تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي

تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

المؤلف:

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ١١٣٥

كان إنّما يؤيدني ، وينصرني ، وييسر لي الأمور ، فلتكفكم هذه الشهادة الجليلة من الله. فإن وقع في قلوبكم أن شهادته ـ وأنتم لم تسمعوه ، ولم تروه ـ لا تكفي دليلا ، فإنه (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). ومن جملة معلوماته حالي وحالكم ، ومقالي لكم. فلم كنت متقولا عليه ، مع علمه بذلك ، وقدرته على عقوبتي ـ لكان قدحا ، في علمه ، وقدرته ، وحكمته كما قال تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) (٤٦). (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) حيث خسروا الإيمان بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وحيث فاتهم النعيم المقيم ، وحيث حصل لهم في مقابلة الحقّ الصحيح ، كل باطل قبيح ، وفي مقابلة النعيم ، كل عذاب أليم ، فخسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.

[٥٣] يخبر تعالى ، عن جهل المكذبين للرسول ، وما جاء به ، وأنهم يقولون ـ استعجالا للعذاب ، وزيادة تكذيب : (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)؟ يقول تعالى : (وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى) مضروب لنزوله ، ولم يأت بعد (لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) بسبب تعجيزهم لنا ، وتكذيبهم الحقّ ، فلو آخذناهم بجهلهم ، لكان كلامهم ، أسرع لبلائهم وعقوبتهم. ولكن ـ مع ذلك ـ فلا يستبطئوا نزوله (وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ). فوقع كما أخبر الله تعالى ، لما قدموا ل «بدر» بطرين مفاخرين ، ظانين أنهم قادرون على مقصودهم. فأذلهم الله ، وقتل كبارهم ، واستوعب جملة أشرارهم ، ولم يبق فيهم بيت ، إلا أصابته تلك المصيبة. فأتاهم العذاب من حيث لم يحتسبوا ، ونزل بهم ، وهم لا يشعرون. هذا ، وإن لم ينزل عليهم العذاب الدنيوي ، فإن أمامهم العذاب الأخروي ، الذي لا يخلص منهم أحد منه ، سواء عوجل بعذاب الدنيا ، أو أمهل.

[٥٤] (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) ليس لهم عنها ، معدل ولا منصرف. وقد أحاطت بهم من كلّ جانب ، كما أحاطت بهم ذنوبهم ، وسيئاتهم ، وكفرهم. وذلك العذاب ، هو العذاب الشديد.

[٥٥] (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٥٥) فإن أعمالكم انقلبت عليكم عذابا ، وشملكم العذاب ، كما شملكم الكفر والذنوب.

[٥٦ ـ ٥٧] يقول تعالى : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) وصدقوا رسولي (إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) فإذا تعذرت عليكم عبادة ربكم في أرض ، فارتحلوا منها إلى أرض أخرى ، حيث كانت العبادة لله وحده. فأماكن العبادة ، ومواضعها ، واسعة ، والمعبود واحد ، والموت لا بد أن ينزل بكم ثمّ ترجعون إلى ربكم ، فيجازى من أحسن عبادته وجمع بين الإيمان والعمل الصالح بإنزاله الغرف العالية ، والمنازل الأنيقة الجامعة لما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين ، وأنتم فيها خالدون.

[٥٨ ـ ٥٩] ف (نِعْمَ) تلك المنازل ، في جنات النعيم (أَجْرُ الْعامِلِينَ) الله. (الَّذِينَ صَبَرُوا) على عبادة الله (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) في ذلك. فصبرهم على عباده الله ، يقتضي بذل الجهد والطاقة في ذلك ، والمحاربة العظيمة للشيطان ، الذي يدعوهم إلى الإخلال بشيء من ذلك. وتوكلهم ، يقتضي شدة اعتمادهم على الله ، وحسن ظنهم

٧٦١

به ، أن يحقق ما عزموا عليه من الأعمال ، ويكملها. ونص على التوكل ، وإن كان داخلا في الصبر ؛ لأنه يحتاج إليه في كلّ فعل وترك مأمور به ، ولا يتم إلا به.

[٦٠] أي : الباري تبارك وتعالى ، قد تكفل بأرزاق الخلائق كلهم ، قويهم ، وعاجزهم. فكم (مِنْ دَابَّةٍ) في الأرض ضعيفة القوى ، ضعيفة العقل. (لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) ولا تدخره ، بل لم تزل ، لا شيء معها من الرزق ، ولا يزال الله يسخر لها الرزق ، في كلّ وقت بوقته. (اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ) فكلكم عيال الله القائم برزقكم ، كما قام بخلقكم وتدبيركم. (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) فلا تخفى عليه خافية ، ولا تهلك دابة من عدم الرزق ، بسبب أنها خافية عليه. كما قال تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٦).

[٦١ ـ ٦٣] هذا استدلال على المشركين ، المكذبين بتوحيد الإلهية والعبادة ، وإلزام لهم ، بما أثبتوه من توحيد الربوبية. فأنت لو سألتهم من خلق السموات والأرض ، ومن نزل من السماء ماء ، فأحيا به الأرض بعد موتها ، ومن بيده تدبير جميع الأشياء؟ (لَيَقُولُنَّ اللهُ) وحده ولا لاعترفوا بعجز الأوثان ، ومن عبدوه مع الله ، عن شيء من ذلك. فاعجب لإفكهم ، وكذبهم ، وعدولهم إلى من أقروا بعجزه ، وأنه لا يستحق أن يدبر شيئا. وسجّل عليهم عدم العقل ، وأنهم السفهاء ، ضعفاء الأحلام. فهل تجد أضعف عقلا ، وأقل بصيرة ، ممن أتى إلى حجر ، أو قبر ونحوه وهو يدري أنه لا ينفع ولا يضر ، ولا يخلق ولا يرزق ـ ثمّ صرف له خالص الإخلاص ، وصافي العبادة ، وأشركه مع الرب ، الخالق الرازق ، النافع الضار. وقل : الحمد لله الذي بيّن الهدى من الضلال ، وأوضح بطلان ما عليه المشركون ، ليحذره الموفقون. وقل : الحمد لله ، الذي خلق العالم العلوي والسفلي ، وقام بتدبيرهم ، ورزقهم ، وبسط الرزق على من يشاء ، وضيقه عمّن يشاء ، حكمة منه ، ولعلمه بما يصلح عباده ، وما ينبغي لهم.

[٦٤] يخبر تعالى عن حالة الدنيا والآخرة ، وفي ضمن ذلك ، التزهيد في الدنيا والتشويق للأخرى فقال : (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا) في الحقيقة (إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) تلهو بها القلوب ، وتلعب بها الأبدان ، بسبب ما جعل الله فيها من الزينة واللذات ، والشهوات الخالبة للقلوب المعرضة ، الباهجة للعيون الغافلة ، المفرحة للنفوس المبطلة الباطلة. ثمّ تزول سريعا ، وتنقضي جميعا ، ولم يحصل منها محبها ، إلا على الندم والخسران. (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) أي : الحياة الكاملة ، الّتي من لوازمها ، أن تكون أبدان أهلها ، في غاية القوة ، وقواهم في غاية الشدة ، لأنها أبدان وقوى خلقت للحياة ، وأن يكون موجودا فيها ، كل ما تكمل به الحياة ، وتتم به اللذة ، من مفرحات القلوب ، وشهوات الأبدان ، من المآكل ، والمشارب ، والمناكح ، وغير ذلك ، مما لا عين رأت. ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) لما آثروا الدنيا على الآخرة ، ولو كانوا يعقلون لما رغبوا عن دار الحيوان ، ورغبوا في دار اللهو واللعب ، فدل ذلك أن الّذين يعلمون لا بد أن يؤثروا الآخرة على الدنيا ، لما يعلمونه من حالة الدارين.

[٦٥] ثمّ ألزم تعالى ، المشركين بإخلاصهم لله ، في حال الشدة ، عند ركوب البحر ، وتلاطم أمواجه ، وخوفهم الهلاك ، يتركون وقتذاك أندادهم ، ويخلصون الدعاء لله وحده لا شريك له. فلما زالت عنهم الشدة ، ونجى من أخلصوا له الدعاء إلى البر ، أشركوا به ، من لا نجاهم من شدة ، ولا أزال عنهم مشقة. فهلا أخلصوا لله الدعاء ، في حال الرخاء والشدة ، واليسر والعسر ، ليكونوا مؤمنين حقا ، مستحقين ثوابه ، مندفعا عنهم عقابه. ولكن شركهم هذا بعد نعمتنا عليهم ، بالنجاة من البحر ، ليكون عاقبته الكفر بما آتيناهم ، ومقابلة النعمة بالإساءة ، وليكملوا تمتعهم في الدنيا ، الذي هو كتمتع الأنعام ، ليس لهم همّ إلا بطونهم وفروجهم.

[٦٦] (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) حين ينتقلون من الدنيا إلى الآخرة ، شدة الأسف ، وأليم العقوبة. ثمّ امتنّ عليهم بحرمه الآمن ، وأنهم أهله في أمن ، وسعة ورزق ، والناس من حولهم ، يتخطفون ويخافون. فلا يعبدون الذي أطعمهم من جوع ، وآمنهم من خوف.

٧٦٢

[٦٧] (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) وهو ما هم عليه من الشرك ، والأقوال ، والأفعال الباطلة. (وَبِنِعْمَةِ اللهِ) هم (يَكْفُرُونَ) فأين ذهبت عقولهم ، وانسلخت أحلامهم حيث آثروا الضلال على الهدى ، والباطل على الحق ، والشقاء على السعادة ، وحيث كانوا أظلم الخلق.

[٦٨] (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) فنسب ما هو عليه من الضلال والباطل ، إلى الله. (أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ) على يد رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولكن هذا الظالم العنيد ، أمامه جهنم (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) يؤخذ بها منهم الحقّ ، ويخزون بها ، وتكون منزلهم الدائم ، الذي لا يخرجون منه.

[٦٩] (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا) وهم الّذين هاجروا في سبيل الله ، وجاهدوا أعداءهم ، وبذلوا مجهودهم في اتباع مرضاته. (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) أي : الطرق الموصلة إلينا ، وذلك ، لأنهم محسنون. (وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) بالعون ، والنصر ، والهداية. دل هذا ، على أن أحرى الناس بموافقة الصواب ، أهل الجهاد. وعلى أن من أحسن فيما أمر به ، أعانه الله ، ويسر له أسباب الهداية. وعلى أن من جد واجتهد في طلب العلم الشرعي ، فإنه يحصل له من الهداية ، والمعونة على تحصيل مطلوبه ، أمور إلهية ، خارجة عن مدرك اجتهاده ، وتيسر له أمر العلم. فإن طلب العالم الشرعي ، من الجهاد في سبيل الله ، بل هو أحد نوعي الجهاد ، الذي لا يقوم به إلا خواص الخلق ، وهو الجهاد بالقول واللسان ، للكفار والمنافقين. والجهاد على تعليم أمور الدين ، وعلى رد نزاع المخالفين للحق ، ولو كانوا من المسلمين.

تم تفسير سورة العنكبوت.

تفسير سورة الرّوم

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣] كانت الفرس والروم ، في ذلك الوقت ، من أقوى دول الأرض. وكان يكون بينهما من الحروب والقتال ، ما يكون بين الدول المتوازنة. وكانت الفرس مشركين ، يعبدون النار. وكانت الروم أهل كتاب ، ينتسبون إلى التوراة والإنجيل ، وهم أقرب إلى المسلمين من الفرس ، فكان المسلمون يحبون غلبتهم ، وظهورهم على الفرس. وكان المشركون ، لاشتراكهم والفرس في الشرك ، يحبون ظهور الفرس على الروم. فظهر الفرس على الروم ، وغلبوهم غلبا لم يحط بملكهم ، بل أدنى أرضهم. ففرح بذلك مشركو مكة ، وحزن المسلمون ، فأخبرهم الله ووعدهم أن الروم ستغلب الفرس.

٧٦٣

[٤ ـ ٥] (فِي بِضْعِ سِنِينَ) تسع ، أو ثمان ، ونحو ذلك ، مما لا يزيد على العشر ، ولا ينقص عن الثلاث ، وأن غلبة الفرس للروم ، ثمّ غلبة الروم للفرس ، كل ذلك بمشيئته وقدره ولهذا قال : (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) فليس الغلبة والنصر لمجرد وجود الأسباب. وإنّما هي لا بد أن يقترن بها القضاء والقدر. (وَيَوْمَئِذٍ) أي : يوم يغلب الروم الفرس ويقهرونهم (يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ) أي : يفرحون بانتصارهم على الفرس ، وإن كان الجميع كفارا ، ولكن بعض الشر أهون من بعض ، ويحزن يومئذ المشركون. (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي له العزة ، الّتي قهر بها الخلائق أجمعين (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ). (الرَّحِيمُ) بعباده المؤمنين ، حيث قيّض لهم من الأسباب الّتي تسعدهم وتنصرهم ، ما لا يدخل في الحساب.

[٦] (وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ) فتيقنوا ذلك ، واجزموا به ، واعلموا أنه لا بد من وقوعه. فلما نزلت هذه الآيات ، الّتي فيها هذا الوعد ، صدق بها المسلمون ، وكفر بها المشركون ، حتى تراهن بعض المسلمين وبعض المشركين ، على مدة سنين عينوها. فلما جاء الأجل ، الذي ضربه الله ، انتصر الروم على الفرس ، وأجلوهم عن البلاد الّتي أخذوها منهم ، وتحقق وعد الله. وهذا من الأمور الغيبية ، الّتي أخبر بها الله قبل وقوعها ، ووجدت في زمان من أخبرهم الله بها ، من المسلمين والمشركين. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أن ما وعد الله به حق ، فلذلك يوجد فريق منهم يكذبون بوعده ، ويكذبون آياته. وهؤلاء الذي لا يعلمون ، أي : لا يعلمون بواطن الأشياء وعواقبها.

[٧] وإنّما (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) فينظرون إلى الأسباب ، ويجزمون بوقوع الأمر ، الذي في رأيهم ، انعقدت أسباب وجوده ، ويتيقنون عدم الأمر الذي لم يشاهدوا له من الأسباب المقتضية لوجوده ، شيئا فهم واقفون مع الأسباب ، غير ناظرين إلى مسببها ، المتصرف فيها. (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) قد توجهت قلوبهم ، وأهواؤهم ، وإراداتهم ، إلى الدنيا وشهواتها ، وحطامها ، فعملت لها ، وسعت ، وأقبلت بها وأدبرت ، وغفلت عن الآخرة. فلا الجنة تشتاق إليها ، ولا النار تخافها وتخشاها ، ولا المقام بين يدي الله ولقائه ، يروعها ويزعجها ، وهذا علامة الشقاء ، وعنوان الغفلة عن الآخرة. ومن العجب أن هذا القسم من الناس ، قد بلغت بكثير منهم ، الفطنة والذكاء في ظاهر الدنيا ، إلى أمر يحير العقول ، ويدهش الألباب. وأظهروا من العجائب الذرية ، والكهربائية ، والمراكب البرية والبحرية ، والهوائية ، ما فاقوا به وبرزوا ، وأعجبوا بعقولهم ، ورأوا غيرهم عاجزا عمّا أقدرهم الله عليه. فنظروا إليهم بعين الاحتقار والازدراء ، وهم مع ذلك ، أبلد الناس في أمر دينهم ، وأشدهم غفلة عن آخرتهم ، وأقلهم معرفة بالعواقب. قد رآهم أهل البصائر النافذة ، في جهلهم يتخبطون ، وفي ضلالهم يعمهون ، وفي باطلهم يترددون. نسوا الله ، فأنساهم أنفسهم ، أولئك هم الفاسقون. ولو نظروا إلى ما أعطاهم الله وأقدرهم عليه ، من الأفكار الدقيقة في الدنيا وظاهرها ، وما حرموا من العقل العالي ، لعرفوا أن الأمر لله ، والحكم له في عباده ، وإن هو إلا توفيقه أو خذلانه ، ولخافوا ربهم وسألوه أن يتم لهم ما وهبهم ، من نور العقول والإيمان ، حتى يصلوا إليه ،

٧٦٤

ويحلوا بساحته. وهذه الأمور لو قارنها الإيمان ، وبنيت عليه ، لأثمرت الرّقي العالي ، والحياة الطيبة. ولكنها لما بني كثير منها على الإلحاد ، لم تثمر إلا هبوط الأخلاق ، وأسباب الفناء والتدمير.

[٨ ـ ٩] أي : أفلم يتفكر هؤلاء المكذبون لرسل الله ولقائه (فِي أَنْفُسِهِمْ). فإن في أنفسهم ، آيات يعرفون بها ، أن الذي أوجدهم من العدم ، سيعيدهم بعد ذلك ، وأن الذي نقلهم أطوارا من نطفة إلى علقة ، إلى مضغة ، إلى آدمي ، قد نفخ فيه الروح ، إلى طفل ، إلى شاب ، إلى شيخ ، إلى هرم ، غير لائق أن يتركهم سدى مهملين ، لا ينهون ولا يؤمرون ، ولا يثابون ولا يعاقبون. (ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) أي : ليبلوكم أيكم أحسن عملا. (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) أي : مؤقت بقاؤهما إلى أجل تنقضي به الدنيا ، وتقوم القيامة ، وتبدل الأرض غير الأرض والسموات. (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) فلذلك لم يستعدوا للقائه ، ولم يصدقوا رسله الّتي أخبرت به ، وهذا الكفر عن غير دليل. بل الأدلة القاطعة ، دلّت على البعث والجزاء. ولهذا نبههم على السير في الأرض ، والنظر في عاقبة الّذين كذّبوا رسلهم ، وخالفوا أمرهم ، ممن هم أشد من هؤلاء قوة ، وأكثر آثارا في الأرض ، من بناء قصور ، ومصانع ، ومن غرس أشجار ، ومن زرع ، وإجراء أنهار. فلم تغن عنهم قوتهم ، ولا نفعتهم آثارهم ، حين كذّبوا رسلهم ، الّذين جاءوهم بالبينات الدالات على الحقّ ، وصحة ما جاءوهم به. فإنهم حين ينظرون في آثار أولئك ، لم يجدوا إلا أمما بائدة ، وخلقا مهلكين ، ومنازل بعدهم موحشة ، وذم من الخلق عليهم متتابع. وهذا جزاء معجل ، توطئة للجزاء الأخروي ، ومبتدأ له. وكلّ هذه الأمم المهلكة ، لم يظلمهم الله بذلك الإهلاك ، وإنّما ظلموا أنفسهم ، وتسببوا في هلاكها.

[١٠] (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا) أي : المسيئين (السُّواى) أي : الحالة السيئة الشنيعة. وصار ذلك داعيا لهم إلى (أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ). فهذا عقوبة إساءتهم وذنوبهم. ثمّ ذلك الاستهزاء والتكذيب ، يكون سببا لأعظم العقوبات ، وأعضل المثلاث.

[١١] يخبر تعالى ، أنه المتفرد بإبداء المخلوقات ، ثمّ يعيدهم ، ثمّ إليه يرجعون بعد إعادتهم ، ليجازيهم بأعمالهم.

ولهذا ذكر جزاء أهل الشر ، ثمّ جزاء أهل الخير ، فقال :

[١٢] (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) ويقوم الناس لرب العالمين ، ويردون القيامة عيانا. يومئذ (يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) أي : يأسون من كلّ خير. وذلك لأنهم ما قدموا لذلك اليوم إلا الإجرام ، وهو الذنوب ، من كفر ، وشرك ، ومعاصي. فلما قدموا أسباب العقاب ، ولم يخلطوها بشيء من أسباب الثواب ، أيسوا ، وأبلسوا ، وأفلسوا ، وضل عنهم ما كانوا يفترونه ، من نفع شركائهم ، وأنهم يشفعون لهم.

[١٣ ـ ١٤] ولهذا قال : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ) الّتي عبدوها مع الله (شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ). تبرأ المشركون ممن أشركوهم مع الله ، وتبرأ المعبودون ، وقالوا : (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا

٧٦٥

يَعْبُدُونَ) ، والتعنوا ، وابتعدوا. وفي ذلك اليوم يفترق أهل الخير والشر ، كما افترقت أعمالهم في الدنيا.

[١٥] (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) وآمنوا بقلوبهم ، وصدقوا ذلك بالأعمال الصالحة (فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ) فيها سائر أنواع النبات وأصناف المشتهيات. (يُحْبَرُونَ) أي : يسرون ، وينعمون بالمآكل اللذيذة ، والأشربة ، والحور الحسان ، والخدم ، والولدان ، والأصوات المطربات ، والسماع المبهج ، والمناظر العجيبة ، والروائح الطيبة ، والفرح والسرور واللذة والحبور ، مما لا يقدر أحد أن يصفه.

[١٦] (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) وجحدوا نعمه ، وقابلوها بالكفر (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) الّتي جاءتهم بها رسلنا (فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) فيه. قد أحاطت بهم جهنم من جميع جهاتهم ، واطّلع العذاب الأليم على أفئدتهم ، وشوى الحميم وجوههم ، وقطع أمعاءهم. فأين الفرق بين الفريقين ، وأين التساوي بين المنعمين والمعذبين؟

[١٧ ـ ١٨] هذا إخبار عن تنزهه عن السوء والنقص ، وتقدسه عن أن يماثله أحد من الخلق ، وأمر للعباد أن يسبحوه ، حين يمسون ، وحين يصبحون ، ووقت العشي ، ووقت الظهيرة. فهذه الأوقات الخمسة ، أوقات الصلوات الخمس ، أمر الله عباده بالتسبيح فيها والحمد. ويدخل في ذلك ، الواجب منه ، كالمشتملة عليه الصلوات الخمس. والمستحب كأذكار الصباح والمساء ، وأدبار الصلوات ، وما يقترن بها من النوافل ؛ لأن هذه الأوقات الّتي اختارها الله لأوقات المفروضات ، هي أفضل الأوقات. فالتسبيح والتحميد فيها ، والعبادة فيها ، أفضل من غيرها ، بل العبادة ، وإن لم تشتمل على قوله : «سبحان الله» فإن الإخلاص فيها ، تنزيه لله بالفعل ، أن يكون له شريك في العبادة ، أو أن يستحق أحد من الخلق ، ما يستحقه من الإخلاص والإنابة.

[١٩] (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) كما يخرج النبات من الأرض الميتة ، والسنبلة من الحبة ، والشجرة من النواة ، والفرخ من البيضة ، والمؤمن من الكافر ، ونحو ذلك. (وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) بعكس المذكور (وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها). فينزل عليها المطر ، وهي ميتة هامدة ، فإذا أنزل عليها الماء ، اهتزت ، وربت ، وأنبتت من كلّ زوج بهيج (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) من قبوركم. فهذا دليل قاطع ، وبرهان ساطع ، أن الذي أحيا الأرض بعد موتها ، يحيي الأموات. فلا فرق في نظر العقل بين الأمرين ، ولا موجب لاستبعاد أحدهما مع مشاهدة الآخر.

[٢٠] هذا شروع في تعداد آياته الدالة على انفراده بالإلهية ، وكمال عظمته ، ونفوذ مشيئته ، وقوة اقتداره ، وجميل صنعه ، وسعة رحمته وإحسانه فقال : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) وذلك بخلق أصل النسل ، آدم عليه‌السلام (ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) وبثكم في أقطار الأرض وأرجائها. ففي ذلك آيات على أن الذي أنشأكم من هذا الأصل ، وبثكم في أقطار الأرض ، هو الرب المعبود ، الملك المحمود ، والرحيم الودود ، الذي سيعيدكم بالبعث بعد الموت.

[٢١] (وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على رحمته ، وعنايته بعباده ، وحكمته العظيمة ، وعلمه المحيط. (أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ

٧٦٦

أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) تناسبكم وتناسبونهن ، وتشاكلكم وتشاكلونهن.

(لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) بما رتب على الزواج ، من الأسباب الجالبة للمودة والرحمة.

فحصل بالزوجة الاستمتاع واللذة ، والمنفعة بوجود الأولاد وتربيتهم ، والسكون إليها. فلا تجد بين اثنين في الغالب ، مثل ما بين الزوجين ، من المودة والرحمة. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) يعملون أفكارهم ، ويتدبرون آيات الله ، وينتقلون من شيء إلى شيء.

[٢٢] والعالمون ، هم أهل العلم ، الّذين يفهمون العبر ، ويتدبرون الآيات ، وآيات الله في ذلك كثيرة : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وما فيهما ، فإن ذلك ، دال على عظمة سلطان الله ، وكمال اقتداره ، الذي أوجد هذه المخلوقات العظيمة وكمال حكمته ، لما فيها من الإتقان ، وسعة علمه ـ لأن الخالق ، لا بد أن يعلم ما خلقه (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) ـ وعموم رحمته وفضله ، لما في ذلك من المنافع الجليلة. وأنه المريد ، الذي يختار ما يشاء ، لما فيها من التخصيصات والمزايا. وأنه وحده ، الذي يستحق أن يعبد ويوحد ؛ لأنه المنفرد بالخلق ، فيجب أن يفرد بالعبادة. فكل هذه ، أدلة عقلية ، نبه الله العقول إليها ، وأمرها بالتفكر ، واستخراج العبرة منها. (وَ) كذلك في (اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) على كثرتكم وتباينكم مع أن الأصل واحد ، ومخارج الحروف واحدة. ومع ذلك لا تجد صوتين متفقين من كلّ وجه ، ولا لونين متشابهين من كلّ وجه ، إلا وتجد من الفرق بين ذلك ما به يحصل التمييز. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) أي : إن هذا دال على كمال قدرته ، ونفوذ مشيئته. ومن عنايته بعباده ، ورحمته بهم أن قدر ذلك الاختلاف لئلا يقع التشابه فيحصل الاضطراب ، ويفوت كثير من المقاصد والمطالب.

[٢٣] أي سماع تدبر ، وتعقل للمعاني والآيات في ذلك. إن ذلك دليل على رحمة الله تعالى ، كما قال : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٧٣). وعلى تمام حكمته ، إذ حكمته ، اقتضت سكون الخلق في وقت ، ليستريحوا ويستجموا. وانتشارهم في وقت ، لمصالحهم الدينية والدنيوية ، ولا يتم ذلك ، إلا بتعاقب الليل والنهار عليهم ، والمنفرد بذلك ، هو المستحق للعبادة.

[٢٤] أي : ومن آياته ، أن ينزل عليكم المطر ، الذي تحيا به البلاد والعباد ، ويريكم قبل نزوله مقدماته ، من الرعد ، والبرق ، الذي يخاف ويطمع فيه. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) دالة على عموم إحسانه ، وسعة علمه ، وكمال إتقانه ، وعظيم حكمته ، وأنه يحيي الموتى ، كما أحيا الأرض بعد موتها. (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي : لهم عقول ، تعقل بها ما تسمعه ، وتراه وتحفظه ، وتستدل به ، على ما جعل دليلا عليه.

[٢٥] أي : ومن آياته العظيمة ، أن قامت السموات والأرض ، واستقرنا ، وثبتتا بأمره ، فلم تتزلزلا ، ولم تسقط السماء على الأرض. فقدرته العظيمة ، الّتي بها أمسك السموات والأرض ، أن تزولا ، يقدر بها ، على أنه إذا دعا الخلق دعوة من الأرض ، إذا هم يخرجون (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ).

[٢٦] (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لكل خلقه ومماليكه ، والمتصرف فيهم من غير منازع ، ولا معاون ، ولا معارض ، وكلهم قانتون لجلاله ، خاضعون لكماله.

[٢٧] (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ) أي : إعادة الخلق بعد موتهم (أَهْوَنُ عَلَيْهِ) من ابتداء خلقهم ، وهذا بالنسبة إلى الأذهان والعقول. فإذا كان قادرا على الابتداء ، الذي تقرون به ، كانت قدرته على الإعادة ، الّتي هي أهون ، أولى وأولى. ولما ذكر من الآيات العظيمة ، ما به يعتبر المعتبرون ، ويتذكر المؤمنون ويستبصر المهتدون ، ذكر الأمر العظيم ، والمطلب الكبير فقال : (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وهو كلّ صفة كمال. والكمال في تلك الصفة ، والمحبة ، والإنابة التامة الكاملة ، في قلوب عباده المخلصين ، والذكر الجليل ، والعبادة منهم. فالمثل الأعلى ، هو وصفه الأعلى ، وما ترتب عليه. ولهذا كان أهل العلم ، يستعملون في حق الباري ، قياس الأولى ، فيقولون : كل

٧٦٧

صفة كمال في المخلوقات ، فخالقها أحق بالاتصاف بها ، على وجه لا يشاركه فيها أحد. وكلّ نقص في المخلوق ، ينزه عنه ، فتنزيه الخالق عنه ، من باب أولى وأحرى. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي : له العزة الكاملة ، والحكمة الواسعة. فبعزته أوجد المخلوقات ، وأظهر المأمورات. وبحكمته ، أتقن ما صنعه ، وأحسن فيها ما شرعه.

[٢٨] هذا مثل ضربه الله ، لقبح الشرك وتهجينه ، مثلا من أنفسكم ، لا يحتاج إلى حل وترحال ، وإعمال الجمال. (هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ) أي : هل أجد من عبيدكم وإمائكم الأرقاء ، يشارككم في رزقكم ، وترون أنكم وهم فيه على حد سواء ، (تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي : كالأحرار الشركاء في الحقيقة ، الذي يخاف من قسمه ، واختصاص كلّ شيء بماله؟ ليس الأمر كذلك ، فإنه ليس أحد مما ملكت أيمانكم ، شريكا لكم فيما رزقكم الله تعالى. هذا ، ولستم الّذين خلقتموهم ورزقتموهم ، وهم أيضا ، مماليك مثلكم ، فكيف ترضون أن تجعلوا لله شريكا من خلقه ، وتجعلونه بمنزلته ، وعديلا له في العبادة ، وأنتم لا ترضون مساواة مماليككم لكم؟ وهذا من أعجب الأشياء ، ومن أدل شيء على سفه من اتخذ شريكا مع الله ، وأن ما اتخذه باطل مضمحل ، ليس مساويا لله ، ولا له من العبادة شيء. (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) بتوضيحها بأمثلتها (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) الحقائق ويعرفون. وأما من لا يعقل ، فلو فصّلت له الآيات ، وبيّنت له البينات ، لم يكن له عقل يبصر به ما تبين ، ولا لبّ يعقل به ما توضح. فأهل العقول والألباب ، هم الّذين يساق إليهم الكلام ، ويوجه الخطاب. وإذا علم من هذا المثال ، أن من اتخذ من دون الله شريكا ، يعبده ويتوكل عليه في أموره ، ليس معه من الحقّ شيء ، فما الذي أوجب لهم الإقدام ، على أمر باطل ، توضح بطلانه ، وظهر برهانه؟ لقد أوجب لهم ذلك ، اتباع الهوى ، فلهذا قال :

[٢٩] (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) هويت أنفسهم الناقصة ، الّتي ظهر من نقصها ، ما تعلق به هواها ، أمرا يجزم العقل بفساده ، والفطر برده ، بغير علم دلهم عليه ، ولا برهان قادهم إليه. (فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ) أي : لا تعجبوا من عدم هدايتهم ، فإن الله تعالى أضلهم بظلمهم ، ولا طريق لهداية من أضل الله ؛ لأنه ليس أحد معارضا لله ، أو منازعا له في ملكه. (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) ينصرونهم حين تحق عليهم كلمة العذاب ، وتنقطع بهم الوصل والأسباب.

[٣٠] يأمر تعالى بالإخلاص له في جميع الأحوال ، وإقامة دينه فقال : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ) أي : أنصبه ووجهه (لِلدِّينِ) الذي هو الإسلام والإيمان ، والإحسان ، بأن تتوجه بقلبك ، وقصدك ، وبدنك إلى إقامة شرائع الدين الظاهرة ، كالصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحج ونحوها. وشرائعه الباطنة ، كالمحبة ، والخوف ، والرجاء ، والإنابة. والإحسان في الشرائع الظاهرة والباطنة ، بأن تعبد الله فيها كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك. وخص الله إقامة الوجه ، لأن إقبال الوجه ، تبع لإقبال القلب ، ويترتب على الأمرين ، سعي البدن ، ولهذا قال : (حَنِيفاً) أي : مقبلا على الله في ذلك ، معرضا عمّا سواه. وهذا الأمر الذي أمرناك به ، هو (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها)

٧٦٨

ووضع في عقولهم حسنها ، واستقباح غيرها. فإن جميع أحكام الشرع ، الظاهرة والباطنة ، قد وضع الله في قلوب الخلق كلهم ، الميل إليها. فوضع في قلوبهم ، محبة الحقّ ، وإيثار الحقّ ، وهذا حقيقة الفطرة. ومن خرج عن هذا الأصل ، فلعارض عرض لفطرته ، أفسدها ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه». (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) أي : لا أحد يبدل خلق الله ، فيجعل المخلوق على غير الوضع ، الذي وضعه الله. (ذلِكَ) الذي أمرناك به (الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي : الطريق المستقيم الموصل إلى الله ، وإلى دار كرامته ، فإن من أقام وجهه للدين حنيفا فإنه سالك الصراط المستقيم ، في جميع شرائعه وطرقه. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) فلا يتعرفون الدين القيّم ، وإن عرفوه لم يسلكوه.

[٣١] (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ) وهذا تفسير لإقامة الوجه للدين. فإن الإنابة ، إنابة القلب ، وانجذاب دواعيه ، لمراضي الله تعالى. ويلزم من ذلك ، عمل البدن بمقتضى ما في القلب ، فشمل ذلك العبادات الظاهرة والباطنة ، ولا يتم ذلك إلا بترك المعاصي الظاهرة والباطنة ، فلذلك قال : (وَاتَّقُوهُ) فهذا يشمل فعل المأمورات ، وترك المنهيات. وخص من المأمورات الصلاة بقوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) لكونها تدعو إلى الإنابة والتقوى ، كما قال تعالى في سورة العنكبوت : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) فهذا إعانتها على التقوى. ثمّ قال : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) فهذا حثها على الإنابة. وخص من المنهيات أصلها ، والذي لا يقبل معه عمل ، وهو الشرك فقال : (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) لكون الشرك مضادا للإنابة ، الّتي روحها الإخلاص من كلّ وجه.

[٣٢] ثمّ ذكر حالة المشركين مهجنا لها ومقبحا فقال : (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) مع أن الدين واحد ، وهو إخلاص العبادة لله وحده وهؤلاء المشركون ، فرقوه : منهم من يعبد الأوثان والأصنام. ومنهم من يعبد الشمس والقمر. ومنهم من يعبد الأولياء والصالحين ، ومنهم يهود ، ومنهم نصارى. ولهذا قال : (وَكانُوا شِيَعاً) أي : كل فرقة تحزبت وتعصبت ، على نصر ما معها من الباطل ، ومنابذة غيرهم ومحاربتهم. (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ) من العلوم المخالفة لعلوم الرسل (فَرِحُونَ) به ، يحكمون لأنفسهم بأنه الحقّ ، وإن غيرهم على باطل. وفي هذا تحذير للمسلمين من تشتتهم وتفرقهم فرقا ، كل فريق يتعصب لما معه من حق وباطل ، فيكونون مشابهين بذلك للمشركين في التفرق ، بل الدين واحد ، والرسول واحد ، والإله واحد. وأكثر الأمور الدينية ، وقع فيها الإجماع بين العلماء والأئمة. والأخوة الإيمانية ، قد عقدها الله وربطها ، أتم ربط. فما بال ذلك كله يلغى ، ويبنى التفرق والشقاق بين المسلمين على مسائل خفية ، أو فروع خلافية ، يضلل بها بعضهم بعضا ، ويتميز بها بعضهم على بعض؟ فهل هذا إلا من أكبر نزغات الشيطان ، وأعظم مقاصده ، الّتي كاد بها المسلمين؟ وهل السعي في جمع كلمتهم ، وإزالة ما بينهم من الشقاق ، المبني على ذلك الأصل الباطل ، إلا من أفضل الجهاد في سبيل الله ، وأفضل الأعمال المقربة إلى الله؟

[٣٣ ـ ٣٤] ولما أمر تعالى بالإنابة إليه ـ والإنابة المأمور بها ، هي الإنابة الاختيارية ، الّتي تكون في حالي العسر

٧٦٩

واليسر ، والسعة والضيق ـ ذكر الإنابة الاضطرارية ، التي لا تكون مع الإنسان إلا عند ضيقه وكربه ، فإذا زال عنه الضيق ، نبذها وراء ظهره ، وهذه غير نافعة فقال : (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ) إلى (يُشْرِكُونَ). (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ) مرض ، أو خوف من هلاك ونحوه. (دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) ونسوا ما كانوا به يشركون في تلك الحال ، لعلمهم أنه لا يكشف الضر إلا الله. (ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً) فشفاهم من مرضهم ، وآمنهم من خوفهم. (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ) ينقضون تلك الإنابة ، التي صدرت منهم ، ويشركون به من لا أسعدهم ولا أشقى ، ولا أفقرهم ولا أغنى. وكل هذا ، كفر بما آتاهم الله ، ومنّ به عليهم ، حيث أنجاهم ، وأنقذهم من الشدة ، وأزال عنهم المشقة. فهلا قابلوا هذه النعمة الجليلة ، بالشكر والدوام على الإخلاص له ، في جميع الأحوال؟

[٣٥] (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً) أي : حجة ظاهرة (فَهُوَ) أي : ذلك السلطان. (يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) ويقول لهم : اثبتوا على شرككم ، واستمروا على شككم ، فإن ما أنتم عليه هو الحقّ ، وما دعتكم الرسل إليه باطل. فهل ذلك السلطان ، موجود عندهم ، حتى يوجب لهم شدة التمسك بالشرك؟ أم البراهين العقلية والسمعية ، والكتب السماوية ، والرسل الكرام ، وسادات الأنام ، قد نهوا أشد النهي عن ذلك ، وحذروا من سلوك طرقه الموصلة إليه ، وحكموا بفساد عقل ودين من ارتكبه؟ فشرك هؤلاء بغير حجة ولا برهان ، وإنّما هو أهواء النفوس ، ونزغات الشيطان.

[٣٦] يخبر تعالى ، عن طبيعة أكثر الناس ، في حالي الرخاء والشدة ، أنهم إذا أذاقهم الله منه رحمة ، من صحة ، وغنى ، ونصر ونحو ذلك ، فرحوا بذلك ، فرح بطر ، لا فرح شكر وتبجح بنعمة الله. (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) أي : حال تسوؤهم وذلك (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) من المعاصي. (إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) ييأسون من زوال ذلك الفقر ، والمرض ، ونحوه. وهذا جهل منهم وعدم معرفة.

[٣٧] (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ). فالقنوط بعد ما علم أن الخير والشر من الله ، والرزق ، سعته وضيقه ، من تقديره ، ضائع ، ليس له محل. فلا تنظر أيها العاقل لمجرد الأسباب ، بل اجعل نظرك لمسببها ، ولهذا قال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فهم الّذين يعتبرون ببسط الله الرزق لمن يشاء ، وقبضه. ويعرفون بذلك ، حكمة الله ورحمته ، وجوده ، وجذب القلوب لسؤاله ، في جميع مطالب الرزق.

[٣٨] أي : فأعط القريب منك ـ على حسب قربه وحاجته ـ حقه الذي أوجبه الشارع ، أو حض عليه ، من النفقة الواجبة ، والصدقة ، والهداية ، والبر ، والسّلام ، والإكرام ، والعفو عن زلته ، والمسامحة عن هفوته. وكذلك ، آت المسكين ، الذي أسكنه الفقر والحاجة ، ما تزيل حاجته ، وتدفع به ضرورته ، من إطعامه ، وسقيه وكسوته. (وَابْنَ السَّبِيلِ) الغريب المنقطع ، في غير بلده ، الذي هو مظنة شدة الحاجة ، وأنه لا مال معه ، ولا كسب يدبر نفسه به في سفره. بخلاف الذي في بلده ، فإنه حتى لو لم يكن له مال ، فإنه لا بد ـ في الغالب ـ أن يكون في حرفة ، أو صناعة ونحوها تسد حاجته. ولهذا جعل الله في الزكاة ، حصة للمسكين ، وابن السبيل. (ذلِكَ) أي : إيتاء ذي القربى والمسكين وابن السبيل (خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ) بذلك العمل (وَجْهَ اللهِ) أي : خير غزير ، وثواب كثير ؛ لأنه من أفضل الأعمال الصالحة ، والنفع المتعدي ، الذي وافق محله ، المقرون به الإخلاص. فإن لم يرد به وجه الله ، لم يكن خيرا للمعطي ، وإن كان خيرا ونفعا للمعطى كما قال تعالى : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ). مفهومها ، أن هذه الأمور خير ، لنفعها المتعدي ، ولكن من يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله ، فسوف نؤتيه أجرا عظيما. وقوله : (وَأُولئِكَ) الّذين عملوا هذه الأعمال وغيرها لوجه الله (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بثواب الله ، الناجون من عقابه.

[٣٩] ولما ذكر العمل ، الذي يقصد به وجهه ، من النفقات ، ذكر العمل الذي يقصد به مقصد دنيوي فقال :

٧٧٠

(وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ) أي : ما أعطيتم من أموالكم الزائدة عن حوائجكم ، وقصدكم بذلك أن يربو أي : يزيد في أموالكم ، بأن تعطوها لمن تطمعون أن يعاوضكم عنها بأكثر منها ، فهذا العمل ، لا يربو أجره عند الله ، لكونه معدوم الشرط ، الذي هو الإخلاص. ومثل ذلك العمل ، الذي يراد به الزيادة ، في الجاه والرياء عند الناس ، فهذا كله لا يربو عند الله. (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ) أي : مال يطهركم من الأخلاق الرذيلة ، ويطهر أموالكم من البخل بها ، ويزيد في دفع حاجة المعطى. (تُرِيدُونَ) بذلك (وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) أي : المضاعف لهم الأجر ، الذي تربو نفقاتهم عند الله ، ويربيها الله لهم ، حتى تكون شيئا كثيرا. ودلّ قوله : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ) أن الصدقة مع اضطرار من يتعلق بالمنفق ، أو مع دين عليه ، لم يقضه ، ويقدم عليه الصدقة ، أن ذلك ليس بزكاة ، يؤجر عليه العبد ، ويرد تصرفه شرعا ، كما قال تعالى في الذي يمدح : (الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) (١٨). فليس مجرّد إيتاء المال خيرا ، حتى يكون بهذه الصفة ، وهو : أن يكون على وجه ، يتزكى به صاحبه.

[٤٠] يخبر تعالى أنه وحده ، المنفرد بخلقكم ورزقكم ، وإماتتكم وإحيائكم ، وأنه ليس أحد من الشركاء ، الّتي يدعوها المشركون ، من يشارك الله في شيء من هذه الأشياء. فكيف يشركون ، بمن انفرد بهذه الأمور ، من ليس له تصرف فيها ، بوجه من الوجوه؟ فسبحانه وتعالى ، وتقدس ، وتنزه ، وعلا عن شركهم. فلا يضره ذلك ، وإنّما وباله عليهم.

[٤١] أي : استعلن الفساد في البر والبحر ، أي : فساد معايشهم ونقصها ، وحلول الآفات بها. وفي أنفسهم من الأمراض والوباء ، وغير ذلك. وذلك بسبب ما قدمت أيديهم ، من الأعمال الفاسدة ، المفسدة ، بطبعها. هذه المذكورة (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) أي : ليعلموا أنه المجازي على الأعمال ، فعجل لهم نموذجا ، من جزاء أعمالهم في الدنيا. (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عن أعمالهم ، الّتي أثرت لهم من الفساد ما أثرت. فتصلح أحوالهم ، ويستقيم أمرهم. فسبحان من أنعم ببلائه ، وتفضل بعقوبته ، وإلا فلو أذاقهم جميع ما كسبوا ، ما ترك على ظهرها من دابة.

[٤٢] والأمر بالسير في الأرض ، يدخل فيه السير بالأبدان ، والسير في القلوب ، للنظر والتأمل ، بعواقب المتقدمين. (كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) تجدون عاقبتهم شر العواقب ، ومآلهم شر مآل. عذاب استأصلهم ، وذم ولعن من خلق الله يتبعهم ، وخزي متواصل. فاحذروا أن تفعلوا أفعالهم ، لئلا يحذى بكم حذوهم ، فإن عدل الله وحكمته في كلّ زمان ومكان.

[٤٣] أي : أقبل بقلبك ، وتوجه بوجهك ، واسع ببدنك ، لإقامة الدين القيّم المستقيم. فنفذ أوامره ونواهيه ، بجد واجتهاد ، وقم بوظائفه الظاهرة والباطنة. وبادر زمانك ، وحياتك ، وشبابك ، (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) وهو يوم القيامة ، الذي إذا جاء ، لا يمكن رده ، ولا يرجأ العاملون ليستأنفوا العمل ، بل فرغ من الأعمال ، لم

٧٧١

يبق إلا جزاء العمال. (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) أي : يتفرقون عن ذلك اليوم ، ويصدرون أشتاتا متفاوتين ، ليروا أعمالهم.

[٤٤] (مَنْ كَفَرَ) منهم (فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) ويعاقب هو بنفسه ، لا تزر وازرة وزر أخرى. (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً) من الحقوق ، الّتي لله ، والّتي للعباد ، الواجبة والمستحبة. (فَلِأَنْفُسِهِمْ) لا لغيرهم (يَمْهَدُونَ) أي : يهيئون ، ولأنفسهم يعمرون آخرتهم ، ويستعدون للفوز بمنازلها وغرفاتها. ومع ذلك ، جزاؤهم ليس مقصورا على أعمالهم ، بل يجزيهم الله من فضله الممدود ، وكرمه غير المحدود ، ما لا تبلغه أعمالهم. وذلك لأنه أحبهم ، وإذا أحب الله عبدا ، صبّ عليه الإحسان صبا ، وأجزل له العطايا الفاخرة ، وأنعم عليه بالنعم الظاهرة والباطنة.

[٤٥] وهذا بخلاف الكافرين ، فإن الله لما أبغضهم ومقتهم ، عاقبهم وعذبهم ، ولم يزدهم كما زاد من قبلهم ، فلهذا قال : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ).

[٤٦] (وَمِنْ آياتِهِ) أي : ومن الأدلة الدالة على رحمته وبعثه الموتى ، وأنه الإله المعبود ، والملك المحمود. (أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ) أمام المطر (مُبَشِّراتٍ) بإثارتها للسحاب ، ثمّ جمعها ، فتستبشر بذلك النفوس قبل نزوله. (وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) فينزل عليكم مطرا ، تحيا به البلاد والعباد ، وتذوقون من رحمته ما تعرفون أن رحمته ، هي المنقذة للعباد الجالبة لأرزاقهم. فتشتاقون إلى الإكثار من الأعمال الصالحة ، الفاتحة لخزائن الرحمة. (وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ) في البحر (بِأَمْرِهِ) القدري (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) بالتصرف في معايشكم ومصالحكم. (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) من سخر لكم الأسباب ، وسير لكم الأمور. فهذا المقصود من النعم ، أن تقابل بشكر الله تعالى ، ليزيدكم الله منها ، ويبقيها عليكم. وأما مقابلة النعم بالكفر والمعاصي ، فهذه حال من بدّل نعمة الله كفرا ، ومنحته محنة ، وهو معرض لها للزوال ، والانتقال منه إلى غيره.

[٤٧] أي : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) في الأمم السالفين (رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ) حين جحدوا توحيد الله ، وكذّبوا بالحق ، فجاءتهم رسلهم يدعونهم إلى التوحيد والإخلاص ، والتصديق بالحق ، وبطلان ما هم عليه ، من الكفر والضلال. وجاؤوهم بالبينات والأدلة على ذلك ، فلم يؤمنوا ، ولم يزولوا عن غيهم. (فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) ونصرنا المؤمنين ، أتباع الرسل. (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) أي : أوجبنا ذلك على أنفسنا ، وجعلناه من جملة الحقوق المتعينة ووعدنا به ، فلا بد من وقوعه. فأنتم أيها المكذبون لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إن بقيتم على تكذيبكم ، حلّت بكم العقوبة ، ونصرناه عليكم.

[٤٨] يخبر تعالى عن كمال قدرته ، وتمام نعمته ، أنه (يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) من الأرض. (فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ) أي : يمده ويوسعه (كَيْفَ يَشاءُ) أي : على أي حالة أرادها من ذلك. (وَيَجْعَلُهُ) أي : ذلك السحاب الواسع (كِسَفاً) أي : سحابا ثخينا ، قد طبق بعضه فوق بعض. (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) أي : السحاب ، نقطا صغارا متفرقة ، لا تنزل جميعا ، فتفسد ما أتت عليه. (فَإِذا أَصابَ بِهِ) بذلك المطر (مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) يبشر بعضهم بعضا بنزوله ، وذلك لشدة حاجتهم ، واضطرارهم إليه ، فلهذا قال :

٧٧٢

[٤٩ ـ ٥٠] (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ) (٤٩) أي : آيسين قانطين ، لتأخر وقت مجيئه. أي : فلما نزل في تلك الحال ، صار له موقع عظيم عندهم ، وفرح واستبشار. (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) فاهتزت وربت ، وأنبتت من كلّ زوج كريم. (إِنَّ ذلِكَ) الذي أحيا الأرض بعد موتها (لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فقدرته تعالى ، لا يتعاصى عليها شيء ، وإن تعاصى على قدر خلقه ، ودق عن أفهامهم ، وحارت فيه عقولهم.

[٥١] يخبر تعالى عن حالة الخلق ، وأنهم مع هذه النّعم عليهم بإحياء الأرض بعد موتها ، ونشر رحمة الله تعالى ، لو أرسلنا على هذا النبات الناشئ عن المطر ، وعلى زروعهم ، ريحا مضرة متلفة أو منقصة. (فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا) قد تداعى إلى التلف (لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ). فينسون النعم الماضية ، ويبادرون إلى الكفر.

[٥٢] وهؤلاء ، لا ينفع فيهم وعظ ولا زجر (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ) بالأولى (إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) فإن الموانع قد توفرت فيهم عن الانقياد والسماع النافع كتوفر هذه الموانع المذكورة ، عن سماع الصوت الحسي.

[٥٣] (وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) لأنهم لا يقبلون الإبصار بسبب عماهم فليس فيهم قابلية له. (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) فهؤلاء الّذين ينفع فيهم إسماع الهدى ، المؤمنون بآياتنا بقلوبهم ، المنقادون لأوامرنا ، المسلمون لنا ؛ لأن معهم الداعي القوي لقبول النصائح والمواعظ ، وهو استعدادهم للإيمان بكل آية من آيات الله ، واستعدادهم لتنفيذ ما يقدرون عليه من أوامر الله.

[٥٤] يخبر تعالى ، عن سعة علمه ، وعظيم اقتداره ، وكمال حكمته ، أنه ابتدأ خلق الآدميين من ضعف ، وهو الأطوار الأولى من خلقه ، من نطفة إلى علقة ، إلى مضغة إلى أن صار حيوانا في الأرحام ، إلى أن ولد ، وهو في سن الطفولة ، وهو إذ ذلك في غاية الضعف ، وعدم القوة والقدرة. ثمّ ما زال الله يزيد في قوته ، شيئا فشيئا ، حتى بلغ الشباب ، واستوت قوته ، وكملت قواه الظاهرة والباطنة. ثمّ انتقل من هذا الطور ، ورجع إلى الضعف والشيبة والهرم. (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) بحسب حكمته. ومن حكمته ، أن يرى العبد ضعفه ، وأن قوته محفوفة بضعفين ، وأنه ليس له من نفسه ، إلا النقص. ولو لا تقوية الله له ، لما وصل إلى قوة وقدرة ، ولو استمرت قوته في الزيادة ، لطغا ، وبغى ، وعتا. وليعلم العباد ، كمال قدرة الله ، الّتي لا تزال مستمرة ، يخلق بها الأشياء ، ويدبر بها الأمور ولا يلحقها إعياء ، ولا ضعف ، ولا نقص ، بوجه من الوجوه.

[٥٥] يخبر تعالى عن يوم القيامة ، وسرعة مجيئه ، وأنه إذا قامت الساعة (يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ) بالله أنهم (ما لَبِثُوا) في الدنيا (غَيْرَ ساعَةٍ). وذلك اعتذار منهم لعله ينفعهم العذر ، واستقصار لمدة الدنيا. ولما كان قولهم كذبا لا حقيقة له ، قال تعالى : (كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) أي : ما زالوا ـ وهم في الدنيا ـ يؤفكون عن الحقائق ، ويأتفكون الكذب. ففي الدنيا ، كذّبوا الحقّ الذي جاء به المرسلون. وفي الآخرة ، أنكروا الأمر المحسوس ، وهو اللبث الطويل

٧٧٣

في الدنيا. فهذا خلقهم القبيح ، والعبد يبعث على ما مات عليه.

[٥٦] (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ) أي : منّ الله عليهم بهما ، وصار وصفا لهم ، العلم بالحق ، والإيمان المستلزم إيثار الحقّ. وإذا كانوا عالمين بالحق ، مؤثرين له ، لزم أن يكون قولهم مطابقا للواقع ، مناسبا لأحوالهم. فلهذا قالوا الحقّ : (لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ) أي : في قضائه وقدره ، الذي كتبه الله عليكم ، وفي حكمه (إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) أي : عمرا ، يتذكر فيه المتذكر ، ويتدبر فيه المتدبر ، ويعتبر فيه المعتبر ، حتى صار البعث ، ووصلتم إلى هذه الحال. (فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فلذلك أنكرتموه في الدنيا ، وأنكرتم إقامتكم في الدنيا وقتا ، تتمكنون فيه من الإنابة والتوبة. فلم يزل الجهل شعاركم ، وآثاره من التكذيب والخسار دثاركم.

[٥٧] (فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ) فإن كذبوا ، وزعموا أنهم ما قامت عليهم الحجة ، أو ما تمكنوا من الإيمان ، ظهر كذبهم ، بشهادة أهل العلم والإيمان ، وشهادة جلدهم ، وأيديهم ، وأرجلهم. وإن طلبوا الإعذار وأن يردّوا فلا يعودوا لما نهوا عنه ، لم يمكّنوا ، فإنه فات وقت الإعذار ، فلا تقبل معذرتهم. (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي : لا يزال عتبهم ، والعتاب عنهم.

[٥٨] أي : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا) لأجل عنايتنا ، ورحمتنا ، ولطفنا ، وحسن تعليمنا. (لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) تتضح به الحقائق ، وتعرف به الأمور ، وتنقطع به الحجة. وهذا عام في الأمثال ، الّتي يضربها الله ، في تقريب الأمور المعقولة بالمحسوسة. وفي الإخبار ، بما سيكون ، وجلاء حقيقته ، حتى كأنه وقع. ومنه في هذا الموضع ، ذكر الله تعالى ، ما يكون يوم القيامة وحالة المجرمين فيه وشدة أسفهم ، وأنه لا يقبل منهم عذر ولا عتاب. ولكن أبى الظالمون الكافرون ، إلا معاندة الحقّ الواضح ، ولهذا قال : (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ) أي : أي آية ، تدل على صحة ما جئت به (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ) أي : قالوا للحق : إنه باطل. وهذا من كفرهم وجراءتهم ، وطبع الله على قلوبهم ، وجهلهم المفرط ، ولهذا قال :

[٥٩] (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٥٩) فلا يدخلها خير ، ولا تدرك الأشياء على حقيقتها ، بل ترى الحقّ باطلا ، والباطل حقا.

[٦٠] (فَاصْبِرْ) على ما أمرت به ، وعلى دعوتهم إلى الله. ولو رأيت منهم إعراضا ، فلا يصدنك ذلك. (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي : لا شك فيه ، وهذا مما يعين على الصبر ، فإن العبد إذا علم أن عمله غير ضائع ، بل سيجده كاملا ، هان عليه ما يلقاه من المكاره ، وتيسر عليه كلّ عسير ، واستقل من عمله كلّ كثير. (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) أي : قد ضعف إيمانهم ، وقلّ يقينهم ، فخفت لذلك أحلامهم ، وقلّ صبرهم. فإيّاك أن يستخفك هؤلاء ، فإنك إن تجعلهم منك على بال ، وتحذر منهم ، وإلا استخفوك ، وحملوك على عدم الثبات ، على الأوامر والنواهي. والنفس تساعدهم على هذا وتطلب التشبه والموافقة. وهذا مما يدل على أن كلّ مؤمن موقن ، رزين

٧٧٤

العقل ، يسهل عليه الصبر. وكلّ ضعيف اليقين ، ضعيف العقل خفيفه. فالأول ، بمنزلة اللب ، والآخر بمنزلة القشور. فالله المستعان. تم تفسير سورة الروم.

تفسير سورة لقمان

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] يشير تعالى إشارة دالة على التعظيم إلى (آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) أي : إن آياته محكمة ، صدرت من حكيم خبير. ومن إحكامها ، أنها جاءت بأجلّ الألفاظ وأفصحها ، وأبينها ، الدالة على أجل المعاني وأحسنها. ومن إحكامها ، أنها محفوظة من التغيير والتبديل ، والزيادة والنقص ، والتحريف. ومن إحكامها : أن جميع ما فيها من الأخبار السابقة واللاحقة ، والأمور الغيبية كلها ، مطابقة للواقع ، مطابق لها الواقع ، لم يخالفها كتاب من الكتب الإلهية ، ولم يخبر بخلافها نبي من الأنبياء ، ولم يأت ، ولن يأتي علم محسوس ولا معقول صحيح ، يناقض ما دلت عليه. ومن إحكامها : أنها ما أمرت بشيء ، إلا هو خالص المصلحة ، أو راجحها. ولا نهت عن شيء ، إلا وهو خالص المفسدة ، أو راجحها. وكثيرا ما يجمع بين الأمر بالشيء ، مع ذكر حكمته وفائدته ، والنهي عن الشيء ، مع ذكر مضرته. ومن إحكامها : أنها جمعت بين الترغيب والترهيب ، والوعظ البليغ : الذي تعتدل به النفوس الخيرة ، وتحتكم ، فتعمل بالحزم. ومن إحكامها : أنك تجد آياتها المتكررة ، كالقصص ، والأحكام ونحوها ، قد اتفقت كلها وتواطأت ، فليس فيها تناقض ، ولا اختلاف. فكلما ازداد بها البصير تدبرا ، وأعمل فيها العقل تفكرا ، انبهر عقله ، وذهل لبه من التوافق والتواطؤ ، وجزم جزما لا يمترى فيه ، أنه تنزيل من حكيم حميد. ولكن ـ مع أنه حكيم ـ يدعو إلى كلّ خلق كريم ، وينهى عن كلّ خلق لئيم. أكثر الناس محرومون من الاهتداء به ، معرضون عن الإيمان والعمل به ، إلا من وفقه الله تعالى وعصمه ، وهم المحسنون في عبادة ربهم والمحسنون إلى الخلق.

[٣] فإنه (هُدىً) لهم ، يهديهم إلى الصراط المستقيم ، ويحذرهم من طرق الجحيم. (وَرَحْمَةً) لهم ، تحصل لهم به ، السعادة في الدنيا والآخرة ، والخير الكثير ، والثواب الجزيل ، والفرح ، ويندفع عنهم الضلال والشقاء.

[٤] ثمّ وصف المحسنين ، بالعلم التام ، وهو اليقين الموجب للعمل والخوف من عقاب الله ، فيتركون معاصيه. ووصفهم بالعمل وخص من العمل ، عملين فاضلين. (يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) المشتملة على الإخلاص ، ومناجاة الله تعالى ، والتعبد العام للقلب واللسان ، والجوارح المعينة ، على سائر الأعمال. (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) الّتي تزكي صاحبها : من الصفات الرذيلة ، وتنفع أخاه المسلم ، وتسد حاجته ، ويبين بها أن العبد يؤثر محبة الله على محبته للمال ، فيخرج محبوبه من المال ، لما هو أحب إليه ، وهو طلب مرضاة الله.

[٥] (أُولئِكَ) المحسنون ، الجامعون بين العلم التام والعمل (عَلى هُدىً) أي : عظيم ، كما يفيده التنكير. وذلك الهدى حاصل لهم ، وواصل إليهم (مِنْ رَبِّهِمْ) الذي لم يزل يربيهم بالنعم ، ويدفع عنهم النقم. وهذا الهدى الذي أوصله إليهم ، من تربيته الخاصة بأوليائه ، وهو أفضل أنواع التربية. (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الّذين أدركوا رضا ربهم ، وثوابه الدنيوي والأخروي ، وسلموا من سخطه وعقابه. وذلك لسلوكهم طريق الفلاح ، الذي لا طريق له غيرها.

[٦ ـ ٧] ولما ذكر تعالى المهتدين بالقرآن ، المقبلين عليه ، ذكر من أعرض عنه ، ولم يرفع به رأسا ، وأنه عوقب على

٧٧٥

ذلك ، بأن تعوض عنه كلّ باطل من القول ، فترك أعلى الأقوال ، وأحسن الحديث ، واستبدل به أسفل قول وأقبحه ، فلذلك قال : (وَمِنَ النَّاسِ) إلى (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). أي (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ) هو محروم مخذول (يَشْتَرِي) أي : يختار ويرغب رغبة من يبذل الثمن في الشيء. (لَهْوَ الْحَدِيثِ) أي : الأحاديث الملهية للقلوب ، الصادّة لها عن أجلّ مطلوب. فدخل في هذا ، كل كلام محرم ، وكلّ لغو ، وباطل ، وهذيان من الأقوال المرغبة في الكفر ، والفسوق ، والعصيان ، ومن أقوال الرادين على الحقّ ، المجادلين بالباطل ليدحضوا به الحقّ ، ومن غيبة ، ونميمة ، وكذب ، وشتم ، وسب ، ومن غناء ومزامير شيطان ، ومن المجريات الملهية ، التي لا نفع فيها في دين ولا دنيا. فهذا الصنف من الناس ، يشتري لهو الحديث ، عن هدي الحديث (لِيُضِلَ) الناس (عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي : بعد ما ضل هو في فعله ، أضل غيره ، لأن الإضلال ، ناشىء عن الضلال. وإضلاله في هذا الحديث ، صده عن الحديث النافع ، والعمل النافع ، والحقّ المبين ، والصراط المستقيم. ولا يتم له هذا ، حتى يقدح في الهدى والحقّ ، الذي جاءت به آيات الله. (وَيَتَّخِذَها هُزُواً) يسخر بها ، وبمن جاء بها. فإذا جمع بين مدح الباطل والترغيب فيه ، والقدح في الحقّ ، والاستهزاء به وبأهله ، أضل من لا علم عنده وخدعه بما يوحيه إليه ، من القول الذي لا يميزه ذلك الضال ، ولا يعرف حقيقته. (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) بما ضلوا ، واستهزؤوا بآيات الله ، وكذّبوا الحقّ الواضح. ولهذا قال : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا) ليؤمن بها وينقاد لها. (وَلَّى مُسْتَكْبِراً) أي : أدبر إدبار مستكبر عنها ، رادّ لها ، ولم تدخل قلبه ولا أثرت فيه ، بل أدبر عنها (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) بل (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) أي : صمما لا تصل إليه الأصوات ، فهذا لا حيلة في هدايته. (فَبَشِّرْهُ) بشارة تؤثر في قلبه الحزن والغم ، وفي بشرته السوء ، والظلمة ، والغبرة. (بِعَذابٍ أَلِيمٍ) مؤلم لقلبه ، ولبدنه ، لا يقادر قدره ، ولا يدري بعظيم أمره. فهذه بشارة أهل الشر ، فلا نعمت البشارة.

[٨] وأما بشارة أهل الخير فقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) جمعوا بين عبادة الباطن بالإيمان ، والظاهر بالإسلام ، والعمل الصالح. (لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ) بشارة لهم بما قدموه ، وقرى لهم بما أسلفوه. (خالِدِينَ فِيها) أي ، في جنات النعيم ، نعيم الروح ، والبدن.

[٩] (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) لا يمكن أن يخلف ، ولا يغير ، ولا يتبدل. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) كامل العزة ، كامل الحكمة. من عزته وحكمته ، أن وفّق من وفّق ، وخذل من خذل ، بحسب ما اقتضاه علمه فيهم ، وحكمته.

[١٠] يتلو تعالى على عباده ، آثارا من آثار قدرته ، وبدائع من بدائع حكمته ، ونعما من آثار رحمته ، فقال : (خَلَقَ السَّماواتِ) السبع ، على عظمها ، وسعتها ، وكثافتها ، وارتفاعها الهائل. (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) أي : ليس لها عمد ، ولو كان لها عمد لرؤيت وإنّما استقرت واستمسكت ، بقدرة الله تعالى. (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) أي : جبالا عظيمة ، ركزها في أرجائها وأنحائها ، لئلا (تَمِيدَ بِكُمْ) فلو لا الجبال الراسيات ، لمادت الأرض ، ولما استقرت

٧٧٦

بساكنها. (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ) أي : نشر في الأرض الواسعة ، من جميع أصناف الدواب ، التي هي مسخرة لبني آدم ، ولمصالحهم ، ومنافعهم. ولما بثها في الأرض ، علم تعالى أنه لا بد لها من رزق تعيش به ، فأنزل من السماء ماء مباركا. (فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) المنظر ، نافع مبارك ، فرتعت فيه الدواب المنبثة ، وسكن إليه كل حيوان.

[١١] (هذا) أي : خلق العالم العلوي والسفلي ، من جماد ، وحيوان ، وسوق أرزاق الخلق إليهم (خَلْقُ اللهِ) وحده لا شريك له ، كل مقر بذلك حتى أنتم يا معشر المشركين. (فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) أي : الّذين جعلتموهم له شركاء ، تدعونهم وتعبدونهم ، يلزم على هذا ، أن يكون لهم خلق كخلقه ، ورزق كرزقه. فإن كان لهم شيء من ذلك ، فأرونيه ، ليصح ما ادعيتم فيهم من استحقاق العبادة. ومن المعلوم أنهم لا يقدرون أن يروه شيئا من الخلق لها ، لأن جميع المذكورات ، قد أقروا أنها خلق الله وحده ، ولا ثمّ شيء يعلم غيرها. فثبت عجزهم عن إثبات شيء لها تستحق به أن تعبد. ولكن عبادتهم إياها ، عن غير علم وبصيرة ، بل عن جهل وضلال ، ولهذا قال : (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي : جلي واضح حيث عبدوا من لا يملك نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، وتركوا الإخلاص للخالق الرازق المالك لكل الأمور.

[١٢] يخبر تعالى عن امتنانه على عبده الفاضل لقمان ، بالحكمة ، وهي العلم بالحق على وجهه وحكمته ، فهي العلم بالأحكام ، ومعرفة ما فيها ، من الأسرار والإحكام. فقد يكون الإنسان عالما ، ولا يكون حكيما. وأما الحكمة ، فهي مستلزمة للعلم ، بل وللعمل ، ولهذا فسرت الحكمة بالعلم النافع ، والعمل الصالح. ولما أعطاه الله هذه المنة العظيمة ، أمره أن يشكره على ما أعطاه ، ليبارك له فيه ، وليزيده من فضله ، وأخبره أن شكر الشاكرين ، يعود نفعه عليهم ، وأن من كفر فلم يشكر الله ، عاد وبال ذلك عليه. (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌ) عنه (حَمِيدٌ) فيما يقدره ويقضيه ، على من خالف أمره. فغناه تعالى ، من لوازم ذاته ، وكونه حميدا في صفات كماله ، حميدا في جميل صنعه ، من لوازم ذاته ، وكلّ واحد من الوصفين ، صفة كمال ، واجتماع أحدهما إلى الآخر ، زيادة كمال إلى كمال.

[١٣] واختلف المفسرون ، هل كان لقمان نبيا ، أو عبدا صالحا؟ والله تعالى لم يذكر عنه إلا أنه آتاه الحكمة ، وذكر بعض ما يدل على حكمته ، في وعظه لابنه. فذكر أصول الحكمة وقواعدها الكبار فقال : (وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ). وقال له قولا يعظه به ، والوعظ : الأمر ، والنهي ، المقرون بالترغيب والترهيب. فأمره بالإخلاص ، ونهاه عن الشرك ، وبيّن له السبب في ذلك فقال : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) ووجه كونه ظلما عظيما ، أنه لا أفظع ولا أبشع ممن سوّى المخلوق من تراب ، بمالك الرقاب. وسوّى الذي لا يملك من الأمر شيئا ، بمالك الأمر كله. وسوّى الناقص الفقير من جميع الوجوه ، بالرب الكامل الغني من جميع الوجوه. وسوّى من لا يستطيع أن ينعم بمثقال ذرة من النّعم ، بالذي ما بالخلق من نعمة في دينهم ، ودنياهم ، وأخراهم ، وقلوبهم ، وأبدانهم ، إلا منه ، ولا يصرف السوء إلا هو. فهل أعظم من هذا الظلم شيء؟ وهل أعظم ظلما ، ممن خلقه الله لعبادته وتوحيده ، فذهب بنفسه الشريفة ، فجعلها في أخس المراتب؟ جعلها عابدة لمن لا يسوى شيئا ، فظلم نفسه ظلما كبيرا.

[١٤] ولما أمر بالقيام بحقه ، بترك الشرك الذي من لوازمه القيام بالتوحيد ، أمر بالقيام بحق الوالدين فقال : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ) أي : عهدنا إليه ، وجعلناه وصية عنده ، سنسأله عن القيام بها ، وهل حفظها أم لا؟ فوصيناه (بِوالِدَيْهِ) وقلنا له (اشْكُرْ لِي) بالقيام بعبوديتي ، وأداء حقوقي ، وأن لا تستعين بنعمي على معصيتي. (وَلِوالِدَيْكَ) بالإحسان إليهما بالقول اللين ، والكلام اللطيف ، والفعل الجميل ، والتواضع لهما ، وإكرامهما ، وإجلالهما ، والقيام بمؤونتهما واجتناب الإساءة إليهما من كلّ وجه ، بالقول والفعل. فوصيناه بهذه الوصية ، وأخبرناه أن (إِلَيَّ الْمَصِيرُ) أي : سترجع أيها الإنسان إلى من وصاك ، وكلفك بهذه الحقوق ، فيسألك : هل قمت بها ، فيثيبك الثواب الجزيل؟ أم ضيعتها ، فيعاقبك العقاب الوبيل؟ وذلك السبب الموجب لبر الوالدين في الأم فقال :

٧٧٧

(حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ) أي : مشقة على مشقة ، فلا تزال تلاقي المشاق ، من حين يكون نطفة ، من الوحم ، والمرض ، والضعف ، والثقل ، وتغير الحال ، وثمّ وجع الولادة ، ذلك الوجع الشديد. (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) وهو ملازم لحضانة أمه وكفالتها ، ورضاعها. أفما يحسن بمن تحمل على ولده هذه الشدائد ، مع شدة الحب ، أن يؤكد على ولده ، ويوصي إليه بتمام الإحسان إليه؟

[١٥] (وَإِنْ جاهَداكَ) أي : اجتهد والداك (عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) ولا تظن أن هذا داخل في الإحسان إليهما ، لأن حق الله ، مقدم على حق كل أحد ، و «لا طاعة لمخلوق ، في معصية الخالق». ولم يقل «وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فعقهما». بل قال : (فَلا تُطِعْهُما) أي : في الشرك ، وأما برهما ، فاستمر عليه. ولهذا قال : (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) أي : صحبة إحسان إليهما بالمعروف. وأما اتباعهما ، وهما بحالة الكفر والمعاصي ، فلا تتبعهما. (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ) وهم المؤمنون بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، المستسلمون لربهم ، المنيبون إليه. واتباع سبيلهم ، أن يسلك مسلكهم في الإنابة إلى الله ، الّتي هي انجذاب دواعي القلب وإرادته ، إلى الله ، ثمّ يتبعها سعي البدن ، فيما يرضي الله ، ويقرب منه. (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) الطائع والعاصي ، والمنيب ، وغيره (فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ، فأجازيك على إيمانك ، وأجازيهما على كفرهما ، ثمّ أجازي كلا منكم بما صدر عنه من الخير والشر. فلا يخفى على الله من أعمالهم خافية.

[١٦] (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) الّتي هي أصغر الأشياء وأحقرها. (فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ) أي : في وسطها (أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ) في أي : جهة من جهاتهما (يَأْتِ بِهَا اللهُ) سعة علمه ، وتمام خبرته وكمال قدرته. ولهذا قال : (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) أي : لطف في علمه وخبرته ، حتى اطلع على البواطن والأسرار ، وخفايا القفار والبحار. والمقصود من هذا ، الحث على مراقبة الله ، والعمل بطاعته ، مهما أمكن ، والترهيب من عمل القبيح ، قلّ أو كثر.

[١٧] (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ) حثه عليها ، وخصها لأنها أكبر العبادات البدنية. (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) وذلك يستلزم العلم بالمعروف ، ليأمر به ، والعلم بالمنكر ، لينهى عنه. والأمر بما لا يتم الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر إلا به ، من الرفق ، والصبر ، وقد صرّح به في قوله : (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) ومن كونه فاعلا لما يأمر به ، كافا لما ينهى عنه ، فتضمن هذا تكميل نفسه بفعل الخير وترك الشر ، وتكميل غيره بذلك ، بأمره ونهيه. ولما علم أنه لا بد أن يبتلى إذا أمر ونهى وأن في الأمر والنهي مشقة على النفوس ، أمره بالصبر على ذلك فقال (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ) الذي وعظ به لقمان ابنه (مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي : من الأمور الّتي يعزم عليها ، ويهتم بها ، ولا يوفق لها إلا أهل العزائم.

[١٨] (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) أي : لا تمله وتعبس بوجهك للناس ، تكبّرا عليهم ، وتعاظما. (وَلا تَمْشِ فِي

٧٧٨

الْأَرْضِ مَرَحاً) أي : بطرا ، فخرا بالنعم ، ناسيا المنعم ، معجبا بنفسك. (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ) في نفسه وهيئته وتعاظمه (فَخُورٍ) بقوله.

[١٩] (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) أي : امش متواضعا مستكينا ، لا مشي البطر والتكبر ، ولا مشي التماوت. (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) أدبا مع الناس ومع الله. (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ) أي : أفظعها وأبشعها (لَصَوْتُ الْحَمِيرِ). فلو كان في رفع الصوت البليغ فائدة ومصلحة ، لما اختص بذلك الحمار ، الذي قد علمت خسته وبلادته. وهذه الوصايا ، الّتي وصى بها لقمان ابنه ، تجمع أمهات الحكم ، وتستلزم ما لم يذكر منها. وكلّ وصية يقرن بها ، ما يدعو إلى فعلها ، إن كانت أمرا ، وإلى تركها ، إن كانت نهيا. وهذا يدل على ما ذكرنا في تفسير الحكمة ، أنها العلم بالأحكام ، وحكمها ومناسباتها. فأمره بأصل الدين ، وهو التوحيد ، ونهاه عن الشرك ، وبيّن له الموجب لتركه. وأمره ببر الوالدين ، وبين له السبب الموجب لبرهما ، وأمره بشكره وشكرهما ، ثمّ احترز بأن محل برهما وامتثال أوامرهما ، ما لم يأمرا بمعصية ، ومع ذلك ، فلا يعقهما ، بل يحسن إليهما ، وإن كان لا يطيعهما إذا جاهداه على الشرك. وأمره بمراقبة الله ، وخوّفه القدوم عليه. وأنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من الخير والشر ، إلا أتى بها. ونهاه عن التكبر ، وأمره بالتواضع ، ونهاه عن البطر والأشر ، والمرح ، وأمره بالسكون في الحركات والأصوات ، ونهاه عن ضد ذلك. وأمره بالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وإقامة الصلاة وبالصبر اللذين يسهل بهما كلّ أمر ، كما قال تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ). فحقيق بمن أوصى بهذه الوصايا ، أن يكون مخصوصا بالحكمة ، مشهورا بها. ولهذا من منّة الله على عباده ، أن قص عليهم من حكمته ، ما يكون لهم به أسوة حسنة.

[٢٠] يمتن تعالى على عباده بنعمه ، ويدعوهم إلى شكرها ورؤيتها ، وعدم الغفلة عنها فقال : (أَلَمْ تَرَوْا) أي : تشاهدوا وتبصروا بأبصاركم ، وقلوبكم. (أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ) من الشمس والقمر والنجوم ، كلها مسخرات لنفع العباد. (وَما فِي الْأَرْضِ) من الحيوانات والأشجار والزروع ، والأنهار والمعادن ونحوها كما قال تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً). (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ) أي : عمّكم وغمركم بوافر (نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) الّتي نعلم بها ، والّتي تخفى علينا ، نعم الدنيا ، ونعم الدين ، حصول المنافع ، ودفع المضار ، فوظيفتكم أن تقوموا بشكر هذه النعم ، بمحبة المنعم والخضوع له ، وصرفها في الاستعانة على طاعته ، وأن لا يستعان بشيء منها على معصيته. (وَ) لكن مع توالي هذه النعم ، فإن (مِنَ النَّاسِ مَنْ) لم يشكرها ، بل كفرها ، وكفر بمن أنعم بها ، وجحد الحقّ الذي أنزل به كتبه ، وأرسل به رسله. فجعل (يُجادِلُ فِي اللهِ) أي : يجادل عن الباطل ، ليدحض به الحقّ ، ويدفع به ما جاء به الرسول ، من الأمر بعبادة الله وحده. وهذا المجادل يجادل (بِغَيْرِ عِلْمٍ) وعلى غير بصيرة. فليس جداله عن علم ، فيترك وشأنه ، ويسمح له في الكلام (وَلا هُدىً) يقتدي به بالمهتدين (وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) أي : نيّر مبيّن للحق ، فلا معقول ، ولا منقول ، ولا اقتداء بالمهتدين. وإنّما جداله في الله ، مبني على تقليد آباء غير

٧٧٩

مهتدين ، بل ضالين مضلين.

[٢١] ولهذا قال : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) على أيدي رسله ، فإنه الحقّ ، وبينت لهم أدلته الظاهرة (قالُوا) معارضين ذلك : (بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) فلا نترك ما وجدنا عليه آباءنا لقول أحد ، كائنا من كان. قال تعالى في الرد عليهم وعلى آبائهم : (أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ). فاستجاب له آباؤهم ، ومشوا خلفه ، وصاروا من تلاميذ الشيطان ، واستولت عليهم الحيرة. فهل هذا ، موجب لاتباعهم ومشيهم على طريقتهم ، أم ذلك يرهبهم من سلوك سبيلهم ، وينادي على ضلالهم ، وضلال من تبعهم. وليس دعوة الشيطان لآبائهم ولهم ، محبة لهم ومودة ، وإنّما ذلك عداوة لهم ومكر لهم ، وبالحقيقة أتباعه من أعدائه ، الّذين تمكن منهم ، وظفر بهم ، وقرت عينه باستحقاقهم عذاب السعير ، بقبول دعوته.

[٢٢] (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ) أي : يخضع له وينقاد له بفعل الشرائع مخلصا له دينه. (وَهُوَ مُحْسِنٌ) في ذلك الإسلام بأن كان عمله مشروعا ، قد اتبع فيه الرسول. أو من يسلم وجهه إلى الله ، بفعل جميع العبادات ، وهو محسن فيها ، بأن يعبد الله كأنه يراه ، فإن لم يكن يراه ، فإنه يراك. أو من يسلم وجهه إلى الله ، بالقيام بحقوقه ، وهو محسن إلى عباد الله ، قائم بحقوقهم. والمعاني متلازمة ، لا فرق بينها إلا من جهة اختلاف مورد اللفظين. وإلا فكلها منفعة على القيام بجميع شرائع الدين ، على وجه تقبل به وتكمل. فمن فعل ذلك ، (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) أي : بالعروة الّتي من تمسك بها ، توثق ونجا ، وسلم من الهلاك ، وفاز بكل خير. ومن لم يسلم وجهه لله ، أو لم يحسن لم يستمسك بالعروة الوثقى ، وإذا لم يستمسك لم يكن ثمّ إلا الهلاك والبوار. (وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) أي :

رجوعها ، وموئلها ، ومنتهاها. فيحكم في عباده ، ويجازيهم بما آلت إليه أعمالهم ، ووصلت إليه عواقبهم ، فليستعدوا لذلك الأمر.

[٢٣] (وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ) لأنك أديت ما عليك ، من الدعوة والبلاغ. فإذا لم يهتد ، فقد وجب أجرك على الله ، ولم يبق للحزن موضع على عدم اهتدائه ، لأنه لو كان فيه خير ، لهداه الله. ولا تحزن أيضا ، على كونهم تجرؤوا عليك بالعداوة ، ونابذوك المحاربة ، واستمروا على غيهم وكفرهم ، ولا تتحرق عليهم ، بسبب أنهم ما بودروا بالعذاب. إن (إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) من كفرهم وعداوتهم ، وسعيهم في إطفاء نور الله ، وأذى رسله. (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) الّتي ما نطق بها الناطقون ، فكيف بما ظهر ، وكان شهادة؟

[٢٤] (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً) في الدنيا ، ليزداد إثمهم ، ويتوفر عذابهم. (ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ) أي : نلجئهم (إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) أي : انتهى في عظمه ، وكبره ، وفظاعته ، وألمه ، وشدته.

[٢٥] (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي : سألت هؤلاء المشركين المكذبين بالحق. (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) لعلموا أن أصنامهم ، ما خلقت شيئا من ذلك (لَيَقُولُنَّ اللهُ) الذي خلقهما وحده. (قُلِ) لهم ، ملزما لهم ، ومحتجا عليهم بما أقروا به ، على ما أنكروا. (الْحَمْدُ لِلَّهِ) الذي بيّن النور ، وأظهر الاستدلال عليكم من أنفسكم. فلو كانوا يعلمون ، لجزموا أن المنفرد بالخلق والتدبير ، هو الذي يفرد بالعبادة والتوحيد. (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) فلذلك أشركوا به غيره ، ورضوا بتناقض ما ذهبوا إليه ، على وجه الحيرة والشك ، لا على وجه البصيرة. ثمّ ذكر هاتين الآيتين ، نموذجا من سعة أوصاف الله سبحانه ، ليدعو عباده إلى معرفته ، ومحبته ، وإخلاص الدين له. فذكر عموم ملكه ، وأن جميع ما في السموات والأرض ـ وهذا شامل لجميع العالم العلوي والسفلي ـ أنه ملكه ، يتصرف فيهم بأحكام الملك القدرية ، وأحكامه الأمرية ، وأحكامه الجزائية. فكلهم عبيد مماليك ، مدبرون مسخرون ، ليس لهم من الملك شيء. وأنه واسع الغنى ، فلا يحتاج إلى ما يحتاج إليه أحد من الخلق. (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) (٥٧). وأن أعمال النبيين والصديقين ، والشهداء والصالحين ، لا تنفع الله شيئا وإنّما تنفع عامليها ، والله

٧٨٠