تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي

تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

المؤلف:

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ١١٣٥

تعالى ، محيط بجميع مخلوقاته في جميع أحوالها ، في جميع الأوقات. ويعلم ما تنقص الأرض من أجساد الأموات ، وما يبقى ، ويعلم الغيب والشهادة. فإذا أقر العبد بهذا العلم العظيم ، علم أنه أعظم وأجل من إحياء الله الموتى من قبورهم.

[٨٠] ثمّ ذكر دليلا ثالثا فقال : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) (٨٠) فإذا أخرج النار اليابسة ، من الشجر الأخضر ، الذي هو غاية الرطوبة ، مع تضادهما ، وشدة تخالفهما ، فإخراجه الموتى من قبورهم ، مثل ذلك.

[٨١] ثمّ ذكر دليلا رابعا فقال : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) على سعتهما وعظمهما (بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) أي : أن يعيدهم بأعيانهم. (بَلى) قادر على ذلك ، فإن خلق السموات والأرض ، أكبر من خلق الناس. (وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) وهذا دليل خاص ، فإنه تعالى الخلّاق ، الذي جميع المخلوقات ، متقدمها ، ومتأخرها ، وصغيرها ، وكبيرها ـ كلها أثر من آثار خلقه وقدرته ، وأنه لا يستعصي عليه مخلوق أراد خلقه.

[٨٢] فإعادته للأموات ، فرد من أفراد آثار خلقه ، ولهذا قال : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً) نكرة في سياق الشرط ، فتعم كلّ شيء. (أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي : في الحال من غير تمانع.

[٨٣] (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) وهذا دليل سادس ، فإنه تعالى هو الملك المالك لكل شيء ، الذي جميع ما سكن في العالم العلوي والسفلي ملك له ، وعبيد مسخرون ومدبرون ، يتصرف فيهم بأقداره الحكيمة ، وأحكامه الشرعية ، وأحكامه الجزائية. فإعادته إياهم بعد موتهم ، لينفذ فيهم حكم الجزاء ، من تمام ملكه ، ولهذا قال : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) من غير امتراء ولا شك ، لتواتر البراهين القاطعة والأدلة الساطعة ، على ذلك. فتبارك الذي جعل في كلامه الهدى والشفاء والنور. تم تفسير سورة يس.

تفسير سورة الصافات

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] هذا قسم منه تعالى ، بالملائكة الكرام ، في حال عباداتها ، وتدبيرها ما تدبره بإذن ربها ، على ألوهيته تعالى ، وربوبيته ، فقال : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) (١) أي : صفوفا في خدمة ربهم ، وهم الملائكة.

[٢] (فَالزَّاجِراتِ زَجْراً) (٢) وهم الملائكة ، يزجرون السحاب وغيره بأمر الله.

[٣] (فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) (٣) وهم : الملائكة الّذين يتلون كلام الله تعالى.

[٤] فلما كانوا متألهين لربهم ، ومتعبدين في خدمته ، ولا يعصونه طرفة عين ، أقسم بهم على ألوهيته فقال :

٨٤١

(إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) (٤) ليس له شريك في الإلهية ، فأخلصوا له الحب ، والخوف ، والرجاء ، وسائر أنواع العبادة.

[٥] (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ) (٥) أي : هو الخالق لهذه المخلوقات ، الرازق لها ، المذل لها. فكما أنه لا شريك له في ربوبيته إياها ، فكذلك لا شريك له في ألوهيته. وكثيرا ما يقرن تعالى ، توحيد الإلهية ، بتوحيد الربوبية ؛ لأنه دالّ عليه. وقد أقرّ به أيضا المشركون في العبادة ، فليزمهم بما أقروا به على ما أنكروه.

[٦ ـ ٨] وخص الله المشارق بالذكر ، لدلالتها على المغارب ، أو لأنها مشارق النجوم ، الّتي سيذكرها ، فلهذا قال : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى). ذكر الله في الكواكب ، هاتين الفائدتين العظيمتين : إحداهما : كونها زينة للسماء ، إذ لولاها ، لكانت السماء مظلمة ، لا ضوء فيها. ولكن زينها بها لتستنير أرجاؤها ، وتحسن صورتها ، ويهتدى بها في ظلمات البر والبحر ، ويحصل فيها من المصالح ما يحصل. والثانية : حراسة السماء ، عن كلّ شيطان مارد ، يصل بتمرده إلى استماع الملأ الأعلى ، وهم الملائكة. فإذا استمعوا (يُقْذَفُونَ) بالشهب الثواقب (مِنْ كُلِّ جانِبٍ) طردا لهم ، وإبعادا إياهم ، عن استماع ما يقول الملأ الأعلى.

[٩] (وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) أي : دائم ، معد لهم ، لتمردهم عن طاعة ربهم. [١٠] ولو لا أنه تعالى استثنى ، لكان ذلك دليلا على أنهم لا يستمعون شيئا أصلا ، ولكن قال : (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) أي : إلا من تلقف من الشياطين المردة ، الكلمة الواحدة على وجه الخفية والسرقة (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) تارة ، يدركه قبل أن يوصلها إلى أوليائه ، فينقطع خبر السماء. وتارة يخبر بها ، قبل أن يدركه الشهاب ، فيكذبون معها مائة كذبة ، يروجونها بسبب الكلمة ، الّتي سمعت من السماء.

[١١] ولما بيّن هذه المخلوقات العظيمة قال : (فَاسْتَفْتِهِمْ) أي : اسأل منكري خلقهم بعد موتهم. (أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) أي : إيجادهم بعد موتهم ، أشد خلقا وأشق؟ (أَمْ مَنْ خَلَقْنا) من هذه المخلوقات؟ فلا بد أن يقروا أن خلق السموات والأرض ، أكبر من خلق الناس. فيلزمهم إذا الإقرار بالبعث ، بل لو رجعوا إلى أنفسهم ، وفكروا فيها ، لعلموا أن ابتداء خلقهم من طين لازب ، أصعب عند الفكر من إنشائهم بعد موتهم ، ولهذا قال : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) أي : قوي شديد كقوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) (٢٦).

[١٢] (بَلْ عَجِبْتَ) أيها الرسول ، أو أيها الإنسان ، من تكذيب من كذّب بالبعث ، بعد أن أريتهم من الآيات العظيمة ، والأدلة المستقيمة. وهو حقيقة ، محل عجب واستغراب ؛ لأنه مما لا يقبل الإنكار. (وَ) أعجب من إنكارهم وأبلغ منه ، أنهم (يَسْخَرُونَ) ممن جاء بالخبر عن البعث. فلم يكفهم مجرد الإنكار ، حتى زادوا السخرية بالقول الحقّ.

[١٣ ـ ١٤] (وَ) من العجب أيضا أنهم (إِذا ذُكِّرُوا) ما يعرفون في فطرهم وعقولهم ، وفطنوا له ، ولفت نظرهم إليه (لا يَذْكُرُونَ) ذلك. فإن كان جهلا ، فهو من أدلّ الدلائل على شدة بلادتهم العظيمة ، حيث ذكروا ما هو مستقر في الفطرة ، معلوم بالعقل ، لا يقبل الإشكال. وإن كان تجاهلا وعنادا ، فهو أعجب وأغرب. ومن العجب أيضا ، أنهم إذا أقيمت عليهم الأدلة ، وذكروا الآيات الّتي يخضع لها فحول الرجال ، وألباب الألباء ، يسخرون منها

٨٤٢

ويعجبون.

[١٥] ومن العجب أيضا ، قولهم للحق لما جاءهم : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ). فجعلوا أعلى الأشياء ، وأجلّها ، وهو الحقّ ، في رتبة أخسّ الأشياء وأحقرها.

[١٦ ـ ١٧] ومن العجب أيضا ، قياسهم قدرة رب الأرض والسموات ، على قدرة الآدمي الناقص من جميع الوجوه ، فقالوا استبعادا وإنكارا : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) (١٧).

[١٨] ولما كان هذا منتهى ما عندهم ، وغاية ما لديهم ، أمر الله رسوله أن يجيبهم بجواب مشتمل على ترهيبهم فقال : (قُلْ نَعَمْ) ستبعثون ، أنتم وآباؤكم الأولون (وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) ذليلون صاغرون ، لا تمتنعون ، ولا تستعصون على قدرة الله. [١٩] (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) ينفخ إسرافيل فيها في الصور (فَإِذا هُمْ) مبعوثون من قبورهم (يَنْظُرُونَ) كما ابتدئ خلقهم ، بعثوا بجميع أجزائهم ، حفاة عراة غرلا. وفي تلك الحال ، يظهرون الندم ، والخزي ، والخسار ، ويدعون بالويل والثبور. [٢٠] (وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ) (٢٠) «أي : هذا يوم الحساب والجزاء على الأعمال» فقد أقروا بما كانوا في الدنيا به يهزؤون. [٢١] فيقال لهم : (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) بين العباد فيما بينهم ، وبين ربهم من الحقوق ، وفيما بينهم وبين غيرهم من الخلق.

[٢٢] أي : إذا حضروا يوم القيامة ، وعاينوا ما به يكذبون ، ورأوا ما به يستسخرون ، يؤمر بهم إلى النار ، الّتي بها كانوا يكذبون ، فيقال : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم بالكفر والشرك ، والمعاصي (وَأَزْواجَهُمْ) الّذين من جنس عملهم ، كل يضم إلى من يجانسه في العمل. [٢٣] (وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) من الأصنام والأنداد. الّتي زعموها. اجمعوهم جميعا (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) أي : سوقوهم سوقا عنيفا إلى جهنم. (وَ) بعد ما يتعين أمرهم إلى النار ، ويعرفون أنهم من أهل دار البوار ، يقال : (قِفُوهُمْ) قبل أن توصلوهم إلى جهنم (إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) عمّا كانوا يفترونه في الدنيا ، ليظهر على رؤوس الأشهاد كذبهم وفضيحتهم.

[٢٥] فيقال لهم : (ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) (٢٥) أي : ما الذي جرى عليكم اليوم؟ وما الذي طرقكم حتى لا ينصر بعضكم بعضا ، ولا يغيث بعضكم بعضا ، بعد ما كنتم تزعمون في الدنيا ، أن آلهتكم ستدفع عنكم العذاب ، وتغيثكم ، أو تشفع لكم عند الله. فكأنهم لا يجيبون على هذا السؤال ، لأنهم قد علاهم الذل والصغار ، واستسلموا لعذاب النار ، وخشعوا وخضعوا ، وأبلسوا ، فلم ينطقوا.

[٢٦] ولهذا قال : (بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) (٢٦) «أي : منقادون أذلاء ، فكلهم مستسلم غير منتصر».

[٢٧ ـ ٢٨] لما جمعوا هم وأزواجهم وآلهتهم ، وهدوا إلى صراط الجحيم ، ووقفوا ، فسئلوا ، فلم يجيبوا ، أقبلوا فيما بينهم ، يلزم بعضهم بعضا ، على إضلالهم وضلالهم. فقال الأتباع للمتبوعين الرؤساء : (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) أي : بالقوة والغلبة ، فتضلونا ، ولو لا أنتم لكنا مؤمنين. [٢٩] (قالُوا) لهم (بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي : ما زلتم مشركين ، كما نحن مشركون. [٣٠] فأي شيء فضلكم علينا؟ وأي شيء يوجب لومنا (وَ) الحال أنه (ما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) أي : قهر لكم على اختيار الكفر (بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ) متجاوزين للحق. [٣١] (فَحَقَّ عَلَيْنا) «فلزمنا جميعا» نحن وإياكم (قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ) العذاب. أي : حق علينا قدر ربنا ، وقضاؤه ، إنا وإياكم سنذوق العذاب ، ونشترك في العقاب. [٣٢] (ف) لذلك أغويناكم (إِنَّا كُنَّا غاوِينَ) (٣٢) أي : دعوناكم إلى طريقتنا الّتي نحن عليها ، وهي الغواية ، فاستجبتم لنا ، فلا تلومونا ، ولوموا أنفسكم. [٣٣] قال تعالى : (فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ) أي : يوم القيامة (فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) وإن تفاوتت مقادير عذابهم ، بحسب جرمهم. [٣٤] كما اشتركوا في الدنيا على الكفر ، اشتركوا في الآخرة بجزائه ، ولهذا قال : (إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) (٣٤).

[٣٥] ثمّ ذكر أن إجرامهم ، قد بلغ الغاية وجاوز النهاية فقال : (إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) فدعوا إليها ، وأمروا بترك إلهية ما سواه (يَسْتَكْبِرُونَ) عنها ، وعلى من جاء بها. [٣٦] (وَيَقُولُونَ) معارضة لها (أَإِنَّا لَتارِكُوا

٨٤٣

آلِهَتِنا) الّتي لم نزل نعبدها ، نحن وآباؤنا (ل) قول شاعر (مَجْنُونٍ) يعنون : محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فلم يكفهم قبحهم الله ، الإعراض عنه ، ولا مجرد تكذيبه ، حتى حكموا عليها بأظلم الأحكام ، وجعلوه شاعرا مجنونا ، وهم يعلمون ، أنه لا يعرف الشعر والشعراء ، ولا وصفه وصفهم ، وأنه أعقل خلق الله ، وأعظمهم رأيا.

[٣٧] ولهذا قال تعالى ، ناقضا لقولهم : (بَلْ جاءَ) محمد (بِالْحَقِ) أي : مجيئه حقّ ، وما جاء به من الشرع والكتاب حق. (وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) أي : ومجيئه صدق المرسلين ، فلو لا مجيئه وإرساله لم يكن الرسل صادقين ، فهو آية ومعجزة لكل رسول قبله ، لأنهم أخبروا به وبشروا ، وأخذ الله عليهم العهد والميثاق ، لئن جاءهم ، ليؤمنن به ولينصرنه ، وأخذوا ذلك على أممهم. فلما جاء ، ظهر صدق الرسل الّذين قبله ، وتبين كذب من خالفهم. فلو قدر عدم مجيئه ، وهم قد أخبروا به ، لكان ذلك قادحا في صدقهم. وصدّق أيضا المرسلين ، بأن جاء بما جاءوا به ، ودعا إلى ما دعوا إليه ، وآمن بهم ، وأخبر بصحة رسالتهم ونبوتهم وشرعهم.

[٣٨ ـ ٣٩] ولما كان قولهم السابق : (إِنَّا لَذائِقُونَ) قولا صادرا منهم ، يحتمل أن يكون صدقا أو غيره ، أخبر تعالى بالقول الفصل الذي لا يحتمل غير الصدق واليقين ، وهو الخبر الصادق منه تعالى فقال : (إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ) (٣٨) أي : المؤلم الموجع (وَما تُجْزَوْنَ) في إذاقة العذاب الأليم (إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فلم نظلمكم ، وإنّما عدلنا فيكم؟

[٤٠] ولما كان هذا الخطاب ، لفظه عاما ، والمراد به : المشركون ، استثنى تعالى المؤمنين فقال : (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (٤٠) إلى (مَكْنُونٌ). يقول تعالى : (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (٤٠) فإنهم غير ذائقي العذاب الأليم ، لأنهم أخلصوا لله الأعمال ، فأخلصهم ، واختصهم برحمته ، وجاد عليهم بلطفه.

[٤١] (أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ) (٤١) أي : غير مجهول ، وإنّما هو رزق عظيم جليل ، لا يجهل أمره ، ولا يبلغ كنهه.

[٤٢] فسره بقوله : (فَواكِهُ) من جميع أنواع الفواكه ، الّتي تتفكه بها النفس ، للذتها في لونها وطعمها. (وَهُمْ مُكْرَمُونَ) لا مهانون محتقرون ، بل معظمون مبجلون موقرون. قد أكرم بعضهم بعضا ، وأكرمتهم الملائكة الكرام ، وصاروا يدخلون عليها من كلّ باب ، ويهنّئونهم ببلوغ أهنأ الثواب. وأكرمهم أكرم الأكرمين ، وجاد عليهم بأنواع الكرامات ، من نعيم القلوب والأرواح والأبدان.

[٤٣] (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (٤٣) أي : الجنات ، الّتي النعيم وصفها ، والسرور نعتها. وذلك لما جمعته ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. وسلمت من كلّ ما يخل بنعيمها ، من جميع المكدرات والمنغصات.

[٤٤] ومن كرامتهم عند ربهم ، وإكرام بعضهم بعضا ، أنهم على (سُرُرٍ) وهي المجالس المرتفعة ، المزينة بأنواع الأكسية الفاخرة ، المزخرفة المجملة ، فهم متكئون عليها ، على وجه الراحة والطمأنينة ، والفرح ، (مُتَقابِلِينَ) فيما بينهم ، قد صفت قلوبهم ومحبتهم فيما بينهم ونعموا باجتماع بعضهم مع بعض. فإن مقابلة وجوههم ، تدل على تقابل قلوبهم ، وتأدب بعضهم مع بعض فلم يستدبره ، أو يجعله إلى جانبه. بل من كمال السرور والأدب ، ما دل عليه ذلك التقابل.

٨٤٤

[٤٥] (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) (٤٥) أي : يتردد الولدان المستعدون لخدمتهم عليهم ، بالأشربة اللذيذة ، بالكأسات الجميلة المنظر ، المترعة من الرحيق المختوم بالمسك ، وهو كاسات الخمر.

[٤٦] وتلك الخمر ، تخالف خمر الدنيا من كلّ وجه ، فإنها في لونها (بَيْضاءَ) من أحسن الألوان ، وفي طعمها (لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) يلتذ شاربها بها وقت شربها وبعده.

[٤٧] وأنها سالمة (لا فِيها غَوْلٌ) العقل وذهابه ، ونزفه ، ونزف مال صاحبها ، وليس فيها صداع ولا كدر. فلما ذكر طعامهم وشربهم ، ومجالسهم ، وعموم النعيم وتفاصيله ، داخلة في قوله : (جَنَّاتِ النَّعِيمِ).

[٤٨] لكن فصل هذه الأشياء ، لتعلم ، فتشتاق النفوس إليها ، ذكر أزواجهم فقال : (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ) أي : وعند أهل دار النعيم ، في محلاتهم القريبة ، حور حسان ، كاملات الأوصاف ، قاصرات الطرف. إما أنها قصرت طرفها على زوجها ، لعفتها ، وعدم مجاوزته لغيره ، ولجمال زوجها وكماله ، بحيث لا تطلب في الجنة سواه ، ولا ترغب إلا به. وإما لأنها قصرت طرف زوجها عليها ، وذلك يدل على كمالها ، وجمالها الفائق ، الذي أوجب لزوجها ، أن يقصر طرفه عليها. وقصر الطرف أيضا ، يدل على قصر النفس والمحبة عليها. وكلا المعنيين محتمل ، وكلاهما صحيح.

وكلّ هذا ، يدل على جمال الرجال والنساء في الجنة ، ومحبة بعضهم بعضا ، محبة لا يطمح معها أحد إلى غيره. ويدل على شدة عفتهم كلهم ، وأنه لا حسد فيها ولا تباغض ، ولا تشاحن وذلك لانتفاء أسبابه. (عِينٌ) أي : حسان الأعين جميلاتها ، ملاح الحدق

[٤٩] (كَأَنَّهُنَ) أي : الحور (بَيْضٌ مَكْنُونٌ) أي : مستور ، وذلك من حسنهن وصفائهن وكون ألوانهن أحسن الألوان وأبهاها ، ليس فيه كدر ولا شين.

[٥٠] لما ذكر تعالى نعيمهم ، وتمام سرورهم ، بالمآكل والمشارب ، والأزواج الحسان ، والمجالس الحسنة ، وصف تذاكرهم فيما بينهم ، ومطارحتهم للأحاديث ، عن الأمور الماضية ، وأنهم ما زالوا في المحادثة والتساؤل ، حتى أفضى ذلك بهم ، إلى أن قال قائل منهم :

[٥١ ـ ٥٣] (إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ) في الدنيا ، ينكر البعث ، ويلومني على تصديقي به و (يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) (٥٣) أي : مجازون بأعمالنا؟ أي : كيف تصدق بهذا الأمر البعيد ، الذي في غاية الاستغراب ، وهو أننا إذا تمزقنا ، فصرنا ترابا وعظاما ، أننا نبعث ونعاد ، ثمّ نحاسب ونجازى بأعمالنا؟ أي : يقول صاحب الجنة لإخوانه : هذه قصتي ، وهذا خبري ، أنا وقريني. ما زلت أنا مؤمنا صادقا ، وهو ما زال مكذبا منكرا للبعث ، حتى متنا ، ثمّ بعثنا. فوصلت أنا إلى ما ترون من النعيم ، الذي أخبرتنا به الرسل ، وهو لا شك ، أنه قد وصل إلى العذاب.

[٥٤] (قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) (٥٤) لننظر إليه ، فنزداد غبطة وسرورا بما نحن فيه ، ويكون ذلك رأي عين؟ والظاهر من حال أهل الجنة ، وسرور بعضهم ببعض ، وموافقة بعضهم بعضا ، أنهم أجابوه لما قال ، وذهبوا تبعا له ، للاطلاع على قرينه.

[٥٥] (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ) أي : رأى قرينه (فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) ، أي : في وسط العذاب وغمراته ، والعذاب قد أحاط به.

[٥٦] (قالَ) له ، لائما على حاله وشاكرا لله ، على أن نجاه من كيده. (تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) أي : تهلكني بسبب ما أدخلت عليّ من الشّبه بزعمك.

٨٤٥

[٥٧ ـ ٥٩] (وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي) على أن ثبتني على الإسلام (لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) في العذاب معك (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (٥٩) أي : يقوله المؤمن ، مبتهجا بنعمة الله ، على أهل الجنة بالخلود الدائم فيها ، والسلامة من العذاب ، استفهام بمعنى الإثبات والتقرير. وقوله : (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) (٥٠) وحذف المعمول ، والمقام مقام لذة وسرور ، يدلّ ذلك على أنهم يتساءلون بكل ما يلتذون بالتحدث به ، والمسائل التي وقع فيها النزاع والإشكال. ومن المعلوم أن لذة أهل العلم بالتساؤل عن العلم ، والبحث عنه ، فوق اللذات الجارية في أحاديث الدنيا ، فلهم من هذا النوع ، النصيب الوافر. ويحصل لهم من انكشاف الحقائق العلمية في الجنة ، ما لا يمكن التعبير عنه.

[٦٠] فلما ذكر تعالى نعيم الجنة ، ووصفه بهذه الأوصاف الجميلة ، مدحه ، وشوّق العاملين ، وحثّهم على العمل له فقال : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٦٠) الذي حصل لهم به كل خير ، وكل ما تهوى النفوس وتشتهي ، واندفع عنهم به كل محذور ومكروه. فهل فوز يطلب فوقه؟ أم هو غاية الغايات ، ونهاية النهايات ، حيث حل عليهم رضا رب الأرض والسموات ، وفرحوا بقربه ، وتنعموا بمعرفته وسروا برؤيته ، وطربوا لكلامه؟

[٦١] (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) (٦١) فهو أحق ما أنفقت فيه نفائس الأنفاس وأولى ما شمر إليه العارفون الأكياس. والحسرة كل الحسرة ، أن يمضي على الحازم ، وقت من أوقاته ، وهو غير مشتغل بالعمل ، الذي يقرب لهذه الدار ، فكيف إذا كان يسير بخطاياه إلى دار البوار؟

[٦٢ ـ ٦٣] (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً) أي : ذلك النعيم الذي وصفناه لأهل الجنة ، خير ، أم العذاب الذي يكون في الجحيم ، من جميع أصناف العذاب؟ فأي الطعامين أولى؟ الطعام الذي وصف في الجنة (أَمْ) طعام أهل النار؟ وهو (شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً) أي : عذابا ونكالا (لِلظَّالِمِينَ) أنفسهم بالكفر والمعاصي.

[٦٤] (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) (٦٤) أي : وسطه فهذا مخرجها ، ومعدنها شر المعادن وأسوؤها. وشر المغرس يدل على شر الغراس وخسته ، ولهذا نبهنا الله على شرها ، بما ذكر أين تنبت به ، وبما ذكر من صفة ثمرتها.

[٦٥] وأن (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) (٦٥) فلا تسأل بعد هذا ، عن طعمها ، وما تفعل في أجوافهم وبطونهم ، وليس لهم عنها مندوحة ولا معدل.

[٦٦] ولهذا قال : (فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) (٦٦) فهذا طعام أهل النار ، فبئس الطعام طعامهم.

[٦٧] ثم ذكر شرابهم فقال : (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها) أي : على أثر هذا الطعام (لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ) أي : ماء حارا ، قد تناهى حره ، كما قال تعالى : (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) وكما قال تعالى : (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ).

[٦٨] (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ) أي : مآلهم ومقرهم ومأواهم (لَإِلَى الْجَحِيمِ) ، ليذوقوا من عذابه الشديد ، وحره العظيم ، ما ليس عليه مزيد من الشقاء.

٨٤٦

[٦٩ ـ ٧٠] وكأنه قيل : ما الذي أوصلهم إلى هذه الدار؟ فقال : (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا) أي : وجدوا (آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ) أي : يسرعون في الضلال. فلم يلتفتوا إلى ما دعتهم إليه الرسل ، ولا إلى ما حذرتهم عنه الكتب ولا إلى أقوال الناصحين. بل عارضوهم بأن قالوا : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ).

[٧١] (وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ) أي : قبل هؤلاء المخاطبين (أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ) وقليل منهم من آمن واهتدى.

[٧٢ ـ ٧٣] (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ) (٧٢) ينذرونهم من غيهم وضلالهم (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) (٧٣) كانت عاقبتهم الهلاك ، والخزي ، والفضيحة. فليحذر هؤلاء أن يستمروا على ضلالهم ، فيصيبهم مثل ما أصابهم.

[٧٤] ولما كان المنذرون ليسوا كلهم ضالين ، بل منهم من آمن ، وأخلص الدين لله ، استثناهم الله من الهلاك فقال : (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (٤٠) أي : الذين أخلصهم الله ، وخصهم برحمته لإخلاصهم ، فإن عواقبهم صارت حميدة.

[٧٥ ـ ٨٠] ثم ذكر نموذجا من عواقب الأمم المكذبين فقال : (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ) إلى (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) (٨٢). يخبر تعالى عن عبده ورسوله ، نوح عليه‌السلام ، أول الرسل. أنه لما دعا قومه إلى الله تلك المدة الطويلة ، فلم يزدهم دعاؤه إلا فرارا ، أنه نادى ربه فقال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) الآية. وقال : (رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ). فاستجاب الله له ، ومدح تعالى نفسه فقال : (فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) لدعاء الداعين ، وسماع تبتلهم وتضرعهم. أجابه إجابة ، طابقت ما سأل ، فنجاه وأهله من الكرب العظيم ، وأغرق جميع الكافرين ، وأبقى نسله وذريته متسلسلين ، فجميع الناس من ذرية نوح عليه‌السلام. وجعل له ثناء حسنا مستمرا إلى وقت الآخرين ، وذلك لأنه محسن في عبادة الخالق ، محسن إلى الخلق. وهذه سنّته تعالى في المحسنين ، أن ينشر لهم من الثناء ، على حسب إحسانهم.

[٨١] ودلّ قوله : (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) (٨١) أن الإيمان أرفع منازل العباد وأنه مشتمل على جميع شرائع الدين ، وأصوله ، وفروعه ، لأن الله مدح به خواص خلقه.

[٨٣] أي : وإن من شيعة نوح عليه‌السلام ، ومن هو على طريقته في النبوة والرسالة ، ودعوة الخلق إلى الله ، وإجابة الدعاء ، إبراهيم الخليل عليه‌السلام.

[٨٤] (إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (٨٤) من الشرك والشبه ، والشهوات المانعة من تصور الحق ، والعمل به. وإذا كان قلب العبد سليما ، سلم من كل شر ، وحصل له كل خير.

[٨٥] ومن سلامته ، أنه سليم من غش الخلق وحسدهم ، وغير ذلك من مساوئ الأخلاق ، ولهذا نصح الخلق في الله ، وبدأ بأبيه وقومه فقال : (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ) (٨٥) هذا استفهام على وجه الإنكار ، وإلزام لهم بالحجة.

[٨٦] (أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ) (٨٦) أي : أتعبدون من دون الله آلهة كذبا ، ليست بآلهة ، ولا تصلح للعبادة ، فما ظنكم برب العالمين ، أن يفعل بكم وقد عبدتم معه غيره؟ وهذا ترهيب لهم بالجزاء بالعقاب ، على الإقامة على شركهم.

[٨٧] (فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٨٧) أي : وما الذي ظننتم برب العالمين ، من النقص حتى جعلتم له أندادا

٨٤٧

وشركاء.

[٨٨ ـ ٨٩] فأراد عليه‌السلام ، أن يكسر أصنامهم ، ويتمكن من ذلك ، فانتهز الفرصة في حين غفلة منهم ، لما ذهبوا إلى عيد من أعيادهم ، فخرج معهم (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) (٨٩). في الحديث الصحيح : «لم يكذب إبراهيم عليه‌السلام إلا ثلاث كذبات : قوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) وقوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) ، وقوله عن زوجته «إنها أختي».

[٩٠] والقصد أنه تخلف عنهم ، ليتم له الكيد بآلهتهم (ف) لهذا (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) (٩٠) فوجد الفرصة.

[٩١ ـ ٩٢] (فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ) أي : أسرع إليها على وجه الخفية والمراوغة. (فَقالَ) متهكما بها (أَلا تَأْكُلُونَ ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ) (٩٢) أي : فكيف يليق أن تعبد ، وهي أنقص من الحيوانات ، التي تأكل وتكلّم؟ وهذه جمادات لا تأكل ولا تكلّم.

[٩٣] (فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ) (٩٣) أي : جعل يضربها بقوته ونشاطه ، حتى جعلها جذاذا ، إلا كبيرا لهم ، لعلهم إليه يرجعون.

[٩٤] (فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ) (٩٤) أي : يسرعون ويهرعون ، ويريدون أن يوقعوا به ، بعد ما بحثوا وقالوا : (مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (٥٩). وقيل لهم : (سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) يقول : (تَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) (٥٧) فوبخوه ولاموه ، فقال : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ) الآية.

[٩٥] و (قالَ) هنا : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) أي : تنحتونه بأيديكم وتصنعونه؟ فيكف تعبدونهم ، وأنتم الذين صنعتموهم ، وتتركون الإخلاص لله؟

[٩٦ ـ ٩٧] (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً) أي : عاليا مرتفا ، وأوقدوا فيه النار (فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) جزاء على ما فعل من تكسير آلهتهم.

[٩٨] (فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً) ليقتلوه ، أشنع قتلة (فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) رد الله كيدهم في نحورهم ، وجعل النار على إبراهيم بردا وسلاما.

[٩٩] (وَ) لما فعلوا فيه هذا الفعل ، وأقام عليهم الحجة ، وأعذر منهم (قالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) أي : مهاجر إليه ، قاصد إلى الأرض المباركة ، أرض الشام. (سَيَهْدِينِ) يدلني على ما فيه الخير لي ، من أمر ديني ودنياي. وقال في الآية الأخرى : (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) (٤٨).

[١٠٠] (رَبِّ هَبْ لِي) ولدا يكون (مِنَ الصَّالِحِينَ) وذلك ، عند ما أيس من قومه ، ولم ير فيهم خيرا ، دعا الله أن يهب له غلاما صالحا ، ينفع الله به في حياته ، وبعد مماته.

[١٠١] فاستجاب الله له وقال : (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) (١٠١) وهذا إسماعيل عليه‌السلام بلا شك ، فإنه ذكر بعده البشارة ، وبإسحاق ، لأن الله تعالى قال في بشراه بإسحاق : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) فدلّ على أن إسحاق غير الذبيح. ووصف الله إسماعيل عليه‌السلام بالحلم ، وهو يتضمن الصبر ، وحسن الخلق ، وسعة الصدر ، والعفو عمن جنى.

[١٠٢] (فَلَمَّا بَلَغا) الغلام (مَعَهُ السَّعْيَ) أي : أدرك أن يسعى معه ، وبلغ سنا يكون في الغالب ، أحب ما يكون لوالديه ، قد ذهبت مشقته ، وأقبلت منفعته. فقال له إبراهيم عليه‌السلام : (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) أي : قد رأيت في النوم.

٨٤٨

والرؤيا ، أن الله يأمرني بذبحك ، ورؤيا الأنبياء وحي (فَانْظُرْ ما ذا تَرى) فإن أمر الله تعالى ، لا بد من تنفيذه. (قالَ) إسماعيل صابرا محتسبا ، مرضيا لربه ، وبارا بوالده : (يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) أي : امض لما أمرك الله (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ). أخبر أباه أنه موطن نفسه على الصبر ، وقرن ذلك بمشيئة الله تعالى ، لأنه لا يكون شيء بدون مشيئة الله.

[١٠٣] (فَلَمَّا أَسْلَما) أي : إبراهيم وابنه إسماعيل : إبراهيم جازما بقتل ابنه وثمرة فؤاده ، امتثالا لأمر ربه ، وخوفا من عقابه. والابن قد وطّن نفسه على الصبر ، وهانت عليه في طاعة ربه ، ورضا والده. (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) أي : تلّ إبراهيم إسماعيل على جبينه ، ليضجعه فيذبحه ، وقد انكب لوجهه ، لئلا ينظر وقت الذبح إلى وجهه. (وَنادَيْناهُ) في تلك الحال المزعجة ، والأمر المدهش (أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) أي : قد فعلت ما أمرت به ، فإنك وطّنت نفسك على ذلك ، وفعلت كل سبب ولم يبق إلا إمرار السكين على حلقه (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٨٠) في عبادتنا ، المقدمين رضانا على شهوات أنفسهم. (إِنَّ هذا) الذي امتحنا به إبراهيم عليه‌السلام (لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) أي : الواضح ، الذي تبين به صفاء إبراهيم ، وكمال محبته لربه ، وخلته. فإن إسماعيل عليه‌السلام لما وهبه الله لإبراهيم ، أحبه حبا شديدا ، وهو خليل الرحمن ، والخلة أعلى أنواع المحبة ، وهو منصب لا يقبل المشاركة ويقتضي أن تكون جميع أجزاء القلب متعلقة بالمحبوب. فلما تعلقت شعبة من شعب قلبه ، بابنه إسماعيل ، أراد تعالى أن يصفي ودّه ويختبر خلته. فأمره أن يذبح من زاحم حبّه حبّ ربه.

[١٠٧] فلما قدّم حب الله ، وآثره على هواه ، وعزم على ذبحه ، وزال ما في القلب من المزاحمة ، بقي الذبح لا فائدة فيه ، فلهذا قال : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) (١٠٧) أي : صار بدله ذبح من الغنم عظيم ، ذبحه إبراهيم. فكان عظيما من جهة أنه كان فداء لإسماعيل. ومن جهة أنه كان قربانا وسنّة إلى يوم القيامة.

[١٠٨] (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ) أي : وأبقينا عليه ثناء صادقا في الآخرين ، كما كان في الأولين. فكل وقت بعد إبراهيم عليه‌السلام ، فإنه فيه محبوب معظم مثنيّ عليه.

[١٠٩] (سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ) (١٠٩) أي : تحية عليه كقوله : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى).

[١١٠] إنا (كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) في عبادة الله ، ومعاملة خلقه ، أن نفرج عنهم الشدائد ، ونجعل لهم العاقبة ، والثناء الحسن.

[١١١] (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) بما أمر الله بالإيمان به ، الذي بلغ بهم الإيمان إلى درجة اليقين ، كما قال تعالى : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (٧٥).

[١١٢] (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) (١١٢) هذه البشارة الثانية بإسحاق ، الذي من ورائه يعقوب. فبشّر بوجوده وبقائه ، ووجود ذريته ، وكونه نبيا من الصالحين. فهي بشارات متعددة.

[١١٣] (وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ) أي : أنزلنا عليهما البركة ، التي هي النمو والزيادة في علمهما وعملهما وذريتهما فنشر الله من ذريتهما ثلاث أمم عظيمة. أمة العرب من ذرية إسماعيل ، وأمة بني إسرائيل ، وأمة الروم من ذرية إسحق. (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) أي : منهم الصالح والطالح ، والعادل والظالم الذي تبين

٨٤٩

ظلمه ، بكفره وشركه. قال : (وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ) اقتضى ذلك البركة في ذريتهما ، وأن من تمام البركة ، أن تكون الذرية كلهم محسنين. فأخبر الله تعالى أن منهم محسنا ، وظالما. والله أعلم.

[١١٤ ـ ١١٨] يذكر تعالى منّته على عبديه ، ورسوليه ، موسى ، وهارون ابني عمران ، بالنبوة والرسالة ، والدعوة إلى الله تعالى ، ونجاتهما وقومهما من عدوهما فرعون ، ونصرهما عليه ، حتى أغرقه الله وهم ينظرون ، وإنزال الله عليهما الكتاب المستبين ، وهو التوراة التي فيها الأحكام ، والمواعظ ، وتفصيل كل شيء ، وأن الله هداهما الصراط المستقيم ، بأن شرع لهما دينا ، ذا أحكام وشرائع مستقيمة ، موصلة إلى الله. ومنّ عليهما بسلوكه.

[١١٩ ـ ١٢٢] (وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ) (١٢٠) أي : أبقى عليهما ، ثناء حسنا ، وتحية في الآخرين ، ومن باب أولى وأحرى في الأولين (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) (١٢٢).

[١٢٣ ـ ١٢٦] يمدح تعالى ، عبده ورسوله ، إلياس عليه الصلاة والسلام ، بالنبوة والرسالة ، والدعوة إلى الله. وأنه أمر قومه بالتقوى ، وعبادة الله وحده ، ونهاهم عن عبادتهم صنما لهم يقال له «بعل» وتركهم عبادة الله ، الذي خلق الخلق ، وأحسن خلقهم ، ورباهم فأحسن تربيتهم ، وأدرّ عليهم النّعم الظاهرة والباطنة. وأنكم كيف تركتم عبادة من هذا شأنه ، إلى عبادة صنم ، لا يضر ، ولا ينفع ، ولا يخلق ، ولا يرزق ، بل لا يأكل ولا يتكلم؟ وهل هذا إلا من أعظم الضلال ، والسفه ، والغي؟

[١٢٧] (فَكَذَّبُوهُ) فيما دعاهم إليه فلم ينقادوا له ، قال الله متوعدا له (فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) أي : يوم القيامة في العذاب ولم يذكر لهم عقوبة دنيوية.

[١٢٨] (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) أي : الذين أخلصهم الله ، ومنّ عليهم باتباع نبيهم ، فإنهم غير محضرين في العذاب ، وإنما لهم من الله جزيل الثواب.

[١٢٩] (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ) أي : على إلياس (فِي الْآخِرِينَ) ثناء حسنا.

[١٣٠] (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) (١٣٠) أي : تحية من الله ، ومن عباده عليه.

[١٣١ ـ ١٣٢] (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) (١٣٢) فأثنى الله عليه كما أثنى على إخوانه صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

[١٣٣ ـ ١٣٤] وهذا ثناء منه تعالى على عبده ورسوله لوط ، بالنبوة والرسالة ، ودعوته إلى الله قومه ، ونهيهم عن الشرك ، وفعل الفاحشة. فلما لم ينتهوا ، نجاه الله وأهله أجمعين ، فسروا ليلا فنجوا.

[١٣٥] (إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) (١٣٥) أي : الباقين المعذبين ، وهي زوجة لوط لم تكن على دينه.

[١٣٦] (ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ) (١٣٦) بأن قلبنا عليهم ديارهم ف (جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ) (٨٢) حتى همدوا وخمدوا.

[١٣٧ ـ ١٣٨] (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ) أي : على ديار قوم لوط (مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ) أي : في هذه الأوقات ، يكثر ترددكم إليها ومروركم بها ، فلم تقبل الشك والمرية (أَفَلا تَعْقِلُونَ) الآيات والعبر ، وتنزجرون عمّا يوجب الهلاك؟

[١٣٩] وهذا ثناء منه تعالى ، على عبده ورسوله ، يونس بن متى ، كما أثنى على إخوانه المرسلين ، بالنبوة والرسالة ، والدعوة إلى الله.

[١٤٠] وذكر تعالى عنه ، أنه عاقبه عقوبة دنيوية ، أنجاه منها ، بسبب إيمانه وأعماله

٨٥٠

الصالحة ، فقال : (إِذْ أَبَقَ) أي : من ربه مغاضبا له ظانا أنه لا يقدر عليه ، ويحبسه في بطن الحوت. ولم يذكر الله ما غاضب عليه ، ولا ذنبه الذي ارتكبه ، لعدم فائدتنا بذكره. وإنما فائدتنا بما ذكر لنا عنه ، أنه أذنب ، وعاقبه الله مع كونه من الرسل الكرام ، وأنه نجاه بعد ذلك ، وأزال عنه الملام ، وقيّض له ما هو سبب صلاحه. فلما أبق لجأ (إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) بالركاب والأمتعة ، فلما ركب مع غيره ، والفلك شاحن ، ثقلت السفينة فاحتاجوا إلى إلقاء بعض الركاب ، وأنهم لم يجدوا لأحد مزية في ذلك ، فاقترعوا على أن من قرع وغلب ، ألقي في البحر عدلا من أهل السفينة ، وإذا أراد الله أمرا هيأ أسبابه.

[١٤١ ـ ١٤٢] فلما اقترعوا أصابت القرعة يونس (فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) أي : المغلوبين ، فألقي في البحر (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ) وقت التقامه (مُلِيمٌ) أي : فاعل ما يلام عليه ، وهو مغاضبته لربه.

[١٤٣] (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) (١٤٣) أي : في وقته السابق بكثرة عبادته لربه ، وتسبيحه ، وتحميده ، وفي بطن الحوت حيث قال : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ).

[١٤٤] (لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (١٤٤) أي : لكانت مقبرته ، ولكن بسبب تسبيحه وعبادته لله ، نجّاه الله تعالى. وكذلك ينجي الله المؤمنين ، عند وقوعهم في الشدائد.

[١٤٥] (فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ) بأن : قذفه الحوت من بطنه بالعراء ، وهي الأرض الخالية العارية من كل أحد ، بل ربما كانت عارية من الأشجار والظلال (وَهُوَ سَقِيمٌ) أي : قد سقم ومرض ، بسبب حبسه في بطن الحوت ، حتى صار مثل الفرخ الممعوط من البيضة.

[١٤٦] (وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) (١٤٦) تظله بظلها الظليل ، لأنها باردة الظلال ، ولا يسقط عليها ذباب ، وهذا من لطفه به وبره.

[١٤٧] ثم لطف به لطفا آخر ، وامتنّ عليه منّة عظمى ، وهو أنه أرسله (إِلى مِائَةِ أَلْفٍ) من الناس (أَوْ يَزِيدُونَ) عنها. والمعنى أنهم إن لم يزيدوا عنها ، لم ينقصوا ، فدعاهم إلى الله تعالى :

[١٤٨] (فَآمَنُوا) فصاروا في موازينه ، لأنه الداعي لهم. (فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) بأن صرف الله عنهم العذاب ، بعد ما انعقدت أسبابه. قال تعالى : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (٩٨).

[١٤٩] يقول تعالى لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَاسْتَفْتِهِمْ) أي : اسأل المشركين بالله غيره ، الذين عبدوا الملائكة ، وزعموا أنها بنات الله ، فجمعوا بين الشرك بالله ، ووصفه بما لا يليق بجلاله. (أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ) أي : هذه قسمة ضيزى ، وقول جائر ، من جهة جعلهم الولد لله تعالى ، ومن جهة جعلهم أردأ القسمين وأخسهما له وهو البنات اللاتي لا يرضونهن لأنفسهم ، كما قال في الآية الأخرى (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) (٥٧) ومن جهة جعلهم الملائكة بنات الله ، وحكمهم بذلك. قال تعالى في بيان كذبهم : (أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ) (١٥٠) خلقهم؟ أي : ليس الأمر كذلك ، فإنهم ما شهدوا خلقهم. فدلّ على أنهم قالوا هذا القول ، بلا علم ، بل افتراء على الله ، ولهذا قال تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ) أي : كذبهم الواضح (لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (١٥٢) «في قولهم ذلك كذبا بينا لا ريب فيه». (أَصْطَفَى) أي : اختار (الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ

٨٥١

تَحْكُمُونَ) (١٥٤) هذا الحكم الجائر (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (١٥٥) وتميزون هذا القول الباطل الجائر. فإنكم لو تذكرتم ، لم تقولوا هذا القول. (أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ) (١٥٦) أي : حجة ظاهرة على قولكم ، من كتاب ، أو رسول. وكل هذا غير واقع ولهذا قال : (فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٥٧). فإن من يقول قولا ، لا يقيم عليه حجة شرعية ، فإنه كاذب متعمد ، أو قائل على الله ، بلا علم.

[١٥٨ ـ ١٦٠] أي : جعل هؤلاء المشركون بالله ، بين الله وبين الجنة نسبا ، حيث زعموا أن الملائكة بنات الله ، وأن أمهاتهم سروات الجن. والحال أن الجنة ، قد علمت أنهم محضرون بين يدي الله ، ليجازيهم ، فهم عباد أذلاء فلو كان بينهم وبينه نسب لم يكونوا كذلك.

[١٥٩] (سُبْحانَ اللهِ) الملك العظيم ، والكامل الحليم (عَمَّا يَصِفُونَ) به ربهم من كل وصف أوجبه كفرهم وشركهم.

[١٦٠] (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) فإنه لم ينزه نفسه عمّا وصفوه به ، لأنهم لم يصفوه إلا بما يليق بجلاله ، وبذلك كانوا مخلصين.

[١٦١ ـ ١٦٣] أي : إنكم أيها المشركون ، ومن عبدتموه مع الله ، لا تقدرون أن تفتنوا وتضلوا أحدا إلا من قضى الله أنه من أهل الجحيم ، فنفذ فيه القضاء الإلهي. المقصود من هذا ، بيان عجزهم وعجز آلهتهم ، عن إضلال أحد ، وبيان كمال قدرة الله تعالى. أي : فلا تطمعوا بإضلال عباد الله المخلصين وحزبه المفلحين.

[١٦٤] هذا فيه بيان براءة الملائكة عليهم‌السلام ؛ عمّا قاله فيهم المشركون. وأنهم عباد الله ، لا يعصونه طرفة عين. فما منهم من أحد إلا وله مقام وتدبير ، قد أمر الله به لا يتعداه ولا يتجاوزه ، وليس لهم من الأمر شيء.

[١٦٥ ـ ١٦٦] (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) (١٦٥) في طاعة الله وخدمته (وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) (١٦٦) «أي : والمقدسون لله سبحانه عن كل ما لا يليق بجناب كبريائه». فكيف ـ مع هذا ـ يصلحون أن يكونوا شركاء؟ «تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا».

[١٦٧ ـ ١٧٤] يخبر تعالى أن هؤلاء المشركين ، يظهرون التمني ، ويقولون : لو جاءنا من الذكر والكتب ما جاء الأولين ، لأخلصنا لله العبادة ، بل لكنا المخلصين على الحقيقة. وهم كذبة في ذلك ، فقد جاءهم أفضل الكتب ، فكفروا به ، فعلم أنهم متمردون على الحق (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) العذاب ، حين يقع بهم. ولا يحسبوا أيضا أنهم في الدنيا غالبون ، بل قد سبقت كلمة الله ، التي لا مرد لها ولا مخالف لها ، لعباده المرسلين ، وجنده المفلحين ، أنهم الغالبون لغيرهم ، المنصورون من ربهم ، نصرا عزيزا ، يتمكنون فيه من إقامة دينهم. وهذه بشارة عظيمة لمن اتصف بأنه من جند الله ، بأن كانت أحواله مستقيمة ، وقاتل من أمر بقتالهم ، أنه غالب منصور.

[١٧٥ ـ ١٧٩] ثم أمر رسوله بالإعراض عمن عاندوا ، ولم يقبلوا الحق ، وأنه ما بقي إلا انتظار ما يحل بهم من العذاب ، ولهذا قال : (وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) (١٧٥) من يحل به النكال ، فإنه سيحل بهم. (فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ) أي : نزل عليهم ، وقريبا منهم (فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ). لأنه صباح الشر ، والعقوبة ، والاستئصال. ثم كرّر الأمر بالتّوليّ عنهم ، وتهديدهم بوقوع العذاب.

[١٨٠] ولما ذكر في هذه السورة ، كثيرا من أقوالهم الشنيعة ، التي وصفوه بها ، نزه نفسه عنها فقال : (سُبْحانَ

٨٥٢

رَبِّكَ) أي : تنزه وتعالى (رَبِّ الْعِزَّةِ) أي : الذي عز ، فقهر كل شيء ، واعتز عن كل سوء يصفونه به.

[١٨١] (وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) (١٨١) لسلامتهم من الذنوب والآفات ، وسلامة ما وصفوا به فاطر الأرض والسموات.

[١٨٢] (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٨٢) الألف واللام للاستغراق ، فجميع أنواع الحمد ، من الصفات الكاملة العظيمة ، والأفعال التي ربى بها العالمين ، وأدرّ عليهم فيها النّعم ، وصرف عنهم بها النقم ، ودبرهم تعالى في حركاتهم وسكونهم ، وفي جميع أحوالهم ، كلها لله تعالى. فهو المقدس عن النقص ، المحمود بكل كمال ، المحبوب المعظم. ورسله سالمون مسلم عليهم ، ومن اتبعهم في ذلك ، له السلامة في الدنيا والآخرة. وأعداؤه لهم الهلاك والعطب ، في الدنيا والآخرة. تم تفسير سورة الصافات.

تفسير سورة ص

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] هذا بيان من الله تعالى لحال القرآن ، وحال المكذبين به معه ، ومع من جاء به فقال : (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) (١) أي : ذي القدر العظيم ، والشرف ، المذكّر للعباد ، كل ما يحتاجون إليه من العلم ، بأسماء الله وأفعاله ، ومن العلم ، بأحكام الله الشرعية ، ومن العلم بأحكام المعاد والجزاء. فهو مذكّر لهم ، في أصول دينهم وفروعه. وهنا لا يحتاج إلى ذكر المقسم عليه ، فإن حقيقة الأمر ، أن المقسم به وعليه شيء واحد ، وهو : هذا القرآن ، الموصوف بهذا الوصف الجليل. فإذا كان القرآن بهذا الوصف ، علم أن ضرورة العباد إليه ، فوق كل ضرورة. وكان الواجب عليهم ، تلقّيه بالإيمان ، والتصديق ، والإقبال على استخراج ما يتذكر به منه.

[٢] فهدى الله من هدى لهذا ، وأبى الكافرون التصديق به ، وبمن أنزله ، وصار معهم (فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) عزة وامتناع عن الإيمان به ، واستكبار وشقاق له ، أي : مشاقة ومخاصمة في رده وإبطاله ، وفي القدح بمن جاء به.

[٣] فتوعدهم بإهلاك القرون الماضية ، المكذبة بالرسل ، وأنهم حين جاءهم الهلاك ، نادوا ، واستغاثوا في صرف العذاب عنهم. ولكن (لاتَ حِينَ مَناصٍ) أي : وليس الوقت ، وقت خلاص ، مما وقعوا فيه ، ولا فرج لما أصابهم. فليحذر هؤلاء أن يدوموا على عزتهم وشقاقهم ، فيصيبهم ما أصابهم.

[٤] (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) أي : عجب هؤلاء المكذبون في أمر ليس محل عجب ، أن جاءهم منذر منهم ، ليتمكنوا من التلقي عنه ، وليعرفوه حق المعرفة. ولأنه من قومهم ، فلا تأخذهم النخوة القومية عن اتباعه. فهذا ، مما يوجب الشكر عليهم ، وتمام الانقياد له. ولكنهم عكسوا القضية ، فتعجبوا تعجب إنكار (وَقالَ الْكافِرُونَ) من كفرهم وظلمهم : (هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ). وذنبه ـ عندهم ـ أنه :

[٥] (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) أي : كيف ينهى عن اتخاذ الشركاء والأنداد ، ويأمر بإخلاص العبادة لله وحده. (إِنَّ هذا) الذي جاء به (لَشَيْءٌ عُجابٌ) أي : يقضي منه العجب ، لبطلانه وفساده عندهم.

[٦] (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ) المقبول قولهم ، محرضين قومهم على التمسك ، بما هم عليه من الشرك. (أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) أي : استمروا عليها ، وجاهدوا نفوسكم في الصبر عليها ، وعلى عبادتها ، ولا يردكم عنها راد ، ولا يصدنكم عن عبادتها صاد. (إِنَّ هذا) الذي جاء به محمد ، من النهي عن عبادتها (لَشَيْءٌ يُرادُ) أي : يقصد ، له قصد ، ونية غير صالحة في ذلك ، وهذه شبهة لا تروج إلا على السفهاء. فإن من دعا إلى قول حق أو غير حق ، لا

٨٥٣

يرد قوله بالقدح في نيته ، فنيته وعمله له ؛ وإنّما يرد بمقابلته بما يبطله ويفسده ، من الحجج والبراهين. وهم قصدهم ، أن محمدا ، ما دعاكم إلى ما دعاكم ، إلا ليرأس فيكم ، ويكون معظّما عندكم ، ومتبوعا.

[٧] (ما سَمِعْنا بِهذا) القول الذي قاله ، والدين الذي دعا إليه (فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) أي : في الوقت الأخير ، فلا أدركنا عليه آباءنا ، ولا آباؤنا أدركوا آباءهم عليه. فامضوا على الذي مضى عليه آباؤكم ، فإنه الحقّ. وما هذا الذي دعا إليه محمد ، إلا اختلاق اختلقه ، وكذب افتراه. وهذه أيضا شبهة ، من جنس شبهتهم الأولى ، حيث ردوا الحقّ بما ليس بحجة لرد أدنى قول ، وهو أنه قول مخالف لما عليه آباؤهم الضالون. فأين في هذا ، ما يدل على بطلانه؟

[٨] (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) أي : ما الذي فضّله علينا ، حتى ينزّل الذّكر عليه من دوننا ، ويخصه الله به؟ وهذه أيضا شبهة ، أين البرهان فيها على رد ما قاله؟ وهل جميع الرسل إلا بهذا الوصف يمنّ الله عليهم برسالته ، ويأمرهم بدعوة الخلق إلى الله. ولهذا ، لما كانت هذه الأقوال الصادرة منهم ، لا يصلح شيء منها لرد ما جاء به الرسول ، أخبر تعالى من أين صدرت ، وأنهم (فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي) ليس عندهم ، علم ولا بينة. فلما وقعوا في الشك ، وارتضوا به ، وجاءهم الحقّ الواضح ، وكانوا جازمين بإقامتهم على شكهم ، قالوا ما قالوا ، من تلك الأقوال ، لدفع الحقّ لا عن بينة من أمرهم ، وإنّما ذلك ، من باب الائتفاك منهم. ومن المعلوم ، أن من هو بهذه الصفة ، يتكلم عن شك وعناد ؛ فإن قوله ، غير مقبول ، ولا قادح أدنى قدح في الحقّ ، وأنه يتوجه عليه الذم واللوم ، بمجرد كلامه ، ولهذا توعدهم بالعذاب فقال : (بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) أي : قالوا هذه الأقوال ، وتجرؤوا عليها ، حيث كانوا ممتعين في الدنيا ، لم يصبهم من عذاب الله شيء ، فلو ذاقوا عذابه لم يتجرؤوا.

[٩] (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ) (٩) فيعطون منها من شاؤوا ، ويمنعون منها من شاؤوا حيث قالوا : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) أي : هذا فضله تعالى ورحمته ، وليس ذلك بأيديهم ، حتى يتجرؤوا على الله.

[١٠] (أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) بحيث يكونون قادرين على ما يريدون. (فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ) الموصلة لهم إلى السماء ، فيقطعوا الرحمة عن رسول الله. فكيف يتكلمون ، وهم أعجز خلق الله وأضعفهم ، بما تكلموا به؟ أم قصدهم التحزب ، والتجند ، والتعاون على نصر الباطل ، وخذلان الحقّ؟ وهو الواقع.

[١١] فإن هذا المقصود ، لا يتم لهم ، بل سعيهم خائب ، وجندهم مهزوم ولهذا قال : (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) (١١) أي : كالأجناد من جنس الأحزاب المتحزبين على الأنبياء قبلك ، وأولئك قد قهروا ، وأهلكوا ، فكذلك نهلك هؤلاء.

[١٢] يحذرهم تعالى أن يفعل بهم ، ما فعل بالأمم من قبلهم ، الّذين كانوا أعظم قوة منهم ، وتحزبا على الباطل (قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ) قوم هود (وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ) أي : الجنود العظيمة ، والقوة الهائلة.

[١٣] (وَثَمُودُ) قوم صالح. (وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) أي الأشجار والبساتين الملتفة ، وهم قوم شعيب (أُولئِكَ الْأَحْزابُ) الّذين اجتمعوا بقوتهم ، وعددهم وعددهم على رد الحقّ ، فلم تغن عهم شيئا.

[١٤] (إِنْ كُلٌ) من هؤلاء (إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَ

٨٥٤

عِقابِ) الله. وهؤلاء ما الذي يطهرهم ويزكيهم ، أن لا يصيبهم ما أصاب أولئك.

[١٥] فلينتظروا (وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ) (١٥) أي : من رجوع ورد ، تهلكهم وتستأصلهم ، إن أقاموا على ما هم عليه.

[١٦] أي : قال هؤلاء المكذبون ، من جهلهم ، ومعاندتهم الحقّ ، مستعجلين للعذاب. (رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) أي : قسطنا ، وما قسم لنا من العذاب عاجلا (قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) ولّجوا في هذا القول ، وزعموا أنك يا محمد ، إن كنت صادقا فعلامة صدقك ، أن تأتيهم بالعذاب. فقال الله لرسوله :

[١٧] (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) كما صبر من قبلك من الرسل ، فإن قولهم لا يضر الحقّ شيئا ، ولا يضرونك في شيء ، وإنّما يضرون أنفسهم. لما أمر الله رسوله بالصبر على قومه ، أمره أن يستعين على الصبر بالعبادة لله وحده ، ويتذكر حال العابدين ، كما قال في الآية الأخرى : (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها). ومن أعظم العابدين ، نبي الله داود عليه الصلاة والسّلام (ذَا الْأَيْدِ) أي : القوة العظيمة على عبادة الله تعالى ، في بدنه وقلبه. (إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي : رجّاع إلى الله في جميع الأمور بالإنابة إليه ، بالحب والتأله ، والخوف ، والرجاء ، وكثرة التضرع ، والدعاء. رجّاع إليه ، عند ما يقع منه بعض الخلل ، بالإقلاع والتوبة النصوح.

[١٨] ومن شدة إنابته لربه وعبادته ، أن سخّر الله الجبال معه ، تسبّح معه بحمد ربها (بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) أول النهار وآخره.

[١٩] (وَ) سخر (الطَّيْرَ مَحْشُورَةً) معه مجموعة (كُلٌ) من الجبال والطير (لَهُ) تعالى (أَوَّابٌ) امتثالا لقوله تعالى : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) فهذه منّة الله عليه بالعبادة.

[٢٠] ثمّ ذكر منته عليه بالملك العظيم فقال : (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ) أي : قويناه بما أعطيناه من الأسباب ، وكثرة العدد والعدد الّتي بها قوّى الله ملكه. ثمّ ذكر منته عليه بالعلم فقال : (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ) أي : النبوة والعلم العظيم (وَفَصْلَ الْخِطابِ) أي : الخصومات بين الناس.

[٢١] لما ذكر تعالى أنه آتى نبيه داود الفصل في الخطاب بين الناس ، وكان معروفا بذلك ، ومقصودا ، ذكر تعالى نبأ خصمين اختصما عنده ، في قضية جعلها الله فتنة لداود ، وموعظة لخلل ارتكبه ، فتاب الله عليه ، وغفر له ، وقيّض له هذه القضية ، فقال لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ) فإنه نبأ عجيب (إِذْ تَسَوَّرُوا) على داود (الْمِحْرابَ) أي : محل عبادته من غير إذن ولا استئذان ، ولم يدخلوا عليه من باب. فلما دخلوا عليه بهذه الصورة ، فزع منهم وخاف فقالوا له :

[٢٢] نحن (خَصْمانِ) فلا تخف (بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) بالظلم (فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِ) أي : بالعدل ، ولا تمل مع أحدنا (وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ). والمقصود من هذا ، أن الخصمين قد عرف أن قصدهما الحقّ الواضح الصرف وإذا كان ذلك كذلك ، فسيقصان عليه نبأهما بالحق ، فلم يشمئز نبي الله داود من وعظهما له ، ولم يؤنبهما.

[٢٣] فقال أحدهما : (إِنَّ هذا أَخِي) نص على الأخوة في الدين أو النسب ، أو الصداقة ، لاقتضائها عدم البغي ، وأن بغيه الصادر منه ، أعظم من غيره. (لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً) أي : زوجة ، وذلك خير كثير ، يوجب عليه القناعة بما آتاه الله. (وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ) فطمع فيها (فَقالَ أَكْفِلْنِيها) أي : دعها لي ، وخلها في كفالتي.

٨٥٥

(وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) أي : غلبني في القول ، فلم يزل بي ، حتى أدركها أو كاد.

[٢٤] فقال داود ـ لما سمع كلامه ـ ومن المعلوم من السياق السابق من كلامهما أن هذا هو الواقع ، فلهذا لم يحتج أن يتكلم الآخر ، فلا وجه للاعتراض بقوله القائل : «لم حكم داود ، قبل أن يسمع كلام الخصم الآخر»؟ (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) وهذه عادة الخلطاء والقرناء الكثير منهم. فقال : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) لأن الظلم من صفة النفوس. (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فإن ما معهم من الإيمان والعلم الصالح ، يمنعهم من الظلم. (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) كما قال تعالى : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ). (وَظَنَّ داوُدُ) حين حكم بينهما (أَنَّما فَتَنَّاهُ) أي : اختبرناه ودبرنا عليه هذه القضية ليتنبه. (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ) لما صدر منه (وَخَرَّ راكِعاً) أي : ساجدا (وَأَنابَ) لله تعالى بالتوبة النصوح والعبادة.

[٢٥] (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) الذي صدر منه ، وأكرمه الله بأنواع الكرامات فقال : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى) أي : منزلة عالية ، وقربة منا (وَحُسْنَ مَآبٍ) أي : مرجع. وهذا الذنب الذي صدر من داود عليه‌السلام ، لم يذكره الله لعدم الحاجة إلى ذكره ، فالتعرض له من باب التكلف. وإنّما الفائدة ، ما قصه الله علينا ، من لطفه به ، وتوبته ، وإنابته ، وأنه ارتفع محله ، فكان بعد التوبة أحسن منه قبلها.

[٢٦] (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) تنفذ فيها القضايا الدينية والدنيوية. (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ) أي : العدل. وهذا لا يتمكن منه ، إلا بعلم بالواجب ، وعلم بالواقع ، وقدرة على تنفيذ الحقّ. (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) فتميل مع أحد ، لقرابة ، أو صداقة ، أو محبة ، أو بغض للآخر (فَيُضِلَّكَ) الهوى (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ويخرجك عن الصراط المستقيم. (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) خصوصا المتعمدين منهم. (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) «أي : بغفلتهم عن يوم الجزاء». فلو ذكروه ، ووقع خوفه في قلوبهم ، لم يميلوا مع الهوى الفاتن.

[٢٧] يخبر تعالى عن تمام حكمته ، في خلقه السموات والأرض ، وأنه لم يخلقهما باطلا ، أي : عبثا ولعبا ، من غير فائدة ولا مصلحة. (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بربهم ، حيث ظنوا ما لا يليق بجلاله. (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) فإنها الّتي تأخذ الحقّ منهم ، وتبلغ منهم كلّ مبلغ. وإنّما خلق الله السموات والأرض بالحق وللحق ، فخلقهما ليعلم العباد كمال علمه وقدرته ، وسعة سلطانه ، وأنه تعالى وحده المعبود ، دون من لم يخلق مثقال ذرة من السموات والأرض ، وأن البعث حق ، وسيفصل الله بين أهل الخير والشر.

[٢٨] ولا يظن الجاهل بحكمة الله ، أن يسوي الله بينهما في حكمه ، ولهذا قال : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (٢٨) هذا غير لائق بحكمتنا وحكمنا.

[٢٩] (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ) فيه خير كثير ، وعلم غزير. فيه كلّ هدى من ضلالة وشفاء من داء ، ونور يستضاء به في الظلمات. وفيه كلّ حكم يحتاج إليه المكلفون ، وفيه من الأدلة القطعية على كلّ مطلوب ، ما كان به أجل كتاب طرق العالم ، منذ أنشأه الله. (لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ) أي : هذه الحكمة من إنزاله ، ليتدبر الناس آياته ، فيستخرجوا علمها ويتأملوا أسرارها وحكمها. فإنه بالتدبر فيه والتأمل لمعانيه ، وإعادة الفكر فيها

٨٥٦

مرة بعد مرة ، تدرك بركته وخيره. وهذا يدل على الحث على تدبر القرآن ، وأنه من أفضل الأعمال ، وأن القراءة المشتملة على التدبر ، أفضل من سرعة التلاوة ، الّتي لا يحصل بها هذا المقصود. (وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي : أولو العقول الصحيحة ، يتذكرون بتدبرهم لها كلّ علم ومطلوب. فدلّ هذا على أنه بحسب لب الإنسان وعقله ، يحصل له التذكر والانتفاع ، بهذا الكتاب.

[٣٠] لما أثنى الله تعالى على داود ، وذكر ما جرى له ومنه ، أثنى على ابنه سليمان عليهما‌السلام فقال : (وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ) أي : أنعمنا به عليه ، وأقررنا به عينه. (نِعْمَ الْعَبْدُ) سليمان عليه‌السلام ، فإنه اتصف بما يوجب المدح ، وهو (إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي : رجّاع إلى الله في جميع أحواله ، بالتأله والإنابة ، والمحبة والذكر والدعاء والتضرع ، والاجتهاد في مرضاة الله وتقديمها على كلّ شيء.

[٣١] ولهذا ، لما عرضت الخيل الجياد الصافنات أي : الّتي وصفها الصفون ، وهو رفع إحدى قوائمها عند الوقوف ، وكان لها منظر رائق ، وجمال معجب ، وخصوصا للمحتاج إليها كالملوك. فما زالت تعرض عليه ، حتى غابت الشمس في الحجاب ، فألهته عن صلاة المساء وذكره.

[٣٢] فقال ـ ندما على ما مضى منه ، وتقربا إلى الله بما ألهاه عن ذكره ، وتقديما لحب الله على حب غيره ـ (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ) وضمن «أحببت» معنى «آثرت» أي : آثرت حب الخير ، الذي هو المال عموما ، وفي هذا الموضع المراد : الخيل (عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) «أي : غابت عن عينيه».

[٣٣] (رُدُّوها عَلَيَ) فردوها (فَطَفِقَ) أي : «شرع» فيها (مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) أي جعل يعقرها بسيفه ، في سوقها وأعناقها.

[٣٤] (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ) أي : ابتليناه واختبرناه ، بذهاب ملكه وانفصاله عنه ، بسبب خلل اقتضته الطبيعة البشرية (وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) أي : شيطانا قضى الله وقدّر أن يجلس على كرسي ملكه ، ويتصرف في الملك في مدة فتنة سليمان (ثُمَّ أَنابَ) سليمان إلى الله تعالى وتاب.

[٣٥ ـ ٣٨] (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (٣٥). فاستجاب الله له وغفر له ، ورد عليه ملكه ، وزاده ملكا لم يحصل لأحد من بعده ، وهو تسخير الشياطين له ، يبنون ما يريد ، ويغوصون له في البحر ، يستخرجون الدر والحلي ، ومن عصاه منهم ، قرنه في الأصفاد وأوثقه.

[٣٩] وقلنا له : (هذا عَطاؤُنا) فقرّ به عينا (فَامْنُنْ) على من شئت. (أَوْ أَمْسِكْ) من شئت (بِغَيْرِ حِسابٍ) أي : لا حرج عليك في ذلك ولا حساب ، لعلمه تعالى بكمال عدله ، وحسن أحكامه.

[٤٠] ولا تحسبن هذا لسليمان في الدنيا دون الآخرة ، بل له في الآخرة خير عظيم. ولهذا قال : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) (٤٠) أي : هو من المقربين عند الله المكرمين بأنواع الكرامات لله.

فصل : فيما تبين لنا من الفوائد والحكم في قصة داود وسليمان عليهما‌السلام

فمنها : أن الله تعالى ، يقص على نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أخبار من قبله ، ليثبت فؤاده ، وتطمئن نفسه. ويذكر من عبادتهم وشدة صبرهم ، وإنابتهم ، ما يشوقه إلى منافستهم ، والتقرب إلى الله ، الذي تقربوا له ، والصبر على أذى

٨٥٧

قومه. ولهذا ـ في هذا الموضع ـ لما ذكر الله ما ذكر ، من أذية قومه وكلامهم فيه ، وفيما جاء به ، أمره بالصبر ، وأن يذكر عبده داود ، فيتأسّى به. ومنها : أن الله تعالى ، يمدح ويحب القوة في طاعته ، قوة القلب والبدن. فإنه يحصل منها ، من آثار الطاعة وحسنها وكثرتها ، ما لا يحصل مع الوهن وعدم القوة. وأن العبد ، ينبغي له تعاطي أسبابها ، وعدم الركون إلى الكسل ، والبطالة المخلة بالقوة ، المضعفة للنفس. ومنها : أن الرجوع إلى الله في جميع الأمور ، من أوصاف أنبياء الله ، وخواص خلقه ، كما أثنى الله على داود وسليمان بذلك. فليقتد بهما المقتدون ، وليهتد بهداهما السالكون (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ). ومنها : ما أكرم الله به نبيه داود ، عليه‌السلام ، من حسن الصوت العظيم ، الذي جعل الله بسببه الجبال الصم ، والطيور البهم ، يجاوبنه إذا رجّع صوته بالتسبيح ، ويسبحن معه بالعشي والإشراق. ومنها : أن من أكبر نعم الله على عبده ، أن يرزقه العلم النافع ، ويعرف الحكم والفصل بين الناس ، كما امتنّ الله به على عبده داود عليه‌السلام. ومنها : اعتناء الله تعالى بأنبيائه وأصفيائه ، عند ما يقع منهم بعض الخلل بفتنته إياهم ، وابتلائهم بما به يزول عنهم المحذور ، ويعودون إلى أكمل من حالتهم الأولى ، كما جرى لدواد وسليمان عليهما‌السلام. ومنها : أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ، معصومون من الخطأ فيما يبلغون عن الله تعالى ، لأن مقصود الرسالة لا يحصل إلا بذلك. وأنه قد يجري منهم بعض مقتضيات الطبيعة من المعاصي ، ولكن الله يتداركهم ويبادرهم بلطفه. ومنها : أن داود عليه‌السلام ، كان في أغلب أحواله ملازما محرابه ، لخدمة ربه ، ولهذا تسور الخصمان عليه المحراب ؛ لأنه كان إذا خلا في محرابه ، لا يأتيه أحد. فلم يجعل كلّ وقته للناس ، مع كثرة ما يرد عليه من الأحكام. بل جعل له وقتا ، يخلو فيه بربه ، وتقر عينه بعبادته ، وتعينه على الإخلاص في جميع أموره. ومنها : أنه ينبغي استعمال الأدب ، في الدخول على الحكام وغيرهم. فإن الخصمين ـ لما دخلا على داود ، في حالة غير معتادة ، ومن غير الباب المعهود ، فزع منهم ، واشتد عليه ذلك ، ورآه غير لائق بالحال. ومنها : أنه لا يمنع لحاكم من الحكم بالحق ، سوء أدب الخصم ، وفعله ما لا ينبغي. ومنها : كمال حلم داود عليه‌السلام ، فإنه ما غضب عليهما ، حين جاءاه بغير استئذان ، وهو الملك ، ولا انتهرهما ، ولا وبخهما. ومنها : جواز قول المظلوم لمن ظلمه «أنت ظلمتني» أو «يا ظالم» أو «باغ عليّ» ونحو ذلك لقولهما : (خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ). ومنها : أن الموعوظ والمنصوح ، ولو كان كبير القدر ، جليل العلم ، إذا نصحه أحد ، أو وعظه ، لا يغضب ، ولا يشمئز ، بل يبادره بالقبول والشكر. فإن الخصمين نصحا داود ، فلم يشمئز ، ولم يغضب ، ولم يثنه ذلك عن الحقّ ، بل حكم بالحق الصرف. ومنها : أن المخالطة بين الأقارب والأصحاب ، وكثرة التعلقات الدنيوية المالية ، موجبة للتعادي بينهم ، وبغي بعضهم على بعض ، وأنّه لا يرد عن ذلك ، إلا استعمال تقوى الله ، والصبر على الأمور ، بالإيمان والعمل الصالح ، وأن هذا من أقل شيء من الناس. ومنها : أن الاستغفار والعبادة خصوصا الصلاة ، مكفرات للذنوب ، فإن الله رتّب مغفرة ذنب داود ، على استغفاره وسجوده. ومنها : إكرام الله لعبده داود وسليمان ، بالقرب منه ، وحسن الثواب ، وأن لا يظن أن ما جرى لهما ، منقص لدرجتهما عند الله تعالى. وهذا من تمام لطفه بعباده المخلصين ، أنه إذا غفر لهم ، وأزال أثر ذنوبهم ، أزال الآثار المترتبة عليه كلها ، حتى ما يقع في قلوب الخلق ، فإنهم إذا علموا ببعض ذنوبهم ، وقع في قلوبهم نزولهم عن درجتهم الأولى ، فأزال الله تعالى هذه الآثار ، وما ذاك بعزيز على الكريم الغفار. ومنها : أن الحكم بين الناس ، مرتبة دينية ، تولاها رسل الله ، وخواص خلقه. وأن وظيفة القائم بها الحكم بالحق ، ومجانبة الهوى. فالحكم بالحق ، يقتضي العلم بالأمور الشرعية ، والعلم بصورة القضية المحكوم بها ، وكيفية إدخالها في الحكم الشرعي. فالجاهل بأحد الأمرين لا يصلح للحكم ، ولا يحل له الإقدام عليه. ومنها : أنه ينبغي للحاكم أن يحذر الهوى ، ويجعله منه على بال ، فإن النفوس لا تخلو منه. بل يجاهد نفسه ، بأن يكون الحقّ مقصوده ، وأن يلقى عنه وقت الحكم ، كل محبة أو بغض لأحد الخصمين. ومنها : أن سليمان عليه‌السلام ، من

٨٥٨

فضائل داود ، ومن منن الله عليه. حيث وهبه له. وأن من أكبر نعم الله على عبده ، أن يهب له ولدا صالحا ، فإن كان عالما ، كان نورا على نور. ومنها : ثناء الله تعالى على سليمان ومدحه في قوله : (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ). ومنها : كثرة خير الله وبره بعبيده ، أن يمنّ عليهم بصالح الأعمال ، ومكارم الأخلاق ، ثمّ يثني عليهم بها ، وهو المتفضل الوهّاب. ومنها : تقديم سليمان ، محبة الله تعالى على محبة كل شيء. ومنها : أن كلّ ما شغل العبد عن الله ، فإنه مشؤوم مذموم ، فليفارق وليقبل على ما هو أنفع له. ومنها : القاعدة المشهورة «من ترك شيئا لله ، عوّضه الله خيرا منه». فسليمان عليه‌السلام عقر الجياد الصافنات المحبوبة للنفوس ، تقديما لمحبة الله ، فعوضه الله خيرا من ذلك ، بأن سخّر له الريح الرخاء اللينة ، الّتي تجري بأمره إلى حيث أراد وقصد ، غدوها شهر ، ورواحها شهر ، وسخّر له الشياطين ، أهل الاقتدار على الأعمال الّتي لا يقدر عليها الآدميون. ومنها : أن سليمان عليه‌السلام ، كان ملكا نبيا ، يفعل ما أراد ، ولكنه لا يريد إلا العدل. بخلاف النبي العبد ، فإنه تكون إرادته تابعة لأمر الله ، فلا يفعل ولا يترك ، إلا بالأمر ، كحال نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذه الحال أكمل.

[٤١] أي : (وَاذْكُرْ) في هذا الكتاب (عَبْدَنا أَيُّوبَ) بأحسن الذكر ، وأثن عليه بأحسن الثناء ، حين أصابه الضر ، فصبر على ضره ، فلم يشتك لغير ربه ، ولا لجأ إلا إليه. (إِذْ نادى رَبَّهُ) داعيا شاكيا إليه لا إلى غيره فقال : ربّ (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) أي : بأمر مشق متعب معذب ، وكان سلط على جسده فنفخ فيه ، حتى تقرح ، ثمّ تقيح بعد ذلك ، واشتد به الأمر وكذلك هلك أهله وماله.

[٤٢] فقيل : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) أي : اضرب الأرض بها ، لينبع لك منها عين تغتسل منها وتشرب ، فيذهب عنك الضر والأذى. ففعل ذلك ، فذهب عنه الضر ، وشفاه الله تعالى.

[٤٣] (وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ) قيل : إن الله تعالى أحياهم له (وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) في الدنيا ، وأغناه الله ، وأعطاه مالا عظيما. (رَحْمَةً مِنَّا) بعبدنا أيوب ، حيث صبر فأثبناه من رحمتنا ، ثوابا عاجلا وآجلا. (وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي : وليتذكر أولو العقول بحالة أيوب ، ويعتبروا ، فيعلموا أن من صبر على الضر ، فإن الله تعالى يثيبه ثوابا عاجلا وآجلا ، ويستجيب دعاءه إذا دعاه.

[٤٤] (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً) أي : حزمة شماريخ (فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ). قال المفسرون : وكان في مرضه وضره ، قد غضب على زوجته في بعض الأمور. فحلف : لئن شفاه الله ، ليضربنها مائة جلدة. فلما شفاه الله ، وكانت امرأته صالحة محسنة إليه ، رحمها الله ورحمه ، فأفتاه أن يضربها بضغث فيه مائة شمراخ ، ضربة واحدة ، فيبر في يمينه. (إِنَّا وَجَدْناهُ) أي : أيوب (صابِراً) أي : ابتليناه بالضر العظيم ، فصبر لوجه الله تعالى. (نِعْمَ الْعَبْدُ) الذي كمل مراتب العبودية ، في حال السراء والضراء ، والشدة والرخاء. (إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي : كثير الرجوع إلى الله ، في مطالبه الدينية والدنيوية ، كثير الذكر لربه ، والدعاء. والمحبة ، والتأله.

[٤٥] يقول تعالى : (وَاذْكُرْ عِبادَنا) الّذين أخلصوا لنا العبادة ذكرا حسنا. (إِبْراهِيمَ) الخليل (وَ) ابنه (إِسْحاقَ) وابنه (يَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي) أي : القوة على عبادة الله تعالى (وَالْأَبْصارِ) أي : البصيرة في دين الله.

٨٥٩

فوصفهم بالعلم النافع ، والعمل الصالح الكثير.

[٤٦] (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ) عظيمة ، وخصيصة جسيمة وهي : (ذِكْرَى الدَّارِ) جعلنا ذكرى الدار الآخرة في قلوبهم ، والعمل لها صفوة وقتهم ، والإخلاص والمراقبة لله ، وصفهم الدائم ، وجعلناهم ذكرى الدار ، يتذكر بأحوالهم المتذكر ، ويعتبر بهم المعتبر ، ويذكرون بأحسن الذكر.

[٤٧] (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ) الذين اصطفاهم الله من صفوة خلقه. (الْأَخْيارِ) الّذين لهم خلق كريم ، وعمل مستقيم.

[٤٨] أي : واذكر هؤلاء الأنبياء بأحسن الذكر ، وأثن عليهم أحسن الثناء. فإن كلا منهم ، من الأخيار الّذين اختارهم الله من الخلق ، واختار لهم أكمل الأحوال ، من الأعمال ، والأخلاق والصفات الحميدة ، والخصال السديدة.

[٤٩] (هذا ذِكْرٌ) أي : ذكر هؤلاء الأنبياء الصفوة وذكر أوصافهم ، ذكر في هذا القرآن ذي الذكر ، يتذكر بأحوالهم المتذكرون ، ويشتاق إلى الاقتداء بأوصافهم الحميدة ، المقتدون ، ويعرف ما منّ الله عليهم به من الأوصاف الزكية ، وما نشر لهم من الثناء بين البرية. فهذا نوع من أنواع الذكر ، وهو ذكر أهل الخير ، ومن أنواع الذكر ، ذكر جزاء أهل الخير ، وأهل الشر ، ولهذا قال : (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ) ربهم ، بامتثال الأوامر ، واجتناب النواهي ، من كلّ مؤمن ومؤمنة. (لَحُسْنَ مَآبٍ) أي : لمآبا حسنا ، ومرجعا مستحسنا.

[٥٠] ثمّ فسره وفصله فقال : (جَنَّاتِ عَدْنٍ) أي : جنات إقامة ، لا يبغي صاحبها بدلا منها ، من كمالها ، وتمام نعيمها ، وليسوا بخارجين منها ، ولا بمخرجين. (مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) أي : مفتحة لأجلهم أبواب منازلها ومساكنها ، لا يحتاجون أن يفتحوها ، بل هم مخدومون. وهذا دليل أيضا ، على الأمان التام ، وأنه ليس في جنات عدن ، ما يوجب أن يغلق لأجله أبوابها.

[٥١] (مُتَّكِئِينَ فِيها) على الأرائك المزينات ، والمجالس المزخرفات. (يَدْعُونَ فِيها) أي : يأمرون خدامهم ، أن يأتوا (بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ) من كلّ ما تشتهيه نفوسهم ، وتلذه أعينهم. وهذا يدل على كمال النعيم ، وكمال الراحة والطمأنينة ، وتمام اللذة.

[٥٢] (وَعِنْدَهُمْ) من أزواجهم ، الحور العين (قاصِراتُ الطَّرْفِ) على أزواجهن ، وطرف أزواجهن عليهن ، لجمالهم كلهم ، ومحبة كلّ منهما للآخر ، وعدم طموحه لغيره ، وأنه لا يبغي بصاحبه بدلا ، وعنه عوضا. (أَتْرابٌ) أي : على سن واحد ، أعدل سن الشباب وأحسنه وألذه.

[٥٣] (هذا ما تُوعَدُونَ) أيها المتقون (لِيَوْمِ الْحِسابِ) جزاء على أعمالكم الصالحة.

[٥٤] (إِنَّ هذا لَرِزْقُنا) الذي أوردناه على أهل النعيم (ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) أي : انقطاع ، بل هو دائم مستقر في جميع الأوقات ، متزايد في جميع الآنات. وليس هذا بعظيم على الرب الكريم ، الرؤوف الرحيم ، البر الجواد ، الواسع الغني ، الحميد اللطيف الرحمن ، الملك الديان ، الجليل الجميل المنان ، ذي الفضل الباهر ، والكرم المتواتر ، الذي لا تحصى نعمه ، ولا يحاط ببعض بره.

[٥٥] (هذا) الجزاء للمتقين ما وصفناه (وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ) أي : للمتجاوزين للحد في الكفر والمعاصي (لَشَرَّ مَآبٍ) أي : لشر مرجع ومنقلب. ثمّ فصله فقال :

[٥٦] (جَهَنَّمَ) الّتي جمع فيها كلّ عذاب واشتد حرها ، وانتهى

٨٦٠