تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي

تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

المؤلف:

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ١١٣٥

الأحكام ، لا يتم ، ولا يكمل ، إلا بوجود مقتضيه ، وانتفاء موانعه. فمن ذلك ، هذا الحكم الكبير ، الذي هو الصلح. فذكر تعالى المقتضي لذلك ، ونبه على أنه خير ، والخير كل عامل يطلبه ، ويرغب فيه. فإن كان ـ مع ذلك ـ قد أمر الله به ، وحث عليه ازداد المؤمن طلبا له ، ورغبة فيه. وذكر المانع بقوله : (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) أي : جبلت النفوس على الشح ، وهو : عدم الرغبة في بذل ما على الإنسان ، والحرص على الحق الذي له. فالنفوس مجبولة على ذلك طبعا. أي ينبغي لكم ، أن تحرصوا على قلع هذا الخلق الدنيء ، من نفوسكم ، وتستبدلوا به ضده وهو : السماحة ، وهو بذل الحق الذي عليك ، والاقتناع ببعض الحق الذي لك. فمتى وفق الإنسان لهذا الخلق الحسن ، سهل ـ حينئذ ـ عليه الصلح بينه وبين خصمه ومعامله ، وتسهلت الطريق للوصول إلى المطلوب. بخلاف من لم يجتهد في إزالة الشح من نفسه ، فإنه يعسر عليه الصلح والموافقة ، لأنه لا يرضيه إلا جميع ماله ، ولا يرضى أن يؤدي ما عليه. فإن كان خصمه مثله ، اشتد الأمر. ثم قال : (وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا) أي : تحسنوا في عبادة الخالق ، بأن يعبد العبد ربه ، كأنه يراه ، فإن لم يكن يراه ، فإنه يراه. وتحسنوا إلى المخلوقين ، بجميع طرق الإحسان ، من نفع بمال ، أو علم ، أو جاه ، أو غير ذلك. (وَتَتَّقُوا) الله ، بفعل جميع المأمورات ، وترك جميع المحظورات. أو تحسنوا بفعل المأمور ، وتتقوا بترك المحظور. (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) قد أحاط به ، علما وخبرا ، بظاهره وباطنه ، فيحفظه لكم ، ويجازيكم عليه ، أتم الجزاء.

[١٢٩] يخبر تعالى : أن الأزواج لا يستطيعون ، وليس في قدرتهم العدل التام بين النساء. وذلك ، لأن العدل :

يستلزم وجود المحبة على السواء ، والداعي على السواء ، والميل في القلب إليهن على السواء ، ثم العمل بمقتضى ذلك. وهذا متعذر غير ممكن ، فلذلك عفا الله ، عمّا لا يستطاع ونهى عمّا هو ممكن بقوله : (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ) أي : لا تميلوا ميلا كثيرا ، بحيث لا تؤدون حقوقهن الواجبة. بل افعلوا ما هو باستطاعتكم في العدل. فالنفقة والكسوة ، والقسم ونحوها ، عليكم أن تعدلوا بينهن فيها. بخلاف الحب ، والوطء ونحو ذلك ، فإن الزوجة ، إذا ترك زوجها ، ما يجب لها ، صارت كالمعلقة ، التي لا زوج لها فتستريح وتستعد للتزوج ، ولا ذات زوج ، يقوم بحقوقها. (وَإِنْ تُصْلِحُوا) ما بينكم وبين زوجاتكم. وبإجبار أنفسكم على فعل ما لا تهواه النفس ، احتسابا وقياما بحق الزوجة. وتصلحوا أيضا ، فيما بينكم وبين الناس. وتصلحوا أيضا بين الناس ، فيما تنازعوا فيه. وهذا يستلزم الحث على كل طريق يوصل إلى الصلح مطلقا كما تقدم. (وَتَتَّقُوا) الله بفعل المأمور وترك المحظور ، والصبر على المقدور. (فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) يغفر ما صدر منكم ، من الذنوب ، والتقصير في الحق الواجب ، ويرحمكم كما عطفتم على أزواجكم ورحمتموهن.

[١٣٠] هذه الحالة الثالثة بين الزوجين ، إذا تعذر الاتفاق ، فإنه لا بأس بالفراق. فقال : (وَإِنْ يَتَفَرَّقا) أي : بطلاق ، أو فسخ ، أو خلع ، أو غير ذلك. (يُغْنِ اللهُ كُلًّا) من الزوجين (مِنْ سَعَتِهِ) أي : من فضله ،

٢٢١

وإحسانه الواسع الشامل. فيغني الزوج بزوجة ، خير له منها ، ويغنيها من فضله. وإن انقطع نصيبها من زوجها ، فإن رزقها على المتكفل بأرزاق جميع الخلق ، القائم بمصالحهم ، ولعل الله يرزقها ، زوجا خيرا منه. (وَكانَ اللهُ واسِعاً) أي : كثير الفضل ، واسع الرحمة. وصلت رحمته وإحسانه ، إلى حيث وصل إليه علمه. وكان ـ مع ذلك ـ (حَكِيماً) أي : يعطي بحكمته ، ويمنع لحكمته. فإذا اقتضت حكمته منع بعض عباده ، من إحسانه ، بسبب في العبد ، لا يستحق معه الإحسان ـ حرمه ، عدلا وحكمة.

[١٣١] يخبر تعالى ، عن عموم ملكه العظيم الواسع ، المستلزم تدبيره ، بجميع أنواع التدبير ، وتصرفه بأنواع التصريف ، قدرا ، وشرعا. فتصرفه الشرعي ، أن وصى الأولين والآخرين ، أهل الكتب السابقة واللاحقة ـ بالتقوى المتضمنة للأمر والنهي ، وتشريع الأحكام ، والمجازاة لمن قام بهذه الوصية ، بالثواب ، والمعاقبة لمن أهملها وضيعها ، بأليم العذاب. ولهذا قال : (وَإِنْ تَكْفُرُوا) بأن تتركوا تقوى الله ، وتشركوا بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا ، فإنكم لا تضرون بذلك ، إلا أنفسكم ، ولا تضرون الله شيئا ، ولا تنقصون ملكه. وله عبيد خير منكم ، وأعظم ، وأكثر ، مطيعون له ، خاضعون لأمره. ولهذا رتب على ذلك قوله : (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً) له الجود الكامل والإحسان الشامل الصادر من خزائن رحمته ، التي لا ينقصها الإنفاق ، ولا يغيضها نفقة ، سحاء الليل والنهار. لو اجتمع أهل السماوات ، وأهل الأرض ، أولهم وآخرهم ، فسأل كل واحد منهم ، ما بلغت أمانيه ، ما نقص من ملكه شيئا. ذلك بأنه جواد واجد ماجد ، عطاؤه كلام ، وعذابه كلام. (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). ومن تمام غناه ، أنه كامل الأوصاف. إذ لو كان فيه نقص بوجه من الوجوه ، لكان فيه نوع افتقار إلى ذلك الكمال. بل ، له كل صفة كمال ، ومن تلك الصفة كمالها. ومن تمام غناه ، أنه لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، ولا شريكا في ملكه ، ولا ظهيرا ، ولا معاونا له على شيء ، من تدابير ملكه. ومن كمال غناه ، افتقار العالم العلوي والسفلي ، في جميع أحوالهم وشؤونهم ، إليه ، وسؤالهم إياه ، جميع حوائجهم الدقيقة والجليلة. فقام تعالى بتلك المطالب والأسئلة ، وأغناهم وأقناهم ، ومنّ عليهم بلطفه ، وهداهم. وأما الحميد ، فهو من أسماء الله تعالى الجليلة ، الدال على أنه هو المستحق لكل حمد ، ومحبة ، وثناء وإكرام. وذلك لما اتصف به من صفات الحمد ، التي هي صفة الجمال والجلال ، ولما أنعم به على خلقه من النعم الجزال ، فهو المحمود على كل حال. وما أحسن اقتران هذين الاسمين الكريمين الغنى الحميد فإنه غني محمود ، فله كمال من غناه ، وكمال من حمده ، وكمال من اقتران أحدهما بالآخر.

[١٣٢] ثم كرر إحاطة ملكه ، لما في السموات والأرض ، وأنه على كل شيء وكيل. أي : عالم قائم بتدبير الأشياء ، على وجه الحكمة ، فإن ذلك ، من تمام الوكالة. فإن الوكالة تستلزم العلم ، بما هو وكيل عليه ، والقوة ، والقدرة على تنفيذه وتدبيره وكون ذلك التدبير على وجه الحكمة والمصلحة. فما نقص من ذلك ، فهو لنقص بالوكيل. والله تعالى منزه عن كل نقص. أي : هو الغني الحميد الذي له القدرة الكاملة والمشيئة النافذة فيكم.

[١٣٣] (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) غيركم ، هم أطوع لله منكم وخير منكم. وفي هذا تهديد للناس على إقامتهم على كفرهم ، وإعراضهم عن ربهم ، فإن الله لا يعبأ بهم شيئا ، إن لم يطيعوه ، ولكنه يمهل ، ويملي ، ولا يهمل.

[١٣٤] ثم أخبر أن من كانت همته وإرادته دنية ، غير متجاوزة ثواب الدنيا ، وليس له إرادة في الآخرة ، فإنه قد قصر سعيه ونظره ، ومع ذلك فلا يحصل له من ثواب الدنيا ، سوى ما كتب الله له منها. فإنه تعالى ، هو المالك لكل شيء ، الذي عنده ثواب الدنيا والآخرة ، فليطلبا منه ، وليستعن به عليهما. فإنه لا ينال ما عنده إلا بطاعته ، ولا تدرك الأمور الدينية والدنيوية إلا بالاستعانة به ، والافتقار إليه على الدوام. وله الحكمة تعالى ، في توفيق من يوفقه ،

٢٢٢

وخذلان من يخذله ، وفي إعطائه ومنعه. ولهذا قال : (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً).

[١٣٥] ثم قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ) الآيتين. يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا (قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ). والقوام ، صيغة مبالغة ، أي : كونوا في كل أحوالكم ، قائمين بالقسط ، الذي هو العدل في حقوق الله ، وحقوق عباده. فالقسط في حقوق الله ، أن لا يستعان بنعمه على معصيته ، بل تصرف في طاعته. والقسط في حقوق الآدميين ، أن تؤدي جميع الحقوق التي عليك ، كما تطلب حقوقك. فتؤدي النفقات الواجبة ، والديون ، وتعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به ، من الأخلاق والمكافأة ، وغير ذلك. ومن أعظم أنواع القسط ، القسط في المقالات والقائلين. فلا يحكم لأحد القولين ، أو أحد المتنازعين ، لانتسابه أو ميله لأحدهما. بل يجعل وجهته ، العدل بينهما. ومن القسط أداء الشهادة ، التي عندك على أي وجه كان ، حتى على الأحباب ، بل على النفس ، ولهذا قال : (شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) أي : فلا تراعوا الغني لغناه ، ولا الفقير ـ بزعمكم ـ رحمة له. بل اشهدوا بالحق ، على من كان. والقيام بالقسط ، من أعظم الأمور ، وأدلها على دين القائم به ، وورعه ومقامه في الإسلام. فيتعين على من نصح نفسه ، وأراد نجاتها أن يهتم له غاية الاهتمام ، وأن يجعله نصب عينيه ، ومحل إرادته ، وأن يزيل عن نفسه ، كل مانع وعائق يعوقه ، عن إرادة القسط ، أو العمل به. وأعظم عائق لذلك ، اتباع الهوى ، ولهذا ، نبه تعالى ، على إزالة هذا المانع بقوله : (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا) أي : فلا تتبعوا شهوات أنفسكم المعارضة للحق. فإنكم ـ إن اتبعتموها ، عدلتم عن الصواب ، ولم توفقوا للعدل. فإن الهوى ، إما أن يعمي بصيرة صاحبه ، حتى يرى الحق باطلا ، والباطل حقا. وإما أن يعرف الحق ويتركه ، لأجل هواه. فمن سلم من هوى نفسه ، وفق للحق ، وهدي إلى الصراط المستقيم. ولما بيّن أن الواجب ، القيام بالقسط ، نهى عن ما يضاد ذلك ، وهو ليّ اللسان عن الحق ، في الشهادات وغيرها ، وتحريف النطق ، عن الصواب المقصود من كل وجه ، أو من بعض الوجوه. ويدخل في ذلك ، تحريف الشهادة ، وعدم تكميلها ، أو تأويل الشاهد على أمر آخر. فإن هذا ، من اللي ، لأنه الانحراف عن الحق. (أَوْ تُعْرِضُوا) أي : تتركوا القسط المنوط بكم ، كترك الشاهد لشهادته وترك الحاكم لحكمه ، الذي يجب عليه القيام به. (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) أي : محيطا بما فعلتم ، يعلم أعمالكم ، خفيها وجليها. وفي هذا تهديد شديد ، للذي يلوي أو يعرض. ومن باب أولى ، الذي يحكم بالباطل ، أو يشهد بالزور ، لأنه أعظم جرما. لأن الأولين ، تركا الحق ، وقام هو بالباطل.

[١٣٦] اعلم أن الأمر ، إما أن يوجه إلى من لم يدخل في الشيء ولم يتصف بشيء منه. فهذا يكون أمرا له ، في الدخول فيه. وذلك كأمر من ليس بمؤمن بالإيمان كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) الآية. وإما أن يوجه إلى من دخل في الشيء ، فهذا يكون أمره ليصحح ما وجد منه ويحصل ما لم يوجد. ومنه ما ذكره الله في هذه الآية ، من أمر المؤمنين بالإيمان. فإن ذلك يقتضي أمرهم بما يصحح إيمانهم ، من

٢٢٣

الإخلاص والصدق ، وتجنب المفسدات والتوبة من جميع المنقصات. ويقتضي أيضا ، الأمر بما لم يوجد من المؤمن ، من علوم الإيمان وأعماله. فإنه كلما وصل إليه نص ، وفهم معناه ، واعتقده ، فإن ذلك من المأمور به. وكذلك سائر الأعمال الظاهرة ، والباطنة ، كلها من الإيمان ، كما دلت على ذلك النصوص الكثيرة ، وأجمع عليه سلف الأمة. ثم الاستمرار على ذلك ، والثبات عليه إلى الممات كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١٠٢). وأمر هنا بالإيمان به ، وبرسله ، وبالقرآن ، وبالكتب المتقدمة. فهذا كله من الإيمان الواجب ، الذي لا يكون العبد مؤمنا إلا به ، إجمالا فيما لم يصل إليه تفصيله ، وتفصيلا فيما علم من ذلك بالتفصيل. فمن آمن هذا الإيمان المأمور به ، فقد اهتدى وأنجح. (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً). وأي ضلال أبعد من ضلال من ترك طريق الهدى المستقيم ، وسلك الطريق الموصلة له إلى العذاب الأليم؟ واعلم أن الكفر بشيء من هذه الأمور المذكورة ، كالكفر بجميعها ، لتلازمها ، وامتناع وجود الإيمان ببعضها ، دون بعض.

[١٣٧] ثم قال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) الآية. أي : من تكرر منه الكفر بعد الإيمان ، فاهتدى ، ثم ضل وأبصر ، ثم عمي وآمن ، ثم كفر واستمر على كفره ، وازداد منه ، فإنه بعيد من التوفيق والهداية ، لأقوم الطريق ، وبعيد عن المغفرة ، لكونه أتى بأعظم مانع يمنعه من حصولها. فإن كفره ، يكون عقوبة وطبعا ، لا يزول كما قال تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ). (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ). ودلت الآية : أنهم ، إن لم يزدادوا كفرا ، بل رجعوا إلى الإيمان ، وتركوا ما هم عليه من الكفران ، فإن الله يغفر لهم ، ولو تكررت منهم الردة. وإذ كان هذا الحكم في الكفر ، فغيره ـ من المعاصي التي دونه ـ من باب أولى أن العبد لو تكررت منه ، ثم عاد إلى التوبة ، عاد الله له بالمغفرة.

[١٣٨] البشارة ، تستعمل في الخير ، وتستعمل في الشر بقيد ، كما في هذه الآية. يقول تعالى : (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ) أي : الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر ، بأقبح بشارة وأسوئها ، وهو العذاب الأليم. وذلك بسبب محبتهم الكفار ، وموالاتهم ، ونصرتهم ، وتركهم لموالاة المؤمنين. فأي شيء حملهم على ذلك؟ أيبتغون عندهم العزة؟ وهذا هو الواقع من أحوال المنافقين. ساء ظنهم بالله ، وضعف يقينهم بنصر الله لعباده المؤمنين. ولحظوا بعض الأسباب ، التي عند الكافرين ، وقصر نظرهم عمّا وراء ذلك. فاتخذوا الكافرين أولياء ، يتعززون بهم ، ويستنصرون. والحال أن العزة لله جميعا ، فإن نواصي العباد بيده ، ومشيئته نافذة فيهم. وقد تكفل بنصر دينه وعباده المؤمنين ، ولو تخلل ذلك بعض الامتحان لعباده المؤمنين. وإدالة العدو عليهم ، إدالة ، غير مستمرة ، فإن العاقبة والاستقرار ، للمؤمنين. وفي هذه الآية ، الترهيب العظيم من موالاة الكافرين ؛ وترك موالاة المؤمنين ، وأن ذلك ، من صفات المنافقين. وأن الإيمان يقتضي محبة المؤمنين وموالاتهم ، وبغض الكافرين وعداوتهم.

[١٤٠] أي : وقد بيّن الله لكم ـ فيما أنزل عليكم ـ حكمه الشرعي عند حضور مجالس الكفر والمعاصي (أَنْ إِذا

٢٢٤

سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها) أي : يستهان بها. وذلك أن الواجب على كل مكلف في آيات الله ، الإيمان بها ، وتعظيمها وإجلالها ، وتفخيمها. وهذا هو المقصود بإنزالها ، وهو الذي خلق الله الخلق لأجله. فضد الإيمان ؛ الكفر بها ، وضد تعظيمها ؛ الاستهزاء بها واحتقارها. ويدخل في ذلك ، مجادلة الكفار والمنافقين لإبطال آيات الله ونصر كفرهم. وكذلك المبتدعون ، على اختلاف أنواعهم. فإن احتجاجهم على باطلهم ، يتضمن الاستهانة بآيات الله ، لأنها لا تدل إلا على الحق ، ولا تستلزم إلا صدقا. بل وكذلك يدخل فيه ، حضور مجالس المعاصي والفسوق ، التي يستهان فيها بأوامر الله ونواهيه ، وتقتحم حدوده التي حدها لعباده. ومنتهى هذا النهي عن القعود معهم (حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) أي : غير الكفر بآيات الله والاستهزاء بها. (إِنَّكُمْ إِذاً) أي : إن قعدتم معهم في الحال المذكور (مِثْلُهُمْ) لأنكم رضيتم بكفرهم واستهزائهم ، والراضي بالمعصية ، كالفاعل لها. والحاصل أن من حضر مجلسا يعصى الله به ، فإنه يتعين عليه الإنكار عليهم ، مع القدرة ، أو القيام مع عدمها. (إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) كما اجتمعوا على الكفر والموالاة. ولا ينفع المنافقين مجرد كونهم ـ في الظاهر ـ مع المؤمنين كما قال تعالى : (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) إلى آخر الآيات.

[١٤١] ثم ذكر تحقيق موالاة المنافقين للكافرين ، ومعاداتهم للمؤمنين فقال : (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) أي : ينتظرون الحالة التي تصيرون عليها ، وتنتهون إليها ، من خير أو شر ، قد أعدوا لكل حالة جوابا بحسب نفاقهم. (فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ). فيظهرون أنهم مع المؤمنين ، ظاهرا وباطنا ، ليسلموا من القدح والطعن عليهم ، وليشركوهم في الغنيمة والفيء ، ولينتصروا بهم. (وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ) ولم يقل فتح ، لأنه لا يحصل لهم فتح ، يكون مبدأ لنصرتهم المستمرة. بل غاية ما يكون ، أن يكون لهم نصيب غير مستقر ، حكمة من الله. فإذا كان ذلك (قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ) أي : نستولي عليكم (وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي : يتصنعون عندهم ، بكف أيديهم عنهم ، مع القدرة ، ومنعهم من المؤمنين ، بجميع وجوه المنع في تنفيرهم ، وتزهيدهم في القتال ، ومظاهرة الأعداء عليهم ، وغير ذلك ، مما هو معروف منهم. (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) فيجازي المؤمنين ، ظاهرا وباطنا ، بالجنة ، ويعذب المنافقين والمنافقات ، والمشركين والمشركات. (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) أي : تسلطا واستيلاء عليهم. بل لا تزال طائفة من المؤمنين على الحق منصورة ، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم. ولا يزال الله ، يحدث من أسباب النصر للمؤمنين ، ودفع تسليط الكافرين ، ما هو مشهود بالعيان. حتى إن بعض المسلمين ، الذين تحكمهم الطوائف الكافرة ، قد بقوا محترمين لا يتعرضون لأديانهم ، ولا يكونون مستصغرين عندهم. بل لهم العز التام من الله ، فلله الحمد ، أولا وآخرا ، وظاهرا وباطنا.

[١٤٢] يخبر تعالى عن المنافقين بما كانوا عليه ، من قبيح الصفات ، وشنائع السمات. وأن طريقتهم مخادعة الله ، تعالى ، أي : بما أظهروه من الإيمان ، وأبطنوه من الكفران. ظنوا أنه يروج على الله ، ولا يعلمه ، ولا يبديه لعباده ، والحال أن الله خادعهم. فمجرد وجود هذه الحال منهم ، ومشيهم عليها ، خداع لأنفسهم. وأي خداع أعظم ، ممن يسعى سعيا ، يعود عليه بالهوان والذل والحرمان؟ ويدل ـ بمجرده ـ على نقص عقل صاحبه ، حيث جمع بين المعصية ، ورآها حسنة ، وظنها من العقل والمكر. فلله ما يصنع الجهل والخذلان بصاحبه ومن خداعه لهم يوم القيامة ، ما ذكره الله في قوله : (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) إلى آخر الآيات. ومن صفاتهم أنهم (إِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ) التي هي أكبر الطاعات العملية ، إن قاموا (قامُوا كُسالى) متثاقلين لها ، متبرمين من فعلها. والكسل ، لا يكون إلا من فقد الرغبة من قلوبهم. فلو لا أن قلوبهم فارغة من الرغبة إلى الله ، وإلى ما عنده ، عادمة للإيمان ، لم يصدر منهم الكسل. (يُراؤُنَ النَّاسَ) أي : هذا الذي انطوت عليه سرائرهم ، وهذا مصدر

٢٢٥

أعمالهم ، مراءاة الناس. يقصدون رؤية الناس ، وتعظيمهم ، واحترامهم ، ولا يخلصون لله. فلهذا (لا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) لامتلاء قلوبهم من الرياء. فإن ذكر الله تعالى ، وملازمته ، لا يكون إلا من مؤمن ، ممتلىء قلبه ، بمحبة الله وعظمته.

[١٤٣] (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) أي : مترددين ، بين فريق المؤمنين ، وفريق الكافرين. فلا من المؤمنين ظاهرا وباطنا ، ولا من الكافرين ظاهرا وباطنا. أعطوا باطنهم للكافرين ، وظاهرهم للمؤمنين ، وهذا أعظم ضلال يقدر. ولهذا قال : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) أي : لن تجد طريقا لهدايته ، ولا وسيلة لترك غوايته ، لأنه انغلق عنه باب الرحمة ، وصار بدله ، كل نقمة. فهذه الأوصاف المذمومة ، تدل ـ بتنبيهها ـ على أن المؤمنين ، متصفون بضدها ، من الصدق والإخلاص ، ظاهرا وباطنا. وأنهم لا يجهل ما عندهم ، من النشاط في صلاتهم ، وعباداتهم ، وكثرة ذكرهم لله تعالى. وأنهم قد هداهم الله ، ووفقهم للصراط المستقيم. فليعرض العاقل نفسه على هذين الأمرين ، وليختر أيهما أولى به ، والله المستعان.

[١٤٤] ولما ذكر أن من صفات المنافقين ، اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، نهى عباده المؤمنين أن يتصفوا بهذه الحالة القبيحة ، وأن يشابهوا المنافقين ، فإن ذلك موجب لأن (تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) أي : حجة واضحة على عقوبتكم. فإنه قد أنذرنا وحذرنا منها ، وأخبرنا بما فيها من المفاسد. فسلوكها ـ بعد هذا ـ موجب للعقاب. وهذه الآية ، دليل على كمال عدل الله ، وأن الله لا يعذب أحدا ؛ قبل قيام الحجة عليه. وفيه التحذير من المعاصي ؛ فإن فاعلها يجعل لله عليه سلطانا مبينا.

[١٤٥] يخبر تعالى ، عن مآل المنافقين ، أنهم في أسفل الدركات من العذاب ، وأشر الحالات من العقاب. فهم تحت سائر الكفار ، لأنهم شاركوهم بالكفر بالله ، ومعاداة رسله. وزادوا عليهم ، المكر والخديعة ، والتمكن من كثير من أنواع العداوة للمؤمنين ، على وجه لا يشعر به ولا يحس. ورتبوا على ذلك ، جريان أحكام الإسلام عليهم ، واستحقاق ما لا يستحقونه. فبذلك ونحوه ، استحقوا أشد العذاب.

[١٤٦] وليس لهم منقذ من عذابه ، ولا ناصر يدفع عنهم بعض عقابه. وهذا عام لكل منافق ، إلا من منّ الله عليهم بالتوبة من السيئات. (وَأَصْلَحُوا) له الظواهر والبواطن (وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ) والتجئوا إليه ، في جلب منافعهم ، ودفع المضار عنهم. (وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ) الذي هو الإسلام ، والإيمان والإحسان (لِلَّهِ). فقصدوا وجه الله ، بأعمالهم الظاهرة والباطنة ، وسلموا من الرياء والنفاق. فمن اتصف بهذه الصفات (فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) أي : في الدنيا ، والبرزخ ، ويوم القيامة. (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً) لا يعلم كنهه إلا الله ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. وتأمل كيف خص الاعتصام والإخلاص ، بالذكر مع دخولهما في قوله : (وَأَصْلَحُوا) لأن الاعتصام والإخلاص ، من جملة الإصلاح ، لشدة الحاجة إليهما ، خصوصا في هذا المقام الحرج ، الذي تمكن فيه النفاق من القلوب. فلا يزيله إلا شدة الاعتصام بالله ، ودوام اللجأ والافتقار إليه ، في

٢٢٦

دفعه ، وكون الإخلاص منافيا كل المنافاة للنفاق. فذكر هما لفضلهما ، وتوقف الأعمال الظاهرة والباطنة عليهما ، ولشدة الحاجة في هذا المقام إليهما. وتأمل كيف ـ لما ذكر أن هؤلاء مع المؤمنين ـ لم يقل : وسوف يؤتيهم أجرا عظيما ، مع أن السيئات فيهم. بل قال : (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً). لأن هذه القاعدة الشريفة ـ لم يزل الله يبدىء فيها ويعيد ، إذا كان السياق في بعض الجزئيات ، وأراد أن يرتب عليه ثوابا أو عقابا وكان ذلك مشتركا بينه وبين الجنس الداخل فيه. رتب الثواب ، في مقابلة الحكم العام ، الذي تندرج تحته ، تلك القضية وغيرها. ولئلا يتوهم اختصاص الحكم ، بالأمر الجزئي ، فهذا من أسرار القرآن البديعة. فالتائب من المنافقين ، مع المؤمنين ، وله ثوابهم.

[١٤٧] ثم أخبر تعالى ، عن كمال غناه ، وسعة حلمه ، ورحمته وإحسانه فقال : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ) والحال أن الله شاكر عليم. يعطي المتحملين لأجله الأثقال ، الدائبين في الأعمال ؛ جزيل الثواب وواسع الإحسان. ومن ترك شيئا لله ، أعطاه الله خيرا منه. ومع هذا ، يعلم ظاهركم وباطنكم ، وأعمالكم ، وما تصدر عنه من إخلاص وصدق ، وضد ذلك. وهو يريد التوبة والإنابة منكم والرجوع إليه. فإذا أنبتم إليه ، فأي شيء يفعل بعذابكم؟ فإنه لا يتشفى بعذابكم ، ولا ينتفع بعقابكم. بل العاصي لا يضر إلا نفسه ، كما أن عمل المطيع لنفسه. والشكر هو : خضوع القلب ، واعترافه بنعمة الله ، وثناء اللسان على المشكور. وعمل الجوارح بطاعته ، وأن لا يستعين بنعمه على معاصيه.

[١٤٨] يخبر تعالى أنه لا يحب الجهر بالسوء من القول ، أي : يبغض ذلك ويمقته ، ويعاقب عليه. ويشمل ذلك جميع الأقوال السيئة ، التي تسوء وتحزن ، كالشتم ، والقذف ، والسب ونحو ذلك فإن ذلك كله ، من المنهي عنه ، الذي يبغضه الله. ويدل مفهومها ، أنه يحب الحسن من القول ، كالذكر ، والكلام الطيب اللين. وقوله : (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) أي : فإنه يجوز له أن يدعو على من ظلمه ، ويشتكي منه ، ويجهر بالسوء لمن جهر له به ، من غير أن يكذب عليه ، ولا يزيد على مظلمته ، ولا يتعدى بشتمه غير ظالمه. ومع ذلك ، فعفوه ، وعدم مقابلته ، أولى كما قال تعالى : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ). (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً) ولما كانت الآية ، قد اشتملت على الكلام السيّء ، والحسن ، والمباح ، أخبر تعالى ، أنه سميع ، فيسمع أقوالكم ، فاحذروا أن تتكلموا بما يغضب ربكم فيعاقبكم. وفيه أيضا ترغيب على القول الحسن (عَلِيماً) بنياتكم ومصدر أقوالكم.

[١٤٩] ثم قال تعالى : (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ) وهذا يشمل كل خير ، قولي ، وفعلي ، ظاهر ، وباطن ، من واجب ، ومستحب. (أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ) أي : عمّن أساء إليكم في أبدانكم ، وأموالكم ، وأعراضكم ، فتسمحوا عنه ، فإن الجزاء من جنس العمل. فمن عفا لله ، عفا الله عنه ، ومن أحسن ، أحسن الله إليه ، فلهذا قال : (فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً) أي : يعفو عن زلات عباده ، وذنوبهم العظيمة. فيسدل عليهم ستره ، ثم يعاملهم بعفوه التام ، الصادر عن قدرته. وفي هذه الآية ، إرشاد إلى التدبر في معاني أسماء الله وصفاته ، وأن الخلق والأمر ، صادر عنها ، وهي مقتضية له ، ولهذا يعلل الأحكام ، بالأسماء الحسنى ، كما في هذه الآية. لما ذكر عمل الخير والعفو عن المسيء ، رتب على ذلك ، بأن أحالنا على معرفة أسمائه ، وأن ذلك يغنينا عن ذكر ثوابها الخاص قال : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ) إلى (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً).

[١٥٠] هنا قسمان ، قد وضحا لكل أحد : مؤمن بالله ، وبرسله كلهم ، وكتبه ، وكافر بذلك كله. وبقي قسم ثالث : وهو : الذي يزعم أنه يؤمن ببعض الرسل ، دون بعض ، وأن هذا سبيل ينجيه من عذاب الله ، إن هذا إلا مجرد أماني. فإن هؤلاء ، يريدون التفريق بين الله وبين رسله توليه. فإن من تولى الله حقيقة ، تولى جميع رسله ، لأن ذلك من تمام توليه. ومن عادى أحدا من رسله ، فقد عادى الله ، وعادى جميع رسله كما قال تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ)

٢٢٧

الآيات.

[١٥١] وكذلك من كفر برسول ، فقد كفر بجميع الرسل ، بل بالرسول ، الذي يزعم أنه به مؤمن ، ولهذا قال :

(أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا). وذلك لئلا يتوهم أن مرتبتهم متوسطة ، بين الإيمان والكفر. ووجه كونهم كافرين ـ حتى بمن زعموا الإيمان به ـ أن كل دليل دلهم على الإيمان بمن آمنوا به ، موجود هو أو مثله ، أو ما هو فوقه النبي الذي كفروا به. وكل شبهة يزعمون أنهم يقدحون بها في النبي الذي كفروا به ، موجود مثلها ، أو أعظم منها ، فيمن آمنوا به. فلم يبق بعد ذلك ، إلا التشهي والهوى ، ومجرد الدعوى ، التي يمكن كل أحد أن يقابلها بمثلها. ولما ذكر أن هؤلاء هم الكافرون حقا ، ذكر عقابا شاملا لهم ، ولكل كافر فقال : (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) كما تكبروا عن الإيمان بالله ، أهانهم بالعذاب الأليم المخزي.

[١٥٢] (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) وهذا يتضمن الإيمان ، بكل ما أخبر الله به عن نفسه ، وبكل ما جاءت به الرسل من الأخبار والأحكام. (وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) بل آمنوا بهم كلهم. فهذا هو الإيمان الحقيقي ، واليقين المبني على البرهان. (أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ) أي : جزاء إيمانهم ، وما ترتب عليه ، من عمل صالح ، وقول حسن ، وخلق جميل ، كلّ على حسب حاله. ولعل هذا هو السر في إضافة الأجور إليهم. (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) يغفر السيئات ويتقبل الحسنات.

[١٥٣] هذا السؤال الصادر من أهل الكتاب ، للرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، على وجه العناد والاقتراح ، وجعلهم هذا السؤال ، يتوقف عليه تصديقهم ، أو تكذيبهم. وهو أنهم سألوه أن ينزل عليهم القرآن جملة واحدة ، كما نزلت التوراة والإنجيل. وهذا غاية الظلم منهم ، فإن الرسول ، بشر عبد ، مدبر ليس في يده من الأمر شيء ، بل الأمر كله لله. وهو الذي يرسل وينزل ما يشاء على عباده ، كما قال تعالى عن الرسول ، لما ذكر الآيات التي فيها اقتراح المشركين عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً). وكذلك جعلهم الفارق ، بين الحق والباطل ، مجرد إنزال الكتاب جملة ، أو مفرقا ، مجرد دعوى ، لا دليل عليها ، ولا مناسبة ، بل ولا شبهة. فمن أين يوجد في نبوة أحد من الأنبياء ، أن الرسول الذي يأتيكم بكتاب ، نزل مفرقا ، فلا تؤمنوا به ، ولا تصدقوه؟ بل نزول القرآن مفرقا بحسب الأحوال ، مما يدل على عظمته ، واعتناء الله بمن أنزل عليه كما قال تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) (٣٣).

[١٥٥ ـ ١٥٦] فلما ذكر اعتراضهم الفاسد ، أخبر أنه ليس بغريب من أمرهم. بل سبق لهم من المقدمات القبيحة ، ما هو أعظم مما سلكوا مع الرسول ، الذي يزعمون أنهم آمنوا به ، من سؤالهم له ، رؤية الله عيانا ، واتخاذهم العجل إلها يعبدونه ، من بعد ما رأوا من الآيات بأبصارهم ، ما لم يره غيرهم. ومن امتناعهم من قبول أحكام كتابهم ، وهو التوراة ، حتى رفع الطور من فوق رؤوسهم ، وهددوا أنهم إن لم يؤمنوا ، أسقط عليهم ، فقبلوا ذلك على وجه الإغماض ، والإيمان الشبيه بالإيمان الضروري.

٢٢٨

[١٥٧ ـ ١٥٨] ومن امتناعهم من دخول أبواب القرية ، التي أمروا بدخولها سجدا مستغفرين ، فخالفوا القول والفعل. ومن اعتداء من اعتدى منهم في السبت ، فعاقبهم الله تلك العقوبة الشنيعة. وبأخذ الميثاق الغليظ عليهم ، فنبذوه وراء ظهورهم ، وكفروا بآيات الله ، وقتلوا رسله بغير حق. ومن قولهم : إنهم قتلوا المسيح عيسى وصلبوه. والحال أنهم ما قتلوه وما صلبوه ، بل شبه لهم غيره ، فقتلوا غيره وصلبوه. وادعائهم أن قلوبهم غلف ، لا تفقه ما تقول لهم ، ولا تفهمه. وبصدهم الناس عن سبيل الله ، فصدوهم عن الحق ، ودعوتهم إلى ما هم عليه من الضلال والغي. وبأخذهم السحت ، والربا ، مع نهي الله لهم عنه ، والتشديد فيه. فالذين فعلوا هذه الأفاعيل ، لا يستنكر عليهم أن يسألوا الرسول محمدا ، أن ينزل عليهم كتابا من السماء. وهذه الطريقة ، من أحسن الطرق ، لمحاجة الخصم المبطل. وهو : أنه إذا صدر منه من الاعتراض الباطل ، ما جعله شبهة له ولغيره ، في رد الحق ، أن يبين من حاله الخبيثة ، وأفعاله الشنيعة ، ما هو من أقبح ما صدر منه ، ليعلم كل أحد أن هذا الاعتراض من ذلك الوادي الخسيس ، وأن له مقدمات يجعل هذا معها. وكذلك كل اعتراض يعترضون به ، على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يمكن أن يقابل بمثله ، أو ما هو أقوى منه ، في نبوة من يدعون إيمانهم به ، ليكتفى بذلك شرهم ، وينقمع باطلهم. وكل حجة سلكوها ، في تقريرهم لنبوة من آمنوا به ، فإنها ونظيرها ، وما هو أقوى منها ، دالة ومقررة لنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولما كان المراد من تعديد ما عدد الله من قبائحهم هذه المقابلة ، لم يبسطها في هذا الموضع ، بل أشار إليها ، وأحال على مواضعها ، وقد بسطها في غير هذا الموضع في المحل اللائق ببسطها.

[١٥٩] وقوله : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ). يحتمل أن الضمير هنا في قوله : (قَبْلَ مَوْتِهِ) يعود إلى أهل الكتاب. فيكون ـ على هذا ـ كل كتابي يحضره الموت ، ويعاين الأمر حقيقة ، فإنه يؤمن بعيسى عليه‌السلام ، ولكنه إيمان لا ينفع ، لأنه إيمان اضطرار. فيكون مضمون هذا التهديد لهم والوعيد ، أن لا يستمروا على هذه الحال ، التي سيندمون عليها قبل مماتهم فكيف يكون حالهم يوم حشرهم وقيامهم؟ ويحتمل أن الضمير في قوله : (قَبْلَ مَوْتِهِ) راجع إلى عيسى عليه‌السلام. فيكون المعنى : وما من أحد من أهل الكتاب ، إلا ليؤمنن بالمسيح عليه‌السلام قبل موت المسيح ، وذلك يكون عند اقتراب الساعة ، وظهور علاماتها الكبار. فإنها تكاثرت الأحاديث في نزوله عليه‌السلام في آخر هذه الأمة. يقتل الدجال ، ويضع الجزية ، ويؤمن به أهل الكتاب مع المؤمنين. ويوم القيامة يكون عيسى عليهم شهيدا ، يشهد عليهم بأعمالهم ، وهل هي موافقة لشرع الله أم لا؟ وحينئذ لا يشهد إلا ببطلان كل ما هم عليه ، مما هو مخالف لشريعة القرآن ولما دعاهم إليه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، علمنا بذلك ، لعلمنا بكمال عدالة المسيح عليه‌السلام ، وصدقه ، وأنه لا يشهد إلا بالحق. إلّا أن ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، هو الحق ، وما عداه ، فهو ضلال وباطل.

[١٦٠ ـ ١٦١] ثم أخبر تعالى أنه حرم على أهل الكتاب ، كثيرا من الطيبات ، التي كانت حلالا عليهم. وهذا تحريم عقوبة ، بسبب ظلمهم واعتدائهم ، وصدهم الناس عن سبيل الله ، ومنعهم إياهم من الهدى ، وبأخذهم الربا ،

٢٢٩

وقد نهوا عنه. فمنعوا المحتاجين ، ممن يبايعونه عن العدل. فعاقبهم الله من جنس فعلهم ، فمنعهم من كثير من الطيبات ، التي كانوا بصدد حلها ، لكونها طيبة. وأما التحريم الذي على هذه الأمة ، فإنه تحريم ، تنزيها لهم عن الخبائث التي تضرهم ، في دينهم ودنياهم.

[١٦٢] لما ذكر معايب أهل الكتاب ، ذكر الممدوحين منهم فقال : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) أي : الذين ثبت العلم في قلوبهم ، ورسخ الإيقان في أفئدتهم ، فأثمر لهم الإيمان التام العام (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) وأثمر لهم الأعمال الصالحة ، من إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، الذين هما أفضل الأعمال. وقد اشتملتا على الإخلاص للمعبود ، والإحسان إلى العبيد. وآمنوا باليوم الآخر ، فخافوا الوعيد ، ورجوا الوعد. (أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً) لأنهم جمعوا بين العلم والإيمان ، والعمل الصالح ، والإيمان بالكتب ، والرسل السابقة واللاحقة.

[١٦٣] يخبر تعالى أنه أوحى إلى عبده ورسوله ، من الشرع العظيم ، والأخبار الصادقة ، ما أوحى إلى هؤلاء الأنبياء ، عليهم الصلاة والسلام ، وفي هذا عدة فوائد : منها : أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ليس ببدع من الرسل ، بل أرسل الله قبله من المرسلين ، العدد الكثير ، والجم الغفير ، فاستغراب رسالته لا وجه له إلا الجهل والعناد. ومنها : أنه أوحى إليه ، كما أوحى إليهم ، في الأصول ، والعدل الذي اتقوا عليه ، وأن بعضهم يصدق بعضا ، ويوافق بعضهم بعضا. ومنها : أنه من جنس هؤلاء الرسل ، فليعتبره المعتبر ، بإخوانه المرسلين. فدعوته ، دعوتهم ؛ وأخلاقهم متفقة ؛ ومصدرهم واحد ؛ وغايتهم واحدة. فلم يقرنه بالمجهولين ؛ ولا بالكذابين ، ولا بالملوك الظالمين. ومنها : أن في ذكر هؤلاء الرسل وتعدادهم ، من التنويه بهم ، والثناء الصادق عليهم ، وشرح أحوالهم ، مما يزداد به المؤمن ، إيمانا بهم ، ومحبة لهم ، واقتداء بهديهم ، واستنانا بسنتهم ، ومعرفة بحقوقهم ، ويكون ذلك مصداقا لقوله : (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) (٧٩) (سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ) (١٠٩) (سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ) (١٢٠) (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٨٠). فكل محسن ، له من الثناء الحسن بين الأنام ، بحسب إحسانه. والرسل ـ خصوصا هؤلاء المسمون ـ في المرتبة العليا من الإحسان. ولما ذكر اشتراكهم بوحيه ، ذكر تخصيص بعضهم. فذكر أنه : آتى داود الزبور ، وهو الكتاب المعروف ، المزبور الذي خص الله به داود عليه‌السلام ، لفضله وشرفه. وأنه كلّم موسى تكليما ، أي : مشافهة منه إليه ، لا بواسطة ، حتى اشتهر بهذا عند العالمين ، فيقال : «موسى كليم الرحمن».

[١٦٤] وذكر أن الرسل ، منهم من قصه الله على رسوله ، ومنهم من لم يقصصه عليه. وهذا يدل على كثرتهم ، وأن الله أرسلهم مبشرين لمن أطاع الله واتبعهم ، بالسعادة الدنيوية والأخروية ، ومنذرين من عصى الله ، وخالفهم بشقاوة الدارين ، (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) فيقولوا : (ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ) قل (فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ).

[١٦٥] فلم يبق للخلق على الله حجة لإرساله الرسل تترى ، يبينون لهم أمر دينهم ، ومراضي ربهم ومساخطه ،

٢٣٠

وطرق الجنة وطرق النار. فمن كفر منهم بعد ذلك فلا يلومن إلا نفسه. وهذا من كمال عزته تعالى ، وحكمته ، أن أرسل إليهم الرسل ، وأنزل عليهم الكتب. وذلك أيضا من فضله وإحسانه ، حيث كان الناس مضطرين إلى الأنبياء ، أعظم ضرورة تقدر ، فأزال هذا الاضطرار ، فله الحمد والشكر. ونسأله ، كما ابتدأ عليه نعمته بإرسالهم ، أن يتمها بالتوفيق ، لسلوك طريقهم. إنه جواد كريم.

[١٦٦] لما ذكر أن الله أوحى إلى رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما أوحى إلى إخوانه من المرسلين ، أخبر هنا ، بشهادته تعالى على رسالته وصحة ما جاء به. و (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) يحتمل أن يكون المراد ، أنزله مشتملا على علمه ، أي : فيه من العلوم الإلهية ، والأحكام الشرعية ، والأخبار الغيبية ، ما هو من علم الله تعالى ، الذي علم به عباده. ويحتمل أن يكون المراد : أنزله ، صادرا عن علمه. ويكون في ذلك إشارة وتنبيه ، على وجه شهادته. وأن المعنى : إذا كان تعالى ، أنزل هذا القرآن ، المشتمل على الأوامر والنواهي ، وهو يعلم ذلك ، ويعلم حالة الذي أنزله عليه ، وأنه دعا الناس إليه ، فمن أجابه وصدقه ، كان وليه ، ومن كذبه وعاداه ، كان عدوه ، واستباح ماله ودمه ، والله تعالى يمكنه ، ويوالي نصره ، ويجيب دعواته ، ويخذل أعداءه وينصر أولياءه. فهل توجد شهادة أعظم من هذه الشهادة وأكبر؟ ولا يمكن القدح في هذه الشهادة ، إلا بعد القدح بعلم الله ، وقدرته ، وحكمته ، وإخباره تعالى ، بشهادة الملائكة على ما أنزل على رسوله ، لكمال إيمانهم ، ولجلالة هذا المشهود عليه. فإن الأمور العظيمة ، لا يستشهد عليها ، إلا الخواص ، كما قال تعالى في الشهادة على التوحيد : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١٨) (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً).

[١٦٧] لما أخبر عن رسالة الرسل ، صلوات الله وسلامه عليهم ، وأخبر برسالة خاتمهم محمد ، وشهد بها ، وشهدت ملائكته ـ لزم من ذلك ، ثبوت الأمر المقرر ، والمشهود به ، فوجب تصديقهم ، والإيمان بهم واتباعهم.

[١٦٨ ـ ١٦٩] ثم توعد من كفر بهم فقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي : جمعوا بين الكفر بأنفسهم ، وصدهم الناس عن سبيل الله. وهؤلاء أئمة الكفر ، ودعاة الضلال (قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً). وأي ضلال ، أعظم من ضلال من ضل بنفسه ، وأضل غيره ، فباء بالإثمين ، ورجع بالخسارتين ، وفاتته الهدايتان ، ولهذا قال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا) وهذا الظلم هو زيادة على كفرهم ، وإلا فالكفر ـ عند إطلاق الظلم ـ يدخل فيه. والمراد بالظلم هنا ، أعمال الكفر والاستغراق فيه. فهؤلاء بعيدون من المغفرة ، والهداية للصراط المستقيم. ولهذا قال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا). وإنما تعذرت المغفرة لهم والهداية ، لأنهم استمروا في طغيانهم ، وازدادوا في كفرهم ، فطبع على قلوبهم ، وانسدت عليهم طرق الهداية ، بما كسبوا. (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ). (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) أي : لا يبالي الله بهم ، ولا يعبأ ، لأنهم لا يصلحون للخير ، ولا يليق بهم ، إلا الحالة التي اختاروها لأنفسهم.

[١٧٠] يأمر تعالى جميع الناس ، أن يؤمنوا بعبده ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وذكر السبب الموجب للإيمان به ، والفائدة

٢٣١

في الإيمان والمضرة ، في عدم الإيمان به. فالسبب الموجب ، هو : إخباره بأنه جاءهم بالحق. فمجيئه نفسه حق ، وما جاء به من الشرع حق. فإن العاقل ، يعرف أن بقاء الخلق في جهلهم يعمهون ، وفي كفرهم يترددون ، والرسالة قد انقطعت عنهم ، غير لائق بحكمة الله ورحمته. فمن حكمته ورحمته العظيمة ، نفس إرسال الرسول إليهم ، ليعرفهم الهدى من الضلال ، والغي من الرشد. فمجرد النظر في رسالته ، دليل قاطع على صحة نبوته. وكذلك النظر إلى ما جاء به ، من الشرع العظيم ، والصراط المستقيم. فإنه فيه من الإخبار بالغيوب الماضية والمستقبلة ، والخبر عن الله ، وعن اليوم الآخر ـ ما لا يعرفه أحد إلا بالوحي والرسالة. وما فيه من الأمر ، بكل خير وصلاح ، ورشد ، وعدل ، وإحسان ، وصدق ، وبر ، وصلة ، وحسن خلق ، ومن النهي عن الشر والفساد ، والبغي والظلم ، وسوء الخلق ، والكذب والعقوق ، مما يقطع به أنه من عند الله. وكلما ازداد به العبد بصيرة ، ازداد إيمانه ويقينه ، فهذا السبب الداعي للإيمان. وأما الفائدة في الإيمان ، فأخبر أنه (خَيْراً لَكُمْ) والخير ، ضد الشر. فالإيمان ، خير للمؤمنين ، في أبدانهم ، وقلوبهم ، وأرواحهم ، ودنياهم ، وأخراهم. وذلك لما يترتب عليه ، من المصالح والفوائد. فكل ثواب ، عاجل وآجل ، فمن ثمرات الإيمان. فالنصر ، والهدى ، والعلم ، والعمل الصالح ، والسرور ، والأفراح ، والجنة ، وما اشتملت عليه ، من النعيم ـ كل ذلك ، سبب عن الإيمان. كما أن الشقاء الدنيوي ، والأخروي ، من عدم الإيمان ، أو نقصه. وأما مضرة عدم الإيمان به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيعرف بضد ما يترتب عليه الإيمان. وأن العبد لا يضر إلا نفسه ، والله تعالى ، غني عنه ، لا تضره معصية العاصين. ولهذا قال : (فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : الجميع خلقه وملكه ، وتحت تدبيره وتصريفه (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بكل شيء (حَكِيماً) في خلقه وأمره. فهو العليم بمن يستحق الهداية والغواية ، الحكيم في وضع الهداية والغواية ، موضعهما.

[١٧١] ينهى تعالى ، أهل الكتاب عن الغلو في الدين ، وهو : مجاوزة الحد ، والقدر المشروع ، إلى ما ليس بمشروع. وذلك كقول النصارى ، في غلوهم بعيسى عليه‌السلام ، ورفعه عن مقام النبوة والرسالة إلى مقام الربوبية الذي لا يليق بغير الله. فكما أن التقصير والتفريط ، من المنهيات ، فالغلو كذلك. ولهذا قال : (وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) وهذا الكلام ، يتضمن ثلاثة أشياء : أمران منهي عنهما ، وهما قول الكذب على الله ، والقول بلا علم ، في أسمائه ، وصفاته ، وأفعاله ، وشرعه ، ورسله. والثالث : مأمور وهو : قول الحق في هذه الأمور. ولما كانت هذه قاعدة عامة كلية ، وكان السياق في شأن عيسى عليه‌السلام ، نصا على قول الحق فيه ، المخالف للطريقة اليهودية والنصرانية قال : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ) أي : غاية المسيح عليه‌السلام ومنتهى ما يصل إليه من مراتب الكمال ، أعلى حالة تكون للمخلوقين ، وهي درجة الرسالة ، التي هي أعلى الدرجات ، وأجل المثوبات. وأنه (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) أي : كلمة تكلم الله بها فكان بها عيسى ، ولم يكن تلك الكلمة ، وإنما كان بها ، وهذا من باب إضافة التشريف والتكريم. وكذلك قوله : (وَرُوحٌ مِنْهُ) أي : من الأرواح التي خلقها ، وكملها بالصفات الفاضلة ، والأخلاق الكاملة. أرسل الله روحه ، جبريل عليه‌السلام ، فنفخ في فرج مريم عليها‌السلام. فحملت بإذن الله ، بعيسى عليه‌السلام. فلما بيّن حقيقة عيسى عليه‌السلام ، أمر أهل الكتاب بالإيمان به ، وبرسله ، ونهاهم أن يجعلوا الله ، ثالث ثلاثة ، أحدهم عيسى ، والثاني مريم فهذه مقالة النصارى ، قبحهم الله. فأمرهم أن ينتهوا ، وأخبر أن ذلك ، خير لهم ، لأنه الذي يتعين ، أنه سبيل النجاة ، وما سواه ، فهو طرق الهلاك. ثم نزه نفسه عن الشريك والولد فقال : (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) أي : هو المنفرد بالألوهية ، الذي لا تنبغي العبادة إلا له. (سُبْحانَهُ) أي : تنزه وتقدس (أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) لأن : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فالكل مملوكون له ، مفتقرون إليه ، فمحال أن يكون له شريك منهم ، أو ولد.

[١٧٢] ولما أخبر أن المالك للعالم العلوي والسفلي ، أخبر أنه قائم بمصالحهم الدنيوية والأخروية وحافظها ،

٢٣٢

ومجازيها فقال تعالى : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ) إلى قوله : (وَلِيًّا وَلا نَصِيراً).

[١٧٣] لما ذكر تعالى غلو النصارى في عيسى عليه‌السلام ، وذكر أنه عبده ورسوله ، ذكر هنا ، أنه لا يستنكف عن عبادة ربه ، أي : لا يمتنع عنها رغبة عنها لا هو (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ). فنزههم عن الاستنكاف ، وتنزيههم عن الاستكبار ، من باب أولى. ونفي الشيء فيه إثبات ضده. أي : فعيسى والملائكة المقربون ، قد رغبوا في عبادة ربهم ، وأحبوها وسعوا فيها ، بما يليق بأحوالهم ، فأوجب لهم ذلك الشرف العظيم ، والفوز العظيم. فلم يستنكفوا أن يكونوا عبيدا لربوبيته ، ولا لإلهيته ، بل يرون افتقارهم لذلك ، فوق كل افتقار. ولا يظن أن رفع عيسى ، أو غيره من الخلق ، فوق مرتبته ، التي أنزله الله فيها ، وترفعه عن العبادة كمالا ، بل هو النقص بعينه ، وهو محل الذم والعقاب ، ولهذا قال : (وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً) أي : فسيحشر الخلق كلهم إليه ، المستنكفين ، والمستكبرين وعباده المؤمنين ، فيحكم بينهم ، بحكمه العدل ، وجزائه الفصل. ثم فصل حكمه فيهم فقال : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي : جمعوا بين الإيمان المأمور به ، وعمل الصالحات ، من واجبات ، ومستحبات ، في حقوق الله ، وحقوق عباده. (فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) أي : الأجور التي رتبها على الأعمال ، كل بحسب إيمانه وعمله. (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) من الثواب ، الذي لم تنله أعمالهم ، ولم تصل إليه أفعالهم ، ولم يخطر على قلوبهم. ودخل في ذلك ، كل ما في الجنة ، من المآكل ، والمشارب ، والمناكح ، والمناظر ، والسرور ، ونعيم القلب والروح ، ونعيم البدن. بل يدخل في ذلك ، كل خير ، ديني ودنيوي ، رتب على الإيمان ، والعمل الصالح. (وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا) أي : عن عبادة الله تعالى (فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً) وهو سخط الله وغضبه ، والنار الموقدة ، التي تطلع على الأفئدة. (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أي : لا يجدون أحدا من الخلق ، يتولاهم ، فيحصل لهم المطلوب ، ولا من ينصرهم ، فيدفع عنهم المرهوب. بل قد تخلى عنهم ، أرحم الراحمين ، وتركهم في عذابهم خالدين. وما حكم به تعالى ، فلا راد لحكمه ، ولا مغير لقضائه.

[١٧٤] يمتن تعالى ، على سائر الناس ، بما أوصل إليهم ، من البراهين القاطعة ، والأنوار الساطعة ، ويقيم عليهم الحجة ، ويوضح لهم المحجة فقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي : حجج قاطعة على الحق ، تبينه وتوضحه ، وتبين ضده. وهذا يشمل الأدلة العقلية والنقلية ، والآيات الأفقية والنفسية (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ). وفي قوله : (مِنْ رَبِّكُمْ) ما يدل على شرف هذا البرهان وعظمته ، حيث كان من ربكم ، الذي رباكم التربية الدينية والدنيوية. فمن تربيته لكم ، التي يحمد عليها ويشكر ، أن أوصل إليكم البينات ، ليهديكم بها إلى الصراط المستقيم ، والوصول إلى جنات النعيم. (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) وهو هذا القرآن العظيم ، الذي قد اشتمل على علوم الأولين والآخرين ، والأخبار الصادقة النافعة ، والأمر بكل عدل وإحسان وخير ، والنهي عن كل ظلم وشر. فالناس في ظلمة ، إن لم يستضيئوا بأنواره ، وفي شقاء عظيم ، إن لم يقتبسوا من

٢٣٣

خيره. ولكن انقسم الناس ـ حسب الإيمان بالقرآن ، والانتفاع به ـ قسمين.

[١٧٥] (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ) أي : اعترفوا بوجوده ، واتصافه بكل وصف كامل ، وتنزيهه من كل نقص وعيب. (وَاعْتَصَمُوا بِهِ) أي : لجأوا إلى الله ، واعتمدوا عليه ، وتبرأوا من حولهم وقوتهم ، واستعانوا بربهم. (فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ) أي : فسيتغمدهم بالرحمة الخاصة ، فيوفقهم للخيرات ، ويجزل لهم المثوبات ، ويدفع عنهم البليات. (وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي : يوفقهم للعلم والعمل ومعرفة الحق والعمل به. أي : ومن لم يؤمن بالله ويعتصم به ، ويتمسك بكتابه ، منعهم من رحمته ، وحرمهم من فضله ، وخلى بينهم وبين أنفسهم ، فلم يهتدوا ، بل ضلوا ضلالا مبينا ، عقوبة لهم على تركهم الإيمان ، فحصلت لهم الخيبة والحرمان. نسأله تعالى ، العفو ، والعافية ، والمعافاة.

[١٧٦] أخبر تعالى أن الناس استفتوا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي : في الكلالة بدليل قوله : (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) وهي : الميت يموت ، وليس له ولد صلب ، ولا ولد ابن ، ولا أب ، ولا جد ، ولهذا قال : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) أي : لا ذكر ولا أنثى ، لا ولد صلب ، ولا ولد ابن. وكذلك ، ليس له والد ، بدليل أنه ورث فيه الإخوة ، والإخوة بالإجماع ، لا يرثون مع الوالد. فإذا هلك ، وليس له ولد ، ولا والد (وَلَهُ أُخْتٌ) أي : شقيقة ، أو لأب ، لا لأم ، فإنه قد تقدم حكمها. (فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ) أي : نصف متروكات أخيها ، من نقود ، وعقار ، وأثاث ، وغير ذلك ، وذلك من بعد الدين والوصية كما تقدم. (وَهُوَ) أي : أخوها الشقيق ، أو الذي للأب (يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ) ولم يقدر له إرث ، لأنه عاصب فيأخذ مالها كله ، إن لم يكن صاحب فرض ولا عاصب يشاركه ، أو ما أبقت الفروض. (فَإِنْ كانَتَا) أي الأختان (اثْنَتَيْنِ) أي : فما فوق (فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً) أي : اجتمع الذكور من الإخوة لغير أم ، مع الإناث (فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) فيسقط فرض الإناث ، ويعصبهن إخوتهن. (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) أي : يبين لكم أحكامه التي تحتاجونها ، ويوضحها ، ويشرحها لكم ، فضلا منه وإحسانا ، لكي تهتدوا ببيانه ، وتعملوا بأحكامه ، ولئلا تضلوا عن الصراط المستقيم ، بسبب جهلكم ، وعدم علمكم. (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي : عالم بالغيب والشهادة ، والأمور الماضية والمستقبلة ويعلم حاجتكم إلى بيانه ، وتعليمه ، فيعلمكم من علمه الذي ينفعكم على الدوام ، في جميع الأزمنة والأمكنة.

تم بعونه تعالى تفسير سورة النساء. فلله الحمد والشكر.

٢٣٤

سورة المائدة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين ، بما يقتضيه الإيمان ، بالوفاء بالعقود أي : بإكمالها ، وإتمامها ، وعدم نقضها ونقصها. وهذا شامل للعقود التي بين العبد وبين ربه ، من التزام عبوديته ، والقيام بها أتم قيام ، وعدم الانتقاص من حقوقها شيئا ، والتي بينه وبين الرسول بطاعته واتباعه ، والتي بينه وبين الوالدين ، والأقارب ، ببرهم ، وصلتهم ، وعدم قطيعتهم. والتي بينه وبين أصحابه من القيام بحقوق الصحبة في الغنى والفقر ، واليسر والعسر ، والتي بينه وبين الخلق من عقود المعاملات ، كالبيع ، والإجارة ، ونحوهما ، وعقود التبرعات ، كالهبة ونحوها ، والقيام بحقوق المسلمين ، التي عقدها الله بينهم في قوله : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) بل التناصر على الحق ، والتعاون عليه ، والتآلف بين المسلمين ، وعدم التقاطع. فهذا الأمر شامل لأصول الدين وفروعه ، فكلها داخلة في العقود التي أمر الله بالقيام بها. ثم قال : ـ ممتنا على عباده ـ (أُحِلَّتْ لَكُمْ) أي لأجلكم ، رحمة بكم (بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) من الإبل والبقر والغنم. بل ربما دخل في ذلك الوحش منها ، والظباء ، وحمر الوحش ونحوها ، من الصيود. واستدل بعض الصحابة بهذه الآية ، على إباحة الجنين ، الذي يموت في بطن أمه ، بعد ما تذبح. (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) تحريمه منها في قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) إلى آخر الآية. فإن هذه المذكورات ، وإن كانت من بهيمة الأنعام ، فإنها محرمة. ولما كانت إباحة بهيمة الأنعام عامة في جميع الأحوال والأوقات ، استثنى منها الصيد في حال الإحرام فقال : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) أي : أحلت لكم بهيمة الأنعام في كل حال ، إلا حيث كنتم متصفين بأنكم ، غير محلي الصيد ، وأنتم حرم ، أي : متجرئون على قتله في حال الإحرام ، فإن ذلك لا يحل لكم ، إذا كان صيدا ، كالظباء ونحوه. والصيد هو : الحيوان المأكول المتوحش. (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) أي : فمهما أراده تعالى ، حكم به حكما موافقا لحكمته ، كما أمركم بالوفاء بالعقود ، لحصول مصالحكم ودفع المضار عنكم. وأحل لكم بهيمة الأنعام ، رحمة بكم ، وحرم عليكم ما استثنى منها ، من ذوات العوارض ، من الميتة ونحوها ، صونا لكم ، واحتراما ، ومن صيد الإحرام ، احتراما للإحرام ، وإعظاما.

[٢] يقول تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) أي : محرماته ، التي أمركم بتعظيمها ، وعدم فعلها. فالنهي يشمل النهي عن فعلها ، والنهي عن اعتقاد حلها ؛ فهو يشمل النهي ، عن فعل القبيح ، وعن اعتقاده. ويدخل في ذلك ، النهي عن محرمات الإحرام ، ومحرمات الحرم. ويدخل في ذلك ما نص عليه بقوله : (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) أي : لا تنتهكوه بالقتال فيه وغيره ، من أنواع الظلم كما قال تعالى : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ). والجمهور من العلماء ، على أن القتال في الأشهر الحرم ، منسوخ بقوله تعالى : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ

٢٣٥

وَجَدْتُمُوهُمْ) وغير ذلك من العمومات ، التي فيها الأمر بقتال الكفار مطلقا ، والوعيد في التخلف عن قتالهم مطلقا. وبأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاتل أهل الطائف ، في ذي القعدة ، وهو من الأشهر الحرم. وقال آخرون : إن النهي عن القتال في الأشهر الحرم ، غير منسوخ لهذه الآية وغيرها ، مما فيه النهي عن ذلك بخصوصه. وحملوا النصوص المطلقة الواردة على ذلك ، وقال : المطلق يحمل على المقيد. وفصل بعضهم فقال : لا يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم ، وأما استدامته ، وتكميله ، إذا كان أوله في غيرها ، فإنه يجوز. وحملوا قتال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأهل الطائف على ذلك ، لأن أول قتالهم في «حنين» في «شوال». وكل هذا في القتال الذي ليس المقصود منه الدفع. فأما قتال الدفع ـ إذا ابتدأ الكفار المسلمين بالقتال ـ فإنه يجوز للمسلمين القتال ، دفعا عن أنفسهم ، في الشهر الحرام وغيره ، بإجماع العلماء. وقوله : (وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ) أي : ولا تحلوا الهدي الذي يهدى إلى بيت الله ، في حج ، أو عمرة ، أو غيرها ، من نعم وغيرها ، فلا تصدوه عن الوصول إلى محله ، ولا تأخذوه بسرقة أو غيرها ، ولا تقصروا به ، أو تحملوه ما لا يطيق ، خوفا من تلفه ، قبل وصوله إلى محله ، بل عظموه ، وعظموا من جاء به. (وَلَا الْقَلائِدَ) هذا نوع خاص من أنواع الهدي ، وهو الهدي الذي يفتل له قلائد أو عرى ، فيجعل في أعناقه ، إظهارا لشعائر الله ، وحملا للناس على الاقتداء ، وتعليما لهم للسنة ، وليعرف أنه هدي ، فيحرم ، ولهذا كان تقليد الهدي من السنّة والشعائر المسنونة. (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) أي : قاصدين له (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً) أي : من قصد هذا البيت الحرام ، وقصده فضل الله بالتجارة ، والمكاسب المباحة ، أو قصده رضوان الله ، بحجة وعمرة ، والطواف به ، والصلاة ، وغيرها من أنواع العبادات ، فلا تتعرضوا له بسوء ، ولا تهينوه ، بل أكرموه ، وعظموا الوافدين الزائرين لبيت ربكم. ودخل في هذا ، الأمر بتأمين الطرق الموصلة إلى بيت الله ، وجعل القاصدين له ، مطمئنين مستريحين ، غير خائفين على أنفسهم من القتل فما دونه ، ولا على أموالهم من المكس والنهب ونحو ذلك. وهذه الآية الكريمة مخصوصة بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا). فالمشرك ، لا يمكّن من الدخول إلى الحرم. والتخصيص في هذه الآية ، بالنهي عن التعرض لمن قصد البيت ، ابتغاء فضل الله أو رضوانه ـ يدل على أن من قصده ، ليلحد فيه بالمعاصي ، فإن من تمام احترام الحرم ، صد من هذه حاله ، عن الإفساد ببيت الله ، كما قال تعالى : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ). ولما نهاهم عن الصيد في حال الإحرام قال : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) أي : إذا حللتم من الإحرام ، بالحج والعمرة ، حل لكم الاصطياد ، وزال ذلك التحريم. والأمر بعد التحريم ، يرد الأشياء إلى ما كانت عليه من قبل. (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا) أي : لا يحملنكم بغض قوم ، وعداوتهم ، واعتداؤهم عليكم ، حيث صدوكم عن المسجد ، على الاعتداء عليهم ، طلبا للاشتفاء منهم ، فإن العبد عليه أن يلتزم أمر الله ، ويسلك طريق العدل ، ولو جني عليه ، أو ظلم ، واعتدي عليه. فلا يحل له أن يكذب على من كذب عليه ، أو يخون من خانه. (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) أي : ليعن بعضكم بعضا على البر. وهو : اسم جامع لكل من يحبه الله ويرضاه ، من الأعمال الظاهرة والباطنة ، من حقوق الله ، وحقوق الآدميين. والتقوى في هذا الموضع : اسم جامع ، لترك كل ما يكرهه الله ورسوله ، من الأعمال الظاهرة والباطنة. وكل خصلة من خصال الخير المأمور بفعلها ، أو خصلة من خصال الشر المأمور بتركها ، فإن العبد مأمور بفعلها بنفسه ، وبمعاونة غيره عليها من إخوانه المؤمنين ، بكل قول يبعث عليها ، وينشط لها ، وبكل فعل كذلك. (وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ) وهو التجري على المعاصي ، التي يأثم صاحبها ، ويجرح. (وَالْعُدْوانِ) هو : التعدي على الخلق ، في دمائهم ، وأموالهم ، وأعراضهم. فكل معصية وظلم ، يجب على العبد ، كف نفسه عنه ، ثم إعانة غيره على تركه. (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) على من عصاه ، وتجرأ على محارمه. فاحذروا المحارم ، لئلا يحل بكم عقابه العاجل والآجل.

٢٣٦

[٣] هذا الذي حولنا الله عليه في قوله : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ). واعلم أن الله تبارك وتعالى ، لا يحرم ما يحرم ، إلا صيانة لعباده ، وحماية لهم من الضرر الموجود في المحرمات ، وقد يبين للعباد ذلك ، وقد لا يبين. فأخبر أنه حرم الميتة ، والمراد بالميتة : ما فقدت حياته بغير ذكاة شرعية ، فإنها تحرم ، لضررها ، وهو احتقان الدم في جوفها ولحمها ، المضر بآكلها. وكثيرا ما تموت بعلة تكون سببا لهلاكها ، فتضر بالآكل. ويستثنى من ذلك ، ميتة الجراد ، والسمك فإنه حلال. (وَالدَّمُ) أي : المسفوح ، كما قيد في الآية الأخرى. (وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) وذلك شامل لجميع أجزائه. وإنما نص الله عليه من بين سائر الخبائث من السباع ، لأن طائفة من أهل الكتاب ، من النصارى ، يزعمون أن الله أحله لهم. أي : فلا تغتروا بهم ، بل هو محرم من جملة الخبائث. (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) أي : ذكر عليه اسم غير الله ، من الأصنام ، والأولياء ، والكواكب ، وغير ذلك من المخلوقين. فكما أن ذكر الله تعالى يطيب الذبيحة ، فذكر اسم غيره عليها ، يفيدها خبثا معنويا ، لأنه شرك بالله تعالى. (وَالْمُنْخَنِقَةُ) أي : الميتة بخنق ، بيد ، أو حبل ، أو إدخال رأسها بشيء ضيق ، فتعجز عن إخراجه ، حتى تموت. (وَالْمَوْقُوذَةُ) أي : الميتة بسبب الضرب ، بعصا ، أو حصى ، أو خشبة ، أو هدم شيء عليها ، بقصد ، أو بغير قصد. (وَالْمُتَرَدِّيَةُ) أي : الساقطة من علو ، كجبل ، أو جدار ، أو سطح ونحوه ، فتموت بذلك. (وَالنَّطِيحَةُ) وهي التي تنطحها غيرها فتموت. (وَما أَكَلَ السَّبُعُ) من ذئب ، أو أسد ، أو نمر ، أو من الطيور التي تفترس الصيود ، فإنها إذا ماتت بسبب أكل السبع ، فإنها لا تحل. وقوله : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) راجع لهذه المسائل ، من منخنقة ، وموقوذة ، ومتردية ، ونطيحة ، وأكيلة سبع ، إذا ذكيت وفيها حياة مستقرة لتتحقق الذكاة فيها. ولهذا قال الفقهاء : «لو أبان السبع أو غيره ، حشوتها ، أو قطع حلقومها ، كان وجود حياتها ، كعدمها ، لعدم فائدة الذكاة فيها». وبعضهم لم يعتبر فيها إلا وجود الحياة ، فإذا ذكاها وفيها حياة ، حلت ، ولو كانت مبانة الحشوة ، وهو ظاهر الآية الكريمة. (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) أي : وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام. ومعنى الاستقسام : طلب ما يقسم لكم ، ويقدر بها. وهي قداح ثلاثة ، كانت تستعمل في الجاهلية ، مكتوب على أحدها «افعل» وعلى الثاني «لا تفعل» والثالث «غفل» لا كتابة فيه. فإذا همّ أحدهم بسفر ، أو عرس أو نحوهما ، أجال تلك القداح المتساوية في الجرم ، ثم أخرج واحدا منها. فإن خرج المكتوب عليه «افعل» مضى في أمره. وإن ظهر المكتوب عليه «لا تفعل» لم يفعل ولم يمض في شأنه. وإن ظهر الآخر ، الذي لا شيء عليه ، أعادها حتى يخرج أحد القدحين ، فيعمل به. فحرّم الله عليهم الذي في هذه الصورة ، وما يشبهها ، وعوضهم عنه ، بالاستخارة لربهم ، في جميع أمورهم. (ذلِكُمْ فِسْقٌ) الإشارة لكل ما تقدم من المحرمات ، التي حرمها الله ، صيانة لعباده ، وأنها فسق ، أي : خروج عن طاعته ، إلى طاعة الشيطان. ثم امتنّ على عباده بقوله : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) الآية. واليوم المشار إليه ، يوم عرفة ، إذ أتم الله دينه ، ونصر عبده ورسوله ، وانخذل أهل الشرك انخذالا بليغا ، بعد ما كانوا حريصين على رد المؤمنين عن دينهم ، طامعين في ذلك. فلما رأوا عز الإسلام وانتصاره وظهوره ، يئسوا كل اليأس من المؤمنين ، أن يرجعوا إلى دينهم ، وصاروا يخافون منهم ويخشون. ولهذا في هذه السنة ، التي حج فيها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سنة عشر حجة الوداع ـ لم يحجج فيها مشرك ، ولم يطف بالبيت عريان. ولهذا قال : (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) أي : فلا تخشوا المشركين ، واخشوا الله ، الذي نصركم عليهم ، وخذلهم ، ورد كيدهم في نحورهم. (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) بتمام النصر ، وتكميل الشرائع ، الظاهرة والباطنة ، الأصول والفروع. ولهذا كان الكتاب والسنّة ، كافيين كل الكفاية ، في أحكام الدين ، وأصوله وفروعه. فكل متكلف يزعم ، أنه لا بد للناس في معرفة عقائدهم وأحكامهم ، إلى علوم ، غير علم الكتاب والسنّة ، من علم الكلام وغيره ، فهو جاهل ، مبطل في دعواه ، قد زعم أن الدين لا يكمل ، إلا بما قاله ، ودعا إليه. وهذا من أعظم الظلم والتجهيل لله ولرسوله. (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) الظاهرة والباطنة (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) أي : اخترته واصطفيته لكم دينا ، كما ارتضيتكم له.

٢٣٧

فقوموا به ، شكرا لربكم ، واحمدوا الذي منّ عليكم ، بأفضل الأديان وأشرفها وأكملها. (فَمَنِ اضْطُرَّ) أي : ألجأته الضرورة إلى أكل شيء من المحرمات السابقة ، في قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ فِي مَخْمَصَةٍ) أي : مجاعة (غَيْرَ مُتَجانِفٍ) أي : مائل (لِإِثْمٍ) بأن لا يأكل حتى يضطر ، ولا يزيد في الأكل على كفايته. (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) حيث أباح له الأكل في هذه الحال. ورحمه ، بما يقيم به بنيته ، من غير نقص يلحقه في دينه.

[٤] يقول تعالى لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ) من الأطعمة؟ (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) وهي كل ما فيه نفع أو لذة ، من غير ضرر بالبدن ، ولا بالعقل. فدخل في ذلك ، جميع الحبوب ، والثمار ، التي في القرى والبراري. ودخل في ذلك ، جميع حيوانات البر ، إلا ما استثناه الشارع ، كالسباع ، والخبائث منها. ولهذا دلت الآية بمفهومها ، على تحريم الخبائث ، كما صرح به في قوله تعالى : (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ). (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ) أي : أحل لكم ما علمتم من الجوارح إلى آخر الآية. دلت هذه الآية على أمور : أحدها : لطف الله بعباده ، ورحمته لهم ، حيث وسع عليهم طرق الحلال ، وأباح لهم ، ما لم يذكوه ، مما صادته الجوارح. والمراد بالجوارح : الكلاب ، والفهود ، والصقر ، ونحو ذلك ، مما يصيد بنابه ، أو بمخلبه. الثاني : أنه يشترط ، أن تكون معلمة ، بما يعد في العرف تعليما ، بأن يسترسل ، إذا أرسل ، وينزجر إذا زجر ، وإذا أمسك ، لم يأكل ، ولهذا قال : (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) أي : أمسكن من الصيد لأجلكم. وما أكل منه الجارح فإنه لا يعلم أنه أمسكه على صاحبه ، ولعله أن يكون أمسكه على نفسه. الثالث : اشتراط أن يجرحه الكلب ، أو الطير ونحوهما ، لقوله : (مِنَ الْجَوارِحِ) مع ما تقدم من تحريم المنخنقة. فلو خنقه الكلب أو غيره ، أو قتله بثقله ، لم يبح. هذا بناء على أن الجوارح اللاتي يجرحن الصيد ، بأنيابها ، أو مخالبها. والمشهور أن الجوارح ، بمعنى الكواسب أي : المحصلات للصيد ، والمدركات له. فلا يكون فيها ـ على هذا ـ دلالة. والله أعلم. الرابع : جواز اقتناء كلب الصيد ، كما ورد في الحديث الصحيح ، مع أن اقتناء الكلب محرم لأن من لازم إباحة صيده وتعليمه ، جواز اقتنائه. الخامس : طهارة ما أصابه فم الكلب ، من الصيد ، لأن الله أباحه ، ولم يذكر له غسلا ، فدل على طهارته. السادس : فيه فضيلة العلم ، وأن الجارح المعلم ـ بسبب العلم ـ يباح صيده ، والجاهل بالتعليم ، لا يباح صيده. السابع : أن الاشتغال بتعليم الكلب أو الطير أو نحوهما ، ليس مذموما ، وليس من العبث والباطل. بل هو أمر مقصود ، لأنه وسيلة لحل صيده ، والانتفاع به. الثامن : فيه حجة لمن أباح بيع كلب الصيد ، قال : لأنه قد لا يحصل له إلا بذلك. التاسع : فيه اشتراط التسمية عند إرسال الجارح ، وأنه إن لم يسم الله متعمدا ، لم يبح ما قتل الجارح. العاشر : أنه يجوز أكل ما صاده الجارح ، سواء قتله الجارح ، أم لا. وأنه إن أدركه صاحبه ، وفيه حياة مستقرة ، فإنه لا يباح إلا بها. ثم حث تعالى على تقواه ، وحذر من إتيان الحساب في يوم القيامة ، وأن ذلك أمر قد دنا ، واقترب فقال : (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ).

[٥] كرر تعالى إحلال الطيبات ، لبيان الامتنان ، ودعوة للعباد إلى شكره والإكثار من ذكره ، حيث أباح لهم ما

٢٣٨

تدعوهم الحاجة إليه ، ويحصل لهم الانتفاع به من الطيبات. (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) أي : ذبائح اليهود والنصارى ، حلال لكم ـ يا معشر المسلمين ـ دون باقي الكفار ، فإن ذبائحهم لا تحل للمسلمين. وذلك لأن أهل الكتاب ، ينتسبون إلى الأنبياء والكتب. وقد اتفق الرسل كلهم ، على تحريم الذبح لغير الله ، لأنه شرك. فاليهود والنصارى ، يتدينون بتحريم الذبح لغير الله ، فلذلك أبيحت ذبائحهم ، دون غيرهم. والدليل على أن المراد بطعامهم ذبائحهم ، أن الطعام الذي ليس من الذبائح ، كالحبوب ، والثمار ، ليس لأهل الكتاب فيه خصوصية ، بل يباح ذلك ، ولو كان من طعام غيرهم. وأيضا ، فإنه أضاف الطعام إليهم. فدل ذلك ، على أنه كان طعاما ، بسبب ذبحهم. ولا يقال : إن ذلك للتمليك ، وأن المراد : الطعام الذي يملكون. لأن هذا ، لا يباح على وجه الغصب ، ولا من المسلمين. (وَطَعامُكُمْ) أيها المسلمون (حِلٌّ لَهُمْ) أي : يحل لكم أن تطعموهم إياه. (وَ) أحل لكم (الْمُحْصَناتُ) أي : الحرائر العفيفات (مِنَ الْمُؤْمِناتِ) والحرائر العفيفات (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي : من اليهود والنصارى. وهذا مخصص لقوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ). ومفهوم الآية ، أن الأرقاء من المؤمنات ، لا يباح نكاحهن للأحرار ، وهو كذلك. وأما الكتابيات ، فعلى كل حال ، لا يبحن ، ولا يجوز نكاحهن للأحرار مطلقا ، لقوله تعالى : (مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ). وأما المسلمات ـ إذا كن رقيقات ـ فإنه لا يجوز للأحرار نكاحهن إلا بشرطين ، عدم الطول ، وخوف العنت. وأما الفاجرات ، غير العفيفات عن الزنا ، فلا يباح نكاحهن ، سواء كن مسلمات ، أو كتابيات ، حتى يتبن لقوله تعالى : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) الآية. وقوله : (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي : أبحنا لكم نكاحهن ، إذا أعطيتموهن مهورهن. فمن عزم على أن لا يؤتيها مهرها ، فإنها لا تحل له. وأمر بإيتائها ، إذا كانت رشيدة ، تصلح للإيتاء ، وإلا أعطاه الزوج لوليها. وإضافة الأجور إليهن ، دليل على أن المرأة ، تملك جميع مهرها ، وليس لأحد منه شيء ، إلا ما سمحت به لزوجها ، أو وليها أو غيرهما. (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) أي : زانين مع كل أحد (وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ). وهو : الزنا مع العشيقات لأن الزنا في الجاهلية ، منهم من يزني مع من كان ، فهذا هو المسافح. ومنهم من يزني مع خدنه ومحبه. فأخبر الله تعالى أن ذلك كله ، ينافي العفة. وأن شروط التزوج ، أن يكون الرجل عفيفا عن الزنا. وقوله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) أي : ومن كفر بالله تعالى ، وما يجب الإيمان به ، من كتبه ورسله ، أو شيء من الشرائع ، فقد حبط عمله ، بشرط أن يموت على كفره كما قال تعالى : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي : الذين خسروا أنفسهم ، وأموالهم ، وأهليهم يوم القيامة وحصلوا على الشقاوة الأبدية.

[٦] وهذه آية عظيمة ، قد اشتملت على أحكام كثيرة ، نذكر منها ، ما يسره الله وسهله. أحدها : أن هذه المذكورات فيها امتثالها ، والعمل بها من لوازم الإيمان ، الذي لا يتم إلا به ، لأنه صدرها بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ

٢٣٩

آمَنُوا إِذا) إلى آخرها. أي : يا أيها الذين آمنوا ، اعملوا بمقتضى إيمانكم ، بما شرعناه لكم. والثاني : الأمر بالقيام بالصلاة لقوله : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ). والثالث : الأمر بالنية للصلاة ، لقوله : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) أي : بقصدها ونيتها. الرابع : اشتراط الطهارة ، لصحة الصلاة ، لأن الله أمر بها عند القيام إليها ، والأصل في الأمر ، الوجوب. الخامس : أن الطهارة لا تجب بدخول الوقت ، وإنما عند إرادة الصلاة. السادس : أن كل ما يطلق عليه اسم الصلاة ، في الفرض ، والنفل ، وفرض الكفاية ، وصلاة الجنازة ، تشترط له الطهارة ، حتى السجود المجرد عند كثير من العلماء ، كسجود التلاوة ، والشكر. السابع : الأمر بغسل الوجه ، وهو : ما تحصل به المواجهة ، من منابت شعر الرأس المعتاد ، إلى ما انحدر من اللحيين والذقن ، طولا. ومن الأذن إلى الأذن ، عرضا. ويدخل فيه المضمضة والاستنشاق ، بالسنّة ، ويدخل فيه ، الشعور التي فيه. لكن إن كانت خفيفة ، فلا بد من إيصال الماء إلى البشرة. وإن كانت كثيفة ، اكتفي بظاهرها. الثامن : الأمر بغسل اليدين ، وأن حدهما إلى المرفقين. و «إلى» كما قال جمهور المفسرين ، بمعنى «مع» كقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ). ولأن الواجب لا يتم إلا بغسل جميع المرفق. التاسع : الأمر بمسح الرأس. العاشر : أنه يجب مسح جميعه ، لأن الباء ليست للتبعيض ، وإنما هي للملاصقة وأنه يعمم المسح بجميع الرأس. الحادي عشر : أنه يكفي المسح كيفما كان ـ بيديه ، أو إحداهما ، أو خرقة ، أو خشبة ، أو نحوهما ، لأن الله أطلق المسح ، ولم يقيده بصفة ، فدل ذلك ، على إطلاقه. الثاني عشر : أن الواجب المسح. فلو غسل رأسه ، ولم يمر يده عليه ، لم يكف ، لأنه لم يأت بما أمر الله به. الثالث عشر : الأمر بغسل الرجلين إلى الكعبين ، ويقال فيهما ما يقال في اليدين. الرابع عشر : فيها الرد على الرافضة ، على قراءة الجمهور بالنصب. وأنه لا يجوز مسحهما ما دامتا مكشوفتين. الخامس عشر : فيه الإشارة إلى مسح الخفين ، على قراءة الجر في (وَأَرْجُلَكُمْ). وتكون كل من القراءتين ، محمولة على معنى. فعلى قراءة النصب فيها ، غسلهما ، إن كانت مكشوفتين. وعلى قراءة الجر فيها ، مسحهما إذا كانتا مستورتين بالخف. السادس عشر : الأمر بالترتيب في الوضوء ، لأن الله تعالى ذكرها مرتبة. ولأنه أدخل ممسوحا ـ وهو الرأس ـ بين مغسولين ، ولا يعلم لذلك فائدة ، غير الترتيب. السابع عشر : أن الترتيب ، مخصوص بالأعضاء الأربعة ، المسميات في هذه الآية. وأما الترتيب بين المضمضة والاستنشاق والوجه ، أو بين اليمنى واليسرى من اليدين والرجلين ، فإن ذلك غير واجب. بل يستحب تقديم المضمضة والاستنشاق ، على غسل الوجه. وتقديم اليمنى ، على اليسرى من اليدين والرجلين. وتقديم مسح الرأس ، على مسح الأذنين. الثامن عشر : الأمر بتجديد الوضوء ، عند كل صلاة ، لتوجد صورة المأمور به. التاسع عشر : الأمر بالغسل من الجنابة. العشرون : أنه يجب تعميم الغسل للبدن ، لأن الله أضاف التطهر للبدن ، ولم يخصصه بشيء دون شيء. الحادي والعشرون : الأمر بغسل ظاهر الشعر وباطنه في الجنابة. الثاني والعشرون : أنه يندرج الحدث الأصغر ، في الحدث الأكبر ، ويكفي من هما عليه ، أن ينوي ، ثم يعمم بدنه ، لأن الله لم يذكر إلا التطهر ، ولم يذكر أنه يعيد الوضوء. الثالث والعشرون : أن الجنب يصدق على من أنزل المني ، يقظة أو مناما ، أو جامع ولو لم ينزل. الرابع والعشرون : أن من ذكر أنه احتلم ، ولم يجد بللا ، فإنه لا غسل عليه ، لأنه لم تتحقق منه الجنابة الخامس والعشرون : ذكر منة الله تعالى على العباد ، بمشروعيته التيمم. السادس والعشرون : أن من أسباب جواز التيمم ، وجود المرض ، الذي يضره غسله بالماء ، فيجوز له التيمم. السابع والعشرون : أن من جملة أسباب جوازه ، السفر والإتيان من البول والغائط ، إذا عدم الماء. فالمرض يجوز التيمم مع وجود الماء ، لحصول التضرر به. وباقيها يجوزه العدم للماء ، ولو كان في الحضر. الثامن والعشرون : أن الخارج من السبيلين ، من بول وغائط ، ينقض الوضوء. التاسع والعشرون : استدل بها من قال : لا ينقض الوضوء إلا هذان الأمران. فلا ينتقض بلمس الفرج ولا بغيره. الثلاثون : استحباب التكنية عمّا يستقذر التلفظ به ، لقوله تعالى : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ). الحادي والثلاثون : أن لمس المرأة بلذة وشهوة ،

٢٤٠