تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي

تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

المؤلف:

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ١١٣٥

وقوعها ، فترحّل خوفها في قلوبهم فقادوهم إلى الكفر ، والبدع ، والمعاصي. وهذا التسليط والتقييض من الله للمكذبين الشياطين ، بسبب إعراضهم عن ذكر الله وآياته ، وجحودهم الحقّ كما قال تعالى : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (٣٧). (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي : وجب عليهم ، ونزل القضاء والقدر ، بعذابهم. (فِي) جملة (أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) لأديانهم وآخرتهم ، ومن خسر ، فلا بد أن يذل ، ويشقى ، ويعذب.

[٢٦] يخبر تعالى عن إعراض الكفار عن القرآن ، وتواصيهم بذلك فقال : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ) أي : أعرضوا عنه بأسماعكم ، وإياكم أن تلتفتوا ، أو تصغوا إليه وإلى من جاء به. فإن اتفق أنكم سمعتموه ، أو سمعتم الدعوة إلى أحكامه ، عارضوه. (وَالْغَوْا فِيهِ) أي : تكلموا بالكلام الذي لا فائدة فيه ، بل فيه المضرة ، ولا تمكنوا ـ مع قدرتكم ـ أحدا يملك عليكم الكلام به ، وتلاوة ألفاظه ومعانيه. هذا لسان حالهم ، ولسان مقالهم ، في الإعراض عن هذا القرآن. (لَعَلَّكُمْ) إن فعلتم ذلك (تَغْلِبُونَ) وهذه شهادة من الأعداء ، وأوضح الحقّ ما شهدت به الأعداء ، فإنهم لم يحكموا بغلبتهم لمن جاء بالحق إلا في حال الإعراض عنه والتواصي بذلك. ومفهوم كلامهم ، أنهم إن لم يلغوا فيه ، بل استمعوا إليه ، وألقوا أذهانهم ، أنهم لا يغلبون ، فإن الحقّ ، غالب غير مغلوب ، يعرف هذا أصحاب الحقّ وأعداؤه.

[٢٧] ولما كان هذا ظلما منهم وعنادا ، لم يبق فيهم مطمع للهداية ، فلم يبق إلا عذابهم ونكالهم ، ولهذا ، قال : (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢٧). وهو الكفر والمعاصي ، فإنها أسوأ ما كانوا يعملون ، لكونهم يعملون المعاصي وغيرها. فالجزاء بالعقوبة ، إنّما هو على عمل الشرك ، (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً).

[٢٨] (ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ) الّذين حاربوه ، وحاربوا أولياءه ، جزاؤهم (النَّارُ) بالكفر والتكذيب ، والمجادلة والمجالدة. (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ) أي : الخلود الدائم ، الذي لا يفتر عنهم العذاب ساعة ، ولا هم ينصرون. وذلك (جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) فإنها آيات واضحة ، وأدلة قاطعة مفيدة لليقين ، فأعظم الظلم وأكبر العناد جحدها ، والكفر بها.

[٢٩] (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : الأتباع منهم ، بدليل ما بعده ، على وجه الحنق ، على من أضلهم. (رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) أي : الصنفين اللذين قادانا إلى الضلال والعذاب ، من شياطين الجنّ ، وشياطين الإنس الدعاة إلى جهنم. (نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) أي : الأذلين المهانين كما أضلونا ، وفتنونا ، وصاروا سببا لنزولنا. ففي هذا ، بيان حنق بعضهم على بعض ، وتبرّي بعضهم من بعض.

[٣٠] يخبر تعالى عن أوليائه ، وفي ضمن ذلك ، تنشيطهم ، والحث على الاقتداء بهم فقال : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) أي : اعترفوا ، ونطقوا ، ورضوا بربوبية الله تعالى ، واستسلموا لأمره ، ثمّ استقاموا على الصراط المستقيم ، علما وعملا ، فلهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة. (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) الكرام ،

٩٠١

أي : يتكرر نزولهم عليهم ، مبشرين لهم عند الاحتضار. (أَلَّا تَخافُوا) على ما يستقبل من أمركم ، (وَلا تَحْزَنُوا) على ما مضى. فنفوا عنهم المكروه الماضي والمستقبل. (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) فإنها قد وجبت لكم وثبتت ، وكان وعد الله مفعولا.

[٣١] ويقولون لهم أيضا ـ مثبتين لهم ، ومبشرين ـ : (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) يحثونهم في الدنيا على الخير ، ويزينونه لهم ، ويرهبونهم عن الشر ، ويقبحونه في قلوبهم ، ويدعون الله لهم ، ويثبتونهم عند المصائب والمخاوف ، وخصوصا عند الموت وشدته ، والقبر وظلمته ، وفي القيامة وأهوالها على الصراط ، وفي الجنة ، يهنئونهم بكرامة ربهم ، ويدخلون عليهم من كل باب (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (٢٤). ويقولون لهم أيضا : (وَلَكُمْ فِيها) أي : في الجنة (ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) قد أعد وهيّىء. (وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) أي : تطلبون من كل ما تتعلق به إرادتكم وتطلبونه من أنواع اللذات والمشتهيات ، مما لا عين رأيت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.

[٣٢] (نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) (٣٢) أي : هذا الثواب الجزيل ، والنعيم المقيم ، نزل وضيافة (مِنْ غَفُورٍ) غفر لكم السيئات. (رَحِيمٍ) حيث وفقكم لفعل الحسنات ، ثمّ قبلها منكم. فبمغفرته ، أزال عنكم المحذور ، وبرحمته ، أنالكم المطلوب.

[٣٣] هذا استفهام بمعنى النفي المتقرر أي : لا أحد أحسن قولا. أي : كلاما وطريقة ، وحالة (مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) بتعليم الجاهلين ، ووعظ الغافلين والمعرضين ، ومجادلة المبطلين ، بالأمر بعبادة الله ، بجميع أنواعها ، والحث عليها ، وتحسينها مهما أمكن ، والزجر عمّا نهى الله عنه ، وتقبيحه بكل طريق يوجب تركه. خصوصا من هذه الدعوة إلى أصل دين الإسلام وتحسينه ، ومجادلة أعدائه بالتي هي أحسن ، والنهي عمّا يضاده من الكفر والشرك ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر. ومن الدعوة إلى الله ، تحبيبه إلى عباده ، بذكر تفاصيل نعمه ، وسعة جوده ، وكمال رحمته ، وذكر أوصاف كماله ، ونعوت جلاله. ومن الدعوة إلى الله ، الترغيب في اقتباس العلم والهدى من كتاب الله ، وسنّة رسوله ، والحث على ذلك ، بكل طريق موصل إليه ومن ذلك الحث على مكارم الأخلاق ، والإحسان إلى عموم الخلق ، ومقابلة المسيء بالإحسان ، والأمر بصلة الأرحام ، وبر الوالدين. ومن ذلك ، الوعظ لعموم الناس ، في أوقات المواسم ، والعوارض ، والمصائب ، بما يناسب ذلك الحال ، إلى غير ذلك ، مما لا تنحصر أفراده ، بما تشمله الدعوة إلى الخير كله ، والترهيب من جميع الشر. ثمّ قال تعالى : (وَعَمِلَ صالِحاً) أي : مع دعوته الخلق إلى الله ، بادر هو بنفسه ، إلى امتثال أمر الله ، بالعمل الصالح ، الذي يرضي ربه. (وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي : المنقادين لأمره ، السالكين في طريقه. وهذه المرتبة ، تمامها للصديقين ، الّذين عملوا على تكميل أنفسهم ، وتكميل غيرهم ، وحصلت لهم الوراثة التامة من الرسل. كما أن من شرّ الناس قولا ، من كان من دعاة الضلال السالكين لسبله. وبين هاتين المرتبتين المتباينتين ، اللتين ارتفعت إحداهما إلى أعلى عليين ، ونزلت الأخرى ، إلى أسفل سافلين ، مراتب ، لا يعلمها إلا الله ، وكلها معمورة بالخلق (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (١٣٢).

[٣٤] يقول تعالى : (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) أي : لا يستوي فعل الحسنات والطاعات ، لأجل رضا الله تعالى ، وفعل السيئات والمعاصي ، الّتي تسخطه ولا ترضيه. ولا يستوي الإحسان إلى الخلق ، ولا الإساءة إليهم ، لا في ذاتها ، ولا في وصفها ، ولا في جزائها (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) (٦٠). ثمّ أمر بإحسان خاص ، له موقع كبير ، وهو : الإحسان إلى من أساء إليك فقال (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي : فإذا أساء إليك مسيء من الخلق ، خصوصا من له حق كبير عليك ، كالأقارب ، والأصحاب ، ونحوهم ، إساءة بالقول أو بالفعل ، فقابله بالإحسان إليه. فإن قطعك فصله ، وإن ظلمك فاعف عنه ، وإن تكلم فيك ، غائبا أو حاضرا ، فلا تقابله ، بل اعف عنه ، وعامله بالقول اللين. وإن هجرك ، وترك خطابك ، فطيّب له الكلام ، وابذل له السّلام. فإذا قابلت الإساءة

٩٠٢

بالإحسان ، حصل فائدة عظيمة. (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) أي : كأنه قريب شفيق.

[٣٥] (وَما يُلَقَّاها) أي : وما يوفق لهذه الخصلة الحميدة (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) نفوسهم على ما تكره ، وأجبروها على ما يحبه الله. فإن النفوس مجبولة على مقابلة المسيء بإساءته وعدم العفو عنه ، فكيف بالإحسان؟ فإذا صبر الإنسان نفسه ، وامتثل أمر ربه ، وعرف جزيل الثواب وعلم أن مقابلته للمسيء بجنس عمله ، لا تفيده شيئا ، ولا تزيد العداوة إلا شدة ، وأن إحسانه إليه ليس بواضع قدره ، بل من تواضع لله رفعه ، هان عليه الأمر ، وفعل ذلك متلذذا مستحليا له. (وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) لكونها من خصال خواص الخلق ، الّتي ينال بها العبد ، الرفعة في الدنيا والآخرة ، الّتي هي من أكبر خصال مكارم الأخلاق.

[٣٦] لما ذكر تعالى ما يقابل به العدو من الإنس ، وهو مقابلة إساءته بالإحسان ، ذكر ما يدفع به العدو الجنّي ، وهو الاستعاذة بالله ، والاحتماء من شره فقال : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) أي : أي وقت من الأوقات ، أحسست بشيء من نزغات الشيطان ، أي : من وساوسه ، وتزيينه للشر ، وتكسيله عن الخير ، وإصابة ببعض الذنوب ، وإطاعة له ببعض ما يأمر به (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) أي : اسأله ، مفتقرا إليه ، أن يعيذك ويعصمك منه. (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) فإنه يسمع قولك وتضرعك ، ويعلم حالك واضطرارك إلى عصمته وحمايته.

[٣٧] ثمّ ذكر تعالى أن (مِنْ آياتِهِ) الدالة على كمال قدرته ، ونفوذ مشيئته ، وسعة سلطانه ، ورحمته بعباده ، وأنه الله وحده لا شريك له (اللَّيْلُ وَالنَّهارُ) : هذا بمنفعة ضيائه ، وتصرف العباد فيه ، وهذا بمنفعة ظلمته ، وسكون الخلق فيه. (وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) اللذان لا تستقيم معايش العباد ، ولا أبدانهم ، ولا أبدان حيواناتهم ، إلا بهما ، وبهما من المصالح ، ما لا يحصى عدده. (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ) فإنهما مدبران مسخران مخلوقان. (وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَ) ، أي : اعبدوه وحده ؛ لأنه الخالق العظيم ، ودعوا عبادة ما سواه ، من المخلوقات ، وإن كبر جرمها وكثرت مصالحها ، فإن ذلك ليس منها ، وإنّما هو من خالقها ، تبارك وتعالى : (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) فخصوه بالعبادة وإخلاص الدين له.

[٣٨] (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا) عن عبادة الله تعالى ، ولم ينقادوا لها ، فإنهم لن يضروا الله شيئا ، والله غني عنهم ، وله عباد مكرمون ، لا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون. ولهذا قال : (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) يعني : الملائكة المقربين (يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) أي : لا يملون من عبادته ، لقوتهم ، وشدة الداعي القوي منهم إلى ذلك.

[٣٩] (وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على كمال قدرته ، وانفراده بالملك والتدبير والوحدانية. (أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً) لا نبات فيها (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ) أي : المطر (اهْتَزَّتْ) أي : تحركت بالنبات (وَرَبَتْ) ثمّ : أنبتت من كل زوج بهيج ، فحيي بها العباد والبلاد. (إِنَّ الَّذِي أَحْياها) بعد موتها وهمودها ، (لَمُحْيِ الْمَوْتى) من قبورهم إلى يوم بعثهم ، فنشورهم (إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فكما لم تعجز قدرته عن إحياء الأرض بعد موتها ، لا تعجز عن إحياء الموتى.

[٤٠] الإلحاد في آيات الله : الميل بها عن الصواب ، بأي وجه كان : إما بإنكارها وجحودها ، وتكذيب من جاء

٩٠٣

بها. وإما بتحريفها عن معناها الحقيقي ، وإثبات معان لها ، ما أرادها الله منها. فتوعّد تعالى من ألحد فيها ، بأنه لا يخفى عليه ، بل هو مطلع على ظاهره وباطنه ، وسيجازيه على إلحاده بما كان يعمل ، ولهذا قال : (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ) مثل الملحد بآيات الله (خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ) من عذاب الله مستحقا لثوابه؟ من المعلوم أن هذا خير. لما تبين الحقّ من الباطل ، والطريق المنجي من عذابه من الطريق المهلك قال : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) إن شئتم فاسلكوا طريق الرشد ، الموصلة إلى رضا ربكم وجنته. وإن شئتم فاسلكوا طريق الغيّ ، المسخطة لربكم ، الموصلة إلى دار الشقاء. (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) يجازيكم بحسب أحوالكم وأعمالكم ، كقوله تعالى : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ).

[٤١] ثمّ قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ) أي : يجحدون القرآن الكريم المذكر للعباد جميع مصالحهم الدينية والدنيوية والأخروية ، المعلى لقدر من اتبعه. (لَمَّا جاءَهُمْ) نعمة من ربهم على يد أفضل الخلق وأكملهم. (وَ) الحال (إِنَّهُ لَكِتابٌ) جامع لأوصاف الكمال (عَزِيزٌ) أي : منيع من كل من أراده بتحريف أو سوء. ولهذا قال :

[٤٢] (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) أي : لا يقربه شيطان من شياطين الإنس والجنّ ، لا بسرقة ولا بإدخال ما ليس منه به ، ولا بزيادة ولا نقص. فهو محفوظ في تنزيله ، محفوظة ألفاظه ومعانيه ، قد تكفل من أنزله بحفظه كما قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٩). (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ) في خلقه وأمره ، يضع كل شيء موضعه ، وينزله منازله. (حَمِيدٍ) على ما له من صفات الكمال ، ونعوت الجلال ، وعلى ما له من العدل والإفضال ، فلهذا كان كتابه مشتملا على تمام الحكمة ، وعلى تحصيل المصالح والمنافع ، ودفع المفاسد والمضار ، الّتي يحمد عليها.

[٤٣] أي : (ما يُقالُ لَكَ) أيها الرسول من الأقوال الصادرة ، ممن كذبك وعاندك. (إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) أي : من جنسها. بل ربما إنهم تكلموا بكلام واحد ، كتعجب جميع الأمم المكذبة للرسل ، من دعوتهم إلى الإخلاص لله ، وعبادته وحده لا شريك له ، وردهم هذا ، بكل طريق يقدرون عليه ، وقولهم : (ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا). واقتراحهم على رسلهم الآيات ، الّتي لا يلزمهم الإتيان بها ، ونحو ذلك من أقوال أهل التكذيب ، لما تشابهت قلوبهم في الكفر ، تشابهت أقوالهم. وصبر الرسل عليهم‌السلام على أذاهم ، وتكذيبهم ، فاصبر كما صبر من قبلك. ثمّ دعاهم إلى التوبة والإتيان بأسباب المغفرة ، وحذرهم من الاستمرار على الغيّ فقال : (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ) أي : عظيمة ، يمحو بها كل ذنب لمن أقلع وتاب (وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) لمن : أصر واستكبر.

[٤٤] يخبر تعالى عن فضله وكرمه ، حيث أنزل كتابا عربيا ، على الرسول العربي ، بلسان قومه ، ليبين لهم. وهذا مما يوجب لهم زيادة الاعتناء به ، والتلقي له والتسليم. وأنه لو جعله قرآنا أعجميا ، بلغة غير العرب ، لاعترض ، المكذبون وقالوا : (لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) أي : هلّا بينت آياته ، ووضحت وفسرت. (ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ) أي : كيف يكون محمد عربيا ، والكتاب أعجمي؟ هذا لا يكون. فنفى الله تعالى كل أمر ، يكون فيه شبهة لأهل الباطل ، عن كتابه ، ووصفه بكل وصف يوجب لهم الانقياد. ولكن المؤمنون الموفقون انتفعوا به ، وارتفعوا ، وغيرهم بالعكس

٩٠٤

من أحوالهم. ولهذا قال : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) أي : يهديهم لطريق الرشد ، والصراط المستقيم ويعلمهم من العلوم النافعة ، ما به تحصل الهداية التامة. وشفاء لهم من الأسقام البدنية ، والأسقام القلبية ، لأنه يزجر عن مساوئ الأخلاق ، وأقبح الأعمال ، ويحث على التوبة النصوح ، الّتي تغسل الذنوب ، وتشفي القلب. (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) بالقرآن (فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ) أي : صمم عن استماعه وإعراض ، (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) أي : لا يبصرون به رشدا ، ولا يهتدون به ، ولا يزيدهم إلا ضلالا. فإنهم إذا ردوا الحقّ ، ازدادوا عمى إلى عماهم ، وغيّا إلى غيّهم. (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أي : ينادون إلى الإيمان ، ويدعون إليه ، فلا يستجيبون. بمنزلة الذي ينادى وهو في مكان بعيد ، لا يسمع داعيا ولا يجيب مناديا. والمقصود : أن الّذين لا يؤمنون بالقرآن ، لا ينتفعون بهداه ، ولا يبصرون بنوره ، ولا يستفيدون منه خيرا ؛ لأنهم سدوا على أنفسهم أبواب الهدى ، بإعراضهم وكفرهم.

[٤٥] يقول تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) كما آتيناك الكتاب ، فصنع به الناس ما صنعوا معك ، اختلفوا فيه : فمنهم من آمن به واهتدى وانتفع ، ومنهم من كذبه ولم ينتفع به. وإن الله تعالى ، لو لا حلمه وكلمته السابقة ، بتأخير العذاب إلى أجل مسمّى لا يتقدم عليه ولا يتأخر (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بمجرد ما يتميز المؤمنون من الكافرين ، بإهلاك الكافرين في الحال ؛ لأن سبب الهلاك ، قد وجب وحق. (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) أي : قد بلغ بهم إلى الريب الذي يقلقهم ، فلذلك كذبوه وجحدوه.

[٤٦] (مَنْ عَمِلَ صالِحاً) وهو العمل الذي أمر الله به ورسوله (فَلِنَفْسِهِ) نفعه وثوابه في الدنيا والآخرة (وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) ضرره وعقابه ، في الدنيا والآخرة. وفي هذا ، حثّ على فعل الخير ، وترك الشر ، وانتفاع العاملين ، بأعمالهم الحسنة ، وضررهم بأعمالهم السيئة ، وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى. (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) فيحمّل أحدا فوق سيئاته.

[٤٧] هذا إخبار عن سعة علمه تعالى واختصاصه بالعلم الذي لا يطلع عليه سواه فقال : (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي : جميع الخلق يرد علمهم إلى الله تعالى ، ويقرون بالعجز عنه ، الرسل ، والملائكة ، وغيرهم. (وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها) أي : وعائها الذي تخرج منه. وهذا شامل لثمرات جميع الأشجار الّتي في البلدان والبراري ، فلا تخرج ثمرة شجرة من الأشجار ، إلا وهو يعلمها تفصيليا. (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى) من بني آدم وغيرهم ، من أنواع الحيوانات ، إلا بعلمه (وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ). فكيف سوّى المشركون به تعالى ، من لا علم عنده ، ولا سمع ولا بصر؟ (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) أي : المشركين به يوم القيامة توبيخا وإظهارا لكذبهم فيقول لهم : (أَيْنَ شُرَكائِي) الّذين زعمتم أنهم شركائي ، فعبدتموهم ، وجادلتم على ذلك ، وعاديتم الرسل لأجلهم؟ (قالُوا) مقرين ببطلان إلهيتهم وشركتهم مع الله : (آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) أي : أعلمناك يا ربنا ، وأشهد علينا أنه ما منّا أحد يشهد بصحة إلهيتهم وشركتهم ، فكلنا الآن رجعنا إلى بطلان عبادتها ، وتبرأنا منها ، ولهذا قال :

[٤٨] (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ) من دون الله ، أي : ذهبت عقائدهم وأعمالهم ، الّتي أفنوا فيها أعمارهم على عبادة غير الله ، وظنوا أنها تفيدهم ، وتدفع عنهم العذاب ، وتشفع لهم عند الله. فخاب سعيهم ، وانتقض ظنهم ، ولم تغن عنهم شركاؤهم شيئا (وَظَنُّوا) أي : أيقنوا في تلك الحال (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) أي : منقذ ينقذهم ، ولا مغيث ، ولا ملجأ. فهذه عاقبة من أشرك بالله غيره ، بيّنها الله لعباده ، ليحذروا الشرك به.

[٤٩ ـ ٥١] هذا إخبار عن طبيعة الإنسان من حيث هو ، وعدم صبره وجلده ، لا على الخير ، ولا على الشر ، إلا من نقله الله من هذه الحال ، إلى حال الكمال ، فقال : (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) أي : لا يمل دائما ، من دعاء الله ، بالفوز ، والمال ، والولد ، وغير ذلك ، من مطالب الدنيا. ولا يزال يعمل على ذلك ، ولا يقتنع بقليل ولا بكثير منها. فلو حصل له من الدنيا ما حصل ، لم يزل طالبا للزيادة. (وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ) أي : المكروه ، كالمرض ، والفقر ، وأنواع البلايا (فَيَؤُسٌ) (قَنُوطٌ) أي : ييأس من رحمة الله تعالى ، ويظن أن هذا البلاء ، هو القاضي عليه بالهلاك ،

٩٠٥

ويتشوش من إتيان الأسباب ، على غير ما يحب ويطلب. إلا الّذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فإنهم إذا أصابهم الخير والنعمة والمحاب ، شكروا الله تعالى ، وخافوا أن تكون نعم الله عليهم ، استدراجا وإمهالا. وإن أصابتهم مصيبة ، في أنفسهم ، وأموالهم ، وأولادهم ، صبروا ، ورجوا فضل ربهم ، فلم ييأسوا. ثمّ قال تعالى : (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ) أي : الإنسان الذي يسأم من دعاء الخير ، وإن مسه الشر فيؤوس (رَحْمَةً مِنَّا) أي : بعد ذلك الشر الذي أصابه ، بأن عافاه الله من مرضه ، أو أغناه من فقره ، فإنه لا يشكر الله تعالى ، بل يبغي ، ويطغى ، ويقول : (هذا لِي) أي : أتاني ، لأني له أهل ، وأنا مستحق له (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) ، وهذا إنكار منه للبعث ، وكفر للنعمة والرحمة ، الّتي أذاقها الله له. (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) أي : على تقدير إتيان الساعة ، وأني سأرجع إلى ربي ، إن لي عنده للحسنى. فكما حصلت لي النعمة في الدنيا ، فإنها ستحصل لي في الآخرة. وهذا من أعظم الجرأة والقول على الله بلا علم ، فلهذا توعده بقوله : (فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) أي : شديد جدا. (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ) بصحة ، أو رزق ، أو غيرهما (أَعْرَضَ) عن ربه وعن شكره (وَنَأى) ترفّع (بِجانِبِهِ) عجبا وتكبرا. (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ) أي : المرض ، أو الفقر ، أو غيرهما (فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) أي : كثير جدا ، لعدم صبره. فلا صبر في الضراء ، ولا شكر في الرخاء ، إلا من هداه الله ومنّ عليه.

[٥٢] أي (قُلْ) لهؤلاء المكذبين بالقرآن المسارعين إلى الكفران : (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ) هذا القرآن (مِنْ عِنْدِ اللهِ) من غير شك ولا ارتياب. (ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) أي : معاندة لله ولرسوله ، لأنه تبين لكم الحقّ والصواب ، ثمّ عدلتم عنه ، لا إلى حق ، بل إلى باطل وجهل. فإذا تكونون أضلّ الناس وأظلمهم.

[٥٣] فإن قلتم ، أو شككتم بصحته وحقيقته ، فسيقيم الله لكم ، ويريكم من آياته ، حيث قال تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ) كالآيات الّتي في السماء وفي الأرض ، وما يحدثه الله تعالى من الحوادث العظيمة ، الدالة للمستبصر على الحقّ. (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) مما اشتملت عليه أبدانهم ، من بديع آيات الله ، وعجائب صنعته ، وباهر قدرته ، وفي حلول العقوبات والمثلات في المكذبين ، ونصر المؤمنين. (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ) من تلك الآيات ، بيانا لا يقبل الشك (أَنَّهُ الْحَقُ) وما اشتمل عليه حق. وقد فعل تعالى ، فإنه أرى عباده من الآيات ، ما به تبين أنه الحقّ ، ولكن الله هو الموفق للإيمان من يشاء ، والخاذل لمن يشاء. (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي : أولم يكفهم على أن القرآن حق ، ومن جاء به صادق ، بشهادة الله تعالى ، فإنه قد شهد له بالتصديق ، وهو أصدق الشاهدين ، وأيده ، ونصره نصرا متضمنا شهادته القولية ، عند من شك فيها.

[٥٤] (أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ) أي : في شك من البعث والقيامة ، وليس عندهم دار ، سوى الدار الدنيا ، فلذلك لم يعملوا للآخرة ، ولم يلتفتوا لها. (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) علما وقدرة وعزة.

٩٠٦

سورة الشّورى

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣] يخبر تعالى ، أنه أوحى هذا القرآن العظيم إلى النبي الكريم ، كما أوحى إلى من قبله من الأنبياء والمرسلين. ففيه بيان فضله ، بإنزال الكتب ، وإرسال الرسل ، سابقا ولا حقا ، وأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس ببدع من الرسل. وأن طريقته طريقة من قبله ، وأحواله تناسب أحوال من قبله من المرسلين. وما جاء به يشابه ما جاءوا به ، لأن الجميع حق وصدق ، وهو تنزيل من اتصف بالألوهية ، والعزة العظيمة ، والحكمة البالغة. وأن جميع العالم العلوي والسفلي ملكه وتحت تدبيره القدري والشرعي.

[٤ ـ ٥] وأنه (الْعَلِيُ) بذاته ، وقدره ، وقهره. (الْعَظِيمُ) الذي من عظمته (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَ) على عظمها وكونها جمادا. (وَالْمَلائِكَةُ) الكرام المقربون ، خاضعون لعظمته ، مستكينون لعزته ، مذعنون بربوبيته. (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) ويعظمونه وينزهونه عن كل نقص ، ويصفونه بكل كمال. (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) عمّا يصدر منهم ، مما لا يليق بعظمة ربهم وكبريائه. مع أنه تعالى (هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) الذي لو لا مغفرته ورحمته ، لعاجل الخلق بالعقوبة المستأصلة. وفي وصفه تعالى بهذه الأوصاف ، بعد أن ذكر أنه أوحى إلى الرسل عموما ، وإلى محمد ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ خصوصا ، إشارة إلى أن هذا القرآن الكريم ، فيه الأدلة والبراهين ، والآيات الدالة على كمال الباري تعالى ، ووصفه بهذه الأسماء العظيمة الموجبة لامتلاء القلوب ، من معرفته ، ومحبته ، وتعظيمه ، وإجلاله ، وإكرامه ، وصرف جميع أنواع العبودية ، الظاهرة ، والباطنة ، له تعالى. وأن من أكبر الظلم ، وأفحش القول ، اتخاذ أنداد لله من دونه ، ليس بيدهم نفع ولا ضر. بل هم مخلوقون مفتقرون إلى الله في جميع أحوالهم ، ولهذا عقبه بقوله :

[٦] (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) يتولونهم بالعبادة والطاعة ، كما يعبدون الله ويطيعونه ، فإنما اتخذوا الباطل ، وليسوا بأولياء على الحقيقة. (اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) يحفظ عليهم أعمالهم ، فيجازيهم بخيرها وشرها. (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) فتسأل عن أعمالهم ، وإنّما أنت مبلغ أديت وظيفتك.

[٧] ثمّ ذكر منته على رسوله ، وعلى الناس ، حيث أنزل الله (قُرْآناً عَرَبِيًّا) بين الألفاظ والمعاني (لِتُنْذِرَ أُمَ) وهي مكة المكرمة (وَمَنْ حَوْلَها) من قرى العرب ثمّ يسري هذا الإنذار ، إلى سائر الخلق. (وَتُنْذِرَ) الناس (يَوْمَ الْجَمْعِ) الذي يجمع الله به الأولين والآخرين ، وتخبرهم أنه (لا رَيْبَ فِيهِ) وأن الخلق ينقسمون فيه فريقين (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ) وهم الّذين آمنوا بالله ، وصدقوا المرسلين ، (وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) وهم أصناف الكفرة المكذبين.

[٨] (وَ) مع هذا (لَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ) أي : جعل الناس كلهم (أُمَّةً واحِدَةً) على الهدى ، لأنه القادر ، الذي لا يمتنع عليه شيء ، ولكن أراد أن يدخل في رحمته من شاء ، من خواص خلقه. وأما الظالمون الّذين لا يصلحون لصالح ، فإنهم محرومون من الرحمة ، ف (ما لَهُمْ) من دون الله (مِنْ وَلِيٍ) يتولاهم ، فيحصل لهم المحبوب (وَلا نَصِيرٍ) يدفع

٩٠٧

عنهم المكروه.

[٩] والّذين (اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) يتولونهم بعبادتهم إياهم ، فقد غلطوا أقبح غلط. فالله ، هو الولي الذي يتولاه عبده بعبادته وطاعته ، والتقرب إليه بما أمكن من أنواع التقربات ، ويتولى عباده عموما بتدبيره ، ونفوذ القدر فيهم. ويتولى عباده المؤمنين خصوصا ، بإخراجهم من الظلمات إلى النور ، وتربيتهم بلطفه ، وإعانتهم في جميع أمورهم. (وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي : هو المتصرف بالإحياء والإماتة ، ونفوذ المشيئة والقدرة ، فهو الذي يستحق أن يعبد وحده ، لا شريك له.

[١٠] يقول تعالى : (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ) من أصول دينكم وفروعه ، مما لا تتفقوا عليه (فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) يرد إلى كتابه ، وإلى سنّة رسوله ، فما حكما به ، فهو الحقّ ، وما خالف ذلك ، فباطل. (ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي) أي : فكما أنه تعالى ، الرب الخالق الرازق المدبر ، فهو تعالى الحاكم بين عباده ، بشرعه في جميع أمورهم. ومفهوم الآية الكريمة ، أن اتفاق الأمة حجة قاطعة ، لأن الله تعالى ، لم يأمرنا أن نرد إليه إلا ما اختلفنا فيه. فما اتفقنا عليه ، يكفي اتفاق الأمة عليه ، لأنها معصومة عن الخطأ. ولا بد أن يكون اتفاقها ، موافقا لما في كتاب الله وسنّة رسوله. وقوله : (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أي : اعتمدت بقلبي عليه ، في جلب المنافع ، ودفع المضار ، واثقا به تعالى في الإسعاف بذلك ، (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أي : أتوجه بقلبي وبدني إليه ، وإلى طاعته وعبادته. وهذان الأصلان ، كثيرا ما يذكرهما الله في كتابه ، لأنهما يحصل بمجموعهما ، كمال العبد ، ويفوته الكمال بفوتهما ، أو فوت أحدهما ، كقوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (٥) وقوله : (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ).

[١١] (فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : خالقهما بقدرته ومشيئته وحكمته. (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) لتسكنوا إليها ، وتنتشر منكم الذرية ، ويحصل لكم من النفع ، ما يحصل. (وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً) أي : ومن جميع أصنافها نوعين ، ذكر ، وأنثى ، لتبقى ، وتنمو لمنافعكم الكثيرة ، ولهذا عداها باللام ، الدالة على التعليل : أي : جعل لكم من أنفسكم ، وجعل لكم من الأنعام أزواجا. (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) أي : ليس يشبهه تعالى ولا يماثله شيء من مخلوقاته ، لا في ذاته ولا في أسمائه ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله ، لأن أسماءه ، كلها حسنى ، وصفاته ، صفات كمال وعظمة ، وأفعاله تعالى ، أوجد بها المخلوقات العظيمة ، من غير مشارك. فليس كمثله شيء ، لانفراده ، وتوحده بالكمال ، من كل وجه. (وَهُوَ السَّمِيعُ) لجميع الأصوات ، باختلاف اللغات ، على تفنن الحاجات. (الْبَصِيرُ) يرى دبيب النملة السوداء ، في الليلة الظلماء ، على الصخرة الصماء. ويرى سريان القوت في أعضاء الحيوانات الصغيرة جدا ، وسريان الماء في الأغصان الدقيقة. وهذه الآية ونحوها ، دليل لمذاهب أهل السنة والجماعة ، من إثبات الصفات ، ونفي مماثلة المخلوقات. وفيها رد ، على المشبهة في قوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وعلى المعطلة في قوله : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).

[١٢] وقوله : (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : له ملك السموات والأرض وبيده مفاتيح الرحمة والأرزاق ، والنعم الظاهرة والباطنة. فكل الخلق مفتقرون إلى الله ، في جلب مصالحهم ، ودفع المضار عنهم ، في كل الأحوال ، ليس بيد أحد من الأمر شيء. والله تعالى هو المعطي المانع ، الضار

٩٠٨

النافع ، الذي ما بالعباد من نعمة ، إلا منه ، ولا يدفع الشر ، إلا هو و (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ). ولهذا قال هنا : (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) أي : يوسعه ويعطيه من أصناف الرزق ، ما شاء (وَيَقْدِرُ) أي : يضيق على من يشاء ، حتى يكون بقدر حاجته ، لا يزيد عنها ، وكل هذا تابع لعلمه وحكمته ، فلهذا قال : (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيعلم أحوال عباده ، فيعطي كلّا ، ما يليق بحكمته ، وتقتضيه مشيئته.

[١٣] هذه أكبر منة أنعم الله بها على عباده ، أن شرع لهم من الدين خير الأديان وأفضلها ، وأزكاها وأطهرها ؛ دين الإسلام ، الذي شرعه الله للمصطفين المختارين من عباده. بل شرعه الله لخيار الخيار ، وصفة الصفوة وهم أولو العزم من المرسلين المذكورون في هذه الآية ، أعلى الخلق درجة ، وأكملهم من كل وجه. فالدين الذي شرعه الله لهم ، لا بد أن يكون مناسبا لأحوالهم ، وموافقا لكمالهم ، بل إنما كملهم الله واصطفاهم ، بسبب قيامهم به. فلو لا الدين الإسلامي ، ما ارتفع أحد من الخلق ، فهو روح السعادة ، وقطب رحى الكمال ، وهو ما تضمنه هذا الكتاب الكريم ، ودعا إليه من التوحيد والأعمال ، والأخلاق ، والآداب. وقال : (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) أي : أمركم أن تقيموا جميع شرائع الدين أصوله وفروعه ، تقيمونه بأنفسكم ، وتجتهدون في إقامته على غيركم ، وتعاونون على البر والتقوى ولا تعاونون على الإثم والعدوان. (وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) أي : ليحصل منكم اتّفاق على أصول الدين وفروعه. واحرصوا على أن لا تفرقكم المسائل ، وتحزبكم أحزابا وشيعا ، يعادي بعضكم بعضا ، مع اتفاقكم على أصل دينكم. ومن أنواع الاجتماع على الدين وعدم التفرق فيه ، ما أمر به الشارع من الاجتماعات العامة ، كاجتماع الحج والأعياد ، والجمع ، والصلوات الخمس ، والجهاد ، وغير ذلك ، من العبادات ، التي لا تتم ، ولا تكمل إلا بالاجتماع لها ، وعدم التفرق. (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) أي : شق عليهم غاية المشقة ، حيث دعوتهم إلى الإخلاص لله وحده ، كما قال عنهم : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (٤٥) وقولهم : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) (٥). (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ) أي : يختار من خليقته من يعلم أنه يصلح للاجتباء لرسالته وولايته. ومنه ، أن اجتبى هذه الأمة ، وفضّلها على سائر الأمم ، واختار لها أفضل الأديان وخيرها. (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) هذا السبب الذي من العبد ، يتوصل به إلى هداية الله تعالى وهو : إنابته لربه ، وانجذاب دواعي قلبه إليه ، وكونه قاصدا وجهه. فحسن مقصد العبد ، مع اجتهاده في طلب الهداية ، من أسباب التيسير لها ، كما قال تعالى : (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ). وفي هذه الآية ، أن الله (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) مع قوله : (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ) مع العلم بأحوال الصحابة رضي الله عنهم ، وأن شدة إنابتهم ، دليل على أن قولهم حجة ، خصوصا الخلفاء الراشدين ، رضي الله عنهم أجمعين.

[١٤] لما أمر تعالى باجتماع المسلمين على دينهم ، ونهاهم عن التفرق ، أخبرهم أنهم ينبغي لهم أن لا يغتروا بما أنزل الله عليهم من الكتاب. فإن أهل الكتاب لم يتفرقوا حتى أنزل الله عليهم الكتاب الموجب للاجتماع ، ففعلوا ضد

٩٠٩

ما يأمر به كتابهم ، وذلك كله بغيا وعدوانا منهم. فإنهم تباغضوا وتحاسدوا ، وحصلت بينهم المشاحنة والعداوة ، فوقع الاختلاف. فاحذروا ، أيها المسلمون أن تكونوا مثلهم. (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) أي : بتأخير العذاب القاضي ، إلى أجل مسمّى (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) ولكن حكمته وحلمه ، اقتضى تأخير ذلك عنهم. (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي : الّذين ورثوهم ، وصاروا خلفا لهم ، ممن ينتسب إلى العلم منهم. (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) أي : لفي اشتباه كثير ، يوقع في الاختلاف ، حيث اختلف سلفهم ، بغيا وعنادا ، فإن خلفهم ، اختلفوا شكا وارتيابا ، والجميع ، مشتركون في الاختلاف المذموم.

[١٥] (فَلِذلِكَ فَادْعُ) أي : فللدين القويم ، والصراط المستقيم ، الذي أنزل الله به كتبه ، وأرسل رسله ، فادع إليك أمتك ، وحضهم عليه ، وجاهد عليه من لم يقبله. (وَاسْتَقِمْ) بنفسك (كَما أُمِرْتَ) أي : استقامة موافقة لأمر الله ، لا تفريط ولا إفراط ، بل امتثالا لأوامر الله ، واجتنابا لنواهيه ، على وجه الاستمرار على ذلك. فأمره بتكميل نفسه ، بلزوم الاستقامة ، وبتكميل غيره ، بالدعوة إلى ذلك. ومن المعلوم أن أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أمر لأمته ، إذا لم يرد تخصيص له. (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) أي : أهواء المنحرفين عن الدين ، من الكفرة أو المنافقين. إما باتباعهم على بعض دينهم ، أو بترك الدعوة إلى الله ، أو بترك الاستقامة فإنك إن اتبعت أهواءهم ، من بعد ما جاءك من العلم ، إنك إذا لمن الظالمين. ولم يقل : «ولا تتبع دينهم» لأن حقيقة دينهم ، الذي شرعه الله لهم ، هو دين الرسل كلهم ، ولكنهم لم يتبعوه ، بل اتبعوا أهواءهم ، واتخذوا دينهم لهوا ولعبا. (وَقُلْ) لهم ، عند جدالهم ومناظرتهم : (آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ) أي : لتكن مناظرتك لهم مبنية على هذا الأصل العظيم ، الدال على شرف الإسلام وجلالته ، وهمينته على سائر الأديان ، وأن الدين الذي يزعم أهل الكتاب ، أنهم عليه ، جزء من الإسلام. وفي هذا ، إرشاد إلى أن أهل الكتاب إن ناظروا مناظرة مبنية على الإيمان ، ببعض الكتب ، أو ببعض الرسل دون غيره ، فلا يسلم لهم ذلك. لأن الكتاب الذي يدعون إليه ، والرسول الذي ينتسبون إليه ، من شرطه ، أن يكون مصدقا بهذا القرآن ، وبمن جاء به. فكتابنا ، ورسولنا ، لم يأمرانا ، إلّا بالإيمان بموسى ، وعيسى ، والتوراة ، والإنجيل ، التي أخبر بها ، وصدق بها ، وأخبر أنها مصدقة له ومقرة بصحته. وأما مجرد التوراة والإنجيل ، وموسى ، وعيسى ، الّذين لم يوصفوا لنا ، ولم يوافقوا لكتابنا ، فلم يأمرنا بالإيمان بهم. وقوله : (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) أي : في الحكم فيما اختلفتم فيه ، فلا تمنعني عداوتكم وبغضكم ، يا أهل الكتاب ، من العدل بينكم ، ومن العدل في الحكم ، بين أهل الأقوال المختلفة ، من أهل الكتاب وغيرهم ، أن يقبل ما معهم من الحقّ ، ويرد ما معهم من الباطل. (اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) أي : هو رب الجميع ، لستم بأحق به منّا. (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) من خير وشر (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) أي : بعد ما تبينت الحقائق ، واتضح الحقّ من الباطل ، والهدى من الضلال ، لم يبق للجدل والمنازعة محل. لأن المقصود من الجدال ، إنّما هو بيان الحقّ من الباطل ، ليهتدي الراشد ، ولتقوم الحجة على الغاوي. وليس المراد بهذا ، أن أهل الكتاب لا يجادلون ، كيف والله يقول : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وإنّما المراد ما ذكرنا. (اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) يوم القيامة ، فيجزي كلّا بعمله ، ويتبين حينئذ الصادق من الكاذب. وهذا تقرير لقوله : (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ).

[١٦] فأخبر هنا أن (الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ) بالحجج الباطلة ، والشبه المتناقضة (مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ) أي : من بعد ما استجاب لله أولو الألباب والعقول ، لما بين لهم من الآيات القاطعة ، والبراهين الساطعة. فهؤلاء المجادلون للحق ، من بعد ما تبين (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ) أي : باطلة مدفوعة (عِنْدَ رَبِّهِمْ) لأنها مشتملة على رد الحقّ ، وكل ما خالف الحقّ ، فهو باطل. (وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) لعصيانهم وإعراضهم عن حجج الله وبيناته وتكذيبها. (وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) هو أثر غضب الله عليهم ، فهذه عقوبة كل مجادل للحق بالباطل.

[١٧] لما ذكر تعالى ، أن حججه واضحة بينة ، بحيث استجاب لها كل من فيه خير ، ذكر أصلها وقاعدتها ، بل

٩١٠

جميع الحجج التي أوصلها إلى العباد ، ترجع إليه فقال : (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ) فالكتاب ، هو هذا القرآن العظيم ، نزل بالحق ، واشتمل على الحقّ ، والصدق ، واليقين ، وكله آيات بيّنات ، وأدلة واضحات ، على جميع المطالب الإلهية ، والعقائد الدينية ، فجاء بأحسن المسائل ، وأوضح الدلائل. وأما الميزان ، فهو العدل والاعتبار بالقياس الصحيح ، والعقل الرجيح. فكل الدلائل العقلية ، من الآيات الأفقية والنفسية ، والاعتبارات الشرعية ، والمناسبات ، والعلل ، والأحكام ، والحكم ، داخلة في الميزان ، الذي أنزله الله تعالى ، ووضعه بين عباده ، ليزنوا به ما أثبته وما نفاه من الأمور ، ويعرفوا به صدق ما أخبر به ، وأخبرت به رسله ، مما خرج عن هذين الأمرين ـ عن الكتاب والميزان ـ وما قيل إنه حجة أو برهان ، أو دليل ، أو نحو ذلك من العبارات ، فإنه باطل متناقض ، قد فسدت أصوله ، وانهدمت مبانيه وفروعه. يعرف ذلك من خبر المسائل ومآخذها ، وعرف التمييز بين راجح الأدلة ومرجوحها ، والفرق بين الحجج والشبه. وأما من اغتر بالعبارات المزخرفة ، والألفاظ المموهة ، ولم تنفذ بصيرته إلى المعنى المراد ، فإنه ليس من أهل هذا الشأن ، ولا من فرسان هذا الميدان ، فوفاقه وخلافه سيان. ثمّ قال تعالى ـ مخوفا للمستعجلين لقيام الساعة ، المنكرين لها : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) أي : ليس بمعلوم وقتها وبعدها ، ولا متى تقوم ، فهي في كل وقت ، متوقع وقوعها ، مخوف وجبتها.

[١٨] (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) عنادا وتكذيبا ، وتعجيزا لربهم. (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها) أي : خائفون ، لإيمانهم بها ، وعلمهم بما اشتملت عليه من الجزاء بالأعمال ، وخوفهم ، لمعرفتهم بربهم ، أن لا تكون أعمالهم منجية ولا مسعدة ، ولهذا قال : (وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ) الذي لا مرية فيه ، ولا شك يعتريه. (أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ) أي : بعد ما امتروا فيها ، ماروا الرسل وأتباعهم بإثباتها (لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) في غاية البعد عن الحقّ. وأيّ بعد ، أبعد ممن كذّب بالدار ، التي هي الدار على الحقيقة ، وهي الدار التي خلقت للبقاء الدائم ، والخلود السرمد ، وهي دار الجزاء ، التي يظهر الله فيها عدله وفضله؟ وإنّما هذه الدار بالنسبة إليها ، كراكب قال في ظل شجرة ، ثمّ رحل وتركها ، وهي دار عبور وممر ، لا محل استقرار. فصدقوا في الدار المضمحلة الفانية ، حيث رأوها وشاهدوها ، وكذبوا بالدار الآخرة ، التي تواترت بالإخبار عنها الكتب الإلهية ، والرسل الكرام وأتباعهم ، الّذين هم أكمل الخلق عقولا ، وأغزرهم علما ، وأعظمهم فطنة وفهما.

[١٩] يخبر تعالى أنه (لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) ليعرفوه ويحبوه ، ويتعرضوا للطفه وكرمه. واللطف من أوصافه تعالى ، معناه : الذي يدرك الضمائر والسرائر ، الذي يوصل عباده ـ وخصوصا المؤمنين ـ إلى ما فيه الخير لهم من حيث لا يعلمون ولا يحتسبون. فمن لطفه بعبده المؤمن ، أن هداه إلى الخير ، هداية لا تخطر بباله ، بما يسر له من الأسباب الداعية إلى ذلك ، من فطرته على محبة الحقّ والانقياد له وإيعازه تعالى للملائكته الكرام ، أن يثبتوا عباده المؤمنين ، ويحثوهم على الخير ، ويلقوا في قلوبهم من تزيين الحقّ ، ما يكون داعيا لاتباعه. ومن لطفه أن أمر المؤمنين ، بالعبادات

٩١١

الاجتماعية ، التي بها تقوى عزائمهم ، وتنبعث هممهم ، ويحصل منهم التنافس على الخير ، والرغبة فيه ، واقتداء بعضهم ببعض. ومن لطفه ، أن قيّض لعبده كل سبب يعوقه ويحول بينه وبين المعاصي. حتى إنه تعالى إذا علم أن الدنيا والمال والرياسة ونحوها ، مما يتنافس فيه أهل الدنيا ، تقطع عبده عن طاعته ، أو تحمله على الغفلة عنه ، أو على معصيته ، صرفها عنه ، وقدر عليه رزقه ، ولهذا قال هنا : (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) بحسب اقتضاء حكمته ولطفه (وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) الذي له القوة كلها ، فلا حول ولا قوة لأحد من المخلوقين ، إلّا به ، الذي دانت له جميع الأشياء.

[٢٠] ثمّ قال تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ) أي : أجرها وثوابها ، فآمن بها وصدق ، وسعى لها سعيها (نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) بأن نضاعف عمله وجزاءه ، أضعافا كثيرة. كما قال تعالى : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) (١٩) ومع ذلك ، فنصيبه من الدنيا ، لا بد أن يأتيه. (وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا) بأن : كانت الدنيا ، هي مقصوده ، وغاية مطلوبه ، فلم يقدم لآخرته ، ولا رجا ثوابها ، ولم يخش عقابها. (نُؤْتِهِ مِنْها) نصيبه الذي قسم له. (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) قد حرم الجنة ونعيمها ، واستحق النار وجحيمها. وهذه الآية ، شبيهة بقوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) (١٥).

[٢١] يخبر تعالى ، أن المشركين اتخذوا شركاء ، يوالونهم ويشتركون هم وإياهم ، في الكفر وأعماله ، من شياطين الإنس ، الدعاة إلى الكفر (شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) من الشرك والبدع ، وتحريم ما أحل الله ، وتحليل ما حرّم الله ونحو ذلك ، مما اقتضته أهواؤهم. مع أن الدين لا يكون إلّا ما شرعه الله تعالى ، ليدين به العباد ، ويتقربوا به إليه. فالأصل الحجر على كل أحد ، أن يشرع شيئا ما جاء عن الله ولا عن رسوله. فكيف بهؤلاء الفسقة المشركين هم وهم على الكفر. (وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي : لو لا الأجل المسمى ، الذي ضربه الله فاصلا ، بين الطوائف المختلفة ، وأنه سيؤخرهم إليه ، لقضي بينهم في الوقت الحاضر ، بسعادة المحق ، وإهلاك المبطل ، لأن المقتضي للإهلاك ، موجود ، ولكن أمامهم ، العذاب الأليم في الآخرة ، هؤلاء وكل ظالم.

[٢٢] وفي ذلك اليوم (تَرَى الظَّالِمِينَ) أنفسهم بالكفر والمعاصي (مُشْفِقِينَ) أي : خائفين وجلين (مِمَّا كَسَبُوا) أن يعاقبوا عليه. ولما كان الخائف قد يقع به ، ما أشفق منه وخافه ، وقد لا يقع ، أخبر أنه (واقِعٌ بِهِمْ) العقاب ، الذي خافوه ، لأنهم أتوا بالسبب التام الموجب للعقاب ، من غير معارض ، من توبة ولا غيرها ، ووصلوا موضعا فات فيه الإنظار والإمهال. (وَالَّذِينَ آمَنُوا) بقلوبهم ، بالله وبكتبه ، ورسله وجاءوا به. (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) يشمل فيه كل عمل صالح من أعمال القلوب ، وأعمال الجوارح من الواجبات ، والمستحبات. فهؤلاء (فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ) أي : الروضات المضافة إلى الجنات ، والمضاف يكون بحسب المضاف إليه. فلا تسأل عن بهجة تلك الرياض المونقة ، وما فيها من الأنهار المتدفقة ، والغياض المعشبة ، والمناظر الحسنة ، والأشجار المثمرة ، والطيور المغردة ، والأصوات الشجية المطربة ، والاجتماع بكل حبيب ، والأخذ من المعاشرة والمنادمة ، بأكمل نصيب. رياض لا تزداد على طول المدى ،

٩١٢

إلّا حسنا وبهاء ، ولا يزداد أهلها ، إلّا اشتياقا إلى لذاتها وودادا. (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ) فيها أي : في الجنات (عِنْدَ رَبِّهِمْ). فمهما أرادوا ، فهو حاصل ، ومهما طلبوا حصل ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) وهل فضل أكبر من الفوز برضا الله تعالى ، والتنعم بقربه في دار كرامته؟

[٢٣] (ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي : هذه البشارة العظيمة ، التي هي أكبر البشائر على الإطلاق ، بشّر بها الرحيم الرحمن ، على يد أفضل خلقه لأهل الإيمان والعمل الصالح ، فهي أجلّ الغايات ، والوسيلة الموصلة إليها أفضل الوسائل. (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي : على تبليغي إياكم هذا القرآن ودعوتكم إلى أحكامه. (أَجْراً) فلست أريد أخذ أموالكم ، ولا التولي عليكم والترؤس ، ولا غير ذلك من الأغراض (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى). يحتمل أن المراد : لا أسألكم عليه أجرا واحدا هو لكم ، وعائد نفعه إليكم ، وهو : أن تودوني وتحبوني في القرابة ، أي لأجل القرابة. ويكون على هذا المودة الزائدة على مودة الإيمان ، فإن مودة الإيمان بالرسول ، وتقديم محبته على جميع المحاب ، بعد محبة الله ، فرض على كل مسلم. وهؤلاء طلب منهم زيادة على ذلك ، أن يحبوه ، لأجل القرابة ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قد باشر بدعوته أقرب الناس إليه. حتى إنه قيل : إنه ليس في بطون قريش أحد ، إلّا ولرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيه قرابة. ويحتمل أن المراد إلّا مودة الله تعالى ، الصادقة ، وهي التي يصحبها التقرب إلى الله ، والتوسل بطاعته ، الدالة على صحتها وصدقها ، ولهذا قال : (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) أي : في التقرب إلى الله. وعلى كلا القولين ، فهذا الاستثناء ، دليل على أنه لا يسألكم عليه أجرا بالكلية ، إلا أن يكون شيئا يعود نفعه إليهم. فهذا ليس من الأجر في شيء ، بل هو من الأجر منه لهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كقوله تعالى : (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (٨) وقولهم : «ما لفلان عندك ذنب ، إلّا أنه محسن إليك». (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً) من صلاة ، أو صوم ، أو حج ، أو إحسان إلى الخلق (نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً) بأن يشرح الله صدره ، وييسر أمره ، ويكون سببا للتوفيق لعمل آخر ، ويزداد بها عمل المؤمن ، ويرتفع عند الله ، وعند خلقه ، ويحصل له الثواب ، العاجل والآجل. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) يغفر الذنوب العظيمة ولو بلغت ما بلغت ، عند التوبة منها ، ويشكر على العمل القليل بالأجر الكثير. فبمغفرته يغفر الذنوب ، ويستر العيوب ، وبشكره يتقبل الحسنات ، ويضاعفها ، أضعافا كثيرة.

[٢٤] يعني أم يقول المكذبون للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، جرأة منهم وكذبا : (افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) فرموك بأشنع الأمور وأقبحها ، وهو : الافتراء على الله ، بادعاء النبوة والنسبة إلى الله ما هو بريء منه ، وهم يعلمون صدقك وأمانتك. فكيف يتجرؤون على هذا الكذب الصراح؟ بل تجرؤوا بذلك على الله تعالى. فإنه قدح في الله ، حيث مكّنك من هذه الدعوة العظيمة ، المتضمنة ـ على موجب زعمهم ـ أكبر الفساد في الأرض ، حيث مكّنه الله ، من التصريح بالدعوة ، ثمّ بنسبتها إليه ، ثمّ يؤيده بالمعجزات الظاهرات ، والأدلة القاهرات ، والنصر المبين ، والاستيلاء على من خالفه. وهو تعالى قادر على حسم هذه الدعوة من أصلها ومادتها ، وهو أن يختم على قلب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يدخل إليه خير. وإذا ختم على قلبه ، انحسم الأمر كله ، وانقطع. فهذا دليل قاطع على صحة ما جاء به الرسول ، وأقوى شهادة من الله له على ما قال ، ولا يوجد شهادة أعظم منها ولا أكبر. ولهذا ، من حكمته ورحمته ، وسنته الجارية ، أنه يمحو الباطل ويزيله ، وإن كان له صولة في بعض الأوقات ، فإن عاقبته الاضمحلال. (وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) الكونية ، التي لا تبدل ولا تغير ، ووعده الصادق ، وكلماته الدينية التي تحقق ما شرعه من الحقّ ، وتثبته في القلوب ، وتبصر أولي الألباب. حتى إن من جملة إحقاقه تعالى الحقّ ، أن يقيّض له الباطل ليقاومه. فإذا قاومه ، صال عليه الحقّ ببراهينه وبيناته ، فظهر من نوره وهداه ، ما به يضمحل الباطل ، وينقمع ، ويتبين بطلانه لكل أحد ، ويظهر الحقّ كل الظهور لكل أحد. (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي : بما فيها ، وما اتصفت به ، من خير وشر ، وما أكنته ولم تبده.

[٢٥] هذا بيان لكمال كرم الله تعالى ، وسعة جوده ، وتمام لطفه ، إذ (يَقْبَلُ التَّوْبَةَ) الصادرة (عَنْ عِبادِهِ) حين

٩١٣

يقلعون عن ذنوبهم ، ويندمون عليها ، ويعزمون على أن لا يعاودوها ، إذا قصدوا بذلك وجه ربهم ، فإن الله يقبلها ، بعد ما انعقدت سببا للهلاك ، ووقوع العقوبات الدنيوية والدينية. (وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) ويمحوها ، ويمحو أثرها من العيوب ، وما اقتضته من العقوبات. ويعود التائب عنده كريما ، كأنه ما عمل سوءا قط ، ويحبه ، ويوفقه لما يقرّبه إليه. ولما كانت التوبة من الأعمال العظيمة ، التي قد تكون كاملة بسبب تمام الإخلاص والصدق فيها ، وقد تكون ناقصة عند نقصهما ، وقد تكون فاسدة ، إذا كان القصد منها ، بلوغ غرض من الأغراض الدنيوية ، وكان محل ذلك القلب الذي لا يعلمه إلّا الله ، ختم هذه الآية بقوله : (وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ).

[٢٦] فالله تعالى ، دعا جميع العباد إلى الإنابة إليه ، والتوبة من التقصير ، فانقسموا ـ بحسب الاستجابة له ـ إلى قسمين : مستجيبين وصفهم بقوله : (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي : يستجيبون لربهم ، لما دعاهم إليه وينقادون له ، ويلبون دعوته ، لأن ما معهم من الإيمان والعمل الصالح ، يحملهم على ذلك. فإذا استجابوا له ، شكر الله لهم ، وهو الغفور الشكور. (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) توفيقا ونشاطا على العمل ، وزادهم مضاعفة في الأجر ، زيادة عن ما تستحقه أعمالهم من الثواب والفوز العظيم. وأما غير المستجيبين لله (وَ) هم المعاندون (الْكافِرُونَ) به وبرسله ، فإنهم (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) في الدنيا والآخرة.

[٢٧] ثمّ ذكر أن من لطفه بعباده ، أنه لا يوسع عليهم الدنيا سعة ، تضر بأديانهم فقال : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) أي : لغفلوا عن طاعة الله ، وأقبلوا على التمتع بشهوات الدنيا ، فأوجبت لهم الانكباب على ما تشتهيه نفوسهم ، ولو كان معصية وظلما. (وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ) بحسب ما اقتضاه لطفه وحكمته (إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) كما في بعض الآثار أن الله تعالى يقول : «إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلّا الفقر ، ولو أغنيته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلّا الصحة ، ولو أمرضته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلّا المرض ولو عافيته لأفسده ذلك ، إني أدبر أمر عبادي بعلمي بما في قلوبهم ، إني خبير بصير».

[٢٨] (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ) أي : المطر الغزير الذي به يغيث البلاد والعباد. (مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا) وانقطع عنهم مدة ، وظنوا أنه لا يأتيهم ، وأيسوا وعملوا لذلك الجدب أعمالا ، فينزل الله الغيث (وَيَنْشُرُ) به (رَحْمَتَهُ) من إخراج الأقوات للآدميين ، وبهائمهم ، فيقع عندهم موقعا عظيما ، ويستبشرون بذلك ويفرحون. (وَهُوَ الْوَلِيُ) الذي يتولى عباده ، بأنواع التدبير ، ويتولي القيام بمصالح دينهم ودنياهم. (الْحَمِيدُ) في ولايته وتدبيره ، الحميد على ما له من الكمال ، وما أوصله إلى خلقه ، من أنواع الأفضال.

[٢٩] (وَمِنْ آياتِهِ) أي : ومن أدلة قدرته العظيمة ، وأنه سيحيي الموتى بعد موتهم. (خَلْقُ) هذه (السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) على عظمهما وسعتهما ، الدال على قدرته ، وسعة سلطانه ، وما فيهما من الإتقان والإحكام ، دال على حكمته وما فيهما من المنافع والمصالح ، دال على رحمته ، وذلك يدل على أنه المستحق لأنواع العبادة كلها ، وأن إلهية ما سواه باطلة. (وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ) أي : ما نشر في السموات والأرض من أصناف الدواب التي جعلها الله

٩١٤

مصالح ومنافع لعباده. (وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ) أي : جمع الخلق بعد موتهم لموقف القيامة (إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ). فقدرته ومشيئته ، صالحان لذلك ، ويتوقف وقوعه على وجود الخبر الصادق. وقد علم أنه قد تواترت أخبار المرسلين وكتبهم ، بوقوعه.

[٣٠] يخبر تعالى ، أنه ما أصاب العباد من مصيبة ، في أبدانهم ، وأموالهم ، وأولادهم ، وفيما يحبون ، ويكون عزيزا عليهم ، إلّا بسبب ما قدمته أيديهم من السيئات ، وأن ما يعفو الله عنه أكثر ، فإن الله لا يظلم العباد ، ولكن أنفسهم يظلمون (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ). وليس إهمالا منه تعالى تأخير العقوبات ، ولا عجزا.

[٣١] (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أي : معجزين قدرة الله عليكم ، بل أنتم عاجزون في الأرض ، ليس عندكم امتناع عمّا ينفذه الله فيكم. (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) يتولاكم ، فيحصل لكم المنافع (وَلا نَصِيرٍ) يدفع عنكم المضار.

[٣٢] أي : ومن أدلة رحمته ، وعنايته بعباده (الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ) من السفن ، والمراكب البخارية ، والشراعية ، التي هي من عظمها (كَالْأَعْلامِ) وهي الجبال الكبار ، التي سخر لها البحر العجاج ، وحفظها من التطام الأمواج ، وجعلها تحملكم ، وتحمل أمتعتكم الكثيرة ، إلى البلدان والأقطار البعيدة ، وسخر لها من الأسباب ، ما كان معونة على ذلك.

[٣٣ ـ ٣٤] ثمّ نبه على هذه الأسباب بقوله : (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ) التي جعلها الله سببا لسيرها. (فَيَظْلَلْنَ) أي : الجواري «أي : السفن على اختلاف أنواعها» (رَواكِدَ) على ظهر البحر ، لا تتقدم ولا تتأخر ولا ينتقض هذا ، بالمراكب البخارية ، فإن من شرط مشيها ، وجود الريح. وإن شاء الله تعالى ، أوبق الجواري ، بما كسب أهلها ، أي : أغرقها في البحر ، وأتلفها ، ولكنه يحلم ، ويعفو عن كثير. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي : كثير الصبر على ما تكرهه نفسه ويشق عليها ، فيكرهها عليه ، من مشقة طاعة ، أو ردع داع إلى معصية ، أو ردع نفسه عند المصائب عن التسخط ، (شَكُورٍ). في الرخاء وعند النعم ، يعترف بنعمة ربه ويخضع له ، ويصرفها في مرضاته. فهذا الذي ينتفع بآيات الله. وأما الذي لا صبر عنده ، ولا شكر له عند نعم الله ، فإنه معرض أو معاند ، لا ينتفع بالآيات.

[٣٥] ثمّ قال تعالى : (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا) ليبطلوها بباطلهم. (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) أي : لا ينقذهم منقذ مما حل بهم من العقوبة.

[٣٦] هذا تزهيد في الدنيا ، وترغيب في الآخرة ، وذكر الأعمال الموصلة إليها فقال : (فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ) من ملك ورياسة ، وأموال ، وبنين ، وصحة ، وعافية بدنية. (فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) لذة منغصة منقطعة. (وَما عِنْدَ اللهِ) من الثواب الجزيل ، والأجر الجليل ، والنعيم المقيم (خَيْرٌ) من لذات الدنيا ، خيرية لا نسبة بينهما (وَأَبْقى) لأنه نعيم لا مغص فيه ولا كدر ، ولا انتقال. ثمّ ذكر لمن هذا الثواب فقال : (لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي : جمعوا بين الإيمان الصحيح ، المستلزم لأعمال الإيمان الظاهرة والباطنة وبين التوكل ، الذي هو الآلة لكل عمل. فكل عمل لا يصحبه التوكل ، فغير تام ، وهو «أي : التوكل» الاعتماد بالقلب على الله. في جلب ما يحبه العبد ، ودفع ما يكرهه

٩١٥

مع الثقة به تعالى.

[٣٧] (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ) والفرق بين الكبائر والفواحش ـ مع أن جميعهما كبائر ـ أن الفواحش هي : الذنوب الكبار التي في النفوس داع إليها ، كالزنا ونحوه ، والكبائر ، ما ليس كذلك ، هذا عند الاقتران. وأما مع إفراد كل منهما عن الآخر يدخل فيه. (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) أي : قد تخلقوا بمكارم الأخلاق ، ومحاسن الشيم ، فصار الحلم لهم سجية ، وحسن الخلق لهم ، طبيعة. حتى إذا أغضبهم أحد بمقاله ، أو فعاله ، كظموا ذلك الغضب ، فلم ينفذوه ، بل غفروه ، ولم يقابلوا المسيء إلّا بالإحسان والعفو والصفح. فترتب على هذا العفو والصفح ، من المصالح ، ودفع المفاسد في أنفسهم وغيرهم ، شيء كثير ، كما قال تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (٣٥).

[٣٨] (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ) أي : انقادوا لطاعته ، ولبّوا دعوته ، وصار قصدهم رضوانه ، وغايتهم الفوز بقربه. ومن الاستجابة لله ، إقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة. فلذلك عطفها على ذلك ، من باب عطف العام على الخاص ، الدال على شرفه وفضله فقال : (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أي : ظاهرها وباطنها ، فرضها ونفلها. (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) من النفقات الواجبة ، كالزكاة ، والنفقة على الأقارب ونحوهم ، والمستحبة ، كالصدقات على عموم الخلق. (وَأَمْرُهُمْ) الديني والدنيوي (شُورى بَيْنَهُمْ) أي : لا يستبد أحد منهم برأيه ، في أمر من الأمور المشتركة بينهم ، وهذا لا يكون إلّا فرعا عن اجتماعهم ، وتوالفهم ، وتواددهم ، وتحاببهم. فمن كمال عقولهم ، أنهم إذا أرادوا أمرا من الأمور ، التي تحتاج إلى إعمال الفكر والرأي فيها ، اجتمعوا لها ، وتشاوروا ، وبحثوا فيها ، حتى إذا تبينت لهم المصلحة ، انتهزوها وبادروها. وذلك كالرأي في الغزو ، والجهاد ، وتولية الموظفين لإمارة ، أو قضاء ، أو غيرهما. وكالبحث في المسائل الدينية عموما ، فإنها من الأمور المشتركة ، والبحث فيها لبيان الصواب مما يحبه الله ، وهو داخل في هذه الآية.

[٣٩] (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ) أي : وصل إليهم من أعدائهم (هُمْ يَنْتَصِرُونَ) لقوتهم وعزتهم ، ولم يكونوا أذلاء عاجزين عن الانتصار. فوصفهم بالإيمان ، والتوكل على الله ، واجتناب الكبائر والفواحش الذي تكفر به الصغائر ، والانقياد التام ، والاستجابة لربهم ، وإقامة الصلاة ، والإنفاق في وجوه الإحسان ، والمشاورة في أمورهم ، والقوة والانتصار على أعدائهم. فهذه خصال الكمال قد جمعوها ، ويلزم من قيامها فيهم ، فعل ما هو دونها ، وانتفاء ضدها.

[٤٠] ذكر الله في هذه الآية ، مراتب العقوبات ، وأنها على ثلاث مراتب : عدل ، وفضل ، وظلم. فمرتبة العدل : جزاء السيئة بسيئة مثلها ، لا زيادة ولا نقص. فالنفس بالنفس ، وكل جارحة بالجارحة المماثلة لها ، والمال يضمن بمثله. ومرتبة الفضل : العفو والإصلاح عن المسيء ، ولهذا قال : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) يجزيه أجرا عظيما ، وثوابا كثيرا. وشرط الله في العفو والإصلاح صلاحهما لحال الجاني ، ليدل ذلك على أنه إذا كان الجاني لا يليق بالعفو عنه ، وكانت المصلحة الشرعية تقتضي عقوبته ، فإنه في ـ هذه الحال ـ لا يكون مأمورا به. وفي جعل أجر العافي على الله ، ما يهيج على العفو ، وأن يعامل العبد الخلق بما يحب أن يعامله الله به. فكما يحب أن يعفو الله عنه ، فليعف عنهم ، وكما يحب أن يسامحه الله ، فليسامحهم ، فإن الجزاء من جنس العمل. وأما مرتبة الظلم : فقد ذكرها بقوله : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) الّذين يجنون على غيرهم ابتداء ، أو يقابلون الجاني بأكثر من جنايته ، فالزيادة ظلم.

[٤١] (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ) أي : انتصر ممن ظلمه بعد وقوع الظلم عليه (فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) أي : لا حرج عليهم في ذلك. ودلّ قوله : (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ) وقوله : (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ) أنه لا بد من إصابة البغي والظلم ووقوعه. وأما إرادة البغي على الغير ، وإرادة ظلمه من غير أن يقع منه شيء ، فهذا لا يجازى بمثله ، وإنّما يؤدب تأديبا ، يردعه عن قول ، أو فعل صدر منه.

٩١٦

[٤٢] (إِنَّمَا السَّبِيلُ) أي : إنّما تتوجه الحجة بالعقوبة الشرعية (عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) وهذا شامل للظلم والبغي على الناس ، في دمائهم ، وأموالهم ، وأعراضهم. (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : موجع للقلوب والأبدان ، بحسب ظلمهم وبغيهم.

[٤٣] (وَلَمَنْ صَبَرَ) على ما يناله من أذى الخلق (وَغَفَرَ) لهم ، بأن سمح لهم عمّا صدر منهم. (إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي : الأمور الّتي حث الله عليها وأكدها وأخبر أنه لا يلقاها إلا أهل الصبر والحظوظ العظيمة ، ومن الأمور الّتي لا يوفق لها إلا أولو العزائم والهمم ، وذوو الألباب والبصائر. فإن ترك الانتصار للنفس ، بالقول أو الفعل ، من أشق شيء عليها. والصبر على الأذى ، والصفح عنه ، ومغفرته ، ومقابلته بالإحسان ، أشق وأشق. ولكنه يسير على من يسره الله عليه وجاهد نفسه على الاتصاف به ، واستعان الله على ذلك. ثمّ إذا ذاق العبد حلاوته ، ووجد آثاره ، تلقاه برحب الصدر ، وسعة الخلق ، والتلذذ فيه.

[٤٤] يخبر تعالى ، أنه المنفرد بالهداية والإضلال ، وأنه (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ) بسبب ظلمه (فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) يتولى أمره ويهديه. (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) مرأى ومنظرا فظيعا ، صعبا شنيعا ، يظهرون الندم العظيم ، والحزن على ما سلف منهم (يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) أي : هل لنا طريق أو حيلة إلى رجوعنا إلى الدنيا ، لنعمل غير الذي كنّا نعمل ، وهذا طلب للأمر المحال ، الذي لا يمكن.

[٤٥] (وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها) أي : على النار (خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِ) أي : ترى أجسامهم خاشعة للذل ، الذي في قلوبهم. (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) أي : ينظرون إلى النار مسارقة وشزرا ، من هيبتها وخوفها. (وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا) حين ظهرت عواقب الخلق ، وتبين أهل الصدق من غيرهم : (إِنَّ الْخاسِرِينَ) على الحقيقة (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) حيث فوتوا على أنفسهم جزيل الثواب ، وحصلوا على أليم العقاب وفرّق بينهم وبين أهليهم ، فلم يجتمعوا بهم ، آخر ما عليهم. (أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ) أنفسهم بالكفر والمعاصي (فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) أي : في سوائه ووسطه ، منغمرون لا يخرجون منه أبدا ، ولا يفتر عنهم ، وهم فيه مبلسون.

[٤٦] (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) كما كانوا في الدنيا يمنون أنفسهم بذلك. ففي القيامة يتبين لهم ولغيرهم ، أن أسبابهم الّتي أملوها تقطعت ، وأنه حين جاءهم عذاب الله ، لم يدفع عنهم. (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) تحصل به هدايته ، فهؤلاء ضلوا حين زعموا في شركائهم النفع ، ودفع الضر ، فتبين حينئذ ضلالهم.

[٤٧] يأمر تعالى عباده بالاستجابة له ، بامتثال ما أمر به ، واجتناب ما نهى عنه ، وبالمبادرة بذلك ، وعدم التسويف. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ) القيامة الذي إذا جاء ، لا يمكن رده واستدراك الفائت. وليس للعبد في ذلك اليوم ملجأ يلجأ إليه ؛ فيفوت ربه ، ويهرب منه. بل قد أحاطت الملائكة بالخليقة ، من خلفهم ، ونودوا (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) (٣٣). وليس للعبد في ذلك اليوم ، نكير لما اقترفه وأجرمه ، بل لو أنكر لشهدت عليه جوارحه. وهذه الآية ونحوها ، فيها ذم الأمل ، والأمر بانتهاز الفرصة في

٩١٧

كل عمل يعرض للعبد. فإن للتأخير آفات.

[٤٨] (فَإِنْ أَعْرَضُوا) عمّا جئتم به بعد البيان التام (فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) تحفظ أعمالهم ، وتسأل عنها. (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) فإذا أديت ما عليك ، فقد وجب أجرك على الله ، سواء استجابوا أم أعرضوا ، وحسابهم على الله الذي يحفظ عليهم صغير أعمالهم وكبيرها ، ظاهرها وباطنها. ثمّ ذكر تعالى حالة الإنسان ، وأنه إذا أذاقه رحمة ، من صحة بدن ، ورزق رغد ، وجاه ونحوه (فَرِحَ بِها) أي : فرح فرحا مقصورا عليها ، لا يتعداها ، ويلزم من ذلك ، طمأنينته بها ، وإعراضه عن المنعم. (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) أي : مرض ، أو فقر ، أو نحوهما (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ) أي : طبيعته كفران النعمة السابقة ، والتسخط لما أصابه ، من السيئة.

[٤٩ ـ ٥٠] هذه الآية ، فيها الإخبار عن سعة ملكه تعالى ، ونفوذ تصرفه في الملك في الخلق لما يشاء ، والتدبير لجميع الأمور. حتى أن تدبيره تعالى ، من عمومه ، أنه يتناول المخلوقة عن الأسباب لولادة الأولاد ، فالله تعالى هو الذي يعطيهم من الأولاد ما يشاء. فمن الخلق من يهب له إناثا ، ومنهم من يهب له ذكورا. ومنهم من يزوجه ، أي : يجمع له ذكورا وإناثا. ومنهم من يجعله عقيما ، لا يولد له. (إِنَّهُ عَلِيمٌ) بكل شيء (قَدِيرٌ) على كل شيء ، فيتصرف بعلمه وإتقانه الأشياء ، بقدرته في مخلوقاته.

[٥١] لما قال المكذبون لرسل الله ، الكافرون بالله : (لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ) من كبرهم وتجبرهم ، رد الله عليهم بهذه الآية الكريمة ، وبيّن أن تكليمه تعالى ، لا يكون إلا لخواص خلقه ، للأنبياء والمرسلين ، وصفوته من العالمين ، وأنه يكون على أحد هذه الأوجه. إما (أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً) بأن يلقي الوحي في قلب الرسول ، من غير إرسال ملك ، ولا مخاطبة منه شفاها. (أَوْ) يكلمه منه شفاها لكن (مِنْ وَراءِ حِجابٍ) كما حصل لموسى بن عمران ، كليم الرحمن. (أَوْ) يكلمه الله بواسطة الرسول الملكي (يُرْسِلَ رَسُولاً) كجبريل أو غيره من الملائكة. (فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ) أي : بإذن ربه ، لا بمجرد هواه (ما يَشاءُ). (إِنَّهُ) تعالى (عَلِيٌ) الذات على الأوصاف ، عظيمها على الأفعال ، قد قهر كل شيء ، ودانت له المخلوقات. (حَكِيمٌ) في وضعه كل شيء موضعه ، من المخلوقات والشرائع.

[٥٢] (وَكَذلِكَ) حين أوحينا إلى الرسل قبلك (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) وهو : هذا القرآن الكريم ، سماه روحا ، لأن الروح يحيا به الجسد ، والقرآن تحيا به القلوب والأرواح ، وتحيا به مصالح الدنيا والدين ، لما فيه من الخير الكثير ، والعلم الغزير. وهو محض منة الله على رسوله وعباده المؤمنين ، من غير سبب منهم ، ولهذا قال : (ما كُنْتَ تَدْرِي) أي : قبل نزوله عليك (مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) أي : ليس عندك علم بأخبار الكتب السابقة ، ولا إيمان وعمل بالشرائع الإلهية ، بل كنت أميا ، لا تخط ولا تقرأ. فجاءك هذا الكتاب الذي (جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) يستضيئون به في ظلمات الكفر والبدع ، والأهواء المردية ، ويعرفون به الحقائق ، ويهتدون به إلى الصراط المستقيم. (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي : تبينه لهم وتوضحه ، وترغبهم فيه ، وتنهاهم عن ضده ، وترهبهم منه ثمّ فسّر الصراط المستقيم فقال :

[٥٣] (صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي : الصراط الذي نصبه

٩١٨

الله لعباده ، وأخبرهم أنه موصل إليه وإلى دار كرامته. (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) أي : ترجع جميع أمور الخير والشر ، فيجازي كلّا بعمله ، إن خيرا فخير ، وإن شراّ فشر.

سورة الزخرف

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] هذا قسم بالقرآن ، فأقسم بالكتاب المبين ، وأطلق ، ولم يذكر المتعلق ، ليدل على أنه مبين لكل ما يحتاج إليه العباد من أمور الدنيا والدين والآخرة.

[٣ ـ ٥] (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) هذا هو المقسوم عليه ، أنه جعل بأفصح اللغات وأوضحها ، وأبينها ، وهذا من بيانه. وذكر الحكمة في ذلك فقال : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ألفاظه ومعانيه لتيسرها وقربها من الأذهان. (وَإِنَّهُ) أي : هذا الكتاب (فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا) أي : في الملأ الأعلى في أعلى الرتب وأفضلها (لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) أي : لعلي في قدره ، وشرفه ، ومحله ، حكيم فيما يشتمل عليه ، من الأوامر ، والنواهي ، والأخبار ، فليس فيه حكم مخالف للحكمة ، والعدل ، والميزان. ثمّ أخبر تعالى أن حكمته وفضله ، تقتضي أن لا يترك عباده هملا ، لا يرسل إليهم رسولا ، ولا ينزل عليهم كتابا ، ولو كانوا مسرفين ظالمين فقال : (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً) أي : أفنعرض عنكم ، ونترك إنزال الذكر إليكم ونضرب عنكم صفحا ، لأجل إعراضكم ، وعدم انقيادكم؟ بل ننزل عليكم الكتاب ، ونوضح لكم فيه كل شيء. فإن آمنتم به واهتديتم ، فهو من توفيقكم ، وإلّا ، فقد قامت عليكم الحجة وكنتم على بيّنة من أمركم.

[٦] يقول تعالى : إن هذه سنتنا في الخلق ، أن لا نتركهم هملا. (وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ) (٦) يأمرونهم بعبادة الله وحده لا شريك له. ولم يزل التكذيب موجودا في الأمم.

[٧] (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٧) جحدا لما جاء به ، وتكبرا على الحقّ.

[٨] (فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ) أي : من هؤلاء (بَطْشاً) أي : قوة ، وأفعالا وآثارا في الأرض. (وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) أي : مضت أمثالهم ، وأخبارهم ، وبينا لكم منها ، ما فيه عبرة ومزدجر عن التكذيب.

[٩] يخبر تعالى عن المشركين ، أنك (لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) (٩) أي : الله وحده لا شريك له ، العزيز الذي دانت لعزته جميع المخلوقات ، بظواهر الأمور ، وبواطنها ، وأوائلها ، وأواخرها. فإذا كانوا مقرين بذلك ، فكيف يجعلون له الولد ، والصاحبة ، والشريك؟ وكيف يشركون به ، من لا يخلق ، ولا يرزق ، ولا يميت ، ولا يحيي؟.

[١٠] ثمّ ذكر أيضا ، من الأدلة الدالة على كمال نعمته واقتداره ، بما خلقه لعباده من الأرض ، الّتي مهدها ، وجعلها قرارا للعباد ، يتمكنون فيها من كل ما يريدون. (وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) أي : جعل منافذ ، بين سلاسل الجبال المتصلة ، تنفذون منها إلى ما وراءها من الأقطار. (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)

٩١٩

في السير في الطرق ولا تضيعون ، ولعلكم أيضا ، تهتدون في الاعتبار بذلك ، والادكار فيه.

[١١] (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ) لا يزيد ولا ينقص ، ويكون أيضا ، بمقدار الحاجة ، لا ينقص بحيث لا يكون فيه نفع ، ولا يزيد بحيث يضر العباد والبلاد. بل أغاث به العباد ، وأنقذ به البلاد من الشدة ، ولهذا قال : (فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) أي : أحييناها بعد موتها (كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) أي : فكما أحيا الأرض الميتة الهامدة بالماء ، كذلك يحييكم ، بعد ما تستكملون في البرزخ ، ليجازيكم بأعمالكم.

[١٢ ـ ١٣] (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) أي : الأصناف جميعها ، مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ، ومما لا يعلمون ، من ليل ، ونهار ، وحر ، وبرد ، وذكر ، وأنثى ، وغير ذلك. (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ) أي : السفن البحرية ، الشراعية والبخارية (وَ) من (الْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) وهذا شامل لظهور الأنعام ، أي : لتستقروا عليها. (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) بالاعتراف بالنعمة لمن سخرها ، والثناء عليه تعالى بذلك ولهذا قال : (وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) أي : لو لا تسخيره لنا ما سخّر من الفلك ، والأنعام ، ما كنا مطيقين لذلك ، وقادرين عليه. ولكن من لطفه وكرمه تعالى ، سخرها ، وذللها ، ويسر أسبابها. والمقصود من هذا ، بيان أن الرب الموصوف بما ذكره ، من إفاضة النعم على العباد ، هو الذي يستحق أن يعبد ، ويصلى له ويسجد. [(وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) (١٤) أي : وإنا إلى خالقنا لراجعون بعد هذه الحياة ليحاسب كلا بما قدمت يداه. وفيه إيذان وإعلام ، بأن حق الراكب أن يتأمل فيما يلابسه ، من المسير ، ويتذكر منه المسافرة العظمى ، الّتي هي الانقلاب والرجوع إلى الله تعالى : فيبني أموره في مسيره ذلك ، على تلك الملاحظة. ولا يخطر بباله في شيء ، مما يأتي ويذر أمرا ينافيها ، ومن ضرورته أن يكون ركوبه لأمر مشروع] (١).

[١٤ ـ ١٧] يخبر تعالى عن شناعة قول المشركين ، الّذين جعلوا لله تعالى ولدا ، وهو الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، ولم يكن له كفوا أحد. وإن ذلك باطل من عدة أوجه : منها : أن الخلق كلهم عباده ، والعبودية ، تنافي الولادة. ومنها : أن الولد جزء من والده ، والله تعالى بائن من خلقه ، مباين لهم في صفاته ، ونعوت جلاله ، والولد جزء من الوالد ، فمحال أن يكون الله تعالى ولد. ومنها : أنهم يزعمون أن الملائكة بنات الله ، ومن المعلوم أن البنات أدون الصنفين. فكيف يكون لله البنات ، ويصطفيهم بالبنين ، ويفضلهم بها؟ فإذا يكونون أفضل من الله ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. ومنها : أن الصنف الذي نسبوه لله ، وهو البنات ، أدون الصنفين ، وأكرهها لهم ، حتى إنهم من كراهتهم لذلك (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) من كراهته وشدة بغضه ، فكيف يجعلون لله ما يكرهون؟ ومنها : أن الأنثى ناقصة في وصفها ، وفي منطقها وبيانها ، ولهذا قال تعالى :

[١٨] (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ) أي : يجمل فيها ، لنقص جماله ، فيجمل بأمر خارج منه؟ (وَهُوَ فِي

__________________

(١) سقط من المطبوعة ، وهو موافق للسياق والله أعلم.

٩٢٠