تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي

تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

المؤلف:

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ١١٣٥

ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (١٠٧) وأيضا ففي إضافتها إلى رحمته ، ما يدل على استمرار سرورها ، وأنها باقية ، ببقاء رحمته التي هي أثرها وموجبها. و «العباد» في هذه الآية المراد ، عباد إلهيته ، الّذين عبدوه ، والتزموا شرائعه ، فصارت العبودية وصفا لهم كقوله : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ) ونحوه ، بخلاف عباده المماليك فقط ، الّذين لم يعبدوه ، فهؤلاء وإن كانوا عبيدا لربوبيته ، لأنه خلقهم ورزقهم ، ودبرهم ، فليسوا داخلين في عبيد إلهيته ، العبودية الاختيارية ، التي يمدح صاحبها ، وإنما عبوديتهم ، عبودية اضطرار ، لا مدح لهم فيها. وقوله : (بِالْغَيْبِ) يحتمل أن تكون متعلقة ب (وَعَدَ الرَّحْمنُ) فيكون المعنى على هذا ، أن الله وعدهم إياها ، وعدا غائبا ، لم يشاهدوه ولم يروه ، فآمنوا بها ، وصدقوا غيبها وسعوا لها سعيها ، مع أنهم لم يروها ، فكيف لو رأوها ، لكانوا أشد لها طلبا ، وأعظم فيها رغبة ، وأكثر لها سعيا ، ويكون في هذا ، مدح لهم بإيمانهم بالغيب ، الذي هو الإيمان النافع. ويحتمل أن تكون متعلقة بعباده ، أي : الّذين عبدوه في حال غيبهم وعدم رؤيتهم إياه. فهذه عبادتهم ولم يروه ، فلو رأوه ، لكانوا أشد له عبادة ، وأعظم إنابة ، وأكثر حبا ، وأجل شوقا ، ويحتمل أيضا ، أن المعنى : هذه الجنات التي وعدها الرحمن عباده ، من الأمور التي لا تدركها الأوصاف ، ولا يعلمها أحد إلا الله ، ففيه من التشويق لها ، والوصف المجمل ، ما يهيج النفوس ، ويزعج الساكن إلى طلبها ، فيكون هذا مثل قوله : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٧) والمعاني كلها صحيحة ثابتة ، ولكن الاحتمال الأول ، أولى بدليل قوله : (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) لا بد من وقوعه ، فإنه لا يخلف الميعاد ، وهو أصدق القائلين.

[٦٢] (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً) أي : كلاما لاغيا ، لا فائدة فيه ، ولا ما يؤثم. فلا يسمعون فيها شتما ، ولا عيبا ، ولا قولا فيه معصية لله ، أو قولا مكدرا. (إِلَّا سَلاماً) أي : الأقوال السالمة من كل عيب ، من ذكر الله ، وتحية ، وكلام سرور ، وبشارة ، ومطارحة الأحاديث الحسنة بين الإخوان وسماع خطاب الرحمن ، والأصوات الشجية ، من الحور ، والملائكة ، والولدان ، والنغمات المطربة ، والألفاظ الرخيمة ، لأن الدار ، دار السّلام ، فليس فيها إلا السّلام التام في جميع الوجوه. (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أي : أرزاقهم من المآكل والمشارب ، وأنواع اللذات ، مستمرة حيثما طلبوا ، وفي أي وقت رغبوا ، ومن تمامها ، ولذتها ، وحسنها ، أن تكون في أوقات معلومة. (بُكْرَةً وَعَشِيًّا) ليعظم وقعها ويتم نفعها.

[٦٣] ف (تِلْكَ الْجَنَّةُ) التي وصفناها بما ذكر (الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) أي : نورثها المتقين ، ونجعلها منزلهم الدائم ، الذي لا يظعنون عنه ، ولا يبغون عنها حولا كما قال تعالى : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (١٣٣).

[٦٤] استبطأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل عليه‌السلام مرة في نزوله إليه فقال له : «لو تأتينا أكثر مما تأتينا» ، شوقا إليه ، وتوحشا لفراقه ، وليطمئن قلبه بنزوله. فأنزل الله تعالى على لسان جبريل (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) أي : ليس لنا من الأمر شيء ، إن أمرنا ، ابتدرنا أمره ، ولم نعص له أمرا ، كما قال الله عنهم : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) فنحن عبيد مأمورون. (لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ) أي : له الأمور الماضية والمستقبلة والحاضرة ، في الزمان ، والمكان ، فإذا تبين أن الأمر كله لله ، وأننا عبيد مدبرون ، فيبقى الأمر دائرا بين «هل تقتضيه الحكمة الإلهية فينفذه؟ أم لا تقتضيه فيؤخره؟ ولهذا قال : (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) أي : لم يكن لينساك ويهملك ، كما قال تعالى : (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) (٣). بل لم يزل معتنيا بأمورك ، مجربا لك على أحسن عوائده الجميلة ، وتدابيره الجليلة. أي : فإذا تأخر نزولنا عن الوقت المعتاد ، فلا يحزنك ذلك ، ولا يهمك ، واعلم أن الله ، هو الذي أراد ذلك ، لما له من الحكمة فيه.

[٦٥] ثم علل إحاطة علمه ، وعدم نسيانه ، بأنه (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فربوبيته للسموات والأرض ، وكونهما

٥٨١

على أحسن نظام وأكمله ، ليس فيه غفلة ولا إهمال ، ولا سدى ، ولا باطل ، برهان قاطع على علمه الشامل ، فلا تشغل نفسك بذلك ، بل اشغلها بما ينفعك ، ويعود عليك طائله وهو : عبادته وحده ، لا شريك له. (وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ) أي : اصبر نفسك عليها ، وجاهدها ، وقم عليها أتم القيام وأكمله بحسب قدرتك. وفي الاشتغال بعبادة الله تسلية للعابد عن جميع التعلقات والمشتهيات ، كما قال تعالى : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) إلى أن قال : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) الآية. (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) أي : هل تعلم لله مساميا ، ومشابها ، ومماثلا من المخلوقين. وهذا استفهام بمعنى النّفي ، المعلوم بالعقل. أي : لا تعلم له مساميا ولا مشابها ، لأنه الرب ، وغيره مربوب ، الخالق ، وغيره مخلوق ، الغني من جميع الوجوه ، وغيره فقير بالذات من كل وجه ، الكامل ، الذي من الكمال المطلق من جميع الوجوه ، وغيره ناقص ليس فيه من الكمال ، إلا ما أعطاه الله تعالى ، فهذا برهان قاطع على أن الله هو المستحق لإفراده بالعبودية ، وأن عبادته حق ، وعبادة ما سواه باطل ، فلهذا أمر بعبادته وحده ، والاصطبار عليها ، وعلل بكماله وانفراده ، بالعظمة ، والأسماء الحسنى.

[٦٦] المراد بالإنسان هاهنا ، كل منكر للبعث ، مستبعد لوقوعه. فيقول ـ مستفهما على وجه النفي والعناد والكفر ـ (أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا). أي : كيف يعيدني الله حيا بعد الموت ، وبعد ما كنت رميما؟ هذا لا يكون ولا يتصور ، وهذا بحسب عقله الفاسد ، ومقصده السيّء ، وعناده لرسل الله وكتبه ، فلو نظر أدنى نظر ، وتأمل أدنى تأمل ، لرأى استبعاده للبعث ، في غاية السخافة.

[٦٧] ولهذا ذكر تعالى برهانا قاطعا ، ودليلا واضحا ، يعرفه كل أحد على إمكان البعث فقال : (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) (٦٧) أي : أو لا يلفت نظره ، ويستذكر حالته الأولى ، وأن الله خلقه أول مرة ، ولم يك شيئا. فمن قدر على خلقه من العدم ، ولم يك شيئا مذكورا ، أليس بقادر على إنشائه بعد ما تمزق ، وجمعه بعد ما تفرق؟ وهذا كقوله : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ). وفي قوله : (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ) دعوة للنظر ، بالدليل العقلي ، بألطف خطاب ، وأن إنكار من أنكر ذلك ، مبني على غفلة منه عن حاله الأولى. وإلا فلو تذكرها وأحضرها في ذهنه ، لم ينكر ذلك.

[٦٨] أقسم الله تعالى وهو أصدق القائلين ـ بربوبيته ، ليحشرن هؤلاء المنكرين للبعث ، هم وشياطينهم وليجمعنهم لميقات يوم معلوم. (ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا) أي : جاثين على ركبهم من شدة الأهوال ، وكثرة الزلزال ، وفظاعة الأحوال ، منتظرين لحكم الكبير المتعال.

[٦٩] ولهذا ذكر حكمه فيهم فقال : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) (٦٩) أي : ثم لننزعن من كل طائفة وفرقة من الظالمين المشتركين في الظلم والكفر ، والعتوّ أشدهم عتوا ، وأعظمهم ظلما ، وأكبرهم كفرا فيقدمهم إلى العذاب ، ثم هكذا يقدم إلى العذاب ، الأغلظ إثما ، فالأغلظ ، وهم في تلك الحال متلاعنون ، يلعن

٥٨٢

بعضهم بعضا. وتقول أخراهم لأولاهم : (رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) ... (وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) ، وكل هذا ، تابع لعدله. وحكمته وعلمه الواسع.

[٧٠] ولهذا قال : (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا) (٧٠) أي : علمنا محيط بمن هو أولى صليا بالنار ، وقد علمناهم ، وعلمنا أعمالهم واستحقاقها ، وقسطها من العذاب.

[٧١] وهذا خطاب لسائر الخلائق ، برهم وفاجرهم ، مؤمنهم وكافرهم ، أنه ما منهم من أحد ، إلا سيرد النار ، حكما حتمه الله على نفسه ، وأوعد به عباده ، فلا بد من نفوذه ، ولا محيد عن وقوعه. واختلف في معنى الورود فقيل : ورودها ، حضورها للخلائق كلهم ، حتى يحصل الانزعاج من كل أحد ، ثم بعد ، ينجي الله المتقين. وقيل : ورودها ، دخولها وحضورها ، فتكون على المؤمنين بردا وسلاما. وقيل : الورود ، هو المرور على الصراط ، الذي هو على متن جهنم. فيمر الناس على قدر أعمالهم ، فمنهم من يمر كلمح البصر ، وكالريح ، وكأجاويد الخيل ، وكأجاويد الركاب. ومنهم من يسعى ، ومنهم من يمشي مشيا ، ومنهم من يزحف زحفا ، ومنهم من يخطف فيلقى في النار ، كلّ بحسب تقواه.

[٧٢] ولهذا قال : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) الله تعالى بفعل المأمور ، واجتناب المحظور (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ) أنفسهم بالكفر والمعاصي (فِيها جِثِيًّا) وهذا بسبب ظلمهم وكفرهم ، وجب لهم الخلود ، وحق عليهم العذاب ، وتقطعت بهم الأسباب.

[٧٣] أي : وإذا تتلى على هؤلاء الكفار آياتنا بينات ، أي : واضحات الدلالة على وحدانية الله ، وصدق رسله ، توجب لمن سمعها ، صدق الإيمان ، وشدة الإيقان ـ قابلوها بضد ما يجب لها ، واستهزؤوا بها ، وبمن آمن بها واستدلوا بحسن حالهم في الدنيا ، على أنهم خير من المؤمنين فقالوا معارضين للحق : (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) أي : نحن والمؤمنين (خَيْرٌ مَقاماً) أي : في الدنيا ، من كثرة الأموال والأولاد ، وتفوق الشهوات (وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) أي مجلسا : أي : فاستنتجوا من هذه المقدمة الفاسدة ، بسبب أنهم أكثر مالا وأولادا وقد حصلت أكثر مطالبهم من الدنيا ، ومجالسهم وأنديتهم مزخرفة مزوقة ، والمؤمنون بخلاف هذه الحال ، فهم خير من المؤمنين. وهذا دليل في غاية الفساد ، وهو من باب قلب الحقائق ، وإلا فكثرة الأموال والأولاد ، وحسن المنظر ، كثيرا ما يكون سببا لهلاك صاحبه ، وشقائه ، وشره.

[٧٤] ولهذا قال تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً) أي : متاعا ، من أوان وفرش ، وبيوت ، وزخارف (وَرِءْياً) أي : أحسن مرأى ومنظرا ، من غضارة العيش ، وسرور اللذات ، وحسن الصور. فإذا كان هؤلاء المهلكون أحسن منهم أثاثا ورئيا ، ولم يمنعهم ذلك من حلول العقاب بهم ، فكيف يكون هؤلاء ، وهم أقل منهم وأذل ، معتصمين من العذاب (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) (٤٣)؟ وعلم من هذا ، أن الاستدلال على خير الآخرة بخير الدنيا ، من أفسد الأدلة ، وأنه من طرق الكفار.

[٧٥] لما ذكر دليلهم الباطل ، الدال على شدة عنادهم ، وقوة ضلالهم ، أخبر هنا ، أن من كان في الضلالة ، بأن رضيها لنفسه ، وسعى فيها ، فإن الله يمده منها ، ويزيده فيها حبا ، عقوبة له على اختيارها على الهدى قال تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) ، (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١١٠). (حَتَّى إِذا رَأَوْا) أي : القائلون : (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) ، (ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ) بقتل أو غيره (وَإِمَّا السَّاعَةَ) التي هي باب الجزاء على الأعمال (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً) أي : فحينئذ يتبين لهم بطلان دعواهم ، وأنها دعوى مضمحلة ، ويتيقنون أنهم أهل الشر. (وَأَضْعَفُ جُنْداً) ولكن لا يفيدهم هذا العلم شيئا ، لأنه لا يمكنهم الرجوع إلى الدنيا ، فيعملون غير عملهم الأول.

٥٨٣

[٧٦] لما ذكر أنه يمد للظالمين في ضلالهم ، ذكر أنه يزيد المهتدين هداية من فضله عليهم ورحمته. والهدى يشمل العلم النافع ، والعمل الصالح. فكل من سلك طريقا في العلم والإيمان ، والعمل الصالح ، زاده الله منه وسهله عليه ويسره له ، ووهب له أمورا أخر ، لا تدخل تحت كسبه ، وفي هذا دليل على زيادة الإيمان ونقصه ، كما قاله السلف الصالح. ويدل عليه قوله تعالى : (وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) ، (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً). ويدل عليه أيضا ، الواقع ، فإن الإيمان قول القلب واللسان ، وعمل القلب واللسان والجوارح ، والمؤمنون متفاوتون في هذه الأمور ، أعظم تفاوت. ثم قال : (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) أي : الأعمال الباقية ، التي لا تنقطع إذا انقطع غيرها ، ولا تضمحل ، هي الصالحات منها ، من صلاة وزكاة ، وصوم ، وحج ، وعمرة ، وقراءة ، وتسبيح ، وتكبير ، وتحميد ، وتهليل ، وإحسان إلى المخلوقين ، وأعمال قلبية وبدنية. فهذه الأعمال (خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا) أي : خير عند الله ، ثوابها وأجرها ، وكثير للعاملين نفعها وردها ، وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل في غير بابه ، فإنه ما ثمّ غير الباقيات الصالحات ، عمل ينفع ولا يبقى لصاحبه ثوابه ، ولا ينجع. ومناسبة ، ذكر الباقيات الصالحات ، والله أعلم ـ أنه لما ذكر أن الظالمين جعلوا أحوال الدنيا من المال والولد ، وحسن المقام ونحو ذلك ، علامة لحسن حال صاحبها ، أخبر هنا أن الأمر ، ليس كما زعموا ، بل العمل الذي هو عنوان السعادة ، ومنشور الفلاح ، بما يحبه الله ويرضاه.

[٧٧] أي : أفلا تعجب من حالة هذا الكافر ، الذي جمع بين كفره بآيات الله ودعواه الكبيرة ، أنه سيؤتى في الآخرة مالا وولدا ، أي : يكون من أهل الجنة ، هذا من أعجب الأمور. فلو كان مؤمنا بالله وادعى هذه الدعوى ، لسهل الأمر. وهذه الآية وإن كانت نازلة في كافر معين ، فإنها تشمل كل كافر ، زعم أنه على الحق ، وأنه من أهل الجنة.

[٧٨] قال الله ، توبيخا له وتكذيبا : (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ) أي : أحاط علمه بالغيب ، حتى علم ما يكون ، وأن من جملة ما يكون ، أنه يؤتى يوم القيامة مالا وولدا؟ (أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) أنه نائل ما قاله ، أي : لم يكن شيء من ذلك ، فعلم أنه متقوّل ، قائل ما لا علم لديه. وهذا التقسيم والترديد ، في غاية ما يكون من الإلزام وإقامة الحجة. فإن الذي يزعم أنه حاصل له خير عند الله في الآخرة ، لا يخلو : إما أن يكون قوله صادرا عن علم بالغيوب المستقبلة ، وقد علم أن هذا ، لله وحده ، فلا أحد يعلم شيئا من المستقبلات الغيبية ، إلا من أطلعه الله عليه من رسله. وإما أن يكون متخذا عهدا عند الله ، بالإيمان به ، واتباع رسله ، الّذين عهد الله لأهله ، وأوزع أنهم أهل الآخرة ، والناجون الفائزون. فإذا انتفى هذان الأمران ، علم بذلك ، بطلان الدعوى.

[٧٩] ولهذا قال تعالى : (كَلَّا) أي : ليس الأمر كما زعم ، فليس للقائل اطلاع على الغيب ، لأنه كافر ، ليس عنده من علم الرسائل شيء ، ولا اتخذ عند الرحمن عهدا ، لكفره وعدم إيمانه. ولكنه يستحق ضد ما تقوّل ، وأن قوله مكتوب ، محفوظ ، ليجازى عليه ويعاقب. ولهذا قال : (سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا) أي :

٥٨٤

نزيده من أنواع العقوبات ، كما ازداد من الغي والضلال.

[٨٠] (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ) أي : نرثه ماله وولده ، فينتقل من الدنيا فردا ، بلا مال ولا أهل ولا أنصار ، ولا أعوان (وَيَأْتِينا فَرْداً) فيرى من وخيم العقاب ، ما هو جزاء أمثاله من الظالمين.

[٨١ ـ ٨٣] وهذا من عقوبة الكافرين أنهم ـ لما لم يعتصموا بالله ، ولم يتمسكوا بحبل الله ، بل أشركوا به ووالوا أعداءه ، من الشياطين ـ سلطهم عليهم ، وقيضهم ، فجعلت الشياطين ، تؤزهم إلى المعاصي أزا ، وتزعجهم إلى الكفر إزعاجا ، فيوسوسون لهم ، ويوحون إليهم ، ويزينون لهم الباطل ، ويقبحون لهم الحق ، فيدخل حب الباطل في قلوبهم ، ويتشربها فيسعى فيه سعي المحق في حقه فينصره بجده ، ويجاهد أهل الحق في سبيل الباطل. وهذا كله ، جزاء له على توليه من وليه وتوليه لعدوه جعل له عليه سلطانه. وإلا فلو آمن بالله ، وتوكل عليه ، لم يكن له عليه سلطان كما قال تعالى : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) (١٠٠).

[٨٤] (فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ) أي : على هؤلاء الكفار المستعجلين بالعذاب (إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) أي : أن لهم أياما معدودة لا يتقدمون عنها ولا يتأخرون ، نمهلهم ونحلم عنهم مدة ليراجعوا أمر الله ، فإذا لم ينجع فيهم ذلك أخذناهم أخذ عزيز مقتدر.

[٨٥] يخبر تعالى عن تفاوت الفريقين ، المتقين ، والمجرمين ، وأن المتقين له ـ باتقاء الشرك والبدع والمعاصي ـ يحشرهم إلى موقف القيامة مكرمين ، مبجلين معظمين ، وأن مآلهم الرحمن ، وقصدهم المنان ، وفدا إليه ، والوافد ، لا بد أن يكون في قلبه ، من الرجاء ، وحسن الظن بالوافد إليه ، ما هو معلوم. فالمتقون ، يفدون إلى الرحمن ، راجين من رحمته ، وعميم إحسانه ، والفوز بعطاياه في دار رضوانه ، وذلك بسبب ما قدموه من العمل بتقواه ، واتباع مراضيه ، وأن الله عهد إليهم بذلك الثواب ، على ألسنة رسله فتوجهوا إلى ربهم مطمئنين به ، واثقين بفضله.

[٨٦] وأما المجرمون ، فإنهم يساقون إلى جهنم وردا ، أي : عطاشا ، وهذا أبشع ما يكون من الحالات سوقهم على وجه الذل والصغار ، إلى أعظم سجن وأفظع عقوبة ، وهو جهنم ، في حال ظمئهم ونصبهم ، يستغيثون ، فلا يغاثون ويدعون ، فلا يستجاب لهم ، ويستشفعون ، فلا يشفع لهم.

[٨٧] ولهذا قال : (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ) أي : ليست الشفاعة ملكهم ، ولا لهم منها شيء ، وإنما هي لله تعالى (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً). وقد أخبر أنه لا تنفعهم شفاعة الشافعين ، لأنهم لم يتخذوا عنده عهدا بالإيمان به وبرسله ، وإلا ، فمن اتخذ عنده عهدا فآمن به وبرسله ، واتبعهم ، فإنه ممن ارتضاه الله ، وتحصل له الشفاعة كما قال تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) وسمى الله الإيمان به ، واتباع رسله ، عهدا ، لأنه عهد في كتبه ، وعلى ألسنة رسله ، بالجزاء الجميل ، لمن اتبعهم.

[٨٨] وهذا تقبيح وتشنيع لقول المعاندين الجاحدين ، الّذين زعموا أن الرحمن اتخذ ولدا كقول النصارى (الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) واليهود (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) والمشركين «الملائكة بنات الله» تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا. (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) (٨٩) أي : عظيما وخيما.

[٩٠] من عظيم أمره أنه (تَكادُ السَّماواتُ) على عظمتها وصلابتها (يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) أي : من هذا القول (وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ) منه ، تتصدع وتنفطر (وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) أي : تندك الجبال.

[٩١] (أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) (٩١) أي : من أجل هذه الدعوى القبيحة ، تكاد هذه المخلوقات ، أن يكون منها ما ذكر.

[٩٢] والحال أنه : (وَما يَنْبَغِي) أي : لا يليق ولا يكون (لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) وذلك لأن اتخاذه الولد ، يدل

٥٨٥

على نقصه واحتياجه ، وهو الغني الحميد. والولد أيضا ، من جنس والده ، والله تعالى ، لا شبيه له ، ولا مثل ، ولا سميّ.

[٩٣] (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) (٩٣) أي : ذليلا منقادا ، غير متعاص ولا ممتنع ، الملائكة ، والإنس ، والجن وغيرهم. الجميع مماليك ، متصرف فيهم ليس لهم من الملك شيء ، ولا من التدبير شيء ، فكيف يكون له ولد ، وهذا شأنه وعظمة ملكه؟

[٩٤] (لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا) (٩٤) أي : لقد أحاط علمه بالخلائق كلهم ، أهل السموات والأرض ، وأحصاهم ، وأحصى أعمالهم ، فلا يضل ولا ينسى ، ولا تخفى عليه خافية.

[٩٥] (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) (٩٥) أي : لا أولاد ، ولا مال ، ولا أنصار ، ليس معه ، إلا عمله ، فيجازيه الله ، ويوفيه حسابه ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر كما قال تعالى : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ).

[٩٦] هذا من نعمه على عباده ، الّذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح ، أن يجعل لهم ودا أي : محبة وودادا في قلوب أوليائه ، وأهل السماء والأرض ، وإذا كان لهم من الخيرات ، والدعوات ، والإرشاد ، والقبول ، والإمامة ، ما حصل ، ولهذا ورد في الحديث الصحيح : «إن الله إذا أحب عبدا ، نادى جبريل : إني أحب فلانا فأحبه ، فيحبه جبريل ، ثم ينادي في أهل السماء : إن الله يحب فلانا فأحبوه ، فيحبه أهل السماء ، ثم يوضع له القبول في الأرض». وإنما جعل الله لهم ودا ، لأنهم ودوه ، فوددهم إلى أوليائه وأحبابه.

[٩٧] يخبر تعالى عن نعمته ، وأنه يسر هذا القرآن الكريم بلسان الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يسر ألفاظه ومعانيه ، ليحصل المقصود منه ، والانتفاع به. (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ) بالترغيب في المبشر به من الثواب العاجل والآجل ، وذكر الأسباب الموجبة للبشارة. (وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) أي : شديدين في باطلهم ، أقوياء في كفرهم ، فتنذرهم.

فتقوم عليهم الحجة ، وتتبين لهم المحجة ، فيهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حيّ عن بينة.

[٩٨] ثم توعدهم بإهلاك المكذبين قبلهم فقال : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) من قوم نوح ، وعاد ، وثمود ، وغيرهم من المعاندين المكذبين ، لما استمروا في طغيانهم ، أهلكهم الله فليس لهم من باقية. (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً) والركز : الصوت الخفي ، أي : لم يبق منهم عين ولا أثر ، بل بقيت أخبارهم عبرة للمعتبرين ، وأسمارهم ، عظة للمتعظين.

تم تفسير سورة مريم ، ولله الحمد والشكر.

٥٨٦

سورة طه

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (طه) (١) من جملة الحروف المقطعة ، المفتتح بها كثير من السور ، وليست اسما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

[٢] (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) (٢) أي : ليس المقصود بالوحي ، وإنزال القرآن عليك ، وشرع الشريعة ، لتشقى بذلك ، ويكون في الشريعة تكليف يشق على المكلفين وتعجز عنه قوى العاملين. وإنما الوحي ، والقرآن والشرع ، شرعه الرحيم الرحمن ، وجعله موصلا للسعادة ، والفلاح ، والفوز ، وسهله غاية التسهيل ، ويسر كل طرقه وأبوابه ، وجعله غذاء للقلوب والأرواح ، وراحة للأبدان ، فتلقته الفطر السليمة والعقول المستقيمة ، بالقبول ، والإذعان ، لعلمها بما احتوى عليه ، من الخير في الدنيا والآخرة.

[٣] ولهذا قال : (إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى) (٣) أي : إلا ليتذكر به من يخشى الله تعالى ، فيتذكر ما فيه من الترغيب ، لأجل المطالب ، فيعمل بذلك ، ومن الترهيب عن الشقاء والخسران ، فيرهب منه ، ويتذكر به الأحكام الحسنة الشرعية المفصلة ، التي كانت مستقرا في عقله حسنها مجملا ، فوافق التفصيل ما يجده في فطرته وعقله ، ولهذا سماه الله (تَذْكِرَةً). والتذكرة لشيء كان موجودا ، إلا أن صاحبه غافل عنه ، أو غير مستحضر لتفصيله. وخص بالتذكرة (لِمَنْ يَخْشى) لأن غيره لا ينتفع به ، وكيف ينتفع به من لم يؤمن بجنة ولا نار ، ولا في قلبه من خشية الله مثقال ذرة؟ هذا ما لا يكون. (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) (١٢). ثم ذكر جلالة هذا القرآن العظيم ، وأنه تنزيل خالق الأرض والسموات ، المدبر لجميع المخلوقات ، أي : فاقبلوا تنزيله ، بغاية الإذعان ، والمحبة ، والتسليم ، وعظموه نهاية التعظيم.

[٤] وكثيرا ما يقرن بين الخلق والأمر ، كما في هذه الآية ، وكما في قوله : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) وفي قوله : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) وذلك أنه الخالق الآمر الناهي ، فكما أنه لا خالق سواه ، فليس على الخلق إلزام ، ولا أمر ، ولا نهي إلا من خالقهم ، وأيضا ، فإن خلقه للخلق ، فيه من التدبير القدري الكوني ، وأمره ، فيه التدبير الشرعي الديني ، فكما أن الخلق لا يخرج عن الحكمة ، فلم يخلق شيئا عبثا ، فكذلك لا يأمر ولا ينهى ، إلا بما هو عدل ، وحكمة ، وإحسان.

[٥] فلما بين أنه الخالق المدبر ، الآمر الناهي ، أخبر عن عظمته وكبريائه ، فقال : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ) الذي هو أرفع المخلوقات وأعظمها ، وأوسعها. (اسْتَوى) استواء يليق بجلاله ، ويناسب عظمته وجماله ، فاستوى على العرش ، واحتوى على الملك.

[٦] (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) من ملك وإنسي وجني ، وحيوان ، وجماد ، ونبات. (وَما تَحْتَ الثَّرى) أي : الأرض ، فالجميع ملك لله تعالى ، عبيد مدبرون مسخرون ، تحت قضائه وتدبيره ليس لهم من الملك

٥٨٧

شيء ، ولا يملكون لأنفسهم ، نفعا ولا ضرا ، ولا موتا ، ولا حياة ، ولا نشورا.

[٧] (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ) الكلام الخفي (وَأَخْفى) من السر ، الذي في القلب ، ولم ينطق به ، أو السر : ما خطر على القلب (وَأَخْفى) : ما لم يخطر ، يعلم تعالى أنه يخطر في وقته ، وعلى صفته. المعنى : أن علمه تعالى محيط بجميع الأشياء ، دقيقها ، وجليلها ، خفيها وظاهرها ، فسواء جهرت بقولك أو أسررته ، فالكل سواء ، بالنسبة لعلمه تعالى.

[٨] فلما قرر كماله المطلق ، بعموم خلقه ، وعموم أمره ونهيه ، وعموم رحمته ، وسعة عظمته ، وعلوه على عرشه ، وعموم ملكه ، وعموم علمه ، نتج من ذلك ، أنه المستحق للعبادة ، وأن عبادته هي الحق التي يوجبها الشرع ، والعقل ، والفطرة. وعبادة غيره باطلة ، فقال : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي : لا معبود بحق ، ولا مألوه بالحب والذل ، والخوف والرجاء ، والمحبة والإنابة والدعاء ، إلا هو. (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) أي : له الأسماء الكثيرة الكاملة الحسنى ، من حسنها ، أنها كلها ، أسماء دالة على المدح ، فليس فيها ، اسم لا يدل على المدح والحمد ، ومن حسنها ، أنها ليست أعلاما محضة ، وإنما هي أسماء وأوصاف. ومن حسنها ، أنها دالة على الصفات الكاملة ، وأن له من كل صفة ، أكملها ، وأعمها ، وأجلها ، ومن حسنها ، أنه أمر العباد أن يدعوه بها ، لأنها وسيلة مقربة إليه ، يحبها ، ويحب من يحبها ، ويحب من يحفظها ، ويحب من يبحث عن معانيها ويتعبد له بها ، قال تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها).

[٩] يقول تعالى لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على وجه الاستفهام التقريري والتعظيم لهذه القصة والتفخيم لها : (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) (٩) في حاله التي هي مبدأ سعادته ، ومنشأ نبوته ، أنه رأى نارا من بعيد ، وكان قد ضل الطريق ، وأصابه البرد ، ولم يكن عنده ما يتدفأ به في سفره.

[١٠] (فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ) أي : أبصرت (ناراً) وكان ذلك في جانب الطور الأيمن. (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ) تصطلون به (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً). أي : من يهديني الطريق. وكان مطلبه ، النور الحسي والهداية الحسية ، فوجد ثمّ النور المعنوي ، نور الوحي ، الذي تستنير به الأرواح والقلوب ، والهداية الحقيقية ، هداية الصراط المستقيم ، الموصلة إلى جنات النعيم. فحصل له أمر ، لم يكن في حسابه ، ولا خطر بباله.

[١١] (فَلَمَّا أَتاها) أي : النار التي آنسها من بعيد ، وكانت ـ في الحقيقة ـ نورا ، وهي نار تحرق وتشرق ، ويدل على ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «حجابه النور أو النار لو كشفه ، لأحرقت سبحات وجهه ، ما انتهى إليه بصره» ، فلما وصل إليها نودي منها أي : ناداه الله كما قال : (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) (٥٢).

[١٢] (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) (١٢) أخبره أنه ربه ، وأمره ، أن يستعد ويتهيأ لمناجاته ، ويهتم لذلك ، ويلقي نعليه ، لأنه بالوادي المقدس المطهر المعظم. ولو لم يكن من تقديسه ، إلا أنه اختار لمناجاته ، كليمه موسى ، لكفى. وقد قال كثير من المفسرين : «إن الله أمره أن يلقي نعليه ، لأنهما من جلد حمار» فالله أعلم بذلك.

٥٨٨

[١٣] (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) أي : تخيرتك واصطفيتك من الناس ، وهذه أكبر نعمة ومنة أنعم الله بها عليه ، تقتضي من الشكر ، ما يليق بها ، ولهذا قال : (فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) أي : ألق سمعك للذي أوحي إليك فإنه حقيق بذلك ، لأنه أصل الدين ومبدؤه ، وعماد الدعوة الإسلامية.

[١٤] ثم بين الذي يوحيه إليه بقول : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) أي : الله المستحق الألوهية المتصف بها ، لأنه الكامل في أسمائه ، وصفاته ، المنفرد بأفعاله ، الذي لا شريك له ، ولا مثيل ، ولا كفو ولا سميّ. (فَاعْبُدْنِي) بجميع أنواع العبادة ، ظاهرها وباطنها ، أصولها وفروعها ، ثم خص الصلاة بالذكر وإن كانت داخلة في العبادة ، لفضلها وشرفها ، وتضمنها عبودية القلب ، واللسان ، والجوارح. وقوله : (لِذِكْرِي) اللام للتعليل أي : أقم الصلاة لأجل ذكرك إياي ، لأن ذكره تعالى ، أجل المقاصد ، وبه عبودية القلب ، وبه سعادته ، فالقلب المعطل عن ذكر الله ، معطل عن كل خير ، وقد خرب كل الخراب ، فشرع الله للعباد ، أنواع العبادات ، التي ، المقصود منها ، إقامة ذكره وخصوصا ، الصلاة. قال تعالى : (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) ، أي : ما فيها من ذكر الله أكبر من نهيها عن الفحشاء والمنكر ، وهذا النوع يقال له توحيد الإلهية ، وتوحيد العبادة ، فالألوهية ، وصفه تعالى ، والعبودية ، وصف عبده.

[١٥] (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) أي : لا بد من وقوعها (أَكادُ أُخْفِيها) ، أي : عن نفسي كما في بعض القراءات ، كقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) وقال : (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) ، فعلمها ، قد أخفاه عن الخلائق كلهم ، فلا يعلمها ملك مقرب ، ولا نبي مرسل. والحكمة في إتيان الساعة (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) من الخير والشر ، فهي الباب لدار الجزاء (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى).

[١٦] أي : فلا يصدنك ويشغلك عن الإيمان بالساعة ، والجزاء ، والعمل لذلك ، من كان كافرا بها ، غير معتقد لوقوعها. يسعى في الشك فيها ، والتشكيك ، ويجادل فيها ، بالباطل ، ويقيم من الشبه ، ما يقدر عليه ، متبعا في ذلك هواه ، ليس قصده الوصول إلى الحق ، وإنما قصاراه ، اتباع هواه ، فإياك أن تصغي إلى من هذه حاله ، أو تقبل شيئا ، من أقواله وأعماله الصادة عن الإيمان بها والسعي لها سعيها ، وإنما حذر الله تعالى عمن هذه حاله ، لأنه من أخوف ما يكون على المؤمن بوسوسته وتدجيله ، وكون النفوس مجبولة على التشبه ، والاقتداء بأبناء الجنس ، وفي هذا تنبيه وإشارة إلى التحذير ، عن كل داع إلى باطل ، يصد عن الإيمان الواجب ، أو عن كماله ، أو يوقع الشبهة في القلب ، وعن النظر في الكتب ، المشتملة على ذلك ، وذكر في هذا ، الإيمان به ، وعبادته ، والإيمان باليوم الآخر ، لأن هذه الأمور الثلاثة ، أصول الإيمان ، وركن الدين ، وإذا تمت تم أمر الدين ، ونقصه أو فقده بنقصها ، أو نقص شيء منها. وهذه نظير قوله تعالى في الإخبار عن ميزان سعادة الفرق ، الّذين أوتوا الكتاب وشقاوتهم (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٦٢). وقوله : (فَتَرْدى) أي : تهلك وتشقى ، إن اتبعت طريق من يصد عنها.

[١٧ ـ ١٨] وقوله تعالى : (وَما تِلْكَ) إلى (مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى). لما بين الله لموسى أصل الإيمان ، أراد أن يبين له ، ويريه من آياته ، ما يطمئن به قلبه ، وتقر به عينه ، ويقوى إيمانه ، بتأييد الله له على عدوه فقال : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) (١٧) هذا ، مع علمه تعالى ، ولكن لزيادة الاهتمام في هذا الموضع ، أخرج الكلام بطريق الاستفهام. فقال موسى : (هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي) ذكر فيها ، هاتين المنفعتين ، منفعة لجنس الآدمي ، وهو أنه يعتمد عليها في قيامه ومشيه ، فيحصل فيها معونة ، ومنفعة للبهائم ، وهو أنه كان يرعى الغنم ، فإذا رعاها في شجر الخبط ونحوه ، هش بها ، أي : ضرب الشجر ، ليتساقط ورقه ، فيرعاه الغنم. هذا الخلق الحسن من موسى عليه‌السلام ، الذي من آثاره ، حسن رعاية الحيوان البهيم ،

٥٨٩

والإحسان إليه ، دل على عناية من الله له واصطفاء ، وتخصيص تقتضيه رحمة الله وحكمته. (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ) أي : مقاصد (أُخْرى) غير هذين الأمرين.

[١٩ ـ ٢٠] ومن أدب موسى عليه‌السلام ، أن الله لما سأله عما في يمينه ، وكان السؤال محتملا عن السؤال عن عينها ، أو منفعتها ـ أجابه بعينها ، ومنفعتها. فقال الله له : (أَلْقِها يا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) (٢٠) انقلبت بإذن الله ثعبانا عظيما ، فولى موسى هاربا خائفا ، ولم يعقب. وفي وصفها بأنها تسعى ، إزالة لوهم يمكن وجوده ، وهو أن يظن أنها تخييل ، لا حقيقة ، فكونها تسعى يزيل هذا الوهم.

[٢١] فقال الله لموسى : (خُذْها وَلا تَخَفْ) أي : ليس عليك منها بأس. (سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) أي : هيئتها وصفتها ، إذ كانت عصا ، فامتثل موسى أمر الله ، إيمانا به ، وتسليما ، فأخذها ، فعادت عصاه التي كان يعرفها ، هذه آية.

[٢٢] ثم ذكر الآية الأخرى فقال : (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ) أي : أدخل يدك إلى جيبك ، وضم عليك عضدك ، الذي هو جناح الإنسان (تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي : بياضا ساطعا ، من غير عيب ولا برص (آيَةً أُخْرى). قال الله : (فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ).

[٢٣] (لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) (٢٣) أي : فعلنا ما ذكرنا ، من انقلاب العصا حية تسعى ، ومن خروج اليد بيضاء للناظرين ، لأجل أن نريك من آياتنا الكبرى ، الدالة على صحة رسالتك ، وحقيقة ما جئت به ، فيطمئن قلبك ، ويزداد علمك ، وتثق بوعد الله لك ، بالحفظ والنصرة ، ولتكون حجة وبرهانا ، لمن أرسلت إليهم.

[٢٤] لما أوحى الله إلى موسى ، ونبأه ، وأراه الآيات الباهرات ، أرسله إلى فرعون ، ملك مصر فقال : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) (٢٤) أي : تمرد وزاد على الحد ، في الكفر والفساد ، والعلو في الأرض ، والقهر للضعفاء ، حتى إنه ادعى الربوبية والألوهية ، قبحه الله ، أي : وطغيانه سبب لهلاكه. ولكن من رحمة الله ، وحكمته ، وعدله ، أنه لا يعذب أحدا ، إلّا بعد قيام الحجة بالرسل ، فحينئذ علم موسى عليه‌السلام ، أنه تحمل حملا عظيما ، حيث أرسل إلى هذا الجبار العنيد ، الذي ليس له منازع في مصر من الخلق ، وموسى عليه‌السلام ، وحده ، وقد جرى منه ما جرى من القتل ، فامتثل أمر ربه ، وتلقاه بالانشراح والقبول ، وسأله المعونة ، وتيسير الأسباب ، التي هي من تمام الدعوة فقال :

[٢٥] (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) أي : وسعه وأفسحه ، لأتحمل الأذى القولي والفعلي ، ولا يتكدر قلبي بذلك ، ولا يضيق صدري ، فإن الصدر إذا ضاق ، لم يصلح صاحبه لهداية الخلق ، ودعوتهم. قال الله لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) وعسى الخلق يقبلون الحق مع اللين وسعة الصدر وانشراحه عليهم.

[٢٦] (وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) (٢٦) أي : سهل عليّ كل أمر أسلكه وكل طريق أقصده في سبيلك ، وهوّن عليّ ما أمامي

٥٩٠

من الشدائد ، ومن تيسير الأمر ، أن ييسر للداعي ، أن يأتي جميع الأمور من أبوابها ، ويخاطب كل أحد بما يناسب له ، ويدعوه بأقرب الطرق الموصلة إلى قبول قوله.

[٢٧ ـ ٢٨] (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي) (٢٨) وكان في لسانه ثقل لا يكاد يفهم عنه الكلام ، كما قال المفسرون ، وكما قال الله عنه أنه قال : (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً) فسأل الله أن يحل منه عقدة ، يفقهوا ما يقول فيحصل المقصود التام من المخاطبة ، والمراجعة ، والبيان عن المعاني.

[٢٩ ـ ٣١] (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي) (٢٩) أي : معينا يعاونني ، ويؤازرني ، ويساعدني على من أرسلت إليهم ، وسأل أن يكون من أهله ، لأنه من باب البر ، وأحق ببر الإنسان ، قرابته. ثم عينه بسؤاله فقال : (هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) (٣١) أي : قوني به وشد به ظهري. قال الله : (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً).

[٣٢] (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) (٣٢) أي : في النبوة ، بأن تجعله نبيا رسولا ، كما جعلتني.

[٣٣ ـ ٣٤] ثم ذكر الفائدة في ذلك فقال : (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً) (٣٤) علم ، عليه الصلاة والسّلام ، أن مدار العبادات كلها والدين ، على ذكر الله ، فسأل الله أن يجعل أخاه معه ، يتساعدان ويتعاونان على البر والتقوى ، فيكثر منهما ذكر الله ، من التسبيح ، والتهليل ، وغيره من أنواع العبادات :

[٣٥] (إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً) (٣٥) تعلم حالنا ، وضعفنا ، وعجزنا ، وافتقارنا إليك في كل الأمور ، وأنت أبصر بنا ، من أنفسنا وأرحم ، فمنّ علينا بما سألناك ، وأجب لنا فيما دعوناك.

[٣٦] فقال الله : (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) أي : أعطيت جميع ما طلبت ، فسنشرح صدرك ، ونيسر أمرك ، ونحل عقدة من لسانك ، يفقهوا قولك ، ونشد عضدك بأخيك هرون ، (وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ). وهذا السؤال من موسى عليه‌السلام ، يدل على كمال معرفته بالله ، وكمال فطنته ومعرفته للأمور ، وكمال نصحه. وذلك أن الداعي إلى الله ، المرشد للخلق ، خصوصا إذا كان المدعو من أهل العناد ، والتكبر ، والطغيان ، يحتاج إلى سعة صدر ، وحلم تام ، على ما يصيبه من الأذى ، ولسان فصيح ، يتمكن من التعبير به عن ما يريده ويقصده. بل الفصاحة والبلاغة لصاحب هذا المقام ، من ألزم ما يكون ، لكثرة المراجعات والمراوضات ، ولحاجته لتحسين الحق ، وتزيينه بما يقدر عليه ، ليحببه إلى النفوس ، وإلى تقبيح الباطل وتهجينه ، لينفر عنه. ويحتاج مع ذلك أيضا ، أن يتيسر له أمره ، فيأتي البيوت من أبوابها ، ويدعو إلى سبيل الله ، بالحكمة والموعظة الحسنة ، والمجادلة بالتي هي أحسن ، يعامل الناس كلا بحسب حاله. وتمام ذلك ، أن يكون لمن هذه صفته ، أعوان ووزراء ، يساعدونه على مطلوبه ، لأن الأصوات إذا كثرت ، لا بد أن تؤثر ، فلذلك سأله عليه الصلاة والسّلام هذه الأمور ، فأعطيها. وإذا نظرت إلى حالة الأنبياء المرسلين إلى الخلق ، رأيتهم بهذه الحال ، بحسب أحوالهم. خصوصا ، خاتمهم وأفضلهم ، محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه في الذروة العليا من كل صفة كمال ، وله من شرح الصدر ، وتيسير الأمر ، وفصاحة اللسان ، وحسن التعبير والبيان ، والأعوان على الحق ، من الصحابة ، فمن بعدهم ، ما ليس لغيره.

[٣٧ ـ ٣٩] لما ذكر منته على عبده ورسوله ، موسى بن عمران ، في الدين ، والوحي ، والرسالة ، وإجابة سؤاله ، ذكر نعمته عليه ، وقت التربية ، والتنقلات في أطواره فقال : (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى) (٣٧) حيث ألهمنا أمك ، أن تقذفك في التابوت وقت الرضاع ، خوفا من فرعون ، لأنه أمر بذبح أبناء بني إسرائيل ، فأخفته أمه ، وخافت عليه خوفا شديدا فقذفته في التابوت ، ثم قذفته في اليم ، أي : شط نيل مصر ، فأمر الله اليم ، أن يلقيه في الساحل ، وقيض الله أن يأخذه ، أعدى الأعداء لله ولموسى ، ويتربى في أولاده ، ويكون قرة عين لمن رآه. ولهذا قال : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) فكل من رآه أحبه (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) أي : ولتتربى على نظري وفي حفظي وكلاءتي ، وأي نظر وكفالة ، أجل وأكمل ، من ولاية البر الرحيم ، القادر على إيصال مصالح عبده ، ودفع المضار عنه؟ فلا ينتقل من حالة

٥٩١

إلى حالة ، إلّا ، والله تعالى هو الذي دبر ذلك لمصلحة موسى. ومن حسن تدبيره ، أن موسى لما وقع في يد عدوه ، قلقت أمه قلقا شديدا ، وأصبح فؤادها فارغا ، وكادت تخبر به ، لو لا أن الله ثبتها ، وربط على قلبها.

[٤٠] ففي هذه الحالة ، حرم الله على موسى المراضع ، فلا يقبل ثدي امرأة قط ، ليكون مآله إلى أمه ، فترضعه ، ويكون عندها ، مطمئنة ساكنة ، قريرة العين ، فجعلوا يعرضون عليه المراضع ، فلا يقبل ثديا ، فجاءت أخت موسى ، فقالت لهم : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ). (فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً) وهو القبطي ، لما دخل المدينة وقت غفلة من أهلها ، وجد رجلين يقتتلان ، واحد من شيعة موسى ، والآخر من عدوه قبطي (فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ) فدعا الله وسأله المغفرة ، فغفر له ، ثم فر هاربا ، لما سمع أن الملأ طلبوه ، يريدون قتله. (فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِ) من عقوبة الذنب ، ومن القتل. (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) أي : اختبرناك ، وبلوناك ، فوجدناك مستقيما في أحوالك ، أو نقلناك في أحوالك ، وأطوارك ، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه. (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) حين فر هاربا من فرعون وملئه ، حين أرادوا قتله. فتوجه إلى مدين ، ووصل إليها ، وتزوج هناك ، ومكث عشر سنين ، أو ثمان سنين. (ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى) أي : جئت مجيئا ، ليس اتفاقا من غير قصد ، ولا تدبير منا ، بل بقدر ولطف منا ، وهذا يدل على كمال اعتناء الله ، بكليمه ، موسى عليه‌السلام.

[٤١] ولهذا قال : (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (٤١) أي : أجريت عليك صنائعي ونعمي ، وحسن عوائدي ، وتربيتي ، لتكون لنفسي حبيبا مختصا ، وتبلغ في ذلك ، مبلغا لا يناله أحد من الخلق ، إلّا النادر منهم. وإذا كان الحبيب إذا أراد اصطناع حبيبه من المخلوقين ، وأراد أن يبلغ من الكمال المطلوب له ما يبلغ ، يبذل غاية جهده ، ويسعى نهاية ما يمكنه في إيصاله لذلك ، فما ظنك بصنائع الرب القادر الكريم ، وما تحسبه يفعل ، بمن أراده لنفسه ، واصطفاه من خلقه؟!!

[٤٢] لما امتن الله على موسى بما امتن به ، من النعم الدينية والدنيوية قال له : (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ) هرون (بِآياتِي) أي : الآيات التي مني ، الدالة على الحق وحسنه ، وقبح الباطل ، كاليد ، والعصا ونحوها ، في تسع آيات إلى فرعون وملئه. (وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي) أي : لا تفترا ، ولا تكسلا عن مداومة ذكري بالاستمرار عليه ، والزماه كما وعدتما بذلك (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً) (٣٤) ، فإن ذكر الله ، فيه معونة على جميع الأمور ، يسهلها ، ويخفف حملها.

[٤٣] (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) (٤٣) أي : جاوز الحد ، في كفره وطغيانه ، وظلمه وعدوانه.

[٤٤] (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) أي : سهلا لطيفا ، برفق ولين وأدب في اللفظ من دون فحش ولا صلف ، ولا غلظة في المقال ، أو فظاظة في الأفعال. (لَعَلَّهُ) بسبب القول اللين (يَتَذَكَّرُ) ما ينفعه فيأتيه. (أَوْ يَخْشى) ما يضره

٥٩٢

فيتركه ، فإن القول اللين ، داع لذلك ، والقول الغليظ ، منفر عن صاحبه ، وقد فسر القول اللين في قوله : (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) (١٩) ، فإن في هذا الكلام ، من لطف القول ، وسهولته ، وعدم بشاعته ، ما لا يخفى على المتأمل ، فإنه أتى ب «هل» الدالة على العرض والمشاورة ، التي لا يشمئز منها أحد ، ودعاه إلى التزكي والتطهر من الأدناس ، التي أصلها ، التطهر من الشرك ، الذي يقبله كل عقل سليم ، ولم يقل «أزكيك» بل قال «تزكى» أنت بنفسك. ثم دعاه إلى سبيل ربه ، الذي رباه ، وأنعم عليه بالنعم الظاهرة والباطنة ، التي ينبغي مقابلتها بشكرها ، وذكرها فقال : (وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) (١٩) فلما لم يقبل هذا الكلام اللين ، الذي يأخذ حسنه بالقلوب ، علم أنه لا ينجع فيه تذكير ، فأخذه الله أخذ عزيز مقتدر.

[٤٥] (قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا) أي : يبادرنا بالعقوبة والإيقاع بنا ، قبل أن نبلغه ، رسالاتك ، ونقيم عليه الحجة (أَوْ أَنْ يَطْغى) أي : يتمرد عن الحق ، ويطغى بملكه ، وسلطانه ، وجنده ، وأعوانه.

[٤٦] (قالَ لا تَخافا) أن يفرط عليكما (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) أي : أنتما بحفظي ورعايتي ، أسمع قولكما ، وأرى جميع أحوالكما ، فلا تخافا منه ، فزال الخوف عنهما ، واطمأنت قلوبهما بوعد ربهما.

[٤٧] أي : فأتياه بهذين الأمرين ، دعوته إلى الإسلام ، وتخليص هذا الشعب الشريف ، بني إسرائيل ، من قيده وتعبيده لهم ، ليتحرروا ويملكوا أمرهم ، ويقيم فيهم موسى ، شرع الله ودينه. (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ) تدل على صدقنا (فَأَلْقى) موسى (عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) (٣٣) إلى آخر ما ذكر الله عنهما. (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) أي : من اتبع الصراط المستقيم ، واهتدى بالشرع المبين ، حصلت له السلامة في الدنيا والآخرة.

[٤٨] (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا) أي : خبرنا من عند الله ، لا من عند أنفسنا (أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) أي : كذب بأخبار الله ، وأخبار رسله ، وتولى عن الانقياد لهم ، واتباعهم ، وهذا فيه الترغيب لفرعون بالإيمان والتصديق واتباعهما ، والترهيب من ضد ذلك ، ولكن لم يفد فيه هذا الوعظ والتذكير ، فأنكر ربه ، وكفر ، وجادل في ذلك ، ظلما وعنادا.

[٤٩ ـ ٥٠] أي : قال فرعون لموسى على وجه الإنكار : (فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) ، فأجاب موسى بجواب شاف كاف واضح فقال : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) أي : ربنا الذي خلق جميع المخلوقات ، وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به ، على حسن صنعه من خلقه ، من كبر الجسم وصغره ، وتوسطه ، وجميع صفاته ، (ثُمَّ هَدى) كل مخلوق إلى ما خلقه له ، وهذه الهداية الكاملة المشاهدة في جميع المخلوقات. فكل مخلوق ، تجده يسعى لما خلق له من المنافع ، وفي دفع المضار عنه ، حتى إن الله أعطى الحيوان البهيم ، من العقل ، ما يتمكن به من ذلك. وهذا كقوله تعالى : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) ، فالذي خلق المخلوقات ، وأعطاها خلقها الحسن ، الذي لا تقترح العقول فوق حسنه ، وهداها لمصالحها ، هو الرب على الحقيقة ، فإنكاره ، إنكار لأعظم الأشياء وجودا ، وهو مكابرة ومجاهرة بالكذب ، فلو قدر أن الإنسان ، أنكر من الأمور المعلومة ، ما أنكر ، كان إنكاره لرب العالمين ، أكبر من ذلك.

[٥١] ولهذا لما لم يمكن فرعون ، أن يعاند هذا الدليل القاطع ، عدل إلى المشاغبة ، وحاد عن المقصود فقال لموسى : (فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) ، أي : ما شأنهم ، وما خبرهم؟ وكيف وصلت بهم الحال ، وقد سبقونا إلى الإنكار والكفر ، والظلم ، والعناد ، ولنا فيهم أسوة؟

[٥٢] فقال موسى : (عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) أي : قد أحصى أعمالهم من خير وشر ، وكتبه في كتابه ، وهو اللوح المحفوظ ، وأحاط به علما وخبرا فلا يضل عن شيء منها ، ولا ينسى ما علمه منها. ومضمون ذلك ، أنهم قدموا إلى ما قدموه ، ولا قوا أعمالهم ، وسيجازون عليها ، فلا معنى لسؤالك واستفهامك ، يا فرعون ، عنهم ، فتلك أمة قد خلت لها ما كسبت ، ولكم ما كسبتم ، فإن كان الدليل الذي أوردناه ، عليك ،

٥٩٣

والآيات التي أريناكها ، قد تحققت صدقها ويقينها ، وهو الواقع ، فانقد إلى الحق ، ودع عنك الكفر والظلم ، وكثرة الجدال بالباطل ، وإن كنت قد شككت فيها أو رأيتها غير مستيقنة ، فالطريق مفتوح وباب البحث غير مغلق فرد الدليل بالدليل ، والبرهان بالبرهان ، ولن تجد لذلك سبيلا ، ما دام الملوان. كيف وقد أخبر الله عنه ، أنه جحدها مع استيقانها ، كما قال تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) ، وقال موسى : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) ، فعلم أنه ظالم في جداله ، قصده ، العلو في الأرض.

[٥٣] ثم استطرد في هذا الدليل القاطع ، بذكر كثير من نعمه وإحسانه الضروري ، فقال : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) أي : فراشا بحالة تتمكنون من السكون فيها ، والقرار ، والبناء ، والغراس ، وإثارتها للازدراع وغيره ، وذللها لذلك ، ولم يجعلها ممتنعة عن مصلحة من مصالحكم. (وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) أي : نفذ لكم الطرق الموصلة. من أرض ، إلى أرض ، ومن قطر إلى قطر ، حتى كان الآدميون ، يتمكنون من الوصول إلى جميع الأرض بأسهل ما يكون ، وينتفعون بأسفارهم ، أكثر مما ينتفعون بإقامتهم. (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) أي : أنزل المطر (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) وأنبت بذلك جميع أصناف النباتات على اختلاف أنواعها ، وتشتت أشكالها ، وتباين أحوالها ، فساقه ، وقدره ، ويسره ، ورزقا لنا ولأنعامنا ، ولو لا ذلك ، لهلك من عليها من آدمي وحيوان.

[٥٤] ولهذا قال : (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) وساقها على وجه الامتنان ، ليدل ذلك على أن الأصل في جميع النباتات الإباحة ، فلا يحرم منها ، إلّا ما كان مضرا ، كالسموم ونحوه. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) أي : لذوي العقول الرزينة ، والأفكار المستقيمة على فضل الله ، وإحسانه ، ورحمته ، وسعة جوده ، وتمام عنايته ، وعلى أنه الرب المعبود ، المالك المحمود ، الذي لا يستحق العبادة سواه ، ولا الحمد والمدح والثناء ، إلّا من امتن بهذه النعم ، وعلى أنه على كل شيء قدير ، فكما أحيا الأرض بعد موتها ، إن ذلك لمحيي الموتى. وخص الله أولي النهى بذلك ، لأنهم المنتفعون بها ، الناظرون إليها نظر اعتبار. وأما من عداهم ، فإنهم بمنزلة البهائم السارحة ، والأنعام السائمة ، لا ينظرون إليها نظر اعتبار ولا تنفذ بصائرهم إلى المقصود منها ، بل حظهم ، حظ البهائم ، يأكلون ويشربون ، وقلوبهم لاهية ، وأجسادهم معرضة. (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) (١٠٥).

[٥٥] ولما ذكر كرم الأرض ، وحسن شكرها لما ينزله الله عليها من المطر ، وأنها بإذن ربها ، تخرج النبات المختلف الأنواع ـ أخبر أنه خلقنا منها ، وفيها يعيدنا إذا متنا فدفنا فيها ، ومنها يخرجنا تارة أخرى. فكما أوجدنا منها من العدم ، وقد علمنا ذلك ، وتحققناه ، فسيعيدنا بالبعث منها بعد موتنا ، ليجازينا بأعمالنا ، التي عملناها عليها. وهذان دليلان على الإعادة عقليان واضحان : إخراج النبات من الأرض بعد موتها ، وإخراج المكلفين منها في إيجادهم.

[٥٦ ـ ٥٨] يخبر تعالى ، أنه أرى فرعون من الآيات والعبر والقواطع ، جميع أنواعها العيانية ، والأفقية والنفسية ، فما استقام ولا ارعوى ، وإنما كذب وتولى. كذب الخبر ، وتولى عن الأمر والنهي ، وجعل الحق باطلا ، والباطل

٥٩٤

حقا ، وجادل بالباطل ، ليضل الناس فقال : (أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ) ، زعم أن هذه الآيات التي أراه إياها موسى ، سحر وتمويه ، المقصود منها ، إخراجهم من أرضهم ، والاستيلاء عليها ، ليكون كلامه مؤثرا في قلوب قومه ، فإن الطباع ، تميل إلى أوطانها ، ويصعب عليها الخروج منها ومفارقتها. فأخبرهم أن موسى هذا قصده ، ليبغضوه ، ويسعوا في محاربته ، فلنأتينك بسحر مثل سحرك فأمهلنا ، واجعل لنا (مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً) أي : مستو علمنا وعلمك به ، أو مكانا سويا معتدلا لتتمكن من رؤية ما فيه.

[٥٩] فقال موسى : (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) وهو عيدهم ، الذي يتفرغون فيه ويقطعون شواغلهم. (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) أي : يجمعون كلهم في وقت الضحى ، وإنما سأل موسى ذلك ، لأن يوم الزينة ووقت الضحى ، فيه يحصل كثرة الاجتماع ، ورؤية الأشياء على حقائقها ، ما لا يحصل في غيره.

[٦٠] (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ) أي : جميع ما يقدر عليه ، مما يكيد به موسى ، فأرسل في مدائنه ، من يحشر السحرة الماهرين في سحرهم ، وكان السحر إذ ذاك ، متوافرا ، وعلمه مرغوبا فيه ، فجمع خلقا كثيرا من السحرة ، ثم أتى كل منهما للموعد ، واجتمع الناس للموعد. فكان الجمع حافلا ، حضره الرجال والنساء ، والملأ ، والأشراف ، والعوام ، والصغار ، والكبار ، وحضوا الناس على الاجتماع وقالوا للناس : (هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) (٤٠).

[٦١] فحين اجتمعوا من جميع البلدان ، وعظهم موسى عليه‌السلام ، وأقام الحجة عليهم ، وقال لهم : (وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ) أي : لا تنصروا ما أنتم عليه من الباطل بسحركم وتغالبون الحق ، وتفترون على الله الكذب فيستأصلكم بعذاب من عنده ، ويخيب سعيكم وافتراؤكم ، فلا تدركون ما تطلبون من النصر والجاه عند فرعون وملئه ، ولا تسلموا من عذاب الله.

[٦٢] وكلام الحق لا بد أن يؤثر في القلوب ، لا جرم ، ارتفع الخصام والنزاع بين السحرة ، لما سمعوا كلام موسى ، وارتبكوا. ولعل من جملة نزاعهم ، الاشتباه في موسى ، هل هو على الحق أم لا؟ ولكن هم إلى الآن ، ما تم أمرهم ، ليقضي الله أمرا كان مفعولا ، (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) ، فحينئذ أسروا فيما بينهم النجوى ، وأنهم يتفقون على مقالة واحدة ، لينجحوا في مقالهم وفعالهم ، وليتمسك الناس بدينهم.

[٦٣] والنجوى التي أسروها وفسرها ، بقوله : (قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما) كمقالة فرعون السابقة ، فإما أن يكون ذلك توافقا من فرعون والسحرة على هذه المقالة من غير قصد ، وإما أن يكون تلقينا منه لهم مقالته ، التي صمم عليها ، وأظهرها للناس ، وزادوا على قول فرعون أن قالوا : (وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) أي : طريقة السحر حسدكم عليها ، وأراد أن يظهر عليكم ، ليكون له الفخر والصيت والشهرة ، ويكون هو المقصود بهذا العلم ، الذي شغلتم زمانكم فيه ويذهب عنكم ما كنتم تأكلون بسببه ، وما يتبع ذلك من الرياسة ، وهذا

٥٩٥

حض من بعضهم على بعض ، على الاجتهاد في مغالبته.

[٦٤] ولهذا قالوا : (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ) أي : أظهروه دفعة واحدة ، متظاهرين متساعدين فيه ، متناصرين ، متفقا رأيكم وكلمتكم. (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) ليكون أمكن لعملكم ، وأهيب لكم في القلوب ، ولئلا يترك بعضكم بعض مقدوره من العمل ، واعلموا أن من أفلح اليوم ونجح وغلب غيره ، فإنه المفلح الفائز ، فهذا يوم له ما بعده من الأيام.

[٦٥] فما أصلبهم في باطلهم ، وأشدهم فيه ، حيث أتوا بكل سبب ، ووسيلة وممكن ، ومكيدة يكيدون بها الحق ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ، ويظهر الحق على الباطل ، فلما تمت مكيدتهم ، وانحصر قصدهم ، ولم يبق إلّا العمل (قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ) عصاك (وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى). خيروه ، موهمين أنهم على جزم من ظهورهم عليه ، بأي حالة كانت.

[٦٦ ـ ٦٧] فقال لهم موسى : (بَلْ أَلْقُوا) فألقوا حبالهم وعصيهم. (فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ) أي : إلى موسى (مِنْ سِحْرِهِمْ) البليغ (أَنَّها تَسْعى) فلما خيّل إلى موسى ذلك ، أوجس (فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) (٦٧) كما هو مقتضى الطبيعة البشرية ، وإلّا فهو جازم بوعد الله ونصره.

[٦٨] (قُلْنا) له تثبيتا وتطمينا : (لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) عليهم ، أي : ستعلو عليهم وتقهرهم ، ويذلوا لك ويخضعوا.

[٦٩] (وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ) أي : عصاك (تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) أي : كيدهم ومكرهم ، ليس بمثمر لهم ، ولا ناجح فإنه من كيد السحرة ، الّذين يموهون على الناس ، ويلبسون الباطل ويخيلون أنهم على الحق ، فألقى موسى عصاه ، فتلقفت ما صنعوا كله ، وأكلته ، والناس ينظرون لذلك الصنيع. فعلم السحرة علما يقينا ، أن هذا ليس بسحر ، وأنه من الله ، فبادروا للإيمان.

[٧٠] (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا) برب العالمين ، (بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) ، فوقع الحق وظهر وسطع ، وبطل السحر والمكر والكيد ، في ذلك المجمع العظيم.

[٧١] فصارت بينة ورحمة للمؤمنين ، وحجة على المعاندين ف (قالَ) فرعون للسحرة : (آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) أي : كيف أقدمتم على الإيمان من دون مراجعة مني ولا إذن؟ استغرب ذلك منهم ، لأدبهم معه ، وذلهم ، وانقيادهم له في كل أمر من أمورهم ، وجعل هذا من ذاك. ثمّ استلج فرعون في كفره وطغيانه بعد هذا البرهان ، واستخف بقوله قومه ، وأظهر لهم أن هذه الغلبة من موسى للسحرة ، ليس لأنه الذي معه الحق ، بل لأنه تمالأ هو والسحرة ، ومكروا ، ودبروا أن يخرجوا فرعون وقومه من بلادهم ، فقبل قومه هذا المكر منه ، وظنوه صدقا (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) (٥٤). مع أن هذه المقالة التي قالها ، لا تدخل عقل من له أدنى مسكة من عقل ومعرفة بالواقع ، فإن موسى ، أتى من مدين وحيدا ، وحين أتى لم يجتمع بأحد من السحرة ولا غيرهم ، بل بادر إلى دعوة فرعون وقومه ، وأراهم الآيات ، فأراد فرعون أن يعارض ما جاء به موسى ، فسعى ما

٥٩٦

أمكنه ، وأرسل في مدائنه من يجمع له كل ساحر عليم. فجاؤوا إليه ، ووعدهم الأجر والمنزلة عند الغلبة ، وهم حرصوا غاية الحرص ، وكادوا أشد الكيد ، على غلبتهم لموسى ، وكان منهم ما كان ، فهل يمكن ، أن يتصور مع هذا ، أن يكونوا دبروا ، هم وموسى ، واتفقوا على ما صدر؟ هذا من أمحل المحال. ثمّ توعد فرعون السحرة فقال : (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) كما يفعل بالمحارب الساعي بالفساد ، يقطع يده اليمنى ، ورجله اليسرى. (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) أي : لأجل أن تشهروا وتختزوا. (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى) يعني بزعمه هو وأمته ، وأنه أشد عذابا من الله ، وأبقى قلبا للحقائق ، وترهيبا لمن لا عقل له.

[٧٢] ولهذا لما عرف السحرة الحق ، ورزقهم الله من العقل ، ما يدركون به الحقائق ، أجابوا بقولهم : (لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ) الدالات على أن الله هو الرب المعبود وحده ، المعظم المبجل وحده ، وأن ما سواه باطل ، ونؤثرك على الذي فطرنا وخلقنا. هذا لا يكون (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) مما أوعدتنا به ، من القطع ، والصلب ، والعذاب. (إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا) أي : إنّما توعدنا به ، غاية ما يكون في هذه الحياة الدنيا ، ينقضى ويزول ولا يضرنا ، بخلاف عذاب الله ، لمن استمر على كفره ، فإنه دائم عظيم. وهذا كأنه جواب منهم لقوله : (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى) ، وفي هذا الكلام ، من السحرة ، دليل على أنه ينبغي للعاقل ، أن يوازن بين لذات الدنيا ، ولذات الآخرة ، وبين عذاب الدنيا ، وعذاب الآخرة.

[٧٣] (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا) أي : كفرنا ومعاصينا ، فإن الإيمان مكفر للسيئات ، والتوبة تجبّ ما قبلها. وقولهم : (وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ) الذي عارضنا به الحق ، هذا دليل على أنهم غير مختارين في عملهم المتقدم ، وإنّما أكرههم فرعون إكراها. والظاهر ـ والله أعلم ـ أن موسى لما وعظهم كما تقدم في قوله : (وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ) أثّر معهم ، ووقع منهم موقعا كبيرا ، ولهذا تنازعوا بعد هذا الكلام والموعظة ، ثمّ إن فرعون ألزمهم ذلك ، وأكرههم على المكر الذي أجروه ، ولهذا تكلموا بكلامه السابق ، قبل إتيانهم ، حيث قالوا : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما) فجروا على ما سنّه لهم ، وأكرههم عليه. ولعل هذه النكتة ، التي قامت بقلوبهم ، من كراهتهم لمعارضة الحق بالباطل وفعلهم ، ما فعلوا على وجه الإغماض ، هي التي أثرت معهم ، ورحمهم‌الله بسببها ، ووفقهم للإيمان والتوبة ، والله خير مما أوعدتنا من الأجر والمنزلة والجاه ، وأبقى ثوابا وإحسانا لا ما يقول فرعون (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى) يريد أنه أشد عذابا وأبقى وجميع ما أتى من قصص موسى مع فرعون ، يذكر الله فيه إذا أتى على قصة السحرة ، أن فرعون توعدهم بالقطع والصلب ، ولم يذكر أنه فعل ذلك ، ولم يأت في ذلك حديث صحيح ، والجزم بوقوعه ، أو عدمه ، يتوقف على الدليل ، والله أعلم بذلك وغيره.

[٧٤ ـ ٧٦] يخبر تعالى أن من أتاه وقدم عليه مجرما ـ أي : وصفه الجرم من كل وجه ، وذلك يستلزم الكفر ـ واستمر على ذلك حتّى مات ، فإن له نار جهنم ، الشديد نكالها ، العظيمة أغلالها ، البعيد قعرها ، الأليم حرها وقرها ، التي فيها من العقاب ، ما يذيب الأكباد والقلوب ، ومن شدة ذلك ، أن المعذب فيها ، لا يموت ولا يحيا ، لا يموت فيستريح ولا يحيا حياة يتلذذ بها ، وإنّما حياته ، محشوة بعذاب القلب ، والروح ، والبدن ، الذي لا يقدر قدره ، ولا يفتر عنه ساعة ، يستغيث فلا يغاث ، ويدعو فلا يستجاب له. نعم إذا استغاث ، أغيث بماء كالمهل ، يشوي الوجوه ، وإذا دعا ، أجيب ب (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ). ومن يأت ربه مؤمنا به مصدقا لرسله ، متبعا لكتبه (قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ) الواجبة والمستحبة ، (فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى) أي : المنازل العاليات ، في الغرف المزخرفات ، واللذات المتواصلات ، والأنهار السارحات ، والخلود الدائم ، والسرور العظيم ، فيما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. (وَذلِكَ) الثواب ، (جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى) أي : تطهر من الشرك ، والكفر ، والفسوق ، والعصيان ، إما أن لا يفعلها بالكلية ، أو يتوب مما فعله منها ، وزكى أيضا نفسه ، ونماها بالإيمان والعمل الصالح ، فإن للتزكية

٥٩٧

معنيين ، التنقية ، وإزالة الخبث ، والزيادة بحصول الخير ، وسميت الزكاة زكاة ، لهذين الأمرين.

[٧٧ ـ ٧٨] لما ظهر موسى بالبراهين ، على فرعون وقومه ، مكث في مصر ، يدعوهم إلى الإسلام ، ويسعى في تخليص بني إسرائيل ، من فرعون ، وعذابه ، وفرعون في عتو ونفور ، وأمره شديد على بني إسرائيل ، ويريه الله من الآيات ، والعبر ، ما قصه الله علينا في القرآن. وبنو إسرائيل ، لا يقدرون أن يظهروا إيمانهم ويعلنوه ، قد اتخذوا بيوتهم مساجد ، وصبروا على فرعون وأذاه. فأراد تعالى أن ينجيهم من عدوهم ، ويمكن لهم في الأرض ، ليعبدوه جهرا ، ويقيموا أمره. فأوحى إلى نبيه موسى ، أن يواعد بني إسرائيل سرا ، ويسروا أول الليل ، ليتمادوا في الأرض ، وأخبره أن فرعون وقومه ، سيتبعونه. فخرجوا أول الليل ، جميع بني إسرائيل ، ونساؤهم ، وذريتهم ، فلما أصبح أهل مصر إذا هم ، ليس فيها منهم ، داع ولا مجيب ، فحنق عليهم ، عدوهم فرعون ، وأرسل في المدائن ، من يجمع له الناس ويحضهم على الخروج في أثر بني إسرائيل ، فأتبعوهم مشرقين. (فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) (٦١) وقلقوا وخافوا. البحر أمامهم ، وفرعون من ورائهم ، قد امتلأ عليهم غيظا وحنقا. وموسى مطمئن القلب ، ساكن البال ، قد وثق بوعد ربه فقال : (كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ). فأوحى الله إليه أن يضرب البحر بعصاه ، فضربه ، فانفرق اثني عشر طريقا ، وصار الماء كالجبال العالية ، عن يمين الطرق ويسارها ، وأيبس الله طرقهم ، التي انفرق عنها الماء ، وأمرهم الله أن لا يخافوا من إدراك فرعون ، ولا يخشوا من الغرق في البحر فسلكوا في تلك الطرق ، فجاء فرعون وجنوده ، فسلكوا وراءهم ، حتى إذا تكامل قوم موسى خارجين وقوم فرعون داخلين ، أمر الله البحر ، فالتطم عليهم ، وغشيهم من اليم ما غشيهم ، وغرقوا كلهم ، ولم ينج منهم أحد ، وبنو إسرائيل ينظرون إلى عدوهم ، قد أقر الله أعينهم بهلاكه.

[٧٩] وهذه عاقبة الكفر والضلال ، وعدم الاهتداء بهدى الله ، ولهذا قال تعالى : (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ) بما زين لهم من الكفر ، وتهجين ما أتى به موسى ، واستخفافه إياهم ، وما هداهم في وقت من الأوقات ، فأوردهم موارد الغي والضلال ، ثمّ أوردهم مورد العذاب والنكال.

[٨٠] يذكّر تعالى بني إسرائيل منّته العظيمة عليهم بإهلاك عدوهم ، ومواعدته لموسى عليه‌السلام بجانب الطور الأيمن ، لينزل عليه الكتاب ، الذي فيه الأحكام الجليلة ، والأخبار الجميلة ، فتتم عليهم النعمة الدينية ، بعد النعمة الدنيوية ، ويذكر منته أيضا عليهم ، في التيه ، بإنزال المن والسلوى ، والرزق الرغد الهني ، الذي يحصل لهم بلا مشقة.

[٨١] وأنه قال لهم : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) أي : واشكروه على ما أسدى إليكم من النعم (وَلا تَطْغَوْا فِيهِ) ، أي : في رزقه ، فتستعملوه في معاصيه ، وتبطروا النعمة ، فإنكم إن فعلتم ذلك ، حل عليكم غضبي أي :

غضبت عليكم ، ثمّ عذبتكم. (وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى) أي : ردى وهلك ، وخاب وخسر ، لأنه عدم الرضا

٥٩٨

والإحسان ، وحل عليه الغضب والخسران.

[٨٢] ومع هذا ، فالتوبة معروضة ، ولو عمل العبد ما عمل من المعاصي ، ولهذا قال : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ) أي : كثير المغفرة والرحمة ، لمن تاب من الكفر ، والبدعة ، والفسوق ، وآمن بالله وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وعمل صالحا من أعمال القلب والبدن ، وأقوال اللسان. (ثُمَّ اهْتَدى) أي : سلك الصراط المستقيم ، وتابع الرسول الكريم ، واقتدى بالدين القويم ، فهذا يغفر الله أوزاره ، ويعفو عما تقدم من ذنبه وإصراره ، لأنه أتى بالسبب الأكبر ، للمغفرة والرحمة ، بل الأسباب كلها منحصرة في هذه الأشياء فإن التوبة تجبّ ما قبلها ، والإيمان والإسلام ، يهدم ما قبله ، والعمل الصالح ، الذي هو الحسنات ، يذهب السيئات ، وسلوك طرق الهداية بجميع أنواعها ، من تعلم علم ، وتدبر آية أو حديث ، حتى يتبين له معنى من المعاني يهتدي به ، ودعوة إلى دين الحق ، ورد بدعة أو كفر ، أو ضلالة ، وجهاد ، وهجرة ، وغير ذلك من جزئيات الهداية ، كلها مكفرات للذنوب محصلات لغاية المطلوب.

[٨٣ ـ ٨٤] كان الله تعالى ، قد واعد موسى ، أن يأتيه ، لينزل عليه التوراة ثلاثين ليلة ، فأتمها بعشر ، فلما تم الميقات ، بادر موسى عليه‌السلام إلى الحضور للموعد شوقا لربه ، وحرصا على موعوده. فقال الله له : (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى) (٨٣) أي : ما الذي قدمك عليهم؟ ولم لم تصبر حتّى تقدم أنت وهم؟ قال : (هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي) أي : قريبا مني. وسيصلون في أثري. والذي عجلني إليك يا رب الطلب لقربك ، والمسارعة في رضاك ، والشوق إليك.

[٨٥] فقال الله له : (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ) أي : بعبادتهم للعجل ، ابتليناهم ، واختبرناهم ، فلم يصبروا. وحين وصلت إليهم المحنة ، كفروا (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ). (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً) وصاغه فصار (لَهُ خُوارٌ فَقالُوا) لهم (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى) فنسيه موسى ، فافتتن به بنو إسرائيل ، فعبدوه ، ونهاهم هرون فلم ينتهوا.

[٨٦] فلما رجع موسى إلى قومه وهو غضبان أسف ، أي : ممتلىء غيظا وحنقا وغما ، قال لهم موبخا ومقبحا لفعلهم : (يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً) وذلك بإنزال التوراة. (أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ) أي : المدة ، فتطاولتم غيبتي وهي مدة قصيرة؟ هذا قول كثير من المفسرين ، ويحتمل أن معناه : أفطال عليكم عهد النبوة والرسالة ، فلم يكن لكم علم ولا أثر ، واندرست آثارها ، فلم تقفوا منها على خبر ، فانمحت آثارها ، لبعد العهد بها ، فعبدتم غير الله ، لغلبة الجهل ، وعدم العلم بآثار الرسالة؟ أي : ليس الأمر كذلك ، بل النبوة بين أظهركم ، والعلم قائم ، والعذر غير مقبول؟ أم أردتم بفعلكم ، أن يحل عليكم غضب من ربكم؟ أي : فتعرضتم لأسبابه واقتحمتم موجب عذابه ، وهذا هو الواقع. (فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي) حين أمرتكم بالاستقامة ، ووصيت بكم هرون ، فلم ترقبوا غائبا ، ولم تحترموا حاضرا.

[٨٧] أي : قالوا له : ما فعلنا الذي فعلنا عن تعمد منا ، وملك منا لأنفسنا ، ولكن السبب الداعي لذلك ، أننا

٥٩٩

تأثمنا من زينة القوم التي عندنا ، وكانوا فيما يذكرون ، استعاروا حليا كثيرا من القبط ، فخرجوا وهو معهم ، وألقوه ، وجمعوه حين ذهب موسى ، ليراجعوه فيه ، إذا رجع.

[٨٨] وكان السامري قد بصر يوم الغرق بأثر الرسول ، فسولت له نفسه أن يأخذ قبضة من أثره ، وأنه إذا ألقاها على شيء حيي ، فتنة وامتحانا ، فألقاها على ذلك العجل الذي صاغه بصورة عجل ، فتحرك العجل ، وصار له خوار وصوت ، وقالوا : إن موسى ذهب يطلب ربه ، وهو هاهنا ، فنسيه ، وهذا من بلادتهم ، وسخافة عقولهم ، حيث رأوا هذا العجل الغريب الذي صار له خوار ، بعد أن كان جمادا ، فظنوه إله الأرض والسموات.

[٨٩] (أَفَلا يَرَوْنَ) أن العجل (أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً) أي : لا يتكلم ويراجعهم ويراجعونه ، ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا ، فالعبادة للكمال والكلام والفعال ، لا يستحق أن يعبد وهو أنقض من عابديه. فإنهم يتكلمون ويقدرون على بعض الأشياء ، من النفع والدفع ، بإقدار الله لهم.

[٩٠ ـ ٩١] أي : إنهم باتخاذهم العجل ، ليسوا معذورين فيه ، فإنه ، وإن كانت عرضت لهم الشبهة في أصل عبادته ، فإن هرون قد نهاهم عنه ، وأخبرهم أنه فتنة ، وأن ربهم الرحمن ، الذي منه النعم الظاهرة والباطنة ، الدافع للنقم. وأنه أمرهم أن يتبعوه ، ويعتزلوا العجل ، فأبوا وقالوا : (لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى).

[٩٢ ـ ٩٣] فأقبل موسى على أخيه لائما وقال : (يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ) فتخبرني لأبادر للرجوع إليهم؟ (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) في قولي : (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ).

[٩٤] فأخذ موسى برأس هرون ولحيته ، يجره من الغضب والعتب عليه ، فقال هرون : (يَا بْنَ أُمَ) ترقيق له ، وإلّا فهو شقيقه (لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي). فإنك أمرتني أن أخلفك فيهم ، فلو تبعتك ، لتركت ما أمرتني بلزومه وخشيت لائمتك ، و (أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ) حيث تركتهم ، وليس عندهم راع ولا خليفة ، فإن هذا يفرقهم ويشتت شملهم ، فلا تجعلني مع القوم الظالمين ، ولا تشمت فينا الأعداء. فندم موسى على ما صنع بأخيه ، وهو غير مستحق لذلك ف (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).

[٩٥] ثمّ أقبل على السامري ، ف (قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُ) (٩٥) إلى (فِي الْيَمِّ نَسْفاً). أي : ما شأنك يا سامري ، حيث فعلت ما فعلت؟ فقال :

[٩٦] (بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) وهو جبريل عليه‌السلام ، على فرس رآه وقت خروجهم من البحر ، وغرق فرعون وجنوده على ما قاله المفسرون ، فقبضت قبضة من أثر حافر فرسه ، فنبذتها على العجل. (وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) أن أقبضها ، ثمّ أنبذها ، فكان ما كان.

[٩٧] فقال له موسى : (فَاذْهَبْ) أي : تباعد عني واستأخر مني (فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ) أي :

٦٠٠