، فكملن التقوى بجميع وسائلها ومقاصدها. فلهذا أرشدهن إلى قطع وسائل المحرم فقال : (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) أي : في مخاطبة الرجال ، أو بحيث يسمعون فتلنّ في ذلك ، وتتكلمن بكلام رقيق. (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) أي : مرض شهوة الحرام ، فإنه مستعد ، ينتظر أدنى محرك يحركه ، لأن قلبه غير صحيح ، فإن القلب الصحيح ، ليس فيه شهوة لما حرم الله ، فإن ذلك لا تكاد تميله ولا تحركه الأسباب ، لصحة قلبه ، وسلامته من المرض. بخلاف مريض القلب ، الذي لا يتحمل ما يتحمل الصحيح ، ولا يصبر على ما يصبر عليه. فأدنى سبب يوجد ، ويدعوه إلى الحرام ، يجيب دعوته ، ولا يتعاصى عليه. فهذا دليل على أن الوسائل ، لها أحكام المقاصد. فإن الخضوع بالقول ، واللين فيه ، في الأصل مباح. ولكن لما كان وسيلة إلى المحرم ، منع منه. ولهذا ينبغي للمرأة في مخاطبة الرجال ، أن لا تلين لهم القول. ولما نهاهن عن الخضوع في القول ، فربما توهم أنهن مأمورات بإغلاظ القول ، دفع هذا بقوله : (وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) أي : غير غليظ ، ولا جاف كما أنه ليس بليّن خاضع. وتأمل كيف قال : (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) ولم يقل : «فلا تلنّ بالقول» وذلك لأن المنهي عنه ، القول اللين ،

٧٩٦

الذي فيه خضوع المرأة للرجل ، وانكسارها عنده. والخاضع ، هو الذي يطمع فيه. بخلاف من تكلم كلاما لينا ، ليس فيه خضوع ، بل ربما صار فيه ترفع وقهر للخصم ، فإن هذا ، لا يطمع فيه خصمه. ولهذا مدح الله رسوله باللين فقال : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) وقال لموسى وهارون : (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) (٤٤). ودلّ قوله : (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) مع أمره بحفظ الفرج وثنائه على الحافظين لفروجهم والحافظات ، ونهيه عن قربان الزنا ، أنه ينبغي للعبد ، إذا رأى من نفسه هذه الحالة ، وأنه يهش لفعل المحرم عند ما يرى ، أو يسمع كلام من يهواه ، ويجد دواعي طمعه قد انصرفت إلى الحرام. فليعرف أن ذلك مرض. فليجتهد في إضعاف هذا المرض وحسم الخواطر الردية ، ومجاهدة نفسه على سلامتها من هذا المرض الخطر ، وسؤال الله العصمة والتوفيق ، وأن ذلك من حفظ الفرج المأمور به.

[٣٣] (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ) أي : اقررن فيها ، لأنه أسلم وأحفظ لكنّ. (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) أي : لا تكثرن الخروج متجمّلات أو متطيبات ، كعادة أهل الجاهلية الأولى ، الّذين لا علم عندهم ولا دين ، فكل هذا دفع للشر وأسبابه. ولما أمرهن بالتقوى عموما ، وبجزئيات من التقوى ، نص عليها لحاجة النساء إليها كذلك ، أمرهن بالطاعة ، خصوصا الصلاة والزكاة ، اللتان يحتاجهما ، ويضطر إليهما كلّ أحد ، وهما أكبر العبادات ، وأجلّ الطاعات. وفي الصلاة ، الإخلاص للمعبود ، وفي الزكاة ، الإحسان إلى العبيد. ثمّ أمرهن بالطاعة عموما ، فقال : (وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ) يدخل في طاعة الله ورسوله ، كل أمر ، أمرا به أمر إيجاب أو استحباب. (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ) بأمركن بما أمركنّ به ، ونهيكن عمّا نهاكنّ عنه. (لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ) أي : الأذى ، والشر ، والخبث ، يا (أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) حتى تكونوا طاهرين مطهرين. أي : فاحمدوا ربكم ، واشكروه على هذه الأوامر والنواهي ، الّتي أخبركم بمصلحتها ، وأنها محض مصلحتكم ، لم يرد الله أن يجعل عليكم بذلك حرجا ولا مشقة ، بل لتتزكى نفوسكم ، وتتطهر أخلاقكم ، وتحسن أعمالكم ويعظم بذلك أجركم. ولما أمرهن بالعمل ، الذي هو فعل وترك ، أمرهن بالعلم ، وبين لهن طريقه فقال :

[٣٤] (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ) والمراد بآيات الله ، القرآن ، والحكمة : أسراره ، وسنّة رسوله. وأمرهن بذكره ، يشمل ذكر لفظه ، بتلاوته ، وذكر معناه ، بتدبره والتفكر فيه ، واستخراج أحكامه وحكمه ، وذكر العمل به وتأويله. (إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً) يدرك سرائر الأمور ، وخفايا الصدور ، وخبايا السموات والأرض ، والأعمال الّتي تبين وتسر. فلطفه وخبرته ، يقتضي حثهن على الإخلاص وإسرار الأعمال ، ومجازاة الله على تلك الأعمال. ومن معاني «اللطيف» الذي يسوق عبده إلى الخير ، ويعصمه من الشر ، بطرق خفية لا يشعر بها ، ويسوق إليه من الرزق ، ما لا يدريه ، ويريه من الأسباب ، الّتي تكرهها النفوس : ما يكون ذلك طريقا له ، إلى أعلى الدرجات ، وأرفع المنازل.

[٣٥] لما ذكر تعالى ثواب زوجات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعقابهن لو قدر عدم الامتثال ، وأنه ليس مثلهن أحد من

٧٩٧

النساء ، ذكر بقية النساء غيرهن. ولما كان حكمهن وحكم الرجال واحد ، جعل الحكم مشتركا فقال : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) وهذا في الشرائع الظاهرة ، إذا كانوا قائمين بها. (وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) وهذا في الأمور الباطنة ، من عقائد القلب وأعماله. (وَالْقانِتِينَ) أي : المطيعين لله ولرسوله (وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ) في مقالهم وفعالهم (وَالصَّادِقاتِ). (وَالصَّابِرِينَ) على الشدائد والمصائب (وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ) في جميع أحوالهم ، خصوصا في عباداتهم ، ولا سيما في صلواتهم (وَالْخاشِعاتِ). (وَالْمُتَصَدِّقِينَ) فرضا ونفلا (وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ) شمل ذلك ، الفرض والنفل. (وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ) عن الزنا ومقدماته ، (وَالْحافِظاتِ). (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً) أي : في أكثر الأوقات ، خصوصا أوقات الأوراد المقيدة ، كالصباح والمساء ، أو بالصلوات المكتوبات (وَالذَّاكِراتِ. أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ) أي : لهؤلاء الموصوفين بتلك الصفات الجميلة ، والمناقب الجليلة ، الّتي هي ما بين اعتقادات ، وأعمال قلوب ، وأعمال جوارح ، وأقوال لسان ، ونفع متعد وقاصر ، وما بين أفعال الخير ، وترك الشر ، الذي من قام بهن ، فقد قام بالدين كله ، ظاهره وباطنه ، بالإسلام والإيمان والإحسان. فجزاهم على عملهم (مَغْفِرَةً) لذنوبهم ؛ لأن الحسنات يذهبن السيئات. (وَأَجْراً عَظِيماً) لا يقدر قدره ، إلا الذي أعطاه ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، نسأل الله أن يجعلنا منهم.

[٣٦] (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ) أي : لا ينبغي ولا يليق ، من اتصف بالإيمان ، إلا الإسراع في مرضاة الله ورسوله ، والهرب ، من سخط الله ورسوله ، وامتثال أمرهما ، واجتناب نهيهما. فلا يليق بمؤمن ولا مؤمنة (إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً) من الأمور ، وحتّما به وألزما به (أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) أي : الخيار ، هل يفعلونه أم لا؟ بل يعلم المؤمن والمؤمنة ، أن الرسول أولى به من نفسه. فلا يجعل بعض أهواء نفسه حجابا بينه وبين أمر الله ورسوله. (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) أي : بيّنا ؛ لأنه ترك الصراط المستقيم الموصلة إلى كرامة الله ، إلى غيرها ، من الطرق الموصلة للعذاب الأليم. فذكر أولا ، السبب الموجب لعدم معارضة أمر الله ورسوله ، وهو الإيمان. ثمّ ذكر المانع من ذلك ، وهو التخويف بالضلال ، الدال على العقوبة والنكال.

[٣٧] وكان سبب نزول هذه الآيات ، أن الله تعالى ، أراد أن يشرع شرعا عاما للمؤمنين ، أن الأدعياء ليسوا في حكم الأبناء حقيقة ، من جميع الوجوه وأن أزواجهم ، لا جناح على من تبناهم ، في نكاحهن. وكان هذا من الأمور المعتادة ، الّتي لا تكاد تزول إلا بحادث كبير ، فأراد أن يكون هذا الشرع قولا من رسوله ، وفعلا ، وإذا أراد الله أمرا ، جعل له سببا. فكان زيد بن حارثة يدعى «زيد بن محمد» قد تبناه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فصار يدعى إليه حتى نزل : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) فقيل له : «زيد بن حارثة». وكانت تحته ، زينب بنت جحش ، ابنة عمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان قد وقع في قلب الرسول ، لو طلقها زيد ، لتزوّجها. فقدر الله أن يكون بينها وبين زيد ، ما اقتضى أن جاء زيد بن حارثة ، يستأذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في فراقها. قال الله : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ) أي : بالإسلام (وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) بالعتق

٧٩٨

والإرشاد ، والتعليم ، حين جاءك مشاورا في فراقها : فقلت : له ـ ناصحا له ومخبرا بمصلحته ، مقدما لها على رغبتك ، مع وقوعها في قلبك : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) أي : لا تفارقها ، واصبر على ما جاءك منها. (وَاتَّقِ اللهَ) تعالى في أمورك عامة ، وفي أمر زوجك خاصة فإن التقوى تحث على الصبر ، وتأمر به. (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) والذي أخفاه ، أنه لو طلقها زيد ، لتزوجها صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَتَخْشَى النَّاسَ) في عدم إبداء ما في نفسك (وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ). فإن خشيته جالبة لكلّ خير ، مانعة من كلّ شر. (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً) أي : طابت نفسه ، ورغب عنها ، وفارقها. (زَوَّجْناكَها) وإنّما فعلنا ذلك ، لفائدة عظيمة ، وهي : (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ) حيث رأوك تزوجت ، زوج زيد بن حارثة ، الذي كان من قبل ، ينتسب إليك. ولما كان قوله : (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ) عاما في جميع الأحوال ، وكان من الأحوال ، ما لا يجوز ذلك ، وهو قبل انقضاء وطره منها ، قيد ذلك بقوله : (إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) أي : لا بد من فعله ، ولا عائق له ولا مانع. وفي هذه الآيات المشتملات على هذه القصة ، فوائد : منها : الثناء على زيد بن حارثة ، وذلك من وجهين : أحدهما : أن الله سماه في القرآن ، ولم يسم من الصحابة باسمه غيره. والثاني : أن الله أخبر أنه أنعم عليه ، أي : بنعمة الإسلام والإيمان ، وهذه شهادة من الله له أنه مسلم مؤمن ، ظاهرا وباطنا ، وإلا فلا وجه لتخصيصه بالنعمة ، إلا أن المراد بها ، النعمة الخاصة. ومنها : أن المعتق في نعمة المعتق. ومنها : جواز تزوج زوجة الدّعيّ ، كما صرّح به. ومنها : أن التعليم الفعلي ، أبلغ من القولي ، خصوصا إذا اقترن بالقول ، فإن ذلك نور على نور. ومنها : أن المحبة في قلب العبد ، لغير زوجته ومملوكته ، ومحارمه ، إذا لم يقترن بها محذور ، لا يأثم عليها العبد ، ولو اقترن بذلك أمنيته ، أن لو طلقها زوجها ، لتزوجها من غير أن يسعى في فرقة بينهما ، أو يتسبب بأي سبب كان. لأن الله أخبر ، الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه أخفى ذلك في نفسه. ومنها : أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قد بلغ البلاغ المبين ، فلم يدع شيئا مما أوحى إليه ، إلا وبلغه ، حتى هذا الأمر ، الذي فيه عتابه. وهذا يدل ، على أنه رسول الله ، ولا يقول إلا ما أوحي إليه ولا يريد تعظيم نفسه. ومنها : أن المستشار مؤتمن ، يجب عليه ـ إذا استشير في أمر من الأمور ـ أن يشير بما يعمله أصلح للمستشير ، ولو لم يكن للمستشار حظ نفس ، بتقدم مصلحة المستشير على هوى نفسه وغرضه. ومنها : أن الرأي الحسن لمن استشار في فراق زوجة أن يؤمر بإمساكها مهما أمكن صلاح الحال ، فهو أحسن من الفرقة. ومنها : أنه يتعين ، أن يقدم العبد خشية الله ، على خشية الناس ، وأنها أحق منها وأولى. ومنها : فضيلة أم المؤمنين ، زينب رضي الله عنها ، حيث تولى الله تزويجها ، من رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، دون خطبة ولا شهود ، ولهذا كانت تفتخر بذلك على أزواج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتقول : زوجكن أهاليكن ، وزوجني الله من فوق سبع سموات. ومنها : أن المرأة ، إذا كانت ذات زوج ، لا يجوز نكاحها ، ولا السعي فيه وفي أسبابه ، حتى يقضي زوجها وطره منها ، ولا يقضي وطره ، حتى تنقضي عدتها ، لأنها قبل انقضاء عدتها ، هي في عصمته ، أو في حقه الذي له وطر إليها ، ولو من بعض الوجوه.

[٣٨] هذا دفع لطعن من طعن في الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في كثرة أزواجه ، وأنه طعن ، بما لا مطعن فيه فقال : (ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ) أي : إثم وذنب. (فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ) أي : قدر له من الزوجات ، فإن هذا ، قد أباحه الله له ، كما أباحه للأنبياء قبله ، ولهذا قال : (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) أي : لا بد من وقوعه.

[٣٩] (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ) فيتلون على العباد آيات الله ، وحججه وبراهينه ، ويدعونهم إلى الله (وَيَخْشَوْنَهُ) وحده لا شريك له (وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً) إلا الله. فإذا كان هذا سنّة في الأنبياء المعصومين ، الّذين وظيفتهم قد أدوها وقاموا بها ، أتم القيام ، وهو : دعوة الخلق إلى الله ، والخشية منه وحده الّتي تقتضي فعل كل مأمور ، وترك كلّ محظور. (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) محاسبا عباده ، مراقبا أعمالهم. وعلم من هذا ، أن النكاح ، من سنن المرسلين.

٧٩٩

[٤٠] أي : و (ما كانَ) الرسول (مُحَمَّدٌ) صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) أيها الأمة. فقطع انتساب زيد بن حارثة منه ، من هذا الباب. ولما كان هذا النفي عاما في جميع الأحوال ، إن ظاهر اللفظ على ظاهره ، أي ؛ لا أبوة نسب ، ولا أبوة ادعاء ، وكان قد تقرر فيما تقدم أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أب للمؤمنين كلهم ، وأزواجه أمهاتهم احترز أن يدخل في هذا النوع ، بعموم النهي المذكور فقال : (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) أي : هذه مرتبته مرتبة المطاع المتبوع ، المهتدى به ، المؤمن له الذي يجب تقديم محبته ، على محبة كلّ أحد ، الناصح الذي لهم ، أي : للمؤمنين ، من بره ونصحه ، كأنه أب لهم. (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) أي : قد أحاط علمه بجميع الأشياء ، ويعلم حيث يجعل رسالاته. ومن يصلح لفضله ، ومن لا يصلح.

[٤١] يأمر تعالى المؤمنين ، بذكره ذكرا كثيرا ، من تهليل ، وتحميد ، وتسبيح ، وتكبير وغير ذلك ، من كلّ قول فيه قربة إلى الله. وأقل ذلك ، أن يلازم الإنسان أوراد الصباح ، والمساء ، وأدبار الصلوات الخمس ، وعند العوارض والأسباب. وينبغي مداومة ذلك ، في جميع الأوقات ، على جميع الأحوال. فإن ذلك ، عبادة يسبق بها العامل ، وهو مستريح ، وداع إلى محبة الله ومعرفته ، وعون على الخير ، وكف اللسان عن الكلام القبيح. (وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٤٢) أي : أول النهار وآخره ، لفضلهما ، وشرفهما ، وسهولة العمل فيهما.

[٤٢] (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) (٤٣) أي ؛ من رحمته بالمؤمنين ولطفه بهم ، أن جعل من صلاته عليهم ، وثنائه ، وصلاة ملائكته ودعائهم ، ما يخرجهم من ظلمات الذنوب والجهل ، إلى نور الإيمان ، والتوفيق ، والعلم ، والعمل. فهذه أعظم نعمة ، أنعم بها على العباد الطائعين ، تستدعي منهم شكرها ، والإكثار من ذكر الله ، الذي لطف بهم ورحمهم ، وجعل حملة عرشه ، أفضل الملائكة ، ومن حوله ، يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا فيقولون : (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٩). فهذه رحمته ونعمته عليهم في الدنيا. وأما رحمته بهم في الآخرة ، فأجل رحمة ، وأفضل ثواب ، وهو الفوز برضا ربهم ، وتحيته ، واستماع كلامه الجليل ، ورؤية وجهه الجميل ، وحصول الأجر الكبير ، الذي لا يدريه ولا يعرف كنهه ، إلا من أعطاهم إياه ، ولهذا قال :

[٤٤] (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً) (٤٤).

[٤٥ ـ ٤٦] هذه الأشياء ، الّتي وصف بها رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، هي المقصود من رسالته ، وزبدتها وأصولها ، الّتي اختص بها وهي خمسة أشياء : أحدها : كونه (شاهِداً) أي : شاهدا على أمته بما عملوه ، من خير وشر ، كما قال تعالى : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (٤١). فهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاهد عدل مقبول. الثاني ، والثالث : كونه (مُبَشِّراً وَنَذِيراً) وهذا يستلزم ذكر المبشر والمنذر ، وما يبشر به وينذر ، والأعمال الموجبة لذلك. فالمبشّرون : المؤمنون المتقون ، الّذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح ، وترك المعاصي. لهم البشرى في الحياة الدنيا ، بكل ثواب دنيوي وديني ، رتب على الإيمان والتقوى. وفي الأخرى بالنعيم المقيم. وذلك كله يستلزم ، ذكر تفصيل المذكور ، من تفاصيل الأعمال ، وخصال التقوى ، وأنواع الثواب. والمنذرون ، هم : المجرمون الظالمون ، أهل الظلم والجهل. لهم النذارة في الدنيا ، من العقوبات الدنيوية والدينية ، المترتبة على الجهل والظلم. وفي الأخرى ، بالعقاب الوبيل ، والعذاب الطويل. وهذه الجملة تفصيلها ، ما جاء به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من الكتاب والسنّة ، المشتمل على ذلك. الرابع : كونه (داعِياً إِلَى اللهِ) أي : أرسله الله يدعو الخلق إلى ربهم ، ويشوقهم لكرامته ، ويأمرهم بعبادته ، الّتي خلقوا لها. وذلك يستلزم استقامته ، على

٨٠٠