تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي

تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

المؤلف:

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ١١٣٥

الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) (٢٧). فاستجاب الله له ، فأغرقهم ، ولم يبق منهم أحدا ، ونجّى الله نوحا وأهله ، ومن معه من المؤمنين ، في الفلك المشحون ، وجعل ذريته هم الباقين ، ونصرهم الله على قومه المستهزئين.

[٧٨] أي : واذكر هذين النبيين الكريمين «سليمان» و «داود» مثنيا مبجلا ، إذ آتاهما الله العلم الواسع ، والحكم بين العباد ، بدليل قوله : (إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) أي : إذ تحاكم إليهما صاحب حرث ، نفشت فيه غنم القوم الأخرى ، أي : رعت ليلا ، فأكلت ما في أشجاره ، ورعت زرعه ، فقضى فيه داود عليه‌السلام ، بأن الغنم تكون لصاحب الحرث ، نظرا إلى تفريط أصحابها ، فعاقبهم بهذه العقوبة. وحكم فيها سليمان بحكم موافق للصواب ، بأن أصحاب الغنم يدفعون غنمهم إلى صاحب الحرث فينتفع بدرّها وصوفها ويقومون على بستان صاحب الحرث ، حتى يعود إلى حاله الأولى ، فإذا عاد إلى حاله ، ترادا ، ورجع كل منهما بماله ، وكان هذا من كمال فهمه وفطنته عليه‌السلام.

[٧٩] ولهذا قال : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) أي : فهمناه هذه القضية ، ولا يدل ذلك ، أن داود لم يفهمه الله في غيرها ، ولهذا خصها بالذكر بدليل قوله : (وَكُلًّا) من داود وسليمان (آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) ، وهذا دليل على أن الحاكم قد يصيب الحقّ والصواب وقد يخطىء ذلك ، وليس بملوم إذا أخطأ ، مع بذل اجتهاده. ثمّ ذكر ما خص به كلا منهما فقال : (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) ، وذكر أنه كان من أعبد الناس وأكثرهم لله ذكرا وتسبيحا ، وتمجيدا ، وكان قد أعطاه الله ، من حسن الصوت ورقته ورخامته ، ما لم يؤته أحدا من الخلق ، فكان إذا سبح وأثنى على الله ، جاوبته الصم والطيور البهم ، وهذا فضل الله عليه وإحسانه ولهذا قال : (وَكُنَّا فاعِلِينَ).

[٨٠] (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ) أي : علم الله داود عليه‌السلام ، صنعة الدروع ، فهو أول من صنعها وعلمها وسرت صناعته إلى من بعده ، فألان الله له الحديد ، وعلمه كيف يسردها والفائدة فيها كبيرة. (لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ) أي : هي وقاية لكم ، وحفظ عند الحرب ، واشتداد البأس. (فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) نعمة الله عليكم ، حيث أجراها على يد عبده داود كما قال تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ). يحتمل أن تعليم الله لداود صنعة الدروع ، وإلانتها أمر خارق للعادة ، وأن يكون ـ كما قاله المفسرون ـ : إن الله ألان له الحديد ، حتى كان يعمله كالعجين والطين ، من دون إذابة له على النار. ويحتمل أن تعليم الله له ، على جاري العادة ، وأن إلانة الحديد له ، بما علمه الله من الأسباب المعروفة الآن ، لإذابتها ، وهذا هو الظاهر ، لأن الله امتنّ على العباد وأمرهم بشكرها ، ولو لا أن صنعته من الأمور التي جعلها الله مقدورة للعباد ، لم يمتن عليهم بذلك ، ويذكر فائدتها ، لأن الدروع التي صنع داود عليه‌السلام ، متعذر أن يكون المراد أعينها ، وإنّما المنّة بالجنس ، والاحتمال الذي ذكره المفسرون ، لا دليل عليه إلا قوله : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) ، وليس فيه أن الإلانة من دون سبب ، والله أعلم بذلك.

[٨١] (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) أي : سخرناها (عاصِفَةً) أي : سريعة في مرورها. (تَجْرِي بِأَمْرِهِ) حيث أديرت امتثلت أمره ، غدوها شهر ورواحها شهر (إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) وهي أرض الشام ، حيث كان مقره. فيذهب على الريح شرقا وغربا ، ويكون مأواها ورجوعها ، إلى الأرض المباركة. (وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ) قد أحاط علمنا بجميع الأشياء ، وعلمنا داود وسليمان ، ما أوصلناهما به إلى ما ذكرنا.

[٨٢] (وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ) هذا أيضا من خصائص سليمان عليه‌السلام ، أن الله سخر له الشياطين والعفاريت ، وسلطه على تسخيرهم في الأعمال ، التي لا يقدر على كثير منها غيرهم ، فكان منهم ، من يغوص له في البحر ، ويستخرج الدر ، واللؤلؤ ، وغير ذلك. ومنهم من يعمل له

٦٢١

(مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ) ، وسخر طائفة منهم ، لبناء بيت المقدس ، ومات ، وهم على عمله ، وبقوا بعده سنة ، حتى علموا موته ، كما سيأتي ، إن شاء الله تعالى. (وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) أي : لا يقدرون على الامتناع عنه وعصيانه ، بل حفظهم الله له ، بقوته وعزته ، وسلطانه.

[٨٣] أي : واذكر عبدنا ورسولنا ، أيوب مثنيا معظما له ، رافعا لقدره ، حين ابتلاه ، ببلاء شديد ، فوجده صابرا راضيا عنه ، وذلك أن الشيطان سلط على جسده ، ابتلاء من الله ، وامتحانا فنفخ في جسده ، فتقرح قروحا عظيمة ومكث مدة طويلة ، واشتد به البلاء ، ومات أهله ، وذهب ماله ، فنادى ربه قائلا رب : (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).

[٨٤] فتوسل إلى الله بالإخبار عن حال نفسه ، وأنه بلغ الضر منه كل مبلغ ، وبرحمة ربه الواسعة العامة استجاب الله له ، وقال : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ) (٤٢) فركض برجله ، فخرجت من ركضته عين ماء باردة ، فاغتسل منها وشرب ، فأذهب الله عنه ما به من الأذى. (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ) أي : رددنا عليه أهله وماله. (وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) بأن منحه الله العافية ، ومن الأهل والمال شيئا كثيرا. (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) به ، حيث صبر ورضي ، فأثابه الله ثوابا عاجلا ، قبل ثواب الآخرة. (وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) أي : جعلناه عبرة للعابدين ، الّذين ينتفعون بالصبر ، فإذا رأوا ما أصاب أيوب عليه‌السلام من البلاء ، ثمّ ما أثابه الله بعد زواله ، ونظروا السبب ، وجدوه ، الصبر ، ولهذا أثنى الله عليه به في قوله : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) ، فجعلوه أسوة وقدوة ، عند ما يصيبهم الضر.

[٨٥ ـ ٨٦] أي : واذكر عبادنا المصطفين ، وأنبياءنا المرسلين بأحسن الذكر ، وأثن عليهم ، أبلغ الثناء ، إسماعيل بن إبراهيم ، وإدريس ، وذا الكفل ، نبيين من أنبياء بني إسرائيل (كُلٌ) من هؤلاء المذكورين (مِنَ الصَّابِرِينَ) ، والصبر هو : حبس النفس ومنعها ، مما تميل بطبعها إليه ، وهذا يشمل أنواع الصبر الثلاثة : الصبر على طاعة الله ، والصبر عن معصية الله ، والصبر على أقدار الله المؤلمة ، فلا يستحق العبد اسم الصبر التام ، حتى يوفي هذه الثلاثة حقها. فهؤلاء الأنبياء ، عليهم الصلاة والسّلام ، قد وصفهم الله بالصبر ، فدل أنهم وفوها حقها ، وقاموا بها ، كما ينبغي ، ووصفهم أيضا بالصلاح ، وهو يشمل صلاح القلب ، بمعرفة الله ومحبته ، والإنابة إليه كل وقت ، وصلاح اللسان ، بأن يكون رطبا من ذكر الله ، وصلاح الجوارح ، باشتغالها بطاعة الله وكفّها عن المعاصي. فبصبرهم وصلاحهم ، أدخلهم الله برحمته ، وجعلهم مع إخوانهم من المرسلين ، وأثابهم الثواب العاجل والآجل. ولو لم يكن من ثوابهم ، إلا أن الله تعالى نوّه بذكرهم في العالمين وجعل لهم لسان صدق في الآخرين ، لكفى بذلك شرفا وفضلا.

[٨٧] أي : واذكر عبدنا ورسولنا ذا النون وهو : يونس ، أي : صاحب النون ، وهي الحوت ، بالذكر الجميل ، والثناء الحسن ، فإن الله تعالى أرسله إلى قومه ، فدعاهم ، فلم يؤمنوا ، فوعدهم بنزول العذاب بأمد سماه لهم. فجاءهم العذاب ورأوه عيانا ، فعجّوا إلى الله ، وضجوا وتابوا ، فرفع الله عنهم العذاب كما قال تعالى : (فَلَوْ لا كانَتْ

٦٢٢

قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ). وقال : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (١٤٨). وهذه الأمة العظيمة ، الّذين آمنوا بدعوة يونس ، من أكبر فضائله ، ولكنه عليه الصلاة والسّلام ، ذهب مغاضبا ، وأبق عن ربه لذنب من الذنوب ، التي لم يذكرها الله لنا في كتابه ، ولا حاجة لنا إلى تعيينها لقوله. (إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) (١٤٠) أي : فاعل ما يلام عليه ، وظن أن الله ، لا يقدر عليه ، أي : يضيق عليه في بطن الحوت ، أو ظن أنه سيفوت الله تعالى ، ولا مانع من عروض هذا الظن للكل من الخلق على وجه لا يستقر ، ولا يستمر عليه ، فركب في السفينة مع أناس ، فاقترعوا ، من يلقون منهم في البحر؟ لما خافوا الغرق إن بقوا كلهم ، فأصابت القرعة يونس ، فالتقمه الحوت ، وذهب فيه إلى ظلمات البحار ، فنادى في تلك الظلمات : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) ، فأقر لله تعالى بكمال الألوهية ، ونزهه عن كل نقص ، وعيب ، وآفة ، واعترف بظلم نفسه وجنايته.

[٨٨] قال الله تعالى : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (١٤٤). ولهذا قال هنا : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِ) أي : الشدة التي وقع فيها. (وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) وهذا وعد وبشارة ، لكل مؤمن وقع في شدة وغم ، أن الله تعالى سينجيه منها ، ويكشف عنه ويخفف ، لإيمانه كما فعل ب «يونس» عليه‌السلام.

[٨٩] أي : واذكر عبدنا ورسولنا ، زكريا ، منوها بذكره ، ناشرا لمناقبه وفضائله ، التي من جملتها ، هذه المنقبة العظيمة المتضمنة لنصحه الخلق ، ورحمة الله إياه ، وأنه (نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً) أي : (قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (٦). من هذه الآيات علمنا أن قوله : (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً) أنه لما تقارب أجله ، خاف أن لا يقوم أحد بعده مقامه في الدعوة إلى الله ، والنصح لعباد الله ، وأن يكون في وقته فردا ، ولا يخلف من يشفعه ويعينه ، على ما قام به. (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) أي : خير الباقين ، وخير من خلفني بخير ، وأنت أرحم بعبادك مني ، ولكني أريد أن يطمئن به قلبي ، وتسكن له نفسي ، ويجري في موازيني ثوابه.

[٩٠] (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى) النبي الكريم ، الّذي لم يجعل الله له من قبل سميا. (وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) بعد ما كانت عاقرا ، لا يصلح رحمها للولادة فأصلح الله رحمها للحمل ، لأجل نبيه زكريا ، وهذا من فوائد الجليس ، والقرين الصالح ، أنه مبارك على قرينه ، فصار يحيى مشتركا بين الوالدين. ولما ذكر هؤلاء الأنبياء والمرسلين ، كلّا على انفراده ، أثنى عليهم عموما فقال : (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) أي : يبادرون إليها ويفعلونها في أوقاتها الفاضلة ، ويكملونها على الوجه اللائق ، الذي ينبغي ولا يتركون فضيلة يقدرون عليها ، إلا انتهزوا الفرصة فيها. (وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) أي : يسألوننا الأمور المرغوب فيها ، من مصالح الدنيا والآخرة ،

٦٢٣

ويتعوذون بنا ، من الأمور المرهوب منها ، من مضار الدارين ، وهم راغبون لا غافلون ، لاهون ولا مدلون. (وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) أي : خاضعين متذللين متضرعين ، وهذا لكمال معرفتهم بربهم.

[٩١] أي : واذكر مريم ، عليها‌السلام ، مثنيا عليها مبينا لقدرها ، شاهرا لشرفها ، فقال : (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) أي : حفظته من الحرام وقربانه ، بل ومن الحلال ، فلم تتزوج لاشتغالها بالعبادة ، واستغراق وقتها بالخدمة لربها. وحين جاءها جبريل في صورة بشر سويّ تامّ الخلق والحسن (قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) (١٨) فجازاها الله من جنس عملها ، ورزقها ولدا من غير أب ، بل نفخ فيها جبريل عليه‌السلام ، فحملت بإذن الله. (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) حيث حملت به ، ووضعته من دون مسيس أحد ، وحيث تكلم في المهد ، وبرّأها مما ظن بها المتهمون وأخبر عن نفسه في تلك الحالة ، وأجرى الله على يديه من الخوارق والمعجزات ، ما هو معلوم ، فكانت وابنها آية للعالمين ، يتحدث بها ، جيلا بعد جيل ، ويعتبر بها المعتبرون.

[٩٢] ولما ذكر الأنبياء عليهم‌السلام ، قال مخاطبا للناس : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أي : هؤلاء الرسل المذكورون ، هم أمتكم وأئمتكم الذين بهم تأتمون ، وبهديهم تقتدون ، كلهم على دين واحد ، وصراط واحد ، والرب أيضا واحد. ولهذا قال : (وَأَنَا رَبُّكُمْ) الذي خلقتكم ، وربيتكم بنعمتي ، في الدين والدنيا ، فإذا كان الرب واحدا ، والنبي واحدا ، والدين واحدا ، وهو : عبادة الله ، وحده لا شريك له ، بجميع أنواع العبادة ـ كان وظيفتكم ، والواجب عليكم ، القيام بها. ولهذا قال : (فَاعْبُدُونِ) فرتب العبادة على ما سبق بالفاء ، ترتيب المسبب على سببه.

[٩٣] وكان اللائق ، الاجتماع على هذا الأمر ، وعدم التفرق فيه ، ولكن البغي والاعتداء ، أبيا إلا الافتراق والتقطع. ولهذا قال : (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) أي : تفرق الأحزاب المنتسبون لاتباع الأنبياء فرقا ، وتشتتوا ، كلّ يدّعي أن الحق معه ، والباطل مع الفريق الآخر و (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ). وقد علم أن المصيب منهم ، من كان سالكا للدين القويم ، والصراط المستقيم ، مؤتما بالأنبياء ، وسيظهر هذا ، إذا انكشف الغطاء ، وبرح الخفاء ، وحشر الله الناس لفصل القضاء. فحينئذ يتبين الصادق من الكاذب ، ولهذا قال : (كُلٌ) من الفرق المتفرقة وغيرهم (إِلَيْنا راجِعُونَ) أي : فنجازيهم أتم الجزاء.

[٩٤] ثم فصل جزاءه فيهم ، منطوقا ومفهوما ، فقال : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) أي : الأعمال التي شرعتها الرسل ، وحثت عليها الكتب (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) بالله وبرسله ، وما جاؤوا به (فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ) أي : لا نضيع سعيه ولا نبطله ، بل نضاعفه له ، أضعافا كثيرة. (وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ) أي : مثبتون له في اللوح المحفوظ ، وفي الصحف التي مع الحفظة. أي : ومن يعمل من الصالحات ، أو عملها وهو ليس بمؤمن ، فإنه محروم ، خاسر في دينه ، ودنياه.

[٩٥] أي : يمتنع على القرى المهلكة المعذبة ، الرجوع إلى الدنيا ، ليستدركوا ما فرطوا فيه فلا سبيل إلى الرجوع لمن أهلك وعذب. فليحذر المخاطبون ، أن يستمروا على ما يوجب الإهلاك فيقع بهم ، فلا يمكن رفعه ، وليقلعوا وقت الإمكان والإدراك.

[٩٦] هذا تحذير من الله للناس ، أن يقيموا على الكفر والمعاصي ، وأنه قد قرب انفتاح يأجوج ومأجوج ، وهما قبيلتان من بني آدم ، وقد سد عليهم ذو القرنين ، لما شكي إليه إفسادهم في الأرض. وفي آخر الزمان ، ينفتح السد عنهم ، فيخرجون إلى الناس وفي هذه الحالة والوصف ، الذي ذكره الله من كل مكان مرتفع ، وهو الحدب ينسلون أي : يسرعون. في هذا ، دلالة على كثرتهم الباهرة ، وإسراعهم في الأرض ، إما بذواتهم ، وإما بما خلق الله لهم من الأسباب التي تقرب لهم البعيد ، وتسهل عليهم الصعب ، وأنهم يقهرون الناس ، ويعلون عليهم في الدنيا ، وأنه لا يد لأحد بقتالهم.

٦٢٤

[٩٧] (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُ) أي : يوم القيامة الذي وعد الله بإتيانه ، ووعده حق وصدق ، ففي ذلك اليوم ترى أبصار الكفار شاخصة ، من شدة الأفزاع والأهوال المزعجة ، والقلاقل المفظعة ، وما كانوا يعرفون من جناياتهم وذنوبهم ، وأنهم يدعون بالويل والثبور ، والندم والحسرة ، على ما فات ويقولون : (قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) اليوم العظيم ، فلم نزل فيها مستغرقين ، وفي لهو الدنيا متمتعين ، حتى أتانا اليقين ، ووردنا القيامة ، فلو كان يموت أحد من الندم والحسرة ، لماتوا. (بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ) اعترفوا بظلمهم ، وعدل الله فيهم ، فحينئذ يؤمر بهم إلى النار ، هم وما كانوا يعبدون.

[٩٨] ولهذا قال : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ) إلى (تُوعَدُونَ). أي : وإنكم ، أيها العابدون مع الله آلهة غيره (حَصَبُ جَهَنَّمَ) ، أي : وقودها وحطبها (أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) وأصنامكم. والحكمة في دخول الأصنام ، النار ، وهي جماد ، لا تعقل ، وليس عليها ذنب ـ بيان كذب من اتخذها آلهة ، وليزداد عذابهم.

[٩٩] فلهذا قال : (لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها) هذا كقوله تعالى : (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ) (٣٩). وكل من العابدين والمعبودين فيها ، خالدون ، لا يخرجون منها ، ولا ينقلون عنها.

[١٠٠] (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ) من شدة العذاب (وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) صم بكم عمي ، أو لا يسمعون من الأصوات غير صوتها ، لشدة غليانها ، واشتداد زفيرها وتغيظها. ودخول آلهة المشركين النار ، إنما هو الأصنام ، أو من عبد ، وهو راض بعبادته.

[١٠١ ـ ١٠٢] وأما المسيح ، وعزير ، والملائكة ونحوهم ، ممن عبد من الأولياء ، فإنهم لا يعذبون فيها ، ويدخلون في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) أي : سبقت لهم سابقة السعادة في علم الله ، وفي اللوح المحفوظ وفي تيسيرهم في الدنيا لليسرى والأعمال الصالحة. (أُولئِكَ عَنْها) أي : عن النار (مُبْعَدُونَ) فلا يدخلونها ، ولا يكونون قريبا منها ، بل يبعدون عنها ، غاية البعد ، حتى لا يسمعوا حسيسها ، ولا يروا شخصها. (وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ) من المآكل ، والمشارب ، والمناكح والمناظر ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، مستمر لهم ذلك ، يزداد حسنه على الأحقاب.

[١٠٣] (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) أي : لا يقلقهم إذا فزع الناس أكبر فزع ، وذلك يوم القيامة ، حين تقرب النار ، تتغيظ على الكافرين والعاصين فيفزع الناس لذلك الأمر وهؤلاء لا يحزنهم ، لعلمهم بما يقدمون عليه ، وأن الله قد أمنهم مما يخافون. (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) إذا بعثوا من قبورهم ، وأتوا على النجائب وفدا ، لنشورهم ، مهنئين لهم قائلين : (هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) فليهنكم ما وعدكم الله ، وليعظم استبشاركم ، بما أمامكم من الكرامة ، وليكثر فرحكم وسروركم ، بما أمنكم الله من المخاوف والمكاره.

٦٢٥

[١٠٤] يخبر تعالى أنه يوم القيامة يطوي السماوات ـ على عظمها واتساعها ـ كما يطوي الكاتب للسجل أي : الورقة المكتوب فيها ، فتنتشر نجومها ، وتكور شمسها وقمرها ، وتزول عن أماكنها (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) أي : إعادتنا للخلق ، مثل ابتدائنا لخلقهم ، فكما ابتدأنا خلقهم ، ولم يكونوا شيئا ، كذلك نعيدهم بعد موتهم. (وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) ننفذ ما وعدنا ، لكمال قدرته ، وأنه لا تمتنع منه الأشياء.

[١٠٥] (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ) وهو الكتاب المزبور ، والمراد : الكتب المنزلة ، كالتوراة ونحوها (مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) أي : كتبناه في الكتب المنزلة ، بعد ما كتبنا في الكتاب السابق ، الذي هو اللوح المحفوظ ، وأم الكتاب الذي توافقه جميع التقادير المتأخرة عنه والمكتوب في ذلك. (أَنَّ الْأَرْضَ) أي : أرض الجنة (يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) الذين قاموا بالمأمورات ، واجتنبوا المنهيات ، فهم الذين يورثهم الله الجنات ، كقول أهل الجنة : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ). ويحتمل أن المراد : الاستخلاف في الأرض ، وأن الصالحين يمكن الله لهم في الأرض ، ويوليهم عليها كقوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).

[١٠٦] يثني الله تعالى على كتابه العزيز «القرآن» ويبين كفايته التامة عن كل شيء ، وأنه لا يستغنى عنه فقال : (إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ) (١٠٦) أي : يتبلغون به ، في الوصول إلى ربهم ، وإلى دار كرامته ، فيوصلهم إلى أجل المطالب ، وأفضل الرغائب ، وليس للعابدين ، الّذين هم أشرف الخلق ، وراءه غاية ، لأنه الكفيل بمعرفة ربهم ، بأسمائه ، وصفاته ، وأفعاله ، وبالإخبار بالغيوب الصادقة ، وبالدعوة لحقائق الإيمان ، وشواهد الإيقان ، المبين للمأمورات كلها ، والمنهيات جميعا ، المعرف بعيوب النفس والعمل ، والطرق التي ينبغي سلوكها في دقيق الدين وجليله ، والتحذير من طرق الشيطان ، وبيان مداخله على الإنسان. فمن لم يغنه القرآن ، فلا أغناه الله ، ومن لا يكفيه ، فلا كفاه الله.

[١٠٧] ثم أثنى على رسوله ، الذي جاء بالقرآن فقال : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (١٠٧) ، فهو رحمته المهداة لعباده ، فالمؤمنون به ، قبلوا هذه الرحمة ، وشكروها ، وقاموا بها ، وغيرهم كفروها ، وبدلوا نعمة الله كفرا ، وأبوا رحمة الله ونعمته.

[١٠٨] (قُلْ) يا محمد (إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) الذي لا يستحق العبادة إلا هو ، ولهذا قال : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي : منقادون لعبوديته مستسلمون لألوهيته ، فإن فعلوا فليحمدوا ربهم على ما منّ عليهم ، بهذه النعمة ، التي فاقت المنن.

[١٠٩ ـ ١١٠] (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن الانقياد لعبودية ربهم ، فحذرهم حلول المثلات ، ونزول العقوبة. (فَقُلْ آذَنْتُكُمْ) أي : أعلمتكم بالعقوبة (عَلى سَواءٍ) أي : علمي وعلمكم بذلك مستو فلا تقولوا ـ إذا نزل بكم العذاب

٦٢٦

ـ (ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ). بل الآن ، استوى علمي وعلمكم ، لما أنذرتكم ، وحذرتكم ، وأعلمتكم بمآل الكفر ، ولم أكتم عنكم شيئا. (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) أي : من العذاب لأن علمه عند الله ، وهو بيده ، ليس لي من الأمر شيء.

[١١١] (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) (١١١) أي : لعل تأخير العذاب الذي استعجلتموه ، شر لكم ، وإن تتمتعوا في الدنيا إلى حين ، ثم يكون أعظم لعقوبتكم.

[١١٢] (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) أي : بيننا وبين القوم الكافرين ، فاستجاب الله هذا الدعاء ، وحكم بينهم في الدنيا قبل الآخرة ، بما عاقب الله به الكافرين من وقعة «بدر» وغيرها. (وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) أي : نسأل ربنا الرحمن ، ونستعين به على ما تصفون ، من قولكم ؛ سنظهر عليكم ، وسيضمحل دينكم ، فنحن في هذا ، لا نعجب بأنفسنا ، ولا نتكل على حولنا وقوتنا ، وإنما نستعين بالرحمن ، الذي ناصية كل مخلوق بيده ، ونرجوه أن يتم ما استعنا به ، من رحمته ، وقد فعل ، ولله الحمد. تم تفسير سورة الأنبياء ، ولله الحمد والمنة.

تفسير سورة الحج

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) يخاطب الله الناس كافة ، بأن يتقوا ربهم ، الذي رباهم بالنعم الظاهرة والباطنة ، فحقيق بهم ، أن يتقوه ، بترك الشرك ، والفسوق ، والعصيان ويمتثلوا أوامره ، مهما استطاعوا. ثم ذكر ما يعينهم على التقوى ، ويحذرهم من تركها ، وهو : الإخبار بأهوال القيامة ، فقال : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) لا يقدر قدره ، ولا يبلغ كنهه ، ذلك بأنها إذا وقعت الساعة ، رجفت الأرض ، وزلزلت زلزالها ، وتصدعت الجبال ، واندكت ، وكانت كثيبا مهيلا ، ثم كانت هباء منبثا ، ثم انقسم الناس ثلاثة أزواج. فهناك تنفطر السماء ، وتكور الشمس والقمر ، وتنتثر النجوم ، ويكون من القلاقل والبلابل ، ما تنصدع له القلوب ، وتوجل منه الأفئدة ، وتشيب منه الولدان ، وتذوب له الصم الصلاب.

[٢] ولهذا قال : (يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) مع أنها مجبولة على شدة محبتها لولدها ، خصوصا في هذه الحال ، التي لا يعيش إلا بها. (وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها) من شدة الفزع والهول. (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى) أي : تحسبهم ـ أيها الرائي لهم ـ سكارى من الخمر ، وليسوا سكارى. (وَلكِنَ

٦٢٧

عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) : فلذلك أذهب عقولهم ، وفرغ قلوبهم ، وملأها من الفزع ، وبلغت القلوب الحناجر ، وشخصت الأبصار ، وفي ذلك اليوم ، لا يجزي والد عن ولده ، ولا مولود هو جاز عن والده شيئا. ويوم (يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) ... (٣٦) (وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ) ... (١٣) (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (٣٧). وهناك يعض الظالم على يديه ، يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ، يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا ، وتسود حينئذ وجوه وتبيض وجوه. وتنصب الموازين ، التي يوزن بها مثاقيل الذر ، من الخير والشر ، وتنشر صحائف الأعمال ، وما فيها من جميع الأعمال والأقوال ، والنيات ، من صغير وكبير ، وينصب الصراط على متن جهنم ، وتزلف الجنة للمتقين ، وبرزت الجحيم للغاوين. إذا رأتهم من مكان بعيد ، سمعوا لها تغيظا وزفيرا ، وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين ، دعوا هنالك ثبورا ، ويقال لهم : (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) (١٤) ، وإذا نادوا ربهم ، ليخرجهم منها ، (قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) (١٠٨). قد غضب عليهم الرب الرحيم وحضرهم العذاب الأليم ، وأيسوا من كل خير ، ووجدوا أعمالهم كلها ، لم يفقدوا منها نقيرا ولا قطميرا. هذا ، والمتقون في روضات الجنات يحبرون ، وفي أنواع اللذات يتفكهون ، وفيما اشتهت أنفسهم خالدون. فحقيق بالعاقل ، الذي يعرف أن كل هذا أمامه ، أن يعدّ له عدّته ، وأن لا يلهيه الأمل ، فيترك العمل ، وأن تكون تقوى الله شعاره ، وخوفه دثاره ، ومحبة الله ، وذكره ، روح أعماله.

[٣] أي : ومن الناس طائفة وفرقة ، سلكوا طريق الضلال ، وجعلوا يجادلون بالباطل الحقّ. يريدون إحقاق الباطل ، وإبطال الحقّ ، والحال ، أنهم في غاية الجهل ما عندهم من العلم شيء ، وغاية ما عندهم ، تقليد أئمة الضلال ، من كل شيطان مريد ، متمرد على الله وعلى رسله ، معاند لهم ، قد شاقّ الله ورسوله ، وصار من الأئمة الّذين يدعون إلى النار.

[٤] (كُتِبَ عَلَيْهِ) أي : قدر على هذا الشيطان المريد (أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ) أي : اتبعه (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) عن الحقّ ، ويجنبه الصراط المستقيم (وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ). وهذا نائب إبليس حقا ، فإن الله قال عنه : (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ). فهذا الذي يجادل في الله ، قد جمع بين ضلاله بنفسه ، وتصديه إلى إضلال الناس ، وهو متبع ، ومقلد لكل شيطان مريد ، ظلمات بعضها فوق بعض ، ويدخل في هذا ، جمهور أهل الكفر والبدع ، فإن أكثرهم مقلدة ، يجادلون بغير علم.

[٥] يقول تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) أي : شك واشتباه ، وعدم علم بوقوعه ، مع أن الواجب عليكم ، أن تصدقوا ربّكم ، وتصدقوا رسله في ذلك ، ولكن إذا أبيتم إلّا الريب ، فهاكم دليلين عقليين ، تشاهدونهما ، كل واحد منهما ، يدل دلالة قطعية على ما شككتم فيه ، ويزيل عن قلوبكم الريب. أحدهما : الاستدلال بابتداء خلق الإنسان ، وأن الذي ابتدأه ، سيعيده فقال فيه : (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) وذلك بخلق أبي

٦٢٨

البشر ، آدم عليه‌السلام. (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) أي : مني ، وهذا ابتداء أول التخليق. (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) أي : تنقلب تلك النطفة ، بإذن الله ، دما أحمر. (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ) أي : ينتقل الدم مضغة ، أي : قطعة لحم ، بقدر ما يمضغ. وتلك المضغة تارة تكون (مُخَلَّقَةٍ) أي : مصور منها خلق الآدمي. (وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) تارة ، بأن تقذفها الأرحام ، قبل تخليقها. (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) أصل نشأتكم ، مع قدرته تعالى ، على تكميل خلقه في لحظة واحدة ، ولكن ليبين لنا ، كمال حكمته ، وعظيم قدرته ، وسعة رحمته. (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ، ونقر. أي : نبقي في الأرحام من الحمل ، الذي لم تقذفه الأرحام ، ما نشاء إبقاءه إلى أجل مسمى وهو مدة الحمل. (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ) من بطون أمهاتكم (طِفْلاً) لا تعلمون شيئا ، وليس لكم قدرة. وسخرنا لكم الأمهات ، وأجرينا لكم في ثديها ، الرزق ، ثمّ تنقلون ، طورا بعد طور ، حتى تبلغوا أشدكم ، وهو كمال القوة والعقل. (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى) من قبل أن يبلغ سن الرشد ، ومنكم من يتجاوزه فيرد إلى أرذل العمر ، أي : أخسه وأرذله ، وهو : سن الهرم والتخريف ، الذي به يزول العقل ، ويضمحل ، كما زالت باقي القوة ، وضعفت. (لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) أي : لأجل أن لا يعلم هذا المعمر شيئا ، مما كان يعلمه قبل ذلك ، وذلك لضعف عقله. فقوة الآدمي محفوفة بضعفين ، ضعف الطفولية ونقصها ، وضعف الهرم ونقصه ، كما قال تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ). والدليل الثاني ، إحياء الأرض بعد موتها ، فقال الله فيه : (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً) أي : خاشعة مغبرة لا نبات فيها ، ولا خضرة. (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ) أي : تحركت بالنبات (وَرَبَتْ) أي : ارتفعت بعد خشوعها وذلك لزيادة نباتها. (وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) أي : صنف من أصناف النبات (بَهِيجٍ) أي : يبهج الناظرين ، ويسر المتأملين ، فهذان الدليلان القاطعان ، يدلان على هذه المطالب الخمسة ، وهي هذه.

[٦] (ذلِكَ) الذي أنشأ الآدمي من ما وصف لكم ، وأحيا الأرض بعد موتها. (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) أي : الرب المعبود ، الذي لا تنبغي العبادة إلّا له ، وعبادته هي الحقّ ، وعبادة غيره باطلة. (وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى) كما ابتدأ الخلق ، وكما أحيا الأرض بعد موتها. (وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) كما أشهدكم من بديع قدرته ، وعظيم صنعته ، ما أشهدكم.

[٧] (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) فلا وجه لاستبعادها. (وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) فيجازيكم بأعمالكم حسنها وسيئها.

[٨] المجادلة المتقدمة للمقلد ، وهذه المجادلة للشيطان المريد ، الداعي إلى البدع. فأخبر أنه (يُجادِلُ فِي اللهِ) أي : يجادل رسل الله وأتباعهم بالباطل ليدحض به الحقّ. (بِغَيْرِ عِلْمٍ) صحيح (وَلا هُدىً) أي : غير متبع في جداله هذا من يهديه ، لا عقل مرشد ، ولا متبوع مهتد. (وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) أي : واضح بين ، فلا له حجة عقلية ولا نقلية.

[٩] إن هي إلّا شبهات ، يوحيها إليه الشيطان (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ). مع هذا (ثانِيَ عِطْفِهِ) أي : لاوي جانبه ، وعنقه ، وهذا كناية عن كبره عن الحقّ ، واحتقاره للخلق. فقد فرح بما معه من العلم الغير النافع ، واحتقر أهل الحقّ ، وما معهم من الحقّ. (لِيُضِلَ) الناس أي : ليكون من دعاة الضلال ، ويدخل تحت هذا جميع أئمة الكفر والضلال. ثمّ ذكر عقوبتهم الدنيوية والأخروية فقال : (لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) أي : يفتضح هذا في الدنيا قبل الآخرة ، وهذا من آيات الله العجيبة ، فإنك لا تجد داعيا من دعاة الكفر والضلال ، إلّا وله من المقت بين العالمين ، واللعنة ، والبغض ، والذم ، ما هو حقيق به ، وكلّ بحسب حاله. (وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) أي : نذيقه حرّها الشديد ، وسعيرها البليغ ، وذلك بما قدمت يداه.

[١٠] (ذلِكَ) ما ذكر من العذاب الدنيوي والأخروي ، وما فيه من معنى البعد (وهو معنى اللام في «ذلك» الموضوعة للدلالة على البعد) للدلالة على كون الكافر في الغاية القصوى من الهول والفظاعة. (بِما قَدَّمَتْ يَداكَ)

٦٢٩

أي : بسبب ما اقترفته من الكفر والمعاصي. (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي : والأمر أنه تعالى ليس بمعذب عبيده بغير ذنب من قبلهم. والمعنى الإجمالي : أنه يقال للكافر الموصوف بتلك الأوصاف في الآيتين السابقتين : ذلك الذي تلقاه من خزي وعذاب إنّما كان بسبب افترائك ، وتكبرك لأن الله عادل لا يظلم ، ولا يسوي بين المؤمن والكافر ، والصالح والفاجر ، بل يجازي كلا منهم بعمله.

[١١] أي : (وَمِنَ النَّاسِ) من هو ضعيف الإيمان ، لم يدخل الإيمان قلبه ، ولم تخالطه بشاشته ، بل دخل فيه ، إما خوفا ، وإما عادة على وجه لا يثبت عند المحن. (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ) أي : إن استمر رزقه رغدا ، ولم يحصل له من المكاره شيء ، اطمأن بذلك الخير ، لا إيمانه. فهذا ، ربما أن الله يعافيه ، ولا يقيض له من الفتن ، ما ينصرف به عن دينه. (وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ) من حصول مكروه ، أو زوال محبوب (انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) أي : ارتد عن دينه. (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) أما في الدنيا ، فإنه يحصل له بالردة ما أمله الذي جعل الردة رأسا لماله ، وعوضا عما يظن إدراكه فخاب سعيه ، ولم يحصل له ، إلّا ما قسم له. وأما الآخرة ، فظاهر ، حرم الجنة التي عرضها السموات والأرض ، واستحق النار. (ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) أي : الواضح البيّن.

[١٢] (يَدْعُوا) هذا الراجع على وجهه (مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ). وهذا صفة كلّ مدعو ومعبود ، من دون الله ، فإنه لا يملك لنفسه ولا لغيره ، نفعا ولا ضرا. (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) الذي بلغ في البعد إلى حد النهاية ، حيث أعرض عن عبادة النافع الضار ، الغني المغني.

[١٣] وأقبل على عبادة مخلوق مثله أو دونه ، ليس بيده من الأمر شيء ، بل هو إلى حصول ضد مقصوده أقرب. ولهذا قال : (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) فإن ضرره في العقل والبدن ، والدنيا والآخرة ، معلوم (لَبِئْسَ الْمَوْلى) أي : هذا المعبود (وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) أي : القرين الملازم على صحبته ، فإن المقصود من المولى والعشير ، حصول النفع ، ودفع الضرر ، فإذا لم يحصل شيء من هذا ، فإنه مذموم ملوم.

[١٤] لما ذكر تعالى المجادل بالباطل ، وأنه على قسمين ، مقلد ، وداع ، ذكر أن المتسمي بالإيمان أيضا على قسمين ، قسم لم يدخل الإيمان قلبه كما تقدم. والقسم الثاني : المؤمن حقيقة ، صدق ما معه من الإيمان بالأعمال الصالحة فأخبر تعالى أنه يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار. وسميت الجنة جنة ، لاشتمالها على المنازل والقصور والأشجار والنباتات التي تجنّ من فيها ، ويستتر بها ، من كثرتها. (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) فمهما أراده تعالى ، فعله من غير ممانع ولا معارض ، ومن ذلك ، إيصال أهل الجنة إليها ، جعلنا الله منهم بمنه وكرمه.

[١٥] أي : من كان يظن ، أن الله لا ينصر رسوله ، وأن دينه سيضمحل ، فإن النصر ، من الله ينزل من السماء (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ) النصر عن الرسول. (فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ) أي : ما يكيد به الرسول ، ويعمله من محاربته ، والحرص على إبطال دينه ، ما يغيظه من ظهور دينه ، وهذا استفهام بمعنى النفي ، أي : إنه لا يقدر على شفاء غيظه ، بما يعمله من الأسباب. ومعنى هذه الآية الكريمة : يا أيها المعادي للرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ،

٦٣٠

الساعي في إطفاء دينه ، الذي يظن بجهله ، أن سعيه سيفيده شيئا ، اعلم أنك ، مهما فعلت من الأسباب ، وسعيت في كيد الرسول ، فإن ذلك لا يذهب عيظك ، ولا يشفي كمدك ، فليس لك قدرة في ذلك ، ولكن سنشير عليك برأي ، تتمكن به من شفاء غيظك ، ومن قطع النصر عن الرسول ، إن كان ممكنا. ائت الأمر من بابه ، وارتق إليه بأسبابه ، اعمد إلى حبل من ليف أو غيره ، ثم علّقه في السماء ، ثم اصعد به ، حتى تصل إلى الأبواب التي ينزل منها النصر ، فسدّها ، وأغلقها ، واقطعها ، فبهذه الحال تشفي غيظك. فهذا هو الرأي والمكيدة ، وما سوى هذه الحال فلا يخطر ببالك أنك تشفي بها غيظك ولو ساعدك من ساعدك من الخلق. وهذه الآية الكريمة ، فيها من الوعد والبشارة بنصر الله لدينه ، ولرسوله ، وعباده المؤمنين ، ما لا يخفى ، ومن تأييس الكافرين ، الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ، والله متم نوره ، ولو كره الكافرون ، أي : وسعوا مهما أمكنهم.

[١٦] أي : وكذلك لما فصلنا في هذا القرآن ما فصلنا ، جعلناه آيات بينات ، واضحات ، دالات على جميع المطالب والمسائل النافعة ، ولكن الهداية بيد الله ، فمن أراد الله هدايته ، اهتدى بهذا القرآن ، وجعله إماما له وقدوة ، واستضاء بنوره ، ومن لم يرد الله هدايته ، فلو جاءته كلّ آية ، ما آمن ، ولم ينفعه القرآن شيئا ، بل يكون حجة عليه.

[١٧ ـ ٢٠] يخبر تعالى عن طوائف أهل الأرض ، من الذين أوتوا الكتاب ، من المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين ، ومن المجوس ، ومن المشركين أن الله سيجمعهم جميعهم ليوم القيامة ويفصل بينهم بحكمه العدل ، ويجازيهم بأعمالهم ، التي حفظها وكتبها ، وشهدها ، ولهذا قال : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ). ثمّ فصل هذا الفصل بينهم بقوله : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) كلّ يدعي أنه المحق. (فَالَّذِينَ كَفَرُوا) يشمل كلّ كافر ، من اليهود ، والنصارى ، والمجوس ، والصابئين ، والمشركين. (قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) أي : يجعل لهم ثياب من قطران ، وتشعل فيها النار ، ليعمهم العذاب ، من جميع جوانبهم. (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ) الماء الحار جدا ، يصهر ما في بطونهم من اللحم والشحم والأمعاء ، من شدة حره ، وعظيم أمره.

[٢١] (وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) (٢١) بيد الملائكة الغلاظ الشداد ، تضربهم فيها وتقمعهم.

[٢٢] (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها) فلا يفتّر عنهم العذاب ، ولا هم ينظرون ، ويقال لهم توبيخا : (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أي : المحرق للقلوب والأبدان.

[٢٣ ـ ٢٤] (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) ، ومعلوم أن هذا الوصف لا يصدق على غير المسلمين ، الّذين آمنوا بجميع الكتب ، وجميع الرسل. (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) أي : يسوّرون في أيديهم ، رجالهم ونساؤهم أساور الذهب. (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) فتم نعيمهم بذلك ، من أنواع المأكولات اللذيذات المشتمل عليها ، لفظ الجنات ، وذكر الأنهار السارحات ، أنهار الماء واللبن والعسل والخمر. وأنواع اللباس ، والحلي الفاخر. وذلك بسبب أنهم (هُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) الذي أفضله وأطيبه كلمة

٦٣١

الإخلاص ، ثمّ سائر الأقوال الطيبة ، التي فيها ، ذكر الله ، أو إحسان إلى عبادة الله. (وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) أي : الصراط المحمود. وذلك ، لأن جميع الشرع كله ، محتو على الحكمة والحمد ، وحسن المأمور به ، وقبح المنهي عنه ، وهو الدين الذي ، لا إفراط فيه ولا تفريط ، المشتمل على العلم النافع ، والعمل الصالح. أو ، وهدوا إلى صراط الله الحميد ، لأن الله ، كثيرا ما يضيف الصراط إليه ، لأنه يوصل صاحبه إلى الله. وفي ذكر (الْحَمِيدِ) هنا ، ليبين أنهم نالوا الهداية ، بحمد ربهم ، ومنته عليهم ، ولهذا يقولون في الجنة (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ). واعترض تعالى بين هذه الآيات ، بذكر سجود المخلوقات له ، جميع من في السموات والأرض ، والشمس ، والقمر ، والنجوم ، والجبال ، والشجر ، والدواب ، الذي يشمل الحيوانات كلها ، وكثير من الناس ، وهم المؤمنون. (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) أي : وجب وكتب ، لكفره ، وعدم إيمانه ، فلم يوفقه للإيمان ، لأن الله أهانه. (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) ولا رادّ لما أراد ، ولا معارض لمشيئته ، فإذا كانت المخلوقات كلها ، ساجدة لربها ، خاضعة لعظمته ، مستكينة لعزته ، عانية لسلطانه ، دل على أنه وحده ، الرب المعبود ، والملك المحمود ، وأن من عدل عنه إلى عبادة سواه ، فقد ضل ضلالا بعيدا ، وخسر خسرانا مبينا.

[٢٥] يخبر تعالى عن شناعة ما عليه المشركون الكافرون بربهم ، وأنهم جمعوا بين الكفر بالله ورسوله ، وبين الصد عن سبيل الله ، ومنع الناس من الإيمان ، والصد أيضا ، عن المسجد الحرام ، الذي ليس ملكا لهم ولا لآبائهم ، بل الناس فيه سواء ، المقيم فيه ، والطارئ إليه. بل صدوا عنه أفضل الخلق محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، والحال أن المسجد الحرام ، من حرمته واحترامه وعظمته ، أن من يرد فيه بإلحاد بظلم ، نذقه من عذاب أليم. فمجرد الإرادة للظلم والإلحاد في الحرم ، موجب للعذاب ، وإن كان غيره لا يعاقب العبد عليه إلا بعمل الظلم ، فكيف بمن أتى فيه أعظم الظلم ، من الكفر والشرك ، والصد عن سبيله ومنع من يريده بزيارة ، فما ظنكم أن يفعل الله بهم؟ وفي هذه الآية الكريمة ، وجوب احترام الحرم ، وشدة تعظيمه ، والتحذير من إرادة المعاصي فيه ، وفعلها.

[٢٦] يذكر تعالى عظمة البيت الحرام وجلالته وعظمة بانيه وهو خليل الرحمن فقال : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) أي : هيأناه له ، وأنزلناه إياه ، وجعل قسما من ذريته من سكانه ، وأمره الله ببنيانه ، فبناه على تقوى الله ، وأسسه على طاعة الله ، وبناه هو وابنه إسماعيل ، وأمره أن لا يشرك به شيئا ، بأن يخلص لله أعماله ، ويبنيه على اسم الله. (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) أي : من الشرك والمعاصي ، ومن الأنجاس والأدناس وإضافة الرحمن إلى نفسه ، لشرفه ، وفضله ، ولتعظم محبته في القلوب ، وتنصب إليه الأفئدة من كلّ جانب ، وليكون أعظم لتطهيره وتعظيمه ، لكونه بيت الرب للطائفين به والعاكفين عنده ، المقيمين لعبادة من العبادات من ذكر ، وقراءة وتعلم علم وتعليمه ، وغير ذلك من أنواع القرب. (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) أي : المصلين ، أي : طهره لهؤلاء الفضلاء ، الّذين همهم ، طاعة مولاهم ، وخدمته والتقرب إليه عند بيته ، فهؤلاء ، لهم الحقّ ولهم الإكرام ، ومن إكرامهم تطهير البيت لأجلهم ،

٦٣٢

ويدخل في تطهيره ، تطهيره من الأصوات اللاغية والمرتفعة التي تشوش المتعبدين ، بالصلاة والطواف ، وقدم الطواف على الاعتكاف والصلاة ، لاختصاصه بهذا البيت ثمّ الاعتكاف ، لاختصاصه بجنس المساجد.

[٢٧] (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) أي : أعلمهم به ، وادعهم إليه ، وبلّغ دانيهم وقاصيهم ، فرضه وفضيلته ، فإنك إذا دعوتهم ، أتوك حجاجا : وعمّارا ، رجالا ، أي : مشاة على أرجلهم من الشوق. (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) أي : ناقة ضامر ، تقطع المهامة والمفاوز. وتواصل السير ، حتى تأتي إلى أشرف الأماكن. (مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) أي : من كلّ بلد بعيد ، وقد فعل الخليل عليه‌السلام ، ثمّ من بعده ابنه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدعيا إلى حج هذا البيت ، وأبديا في ذلك وأعادا ، وقد حصل ما وعد الله به ، أتاه الناس ، رجالا وركبانا من مشارق الأرض ، ومغاربها.

[٢٨] ثمّ ذكر فوائد زيارة بيت الله الحرام ، مرغبا فيه فقال : (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) أي : لينالوا ببيت الله ، منافع دينية ، من العبادات الفاضلة ، والعبادات التي لا تكون إلا فيه ، ومنافع دنيوية ، من التكسب ، وحصول الأرباح الدنيوية ، وكلّ هذا أمر مشاهد كلّ يعرفه. (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) وهذا من المنافع الدينية والدنيوية أي : ليذكروا اسم الله ، عند ذبح الهدايا ، شكرا لله على ما رزقهم منها ، ويسرها لهم ، فإذا ذبحتموها (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) ، أي : شديد الفقر.

[٢٩] (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) أي : يقضوا نسكهم ، ويزيلوا الوسخ والأذى ، الذي لحقهم في حال الإحرام. (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) التي أوجبوها على أنفسهم ، من الحج ، والعمرة والهدايا. (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) أي : القديم ، أفضل المساجد على الإطلاق. والمعتق : من تسلط الجبابرة عليه. وهذا أمر بالطواف ، خصوصا بعد الأمر بالمناسك له عموما ، لفضله ، وشرفه ، ولكونه المقصود ، وما قبله وسائل إليه. ولعله ـ والله أعلم أيضا ـ لفائدة أخرى ، وهو : أن الطواف مشروع كلّ وقت ، وسواء كان تابعا لنسك ، أم مستقلا بنفسه.

[٣٠] (ذلِكَ) أي : ما ذكرنا لكم من تلكم الأحكام ، وما فيها من تعظيم حرمات الله وإجلالها ، وتكريمها ، لأن تعظيم حرمات الله ، من الأمور المحبوبة لله ، المقربة إليه ، التي من عظّمها وأجلّها ، أثابه الله ثوابا جزيلا ، وكانت خيرا له ، في دينه ، ودنياه وأخراه ، عند ربه. وحرمات الله : كل ما له حرمة ، وأمر باحترامه ، من عبادة أو غيرها ، كالمناسك كلها ، وكالحرم والإحرام ، وكالهدايا ، وكالعبادات التي أمر الله العباد بالقيام بها. فتعظيمها يكون إجلالا بالقلب ، ومحبتها ، تكميل العبودية فيها ، غير متهاون ، ولا متكاسل ، ولا متثاقل ، ثمّ ذكر منته وإحسانه ، بما أحله لعباده ، من بهيمة الأنعام ، من إبل وبقر ، وغنم ، وشرعها من جملة المناسك ، التي يتقرب بها إليه ، فعظمت منته فيها من الوجهين. (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) في القرآن تحريمه من قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) الآية. ولكن الذي من رحمته بعباده ، أن حرمه عليهم ، ومنعهم منه ، تزكية لهم ، وتطهيرا من الشرك به ، وقول الزور ، ولهذا قال : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ) أي : الخبث القذر (مِنَ الْأَوْثانِ) أي : الأنداد ، التي جعلتموها آلهة مع الله ، فإنها أكبر أنواع الرجس. والظاهر أن (مَنْ) هنا ليست لبيان الجنس ، كما قاله كثير من المفسرين ، وإنّما هي للتبعيض ، وأن الرجس عام في جميع المنهيات المحرمات ، فيكون منهيا عنها عموما ، وعن الأوثان التي هي بعضها خصوصا. (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) أي : جميع الأقوال المحرمات ، فإنها من قول الزور.

[٣١] أمرهم أن يكونوا (حُنَفاءَ لِلَّهِ) مقبلين عليه ، وعلى عبادته ، معرضين عما سواه. (غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ) فمثله (فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ) أي : سقط منها (فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ) بسرعة (أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) أي : بعيد ، كذلك المشركون ، فالإيمان بمنزلة السماء ، محفوظة مرفوعة. ومن ترك الإيمان ، بمنزلة الساقط من السماء ، عرضة للآفات والبليات ، فإما أن تخطفه الطير فتقطعه أعضاء ، كذلك المشرك إذا ترك الاعتصام بالإيمان تخطفته الشياطين من كلّ جانب ، ومزقوه ، وأذهبوا عليه دينه ودنياه. وإما أن تأخذه عاصفة شديدة من الريح فتعلو به في

٦٣٣

طبقات الجو فتقذفه بعد أن تتقطع أعضاؤه في مكان بعيد جدا.

[٣٢] أي : ذلك الذي ذكرناه لكم ، من تعظيم حرماته وشعائره ، والمراد بالشعائر : أعلام الدين الظاهرة ، ومنها المناسك كلها ، كما قال تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) ومنها الهدايا والقربان للبيت. وتقدم أن معنى تعظيمها ، إجلالها ، والقيام بها ، وتكميلها على أكمل ما يقدر عليه العبد ، ومنها الهدايا ، فتعظيمها ، باستحسانها واستسمانها ، وأن تكون مكملة من كلّ وجه ، فتعظيم شعائر الله ، صادر من تقوى القلوب ، فالمعظم لها ، يبرهن على تقواه ، وصحة إيمانه ، لأن تعظيمها ، تابع لتعظيم الله وإجلاله.

[٣٣] (لَكُمْ فِيها) أي : في الهدايا (مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) هذا في الهدايا المسوقة ، من البدن ونحوها ، ينتفع بها أربابها ، بالركوب ، والحلب ونحو ذلك ، مما لا يضرها (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) مقدر ، موقت وهو ذبحها ، إذا وصلت (مَحِلُّها) وهو (إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) أي : الحرم كله «منى» وغيرها ، فإذا ذبحت ، أكلوا منها ، وأهدوا ، وأطعموا البائس الفقير.

[٣٤] أي : ولكل أمة من الأمم السالفة ، جعلنا منسكا ، أي : فاستبقوا إلى الخيرات وسارعوا إليها ، ولننظر أيكم أحسن عملا ، والحكمة في جعل الله لكل أمة منسكا ، إقامة ذكره ، والالتفات لشكره. ولهذا قال : (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) ، وإن اختلفت أجناس الشرائع ، فكلها متفقة على هذا الأصل ، وهو : ألوهية الله ، وإفراده بالعبودية ، وترك الشرك به. ولهذا قال : (فَلَهُ أَسْلِمُوا) أي : انقادوا واستسلموا له لا لغيره ، فإن الإسلام له ، طريق الوصول إلى دار السّلام. (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) بخير الدنيا والآخرة ، والمخبت : الخاضع لربه ، المستسلم لأمره ، المتواضع لعباده.

[٣٥] ثمّ ذكر صفات المخبتين فقال : (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) أي : خوفا وتعظيما ، فتركوا لذلك ، المحرمات ، لخوفهم ووجلهم من الله وحده. (وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ) من البأساء والضراء ، وأنواع الأذى فلا يجري منهم التسخط لشيء من ذلك ، بل صبروا ابتغاء وجه ربهم ، محتسبين ثوابه ، مرتقبين أجره. (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ) أي : الّذين جعلوها قائمة مستقيمة كاملة ، بأن أدوا اللازم فيها والمستحب ، وعبوديتها الظاهرة والباطنة. (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) وهذا يشمل جميع النفقات الواجبة ، كالزكاة ، والكفارة ، والنفقة على الزوجات والمماليك ، والأقارب. والنفقات المستحبة ، كالصدقات بجميع وجوهها. وأتى بمن المفيدة للتبعيض ، ليعلم سهولة ما أمر الله به ، ورغب فيه ، وأنه جزء يسير مما رزق الله ، ليس للعبد في تحصيله قدرة ، لو لا تيسير الله ، ورزقه إياه. فيا أيها المرزوق من فضل الله ، أنفق مما رزقك الله ينفق الله عليك ، ويزدك من فضله.

[٣٦] هذا دليل على أن الشعائر علم ، في جميع أعلام الدين الظاهرة. وتقدم أن الله أخبر أن من عظم شعائره ، فإن ذلك من تقوى القلوب وهنا أخبر ، أن من جملة شعائره ، البدن ، أي : الإبل ، والبقر ، على أحد القولين ، فتعظم وتسمن ، وتستحسن. (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) أي : للمهدي وغيره ، من الأكل ، والصدقة ، والانتفاع ، والثواب ،

٦٣٤

والأجر. (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها) أي : عند ذبحها قولوا «بسم الله» واذبحوها. (صَوافَ) أي : قائمات ، بأن تقام على قوائمها الأربع ، ثمّ تعقل يدها اليسرى ، ثمّ تنحر. (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) أي : سقطت على الأرض جنوبها ، حين تسلخ ، ثمّ يسقط الجزار جنوبها على الأرض ، فحينئذ قد استعدت ، لأن يؤكل منها. (فَكُلُوا مِنْها) وهذا خطاب للمهدي ، فيجوز له الأكل من هديه. (وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) أي : الفقير الذي لا يسأل ، تقنعا ، وتعففا ، والفقير الذي يسأل ، فكل منهما ، له حق فيهما. (كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ) أي : البدن (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الله على تسخيرها ، فإنه ، لو لا تسخيره لها ، لم يكن لكم بها طاقة ، ولكنه ذللها لكم ، وسخرها ، رحمة بكم وإحسانا إليكم ، فاحمدوه.

[٣٧] وقوله : (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها) أي : ليس المقصود منها ، ذبحها فقط. ولا ينال الله من لحومها ، ولا دمائها شيء ، لكونه الغني الحميد ، وإنّما يناله الإخلاص فيها ، والاحتساب ، والنية الصالحة ، ولهذا قال : (وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ). ففي هذا ، حثّ وترغيب على الإخلاص في النحر ، وأن يكون القصد وجه الله وحده ، لا فخرا ، ولا رياء ، ولا سمعة ، ولا مجرد عادة ، وهكذا سائر العبادات ، إن لم يقترن بها الإخلاص ، وتقوى الله ، كان كالقشر الذي لا لبّ فيه ، والجسد ، الذي لا روح فيه. (كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ) أي : تعظموه وتجلوه. (عَلى ما هَداكُمْ) أي : مقابلة لهدايته إياكم ، فإنه يستحق أكمل الثناء وأجل الحمد ، وأعلى التعظيم. (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) بعبادة الله بأن يعبدوا الله ، كأنهم يرونه ، فإن لم يصلوا إلى هذه الدرجة ، فليعبدوه ، معتقدين وقت عبادتهم ، اطّلاعه عليهم ، ورؤيته إياهم. والمحسنين لعباد الله ، بجميع وجوه الإحسان من نفع مال ، أو علم ، أو جاه ، أو نصح ، أو أمر بمعروف ، أو نهي عن منكر ، أو كلمة طيبة ونحو ذلك. فالمحسنون ، لهم البشارة من الله ، بسعادة الدنيا والآخرة وسيحسن الله إليهم ، كما أحسنوا في عبادته ولعباده (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) (٦٠) (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ).

[٣٨] هذا إخبار ، ووعد ، وبشارة من الله ، للذين آمنوا ، أن الله يدفع عنهم كلّ مكروه. ويدفع عنهم ـ بسبب إيمانهم ـ كل شر من شرور الكفار ، وشرور وسوسة الشيطان ، وشرور أنفسهم ، وسيئات أعمالهم ويحمل عنهم عند نزول المكاره ، ما لا يتحملون ، فيخفف عنهم غاية التخفيف. كل مؤمن ، له من هذه المدافعة والفضيلة ، بحسب إيمانه ، فمستقل ، ومستكثر. (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ) أي : خائن في أمانته ، التي حمله الله إياها ، فيبخس حقوق الله عليها ، ويخونها ، ويخون الخلق. (كَفُورٍ) لنعم الله ، يوالي الله عليه الإحسان ، ويتوالى منه الكفر والعصيان. فهذا لا يحبه الله ، بل يبغضه ويمقته ، وسيجازيه على كفره وخيانته ، ومفهوم الآية ، أن الله يحب كلّ أمين قائم بأمانته ، شكور لمولاه.

[٣٩] كان المسلمون في أول الإسلام ، ممنوعين من قتال الكفار ، ومأمورين بالصبر عليهم ، لحكمة إلهية. فلما هاجروا إلى المدينة ، وأوذوا ، وحصل لهم منعة وقوة ، أذن لهم بالقتال ، كما قال تعالى : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) يفهم

٦٣٥

منه أنهم كانوا قبل ممنوعين ، فأذن الله لهم بقتال الّذين يقاتلونهم ، وإنّما أذن لهم ، لأنهم ظلموا ، بمنعهم من دينهم ، وأذيتهم عليه ، وإخراجهم من ديارهم. (وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) فليستنصروه ، وليستعينوا به.

[٤٠] ثمّ ذكر صفة ظلمهم فقال : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) أي : ألجئوا إلى الخروج ، بالأذية والفتنة (بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا) أن ذنبهم الذي نقم منهم أعداؤهم (أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) أي : إلا لأنهم وحّدوا الله ، وعبدوه مخلصين له الدين ، فإن كان هذا ذنبا ، فهو ذنبهم كقوله تعالى : (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (٨). وهذا يدل على حكمة الجهاد ، فإن المقصود منه ، إقامة دين الله ، أو ذبّ الكفار المؤذين للمؤمنين ، البادئين لهم بالاعتداء ، عن ظلمهم ، واعتدائهم ، والتمكن من عبادة الله ، وإقامة الشرائع الظاهرة. ولهذا قال : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) فيدفع الله بالمجاهدين في سبيله ، ضرر الكافرين. (لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ) أي : لهدمت هذه المعابد الكبار ، لطوائف أهل الكتاب ، معابد اليهود ، والنصارى ، والمساجد للمسلمين. (يُذْكَرُ فِيهَا) أي : في هذه المعابد (اسْمُ اللهِ كَثِيراً) تقام فيها الصلوات ، وتتلى فيها كتب الله ، ويذكر فيها ، اسم الله ، بأنواع الذكر ، فلو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض ، لاستولى الكفار على المسلمين ، فخربوا معابدهم ، وفتنوهم عن دينهم ، فدل هذا ، أن الجهاد مشروع ، لأجل دفع الصائل والمؤذي ، ومقصود لغيره. ودل ذلك ، على أن البلدان ، التي حصلت فيها الطمأنينة بعبادة الله ، وعمرت مساجدها ، وأقيمت فيها شعائر الدين كلها ، من فضائل المجاهدين وبركتهم ، فبذلك دفع الله عنها الكافرين قال الله تعالى : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ). فإن قلت نرى الآن مساجد المسلمين عامرة لم تخرب ، مع أنها كثير منها إمارة صغيرة ، وحكومة غير منظمة ، مع أنهم لا بد لهم بقتال من جاورهم من الإفرنج. بل نرى المساجد التي تحت ولايتهم وسيطرتهم ، عامرة ، وأهلها آمنون مطمئنون ، مع قدرة ولاتهم ، من الكفار على هدمها والله أخبر أنه لو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض ، لهدمت هذه المعابد ، ونحن لا نشاهد دفعا. أجيب ، بأن جواب هذا السؤال والاستشكال ، داخل في عموم هذه الآية ، وفرد من أفرادها. فإن من عرف أحوال الدول الآن ونظامها ، وأنها تعتبر كلّ أمة وجنس ، تحت ولايتها ، وداخل في حكمها ، تعتبره عضوا من أعضاء المملكة ، وجزءا من أجزاء الحكومة ، سواء كانت تلك الأمة مقتدرة بعددها أو عددها ، أو مالها ، أو علمها ، أو خدمتها. فتراعي الحكومات ، مصالح ذلك الشعب ، الدينية والدنيوية ، وتخشى إن لم تفعل ذلك ، أن يختل نظامها ، وتفقد بعض أركانها ، فيقوم من أمر الدين بهذا السبب ما يقوم ، خصوصا المساجد ، فإنها ـ ولله الحمد ـ في غاية الانتظام ، حتى في عواصم الدول الكبار. وتراعي تلك الدول ، الحكومات المستقلة ، نظرا لخواطر رعاياهم المسلمين مع وجود التحاسد والتباغض بين دول النصارى ، الذي أخبر الله أنه لا يزال إلى يوم القيامة ، فتبقى الحكومة المسلمة ، التي لا تقدر على أن تدافع عن نفسها ، سالمة من كثير ضررهم ، لقيام الحسد عندهم ، وفيما بينهم. فلا يقدر أحدهم ، أن يمد يده عليها ، خوفا من احتمائها بالآخر مع أن الله تعالى ، لا بد أن يري عباده من نصر الإسلام والمسلمين ، ما قد وعد به في كتابه. وقد ظهرت ولله الحمد ، أسبابه ، بشعور المسلمين بضرورة رجوعهم إلى دينهم ، والشعور مبدأ العمل فنحمده ، ونسأله أن يتم نعمته. ولهذا قال في وعده الصادق المطابق للواقع : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) ، أي : يقوم بنصر دينه ، مخلصا له في ذلك ، يقاتل في سبيله ، لتكون كلمة الله هي العليا. (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي : كامل القوة ، عزيز لا يرام ، قد قهر الخلائق ، وأخذ بنواصيهم. فأبشروا ، يا معشر المسلمين ، فإنكم ، وإن ضعف عددكم ، وعددكم وقوي عدد عدوكم ، فإن ركنكم ، القوي العزيز ، ومعتمدكم على من خلقكم وخلق ما تعملون ، فاعملوا بالأسباب المأمور بها ، ثمّ اطلبوا منه نصركم ، فلا بد أن ينصركم. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) (٧) وقوموا ، أيها المسلمون ، بحق الإيمان والعمل الصالح ، فقد (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا

٦٣٦

اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً).

[٤١] ثمّ ذكر علامة من ينصره ، وبها يعرف ، أن من ادعى أنه ينصر الله ، وينصر دينه ، ولم يتصف بهذا الوصف ، فهو كاذب فقال : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي : ملكناهم إياها ، وجعلناهم المتسلطين عليها ، من غير منازع ينازعهم ، ولا معارض. (أَقامُوا الصَّلاةَ) في أوقاتها ، وحدودها ، وأركانها ، وشروطها ، في الجمعة والجماعات. (وَآتَوُا الزَّكاةَ) التي عليهم ، خصوصا ، وعلى رعيتهم عموما ، آتوها أهلها ، الّذين هم أهلها. (وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ) وهذا يشمل كلّ معروف حسنه شرعا وعقلا ، من حقوق الله ، وحقوق الآدميين. (وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) كل منكر شرعا وعقلا ، معروف قبحه ، والأمر بالشيء والنهي عنه ، يدخل فيه ، ما لا يتم إلا به ، فإذا كان المعروف والمنكر ، يتوقف على تعلم وتعليم ، أجبروا الناس على التعلم والتعليم ، وإذا كان يتوقف ، على تأديب مقدر شرعا ، أو غير مقدر ، كأنواع التعزير ، قاموا بذلك ، وإذا كان يتوقف على جعل أناس ، متصدين له ، لزم ذلك ، ونحو ذلك مما لا يتم الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، إلا به. (وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) أي : جميع الأمور ، ترجع إلى الله ، وقد أخبر أن العاقبة للتقوى. فمن سلطه أي : على العباد ، من الملوك ، وقام بأمر الله ، كانت له العاقبة الحميدة ، والحالة الرشيدة. ومن تسلط عليهم ، بالجبروت ، وأقام فيهم هوى نفسه ، فإنه ، وإن حصل له ملك موقت ، فإن عاقبته غير حميدة ، فولايته مسؤومة ، وعاقبته مذمومة.

[٤٢] يقول تعالى لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وإن يكذبك هؤلاء المشركون فلست بأول رسول كذب ، وليسوا بأول أمة ، كذبت رسولها. (فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ مَدْيَنَ) أي : قوم شعيب. (وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ) المكذبين ، فلم أعاجلهم بالعقوبة بل أمهلتهم ، حتى استمروا في طغيانهم يعمهون ، وفي كفرهم وشرهم يزدادون. (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) بالعذاب أخذ عزيز مقتدر (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) ، أي : إنكاري عليهم كفرهم ، وتكذيبهم كيف حاله ، كان أشد العقوبات ، وأفظع المثلات. فمنهم من أغرقه ، ومنهم من أخذته الصيحة ، ومنهم من أهلك بالريح العقيم. ومنهم من خسف به الأرض ، ومنهم من أرسل عليه عذاب يوم الظلة ، فليعتبر بهم ، هؤلاء المكذبون ، أن يصيبهم ما أصابهم ، فإنهم ليسوا خيرا منهم ، ولا كتب لهم براءة في الكتب المنزلة من الله ، وكم من المعذبين المهلكين أمثال هؤلاء كثير ، ولهذا قال :

[٤٥] (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) أي : وكم من قرية (أَهْلَكْناها) بالعذاب الشديد ، والخزي الدنيوي. (وَهِيَ ظالِمَةٌ) بكفرها بالله وتكذيبها لرسله ، لم يكن عقوبتنا لها ، ظلما منا. (فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) أي : فديارهم متهدمة ، قصورها ، وجدرانها ، قد سقطت على عروشها ، فأصبحت خرابا ، بعد أن كانت عامرة ، وموحشة بعد أن كانت آهلة بأهلها آنسة. (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) أي : وكم من بئر ، قد كان يزدحم عليها الخلق ، لشربهم ، وشرب مواشيهم ، ففقد أهلها ، وعدم منها الوارد والصادر. وكم من قصر ، تعب عليه أهله ، فشيدوه ، ورفعوه ،

٦٣٧

وحصنوه ، وزخرفوه ، فحين جاءهم أمر الله ، لم يغن عنهم شيئا ، وأصبح خاليا من أهله ، قد صاروا عبرة لمن اعتبر ، ومثالا لمن فكر ونظر.

[٤٦] ولهذا دعا الله عباده إلى السير في الأرض ، لينظروا ، ويعتبروا فقال : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) بأبدانهم وقلوبهم (فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها) آيات الله ويتأملون بها من مواقع عبره. (أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) أخبار الأمم الماضين ، وأنباء القرون المعذبين ، وإلا فمجرد نظر العين ، وسماع الأذن ، وسير البدن الخالي من التفكر والاعتبار ، غير مفيد ، ولا موصل إلى المطلوب. ولهذا قال : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) ، أي : هذا العمى الضار في الدين ، عمى القلب عن الحق ، حتى لا يشاهده كما لا يشاهد الأعمى المرئيات ، وأما عمى البصر ، فغايته بلغة ، ومنفعة دنيوية.

[٤٧] أي : يتعجلك هؤلاء المكذبون بالعذاب ، لجهلهم ، وظلمهم ، وعنادهم وتعجيزا لله ، وتكذيبا لرسله ، ولن يخلف الله وعده ، فما وعدهم به من العذاب ، لا بد من وقوعه ، ولا يمنعهم منه مانع. وأما عجلته ، والمبادرة فيه ، فليس ذلك إليك يا محمد ، ولا يستفزنك عجلتهم وتعجيزهم إيانا. فإن أمامهم ، يوم القيامة ، الذي يجمع فيه أولهم وآخرهم ، ويجازون بأعمالهم ، ويقع بهم العذاب الدائم الأليم ، ولهذا قال : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) من طوله ، وشدته ، وهوله ، فسواء أصابهم عذاب في الدنيا ، أم تأخر عنهم العذاب ، فإن هذا اليوم ، لا بد أن يدركهم. ويحتمل أن المراد : أن الله حليم ، ولو استعجلوا العذاب ، فإن يوما عنده ، كألف سنة مما تعدون. فالمدة ، وإن تطاولتموها ، واستبطأتم فيها نزول العذاب ، فإن الله يمهل المدد الطويلة ، ولا يهمل ، حتى إذا أخذ الظالمين بعذابه ، لم يفلتهم.

[٤٨] (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها) أي : أمهلتها مدة طويلة (وَهِيَ ظالِمَةٌ) أي : مع ظلمهم ، فلم يكن مبادرتهم بالظلم ، موجبا لمبادرتنا بالعقوبة. (ثُمَّ أَخَذْتُها) بالعذاب (وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) أي : مع عذابها في الدنيا ، سترجع إلى الله ، فيعذبها بذنوبها. فليحذر هؤلاء الظالمون ، من حلول عقاب الله ، ولا يغتروا بالإمهال.

[٤٩] يأمر تعالى عبده ورسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخاطب الناس جميعا ، بأنه رسول الله حقا ، مبشر للمؤمنين بثواب الله ، منذر للكافرين والظالمين ، من عقابه. وقوله : (مُبِينٌ) أي : بين الإنذار ، وهو التخويف ، مع الإعلام بالمخوف ، وذلك لأنه أقام البراهين الساطعة ، على صدق ما أنذرهم به.

[٥٠] ثم ذكر تفصيل النذارة ، والبشارة فقال : (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لما حصل منهم من الذنوب. (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) هي الجنة. والكريم من كلّ نوع : ما يجمع فضائله ويجوز كمالاته. وحاصل معنى الآية. فالذين آمنوا بالله ورسوله واستقر ذلك الإيمان بقلوبهم حتى أصبح إيمانا صاقا وعملوا الأعمال الصالحة لهم مغفرة من الله لذنوبهم التي وقعوا فيها ، كما أن لهم رزقا كريما في الجنة ، جمع هذا الرزق جميع الفضائل والكمالات.

[٥١] (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ) أي : سابقين أو مسابقين في زعمهم وتقديرهم طامعين أن كيدهم

٦٣٨

للإسلام يتم لهم (أُولئِكَ) الموصوفون بما ذكر من السعي والمعاجزة (أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي : ملازمون للنار الموقدة ، المصاحبون لها في كلّ أوقاتهم ، فلا يخفف عنهم من عذابها ولا يفتّر عنهم لحظة من أليم عقابها. وحاصل المعنى. والذين أجهدوا أنفسهم في محاربة القرآن ، مسابقين المؤمنين في زعمهم ، معارضين لهم ، شاقين ، زاعمين ـ خطأ ـ أنهم بذلك يبلغون ما يريدون ، أولئك يخلدون في عذاب الجحيم.

[٥٢] يخبر تعالى بحكمته البالغة ، واختياره لعباده ، وأن الله ما أرسل قبل محمد (مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى) أي : قرأ قراءته ، التي يذكر بها الناس ، ويأمرهم وينهاهم. (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) أي : في قراءته ، من طرقه ، ومكايده ، ما هو مناقض لتلك القراءة ، مع أن الله تعالى ، قد عصم الرسل ، بما يبلغون عن الله ، وحفظ وحيه ، أن يشتبه ، أو يختلط بغيره. ولكن هذا إلقاء من الشيطان ، غير مستقر ، ولا مستمر ، وإنما هو عارض ، يعرض ، ثم يزول ، وللعوارض أحكام ، ولهذا قال : (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) أي : يزيله ويذهبه ، ويبطله ، ويبين أنه ليس من آياته. (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) أي : يتقنها ، ويحررها ، ويحفظها ، فتبقى خالصة من مخالطة إلقاء الشيطان. (وَاللهُ عَلِيمٌ) (١) أي : كامل القوة والاقتدار. فبكمال قوته ، يحفظ وحيه ، ويزيل ما تلقيه الشياطين. (حَكِيمٌ) يضع الأشياء مواضعها ، فمن كمال حكمته ، مكّن الشياطين من الإلقاء المذكور ، ليحصل ما ذكره بقوله :

[٥٣] (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً) لطائفتين من الناس ، لا يبالي الله بهم. (لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي : ضعف وعدم إيمان تام ، وتصديق جازم ، فيؤثر في قلوبهم ، أدنى شبهة تطرأ عليها ، فإذا سمعوا ما ألقاه الشيطان ، داخلهم الريب والشك ، فصار فتنة لهم. (وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) أي : الغليظة ، التي لا يؤثر فيها زجر ولا تذكير ، ولا تفهم عن الله وعن رسوله لقسوتها ، فإذا سمعوا ما ألقاه الشيطان ، جعلوه حجة لهم على باطلهم ، وجادلوا به وشاقّوا الله ورسوله ، ولهذا قال : (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) أي : مشاقة لله ، ومعاندة للحق ، ومخالفة له ، بعيد من الصواب ، فما يلقيه الشيطان ، يكون فتنة لهؤلاء الطائفتين ، فيظهر به ما في قلوبهم ، من الخبث الكامن فيها ، وأما الطائفة الثالثة ، فإنه يكون رحمة في حقها.

[٥٤] وهم المذكورون بقوله : (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) وأن الله منحهم من العلم ، ما به يعرفون الحقّ من الباطل ، والرشد من الغي ، فيفرقون بين الأمرين ، الحقّ المستقر ، الذي يحكمه الله ، والباطل العارض الذي ينسخه الله ، بما على كلّ منهما من الشواهد ، وليعلموا أن الله حكيم ، يقيض بعض أنواع الابتلاء ، ليظهر بذلك كمائن النفوس الخيرة والشريرة. (فَيُؤْمِنُوا بِهِ) بسبب ذلك ، ويزداد إيمانهم ، عند دفع المعارض والشبهة. (فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) أي : تخشع وتخضع ، وتسلم لحكمته ، وهذا من هدايته إياهم. (وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا) بسبب إيمانهم (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) علم بالحق ، وعمل بمقتضاه ، فيثبت الله الذين آمنوا ، بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، وهذا النوع ، من تثبيت الله لعبده. وهذه الآيات ، فيها بيان أن للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أسوة بإخوانه المرسلين ، لما وقع منه عند قراءته صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَالنَّجْمِ) فلما بلغ (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) (٢٠) ألقى الشيطان في قراءته «تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى» فحصل بذلك للرسول حزن وللناس فتنة ، كما ذكر الله ، فأنزل الله هذه الآيات.

[٥٥] يخبر تعالى عن حالة الكفار ، وأنهم لا يزالون في شك ، مما جئتهم به ، يا محمد ، لعنادهم ، وإعراضهم ، وأنهم لا يبرحون مستمرين على هذه الحال (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) أي : مفاجأة (أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) أي : لا خير فيه ، وهو يوم القيامة. فإذا جاءتهم الساعة ، أو أتاهم ذلك اليوم ، علم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين ،

__________________

(١) في المطبوعة (عزيز) وعليه جرى التفسير وهو خطأ ، والصواب (عَلِيمٌ) كما في القرآن الكريم وهو ما أثبتناه.

٦٣٩

وندموا ، حيث لا ينفعهم الندم ، وأبلسوا ، وأيسوا من كل خير ، وودوا ، لو آمنوا بالرسول ، واتخذوا معه سبيلا. ففي هذا ، تحذيرهم من إقامتهم على مريتهم وفريتهم.

[٥٦] (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ) أي : يوم القيامة (لِلَّهِ) تعالى ، لا لغيره. (يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) بحكمه العدل ، وقضائه الفصل. (فَالَّذِينَ آمَنُوا) بالله ورسوله ، وما جاؤوا به (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ليصدقوا بذلك إيمانهم (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) نعيم القلب ، والروح ، والبدن ، مما لا يصفه الواصفون ، ولا تدركه العقول.

[٥٧] (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) بالله ورسله (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) الهادية للحق والصواب فأعرضوا عنها ، أو عاندوها.

(فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) لهم ، من شدته ، وألمه ، وبلوغه للأفئدة كما استهانوا برسله وآياته ، أهانهم الله بالعذاب.

[٥٨] هذه بشارة كبرى ، لمن هاجر في سبيل الله ، فخرج من داره ، ووطنه ، وأولاده ، وماله ابتغاء وجه الله ، ونصرة لدين الله ، فهذا قد وجب أجره على الله ، سواء مات على فراشه ، أو قتل مجاهدا في سبيل الله. (لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً) في البرزخ ، وفي يوم القيامة بدخول الجنة الجامعة ، للروح والريحان ، والحسن والإحسان ، ونعيم القلب والبدن ، أو يحتمل أن المراد : أن المهاجر في سبيل الله ، قد تكفل الله برزقه في الدنيا ، رزقا واسعا حسنا ، سواء علم الله منه أنه يموت على فراشه ، أو يقتل شهيدا ، فكلهم مضمون له الرزق. فلا يتوهم أنه إذا خرج من دياره وأمواله ، سيفتقر ويحتاج ، فإن رازقه هو خير الرازقين ، وقد وقع كما أخبر ، فإن المهاجرين السابقين ، تركوا ديارهم ، وأبناءهم وأموالهم ، نصرة لدين الله ، فلم يلبثوا إلّا يسيرا ، حتى فتح الله عليهم البلاد ، ومكنهم من العباد فاجتبوا من أموالها ، ما كانوا به من أغنى الناس.

[٥٩] ويكون على هذا القول ، قوله : (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ) ، إما ما يفتح الله عليهم من البلدان ، خصوصا فتح مكة المشرفة ، فإنهم دخلوها في حالة الرضا والسرور ، وإما المراد به ، رزق الآخرة ، وأن ذلك ، دخول الجنة. فتكون الآية جمعت بين الرزقين ، رزق الدنيا ، ورزق الآخرة ، واللفظ صالح لذلك كله ، والمعنى صحيح ، فلا مانع ، من إرادة الجميع. (وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ) بالأمور ، ظاهرها ، وباطنها ، متقدمها ، ومتأخرها. (حَلِيمٌ) يعصيه الخلائق ، ويبارزونه بالعظائم ، وهو لا يعاجلهم بالعقوبة مع كمال اقتداره ، بل يواصل لهم رزقه ، ويسدي إليهم ، فضله.

[٦٠] ذلك بأن من جني عليه وظلم ، فإنه يجوز له مقابلة الجاني ، بمثل جنايته ، فإن فعل ذلك ، فليس عليه سبيل ، وليس بملوم ، فإن بغي عليه بعد هذا ، فإن الله ينصره ، لأنه مظلوم ، فلا يجوز أن يبغى عليه ، بسبب أنه استوفى حقه. وإذا كان المجازي غيره ، بإساءته إذا ظلم بعد ذلك ، نصره الله ، فالذي بالأصل لم يعاقب أحدا إذا ظلم ، وجنى عليه ، فالنصر إليه أقرب. (إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) أي : يعفو عن المذنبين ، فلا يعاجلهم بالعقوبة ، ويغفر ذنوبهم ، فيزيلها ، ويزيل آثارها عنهم. فالله هذا وصفه المستقر اللازم الذاتي ، ومعاملته لعباده في جميع الأوقات بالعفو ، والمغفرة. فينبغي لكم أيها المظلومون المجني عليهم ، أن تعفوا ، وتصفحوا ، وتغفروا ليعاملكم الله ،

٦٤٠