تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي

تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

المؤلف:

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ١١٣٥

[١٥] ولهذا جوزي على ذلك ، بأن حجب عن الله ، كما حجب قلبه عن آيات الله.

[١٦] (ثُمَّ إِنَّهُمْ) مع هذه العقوبة البليغة (لَصالُوا الْجَحِيمِ).

[١٧] ثم يقال لهم توبيخا وتقريعا (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ). فذكر لهم ثلاثة أنواع من العذاب : عذاب الجحيم ، وعذاب التوبيخ واللوم ، وعذاب الحجاب عن رب العالمين ، المتضمن لسخطه وغضبه عليهم ، وهو أعظم عليهم من عذاب النار. ودل مفهوم الآية ، على أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة في الجنة ، ويتلذذون بالنظر إليه أعظم من سائر اللذات ، ويبتهجون بخطابه ، ويفرحون بقربه ، كما ذكر الله ذلك في عدة آيات من القرآن ، وتواتر فيه النقل عن رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفي هذه الآيات ، التحذير من الذنوب ، فإنها ترين على القلب وتغطيه ، شيئا فشيئا. حتى ينطمس نوره ، وتموت بصيرته ، فتنقلب عليه الحقائق ، فيرى الباطل حقا ، والحق باطلا ، وهذا من أعظم عقوبات الذنوب.

[١٨] لما ذكر أن كتاب الفجار في أسفل الأمكنة وأضيقها ، ذكر أن كتاب الأبرار في أعلاها ، وأوسعها ، وأفسحها. وأن كتابهم (كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) (٢١) من الملائكة الكرام ، وأرواح الأنبياء ، والصديقين والشهداء ، وينوّه الله بذكرهم في الملأ الأعلى. و «عليون» اسم لأعلى الجنة. فلما ذكر كتابهم ، ذكر أنهم في نعيم ، وهو اسم جامع لنعيم القلب ، والروح ، والبدن.

[٢٣] (عَلَى الْأَرائِكِ) ، أي : على السرر المزينة بالفرش الحسان. (يَنْظُرُونَ) إلى ما أعد الله لهم من النعيم ، وينظرون إلى وجه ربهم الكريم.

[٢٤] (تَعْرِفُ) أيها الناظر (فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) ، أي : بهاءه ونضارته ورونقه. فإن توالي اللذات ، والمسرات ، والأفراح ، يكسب الوجه نورا ، وحسنا ، وبهجة.

[٢٥] (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ) وهو من أطيب ما يكون من الأشربة وألذها. (مَخْتُومٍ) ذلك الشراب

[٢٦] (خِتامُهُ مِسْكٌ). يحتمل أن المراد مختوم عن أن يداخله شيء ينقص لذته ، أو يفسد طعمه ، وذلك الختام ، الذي ختم به مسك. ويحتمل أن المراد أنه الذي يكون في آخر الإناء ، الذي يشربون منه الرحيق حثالة ، وهي المسك الأذفر. فهذا الكدر منه ، الذي جرت العادة في الدنيا ، أنه يراق ، يكون في الجنة بهذه المثابة. (وَفِي ذلِكَ) النعيم المقيم ، الذي لا يعلم حسنه ومقداره إلا الله. (فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) ، أي : فليتسابقوا في المبادرة إليه بالأعمال الموصلة إليه ، فهذا أولى ما بذلت فيه نفائس الأنفاس ، وأحرى ما تزاحمت للوصول إليه فحول الرجال.

[٢٧ ـ ٢٨] (وَ) هذا الشراب (مِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) (٢٨) صرفا وهي أعلى أشربة الجنة على الإطلاق ، فلذلك كانت خالصة للمقربين ، الذين هم أعلى الخلق منزلة ، وممزوجة لأصحاب اليمين ، أي : مخلوطة بالرحيق وغيره من الأشربة اللذيذة.

[٢٩] لما ذكر تعالى جزاء المجرمين ، وجزاء المحسنين ، وذكر ما بينهما من التفاوت العظيم ، أخبر أن المجرمين كانوا في الدنيا ، يسخرون بالمؤمنين ، ويستهزئون بهم ، ويضحكون منهم ، فيتغامزون بهم ، عند مرورهم عليهم ، احتقارا لهم وازدراء ، ومع هذا تراهم مطمئنين ، لا يخطر الخوف على بالهم.

[٣١] (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ) صباحا ومساء (انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) ، أي : مسرورين مغتبطين. وهذا أشد ما يكون من الاغترار ، أنهم جمعوا بين غاية الإساءة ،

١١٠١

مع الأمن في الدنيا ، حتى كأنهم قد جاءهم كتاب وعهد من الله ، أنهم من أهل السعادة ، وقد حكموا لأنفسهم ، أنهم أهل الهدى ، وأن المؤمنين ضالون ، افتراء على الله ، وتجرؤا على القول عليه بلا علم. قال تعالى :

[٣٣] (وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ) (٣٣) ، أي : وما أرسلوا وكلاء على المؤمنين ، ملزمين بحفظ أعمالهم ، حتى يحرصوا على رميهم بالضلال ، وما هذا منهم ، إلا تعنت وعناد وتلاعب ، ليس له مستند ولا برهان ، ولهذا كان جزاؤهم في الآخرة ، من جنس عملهم.

[٣٤] قال تعالى : (فَالْيَوْمَ) ، أي : يوم القيامة ، (الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) حين يرونهم في غمرات العذاب يتقلبون ، وقد ذهب عنهم ما كانوا يفترون.

[٣٥] والمؤمنون في غاية الراحة والطمأنينة (عَلَى الْأَرائِكِ) وهي السرر المزينة. (يَنْظُرُونَ) إلى ما أعد الله لهم من النعيم ، وينظرون إلى وجه ربهم الكريم.

[٣٦] (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) (٣٦) ، أي : هل جوزوا من جنس عملهم؟ فكما ضحكوا في الدنيا من المؤمنين ، ورموهم بالضلال ، ضحك المؤمنون منهم في الآخرة ، حين رأوهم في العذاب والنكال ، الذي هو عقوبة الغي والضلال. نعم ثوبوا ما كانوا يفعلون ، عدلا من الله ، وحكمة ، والله عليم حكيم.

تفسير سورة الإنشقاق

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] يقول تعالى مبينا لما يكون في يوم القيامة من تغير الأجرام العظام : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) (١) ، أي : انفطرت وتمايز بعضها من بعض ، وانتثرت نجومها ، وخسف شمسها وقمرها.

[٢] (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) ، أي : استمعت لأمره ، وألقت سمعها ، وأصاخت لخطابه. (وَحُقَّتْ) ، أي : حق لها ذلك ، فإنها مسخرة ، مدبرة ، تحت مسخر ملك عظيم لا يعصى أمره ، ولا يخالف حكمه.

[٣] (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) (٣) ، أي : رجفت وارتجت ، ونسفت عليها جبالها ، ودك ما عليها من بناء ومعلم ، فسويت ، ومدها الله مد الأديم ، حتى صارت واسعة جدا ، تسع أهل الموقف على كثرتهم ، فتصير قاعا صفصفا ، لا ترى فيها عوجا ، ولا أمتا.

[٤] (وَأَلْقَتْ ما فِيها) من الأموات والكنوز. (وَتَخَلَّتْ) منهم ، فإنه ينفخ في الصور فتخرج الأموات من الأجداث إلى وجه الأرض ، وتخرج الأرض كنوزها ، حتى تكون كالأسطوان العظيم ، يشاهده الخلق ويتحسرون على ما هم فيه يتنافسون.

[٥ ـ ٦] (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) (٦) أي : إنك ساع إلى الله ، وعامل بأوامره ونواهيه ، ومتقرب إليه إما بالخير ، وإما

١١٠٢

بالشر ، ثم تلاقي الله يوم القيامة فلا تعدم منه جزاء بالفضل أو العدل ، بالفضل إن كنت سعيدا ، وبالعقوبة العادلة إن كنت شقيا.

[٧] ولهذا ذكر تفضيل الجزاء ، فقال : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) (٧) ، وهم أهل السعادة.

[٨] (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) (٨) وهو العرض اليسير على الله ، فيقرره الله بذنوبه ، حتى إذا ظن العبد أنه قد هلك ، قال الله تعالى : «إني قد سترتها عليك في الدنيا ، وأنا أسترها لك اليوم».

[٩] (وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ) في الجنة. (مَسْرُوراً) لأنه قد نجا من العذاب وفاز بالثواب.

[١٠] (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ) (١٠) ، أي : بشماله من وراء ظهره.

[١١] (فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً) (١١) من الخزي والفضيحة ، وما يجد في كتابه من الأعمال التي قدمها ولم يتب منها.

[١٢ ـ ١٣] (وَيَصْلى سَعِيراً) (١٢) ، أي : تحيط به السعير من كل جانب ويقبل على عذابها ، وذلك (إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً) (١٣) لا يخطر البعث على باله ، وقد أساء ، ولا يظن أنه راجع إلى ربه وموقوف بين يديه.

[١٥] (بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) (١٥) فلا يحسن أن يتركه سدى لا يؤمر ولا ينهى ولا يثاب ولا يعاقب.

[١٦] أقسم في هذا الموضع بآيات الليل ، فأقسم بالشفق الذي هو بقية نور الشمس ، الذي هو مفتتح الليل.

[١٧] (وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) (١٧) ، أي : احتوى عليه من حيوانات وغيرها.

[١٨] (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) (١٨) ، أي : امتلأ نورا بإبداره ، وذلك أحسن ما يكون وأكثر منافع ، والمقسم عليه قوله : (لَتَرْكَبُنَ) ، أي : أيها الناس (طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) ، أي : أطوارا متعددة وأحوالا متباينة من النطفة إلى العلقة ، إلى المضغة ، إلى نفخ الروح. ثم يكون وليدا وطفلا ومميزا ، ثم يجري عليه قلم التكليف ، والأمر والنهي ، ثم يموت بعد ذلك ، ثم يبعث ويجازى بأعماله. فهذه الطبقات المختلفة الجارية على العبد ، دالة على أن الله وحده هو المعبود ، الموحد ، المدبر لعباده ، بحكمته ورحمته ، وأن العبد فقير ، عاجز ، تحت تدبير العزيز الرحيم.

[٢١] ومع هذا ، فكثير من الناس لا يؤمنون (وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) (٢١) ، أي : لا يخضعون للقرآن ، ولا ينقادون لأوامره ، ونواهيه.

[٢٢] (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ) (٢٢) ، أي : يعاندون الحق بعد ما تبين ، فلا يستغرب عدم إيمانهم وانقيادهم للقرآن ، فإن المكذب بالحق عنادا ، لا حيلة فيه.

[٢٣] (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) (٢٣) ، أي : بما يعملونه وينوونه سرا ، فالله يعلم سرهم وجهرهم ، وسيجازيهم بأعمالهم ، ولهذا قال :

[٢٤] (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٢٤) ، وسميت البشارة بشارة لأنها تؤثر في البشرة سرورا أو غما. فهذه حال أكثر الناس ، التكذيب بالقرآن ، وعدم الإيمان به.

[٢٥] (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (٢٥) ومن الناس فريق هداهم الله ، فآمنوا بالله ، وقبلوا ما جاءتهم به الرسل ، فآمنوا وعملوا الصالحات. فهؤلاء لهم أجر غير ممنون ، أي : غير مقطوع ، بل هو أجر دائم مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، والحمد لله. تم تفسير سورة الانشقاق.

١١٠٣

سورة البروج

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) (١) ، أي : ذات المنازل ، المشتملة على منازل الشمس والقمر ، والكواكب المنتظمة في سيرها ، على أكمل ترتيب ونظام دال على كمال قدرة الله ورحمته ، وسعة علمه وحكمته.

[٢] (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) (٢) وهو يوم القيامة ، الذي وعد الله الخلق أن يجمعهم فيه ، ويضم فيه أولهم وآخرهم ، وقاصيهم ودانيهم ، الذي لا يمكن أن يتغير ، ولا يخلف الله الميعاد.

[٣] (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) (٣) وشمل هذا ، كل من اتصف بهذا الوصف ، أي مبصر ومبصر ، وحاضر ومحضور ، وراء ومرئي. والمقسم عليه ، ما تضمنه هذا القسم ، من آيات الله الباهرة ، وحكمه الظاهرة ، ورحمته الواسعة.

[٤] وقيل : إن المقسم عليه قوله : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) (٤) ، وهذا دعاء عليهم بالهلاك. و «الأخدود» : الحفر التي تحفر في الأرض. وكان أصحاب الأخدود هؤلاء ، قوما كافرين ، ولديهم قوم مؤمنون ، فراودوهم على الدخول في دينهم ، فامتنع المؤمنون من ذلك ، فشقّ الكافرون أخدودا في الأرض ، وقذفوا فيها النار ، وقعدوا حولها ، وفتنوا المؤمنين ، وعرضوهم عليها. فمن استجاب لهم أطلقوه ، ومن استمر على الإيمان ، قذفوه في النار ، وهذا غاية المحاربة لله ولحزبه المؤمنين ، ولهذا لعنهم الله ، وأهلكهم ، وتوعدهم ، فقال : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) (٤).

[٥ ـ ٧] ثم فسر الأخدود بقوله : (النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) (٧). وهذا من أعظم ما يكون من التجبر وقساوة القلب ، لأنهم جمعوا بين الكفر بآيات الله ومعاندتها ، ومحاربة أهلها ، وتعذيبهم بهذا العذاب ، الذي تنفطر منه القلوب.

[٨] وحضورهم إياهم عند إلقائهم فيها ، والحال أنهم ما نقموا من المؤمنين إلا حالة يمدحون عليها ، وبها سعادتهم ، وهي : أنهم كانوا يؤمنون (بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) ، أي : الذي له العزة ، التي قهر بها كل شيء ، وهو حميد في أقواله ، وأفعاله ، وأوصافه.

[٩] (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خلقا وعبيدا ، يتصرف فيهم بما شاء. (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) علما وسمعا وبصرا. فهلا خاف هؤلاء المتمردون عليه ، أن يأخذهم العزيز المقتدر ، أو ما علموا كلهم أنهم مماليك لله ، ليس لأحد على أحد سلطة ، من دون إذن المالك؟ أو خفي عليهم أن الله محيط بأعمالهم ، مجازيهم عليها؟ كلا إن الكافر في غرور ، والجاهل في عمى وضلال عن سواء السبيل.

[١٠] ثم أوعدهم ووعدهم ، وعرض عليهم التوبة ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) (١٠) ، أي : العذاب الشديد المحرق. قال الحسن رحمه‌الله : انظروا إلى هذا الكرم والجود ، قتلوا أولياءه وأهل طاعته ، وهو يدعوهم إلى التوبة. ولما ذكر عقوبة الظالمين ، ذكر ثواب المؤمنين ، فقال :

[١١] (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بقلوبهم (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بجوارحهم (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) الذي حصل

١١٠٤

لهم الفوز ، برضا الله ، ودار كرامته.

[١٢] (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) (١٢) ، أي : إن عقوبته لأهل الجرائم والذنوب العظام ، لقوية شديدة ، وهو للظالمين بالمرصاد. قال الله تعالى : (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (١٠٢).

[١٣] (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) (١٣) ، أي :

هو المنفرد بإبداء الخلق وإعادته ، فلا يشاركه في ذلك مشارك.

[١٤] (وَهُوَ الْغَفُورُ) الذي يغفر الذنوب جميعها ، لمن تاب ، ويعفو عن السيئات ، لمن استغفره وأناب. (الْوَدُودُ) الذي يحبه أحبابه ، محبة لا يشبهها شيء. فكما أنه لا يشابهه شيء في صفات الجلال والجمال ، والمعاني والأفعال ، فمحبته في قلوب خواص خلقه ، التابعة لذلك ، لا يشبهها شيء من أنواع المحاب. ولهذا كانت محبته أصل العبودية ، وهي المحبة التي تتقدم جميع المحاب وتغلبها ، وإن لم يكن غيرها تبعا لها ، كانت عذابا على أهلها. وهو تعالى الودود ، الوادّ لأحبابه ، كما قال تعالى : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) ، والمودة هي المحبة الصافية. وفي هذا سر لطيف ، حيث قرن «الودود» بالغفور ، ليدل ذلك على أن أهل الذنوب ، إذا تابوا إلى الله وأنابوا ، غفر لهم ذنوبهم ، وأحبهم ، فلا يقال : تغفر ذنوبهم ، ولا يرجع إليهم الود ، كما قال بعض الظالمين. بل الله أفرح بتوبة عبده حين يتوب ، من رجل على راحلته ، عليها طعامه وشرابه ، وما يصلحه ، فأضلها في أرض فلاة مهلكة ، فأيس منها ، فاضطجع في ظل شجرة ينتظر الموت. فبينما هو على تلك الحال ، إذا راحلته على رأسه ، فأخذ بخطامها ، فالله أعظم فرحا بتوبة العبد ، من هذا براحلته ، وهذا أعظم فرح يقدر. فلله الحمد والثناء ، وصفو الوداد ، ما أعظم بره ، وأكثر خيره ، وأغزر إحسانه ، وأوسع امتنانه.

[١٥] (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) (١٥) ، أي : صاحب العرش العظيم ، الذي من عظمته ، أنه وسع السماوات والأرض ، والكرسي. فهي بالنسبة إلى العرش ، كحلقة ملقاة في فلاة ، بالنسبة لسائر الأرض ، وخص الله العرش بالذكر لعظمته ، ولأنه أخص المخلوقات بالقرب منه ، وهذا على قراءة الجر ، يكون «المجيد» نعتا للعرش. وأما على قراءة الرفع ، فإنه يكون نعتا لله ، والمجد سعة الأوصاف وعظمتها.

[١٦] (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (١٦) ، أي : مهما أراد شيئا فعله ، إذا أراد شيئا قال له كن فيكون ، وليس أحد فعالا لما يريد إلا الله. فإن المخلوقات ، ولو أرادت شيئا ، فإنه لا بد لإرادتها من معاون وممانع ، والله لا معاون لإرادته ، ولا ممانع له ، مما أراد.

[١٧ ـ ١٨] ثم ذكر من أفعاله الدالة على صدق ما جاءت به رسله ، فقال : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) (١٨) وكيف كذبوا المرسلين ، فجعلهم من المهلكين.

[١٩] (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ) (١٩) أي : لا يزالون مستمرين على التكذيب والعناد ، لا تنفع فيهم الآيات ، ولا تجدي لديهم العظات.

[٢٠] (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) (٢٠) قد أحاط بهم علما وقدرة ، كقوله : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) (١٤). ففيه الوعيد الشديد للكافرين ، من عقوبة من هم في قبضته ، وتحت تدبيره.

[٢١] (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) (٢١) ، أي : وسيع المعاني عظيمها ، كثير الخير والعلم.

[٢٢] (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (٢٢) من التغيير والزيادة والنقص ، ومحفوظ من الشياطين ، وهو : اللوح المحفوظ الذي قد أثبت الله فيه

١١٠٥

كل شيء. وهذا يدل على جلالة القرآن وجزالته ، ورفعة قدره عند الله تعالى ، والله أعلم.

سورة الطارق

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] يقول الله تعالى : (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) (١). ثم فسر الطارق بقوله :

[٣] (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) (٣) ، أي : المضيء ، الذي يثقب نوره ، فيخرق السماوات ، فينفذ حتى يرى في الأرض ، والصحيح أنه اسم جنس ، يشمل سائر النجوم الثواقب. وقد قيل : إنه «زحل» الذي يخرق السماوات السبع وينفذها ، فيرى منها. وسمي طارقا ، لأنه يطرق ليلا ، والمقسم عليه قوله :

[٤] (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) (٤) يحفظ عليها أعمالها الصالحة والسيئة ، وستجازى بعملها المحفوظ عليها.

[٥ ـ ٧] (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ) (٥) ، أي : فليتدبر خلقته ومبدأه ، فإنه (خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) (٦) ، وهو المني الذي (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) (٧) ، يحتمل أنه من بين صلب الرجل ، وترائب المرأة ، وهي ثدياها. ويحتمل أن المراد : المني الدافق ، وهو مني الرجل ، وأن محله الذي يخرج منه ما بين صلبه وترائبه. ولعل هذا أولى ، فإنه إنما وصف به الماء الدافق ، الذي يحس به ويشاهد دفقه ، وهو مني الرجل. وكذلك لفظ الترائب ، فإنها تستعمل للرجل ، فإن الترائب للرجل ، بمنزلة الثديين للأنثى ، فلو أريد الأنثى ، لقيل : «من الصلب والثديين» ، ونحو ذلك ، والله أعلم.

[٨] فالذي أوجد الإنسان من ماء دافق ، يخرج من هذا الموضع الصعب ، قادر على رجعه في الآخرة ، وإعادته للبعث ، والنشور والجزاء. وقد قيل : إن معناه ، أن الله على رجع الماء المدفوق ، في الصلب لقادر ، وهذا المعنى وإن كان صحيحا ، فليس هو المراد من الآية ،

[٩] ولهذا قال بعده : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) (٩) ، أي : تختبر سرائر الصدور ، ويظهر ما كان في القلوب من خير وشر ، على صفحات الوجوه كما قال تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ). ففي الدنيا ، ينكتم كثير من الأشياء ، ولا يظهر عيانا للناس ، وأما يوم القيامة ، فيظهر برّ الأبرار ، وفجور الفجار ، وتصير الأمور علانية.

[١٠] وقوله : (فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ) ، أي : من نفسه يدفع بها (وَلا ناصِرٍ) من خارج ، ينتصر به ، فهذا القسم على العاملين ، وقت عملهم ، وعند جزائهم.

[١١ ـ ١٢] ثم أقسم قسما ثانيا ، على صحة القرآن ، فقال : (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) (١٢) ، أي : ترجع السماء بالمطر كل عام ، وتنصدع الأرض للنبات ، فيعيش بذلك الآدميون والبهائم ، وترجع السماء أيضا بالأقدار والشؤون الإلهية ، كل وقت ، وتنصدع الأرض عن الأموات.

[١٣] (إِنَّهُ) ، أي : القرآن (لَقَوْلٌ فَصْلٌ) ، أي : حق وصدق ، بيّن واضح.

[١٤] (وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) (١٤) ، أي : جد ليس بالهزل ، وهو القول الذي يفصل بين الطوائف والمقالات ، وتنفصل به الخصومات.

[١٥] (إِنَّهُمْ) ، أي : المكذبين للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وللقرآن (يَكِيدُونَ كَيْداً) ليدفعوا بكيدهم الحق ، ويؤيدوا الباطل.

[١٦] (وَأَكِيدُ كَيْداً) (١٦)

١١٠٦

لإظهار الحق ، ولو كره الكافرون ، ولدفع ما جاءوا به من الباطل ، ويعلم بهذا ، من الغالب ، فإن الآدمي أضعف وأحقر من أن يغالب القوي العليم في كيده.

[١٧] (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) (١٧) ، أي : قليلا ، فسيعلمون عاقبة أمرهم ، حين ينزل بهم العقاب. تم تفسير سورة الطارق ـ والحمد لله ربّ العالمين.

سورة الأعلى

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] يأمر تعالى ، بتسبيحه المتضمن لذكره وعبادته ، والخضوع لجلاله ، والاستكانة لعظمته ، وأن يكون تسبيحا ، يليق بعظمة الله تعالى ، بأن تذكر أسماؤه الحسنى العالية على كل اسم بمعناها العظيم الجليل. وتذكر أفعاله التي منها أنه خلق المخلوقات ، فسواها ، أي : أتقن وأحسن خلقها.

[٣] (وَالَّذِي قَدَّرَ) تقديرا ، تتبعه جميع المقدرات (فَهَدى) إلى ذلك جميع المخلوقات. وهذه هي الهداية العامة ، التي مضمونها أنه هدى كل مخلوق لمصلحته ، وتذكر فيها نعمه الدنيوية ، ولهذا قال :

[٤] (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) (٤) ، أي : أنزل من السماء ماء ، فأنبت به أصناف النبات ، والعشب الكثير ، فرتع فيه الناس والبهائم ، وجميع الحيوانات.

[٥] ثم بعد أن استكمل ما قدر له من الشباب ، ألوى نباته ، وصوّح عشبه. (فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) (٥) ، أي : أسود ، أي : جعله هشيما رميما ، ويذكر فيها نعمه الدينية. ولهذا امتنّ بأصلها ومادتها ، وهو القرآن فقال :

[٦] (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) (٦) ، أي : سنحفظ ما أوحيناه إليك من الكتاب ، ونوعيه قلبك ، فلا تنسى منه شيئا. وهذه بشارة من الله كبيرة ، لعبده ، ورسوله ، محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن الله سيعلمه علما لا ينساه.

[٧] (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) مما اقتضت حكمته أن ينسيكه لمصلحة ، وحكمة بالغة. (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى) ومن ذلك أنه يعلم ما يصلح عباده ، أي : فلذلك يشرع ما أراد ، ويحكم بما يريد.

[٨] (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) (٨) وهذه أيضا بشارة أخرى ، أن الله ييسر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لليسرى في جميع أموره ، ويجعل شرعه ودينه يسيرا.

[٩] (فَذَكِّرْ) بشرع الله وآياته (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) ، أي : ما دامت الذكرى مقبولة ، والموعظة مسموعة ، سواء حصل من الذكرى جميع المقصود ، أو بعضه. ومفهوم الآية أنه إن لم تنفع الذكرى ، بأن كان التذكير يزيد في الشر ، أو ينقص من الخير ، لم تكن مأمورا بها ، بل هي منهي عنها.

[١٠] فالذكرى ينقسم الناس فيها قسمين : منتفعون ، وغير منتفعين. فأما المنتفعون ، فقد ذكرهم بقوله : (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى) (١٠) الله ، فإن خشية الله تعالى ، والعلم بمجازاته على الأعمال ، توجب للعبد الانكفاف عما يكرهه الله ، والسعي في الخيرات.

[١١ ـ ١٢] وأما غير المنتفعين ، فذكرهم بقوله : (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) (١٢) وهي : النار الموقدة ، التي تطلع على الأفئدة.

[١٣] (ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) (١٣) ، أي : يعذب عذابا أليما ، من غير راحة ولا استراحة ، حتى إنهم يتمنون الموت ، فلا يحصل لهم ، كما قال تعالى : (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا

١١٠٧

وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها).

[١٤] (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) (١٤) ، أي : قد فاز وربح من طهر نفسه ونقّاها من الشرك والظلم ومساوئ الأخلاق.

[١٥] (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) (١٥) ، أي : اتصف بذكر الله ، وانصبغ به قلبه ، فأوجب له ذلك العمل بما يرضي الله ، خصوصا الصلاة ، التي هي ميزان الإيمان ، هذا معنى الآية. وأما من فسر قوله : «تزكى» يعني أخرج زكاة الفطر ، وذكر اسم ربه فصلى ، أنه صلاة العيد ، فإنه وإن كان داخلا في اللفظ ، وبعض جزئياته ، فليس هو المعنى وحده.

[١٦] (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) (١٦) ، أي : تقدمونها على الآخرة ، وتختارون نعيمها المنغص المكدر الزائل ، على الآخرة.

[١٧] (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) (١٧) : خير من الدنيا في كل وصف مطلوب ، وأبقى لكونها دار خلد وبقاء ، والدنيا دار فناء. فالمؤمن العاقل ، لا يختار الأردأ على الأجود ، ولا يبيع لذة ساعة ، بترحة الأبد. فحب الدنيا وإيثارها على الآخرة رأس كل خطيئة.

[١٨ ـ ١٩] (إِنَّ هذا) المذكور لكم في هذه السورة المباركة ، من الأوامر الحسنة ، والأخبار المستحسنة (لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) (١٩) اللذين هما أشرف المرسلين ، بعد محمد صلّى الله وسلم عليه وعليهم أجمعين. فهذه أوامر في كل شريعة ، لكونها عائدة إلى مصالح الدارين ، وهي مصالح في كل زمان ومكان ، ولله الحمد. تم تفسير سورة الأعلى.

تفسير سورة الغاشية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] يذكر تعالى أحوال يوم القيامة وما فيها من الأهوال الطامّة ، وأنها تغشى الخلائق بشدائدها ، فيجازون بأعمالهم ، ويتميزون إلى فريقين : فريق في الجنة ، وفريق في السعير. فأخبر عن وصف كلا الفريقين ، فقال في وصف أهل النار :

[٢] (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) ، أي : يوم القيامة (خاشِعَةٌ) من الذل والفضيحة ، والخزي.

[٣] (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) (٣) ، أي : تاعبة في العذاب ، تجرّ على وجوهها ، وتغشى وجوههم النار. ويحتمل أن المراد بقوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) (٣) في الدنيا لكونهم في الدنيا أهل عبادات وعمل. ولكنه لما عدم شرطه وهو الإيمان ، صار يوم القيامة هباء منثورا. وهذا الاحتمال وإن كان صحيحا ، من حيث المعنى ، فلا يدل عليه سياق الكلام ، بل الصواب المقطوع به هو الاحتمال الأول ، لأنه قيده بالظرف ، وهو يوم القيامة ، ولأن المقصود هنا بيان ذكر أهل النار عموما ، وذلك الاحتمال جزء قليل بالنسبة إلى أهل النار ؛ ولأن الكلام في بيان حال الناس عند

١١٠٨

غشيان الغاشية ، فليس فيه تعرض لأحوالهم في الدنيا.

[٤ ـ ٥] وقوله : (تَصْلى ناراً حامِيَةً) (٤) ، أي : شديدا حرها ، تحيط بهم من كل مكان (تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) (٥) ، أي : شديدة الحرارة (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ) فهذا شرابهم.

[٦ ـ ٧] وأما طعامهم ، فإنهم (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) (٧) وذلك لأن المقصود من الطعام ، أحد أمرين : إما أن يسد جوع صاحبه ويزيل عنه ألمه ، وإما أن يسمن بدنه من الهزال. وهذا الطعام ليس فيه شيء من هذين الأمرين ، بل هو طعام في غاية المرارة والنتن والخسة ، نسأل الله العافية.

[٨] وأما أهل الخير ، فوجوههم يوم القيامة (ناعِمَةٌ) ، أي : قد جرت عليهم نضرة النعيم ، فنضرت أبدانهم ، واستنارت وجوههم ، وسروا غاية السرور.

[٩] (لِسَعْيِها) الذي قدمته في الدنيا من الأعمال الصالحة ، والإحسان إلى عباد الله. (راضِيَةٌ) إذا وجدت ثوابه ، مدخرا مضاعفا ، فحمدت عقباه ، وحصل لها كل ما تتمناه.

[١٠] وذلك أنها (فِي جَنَّةٍ) جامعة لأنواع النعيم كلها ، (عالِيَةٍ) في محلها ومنازلها ، فمحلها في أعلى عليين ، ومنازلها مساكن عالية ، لها غرف ، ومن فوق الغرف غرف مبنية يشرفون منها على ما أعد الله لهم من الكرامة. (قُطُوفُها دانِيَةٌ) (٢٣) ، أي : كثيرة الفواكه اللذيذة ، المثمرة بالثمار الحسنة ، السهلة التناول ، بحيث ينالونها على أي حال كانوا ، لا يحتاجون أن يصعدوا شجرة ، أو يستعصي عليهم منها ثمرة.

[١١] (لا تَسْمَعُ فِيها) ، أي : في الجنة (لاغِيَةً) ، أي : كلمة لغو وباطل فضلا عن الكلام المحرم ، بل كلامهم ، كلام حسن نافع ، مشتمل على ذكر الله ، وذكر نعمه المتواترة عليهم ، وعلى الآداب الحسنة بين المتعاشرين ، الذي يسر القلوب ، ويشرح الصدور.

[١٢] (فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ) (١٢) ، وهذا اسم جنس ، أي : فيها العيون الجارية التي يفجرونها ويصرفونها كيف شاءوا ، وأنّى أرادوا.

[١٣] (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) (١٣) ، و «السرر» جمع «سرير» ، وهي : المجالس المرتفعة في ذاتها ، وبما عليها من الفرش اللينة الوطيئة.

[١٤] (وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ) (١٤) ، أي : أوان ممتلئة من أنواع الأشربة اللذيذة قد وضعت بين أيديهم ، وأعدت لهم ، وصارت تحت طلبهم واختيارهم ، يطوف بها عليهم ، الولدان المخلدون.

[١٥] (وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ) (١٥) ، أي : وسائد من الحرير والإستبرق وغيرهما ، مما لا يعلمه إلا الله. قد صفت للجلوس والاتكاء عليها ، وقد أريحوا ، عن أن يصنعوها ، أو يصفّوها بأنفسهم.

[١٦] (وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) (١٦) والزرابي هي : البسط الحسان ، مبثوثة ، أي : مملوءة بها مجالسهم من كل جانب.

[١٧] يقول تعالى حثّا للذين لا يصدقون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولغيرهم من الناس ، أن يتفكروا في مخلوقات الله الدالة على توحيده : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) (١٧) ، أي : ألا ينظرون إلى خلقها البديع ، وكيف سخرها الله للعباد ، وذللها لمنافعهم الكثيرة ، التي يضطرون إليها.

[١٩] (وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) (١٩) بهيئة باهرة ، حصل بها الاستقرار للأرض ، وثباتها من الاضطراب ، وأودع فيها من المنافع الجليلة ما أودع.

[٢٠] (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) (٢٠) ، أي : مدت مدا واسعا ، وسهلت غاية التسهيل ، ليستقر العباد على ظهرها ، ويتمكنوا من حرثها

١١٠٩

وغراسها ، والبنيان فيها ، وسلوك طرقها. واعلم أن تسطيحها لا ينافي أنها كرة مستديرة ، قد أحاطت الأفلاك فيها من جميع جوانبها ، كما دل على ذلك النقل والعقل ، والحس والمشاهدة ، كما هو مذكور معروف عند كثير من الناس ، خصوصا في هذه الأزمنة ، التي وقف فيها الناس على أكثر أرجائها ، بما أعطاهم الله من الأسباب المقربة للبعيد. فإن التسطيح ، إنما ينافي كروية الجسم الصغير جدا ، الذي لو سطح ، لم يبق له استدارة تذكر. وأما جسم الأرض الذي هو كبير جدا وواسع ، فيكون كرويا مسطحا ، ولا يتنافى الأمران ، كما يعرف ذلك أرباب الخبرة.

[٢١] (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) (٢١) ، أي : ذكّر الناس وعظهم وأنذرهم وبشّرهم ، فإنك مبعوث لدعوة الخلق إلى الله وتذكيرهم ، ولم تبعث مسيطرا عليهم ، مسلّطا ، ولا موكّلا بأعمالهم. فإذا قمت بما عليك ، فلا عليك بعد ذلك لوم ، كقوله تعالى : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ).

[٢٣ ـ ٢٤] وقوله : (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) (٢٣) ، أي : لكن من تولى عن الطاعة وكفر بالله (فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) (٢٤) ، أي : الشديد الدائم.

[٢٥] (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ) (٢٥) أي : رجوع الخلائق وجمعهم في يوم القيامة.

[٢٦] (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) (٢٦) على ما عملوا ، من خير وشر.

تفسير سورة الفجر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣] الظاهر أن المقسم عليه ، هو المقسم به ، وذلك جائز مستعمل ، إذا كان أمرا ظاهرا مهمّا ، وهو كذلك في هذا الموضع. فأقسم تعالى بالفجر ، الذي هو آخر الليل ، ومقدمة النهار ، لما في إدبار الليل ، وإقبال النهار ، من الآيات الدالة على كمال قدرة الله تعالى ، وأنه تعالى هو المدبر لجميع الأمور ، الذي لا تنبغي العبادة إلا له. ويقع في الفجر ، صلاة فاضلة معظمة ، يحسن أن يقسم الله بها. ولهذا أقسم بعده ، بالليالي العشر ، وهي على الصحيح : ليالي عشر رمضان ، أو عشر ذي الحجة ، فإنها ليال مشتملة على أيام فاضلة ، ويقع فيها من العبادات والقربات ، ما لا يقع في غيرها. وفي ليالي عشر رمضان ليلة القدر ، التي هي خير من ألف شهر ، وفي نهارها ، صيام آخر رمضان الذي هو أحد أركان الإسلام العظام. وفي أيام عشر ذي الحجة ، الوقوف بعرفة ، الذي يغفر الله فيه لعباده مغفرة ، يحزن لها الشيطان ، فإنه ما رئي الشيطان أحقر ولا أدحر منه في يوم عرفة ، لما يرى من تنزّل الأملاك والرحمة من الله على عباده. ويقع فيها كثير من أفعال الحج والعمرة. وهذه أشياء معظمة ، مستحقة أن يقسم الله بها.

١١١٠

[٤] (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) (٤) ، أي : وقت سريانه ، وإرخائه ظلامه على العباد ، فيسكنون ويستريحون ، ويطمئنون ، رحمة منه تعالى وحكمة.

[٥] (هَلْ فِي ذلِكَ) المذكور (قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) أي : لذي عقل؟ نعم ، بعض ذلك يكفي ، لمن كان له قلب ، أو ألقى السمع وهو شهيد. يقول تعالى :

[٦ ـ ٧] (أَلَمْ تَرَ) بقلبك وبصيرتك (كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ) هذه الأمة الطاغية ، وهي (إِرَمَ) القبيلة المعروفة في اليمن (ذاتِ الْعِمادِ) ، أي : القوة الشديدة ، والعتو والتجبر.

[٨] (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) (٨) ، أي : في جميع البلدان في القوة والشدة ، كما قال لهم نبيهم هود عليه‌السلام : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

[٩] (وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ) (٩) ، أي : وادي القرى ، نحتوا بقوتهم الصخور ، فاتخذوها مساكن.

[١٠] (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ) (١٠) ، أي : ذي الجنود الذين ثبتوا ملكه ، كما تثبت الأوتاد ما يراد إمساكه بها.

[١١] (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ) (١١) هذا الوصف عائد إلى عاد وثمود وفرعون ومن تبعهم ، فإنهم طغوا في بلاد الله ، وآذوا عباد الله ، في دينهم ودنياهم ،

[١٢] ولهذا قال : (فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ) (١٢) وهو العمل بالكفر وشعبه ، من جميع أجناس المعاصي. وسعوا في محاربة الرسل ، وصد الناس عن سبيل الله.

[١٣] فلما بلغوا من العتو ما هو موجب لهلاكهم ، أرسل الله عليهم من عذابه سوط عذاب.

[١٤] (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) (١٤) لمن يعصيه ، يمهله قليلا ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر.

[١٥] يخبر تعالى عن طبيعة الإنسان من حيث هو ، وأنه جاهل ظالم ، لا علم له بالعواقب ، يظن الحالة التي تقع فيه تستمر ولا تزول ، ويظن أن إكرام الله في الدنيا وإنعامه عليه ، يدل على كرامته وقربه منه.

[١٦] وأنه إذا قدر (عَلَيْهِ رِزْقَهُ) أي : ضيّقه ، فصار يقدر قوته لا يفضل عنه ، أن هذا إهانة من الله له ، فرد الله عليه هذا الحسبان ، فقال :

[١٧] (كَلَّا) ، أي : ليس كل من نعّمته في الدنيا فهو كريم عليّ ، ولا كل من قدرت عليه رزقه ، فهو مهان لديّ. وإنما الغنى والفقر ، والسعة والضيق ، ابتلاء من الله ، وامتحان يمتحن به العباد ، ليرى من يقوم بالشكر والصبر فيثيبه على ذلك الثواب الجزيل ، ومن ليس كذلك فينقله إلى العذاب الوبيل. وأيضا ، فإن وقوف همة العبد عند مراد نفسه فقط ، من ضعف الهمة ، ولهذا لامهم الله على عدم اهتمامهم بأحوال الخلق المحتاجين ، فقال : (كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) (١٧) الذي فقد أباه وكاسبه ، واحتاج إلى جبر خاطره والإحسان إليه. فأنتم لا تكرمونه بل تهينونه ، وهذا يدل على عدم الرحمة في قلوبكم ، وعدم الرغبة في الخير.

[١٨] (وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) (١٨) ، أي : لا يحض بعضكم بعضا ، على إطعام المحاويج من الفقراء والمساكين ، وذلك لأجل الشح على الدنيا ، ومحبتها الشديدة المتمكنة من القلوب ، ولهذا قال :

[١٩] (وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ) ، أي : المال المخلف (أَكْلاً لَمًّا) ، أي : ذريعا ، لا تبقون على شيء منه.

[٢٠] (وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) (٢٠) أي : شديدا ، وهذا كقوله : (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) (١٧) ، (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) (٢١).

١١١١

[٢١] (كَلَّا) ، أي : ليس كل ما أحببتم من الأموال ، وتنافستم فيه من اللذات ، بباق لكم ، بل أمامكم يوم عظيم ، وهول جسيم ، تدك فيه الأرض والجبال وما عليها حتى تجعل قاعا صفصفا ، لا عوج فيه ولا أمت.

[٢٢] ويجيء الله لفصل القضاء بين عباده ، في ظلل من الغمام. وتجيء الملائكة الكرام ، أهل السماوات كلهم ، صفا صفا ، أي : صفا بعد صف ، كل سماء يجيء ملائكتها صفا ، يحيطون بمن دونهم من الخلق ، وهذه الصفوف صفوف خضوع وذل للملك الجبار.

[٢٣] (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) تقودها الملائكة بالسلاسل. فإذا وقعت هذه الأمور (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) ما قدمه من خير ومن شر. (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) ، فقد قامت أوانها ، وذهب زمانها.

[٢٤] (يَقُولُ) متحسرا على ما فرط في جنب الله : (يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) الباقية الدائمة ، عملا صالحا ، كما قال تعالى : (يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) (٢٨). وفي هذا دليل على أن الحياة التي ينبغي السعي في كمالها وتحصيلها وكمالها ، وفي تتميم لذّاتها ، هي الحياة في دار القرار ، فإنها دار الخلد والبقاء.

[٢٥] (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ) (٢٥) لما أهمل ذلك اليوم ، ونسي العمل له.

[٢٦] (وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ) (٢٦) ، فإنهم يوثقون بسلاسل من نار ، ويسحبون على وجوههم في الحميم ، ثم في النار يسجرون ، فهذا جزاء المجرمين. وأما من آمن بالله ، واطمأن به ، وصدق رسله ، فيقال له :

[٢٧] (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) (٢٧) إلى ذكر الله ، الساكنة إلى حبه ، التي قرت عينها بالله.

[٢٨] (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) الذي رباك بنعمته (راضِيَةً مَرْضِيَّةً) ، أي : راضية عن الله ، وعن ما أكرمها به من الثواب ، والله قد رضي عنها.

[٢٩ ـ ٣٠] (فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي) (٣٠) وهذا تخاطب به الروح يوم القيامة ، وتخاطب به وقت السياق والموت. تم تفسير سورة الفجر ـ والحمد لله رب العالمين.

تفسير سورة البلد

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] يقسم تعالى (بِهذَا الْبَلَدِ) الأمين ، وهو مكة المكرمة ، أفضل البلدان على الإطلاق ، خصوصا وقت حلول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها.

[٣] (وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) (٣) ، أي : آدم وذريته.

[٤] والمقسم عليه قوله : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) (٤) يحتمل أن المراد بذلك ما يكابده الإنسان ويقاسيه ، من الشدائد في الدنيا ، وفي البرزخ ، ويوم يقوم الأشهاد. وأنه ينبغي له أن يسعى في عمل يريحه من هذه الشدائد ، ويوجب له الفرح والسرور الدائم. وإن لم يفعل ،

١١١٢

فإنه لا يزال يكابد العذاب الشديد ، أبد الآباد. ويحتمل أن المعنى : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ، وأقوم خلقة ، يقدر على التصرف والأعمال الشديدة. ومع ذلك ، فإنه لم يشكر الله على هذه النعمة العظيمة ، بل بطر بالعافية وتجبّر على خالقه ، فحسب بجهله وظلمه أن هذه الحال ستدوم له ، وأن سلطان تصرفه لا ينعزل ، ولهذا قال :

[٥ ـ ٦] (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) (٥) ويطغى ويفتخر بما أنفق من الأموال على شهوات نفسه ، حيث (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) (٦) ، أي : كثيرا ، بعضه فوق بعض. وسمى الله الإنفاق في الشهوات والمعاصي إهلاكا ، لأنه لا ينتفع المنفق بما أنفق ، ولا يعود إليه من إنفاقه إلا الندم والخسارة ، والتعب والقلة ، لا كمن أنفق في مرضاة الله ، في سبيل الخير ، فإن هذا قد تاجر مع الله ، وربح أضعاف أضعاف ما أنفق. قال الله متوعدا هذا الذي افتخر بما أنفق في الشهوات :

[٧] (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) (٧) ، أي : أيظن في فعله هذا ، أن الله لا يراه ولا يحاسبه على الصغير والكبير؟ بل قد رآه الله ، وحفظ عليه أعماله ، ووكل به الكرام الكاتبين ، لكل ما عمله من خير وشر.

[٨ ـ ٩] ثم قرره بنعمه ، فقال : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ) (٩) للجمال والبصر ، والنطق ، وغير ذلك من المنافع الضرورية فيها ، فهذه نعم الدنيا.

[١٠] ثم قال في نعم الدين : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (١٠) ، أي : طريقي الخير والشر ، بينا له الهدى من الضلال ، والرشد من الغي. فهذه المنن الجزيلة ، تقتضي من العبد أن يقوم بحقوق الله ، ويشكره على نعمه ، وأن لا يستعين بها على معاصي الله ، ولكن هذا الإنسان لم يفعل ذلك.

[١١] (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) (١١) ، أي : لم يقتحمها ويعبر عليها ، لأنه متبع لهواه. وهذه العقبة شديدة عليه ، ثم فسر هذه العقبة بقوله :

[١٢ ـ ١٣] (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ) (١٣) ، أي : فكها من الرق ، بعتقها أو مساعدتها على أداء كتابتها ، ومن باب أولى فكاك الأسير المسلم عند الكفار.

[١٤] (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) (١٤) ، أي : مجاعة شديدة ، بأن يطعم وقت الحاجة ، أشد الناس حاجة.

[١٥] (يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ) (١٥) جامعا بين كونه يتيما ، وفقيرا ذا قرابة.

[١٦] (أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) (١٦) ، أي : قد لزق بالتراب من الحاجة والضرورة.

[١٧] (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) وعملوا الصالحات ، أي : آمنوا بقلوبهم بما يجب الإيمان به ، وعملوا الصالحات بجوارحهم. فدخل في هذا كل قول وفعل واجب أو مستحب. (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) على طاعة الله ، وعن معصيته ، وعلى أقداره المؤلمة بأن يحث بعضهم بعضا ، على الانقياد لذلك ، والإتيان به ، كاملا منشرحا به الصدر ، مطمئنة به النفس. (وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) للخلق ، من إعطاء محتاجهم ، وتعليم جاهلهم ، والقيام بما يحتاجون إليه من جميع الوجوه ، ومساعدتهم على المصالح الدينية والدنيوية ، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه ، ويكره لهم ما يكره لنفسه.

[١٨] أولئك قاموا بهذه الأوصاف ، والذين وفقهم الله لاقتحام العقبة (أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) (١٨) لأنهم أدوا ما أمر الله به من حقوقه وحقوق عباده ، وتركوا ما نهوا عنه ، وهذا عنوان السعادة وعلامتها.

[١٩ ـ ٢٠] (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا) بأن نبذوا هذه الأمور وراء ظهورهم ، فلم يصدقوا بالله ، ولا آمنوا به ، ولا عملوا صالحا ، ولا رحموا عباد الله. (هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ) (٢٠) ، أي : مغلقة ، في عمد ممددة ، قد مدت من ورائها ، لئلا تنفتح أبوابها ، حتى يكونوا في ضيق ، وهمّ وشدّة. تم تفسير سورة البلد ـ والحمد لله.

١١١٣

سورة الشمس

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] أقسم تعالى بهذه الآيات العظيمة ، على النفس المفلحة ، وغيرها من النفوس الفاجرة ، فقال : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) (١) ، أي : نورها ، ونفعها الصادر منها.

[٢] (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) (٢) ، أي : تبعها في المنازل والنور.

[٣] (وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها) (٣) ، أي : جلّى ما على وجه الأرض وأوضحه.

[٤] (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) (٤) أي : يغشى وجه الأرض ، فيكون ما عليها مظلما. فتعاقب الظلمة والضياء ، والشمس والقمر ، على هذا العالم ، بانتظام وإتقان ، وقيام لمصالح العباد ، أكبر دليل على أن الله بكل شيء عليم ، وعلى كل شيء قدير ، وأنه المعبود وحده ، الذي كل معبود سواه باطل.

[٥] (وَالسَّماءِ وَما بَناها) (٥) يحتمل أن «ما» موصولة ، فيكون الإقسام بالسماء وبانيها ، وهو الله تعالى. ويحتمل أنها مصدرية ، فيكون الإقسام بالسماء وبنيانها ، الذي هو غاية ما يقدر من الإحكام والإتقان والإحسان.

[٦] ونحو هذا قوله : (وَالْأَرْضِ وَما طَحاها) (٦) ، أي : مدها ووسعها ، فتمكن الخلق حينئذ من الانتفاع بها ، بجميع أوجه الانتفاع.

[٧] (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) (٧) يحتمل أن المراد ، ونفس سائر المخلوقات الحيوانية ، كما يؤيد هذا العموم. ويحتمل أن الإقسام بنفس الإنسان المكلف ، بدليل ما يأتي بعده. وعلى كلّ ، فالنفس آية كبيرة من آياته التي يحق الإقسام بها ، فإنها في غاية اللطف والخفة ، سريعة التنقل والحركة والتغير ، والتأثر والانفعالات النفسية ، من الهم ، والإرادة ، والقصد ، والحب ، والبغض. وهي التي لولاها لكان البدن مجرد تمثال لا فائدة فيه. وتسويتها على ما هي عليه ، آية من آيات الله العظيمة.

[٩] وقوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) (٩) ، أي : طهر نفسه من الذنوب ، ونقاها من العيوب ، ورقّاها بطاعة الله ، وعلّاها بالعلم النافع ، والعمل الصالح.

[١٠] (وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) (١٠) ، أي : أخفى نفسه الكريمة ، التي ليست حقيقة بقمعها وإخفائها ، بالتدنس بالرذائل ، والدنو من العيوب والذنوب ، وترك ما يكملها وينميها ، واستعمال ما يشينها ويدسيها.

[١١] (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها) (١١) ، أي : بسبب طغيانها ، وترفعها عن الحق ، وعتوها على رسولهم.

[١٢] (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها) (١٢) أي : أشقى القبيلة ، وهو «قدار بن سالف» لعقرها ، حين اتفقوا على ذلك ، وأمروه ، فأتمر لهم.

[١٣] (فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ) صالح عليه‌السلام محذرا : (ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها) ، أي : احذروا عقر ناقة الله ، التي جعلها لكم آية عظيمة ، ولا تقابلوا نعمة الله عليكم ، بسقي لبنها أن تعقروها.

[١٤] فكذبوا نبيهم صالحا (فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ) ، أي : دمر عليهم ، وعمهم بعقابه ، وأرسل عليهم الصيحة من فوقهم ، والرجفة من تحتهم ، فأصبحوا جاثمين على ركبهم ، لا تجد منهم داعيا ولا مجيبا. (فَسَوَّاها) عليهم ، أي : سوى بينهم في العقوبة.

١١١٤

[١٥] (وَلا يَخافُ عُقْباها) (١٥) ، أي : تبعتها. وكيف يخاف من هو قاهر ، لا يخرج عن قهره وتصرفه مخلوق ، حكيم في كل ما قضاه وشرعه؟ تم تفسير سورة الشمس بحمد الله وعونه.

سورة الليل

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] هذا قسم من الله ، بالزمان الذي تقع فيه أفعال العباد ، على تفاوت أحوالهم ، فقال : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) (١) ، أي : يعم الخلق بظلامه ، فيسكن إلى مأواه ومسكنه ، ويستريح العباد من الكد والتعب.

[٢] (وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) (٢) للخلق ، فاستضاءوا بنوره وانتشروا في مصالحهم.

[٣] (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (٣) إن كانت «ما» موصولة ، كانت إقساما بنفسه الكريمة الموصوفة ، بكونه خالق الذكور والإناث ، وإن كانت مصدرية ، كان قسما بخلقه للذكر والأنثى. وكمال حكمته في ذلك أن خلق من كل صنف من الحيوانات ، التي يريد إبقاءها ذكرا وأنثى ليبقى النوع ولا يضمحل ، وقاد كلا منهما إلى الآخر بسلسلة الشهوة. وجعل كل منهما مناسبا للآخر ، فتبارك الله أحسن الخالقين.

[٤] وقوله : (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) (٤) هذا هو المقسم عليه ، أي : إن سعيكم أيها المكلفون لمتفاوت تفاوتا كثيرا ، وذلك بحسب تفاوت نفس الأعمال ومقدارها ، والنشاط فيها ، وبحسب الغاية المقصودة بتلك الأعمال ، هل هو وجه الله الأعلى الباقي؟ فيبقى العمل له ببقائه ، وينتفع به صاحبه ، أم هي غاية مضمحلة فانية ، فيبطل السعي ببطلانها ويضمحل باضمحلالها؟ وهذا كل عمل يقصد به غير وجه الله ، بهذا الوصف.

[٥] ولهذا فضّل الله العاملين ، ووصف أعمالهم ، فقال : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى) ، أي : ما أمر به من العبادات المالية : كالزكوات ، والنفقات ، والكفارات ، والصدقات ، والإنفاق في وجوه الخير. والعبادات البدنية : كالصلاة ، والصوم غيرهما. والمركّبة من ذلك : كالحج والعمرة ونحوهما. (وَاتَّقى) ما نهي عنه ، من المحرمات والمعاصي ، على اختلاف أجناسها.

[٦] (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) (٦) ، أي : صدّق ب «لا إله إلا الله» وما دلت عليه ، من العقائد الدينية ، وما ترتب عليها من الجزاء.

[٧] (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) (٧) ، أي : نيسر له أمره ، ونجعله مسهلا عليه كل خير ، ميسرا له ترك كل شر ، لأنه أتى بأسباب التيسير ، فيسر الله له ذلك.

[٨] (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ) بما أمر به ، فترك الإنفاق الواجب والمستحب ، ولم تسمح نفسه بأداء ما وجب لله. (وَاسْتَغْنى) عن الله ، فترك عبوديته جانبا ، ولم ير نفسه مفتقرة غاية الافتقار إلى ربها ، الذي لا نجاة لها ، ولا فوز ، ولا فلاح ، إلا بأن يكون هو محبوبها ومعبودها ، الذي تقصده وتتوجه إليه.

[٩] (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى) (٩) ، أي : بما أوجب الله على العباد التصديق به من العقائد الحسنة.

[١٠] (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) (١٠) ، أي : للحالة العسرة ، والخصال الذميمة ، بأن يكون ميسرا للشر ، أينما كان ، ومقيضا له أفعال المعاصي ، نسأل الله العافية.

١١١٥

[١١] (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ) الذي أطغاه ، واستغنى به ، وبخل به. (إِذا تَرَدَّى) ، أي : هلك ومات ، فإنه لا يصحب الإنسان إلا عمله الصالح. وأما ماله الذي لم يخرج منه الواجب ، فإنه يكون وبالا عليه ، إذ لم يقدم منه لآخرته شيئا.

[١٢] (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) (١٢) ، أي : إن الهدى المستقيم طريقه يوصل إلى الله ، ويدني من رضاه. وأما الضلال ، فطرقه مسدودة عن الله ، لا توصل صاحبها إلا للعذاب الشديد.

[١٣] (وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) (١٣) ملكا وتصرفا ، ليس له فيهما مشارك ، فليرغب الراغبون إليه في الطلب ، ولينقطع رجاؤهم عن المخلوقين.

[١٤] (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى) (١٤) ، أي : تستعر وتتوقد.

[١٥ ـ ١٦] (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ) بالخبر (وَتَوَلَّى) عن الأمر.

[١٧ ـ ١٨] (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) (١٨) بأن يكون قصده به تزكية نفسه ، وتطهيرها من الذنوب والأدناس ، قاصدا به وجه الله تعالى. فدل هذا على أنه إذا تضمن الإنفاق المستحب ، ترك واجب كدين ونفقة ونحوهما ، فإنه غير مشروع ، بل تكون عطيته مردودة عند كثير من العلماء ، لأنه يتزكى بفعل مستحب يفوت عليه الواجب.

[١٩] (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى) (١٩) ، أي : ليس لأحد من الخلق على هذا الأتقى نعمة تجزى ، إلا وقد كافأه عليها ، وربما بقي له الفضل والمنة على الناس ، فتمحض عبدا لله ، لأنه رقيق إحسانه وحده. وأما من بقيت عليه نعمة الناس ، فلم يجزها ويكافئها ، فإنه لا بد أن يترك الناس ، ويفعل لهم ما ينقص إخلاصه. وهذه الآية وإن كانت متناولة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه ، بل قد قيل : إنها نزلت بسببه ، فإنه ـ رضي الله عنه ـ ما لأحد عنده من نعمة تجزى ، حتى ولا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إلا نعمة الرسول التي لا يمكن جزاؤها ، وهي نعمة الدعوة إلى الإسلام ، وتعليم الهدى ودين الحق ، فإن لله ورسوله المنة على كل أحد. منة لا يمكن لها جزاء ولا مقابلة ، فإنها متناولة لكل من اتصف بهذا الوصف الفاضل. فلم يبق لأحد عليه من الخلق نعمة تجزى ، فبقيت أعماله خالصة لوجه الله تعالى.

[٢٠ ـ ٢١] ولهذا قال : (إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضى) (٢١) هذا الأتقى بما يعطيه الله من أنواع الكرامات والمثوبات. تم تفسير سورة الليل والحمد لله رب العالمين.

تفسير سورة الضحى

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] أقسم تعالى ، بالنهار إذا انتشر ضياؤه بالضحى ، وبالليل إذا سجى ، وادلهمّت ظلمته ، على اعتناء الله

١١١٦

برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال :

[٣] (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ) ، أي : ما تركك منذ اعتنى بك ، ولا أهملك منذ رباك ورعاك ، بل لم يزل يربيك أكمل تربية ، ويعليك درجة بعد درجة. (وَما قَلى) ك الله ، أي : ما أبغضك ، منذ أحبك ، فإن نفي الضد ، دليل على ثبوت ضده ، والنفي المحض ، لا يكون مدحا ، إلا إذا تضمن ثبوت كمال. فهذه حال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الماضية والحاضرة ، أكمل حال وأتمها ، محبة الله له ، واستمرارها وترقيته في درجات الكمال ، ودوام اعتناء الله به.

[٤] وأما حاله المستقبلة ، فقال : (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) (٤) ، أي : كل حالة متأخرة من أحوالك ، فإن لها الفضل على الحالة السابقة. فلم يزل صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصعد في درجات المعالي ، ويمكن الله له دينه ، وينصره على أعدائه ، ويسدده في أحواله ، حتى مات ، وقد وصل إلى حال ما وصل إليها الأولون والآخرون من الفضائل والنعم ، وقرة العين ، وسرور القلب.

[٥] ثم بعد هذا ، لا تسأل عن حاله في الآخرة ، من تفاصيل الإكرام ، وأنواع الإنعام. ولهذا قال : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) (٥) وهذا أمر لا يمكن التعبير عنه إلا بهذه العبارة الجامعة الشاملة.

[٦] ثم امتن عليه بما يعلمه من أحواله الخاصة ، فقال : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى) (٦) ، أي : وجدك لا أم لك ، ولا أب ، بل قد مات أبوه ، وهو لا يدبر نفسه ، فآواه الله ، وكفله جده عبد المطلب ، ثم لما مات جده ، كفّله الله عمه أبا طالب ، حتى أيده بنصره وبالمؤمنين.

[٧] (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) (٧) ، أي : وجدك لا تدري ما الكتاب ، ولا الإيمان ، فعلّمك ما لم تكن تعلم ، ووفّقك لأحسن الأعمال والأخلاق.

[٨] (وَوَجَدَكَ عائِلاً) ، أي : فقيرا (فَأَغْنى) ك الله ، بما فتح عليك من البلدان ، التي جبيت لك أموالها وخراجها.

[٩] فالذي أزال عنك هذه النقائص ، سيزيل عنك كل نقص ، والذي أوصلك إلى الغنى ، وآواك ونصرك ، وهداك ، قابل نعمته بالشكران. ولهذا قال : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) (٩) ، أي : لا تسيء معاملة اليتيم ، ولا يضق صدرك عليه ، ولا تنهره ، بل أكرمه ، وأعطه ما تيسر ، واصنع به كما تحب أن يصنع بولدك من بعدك.

[١٠] (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) (١٠) ، أي : لا يصدر منك كلام للسائل ، يقتضي رده عن مطلوبه ، بنهر وشراسة خلق ، بل أعطه ما تيسر عندك أو ردّه بمعروف وإحسان. ويدخل في هذا : السائل للمال ، والسائل للعلم ، ولهذا كان المعلم مأمورا بحسن الخلق مع المتعلم ، ومباشرته بالإكرام ، والتحنن عليه ، فإنه في ذلك معونة له على مقصده ، وإكراما لمن كان يسعى في نفع العباد والبلاد.

[١١] (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (١١) وهذا يشمل النعم الدينية والدنيوية ، أي : أثن على الله بها ، وخصها بالذكر ، إن كان هناك مصلحة. وإلا فحدث بنعم الله على الإطلاق ، فإن التحدث بنعمة الله ، داع لشكرها ، وموجب لتحبيب القلوب إلى من أنعم بها ، فإن القلوب مجبولة على محبة المحسن. تم تفسير سورة الضحى ـ بحمد الله وعونه.

١١١٧

سورة الشرح

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] يقول تعالى ـ ممتنا على رسوله ـ : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (١) ، أي : نوسعه لشرائع الدين والدعوة إلى الله ، والاتصاف بمكارم الأخلاق ، والإقبال على الآخرة ، وتسهيل الخيرات. فلم يكن ضيقا حرجا ، حتى لا يكاد ينقاد لخير ، ولا تكاد تجده منبسطا.

[٢ ـ ٣] (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) (٢) ، أي : ذنبك (الَّذِي أَنْقَضَ) ، أي : أثقل (ظَهْرَكَ) كما قال تعالى : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ).

[٤] (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) (٤) ، أي : أعلينا قدرك ، وجعلنا لك الثناء الحسن العالي ، الذي لم يصل إليه أحد من الخلق. فلا يذكر الله إلا ذكر معه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما في الدخول في الإسلام ، وفي الأذان ، والإقامة ، والخطب ، وغير ذلك من الأمور التي أعلى الله بها ، ذكر رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وله في قلوب أمته ، من المحبة ، والإجلال ، والتعظيم ، ما ليس لأحد غيره ، بعد الله تعالى. فجزاه الله عن أمته أفضل ما جزى نبيا عن أمته.

[٥ ـ ٦] وقوله : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (٦) بشارة عظيمة ، أنه كلما وجد عسر وصعوبة ، فإن اليسر يقارنه ويصاحبه ، حتى لو دخل العسر جحر ضب ، لدخل عليه اليسر ، فأخرجه كما قال تعالى : (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً). وكما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وإن الفرج مع الكرب ، وإن مع العسر يسرا». وتعريف «العسر» في الآيتين ، يدل على أنه واحد ، وتنكير «اليسر» يدل على تكراره ، فلن يغلب عسر يسرين. وفي تعريفه بالألف واللام ، الدال على الاستغراق والعموم دلالة على أن كل عسر ، وإن بلغ من الصعوبة ما بلغ ، فإنه في آخره التيسير ، ملازم له. ثم أمر رسوله أصلا ، والمؤمنين تبعا ، بشكره والقيام بواجب نعمه ، فقال :

[٧] (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) (٧) ، أي : إذا تفرغت من أشغالك ، ولم يبق في قلبك ما يعوقه ، فاجتهد في العبادة والدعاء.

[٨] (وَإِلى رَبِّكَ) وحده (فَارْغَبْ) ، أي : أعظم الرغبة في إجابة دعائك ، وقبول دعواتك. ولا تكن ممن إذا فرغوا لعبوا وأعرضوا عن ربهم ، وعن ذكره ، فتكون من الخاسرين. وقد قيل : إن معنى هذا : فإذا فرغت من الصلاة وأكملتها ، فانصب في الدعاء. وإلى ربك فارغب في سؤال مطالبك. واستدل من قال هذا القول ، على مشروعية الدعاء والذكر ، عقب الصلوات المكتوبات ، والله أعلم. تم تفسير سورة الشرح و «الإنشراح».

١١١٨

سورة التين

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (وَالتِّينِ) هو التين المعروف ، وكذلك (وَالزَّيْتُونِ) أقسم بهاتين الشجرتين ، لكثرة منافع شجرهما وثمرهما ، ولأن سلطانهما في أرض الشام ، محل نبوة عيسى ابن مريم عليه‌السلام.

[٢] (وَطُورِ سِينِينَ) (٢) ، أي : طور سيناء ، محل نبوة موسى عليه‌السلام.

[٣] (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) (٣) وهو مكة المكرمة ، محل نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فأقسم تعالى بهذه المواضع المقدسة ، التي اختارها وابتعث منها أفضل الأنبياء وأشرفهم. والمقسم عليه قوله :

[٤] (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (٤) ، أي : تام الخلق ، متناسب الأعضاء ، منتصب القامة ، لم يفقد مما يحتاج إليه ظاهرا وباطنا شيئا.

[٥] ومع هذه النعم العظيمة ، التي ينبغي له القيام بشكرها ، فأكثر الخلق منحرفون عن شكر المنعم ، مشتغلون باللهو واللعب ، قد رضوا لأنفسهم ، بأسافل الأمر ، وسفساف الأخلاق. فردهم الله في أسفل سافلين ، أي : أسفل النار ، موضع العصاة المتمردين على ربهم ، إلا من منّ الله عليه بالإيمان ، والعمل الصالح ، والأخلاق الفاضلة العالية.

[٦] (فَلَهُمْ) بذلك المنازل العالية ، و (أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) ، أي : غير مقطوع ، بل لذات متوافرة ، وأفراح متواترة ، ونعم متكاثرة ، في أبد لا يزول ، ونعيم لا يحول ، أكلها دائم وظلها.

[٧] (فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) (٧) ، أي : أي شيء يكذبك أيها الإنسان ، بيوم الجزاء على الأعمال ، وقد رأيت من آيات الله الكثيرة ما يحصل لك به اليقين ، ومن نعمه ما يوجب عليك أن لا تكفر بشيء منها؟

[٨] (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) (٨) ، فهل تقتضي حكمته أن يترك الخلق سدى لا يؤمرون ولا ينهون ، ولا يثابون ولا يعاقبون؟ أم الذي خلق بني الإنسان أطوارا بعد أطوار ، وأوصل إليهم من النعم والخير والبر ما لا يحصونه ، ورباهم التربية الحسنة ، لا بد أن يعيدهم إلى دار هي مستقرهم ، وغايتهم التي إليها يقصدون ، ونحوها يؤمون. تم تفسير سورة التين ـ والحمد.

تفسير سورة العلق

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] هذه السورة أول السور القرآنية نزولا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فإنها نزلت في مبادئ النبوة ، إذ كان لا يدري ما

١١١٩

الكتاب ولا الإيمان. فجاءه جبريل عليه‌السلام بالرسالة ، وأمره أن يقرأ ، فاعتذر ، وقال : «ما أنا بقارئ» فلم يزل به حتى قرأ. فأنزل الله : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (١) عموم الخلق. ثم خص الإنسان ، وذكر ابتداء خلقه (مِنْ عَلَقٍ). فالذي خلق الإنسان ، واعتنى بتدبيره ، لا بد أن يدبر بالأمر والنهي ، وذلك بإرسال الرسل ، وإنزال الكتب. ولهذا أتى بعد الأمر بالقراءة ، بخلقه للإنسان.

[٣] ثم قال : (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) (٣) ، أي : كثير الصفات واسعها ، كثير الكرم والإحسان ، واسع الجود ، الذي من كرمه أن علم أنواع العلوم.

[٤ ـ ٥] و (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) (٥) فإنه تعالى أخرجه من بطن أمه ، لا يعلم شيئا ، وجعل له السمع والبصر والفؤاد ، ويسر له أسباب العلم. فعلمه القرآن ، وعلمه الحكمة ، وعلمه بالقلم ، الذي به تحفظ العلوم ، وتضبط الحقوق ، وتكون رسلا للناس ، تنوب مناب خطابهم. فلله الحمد والمنة ، الذي أنعم على عباده بهذه النعم التي لا يقدرون لها ، على جزاء ولا شكور. ثم منّ عليهم بالغنى وسعة الرزق.

[١١] ولكن الإنسان ـ لجهله وظلمه ـ إذا رأى نفسه غنيا ، طغى وبغى ، وتجبر عن الهدى ، ونسي أن لربه الرجعى ، ولم يخف الجزاء ، بل ربما وصلت به الحال إلى أنه يترك الهدى بنفسه ، ويدعو غيره إلى تركه ، فينهى عن الصلاة التي هي أفضل أعمال الإيمان ، يقول الله لهذا المتمرد العاتي : (أَرَأَيْتَ) أيها الناهي للعبد إذا صلى (إِنْ كانَ) العبد المصلي (عَلَى الْهُدى) العلم بالحق ، والعمل به.

[١٢] (أَوْ أَمَرَ) غيره (بِالتَّقْوى). فهل يحسن أن ينهى ، من هذا وصفه؟ أليس نهيه من أعظم المحادّة لله ، والمحاربة للحق؟ فإن النهي لا يتوجه إلا ممن هو في نفسه على غير الهدى ، أو كان يأمر غيره بخلاف التقوى.

[١٣] (أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ) الناهي بالحق (وَتَوَلَّى) عن الأمر ، أما يخاف الله ، ويخشى عقابه؟ (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) (١٤) ما يعمل ويفعل؟

[١٥ ـ ١٦] ثم توعده إن استمر على حاله فقال : (كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ) عما يقول ويفعل (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) ، أي : لنأخذن بناصيته أخذا عنيفا ، وهي حقيقة بذلك ، فإنها (ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) (١٦) ، أي : كاذبة في قولها ، خاطئة في فعلها.

[١٧] (فَلْيَدْعُ) هذا الذي حق عليه العذاب (نادِيَهُ) ، أي : أهل مجلسه وأصحابه ، ومن حوله ، ليعينوه على ما نزل به.

[١٨] (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) (١٨) ، أي : خزنة جهنم ، لأخذه وعقوبته. فلينظر أي الفريقين أقوى وأقدر؟ فهذه حالة الناهي ، وما توعد به من العقوبة. وأما حالة المنهي ، فأمره الله أن لا يصغي إلى هذا الناهي ، ولا ينقاد لنهيه ، فقال :

[١٩] (كَلَّا لا تُطِعْهُ) ، أي : فإنه لا يأمر إلا بما فيه الخسار. (وَاسْجُدْ) لربك (وَاقْتَرِبْ) منه في السجود وغيره من أنواع الطاعات والقربات ، فإنها كلها تدني من رضاه ، وتقرب منه. وهذا عام لكل ناه عن الخير ، ولكل منهي عنه. وإن كانت نازلة في شأن أبي جهل ، حين نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الصلاة ، وعذبه وآذاه. تم تفسير سورة العلق ـ والحمد لله رب العالمين.

١١٢٠