تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي

تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

المؤلف:

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ١١٣٥

يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) فيجازي كل عامل بعمله ، على حسب نيته ومقصده.

[٩٢] (وَلا تَكُونُوا) في نقضكم للعهود بأسوإ الأمثال وأقبحها وأدلها على صفة متعاطيها. وذلك (كَالَّتِي) تغزل غزلا قويا ، فإذا استحكم ، وتم ما أريد منه (نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ) فجعلته (أَنْكاثاً) فتعبت على الغزل ، ثم على النقض ، ولم تستفد سوى الخيبة والعناء ، وسفاهة العقل ، ونقص الرأي ، فكذلك من نقض ما عاهد عليه ، فهو ظالم جاهل سفيه ، ناقص الدين والمروءة. وقوله : (تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) ، أي : لا تنبغي هذه الحالة منكم ، تعقدون الأيمان المؤكدة ، وتنتظرون فيها الفرص ، فإذا كان العاقد لها ضعيفا ، غير قادر على الآخر ، أتمها ، لا لتعظيم العقد واليمين ، بل لعجزه. وإن كان قويا ، يرى مصلحته الدنيوية في نقضها ، نقضها غير مبال بعهد الله ويمينه. كل ذلك دورانا مع أهوية النفوس ، وتقديما لها على مراد الله منكم ، وعلى المروءة الإنسانية ، والأخلاق المرضية لأجل أن تكون أمة أكثر عددا وقوة من الأخرى. وهذا (إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ) امتحانا حيث قيض لعباده من أسباب المحن ما يمتحن به الصادق الوفي ، من الفاجر الشقي. (وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) فيجازي كلا بعمله ، ويخزي الغادر.

[٩٣] أي : (لَوْ شاءَ اللهُ) لجمع الناس على الهدى ، و (لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً). ولكنه تعالى المنفرد بالهداية والإضلال ، وهدايته وإضلاله ، من أفعاله التابعة لعلمه وحكمته. يعطي الهداية من يستحقها فضلا ، ويمنعها من لا يستحقها ، عدلا. (وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من خير وشر ، فيجازيكم عليها ، أتم الجزاء ، وأعدله.

[٩٤] أي : (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ) وعهودكم ومواثيقكم (دَخَلاً بَيْنَكُمْ) أي : تبعا لأهوائكم ، متى شئتم وفيتم بها ، ومتى شئتم نقضتموها. فإنكم إذا فعلتم ذلك ، تزل أقدامكم بعد ثبوتها على الصراط المستقيم. (وَتَذُوقُوا السُّوءَ) أي : العذاب الذي يسوؤكم ويحزنكم (بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) حيث ضللتم ، وأضللتم غيركم (وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) مضاعف.

[٩٥] يحذر تعالى عباده ، من نقض العهود ، والأيمان لأجل متاع الدنيا وحطامها فقال : (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) تنالونه بالنقض وعدم الوفاء. (إِنَّما عِنْدَ اللهِ) من الثواب العاجل والآجل ، لمن آثر رضاه ، وأوفى بما عاهد عليه الله (هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) من حطام الدنيا الزائلة (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

[٩٦] فآثروا ما يبقى على ما يفنى ، فإن (ما عِنْدَكُمْ) ولو كثر جدا ، لا بد أن (يَنْفَدُ) ويفنى. (وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) ببقائه ، لا يفنى ولا يزول. فليس بعاقل ، من آثر الفاني الخسيس ، على الباقي النفيس ، وهذا كقوله تعالى : (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) (١٧) (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) ، وفي هذا ، الحث والترغيب على الزهد في الدنيا. خصوصا ، الزهد المتعين ، وهو الزهد فيما يكون ضررا على العبد ، ويوجب له الاشتغال عما أوجب الله عليه ، وتقديمه على حق الله ، فإن هذا الزهد واجب.

٥٢١

ومن الدواعي للزهد ، أن يقابل العبد لذات الدنيا وشهواتها بخيرات الآخرة. فإنه يجد من الفرق والتفاوت ، ما يدعوه إلى إيثار أعلى الأمرين. وليس الزهد الممدوح ، هو الانقطاع للعبادات القاصرة ، كالصلاة ، والصيام ، والذكر ونحوها. بل لا يكون العبد زاهدا ، زهدا صحيحا ، حتى يقوم بما يقدر عليه ، من الأوامر الشرعية ، الظاهرة والباطنة ومن الدعوة إلى الله وإلى دينه بالقول والفعل. فالزهد الحقيقي ، هو : الزهد فيما لا ينفع في الدين والدنيا ، والرغبة والسعي في كل ما ينفع. (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا) على طاعة الله ، وعن معصيته ، وفطموا أنفسهم عن الشهوات الدنيوية ، المضرة بدينهم (أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) الحسنة بعشر أمثالها ، إلى سبعمائة ضعف ، إلى أضعاف كثيرة ، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا.

[٩٧] ولهذا ذكر جزاء العاملين في الدنيا والآخرة ، فقال : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) فإن الإيمان شرط في صحة الأعمال الصالحة وقبولها ، بل لا تسمى أعمالا صالحة ، إلا بالإيمان ، والإيمان مقتض لها ، فإنه : التصديق الجازم ، المثمر لأعمال الجوارح من الواجبات والمستحبات. فمن جمع بين الإيمان والعمل الصالح (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) وذلك بطمأنينة قلبه ، وسكون نفسه ، وعدم التفاته لما يشوش عليه قلبه ، ويرزقه الله رزقا حلالا طيبا ، من حيث لا يحتسب. (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ) في الآخرة ، (أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من أصناف اللذات ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. فيؤتيه الله في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة.

[٩٨] أي : فإذا أردت القراءة لكتاب الله ، الذي هو أشرف الكتب وأجلها ، وفيه صلاح القلوب ، والعلوم الكثيرة ، فإن الشيطان أحرص ما يكون على العبد ، عند شروعه في الأمور الفاضلة ، فيسعى في صرفه عن مقاصدها ومعانيها. فالطريق إلى السلامة من شره الالتجاء إلى الله ، والاستعاذة من شره ، فيقول القارئ : «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» متدبرا لمعناها ، معتمدا بقلبه على الله ، في صرفه عنه ، مجتهدا في دفع وسواسه وأفكاره الرديئة ، مجتهدا على السبب الأقوى في دفعه ، وهو : التّحلّي بحلية الإيمان والتوكل.

[٩٩] فإن الشيطان (لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ) أي : تسلط (عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ) وحده لا شريك له (يَتَوَكَّلُونَ) ، فيدفع الله عن المؤمنين المتوكلين عليه ، شر الشيطان ، ولا يبقى له عليهم سبيل.

[١٠٠] (إِنَّما سُلْطانُهُ) أي تسلطه (عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) أي : يجعلونه لهم وليا. وذلك بتخليهم عن ولاية الله ، ودخولهم في طاعة الشيطان ، وانضمامهم لحزبه. فهم الذين جعلوا له ولاية على أنفسهم ، فأزّهم إلى المعاصي أزّا ، وقادهم إلى النار قودا.

[١٠١] يذكر تعالى أن المكذبين بهذا القرآن ، يتتبعون ما يرونه حجة لهم ، وهو أن الله تعالى هو الحاكم الحكيم ، الذي يشرع الأحكام ، ويبدل حكما مكان آخر ، لحكمته ورحمته ، فإذا رأوه كذلك ، قدحوا في الرسول ، وبما جاء به ، و (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ). قال الله تعالى : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) فهم جهال ، لا علم لهم بربهم ولا

٥٢٢

بشرعه. ومن المعلوم أن قدح الجاهل بلا علم ، لا عبرة به ، فإن القدح في الشيء فرع عن العلم به ، وما يشتمل عليه ، مما يوجب المدح والقدح.

[١٠٢] ولهذا ذكر تعالى حكمته في ذلك فقال : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ) وهو جبريل الرسول ، المقدس المنزه عن كل عيب وخيانة وآفة. (مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) أي : نزوله من عند الله بالحق ، وهو مشتمل على الحق ، في أخباره ، وأوامره ، ونواهيه ، فلا سبيل لأحد أن يقدح فيه قدحا صحيحا ، لأنه إذا علم أنه الحق ، علم أن ما عارضه وناقضه باطل. (لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا) عند نزول آياته وتواردها عليهم ، وقتا بعد وقت. فلا يزال الحق يصل إلى قلوبهم شيئا فشيئا ، حتى يكون إيمانهم أثبت من الجبال الرواسي ، وأيضا ، فإنهم يعلمون أنه الحق. وإذا شرع حكما من الأحكام ، ثم نسخه ، علموا أنه أبدله ، بما هو مثله ، أو خير منه لهم ، وأن نسخه ، هو المناسب للحكمة الربانية ، والمناسبة العقلية. (وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) أي : يهديهم إلى حقائق الأشياء ، ويبين لهم الحق من الباطل ، والهدى من الضلال ، ويبشرهم أن لهم أجرا حسنا ، ماكثين فيه أبدا. وأيضا ، فإنه كلما نزل شيئا فشيئا ، كان أعظم هداية وبشارة لهم ، مما لو أتاهم جملة واحدة ، وتفرق الفكر فيه ، بل ينزل الله حكما وبشارة أكثر ، فإذا فهموه وعقلوه ، وعرفوا المراد منه ، وترووا منه ، أنزل نظيره وهكذا. ولذلك بلغ الصحابة رضي الله عنهم به مبلغا عظيما ، وتغيرت أخلاقهم وطبائعهم ، وانتقلوا إلى أخلاق ، وعوائد ، وأعمال ، فاقوا بها الأولين والآخرين. وكان أعلى وأولى لمن بعدهم ، أن يتربوا بعلومه ، ويتخلقوا بأخلاقه ، ويستضيئوا بنوره في ظلمات الغي والجهالات ، ويجعلوه إمامهم في جميع الحالات ، فبذلك ، تستقيم أمورهم الدينية والدنيوية.

[١٠٣] يخبر تعالى عن قول المشركين المكذبين لرسوله (أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ) هذا الكتاب ، الذي جاء به (بَشَرٌ). وذلك البشر ، الذي يشيرون إليه أعجمي اللسان (وَهذا) القرآن (لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) ، هل هذا القول ممكن؟ أو له حظ من الاحتمال؟ ولكن الكاذب يكذب ، ولا يفكر فيما يؤول إليه كذبه ، فيكون في قوله من التناقض والفساد ، ما يوجب رده ، بمجرد تصوره.

[١٠٤] (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) الدالة دلالة صريحة على الحق المبين ، فيردونها ولا يقبلونها. (لا يَهْدِيهِمُ اللهُ) حيث جاءهم الهدى ، فردوه ، فعوقبوا بحرمانه ، وخذلان الله لهم. (وَلَهُمْ) في الآخرة (عَذابٌ أَلِيمٌ).

[١٠٥] (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ) أي : إنما يصدر افتراء الكذب ، من (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) كالمعاندين لرسوله ، من بعد ما جاءتهم البينات. (وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) أي : الكذب منحصر فيهم ، وعليهم أولى بأن يطلق من غيرهم. وأما محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم المؤمن بآيات الله ، الخاضع لربه ، فمحال أن يكذب على الله ، ويتقول عليه ما لم يقل. فأعداؤه رموه بالكذب ، الذي هو وصفهم فأظهر الله خزيهم ، وبين فضائحهم ، فله تعالى الحمد.

[١٠٦] يخبر تعالى عن شناعة حال (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ) فعمي بعد ما أبصر ، ورجع إلى الضلال بعد ما اهتدى ، وشرح صدره بالكفر ، راضيا به ، مطمئنا ، أن لهم الغضب الشديد ، من الرب الرحيم ، الذي إذا غضب ، لم يقم لغضبه شيء ، وغضب عليهم كل شيء. (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي : في غاية الشدة ، مع أنه دائم أبدا.

[١٠٧ ـ ١٠٨] و (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) حيث ارتدوا على أدبارهم ، طمعا في شيء من حطام الدنيا ، ورغبة فيه ، وزهدا في خير الآخرة. فلما اختاروا الكفر على الإيمان ، منعهم الله الهداية ، فلم يهدهم ، لأن الكفر وصفهم. فطبع على قلوبهم ، فلا يدخلها خير ، وعلى سمعهم وعلى أبصارهم ، فلا ينفذ منها ما ينفعهم ، ويصل إلى قلوبهم. فشملتهم الغفلة ، وأحاط بهم الخذلان ، وحرموا رحمة الله ، التي وسعت كل شيء.

٥٢٣

وذلك أنها أتتهم ، فردوها ، وعرضت عليهم ، فلم يقبلوها.

[١٠٩] (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) (١٠٩) الذين خسروا أنفسهم وأموالهم وأهليهم يوم القيامة ، وفاتهم النعيم المقيم ، وحصلوا على العذاب الأليم. وهذا بخلاف من أكره على الكفر ، وأجبر عليه ، وقلبه مطمئن بالإيمان ، راغب فيه فإنه لا حرج عليه ولا إثم ، ويجوز له النطق بكلمة الكفر ، عند الإكراه عليها. ودل ذلك ، على أن كلام المكره على الطلاق ، أو العتاق ، أو البيع ، أو الشراء ، أو سائر العقود ، أنه لا عبرة به ، ولا يترتب عليه حكم شرعي ، لأنه إذا لم يعاقب على كلمة الكفر ، إذا أكره عليها ، فغيرها من باب أولى وأحرى.

[١١٠] أي : ثم إن ربك الذي ربى عباده المخلصين بلطفه وإحسانه لغفور رحيم ، لمن هاجر في سبيله ، وخلى دياره وأمواله ، طالبا لمرضاة الله ، وفتن على دينه ، ليرجع إلى الكفر ، فثبت على الإيمان ، وتخلص ما معه من اليقين. ثم جاهد أعداء الله ، ليدخلهم في دين الله ، بلسانه ، ويده ، وصبر على هذه العبادات الشاقة ، على أكثر الناس. فهذه أكبر الأسباب ، التي ينال بها أعظم العطايا ، وأفضل المواهب ، وهي مغفرة الله للذنوب ، صغارها ، وكبارها ، المتضمن ذلك زوال كل أمر مكروه. ورحمته العظيمة التي بها صلحت أحوالهم واستقامت أمور دينهم ودنياهم. فلهم الرحمة من الله في يوم القيامة.

[١١١] (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) كلّ يقول نفسي ، لا يهمه سوى نفسه. ففي ذلك اليوم ، يفتقر العبد إلى حصول مثقال ذرة من الخير. (وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) من خير وشر (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) فلا يزاد في سيئاتهم ، ولا ينقص من حسناتهم. (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٥٤).

[١١٢ ـ ١١٣] وهذه القرية هي : مكة المشرفة ، التي كانت آمنة مطمئنة ، لا يهاج فيها أحد ، وتحترمها الجاهلية الجهلاء حتى إن أحدهم ، يجد فيها قاتل أبيه وأخيه ، فلا يهيجه مع شدة الحمية فيهم ، والنعرة العربية فحصل لها في مكة ، من الأمن التام ، ما لم يحصل في سواها وكذلك الرزق الواسع. كانت بلدة ليس فيها زرع ولا شجر ، لكن يسر الله لها الرزق ، يأتيها من كل مكان. فجاءهم رسول منهم ، يعرفون أمانته وصدقه ، يدعوهم إلى أكمل الأمور ، وينهاهم عن الأمور السيئة ، فكذبوه ، وكفروا بنعمة الله عليهم ، فأذاقهم الله ، ضد ما كانوا فيه ، وألبسهم لباس الجوع ، الذي هو ضد الرغد ، والخوف ، الذي هو ضد الأمن ، وذلك بسبب صنيعهم وكفرهم ، وعدم شكرهم (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).

[١١٤] يأمر تعالى عباده بأكل ما رزقهم الله من الحيوانات ، والحبوب ، والثمار ، وغيرها. (حَلالاً طَيِّباً) أي : حالة كونها متصفة بهذين الوصفين بحيث لا تكون مما حرم الله ، أو أثرا من غصب ونحوه. فتمتعوا بما خلق الله لكم ، من غير إسراف ، ولا تعدّ. (وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ) بالاعتراف بها ، بالقلب ، والثناء على الله بها ، وصرفها في طاعة الله. (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) أي : إن كنتم مخلصين له العبادة ، فلا تشكروا إلا إياه ، ولا تنسوا المنعم.

[١١٥] (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ) الأشياء المضرة ، تنزيها لكم. ومن ذلك : (الْمَيْتَةَ) ويدخل في ذلك كل ما

٥٢٤

كان موته على غير ذكاة مشروعة. ويستثنى منه ، ميتة الجراد والسمك. (وَالدَّمَ) المسفوح ، وأما ما يبقى في العروق واللحم فلا يضر. (وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) لقذارته وخبثه ، وذلك شامل للحمه وشحمه ، وجميع أجزائه. (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) كالذي يذبح للأصنام والقبور ونحوها ، لأنه مقصود به الشرك. (فَمَنِ اضْطُرَّ) إلى شيء من المحرمات ـ بأن حملته الضرورة ، وخاف إن لم يأكل أن يهلك ـ فلا جناح عليه إذا كان (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ). أي : إذا لم يرد أكل المحرم ، وهو غير مضطر ، ولا متعد الحلال إلى الحرام ، أو متجاوز لما زاد على قدر الضرورة. فهذا الذي حرمه الله من المباحات.

[١١٦ ـ ١١٨] (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) أي : لا تحرموا وتحللوا من تلقاء أنفسكم ، كذبا ، وافتراء على الله وتقوّلا عليه. (لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) لا في الدنيا ، ولا في الآخرة ، ولا بد أن يظهر الله خزيهم ، وإن تمتعوا في الدنيا ، فإنه (مَتاعٌ قَلِيلٌ) ومصيرهم إلى النار (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ). فالله تعالى ما حرّم علينا إلا الخبيثات ، تفضلا منه ، وصيانة عن كل مستقذر. وأما الذين هادوا فحرم الله عليهم طيبات أحلت لهم بسبب ظلمهم عقوبة لهم ، كما قصه في سورة الأنعام في قوله : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ).

[١١٩] وهذا حضّ منه لعباده على التوبة ، ودعوة لهم إلى الإنابة ، فأخبر أن من عمل سوءا بجهالة ، فعاقبة ما تجنى عليه ، ولو كان متعمدا للذنب ، فإنه لا بد أن ينقص ما في قلبه من العلم ، وقت مقارفة الذنب. فإذا تاب وأصلح ، بأن ترك الذنب وندم عليه وأصلح أعماله ، فإن الله يغفر له ويرحمه ، ويتقبل توبته ، ويعيده إلى حالته الأولى ، أو أعلى منها.

[١٢٠] يخبر تعالى عما فضل به خليله عليه الصلاة والسلام ، وخصه به من الفضائل العالية والمناقب الكاملة فقال : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) أي : إماما ، جامعا لخصال الخير ، هاديا مهتديا (قانِتاً لِلَّهِ) أي : مديما لطاعة ربه ، مخلصا له الدين. (حَنِيفاً) مقبلا على الله ، بالمحبة ، والإنابة ، والعبودية ، معرضا عمن سواه. (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) في قوله وعمله ، وجميع أحواله ، لأنه إمام الموحدين الحنفاء.

[١٢١] (شاكِراً لِأَنْعُمِهِ) أي : آتاه الله في الدنيا حسنة ، وأنعم عليه بنعم ظاهرة وباطنة ، فقام بشكرها.

فكان نتيجة هذه الخصال الفاضلة أن (اجْتَباهُ) ربه ، واختصه بخلته ، وجعله من صفوة خلقه ، وخيار عباده المقربين. (وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) في علمه وعمله ، فعلم بالحق ، وآثره على غيره.

[١٢٢ ـ ١٢٣] (وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) رزقا واسعا ، وزوجة حسناء ، وذرية صالحين ، وأخلاقا مرضية. (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) الذين لهم المنازل العالية ، والقرب العظيم من الله تعالى. ومن أعظم فضائله ، أن الله أوحى لسيد الخلق وأكملهم ، أن يتبع ملّة إبراهيم ، ويقتدي به ، هو وأمته.

٥٢٥

[١٢٤] يقول تعالى : (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ) أي : فرضا (عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) حين ضلوا عن يوم الجمعة ، وهم اليهود ، فصار اختلافهم سببا لأن يجب عليهم في السبت احترامه وتعظيمه ، وإلا فالفضيلة الحقيقية ليوم الجمعة ، الذي هدى الله هذه الأمة إليه. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) فيبين لهم المحق من المبطل ، والمستحق للثواب ، ممن استحق العذاب.

[١٢٥] أي : ليكن دعاؤك للخلق ، مسلمهم وكافرهم ، إلى سبيل ربك المستقيم ، المشتمل على العلم النافع ، والعمل الصالح. (بِالْحِكْمَةِ) أي : كل أحد على حسب حاله وفهمه ، وقبوله وانقياده. ومن الحكمة ، الدعوة بالعلم ، لا بالجهل ، والبدأة بالأهم فالأهم ، وبالأقرب إلى الأذهان والفهم ، وبما يكون قبوله أتم ، وبالرفق واللين. فإن انقاد بالحكمة ، وإلا فينتقل معه إلى الدعوة بالموعظة الحسنة ، وهو الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب. إما بما تشتمل عليه الأوامر من المصالح وتعدادها ، والنواهي من المضار وتعدادها. وإما بذكر إكرام من قام بدين الله ، وإهانة من لم يقم به. وإما بذكر ما أعد الله للطائعين ، من الثواب العاجل والآجل ، وما أعد للعاصين من العقاب العاجل والآجل. فإن كان المدعو ، يرى أن ما هو عليه حق ، أو كان داعيه إلى الباطل ، فيجادل بالتي هي أحسن ، وهي الطرق التي تكون أدعى لاستجابته عقلا ونقلا. من ذلك ، الاحتجاج عليه بالأدلة التي كان يعتقدها ، فإنه أقرب إلى حصول المقصود ، وأن لا تؤدي المجادلة إلى خصام أو مشاتمة ، تذهب بمقصودها ، ولا تحصل الفائدة منها ، بل يكون القصد منها هداية الخلق إلى الحق لا المغالبة ونحوها. وقوله : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) أي : أعلم بالسبب ، الذي أداه إلى الضلال ، ويعلم أعماله المترتبة على ضلالته ، وسيجازيه عليها. (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) علم أنهم يصلحون للهداية ، فهداهم ، ثم منّ عليهم فاجتباهم.

[١٢٦] يقول تعالى ـ مبيحا للعدل ، ونادبا للفضل والإحسان ـ (وَإِنْ عاقَبْتُمْ) من أساء إليكم بالقول والفعل (فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) من غير زيادة منكم ، على ما أجراه معكم. (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ) عن المعاقبة ، وعفوتم عن جرمهم (لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) من الاستيفاء ، وما عند الله ، خير لكم ، وأحسن عاقبة كما قال تعالى : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) ، ثم أمر رسوله بالصبر على دعوة الخلق إلى الله ، والاستعانة بالله على ذلك ، وعدم الاتكال على النفس فقال :

[١٢٧] (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) هو الذي يعينك عليه ويثبتك. (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) إذا دعوتهم ، فلم تر منهم قبولا لدعوتك ، فإن الحزن لا يجدي عليك شيئا. (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ) أي شدة وحرج (مِمَّا يَمْكُرُونَ) فإن مكرهم عائد إليهم ، وأنت من المتقين المحسنين.

[١٢٨] والله مع المتقين المحسنين ، بعونه ، وتوفيقه ، وتسديده ، وهم الّذين اتقوا الكفر والمعاصي ، وأحسنوا في عبادة الله ، بأن عبدوا الله ، كأنهم يرونه ، فإن لم يكونوا يرونه ، فإنه يراهم. والإحسان إلى الخلق ببذل النفع لهم من

٥٢٦

كل وجه. نسأل الله أن يجعلنا من المتقين المحسنين. تم تفسير سورة النحل ـ ولله الحمد والمنة.

سورة الإسراء

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] ينزه تعالى نفسه المقدسة ، ويعظمها لأن له الأفعال العظيمة والمنن الجسيمة ، التي من جملتها أنه (أَسْرى بِعَبْدِهِ) ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) الذي هو أجل المساجد على الإطلاق (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) الذي هو من المساجد الفاضلة ، وهو محل الأنبياء. فأسري به في ليلة واحدة إلى مسافة بعيدة جدا ، ورجع في ليلته ، وأراه الله من آياته ، ما ازداد به هدى وبصيرة ، وثباتا ، وفرقانا. وهذا من اعتنائه تعالى به ، ولطفه ، حيث يسره لليسرى ، في جميع أموره ، وخوّله نعما ، فاق بها الأولين والآخرين. وظاهر الآية أن الإسراء كان في أول الليل ، وأنه من نفس المسجد الحرام. لكن ثبت في الصحيح ، أنه أسري به من بيت أم هانىء. فعلى هذا ، تكون الفضيلة في المسجد الحرام ، لسائر الحرم. فكله تضاعف فيه العبادة كتضاعفها في نفس المسجد. وأن الإسراء بروحه وجسده معا ، وإلا لم يكن في ذلك آية كبرى ، ومنقبة عظيمة. وقد تكاثرت الأحاديث الثابتة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الإسراء ، وذكر تفاصيل ما رأى ، أنه أسري به إلى بيت المقدس ، ثم عرج به من هناك ، إلى السموات ، حتى وصل إلى ما فوق السموات العلى ، ورأى الجنة والنار ، والأنبياء على مراتبهم ، وفرض عليه الصلوات خمسين. ثم ما زال يراجع ربه بإشارة موسى الكليم ، حتى صارت خمسا في الفعل ، وخمسين في الأجر والثواب ، وحاز من المفاخر تلك الليلة ، هو وأمته ، ما لا يعلم مقداره إلا الله عزوجل. وذكره هنا وفي مقام الإنزال للقرآن ، ومقام التحدي بصفة العبودية ، لأنه نال هذه المقامات الكبار ، بتكميله لعبودية ربه. وقوله : (الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) أي : بكثرة الأشجار والأنهار ، والخصب الدائم. ومن بركته ، تفضيله على غيره من المساجد ، سوى المسجد الحرام ، ومسجد المدينة ، وأنه يطلب شد الرحل إليه للعبادة والصلاة فيه ، وأن الله اختصه محلا ، لكثير من أنبيائه وأصفيائه.

[٢] كثيرا ما يقرن الباري بين نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونبوة موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبين كتابيهما وشريعتيهما ، لأن كتابيهما أفضل الكتب ، وشريعتيهما أكمل الشرائع ، ونبوتيهما أعلى النبوات ، وأتباعهما أكثر المؤمنين. ولهذا قال هنا : (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) الذي هو التوراة (وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) يهتدون به في ظلمات الجهل إلى العلم بالحق. (أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً) أي : وقلنا لهم ذلك ، وأنزلنا إليهم الكتاب لذلك ، ليعبدوا الله وحده ، وينيبوا إليه ، ويتّخذوه وحده وكيلا ومدبرا لهم ، في أمر دينهم ودنياهم ، ولا يتعلقوا بغيره من المخلوقين الّذين لا يملكون شيئا ، ولا ينفعونهم بشيء.

[٣] (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) أي : يا ذرية من مننا عليهم ، وحملناهم مع نوح. (إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً)

٥٢٧

ففيه التنويه بالثناء على نوح عليه‌السلام ، بقيامه بشكر الله ، واتصافه بذلك ، والحث لذريته ، أن يقتدوا به في شكره ويتابعوه عليه ، وأن يتذاكروا نعمة الله عليهم ، إذ أبقاهم واستخلفهم في الأرض ، وأغرق غيرهم.

[٤] (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) أي : تقدمنا وعهدنا إليهم ، وأخبرناهم في كتابهم ، أنهم لا بد أن يقع منهم إفساد في الأرض مرتين بعمل المعاصي ، والبطر لنعم الله ، والعلو في الأرض والتكبر فيها ، وأنه إذا وقع واحدة منهما ، سلط الله عليهم الأعداء ، وانتقم منهم ، وهذا تحذير لهم وإنذار ، لعلهم يرجعون فيتذكرون.

[٥] (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما) أي : أولى المرتين اللتين يفسدون فيهما. أي : إذا وقع منهم ذلك الفساد (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ) بعثا قدريا ، وسلطنا عليكم تسليطا كونيا جزائيا (عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) أي : ذوي شجاعة وعدد وعدة فنصرهم الله عليكم ، فقتلوكم وسبوا أولادكم ، ونهبوا أموالكم. (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ) وهتكوا الدور ، ودخلوا المسجد الحرام ، وأفسدوه. (وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً) لا بد من وقوعه ، لوجود سببه منهم. واختلف المفسرون في تعيين هؤلاء المسلطين ، إلا أنهم اتفقوا على أنهم قوم كفار ، إما من أهل العراق ، أو الجزيرة ، أو غيرها سلطهم الله على بني إسرائيل ، لما كثرت فيهم المعاصي ، وتركوا كثيرا من شريعتهم ، وطغوا في الأرض.

[٦] (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ) أي : على هؤلاء الّذين سلطوا عليكم ، فأجليتموهم من دياركم. (وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) أي : أكثرنا أرزاقكم ، وكثرناكم ، وقويناكم عليهم ، (وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) منهم ، وذلك بسبب إحسانكم وخضوعكم لله.

[٧] (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) لأن النفع عائد إليكم ، حتى في الدنيا كما شاهدتم من انتصاركم على أعدائكم. (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) أي : فلأنفسكم يعود الضرر كما أراكم الله ، من تسليط الأعداء. [(فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) أي : المرة الأخرى التي تفسدون فيها في الأرض ، سلطنا عليكم الأعداء] (١). (لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ) بانتصارهم عليكم وسبيكم (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ) والمراد بالمسجد ، مسجد بيت المقدس. (وَلِيُتَبِّرُوا) أي : يخربوا ويدمروا (ما عَلَوْا) عليه (تَتْبِيراً) فيخربوا بيوتكم ، ومساجدكم ، وحروثكم.

[٨] (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) فيديل لكم الكرة عليهم. فرحمهم ، وجعل لهم الدولة. وتوعدهم على المعاصي فقال : (وَإِنْ عُدْتُمْ) إلى الإفساد في الأرض (عُدْنا) إلى عقوبتكم. فعادوا لذلك ، فسلط الله عليهم رسوله ، محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فانتقم الله به منهم ، فهذا جزاء الدنيا ، وما عند الله من النكال ، أعظم وأشنع ، ولهذا قال : (وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) يصلونها ، ويلازمونها ، لا يخرجون منها أبدا. وفي هذه الآيات التحذير لهذه الأمة ، من العمل بالمعاصي لئلا يصيبهم ، ما أصاب بني إسرائيل. فسنة الله واحدة ، لا تبدل ولا تغير. ومن نظر إلى تسليط الكفرة

__________________

(١) سقط من المطبوعة التي بين أيدينا ، وهو موافق للسياق.

٥٢٨

والظلمة على المسلمين عرف أن ذلك ، من أجل ذنوبهم ، عقوبة لهم ، وأنهم إذا أقاموا كتاب الله ، وسنة رسوله ، مكّن لهم في الأرض ، ونصرهم على أعدائهم.

[٩] يخبر تعالى عن شرف القرآن وجلالته ، وأنه (يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) أي : أعدل وأعلى ، من العقائد ، والأعمال ، والأخلاق ، فمن اهتدى بما يدعو إليه القرآن ، كان أكمل الناس ، وأقومهم ، وأهداهم في جميع الأمور. (وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ) من الواجبات والسنن. (أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) أعده الله لهم في دار كرامته ، لا يعلم وصفه إلا هو.

[١٠] (وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (١٠) ، فالقرآن مشتمل على البشارة والنذارة ، وذكر الأسباب التي تنال بها البشارة ، وهو الإيمان ، والعمل الصالح ، والتي تستحق بها النذارة وهو ضد ذلك.

[١١] وهذا من جهل الإنسان وعجلته ، حيث يدعو على نفسه وأولاده بالشر عند الغضب ، ويبادر بذلك الدعاء ، كما يبادر بالدعاء في الخير ، ولكن الله ـ من لطفه ـ يستجيب له في الخير ، ولا يستجيب له بالشر. (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ).

[١٢] يقول تعالى : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) أي : دالتين على كمال قدرة الله وسعة رحمته ، وأنه الذي لا تنبغي العبادة إلا له. (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) أي : جعلناه مظلما ، للسكون فيه ، والراحة ، (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) أي : مضيئة (لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) في معايشكم ، وصنائعكم ، وتجاراتكم ، وأسفاركم. (وَلِتَعْلَمُوا) بتوالي الليل والنهار واختلاف القمر (عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) فتبنون عليها ما تشاؤون ، من مصالحكم. (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) أي : بينا الآيات ، وصرفناه ، لتتميز الأشياء ، ويتبين الحق من الباطل ، كما قال تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ).

[١٣ ـ ١٤] وهذا إخبار عن كمال عدله ، أن كل إنسان يلزمه (طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) ، أي : ما عمل من خير وشر ، يجعله الله ملازما له ، لا يتعداه إلى غيره ، فلا يحاسب بعمل غيره ولا يحاسب غيره بعمله. (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) فيه عمله ، من الخير والشر ، حاضرا ، صغيره وكبيره ، ويقال له : (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (١٤). وهذا من أعظم العدل والإنصاف ، أن يقال للعبد : حاسب نفسك ، ليعرف ما عليه من الحق الموجب للعقاب.

[١٥] أي : هداية كل أحد وضلاله لنفسه ، ولا يحمل أحد ذنب أحد ولا يدفع عنه مثقال ذرة من الشر. والله تعالى أعدل العادلين. لا يعذب أحدا حتى تقوم عليه الحجة بالرسالة ، ثم يعاند الحجة. وأما من انقاد للحجة ، أو لم تبلغه حجة الله تعالى ، فإن الله تعالى لا يعذبه. استدل بهذه الآية على أن أهل الفترات ، وأطفال المشركين ، لا يعذبهم الله ، حتى يبعث إليهم رسولا ، لأنه منزه عن الظلم.

[١٦ ـ ١٧] يخبر تعالى أنه إذا أراد أن يهلك قرية من القرى الظالمة ، ويستأصلها بالعذاب ، أمر مترفيها ، أمرا

٥٢٩

قدريا ، (فَفَسَقُوا فِيها) ، واشتد طغيانهم. (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) أي : كلمة العذاب التي لا مرد لها (فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً). وهؤلاء أمم كثيرة أبادهم الله بالعذاب ، من بعد قوم نوح ، كعاد ، وثمود ، وقوم لوط ، وغيرهم ، ممن عاقبهم الله ، لما كثر بغيهم ، واشتد كفرهم ، أنزل الله بهم عقابه العظيم. (وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) فلا يخافون منه ظلما ، وأنه يعاقبهم على ما عملوه.

[١٨] يخبر تعالى أن (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ) أي : الدنيا المنقضية الزائلة ، فعمل لها ، وسعى ، ونسي المبتدأ أو المنتهى ، أن الله يعجل له من حطامها ومتاعها ، ما يشاؤه ويريده ، مما كتب الله له في اللوح المحفوظ ، ولكنه متاع غير نافع ولا دائم له. ثم يجعل له في الآخرة (جَهَنَّمَ يَصْلاها) أي : يباشر عذابها (مَذْمُوماً مَدْحُوراً) أي : في حالة الخزي والفضيحة والذم من الله ، ومن خلقه ، والبعد عن رحمة الله ، فيجمع له العذاب والفضيحة.

[١٩ ـ ٢٠] (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ) فرضيها وآثرها على الدنيا (وَسَعى لَها سَعْيَها) الذي دعت إليه الكتب السماوية ، والآثار النبوية ، فعمل بذلك على قدر إمكانه (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) بالله وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر. (فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) أي : مقبولا منمّى ، مدخرا ، لهم أجرهم وثوابهم عند ربهم. ومع هذا ، فلا يفوتهم نصيبهم من الدنيا ، فكلا يمده الله منها ، لأنه عطاؤه وإحسانه. (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) أي : ممنوعا من أحد ، بل جميع الخلق راتعون بفضله وإحسانه.

[٢١] (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) في الدنيا ، بسعة الأرزاق وقلتها ، واليسر والعسر ، والعلم والجهل ، والعقل والسفه ، وغير ذلك من الأمور التي فضل الله العباد بعضهم على بعض بها. (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) فلا نسبة لنعيم الدنيا ولذاتها ، إلى الآخرة ، بوجه من الوجوه. فكم بين من هو في الغرف العاليات ، واللذات المتنوعات ، والسرور والخيرات والأفراح ، ممن هو يتقلب في الجحيم ، ويعذب بالعذاب الأليم وقد حل عليه سخط الرب الرحيم ، وكل من الدارين بين أهلها من التفاوت ما لا يمكن أحدا عدّه.

[٢٢] أي : لا تعتقد أن أحدا من المخلوقين يستحق شيئا من العبادة ، ولا تشرك بالله أحدا منهم ، فإن ذلك داع للذم والخذلان. فالله ، وملائكته ، ورسله ، قد نهوا عن الشرك ، وذموا عن عمله أشد الذم ، ورتبوا عليه من الأسماء المذمومة ، والأوصاف المقبوحة ، ما كان به متعاطيه ، أشنع الخلق وصفا ، وأقبحهم نعتا. وله من الخذلان في أمر دينه ودنياه ، بحسب ما تركه من التعلق بربه. فمن تعلق بغيره ، فهو مخذول ، قد وكل إلى من تعلق به ، ولا أحد من الخلق ينفع أحدا ، إلا بإذن الله. كما أن من جعل مع الله إلها آخر ، له الذم والخذلان. فمن وحده ، وأخلص دينه لله ، وتعلق به دون غيره ، فإنه محمود معان في جميع أحواله.

[٢٣] لما نهى تعالى عن الشرك به ، أمر بالتوحيد ، فقال : (وَقَضى رَبُّكَ) قضاء دينيا ، وأمرا شرعيا. (أَلَّا تَعْبُدُوا) أحدا من أهل الأرض والسموات والأحياء والأموات. (إِلَّا إِيَّاهُ) لأنه الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي له كل صفة كمال ، وله من كل صفة أعظمها ، على وجه لا يشبهه أحد من خلقه ، وهو المنعم بالنعم الظاهرة

٥٣٠

والباطنة ، الدافع لجميع النقم ، الخالق ، الرازق ، المدبر لجميع الأمور ، فهو المتفرد بذلك كلّه ، وغيره ليس له من ذلك شيء. ثم ذكر بعد حقه القيام بحق الوالدين فقال : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أي : أحسنوا إليهما ، بجميع وجوه الإحسان ، القولي والفعلي ، لأنهما سبب وجود العبد ، ولهما من المحبة للولد ، والإحسان إليه ، والقرب ، ما يقتضي تأكد الحق ، ووجوب البر. (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما) أي : إذا وصلا إلى هذا السن ، الذي تضعف فيه قواهما ، ويحتاجان من اللطف والإحسان ، ما هو معروف. (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) وهذا أدنى مراتب الأذى ، نبه به على ما سواه. والمعنى لا تؤذهما أدنى أذية. (وَلا تَنْهَرْهُما) أي : تزجرهما ، وتتكلم كلاما خشنا. (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) بلفظ يحبانه ، وتأدب ، وتلطف معهما ، بكلام لين حسن يلذ على قلوبهما ، وتطمئن به نفوسهما ، وذلك يختلف باختلاف الأحوال والعوائد ، والأزمان.

[٢٤] (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) أي : تواضع لهما ، ذلا لهما ، ورحمة ، واحتسابا للأجر ، لا لأجل الخوف منهما ، أو الرجاء لما لهما ، ونحو ذلك من المقاصد ، التي لا يؤجر عليها العبد. (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما) أي : ادع لهما بالرحمة أحياء ، وأمواتا. جزاء على تربيتهما إياك ، صغيرا. وفهم من هذا ، أنه كلما ازدادت التربية ، ازداد الحق. وكذلك من تولى تربية الإنسان في دينه ودنياه ، تربية صالحة غير الأبوين ، فإن له على من رباه حق التربية.

[٢٥] أي : ربكم تعالى مطلع على ما أكنته سرائركم ، من خير وشر ، وهو لا ينظر إلى أعمالكم وأبدانكم ، وإنما ينظر إلى قلوبكم وما فيها من الخير والشر. (إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ) بأن تكون إرادتكم ومقاصدكم دائرة على مرضاة الله ورغبتكم فيما يقربكم إليه ، وليس في قلوبكم إرادات مستقرة لغير الله. (فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ) أي : الرجاعين إليه في جميع الأوقات (غَفُوراً). فمن اطلع الله على قلبه ، وعلم أنه ليس فيه إلا الإنابة إليه ومحبته ، ومحبة ما يقرب إليه ، فإنه ، وإن جرى منه في بعض الأوقات ، ما هو مقتضى الطبائع البشرية ، فإن الله يعفو عنه ، ويغفر له الأمور العارضة ، غير المستقرة.

[٢٦] يقول تعالى : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) من البر والإكرام ، الواجب المسنون ، وذلك الحق ، يتفاوت بتفاوت الأحوال ، والأقارب ، والحاجة وعدمها ، والأزمنة. (وَالْمِسْكِينَ) آته حقه من الزكاة ومن غيرها ، لتزول مسكنته (وَابْنَ السَّبِيلِ) وهو : الغريب المنقطع به عن بلده. (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) يعطى الجميع من المال ، على وجه لا يضر المعطي ، ولا يكون زائدا على المقدار اللائق ، فإن ذلك تبذير ، وقد نهى الله عنه وأخبر :

[٢٧] (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) لأن الشيطان ، لا يدعو إلا إلى كل خصلة ذميمة ، فيدعو الإنسان إلى البخل والإمساك ، فإذا عصاه ، دعاه إلى الإسراف والتبذير. والله تعالى ، إنما يأمر بأعدل الأمور وأقسطها ، ويمدح عليه ، كما في قوله ، عن عباد الرحمن الأبرار (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) (٦٧).

[٢٩] وقال هنا : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) كناية عن شدة الإمساك والبخل. (وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ)

٥٣١

فتنفق فيما لا ينبغي ، وزيادة على ما ينبغي. (فَتَقْعُدَ) إن فعلت ذلك (مَلُوماً) أي : تلام على ما فعلت (مَحْسُوراً) أي : حاسر اليد فارغها ، فلا بقي ما في يدك من المال ولا خلفه مدح وثناء. وهذا الأمر بإيتاء ذي القربى ، مع القدرة والغنى. فأما مع العدم ، أو تعسر النفقة الحاضرة ، فأمر تعالى أن يردّوا ردّا جميلا فقال : (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها) أي : تعرضن عن إعطائهم إلى وقت آخر ، ترجو فيه من الله تيسير الأمر. (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً) أي : لطيفا برفق ، ووعد بالجميل ، عند سنوح الفرصة ، واعتذار بعدم الإمكان ، في الوقت الحاضر ، لينقلبوا عنك ، مطمئنة خواطرهم ، كما قال تعالى : (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً). وهذا أيضا ، من لطف الله تعالى بالعباد ، أمرهم بانتظار الرحمة والرزق منه ، لأن انتظار ذلك عبادة ، وكذلك وعدهم بالصدقة والمعروف عند التيسر ، عبادة حاضرة ، لأن الهم بفعل الحسنة ، حسنة ، ولهذا ينبغي للإنسان أن يفعل ما يقدر عليه من الخير ، وينوي فعل ما لم يقدر عليه ، ليثاب على ذلك ، ولعل الله ييسر له بسبب رجائه.

[٣٠] ثم قال تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) من عباده (وَيَقْدِرُ) أي : يضيقه على من يشاء ، حكمة منه. (إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) فيجزيهم على ما يعلمه صالحا لهم ، ويدبرهم ، بلطفه وكرمه.

[٣١] وهذا من رحمته بعباده ، حيث كان أرحم بهم من والديهم ، فنهى الوالدين أن يقتلوا أولادهم ، خوفا من الفقر والإملاق ، وتكفل برزق الجميع. وأخبر أن قتلهم كان خطأ كبيرا ، أي : من أعظم كبائر الذنوب ، لزوال الرحمة من القلب ، والعقوق العظيم ، والتجرّؤ على قتل الأطفال ، الّذين لم يجر منهم ذنب ولا معصية.

[٣٢] النهي عن قربان الزنا أبلغ من النهي عن مجرد فعله ، لأن ذلك يشمل النهي عن جميع مقدماته ودواعيه ، فإن : «من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه» ، خصوصا هذا الأمر ، الذي في كثير من النفوس ، أقوى داع إليه. ووصف الله الزنا وقبحه بأنه (كانَ فاحِشَةً) أي : إنما يستفحش في الشرع والعقل ، والفطر ، لتضمنه التجري على الحرمة في حق الله ، وحق المرأة ، وحق أهلها ، أو زوجها ، وإفساد الفراش ، واختلاط الأنساب وغير ذلك من المفاسد. وقوله : (وَساءَ سَبِيلاً) أي : بئس السبيل ، سبيل من تجرأ على هذا الذنب العظيم.

[٣٣] وهذا شامل لكل نفس (حَرَّمَ اللهُ) قتلها من صغير وكبير ، وذكر وأنثى ، وحر وعبد ، ومسلم وكافر له عهد. (إِلَّا بِالْحَقِ) كالنفس بالنفس ، والزاني المحصن ، والتارك لدينه ، المفارق للجماعة ، والباغي في حال بغيه ، إذا لم يندفع إلا بالقتل. (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً) أي : بغير حق (فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ) وهو ، أقرب عصباته وورثته إليه (سُلْطاناً) أي : حجة ظاهرة على القصاص من القاتل وجعلنا له أيضا تسلطا قدريا على ذلك ، وذلك حين تجتمع الشروط الموجبة للقصاص ، كالعمد العدوان ، والمكافأة. (فَلا يُسْرِفْ) الولي (فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً). والإسراف ، مجاوزة الحد ، إما أن يمثل بالقاتل ، أو يقتله بغير ما قتل به ، أو يقتل غير القاتل. وفي هذه الآية ، دليل على أن الحق في القتل للولي ، فلا يقتص إلا بإذنه ، وإن عفا سقط القصاص. وإن وليّ المقتول ، يعينه الله على القاتل ، ومن أعانه حتى يتمكن من قتله.

[٣٤] وهذا من لطفه ورحمته تعالى باليتيم ، الذي فقد والده ، وهو صغير ، غير عارف بمصلحة نفسه ، ولا قائم بها ، أن أمر أولياءه بحفظه ، وحفظ ماله ، وإصلاحه ، وأن لا يقربوه (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) من التجارة فيه ، وعدم تعريضه للأخطار ، والحرص على تنميته ، وذلك ممتد إلى أن (يَبْلُغَ) اليتيم (أَشُدَّهُ) أي : بلوغه ، وعقله ، ورشده ، فإذا بلغ أشده ، زالت عنه الولاية ، وصار ولي نفسه ، ودفع إليه ماله. كما قال تعالى : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) ، (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ) الذي عاهدتم الله عليه ، والذي عاهدتم الخلق عليه. (إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) أي : مسؤولون عن الوفاء به. فإن وفيتم ، فلكم الثواب الجزيل ، وإن لم تفعلوا ، فعليكم الإثم العظيم.

[٣٥] وهذا أمر بالعدل وإيفاء المكاييل والموازين بالقسط ، من غير بخس ولا نقص. ويؤخذ من عموم المعنى ،

٥٣٢

النهي عن كل غش ، أو مثمن ، أو معقود عليه ، والأمر بالنصح ، والصدق في المعاملة. (ذلِكَ خَيْرٌ) من عدمه (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) أي : أحسن عاقبة ، به يسلم العبد من التبعات ، وبه تنزل البركة.

[٣٦] أي : ولا تتبع ما ليس لك به علم ، بل تثبّت في كل ما تقوله وتفعله ، فلا تظن ذلك يذهب لا لك ولا عليك. (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) فحقيق بالعبد الذي يعرف أنه مسؤول عما قاله وفعله ، وعما استعمل به جوارحه التي خلقها الله لعبادته ، أن يعدّ للسؤال جوابا ، وذلك لا يكون ، إلا باستعمالها ، بعبودية الله ، وإخلاص الدين له ، وكفها عما يكرهه الله تعالى.

[٣٧] يقول تعالى : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) أي : كبرا وتيها وبطرا ، متكبرا على الحق ، ومتعاظما في تكبرك على الخلق. (إِنَّكَ) في فعلك ذلك (لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً). بل تكون حقيرا عند الله ومحتقرا عند الخلق ، مبغوضا ممقوتا ، قد اكتسبت شر الأخلاق ، واكتسيت بأرذلها ، من غير إدراك لبعض ما تروم.

[٣٨] (كُلُّ ذلِكَ) المذكور الذي نهى الله عنه فيما تقدم من قوله : (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) والنهي عن عقوق الوالدين وما عطف على ذلك (كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) أي : كل ذلك يسوء العاملين ويضرهم ، والله تعالى يكرهه ويأباه.

[٣٩] (ذلِكَ) الذي بيناه ووضحناه من هذه الأحكام الجليلة ، (مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) فإن الحكمة ، الأمر بمحاسن الأعمال ، ومكارم الأخلاق ، والنهي عن أراذل الأخلاق ، وأسوإ الأعمال. وهذه الأعمال المذكورة في هذه الآيات ، من الحكمة العالية ، التي أوحاها رب العالمين لسيد المرسلين ، في أشرف الكتب ، ليأمر بها أفضل الأمم ، فهي من الحكمة التي من أوتيها فقد أوتي خيرا كثيرا. ثم ختمها بالنهي عن عبادة غير الله ، كما افتتحها بذلك فقال : (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ) أي : خالدا مخلدا ، فإنه من يشرك بالله ، فقد حرّم الله عليه الجنّة ومأواه النار. (مَلُوماً مَدْحُوراً) أي : قد لحقتك اللائمة ، واللعنة ، والذم من الله ، وملائكته ، والناس أجمعين.

[٤٠] وهذا إنكار شديد ، على من زعم أن الله اتخذ من خلقه بنات فقال : (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ) أي : اختار لكم الصفوة والنصيب الكامل ، (وَاتَّخَذَ) لنفسه (مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً) ، حيث زعموا أن الملائكة بنات الله. (إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً) فيه أعظم الجرأة على الله ، حيث نسبتم له الولد المتضمن لحاجته ، واستغناء بعض المخلوقات عنه ، وحكمتم له بأردأ القسمين ، وهو الإناث ، وهو الذي خلقكم ، واصطفاكم بالذكور ، فتعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

[٤١] يخبر تعالى ، أنه صرّف لعباده ، في هذا القرآن ، أي نوّع الأحكام ، ووضحها ، وأكثر من الأدلة والبراهين ، على ما دعا إليه ، ووعظ وذكّر ، لأجل أن يتذكّروا ما ينفعهم فيسلكوه ، وما يضرهم فيدعوه. ولكن أبى أكثر الناس ، إلا نفورا عن آيات الله ، لبغضهم للحق ، ومحبتهم ما كانوا عليه من الباطل ، حتى تعصبوا لباطلهم ، ولم يعيروا آيات الله لهم سمعا ، ولا ألقوا لها بالا. ومن أعظم ما صرف فيه الآيات والأدلة ، التوحيد الذي هو أصل الأصول. فأمر

٥٣٣

به ، ونهى عن ضده ، وأقام عليه من الحجج العقلية والنقلية ، شيئا كثيرا ، بحيث أن من أصغى إلى بعضها ، لا تدع في قلبه ، شكا ولا ريبا.

[٤٢] ومن الأدلة على ذلك ، هذا الدليل العقلي الذي ذكره هنا فقال : (قُلْ) للمشركين الّذين يجعلون مع الله إلها آخر : (لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ) أي : على موجب زعمهم وافترائهم (إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) أي : لا تخذوا سبيلا إلى الله بعبادته ، والإنابة إليه والتقرب وابتغاء الوسيلة. فكيف يجعل العبد الفقير الذي يرى شدة افتقاره لعبودية ربه ، إلها مع الله؟ هل هذا إلا من أظلم الظلم وأسفه السفه؟ فعلى هذا المعنى ، تكون هذه الآية كقوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ). وكقوله تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ). ويحتمل أن المعنى في قوله : (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) (٤٢) أي : لطلبوا السبيل وسعوا في مغالبة الله تعالى. فإما أن يعلوا عليه فيكون من علا وقهر ، هو الرب الإله. فأما وقد علموا أنهم يقرون أن آلهتهم ، التي يدعون من دون الله مقهورة مغلوبة ، ليس لها من الأمر شيء ، فلم اتخذوها وهي بهذه الحال؟ فيكون هذا كقوله تعالى : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ).

[٤٣] (سُبْحانَهُ وَتَعالى) أي : تقدس وتنزه وعلت أوصافه (عَمَّا يَقُولُونَ) من الشرك به ، واتخاذ الأنداد معه (عُلُوًّا كَبِيراً) فعلا قدره ، وعظم ، وجلّت كبرياؤه ، التي لا تقادر أن يكون معه آلهة ، فقد ضل من قال ذلك ، ضلالا مبينا ، وظلم ظلما كبيرا. لقد تضاءلت لعظمته المخلوقات العظيمة ، وصغرت لدى كبريائه ، السموات السبع ، ومن فيهن ، والأرضون السبع ، ومن فيهن (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ). وافتقر إليه العالم العلوي والسفلي ، فقرا ذاتيا ، لا ينفك عن أحد منهم في وقت من الأوقات. هذا الفقر بجميع وجوهه ، فقر من جهة الخلق ، والرزق ، والتدبير. وفقر من جهة الاضطرار ، إلى أن يكون معبوده ومحبوبه ، الذي إليه يتقربون وإليه في كل حال يفزعون.

[٤٤] ولهذا قال : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ) من حيوان ناطق ، وغير ناطق ، ومن أشجار ، ونبات ، وجامد ، وحيّ وميت (إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) بلسان الحال ، ولسان المقال. (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) أي : تسبيح باقي المخلوقات ، التي على غير لغتكم. بل يحيط بها علام الغيوب. (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) حيث لم يعاجل بالعقوبة ، من قال فيه قولا تكاد السموات والأرض تتفطر منه وتخر له الجبال. ولكنه أمهلهم ، وأنعم عليهم ، وعفاهم ، ورزقهم ، ودعاهم إلى بابه ، ليتوبوا من هذا الذنب العظيم ، ليعطيهم الثواب الجزيل ، ويغفر لهم ذنبهم. فلو لا حلمه ومغفرته ، لسقطت السموات على الأرض ، ولما ترك على ظهرها من دابة.

[٤٥] يخبر تعالى عن عقوبته للمكذبين بالحق الّذين ردوه ، وأعرضوا عنه ، أنه يحول بينهم وبين الإيمان فقال :

٥٣٤

(وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) الذي فيه الوعظ والتذكير ، والهدى والإيمان ، والخير ، والعلم الكثير. (جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً) يسترهم عن فهمه حقيقة ، وعن التحقق بحقائقه ، والانقياد إلى ما يدعو إليه من الخير.

[٤٦] (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) أي : أغطية وأغشية ، لا يفقهون معها القرآن ، بل يسمعونه سماعا تقوم به عليهم الحجة ، (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) أي : صمما على سماعه ، (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ) داعيا لتوحيده ، ناهيا عن الشرك به. (وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) من شدة بغضهم له ، ومحبتهم لما هم عليه من الباطل. كما قال تعالى : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (٤٥).

[٤٧] (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ) أي : إنما منعناهم من الانتفاع عند سماع القرآن ، لأننا نعلم أن مقاصدهم سيئة ، يريدون أن يعثروا على أقل شيء ، ليقدحوا به. وليس استماعهم لأجل الاسترشاد ، وقبول الحق ، وإنما هم متعمدون على عدم اتباعه. ومن كان بهذه الحالة ، لم يفده الاستماع شيئا ، ولهذا قال : (إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى) أي : متناجين (إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ) في مناجاتهم : (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) فإذا كانت هذه مناجاتهم الظالمة فيما بينهم ، وقد بنوها على أنه مسحور ، فهم جازمون أنهم غير معتبرين لما قال ، وأنه يهذي ، لا يدري ما يقول.

[٤٨] قال تعالى : (انْظُرْ) متعجبا (كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) التي هي أضل الأمثال ، وأبعدها عن الصواب. (فَضَلُّوا) في ذلك ، أو صارت سببا لضلالهم لأنهم بنوا عليها أمرهم ، والمبني على فاسد ، أفسد منه. (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) أي : لا يهتدون أي اهتداء ، فيصيبهم الضلال المحض ، والظلم الصّرف.

[٤٩] يخبر تعالى عن قول المنكرين للبعث ، وتكذيبهم به ، واستبعادهم بقولهم : (أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً) أي : أجسادا بالية (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) أي : لا يكون ذلك ، وهو محال بزعمهم. فجهلوا أشد الجهل ، حيث كذبوا رسول الله ، وجحدوا آيات الله ، وقاسوا قدرة خالق السموات والأرض ، بقدرتهم الضعيفة العاجزة. فلما رأوا أن هذا ممتنع عليهم ، لا يقدرون عليه ، جعلوا قدرة الله كذلك. فسبحان من جعل خلقا من خلقه ، يزعمون أنهم أولو العقول والألباب ، مثالا في جهل أظهر الأشياء ، وأجلاها ، وأوضحها براهين ، وأعلاها ، ليرى عباده ، أنه ما ثمّ إلّا توفيقه وإعانته ، أو الهلاك والضلال. (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (٨).

[٥٠ ـ ٥١] ولهذا أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول لهؤلاء المنكرين للبعث استبعادا : (كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ) أي : يعظم (فِي صُدُورِكُمْ) لتسلموا بذلك على زعمكم ، من أن تنالكم قدرة الله ، أو تنفذ فيكم مشيئته. فإنكم غير معجزين الله ، في أي حالة تكونون ، وعلى أي وصف تتحولون. وليس في أنفسكم ، تدبير في حالة الحياة ، وبعد الممات. فدعوا التدبير والتصريف ، لمن هو على كل شي قدير ، وبكل شيء محيط. (فَسَيَقُولُونَ) حين تقيم عليهم الحجة في البعث : (مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) فكما فطركم ، ولم تكونوا شيئا مذكورا ، فإنه سيعيدكم خلقا جديدا (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ). (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ) أي : يهزونها ، إنكارا وتعجبا ، مما

٥٣٥

قلت. (وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ) أي : متى وقت البعث ، الذي تزعمه على قولك؟ ولا إقرار منهم لأصل البعث ، بل ذلك سفه منهم ، وتعجيز. (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) فليس في تعيين وقته فائدة. وإنما الفائدة والمدار ، على تقريره ، والإقرار به ، وإثباته ، وإلا فكما هو آت ، فإنه قريب.

[٥٢] (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ) للبعث والنشور ، وينفخ في الصور. (فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) أي : تنقادون لأمره ، ولا تستعصون عليه. وقوله : (بِحَمْدِهِ) أي : هو المحمود تعالى ، على فعله ، ويجزي به العباد ، إذا جمعهم ليوم التناد. (وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) من سرعة وقوعه ، وأن الذي مر عليكم من النعيم ، كأنه ما كان. فهذا الذي يقول عنه المنكرون : (مَتى هُوَ)؟ يندمون غاية الندم ، عند وروده ، ويقال لهم : (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ).

[٥٣] وهذا من لطفه بعباده ، حيث أمرهم بأحسن الأخلاق ، والأعمال ، والأقوال ، الموجبة للسعادة ، في الدنيا والآخرة فقال : (وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وهذا أمر بكل كلام يقرب إلى الله ، من قراءة ، وذكر ، وعلم ، وأمر بمعروف ، ونهي عن منكر ، وكلام حسن لطيف ، مع الخلق ، على اختلاف مراتبهم ومنازلهم. وأنه إذا دار الأمر بين أمرين حسنين ، فإنه يأمر بإيثار أحسنهما ، إن لم يمكن الجمع بينهما. والقول الحسن ، داع لكل خلق جميل ، وعمل صالح ، فإن من ملك لسانه ، ملك جميع أمره. وقوله : (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) أي : يسعى بين العباد ، بما يفسد عليهم دينهم ودنياهم. فدواء هذا ، أن لا يطيعوه في الأقوال غير الحسنة التي يدعوهم إليها. وأن يلينوا فيما بينهم ، لينقمع الشيطان الذي ينزغ بينهم ، فإنه عدوهم الحقيقي ، الذي ينبغي لهم أن يحاربوه ، فإنه يدعوهم (لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ). وأما إخوانهم ، فإنهم وإن نزغ الشيطان فيما بينهم ، وسعى في العداوة ، فإن الحزم كل الحزم ، السعي في ضد عدوهم ، وأن يقمعوا أنفسهم الأمارة بالسوء ، التي يدخل الشيطان من قبلها ، فبذلك يطيعون ربهم ، ويستقيم أمرهم ، ويهدون لرشدهم.

[٥٤] (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ) من أنفسكم ، فلذلك لا يريد لكم إلا ما هو الخير ، ولا يأمركم إلا بما فيه مصلحة لكم ، وقد تريدون شيئا والخير في عكسه. (إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ) فيوفق من شاء لأسباب الرحمة ، ويخذل من شاء ، فيضل عنها ، فيستحق العذاب. (وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) تدبر أمرهم ، وتقوم بمجازاتهم ، وإنما الله هو الوكيل ، وأنت مبلغ هاد إلى صراط مستقيم.

[٥٥] (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من جميع أصناف الخلائق ، فيعطي كلا منهم ما يستحقه ، وتقتضيه حكمته ، ويفضل بعضهم على بعض ، في جميع الخصال الحسية ، والمعنوية ، كما فضل بعض النبيين المشتركين بوحيه على بعض بالفضائل ، والخصائص الراجعة إلى ما منّ به عليهم ، من الأوصاف الممدوحة ، والأخلاق المرضية ، والأعمال الصالحة ، وكثرة الأتباع ، ونزول الكتب على بعضهم ، المشتملة على الأحكام الشرعية ، والعقائد المرضية.

كما أنزل على داود زبورا ، وهو الكتاب المعروف. فإذا كان تعالى قد فضل بعضهم على بعض ، وآتى بعضهم كتبا ، فلم ينكر المكذبون لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ما أنزله الله عليه وما فضله به من النبوة والكتاب.

٥٣٦

[٥٦] يقول تعالى : (قُلِ) للمشركين بالله الّذين اتخذوا من دونه أندادا يعبدونهم ، كما يعبدون الله ، ويدعونهم كما يدعونه ، ملزما لهم بتصحيح ما زعموه واعتقدوه إن كانوا صادقين : (ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) آلهة (مِنْ دُونِهِ) فانظروا هل ينفعونكم ، أو يدفعون عنكم الضر. (فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ) من مرض ، أو فقر ، أو شدة ونحو ذلك ، فلا يدفعونه بالكلية. (وَلا) يملكون أيضا (تَحْوِيلاً) له من شخص إلى آخر ، من شدة إلى ما دونها. فإذا كانوا بهذه الصفة فلأي شيء تدعونهم من دون الله؟ فإنهم لا كمال لهم ، ولا فعال نافعة. فاتخاذهم آلهة نقص في الدين والعقل ، وسفه في الرأي. ومن العجب ، أن السفه عند الاعتياد والممارسة ، وتلقيه عن الآباء الضالين بالقبول ، يراه صاحبه ، هو الرأي السديد ، والعقل المفيد. ويرى إخلاص الدين لله الواحد الأحد المنعم بجميع النعم الظاهرة والباطنة ، هو السفه ، والأمر المتعجب منه ، كما قال المشركون : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) (٥).

[٥٧] ثم أخبر أيضا ، أن الّذين يعبدونهم من دون الله ، في شغل شاغل عنهم ، باهتمامهم بالافتقار إلى الله ، وابتغاء الوسيلة إليه فقال : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ) من الأنبياء والصالحين والملائكة (يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) أي : يتنافسون في القرب من ربهم ، ويبذلون ما يقدرون عليه ، من الأعمال الصالحة ، المقربة إلى الله تعالى : (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) فيجتنبون كل ما يوصل إلى العذاب. (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) أي : هو الذي ينبغي شدة الحذر منه والتوقي من أسبابه. وهذه الأمور الثلاثة ، الخوف ، والرجاء ، والمحبة ، التي وصف الله بها هؤلاء المقربين عنده ، هي الأصل ، والمادة في كل خير. فمن تمت له ، تمت له أمور. وإذا خلا القلب منها ، ترحلت عنه الخيرات ، وأحاطت به الشرور. وعلامة المحبة ، ما ذكره الله ، أن يجتهد العبد في كل محل يقربه إلى الله وينافس في قربه بإخلاص الأعمال كلها لله ، والنصح فيها ، وإيقاعها في أكمل الوجوه المقدورة عليها. فمن زعم أنه يحب الله بغير ذلك ، فهو كاذب.

[٥٨] أي : ما من قرية من القرى المكذبة للرسل ، إلا لا بد أن يصيبهم هلاك يوم القيامة ، أو عذاب شديد ، كتاب كتبه الله ، وقضاء أبرمه ، لا بد من وقوعه. فليبادر المكذبون بالإنابة إلى الله ، وتصديق رسله ، قبل أن تتم عليهم كلمة العذاب ، ويحق عليهم القول.

[٥٩] يذكر تعالى رحمته ، بعدم إنزاله الآيات ، التي اقترحها المكذبون ، وأنه ما منعه أن يرسلها ، إلا كراهة تكذيبهم لها. فإذا كذبوا بها ، عاجلهم العقاب ، وحل بهم من غير تأخير ، كما فعل بالأولين الّذين كذبوا بها. ومن أعظم الآيات ، الآية التي أرسلها الله إلى ثمود ، وهي الناقة العظيمة الباهرة ، التي كانت تصدر عنها جميع القبيلة بأجمعها ، ومع ذلك ، كذبوا بها ، فأصابهم ما قص الله علينا في كتابه. وهؤلاء كذلك ، لو جاءتهم الآيات الكبار ، لم يؤمنوا. فإنه ما منعهم من الإيمان ، خفاء ما جاء به الرسول واشتباهه ، هل هو حق أو باطل؟ فإنه قد جاء ومعه من البراهين الكثيرة ، بما دل على صحة ما جاء به الموجب لهداية من طلب الهداية فغيرها مثلها ، فلابد أن يسلكوا بها ، ما سلكوا بغيرها ، فترك إنزالها والحالة هذه ، خير لهم وأنفع. وقوله : (وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) أي : لم يكن القصد بها أن تكون داعية وموجبة للإيمان ، الذي لا يحصل إلا بها. بل المقصود منها ، التخويف والترهيب ، ليرتدعوا عن ما هم عليه.

[٦٠] (وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ) علما وقدرة ، فليس لهم ملجأ يلجؤون إليه ، ولا ملاذ ، يلوذون به عنه. وهذا كاف لمن له عقل في الانكفاف عما يكرهه الله الذي أحاط بالناس. (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) أكثر المفسرين على أنها ليلة الإسراء. (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ) التي ذكرت (فِي الْقُرْآنِ) وهي شجرة الزقوم ، التي تنبت في أصل الجحيم. والمعنى ، إذا كان هذان الأمران ، قد صارا فتنة للناس حتى استلج الكفار بكفرهم ، وازداد

٥٣٧

شرهم ، وبعض من كان إيمانه ضعيفا ، رجع عنه بسبب أن ما أخبرهم به من الأمور التي كانت ليلة الإسراء ، ومن الإسراء من المسجد الحرام ، إلى المسجد الأقصى ، كان خارقا للعادة. والإخبار بوجود شجرة ، تنبت في أصل الجحيم أيضا ، من الخوارق فهذا الذي أوجب لهم التكذيب. فكيف لو شاهدوا الآيات العظيمة والخوارق الجسيمة؟ أليس ذلك أولى أن يزداد بسببه شرهم؟ فلذلك رحمهم‌الله وصرفها عنهم. ومن هنا تعلم أن عدم التصريح في الكتاب والسنة ، بذكر الأمور العظيمة التي حدثت في الأزمنة المتأخرة ، أولى وأحسن ، لأن الأمور التي لم يشاهد الناس لها نظيرا ، ربما لا تقبلها عقولهم ، فيكون ذلك ريبا في قلوب بعض المؤمنين ، ومانعا ، يمنع من لم يدخل الإسلام ، ومنفرا عنه. بل ذكر الله ألفاظا عامة ، تتناول جميع ما يكون ، والله أعلم. (وَنُخَوِّفُهُمْ) بالآيات (فَما يَزِيدُهُمْ) التخويف (إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً) وهذا أبلغ ما يكون في التحلي بالشر ومحبته ، وبغض الخير وعدم الانقياد له.

[٦١] ينبه تبارك وتعالى عباده على شدة عداوة الشيطان ، وحرصه على إضلالهم ، وأنه لما خلق الله آدم ، استكبر عن السجود له ، و (قالَ) متكبرا : (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) أي : من طين ، وبزعمه ، أنه خير منه ، لأنه خلق من نار. وقد تقدم فساد هذا القياس الباطل من عدة أوجه.

[٦٢] فلما تبين لإبليس تفضيل الله لآدم (قالَ) مخاطبا لله : (أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ) أي : لأستأصلنهم بالإضلال ، ولأغوينهم (إِلَّا قَلِيلاً) عرف الخبيث ، أنه لا بد أن يكون منهم من يعاديه ، ويعصيه.

[٦٣] فقال الله له : (اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) واختارك على ربه ووليه الحق. (فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً) أي : مدخرا لكم ، موفرا جزاء أعمالكم.

[٦٤] ثم أمره الله أن يفعل كل ما يقدر عليه من إضلالهم فقال : (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) ويدخل في هذا كل داع إلى المعصية. (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) ويدخل فيه كل راكب وماش في معصية الله ، فهو من خيل الشيطان ورجله. والمقصود أن الله ابتلى العباد بهذا العدو المبين ، الداعي لهم إلى معصية الله ، بأقواله وأفعاله. (وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) وذلك شامل لكل معصية ، تعلقت بأموالهم وأولادهم ، من منع الزكاة والكفارات ، والحقوق الواجبة وعدم تأديب الأولاد ، وتربيتهم على الشر ، وترك الخير (١) ، وأخذ الأموال بغير حقها ، أو وضعها بغير حقها ، أو استعمال المكاسب الردية. بل ذكر كثير من المفسرين ، أنه يدخل في مشاركة الشيطان في الأموال والأولاد ، ترك التسمية عند الطعام والشراب والجماع. وأنه إذا لم يسم الله في ذلك ، شارك فيه الشيطان ، كما ورد فيه الحديث. (وَعِدْهُمْ) الوعود المزخرفة التي لا حقيقة لها ، ولهذا قال : (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) أي :

__________________

(١) في المطبوعة : (وتربيتهم على الخير وترك الشر).

٥٣٨

باطلا مضمحلا ، كأن يزين لهم المعاصي والعقائد الفاسدة ، ويعدهم عليها الأجر ، لأنهم يظنون أنهم على الحق. وقال تعالى : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً).

[٦٥] ولما أخبر عما يريد الشيطان أن يفعل بالعباد ، وذكر ما يعتصم به من فتنته ، وهو عبودية الله ، والقيام بالإيمان والتوكل قال : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) أي : تسلط وإغواء ، بل الله يدفع عنهم ـ بقيامهم بعبوديته ـ كل شر ، ويحفظهم من الشيطان الرجيم ، ويقوم بكفايتهم. (وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) لمن توكل عليه ، وأدى ما أمر به.

[٦٦] يذكر تعالى : نعمته على العباد ، بما سخر لهم من الفلك ، والسفن ، والمراكب ، وألهمهم كيفية صنعتها ، وسخر لها البحر الملتطم ، يحملها على ظهره ، لينتفع العباد بها في الركوب والحمل للأمتعة ، والتجارة. وهذا من رحمته بعباده ، فإنه لم يزل بهم رحيما رؤوفا ، يؤتيهم من كل ما تعلقت به إرادتهم ومنافعهم.

[٦٧] ومن رحمته الدالة على أنه وحده المعبود ، دون ما سواه ، أنهم إذا مسهم الضر في البحر ، فخافوا من الهلاك ، لتراكم الأمواج ، ضل عنهم ما كانوا يدعون من دون الله ، في حال الرخاء من الأحياء ، والأموات ، فكأنهم لم يكونوا يدعونهم في وقت من الأوقات لعلمهم أنهم ضعفاء ، عاجزون عن كشف الضر ، وصرخوا بدعوة فاطر الأرض والسموات الذي يستغيث به في شدائدها ، جميع المخلوقات ، وأخلصوا له الدعاء والتضرع في هذه الحال. فلما كشف الله عنهم الضر ، ونجاهم إلى البر ، ونسوا ما كانوا يدعون إليه من قبل ، أشركوا به ، من لا ينفع ، ولا يضر ، ولا يعطي ، ولا يمنع ، وأعرضوا عن الإخلاص لربهم ومليكهم. وهذا من جهل الإنسان وكفره ، فإن الإنسان كفور للنعم. إلا من هدى الله ، فمن عليه بالعقل السليم ، واهتدى إلى الصراط المستقيم. فإنه يعلم ، أن الذي يكشف الشدائد ، وينجي من الأهوال ، هو الذي يستحق أن يفرد ، وتخلص له سائر الأعمال في الشدة ، والرخاء ، واليسر والعسر. وأما من خذل ، ووكل إلى عقله الضعيف ، فإنه لم يلحظ وقت الشدة إلا مصلحته الحاضرة ، وإنجاءه في تلك الحال. فلما حصلت له النجاة ، وزالت عنه المشقة ، ظن بجهله ، أنه قد أعجز الله ولم يخطر بقلبه ، شيء من العواقب الدنيوية ، فضلا عن أمور الآخرة.

[٦٨] ولهذا ذكرهم الله بقوله : (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) أي : فهو على كل شيء قدير ، إن شاء أنزل عليكم عذابا ، من أسفل منكم بالخسف ، أو من فوقكم بالحاصب ، وهو : العذاب الذي يحصبهم ، فيصبحوا هالكين ، فلا تظنوا أن الهلاك لا يكون إلا في البحر.

[٦٩] وإن ظننتم ذلك ، فلستم آمنين من (أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ) أي : ريحا شديدة جدا تقصف ما أتت عليه. (فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً) أي : تبعة ومطالبة ، فإن الله لم يظلمكم مثقال ذرة.

[٧٠] وهذا من كرمه عليهم وإحسانه ، الذي لا يقادر قدره ، حيث كرم بني آدم بجميع وجوه الإكرام ، فكرمهم

٥٣٩

بالعلم والعقل ، وإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، وجعل منهم الأولياء والأصفياء ، وأنعم عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة. (وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ) على الركاب ، من الإبل ، والبغال ، والحمير ، والمراكب البرية. (وَالْبَحْرِ) في السفن والمراكب (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) من المآكل والمشارب ، والملابس ، والمناكح. فما من طيب تتعلق به حوائجهم ، إلا وقد أكرمهم الله به ، ويسره لهم غاية التيسير. (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) بما خصهم به من المناقب ، وفضلهم به من الفضائل ، التي ليست لغيرهم من أنواع المخلوقات. أفلا يقومون بشكر من أولى النعم ، ودفع النقم ، ولا تحجبهم النعم عن المنعم فيشتغلوا بها عن عبادة ربهم ، بل ربما استعانوا بها على معاصيه.

[٧١] يخبر تعالى عن حال الخلق يوم القيامة ، وأنه يدعو كل أناس ، ومعهم إمامهم وهاديهم ، إلى الرشد ، وهم : الرسل ونوابهم ، فتعرض كل أمة ، ويحضرها رسولهم الذي دعاهم. وتعرض أعمالهم على الكتاب ، الذي يدعو إليه الرسول ، هل هي موافقة له أم لا؟ فينقسمون بهذا قسمين. (فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) لكونه اتبع إمامه ، الهادي إلى صراط مستقيم ، واهتدى بكتابه ، فكثرت حسناته ، وقلت سيئاته (فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ) قراءة سرور وبهجة ، على ما يرون فيها ، مما يفرحهم ويسرهم. (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) مما عملوه من الحسنات.

[٧٢] (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ) الدنيا (أَعْمى) عن الحق ، فلم يقبله ، ولم ينقد له بل اتبع الضلال. (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) عن سلوك طريق الجنة كما لم يسلكه في الدنيا (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) فإن الجزاء من جنس العمل ، كما تدين تدان. وفي هذه الآية دليل على أن كل أمة تدعى إلى دينها وكتابها ، هل عملت به أم لا؟ وأنهم لا يؤاخذون بشرع نبي ، لم يؤمروا باتباعه ، وأن الله لا يعذب أحدا ، إلا بعد قيام الحجة عليه ، ومخالفته لها. وأن أهل الخير ، يعطون كتبهم بأيمانهم ويحصل لهم من الفرح والسرور ، شيء عظيم ، وأن أهل الشر بعكس ذلك ، لأنهم لا يقدرون على قراءة كتبهم ، من شدة غمهم ، وحزنهم وثبورهم.

[٧٣] يذكر تعالى منته على رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحفظه له من أعدائه الحريصين على فتنته بكل طريق ، فقال : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ) أي : قد كادوا لك أمرا لم يدركوه ، وتحيلوا لك ، على أن تفتري على الله غير الذي أنزلنا إليك ، فتجيء بما يوافق أهواءهم ، وتدع ما أنزل الله إليك. (وَإِذاً) لو فعلت ما يهوون (لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً) أي : حبيبا صفيا ، أعز عليهم من أحبابهم ، لما جبلك الله عليه من مكارم الأخلاق ، ومحاسن الآداب ، المحببة للقريب والبعيد ، والصديق والعدو. ولكن لتعلم أنهم لم يعادوك ، وينابذوك العداوة ، إلا للحق الذي جئت به ، لا لذاتك ، كما قال الله تعالى : (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) (٣٣).

[٧٤] (وَ) مع هذا (لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ) على الحق ، وامتننا عليك بعدم الإجابة لداعيهم. (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) من كثرة المعالجة ، ومحبتك لهدايتهم.

[٧٥] (إِذاً) لو ركنت إليهم بما يهوون (لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ). أي : لأصبناك بعذاب مضاعف ، في الدنيا والآخرة ، وذلك لكمال نعمة الله عليك ، وكمال معرفتك. (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) ينقذك مما يحل بك من العذاب ، ولكن الله تعالى عصمك من أسباب الشر ، ومن الشر ، فثبتك وهداك الصراط المستقيم ، ولم تركن إليهم بوجه من الوجوه ، فله عليك أتم نعمة ، وأبلغ منحة.

[٧٦] (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها) أي : من بغضهم لمقامك بين أظهرهم ، وقد كادوا أن يخرجوك من الأرض ، ويجلوك عنها. ولو فعلوا ذلك ، لم يلبثوا بعدك إلا قليلا ، حتى تحل بهم العقوبة ، كما هي سنة الله التي لا تحول ولا تبدل في جميع الأمم ، كل أمة كذبت رسولها ، وأخرجته ، عاجلها الله بالعقوبة. ولما مكر به الّذين كفروا ، وأخرجوه ، لم يلبثوا إلا قليلا ، حتى أوقع الله بهم ب «بدر» وقتل صناديدهم ، وفض بيضتهم فله

٥٤٠