تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي

تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

المؤلف:

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ١١٣٥

مسافة طويلة ، المعنى : أن الشوق والرغبة ، حمل موسى أن قال لفتاه هذه المقالة ، وهذا عزم منه جازم ، فلذلك أمضاه.

[٦١] (فَلَمَّا بَلَغا) أي : هو وفتاه (مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما) وكان معهما حوت يتزودان منه ويأكلان وقد وعد أنه متى فقد الحوت فثمّ ذلك العبد ، الذي قصدته ، فاتخذ ذلك الحوت سبيله ، أي : طريقه في البحر سربا وهذا من الآيات. قال المفسرون إن ذلك الحوت الذي كانا يتزودان منه ، لما وصلا إلى ذلك المكان ، أصابه بلل البحر ، فانسرب بإذن الله في البحر ، وصار مع حيواناته حيا.

[٦٢] فلما جاوز موسى وفتاه مجمع البحرين ، قال موسى لفتاه : (آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً) أي : لقد تعبنا من هذا السفر المجاوز فقط ، وإلا فالسفر الطويل ، الذي وصلا به إلى مجمع البحرين ، لم يجدا من التعب فيه ، وهذا من الآيات والعلامات ، الدالة لموسى ، على وجود مطلبه ، وأيضا ، فإن الشوق المتعلق بالوصول إلى ذلك المكان ، سهل لهما الطريق ، فلما تجاوزا غايتهما ، وجدا مس التعب ، فلما قال موسى لفتاه هذه المقالة ، قال له فتاه :

[٦٣] (أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) لأنه السبب في ذلك (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً) أي : لما انسرب في البحر ، ودخل فيه ، كان ذلك من العجائب. قال المفسرون : كان ذلك المسلك للحوت سربا ، ولموسى وفتاه عجبا.

[٦٤] فلما قال له الفتى هذا القول ، وكان عند موسى وعد من الله أنه إذا فقد الحوت ، وجد الخضر ، فقال موسى : (ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ) أي : نطلب (فَارْتَدَّا) أي : رجعا (عَلى آثارِهِما قَصَصاً) أي : رجعا يقصان أثرهما ، الذي نسيا فيه الحوت.

[٦٥] فلما وصلا إليه ، وجدا (عَبْداً مِنْ عِبادِنا) ، وهو الخضر ، وكان عبدا صالحا ، لا نبيا على الصحيح.

(آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) أي : أعطاه الله رحمة خاصة ، بها زاد علمه ، وحسن عمله (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا) أي : من عندنا (عِلْماً) ، وكان قد أعطي من العلم ، ما لم يعط موسى ، وإن كان موسى عليه‌السلام أعلم منه بأكثر الأشياء ، وخصوصا في العلوم الإيمانية ، والأصولية ، لأنه من أولي العزم من المرسلين ، الّذين فضلهم الله على سائر الخلق ، بالعلم ، والعمل ، وغير ذلك.

[٦٦ ـ ٦٧] فلما اجتمع به موسى ، قال له ، على وجه الأدب والمشاورة ، والإخبار عن مطلبه : (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) أي : هل أتبعك هل أن تعلمني مما علمك الله ، ما به أسترشد وأهتدي ، وأعرف به الحق في تلك القضايا؟ وكان الخضر ، قد أعطاه الله من الإلهام والكرامة ، ما به يحصل له الاطلاع ، على بواطن كثير من الأشياء ، التي خفيت ، حتى على موسى عليه‌السلام ، فقال الخضر لموسى : لا أمتنع من ذلك ، ولكنك (لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) أي : لا تقدر على اتباعي وملازمتي ، لأنك ترى ما لا تقدر على الصبر عليه من الأمور ، التي ظاهرها المنكر ، وباطنها غير ذلك.

٥٦١

[٦٨ ـ ٦٩] ولهذا قال : (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) (٦٨) أي : كيف تصبر على أمر ، ما أحطت بباطنه وظاهره ولا علمت المقصود منه ومآله؟ فقال موسى : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) وهذا عزم منه ، قبل أن يوجد الشيء الممتحن به ، والعزم شيء ، ووجود الصبر شيء آخر ، فلذلك ما صبر موسى عليه‌السلام حين وقع الأمر.

[٧٠] فحينئذ قال له الخضر : (فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) أي : لا تبتدئني بسؤال منك وإنكار ، حتى أكون أنا الذي أخبرك بحاله ، في الوقت الذي ينبغي إخبارك به ، فنهاه عن سؤاله ، ووعده أن يوقفه على حقيقة الأمر.

[٧١] (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها) أي : اقتلع الخضر منها ، لوحا ، وكان له مقصود في ذلك ، سيبينه ، فلم يصبر موسى عليه‌السلام ، لأن ظاهره أنه منكر ، لأنه عيب للسفينة ، وسبب لغرق أهلها ، ولهذا قال موسى : (أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) أي : عظيما شنيعا ، وهذا من عدم صبره عليه‌السلام.

[٧٢] فقال له الخضر : (أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) أي : فوقع كما أخبرتك ، وكان هذا من موسى ، نسيانا.

[٧٣] فقال : (لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) أي : لا تعسر علي الأمر ، واسمح لي ، فإن ذلك وقع على وجه النسيان ، فلا تؤاخذني في أول مرة. فجمع بين الإقرار به والعذر منه ، وأنه ما ينبغي لك أيها الخضر ، الشدة على صاحبك ، فسمح عنه الخضر.

[٧٤ ـ ٧٥] (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً) أي : صغيرا (فَقَتَلَهُ) الخضر ، فاشتد بموسى الغضب ، وأخذته الحمية الدينية ، حين قتل غلاما صغيرا ، لم يذنب. (قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً). وأي نكر مثل قتل الصغير ، الذي ليس عليه ذنب ، ولم يقتل أحدا؟ وكان الأول من موسى نسيانا ، وهذه غير نسيان ، ولكن عدم صبر ، فقال له الخضر ، معاتبا ومذكرا : (أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً).

[٧٦] فقال له موسى : (إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها) أي : بعد هذه المرة (فَلا تُصاحِبْنِي) أي : فأنت معذور بذلك ، وبترك صحبتي (قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) أي : أعذرت مني ، ولم تقصر.

[٧٧] (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها) أي : استضافاهم (فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) أي : عاب واستهدم (فَأَقامَهُ) الخضر أي : بناه وأعاده جديدا. فقال له موسى : (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) ، أي : أهل هذه القرية ، لم يضيفونا مع وجوب ذلك عليهم ، وأنت تبنيه من دون أجرة ، وأنت تقدر عليها؟

[٧٨] فحينئذ لم يف موسى عليه‌السلام بما قال ، واستعذر الخضر منه ، فقال له : (هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) فإنك شرطت ذلك على نفسك ، فلم يبق الآن عذر ، ولا موضع للصحبة. (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) أي : سأخبرك بما أنكرت عليّ ، وأنبئك بأن لي في ذلك من المآرب ، وما يؤول إليه الأمر.

٥٦٢

[٧٩] (أَمَّا السَّفِينَةُ) التي خرقتها (فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ) يقتضي ذلك الرقة عليهم ، والرأفة بهم. (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) أي : كان مرورهم على ذلك الملك الظالم ، فكل سفينة صالحة تمر عليه ، ما فيها عيب ، غصبها وأخذها ظلما ، فأردت أن أخرقها ، ليكون فيها عيب ، فتسلم من ذلك الظالم.

[٨٠] (وَأَمَّا الْغُلامُ) الذي قتلته (فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً) ، وكان ذلك الغلام ، قد قدر عليه ، أنه لو بلغ ، لأرهق أبويه طغيانا وكفرا. أي : لحملهما على الطغيان والكفر ، إما لأجل محبتهما إياه ، أو للحاجة إليه يحملهما على ذلك ، أي : فقتلته ، لاطلاعي على ذلك ، سلامة لدين أبويه المؤمنين ، وأي فائدة أعظم من هذه الفائدة الجليلة؟ وهو إن كان فيه إساءة إليهما ، وقطع لذريتهما ، فإن الله تعالى سيعطيهما من الذرية ، ما هو خير منه.

[٨١] ولهذا قال : (فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً) (٨١) أي : ولدا صالحا ، زكيا ، وأصلا لرحمه ، فإن الغلام الذي قتل ، لو بلغ لعقهما أشد العقوق ، بحملهما على الكفر والطغيان.

[٨٢] (وَأَمَّا الْجِدارُ) الذي أقمته (فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً) أي : حالهما تقتضي الرأفة بهما ورحمتهما ، لكونهما صغيرين ، عدما أباهما ، وحفظهما الله أيضا ، بصلاح والدهما. (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما) أي : فلهذا هدمت الجدار ، واستخرجت ما تحته من كنزهما ، ورددته ، وأعدته مجانا. (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي : هذا الذي فعلته رحمة من الله ، آتاها الله عبده الخضر (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) أي : ما أتيت شيئا من قبل نفسي ، ومجرد إرادتي ، وإنما ذلك من رحمة الله وأمره. (ذلِكَ) الذي فسرته لك (تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً). وفي هذه القصة العجيبة الجليلة ، من الفوائد ، والأحكام ، والقواعد ، شيء كثير ، ننبه على بعضه بعون الله. فمنها فضيلة العلم ، والرحلة في طلبه ، وأنه أهم الأمور ، فإن موسى عليه‌السلام ، رحل مسافة طويلة ، ولقي النصب في طلبه ، وترك القعود عند بني إسرائيل ، لتعليمهم وإرشادهم ، واختار السفر لزيادة العلم على ذلك. ومنها : البداءة بالأهم فالأهم ، فإن زيادة العلم وعلم الإنسان ، أهم من ترك ذلك ، والاشتغال بالتعليم ، من دون تزود من العلم ، والجمع بين الأمرين أكمل. ومنها : جواز أخذ الخادم في الحضر والسفر لكفاية المؤن ، وطلب الراحة ، كما فعل موسى. ومنها : أن المسافر لطلب علم أو جهاد أو نحوه ، إذا اقتضت المصلحة الإخبار بمطلبه ، وأين يريده ، فإنه أكمل من كتمه ، فإن في إظهاره ، فوائد من الاستعداد له ، واتخاذ عدته ، وإتيان الأمر على بصيرة ، وإظهار الشوق لهذه العبادة الجليلة ، كما قال موسى : (لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً). وكما أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أصحابه حين غزا تبوك ، بوجهه ، مع أن عادته التورية ، وذلك تبع للمصلحة. ومنها : إضافة الشر وأسبابه إلى الشيطان ، على وجه التسويل والتزيين ، وإن كان الكل بقضاء الله وقدره ، لقول فتى موسى : (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ). ومنها : جواز إخبار الإنسان عما هو من مقتضى طبيعة النفس ، من

٥٦٣

نصب وجوع ، أو عطش ، إذا لم يكن على وجه التسخط وكان صدقا ، لقول موسى : (لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً). ومنها : استحباب كون خادم الإنسان ، ذكيا فطنا كيسا ، ليتم له أمره الذي يريده. ومنها : استحباب إطعام الإنسان خادمه من مأكله ، وأكلهما جميعا ، لأن ظاهر قوله : (آتِنا غَداءَنا) إضافة إلى الجميع ، أنه أكل هو ، وهو جميعا. ومنها : أن المعونة تنزل على العبد على حسب قيامه بالمأمور به ، وأن الموافق لأمر الله ، يعان ما لا يعان غيره لقوله : (لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً) والإشارة إلى السفر المجاوز ، لمجمع البحرين. وأما الأول ، فلم يشتك منه التعب ، مع طوله ، لأنه هو السفر على الحقيقة. وأما الأخير ، فالظاهر أنه بعض يوم ، لأنهم فقدوا الحوت حتّى أووا إلى الصخرة. فالظاهر أنهم باتوا عندها ، ثم ساروا من الغد ، حتى إذا جاء وقت الغداء قال موسى لفتاه : (آتِنا غَداءَنا) ، فحينئذ تذكر أنه نسيه ، في الموضع الذي إليه منتهى قصده. ومنها : أن ذلك العبد الذي لقياه ، ليس نبيا ، بل عبدا صالحا ، لأنه وصفه بالعبودية ، وذكر منّة الله عليه بالرحمة والعلم ، ولم يذكر رسالته ولا نبوته ، ولو كان نبيا ، لذكر ذلك ، كما ذكره غيره. وأما قوله في آخر القصة : (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) فإنه لا يدل على أنه نبي ، وإنما يدل على الإلهام والتحديث ، كما يكون لغير الأنبياء ، كما قال تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) ، (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً). ومنها : أن العلم الذي يعلمه الله لعباده نوعان : علم مكتسب يدركه العبد بجهده واجتهاده ، ونوع علم لدني ، يهبه الله لمن يمن عليه من عباده لقوله : (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً). ومنها : التأدب مع المعلم ، وخطاب المتعلم إياه ألطف خطاب ، لقول موسى عليه‌السلام : (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) فأخرج الكلام بصورة الملاطفة والمشاورة ، وأنك هل تأذن لي في ذلك أم لا ، وإقراره بأنه يتعلم منه ، بخلاف ما عليه أهل الجفاء أو الكبر ، الّذين لا يظهرون للمعلم افتقارهم إلى علمه بل يدعون أنهم يتعاونون هم وإياه ، بل ربما ظن أحدهم أنه يعلم معلمه ، وهو جاهل جدا ، فالذل للمعلم ، وإظهار الحاجة إلى تعليمه ، من أنفع شيء للمتعلم. ومنها : تواضع الفاضل للتعلم ممن دونه فإن موسى ـ بلا شك ـ أفضل من الخضر. ومنها : تعلم العالم الفاضل ، للعلم الذي لم يتمهر فيه ، ممن مهر فيه ، وإن كان دونه في العلم بدرجات كثيرة. فإن موسى عليه‌السلام من أولي العزم من المرسلين ، الّذين منحهم الله ، وأعطاهم من العلم ، ما لم يعط سواهم ، ولكن في هذا العلم الخاص ، كان عند الخضر ، ما ليس عنده ، فلهذا حرص على التعلم منه. فعلى هذا ، ينبغي للفقيه المحدث ، إذا كان قاصرا في علم النحو ، أو الصرف ، أو نحوهما من العلوم ، أن يتعلمه ممن مهر فيه ، وإن لم يكن محدثا ولا فقيها. ومنها : إضافة العلم وغيره من الفضائل ، لله تعالى ، والإقرار بذلك ، وشكر الله عليها لقوله : (تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ) أي : مما علمك الله تعالى. ومنها : أن العلم النافع ، هو العلم المرشد إلى الخير ، فكل علم يكون فيه رشد وهداية لطريق الخير ، وتحذير عن طريق الشر ، أو وسيلة لذلك ، فإنه من العلم النافع ، وما سوى ذلك ، فإما أن يكون ضارا ، أو ليس فيه فائدة لقوله : (أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً). ومنها : أن من ليس له قوة الصبر على صحبة العالم والعلم ، وحسن الثبات على ذلك ، أنه ليس بأهل لتلقي العلم ، فمن لا صبر له ، لا يدرك العلم ، ومن استعمل الصبر ولازمه ، أدرك به كل أمر سعى فيه ، لقول الخضر ـ يعتذر عن موسى بذكر المانع لموسى في الأخذ عنه : إنه لا يصبر معه. ومنها : أن السبب الكبير لحصول الصبر ، إحاطة الإنسان علما وخبرة ، بذلك الأمر ، الذي أمر بالصبر عليه ، وإلّا فالذي لا يدريه ، أو لا يدري غايته ولا نتيجته ، ولا فائدته وثمرته ليس عنده سبب الصبر لقوله : (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) (٦٨) فجعل الموجب لعدم صبره ، عدم إحاطته خبرا بالأمر. ومنها : الأمر بالتأني والتثبت ، وعدم المبادرة إلى الحكم على الشيء ، حتى يعرف ما يراد منه ، وما هو المقصود. ومنها : تعليق الأمور المستقبلة التي من أفعال العباد بالمشيئة ، وأن لا يقول الإنسان للشيء : إني فاعل ذلك في المستقبل ، إلّا أن يقول «إن شاء الله». ومنها : أن العزم على فعل الشيء ، ليس بمنزلة فعله ، فإن موسى قال : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً) فوطن نفسه على الصبر ولم يفعل. ومنها : أن

٥٦٤

المعلم إذا رأى المصلحة في إيزاعه للمتعلم ، أن يترك الابتداء في السؤال عن بعض الأشياء ، حتى يكون المعلم هو الذي يوقفه عليها ، فإن المصلحة تتبع ، كما إذا كان فهمه قاصرا ، أو نهاه عن الدقيق في سؤال الأشياء التي غيرها أهم منها ، أو لا يدركها ذهنه ، أو يسأل سؤالا ، لا يتعلق بموضع البحث. ومنها : جواز ركوب البحر ، في غير الحالة التي يخاف منها. ومنها : أن الناسي غير مؤاخذ بنسيانه ، لا في حق الله ، ولا في حقوق العباد لقوله : (لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ). ومنها : أنه ينبغي للإنسان أن يأخذ من أخلاق الناس ومعاملاتهم ، العفو منها ، وما سمحت به أنفسهم ، ولا ينبغي له أن يكلفهم ما لا يطيقون ، أو يشق عليهم ، ويرهقهم ، فإن هذا ، مدعاة إلى النفور منه والسآمة ، بل يأخذ المتيسر ، ليتيسر له الأمر. ومنها : أن الأمور تجري أحكامها على ظاهرها ، وتعلق بها الأحكام الدنيوية ، في الأموال ، والدماء وغيرها ، فإن موسى عليه‌السلام ، أنكر على الخضر خرقه السفينة ، وقتل الغلام ، وأن هذه الأمور ظاهرها ، أنها من المنكر ، وموسى عليه‌السلام لا يسعه السكوت عنها ، في غير هذه الحال ، التي صحب عليها الخضر ، فاستعجل عليه‌السلام ، وبادر إلى الحكم في حالتها العامة ، ولم يلتفت إلى هذا العارض ، الذي يوجب عليه الصبر ، وعدم المبادرة إلى الإنكار. ومنها : القاعدة الكبيرة الجليلة وهو أنه «يدفع الشر الكبير بارتكاب الشر الصغير» ويراعي أكبر المصلحتين ، بتفويت أدناهما ، فإن قتل الغلام شر ، ولكن بقاءه حتّى يفتن أبويه عن دينهما ، أعظم شرا منه. وبقاء الغلام من دون قتل وعصمته ، وإن كان يظن أنه خير ، فالخير ببقاء دين أبويه ، وإيمانهما ، خير من ذلك ، فلذلك قتله الخضر ، وتحت هذه القاعدة من الفروع والفوائد ، ما لا يدخل تحت الحصر ، فتزاحم المصالح والمفاسد كلها ، داخل في هذا. ومنها : القاعدة الكبيرة أيضا وهي أن «عمل الإنسان في مال غيره ، إذا كان على وجه المصلحة وإزالة المفسدة ، أنه يجوز ، ولو بلا إذن حتّى ولو ترتب على عمله ، إتلاف بعض مال الغير ، كما خرق الخضر السفينة لتعيب ، فتسلم من غصب الملك الظالم. فعلى هذا لو وقع حرق ، أو غرق ، أو نحوهما ، في دار إنسان أو ماله ، وكان إتلاف بعض المال ، أو هدم بعض الدار ، فيه سلامة للباقي ، جاز للإنسان بل شرع له ذلك ، حفظا لمال الغير ، وكذلك لو أراد ظالم أخذ مال الغير ، ودفع إليه إنسان بعض المال ، افتداء للباقي ، جاز ولو من غير إذن. ومنها : أن العمل يجوز في البحر ، كما يجوز في البر لقوله : (يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ) ولم ينكر عليهم عملهم. ومنها : أن المسكين قد يكون له مال لا يبلغ كفايته ، ولا يخرج بذلك عن اسم المسكنة ، لأن الله أخبر أن هؤلاء المساكين ، لهم سفينة. ومنها : أن القتل من أكبر الذنوب لقوله في قتل الغلام : (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً). ومنها : أن القتل قصاصا غير منكر لقوله : (بِغَيْرِ نَفْسٍ). ومنها : أن العبد الصالح يحفظه الله ، في نفسه ، وفي ذريته. ومنها : أن خدمة الصالحين ، أو من يتعلق بهم ، أفضل من غيرها ، لأنه علل استخراج كنزهما ، وإقامة جدارهما ، بأن أباهما صالح. ومنها : استعمال الأدب مع الله تعالى في الألفاظ ، فإن الخضر أضاف عيب السفينة إلى نفسه بقوله : (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها). وأما الخير ، فأضافه إلى الله تعالى لقوله : (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) ، كما قال إبراهيم عليه‌السلام : (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) (٨٠) ، وقالت الجن : (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) (١٠) مع أن الكل بقضاء الله وقدره. ومنها : أنه ينبغي للصاحب أن لا يفارق صاحبه ، في حالة من الأحوال ، ويترك صحبته ، حتى يعتبه ، ويعذر منه ، كما فعل الخضر مع موسى. ومنها : أن موافقة الصاحب لصاحبه ، في غير الأمور المحذورة ، مدعاة ، وسبب لبقاء الصحبة ، وتأكدها ، كما أن عدم الموافقة ، سبب لقطع المرافقة.

[٨٣] كان أهل الكتاب أو المشركون ، سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قصة ذي القرنين ، فأمره الله أن يقول : (سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً) فيه نبأ مفيد ، وخطاب عجيب. أي : سأتلو عليكم من أحواله ، ما يتذكر فيه ، ويكون عبرة ، وأما ما سوى ذلك من أحواله ، فلم يتله عليهم.

٥٦٥

[٨٤ ـ ٨٦] (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) أي : ملكه الله تعالى ، ومكنه من النفوذ في أقطار الأرض ، وانقيادهم له. (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً) (٨٥) أي : أعطاه الله من الأسباب الموصلة له ، لما وصل إليه ، ما به يستعين على قهر البلدان ، وسهولة الوصول إلى أقاصي العمران. وعمل بتلك الأسباب ، التي أعطاه الله إياها ، أي : استعملها على وجهها ، فليس كل من عنده شيء من الأسباب يسلكه ، ولا كل أحد يكون قادرا على السبب ، فإذا اجتمعت القدرة على السبب الحقيقي ، والعمل به ، حصل المقصود ، وإن عدما ، أو أحدهما لم يحصل. وهذه الأسباب التي أعطاه الله إياها ، لم يخبرنا الله ولا رسوله بها ، ولم تتناقلها الأخبار على وجه يفيد العلم ، فلهذا ، لا يسعنا غير السكوت عنها ، وعدم الالتفات لما يذكره النقلة للإسرائيليات ونحوها ، ولكننا نعلم بالجملة ، أنها أسباب قوية كثيرة ، داخلية وخارجية ، بها صار له جند عظيم ، ذو عدد وعدد ونظام ، وبه تمكن من قهر الأعداء ، ومن تسهيل الوصول إلى مشارق الأرض ومغاربها ، وأنحائها ، فأعطاه الله ، ما بلغ به مغرب الشمس ، حتى رأى الشمس في مرأى العين ، كأنها تغرب في عين حمئة ، أي : سوداء ، وهذا هو المعتاد لمن كان بينه وبين أفق الشمس الغربي ماء ، رآها تغرب في نفس الماء وإن كانت في غاية الارتفاع ، ووجد عندها ، أي : عند مغربها قوما. (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) أي : إما أن تعذبهم ، بقتل ، أو ضرب ، أو أسر ونحوه ، وإما أن تحسن إليهم فخيّر بين الأمرين ، لأن الظاهر أنهم كفار ، أو فساق ، أو فيهم شيء من ذلك ، لأنهم لو كانوا مؤمنين غير فساق ، لم يرخّص له في تعذيبهم ، فكان عند ذي القرنين من السياسة الشرعية ، ما استحق به المدح والثناء ، لتوفيق الله له لذلك.

[٨٧] فقال : سأجعلهم قسمين : (أَمَّا مَنْ ظَلَمَ) بالكفر (فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً) أي : تحصل له العقوبتان ، عقوبة الدنيا ، وعقوبة الآخرة.

[٨٨ ـ ٨٩] (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى) أي : فله الجنة والحالة الحسنة عند الله جزاء يوم القيامة. (وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً) أي : وسنحسن إليه ، ونلطف له بالقول ، ونيسر له المعاملة ، وهذا يدل على كونه من الملوك الصالحين الأولياء ، العادلين العالمين ، حيث وافق مرضاة الله في معاملة كل أحد ، بما يليق بحاله.

[٩٠ ـ ٩١] أي : لما وصل إلى مغرب الشمس كرّ راجعا ، قاصدا مطلعها ، متبعا للأسباب ، التي أعطاه الله ، فوصل إلى مطلع الشمس ف (وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً) أي : وجدها تطلع على أناس ليس لهم ستر من الشمس ، إما لعدم استعدادهم في المساكن ، وذلك لزيادة همجيتهم وتوحشهم ، وعدم تمدنهم ، وإما لكون الشمس دائمة عندهم ، لا تغرب غروبا يذكر ، كما يوجد ذلك في شرقي أفريقيا الجنوبي ، فوصل إلى موضع انقطع عنه علم أهل الأرض ، فضلا عن وصولهم إليه بأبدانهم ، ومع هذا ، فكل هذا بتقدير الله له ، وعلمه به ، ولهذا قال : (كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا) بما عنده من الخير والأسباب العظيمة وعلمنا معه ، حيثما توجه وسار.

[٩٢ ـ ٩٣] (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) قال المفسرون : ذهب متوجها من المشرق ، قاصدا

٥٦٦

للشمال ، فوصل إلى ما بين السدين ، وهما سدان ، كانا معروفين في ذلك الزمان ، سدان من سلاسل الجبال ، المتصلة يمنة ويسرة حتّى تتصل بالبحار ، بين يأجوج ومأجوج وبين الناس ، وجد من دون السدين قوما ، لا يكادون يفقهون قولا ، لعجمة ألسنتهم ، واستعجام أذهانهم وقلوبهم ، وقد أعطى الله ذا القرنين ، من الأسباب العلمية ، ما فقه به ألسنة أولئك القوم ، ووفقهم ، وراجعهم ، وراجعوه ، فاشتكوا إليه ضرر يأجوج ومأجوج ، وهما : أمتان عظيمتان من بني آدم.

[٩٤] فقالوا : (إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بالقتل وأخذ الأموال وغير ذلك. (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً) أي : جعلا (عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) ، ودل ذلك على عدم اقتدارهم بأنفسهم ، على بنيان السد ، وعرفوا اقتدار ذي القرنين عليه ، فبذلوا له أجرة ، ليفعل ذلك ، وذكروا له السبب الداعي ، وهو : إفسادهم في الأرض. فلم يكن ذو القرنين ذا طمع ، ولا رغبة في الدنيا ، ولا تاركا لإصلاح أحوال الرعية. بل قصده الإصلاح ، فلذلك أجاب طلباتهم ، لما فيها من المصلحة ، ولم يأخذ منهم أجرة ، وشكر ربه على تمكينه واقتداره.

[٩٥] فقال لهم : (ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) أي : مما تبذلون لي وتعطوني ، وإنما أطلب منكم أن تعينوني بقوة منكم بأيديكم (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) أي : مانعا من عبورهم عليكم.

[٩٦] (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) أي : قطع الحديد ، فأعطوه ذلك. (حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) أي : الجبلين اللذين بني بينهما السد (قالَ انْفُخُوا) أي : أوقدوها إيقادا عظيما ، واستعملوا لها المنافيخ ، لتشتد ، فتذيب النحاس ، فلما ذاب النحاس ، الذي يريد أن يلصقه بين زبر الحديد (قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) أي : نحاسا مذابا ، فأفرغ عليه القطر ، فاستحكم السد استحكاما هائلا ، وامتنع به من وراءه من الناس ، من ضرر يأجوج ومأجوج.

[٩٧ ـ ٩٨] (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً) (٩٧) أي : فما لهم استطاعة ، ولا قدرة على الصعود عليه ، لارتفاعه ، ولا على نقبه لإحكامه وقوته ، فلما فعل هذا الفعل الجميل والأثر الجليل ، أضاف النعمة إلى موليها و (قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) أي : من فضله وإحسانه عليّ. وهذه حال الخلفاء والصالحين ، إذا منّ الله عليهم بالنعم الجليلة ، ازداد شكرهم وإقرارهم ، واعترافهم بنعمة الله كما قال سليمان عليه‌السلام ، لما حضر عنده عرش ملكة سبأ ، مع البعد العظيم قال : (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) ، بخلاف أهل التجبر والتكبر ، والعلو في الأرض فإن النعم الكبار ، تزيدهم أشرا وبطرا. كما قال قارون ـ لما آتاه الله من الكنوز ، ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة قال : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي). وقوله : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي) أي : لخروج يأجوج ومأجوج (جَعَلَهُ) أي : ذلك السد المحكم المتقن (دَكَّاءَ) أي : دكه فانهدم ، واستوى هو والأرض (وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا).

[٩٩] (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) يحتمل أن الضمير ، يعود إلى يأجوج ومأجوج. وأنهم إذا خرجوا على الناس ـ من كثرتهم واستيعابهم للأرض كلها ـ يموج بعضهم ببعض ، كما قال تعالى : (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ

٥٦٧

وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) (٩٦). ويحتمل أن الضمير يعود إلى الخلائق يوم القيامة ، وأنهم يجتمعون فيه فيكثرون ويموج بعضهم ببعض ، من الأهوال والزلازل العظام ، بدليل قوله : (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ) إلى (لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) أي : إذا نفخ إسرافيل في الصور ، أعاد الله الأرواح إلى الأجساد ، ثم حشرهم ، وجمعهم لموقف القيامة ، الأولين منهم والآخرين ، والكافرين والمؤمنين ، ليسألوا ويحاسبوا ويجزوا بأعمالهم ، فأما الكافرون ـ على اختلافهم ـ فإن جهنم جزاؤهم ، خالدين فيها أبدا. ولهذا قال :

[١٠٠] (وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً) (١٠٠) كما قال تعالى : (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ) أي : عرضت لهم لتكون مأواهم ومنزلهم ، وليتمتعوا بأغلالها وسعيرها ، وحميمها ، وزمهريرها ، وليذوقوا من العقاب ، ما تبكم له القلوب ، وتصم الآذان.

[١٠١] وهذا آثار أعمالهم ، وجزاء أفعالهم ، فإنهم في الدنيا (كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي) أي : معرضين عن الذكر الحكيم ، والقرآن الكريم ، وقالوا : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) ، وفي أعينهم أغطية تمنعهم من رؤية آيات الله النافعة كما قال تعالى : (وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ). (وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) أي : لا يقدرون على سمع آيات الله الموصلة إلى الإيمان ، لبغضهم القرآن والرسول ، فإن المبغض ، لا يستطيع أن يلقي سمعه إلى كلام من أبغضه ، فإذا انحجبت عنهم طرق العلم والخير ، فليس لهم سمع ولا بصر ، ولا عقل نافع ، فقد كفروا بالله ، وجحدوا آياته ، وكذبوا رسله ، فاستحقوا جهنم ، وساءت مصيرا.

[١٠٢] وهذا برهان وبيان ، لبطلان دعوى المشركين الكافرين ، الّذين اتخذوا بعض الأنبياء والأولياء ، شركاء لله يعبدونهم ، ويزعمون أنهم يكونون لهم أولياء ، ينجونهم من عذاب الله ، وينيلونهم ثوابه ، وهم قد كفروا بالله وبرسوله. يقول الله لهم على وجه الاستفهام والإنكار المتقرر بطلانه في العقول : (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ) أي : لا يكون ذلك ولا يوالي ولي الله ، معاديا لله أبدا ، فإن الأولياء موافقون لله ، في محبته ، ورضاه ، وسخطه ، وبغضه ، فيكون على هذا المعنى ، مشابها لقوله تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ). فمن زعم أنه يتخذ وليّ الله وليا له ، وهو معاد لله ، فهو كاذب ، ويحتمل ـ وهو الظاهر ـ أن المعنى : أفحسب الكفار بالله ، المنابذون لرسله ، أن يتخذوا من دون الله أولياء ينصرونهم ، وينفعونهم من دون الله ، ويدفعون عنهم الأذى؟ هذا حسبان باطل ، وظن فاسد ، فإن جميع المخلوقين ، ليس بيدهم من النفع والضر ، شيء. ويكون هذا ، كقوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً) (٥٦) ، (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ) ، ونحو ذلك من الآيات التي يذكر الله فيها ، أن المتخذ من دونه وليا ينصره ويواليه ، ضال خائب الرجاء غير نائل لبعض مقصوده. (إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً) أي : ضيافة وقرى فبئس النزل نزلهم ، وبئست جهنم ، ضيافتهم.

[١٠٣ ـ ١٠٤] أي : قل يا محمد ، للناس ـ على وجه التحذير والإنذار ـ : هل أخبركم بأخسر الناس أعمالا على الإطلاق؟ (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي : بطل واضمحل كل ما عملوه ، من عمل ، وهم يحسبون أنهم محسنون في صنعه ، فكيف بأعمالهم ، التي يعلمون أنها باطلة ، وأنها محادة لله ورسله ، ومعاداة؟ فمن هم هؤلاء الذين خسرت أعمالهم ، فخسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة؟ ألا ذلك هو الخسران المبين.

[١٠٥ ـ ١٠٦] (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ) أي : جحدوا الآيات القرآنية والآيات العيانية ، الدالة على وجوب الإيمان به ، وملائكته ، ورسله ، وكتبه ، واليوم الآخر. (فَحَبِطَتْ) بسبب ذلك (أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) لأن الوزن فائدته ، مقابلة الحسنات بالسيئات ، والنظر في الراجح منها والمرجوح ، وهؤلاء ، لا حسنات لهم ، لعدم شرطها ، وهو : الإيمان ، كما قال تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً

٥٦٨

(١١٢) ، لكن تعد أعمالهم ، وتحصى ، ويقررون بها ، ويخزون بها على رؤوس الأشهاد ، ثم يعذبون عليها ، ولهذا قال : (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ) أي : حبوط أعمالهم ، وأنه لا يقام لهم يوم القيامة وزن لحقارتهم وخستهم ، بكفرهم بآيات الله ، واتخاذهم آياته ورسله ، هزوا يستهزئون بها ، ويسخرون منهم ، مع أن الواجب في آيات الله ورسله ، الإيمان التام بها ، والتعظيم لها ، والقيام بها أتم القيام ، وهؤلاء عكسوا القضية ، فانعكس أمرهم ، وتعسوا ، وانتكسوا في العذاب.

[١٠٧] ولما بين مآل الكافرين وأعمالهم ، بيّن أعمال المؤمنين ومآلهم فقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) إلى (حِوَلاً). أي : إن الّذين آمنوا بقلوبهم ، وعملوا الصالحات بجوارحهم ، وشمل هذا الوصف جميع الدين ، عقائده ، وأعماله ، أصوله ، وفروعه الظاهرة ، والباطنة ، فهؤلاء ـ على اختلاف طبقاتهم من الإيمان ، والعمل الصالح ـ لهم جنات الفردوس. يحتمل أن المراد بجنات الفردوس ، أعلى الجنة ، ووسطها ، وأفضلها ، وأن هذا الثواب ، لمن كمل فيه الإيمان ، والعمل الصالح ، وهم الأنبياء والمقربون. ويحتمل أن يراد بها ، جميع منازل الجنان ، فيشمل هذا الثواب ، جميع طبقات أهل الإيمان ، من المقربين ، والأبرار ، والمقتصدين ، كلّ بحسب حاله ، وهذا أولى المعنيين ، لعمومه ، ولذكر الجنة ، بلفظ الجمع المضاف إلى الفردوس ، وأن الفردوس يطلق على البستان ، المحتوي على الكرم ، أو الأشجار الملتفة ، وهذا صادق على جميع الجنة. فجنة الفردوس ، نزل ، وضيافة لأهل الإيمان والعمل الصالح ، وأي ضيافة أجل ، وأكبر ، وأعظم ، من هذه الضيافة ، المحتوية على كل نعيم ، للقلوب ، والأرواح ، والأبدان ، وفيها ما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين ، من المنازل الأنيقة ، والرياض الناضرة ، والأشجار المثمرة ، والطيور المغردة المشجية ، والمآكل اللذيذة ، والمشارب الشهية ، والنساء الحسان ، والخدم ، والولدان ، والأنهار السارحة ، والمناظر الرائقة ، والجمال الحسي والمعنوي ، والنعمة الدائمة. وأعلى ذلك وأفضله وأجله ، التنعم بالقرب من الرحمن ونيل رضاه ، الذي هو أكبر نعيم الجنان ، والتمتع برؤية وجهه الكريم ، وسماع كلام الرؤوف الرحيم. فلله تلك الضيافة ، ما أجلها وأجملها ، وأدومها ، وأكملها ، وهي أعظم من أن يحيط بها وصف أحد من الخلائق ، أو تخطر على القلوب ، فلو علم العباد بعض ذلك النعيم ، علما حقيقيا ، يصل إلى قلوبهم ، لطارت إليها قلوبهم بالأشواق ، ولتقطعت أرواحهم ، من ألم الفراق ، ولساروا إليها زرافات ووحدانا ، ولم يؤثروا عليها دنيا فانية ، ولذات منغصة متلاشية ، ولم يفوتوا أوقاتا ، تذهب ضائعة خاسرة ، يقابل كل لحظة منها من النعيم من الحقب ، آلاف مؤلفة ، ولكن الغفلة شملت ، والإيمان ضعف ، والعلم قلّ ، والإرادة وهت فكان ما كان ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

[١٠٨] وقوله : (خالِدِينَ فِيها) هذا هو تمام النعيم ، إن فيها ، النعيم الكامل ، ومن تمامه أنه لا ينقطع (لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً). أي : تحولا ولا انتقالا ، لأنهم لا يرون إلا ما يعجبهم ويبهجهم ، ويسرهم ويفرحهم ، ولا يرون نعيما فوق ما هم فيه.

[١٠٩] أي : قل لهم ـ مخبرا عن عظمة الباري ، وسعة صفاته ، وأنها لا يحيط العباد بشيء منها : (لَوْ كانَ الْبَحْرُ)

٥٦٩

أي : هذه الأبحر الموجودة في العالم ، (مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي) أي : وأشجار الدنيا ، من أولها إلى آخرها ، من أشجار البلدان والبراري ، والبحار ، أقلام ، (لَنَفِدَ الْبَحْرُ) وتكسرت الأقلام (قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) وهذا شيء عظيم ، لا يحيط به أحد. وفي الآية الأخرى (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٢٧). وهذا من باب تقريب المعنى إلى الأذهان ، لأن هذه الأشياء مخلوقة ، وجميع المخلوقات ، منقضية منتهية ، وأما كلام الله ، فإنه من جملة صفاته ، وصفاته غير مخلوقة ، ولا لها حد ولا منتهى ، فأيّ سعة وعظمة تصورتها القلوب ، فالله فوق ذلك ، وهكذا سائر صفات الله تعالى ، كعلمه ، وحكمته ، وقدرته ، ورحمته ، فلو جمع علم الخلائق ، من الأولين والآخرين ، أهل السموات وأهل الأرض ، لكان بالنسبة إلى علم العظيم ، أقل من نسبة عصفور ، وقع على حافة البحر ، فأخذ بمنقاره من البحر بالنسبة للبحر وعظمته ، ذلك بأن الله ، له الصفات العظيمة الواسعة الكاملة ، وأن إلى ربك المنتهى.

[١١٠] أي : (قُلْ) يا محمد للكفار وغيرهم : (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) أي : لست بإله ، ولا لي شركة في الملك ، ولا علم بالغيب ، ولا عندي خزائن الله. (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) عبد من عبيد ربي ، (يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) أي : فضلت عليكم بالوحي ، الذي يوحيه إلي ، الذي أجله الإخبار لكم ، أنما إلهكم إله واحد ، أي : لا شريك له ، ولا أحد يستحق من العبادة مثقال ذرة ، وأدعوكم إلى العمل الذي يقربكم منه ، وينيلكم ثوابه ، ويدفع عنكم عقابه. ولهذا قال : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) وهو الموافق لشرع الله ، من واجب ومستحب. (وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) أي : لا يرائي بعمله ، بل يعمله خالصا لوجه الله تعالى ، فهذا الذي جمع بين الإخلاص والمتابعة ، هو الذي ينال ما يرجو ويطلب ، وأما من عدا ذلك ، فإنه خاسر في دنياه وأخراه ، وقد فاته القرب من مولاه ، ونيل رضاه. انتهى تفسير سورة الكهف ، ولله الحمد.

تفسير سورة مريم

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[٢ ـ ٣] أي : هذا (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) (٢) سنقصه عليك ، ونفصله تفصيلا ، يعرف به حالة نبيه زكريا ، وآثاره الصالحة ، ومناقبه الجميلة ، فإن في قصها عبرة للمعتبرين ، وأسوة للمقتدين ، ولأن في تفصيل رحمته

٥٧٠

لأوليائه ، وبأي سبب حصلت لهم ، مما يدعو إلى محبة الله تعالى ، والإكثار من ذكره ومعرفته ، والسبب الموصل إليه. وذلك أن الله تعالى ، اجتبى واصطفى ، زكريا عليه‌السلام لرسالته ، وخصه بوحيه ، فقام بذلك قيام أمثاله من المرسلين ، ودعا العباد إلى ربه ، وعلمهم ما علمه الله ، ونصح لهم في حياته وبعد مماته ، كإخوانه من المرسلين ، ومن اتبعهم ، فلما رأى من نفسه الضعف ، وخاف أن يموت ، ولم يكن أحد ينوب منابه في دعوة الخلق إلى ربهم والنصح لهم ، شكا إلى ربه ضعفه الظاهر والباطن ، وناداه نداء خفيا ، ليكون أكمل ، وأفضل ، وأتم إخلاصا.

[٤] فقال : (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) أي : وهى وضعف ، وإذا ضعف العظم ، الذي هو عماد البدن ، ضعف غيره. (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) لأن الشيب دليل الضعف والكبر ، ورسول الموت ، ورائده ونذيره. فتوسل إلى الله تعالى بضعفه وعجزه ، وهذا من أحب الوسائل إلى الله ، لأنه يدل التّبرّي من الحول والقوة ، وتعلق القلب بحول الله وقوته. (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) أي : لم تكن يا رب تردني خائبا ولا محروما من الإجابة ، بل لم تزل بي حفيا ، ولدعائي مجيبا ، ولم تزل ألطافك تتوالى عليّ ، وإحسانك واصلا إليّ ، وهذا توسل إلى الله ، بإنعامه عليه ، وإجابة دعواته السابقة ، فسأل الذي أحسن سابقا ، أن يتمم إحسانه لاحقا.

[٥] (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي) أي : وإني خفت من يتولى على بني إسرائيل من بعد موتي ، أي : لا يقوموا بدينك حق القيام ، ولا يدعوا عبادك إليك. وظاهر هذا ، أنه لم ير فيهم أحدا ، فيه لياقة للإمامة في الدين ، وهذا فيه شفقة زكريا عليه‌السلام ، ونصحه. وأن طلبه للولد ، ليس كطلب غيره ، قصده مجرد المصلحة الدنيوية ، وإنما قصده ، مصلحة الدين ، والخوف من ضياعه ، ورأى غيره ، غير صالح لذلك. وكان بيته من البيوت المشهورة في الدين ، ومعدن الرسالة ، ومظنة للخير ، فدعا الله أن يرزقه ولدا ، يقوم بالدين من بعده ، واشتكى أن امرأته عاقرا ، أي : ليست تلد أصلا ، وأنه قد بلغ من الكبر عتيا ، أي : عمرا يندر معه وجود الشهوة والولد. (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) وهذه الولاية ، ولاية الدين ، وميراث النبوة والعلم والعمل.

[٦] ولهذا قال : (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (٦) أي : عبدا صالحا ترضاه ، وتحببه إلى عبادك ، والحاصل أنه سأل الله ولدا ، ذكرا ، صالحا ، يبقى بعد موته ، ويكون وليا من بعده ، ويكون نبيا مرضيا عند الله وعند خلقه ، وهذا أفضل ما يكون من الأولاد ، ومن رحمة الله بعبده ، أن يرزقه ولدا صالحا ، جامعا لمكارم الأخلاق ، ومحامد الشيم.

[٧] فرحمه ربه ، واستجاب دعوته فقال : (يا زَكَرِيَّا) إلى (وَعَشِيًّا) ، أي : بشره الله تعالى على يد الملائكة ب «يحيى» وسماه الله له «يحيى» ، وكان اسما موافقا لمسماه : يحيا حياة حسية ، فتتم به المنة ، ويحيا حياة معنوية ، وهي حياة القلب والروح ، بالوحي والعلم والدين. (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) أي : لم يسم هذا الاسم قبله أحد ، ويحتمل أن المعنى : لم نجعل له من قبل مثيلا ومساميا ، فيكون ، بشارة بكماله ، واتصافه بالصفات الحميدة ، وأنه فاق من قبله ، ولكن على هذا الاحتمال هذا العموم ، لا بد أن يكون مخصوصا بإبراهيم ، وموسى ، ونوح عليهم الصلاة والسّلام ، ونحوهم ، ممن هو أفضل من يحيى قطعا ، فحينئذ لما جاءته البشارة بهذا المولود ، الذي طلبه ، استغرب وتعجب وقال :

[٨] (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) والحال أن المانع من وجود الولد ، موجود بي وبزوجتي؟ وكأنه وقت دعائه ، لم يستحضر هذا المانع ، لقوة الوارد في قلبه ، وشدة الحرص العظيم على الولد.

[٩] وفي هذه الحال ، حين قبلت دعوته ، تعجب من ذلك ، فأجابه الله بقوله : (كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) أي : الأمر مستغرب في العادة ، وفي سنة الله في الخليقة ، ولكن قدرة الله تعالى صالحة لإيجاده بدون أسبابها فذلك هين عليه ، ليس بأصعب من إيجاده قبل ، ولم يكن شيئا.

٥٧١

[١٠] (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) أي : يطمئن بها قلبي ، وليس هذا شكا في خبر الله ، وإنما هو ، كما قال الخليل عليه‌السلام (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) فطلب زيادة العلم ، والوصول إلى عين اليقين بعد علم اليقين ، فأجابه الله إلى طلبته ، رحمة به. (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) وفي الآية الأخرى (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) ، والمعنى واحد ، لأنه تارة يعبر بالليالي ، وتارة بالأيام ومؤداها واحد ، وهذا من الآيات العجيبة ، فإن منعه من الكلام مدة ثلاثة أيام ، وعجزه عنه من غير خرس ولا آفة ، بل كان سويا ، لا نقص فيه ـ من الأدلة على قدرة الله الخارقة للعوائد ـ ومع هذا ، ممنوع من الكلام ، الذي يتعلق بالآدميين وخطابهم ، وأما التسبيح ، والذكر ونحوه ، فغير ممنوع منه ، ولهذا قال في الآية الأخرى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) ، فاطمأن قلبه ، واستبشر بهذه البشارة العظيمة ، وامتثل لأمر الله له ، بالشكر ، بعبادته وذكره ، فعكف في محرابه.

[١١] وخرج على قومه منه ، فأوحى إليهم ، أي : بالإشارة والرمز (أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) لأن البشارة ب «يحيى» في حق الجميع ، مصلحة دينية.

[١٢] دل الكلام السابق ، على ولادة يحيى ، وشبابه ، وتربيته ، فلما وصل إلى حالة يفهم فيها الخطاب ، أمره الله أن يأخذ الكتاب بقوة ، أي : بجد واجتهاد ، وذلك بالاجتهاد في حفظ ألفاظه ، وفهم معانيه ، والعمل بأوامره ونواهيه ، هذا تمام أخذ الكتاب بقوة ، فامتثل أمر ربه ، وأقبل على الكتاب ، فحفظه وفهمه ، وجعل الله فيه من الذكاء والفطنة ، ما لا يوجد في غيره ولهذا قال : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا).

[١٣] (وَ) آتيناه أيضا (حَناناً مِنْ لَدُنَّا) أي : رحمة ورأفة ، تيسرت بها أموره ، وصلحت بها أحواله ، واستقامت بها أفعاله. (وَزَكاةً) أي : طهارة من الآفات والذنوب ، فطهر قلبه ، وتزكى عقله ، وذلك يتضمن زوال الأوصاف المذمومة ، والأخلاق الرديئة ، وزيادة الأخلاق الحسنة ، والأوصاف المحمودة ، ولهذا قال : (وَكانَ تَقِيًّا) أي : فاعلا للمأمور ، تاركا للمحظور ، ومن كان مؤمنا تقيا ، كان لله وليا ، وكان من أهل الجنة ، التي أعدت للمتقين ، وحصل له من الثواب الدنيوي والأخروي ، ما رتبه الله على التقوى.

[١٤] (وَ) كان أيضا (بَرًّا بِوالِدَيْهِ) أي : لم يكن عاقا ، ولا مسيئا إلى أبويه ، بل كان محسنا إليهما بالقول والفعل. (وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا) أي : لم يكن متجبرا متكبرا عن عبادة الله ، ولا مترفعا على عباد الله ، ولا على والديه. فجمع بين القيام بحق الله ، وحق خلقه ، ولهذا حصلت له السلامة من الله ، في جميع أحواله ، مبادئها وعواقبها.

[١٥] فلذا قال : (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) (١٥) وذلك يقتضي سلامته من الشيطان ، والشر ، والعقاب في هذه الأحوال الثلاثة وما بينها ، وأنه سالم من النار والأهوال ، ومن أهل دار السّلام ، فصلوات

٥٧٢

الله وسلامه عليه ، وعلى والده ، وعلى سائر المرسلين ، وجعلنا من أتباعهم ، إنه جواد كريم.

[١٦] لما ذكر قصة زكريا ويحيى ، وكانت من الآيات العجيبة ، انتقل ، منها إلى ما هو أعجب منها ، تدريجا من الأدنى إلى الأعلى فقال : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ) الكريم (مَرْيَمَ) عليها‌السلام ، وهذا من أعظم فضائلها ، أن تذكر في الكتاب العظيم ، الذي يتلوه المسلمون ، في مشارق الأرض ومغاربها ، تذكر فيه بأحسن الذكر ، وأفضل الثناء ، جزاء لعملها الفاضل ، وسعيها الكامل ، أي : واذكر في الكتاب مريم ، في حالها الحسنة ، حين (انْتَبَذَتْ) أي : تباعدت عن أهلها (مَكاناً شَرْقِيًّا) أي : مما يلي الشرق عنهم.

[١٧] (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً) أي : سترا ومانعا ، وهذا التباعد منها ، واتخاذ الحجاب ، لتعتزل ، وتنفرد بعبادة ربها ، وتقنت له في حالة الإخلاص والخضوع ، والذل لله تعالى ، وذلك امتثال منها لقوله تعالى : (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) (٤٣). (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) وهو : جبريل عليه‌السلام (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) أي : كاملا من الرجال ، في صورة جميلة ، وهيئة حسنة ، لا عيب فيه ولا نقص ، لكونها لا تحتمل رؤيته على ما هو عليه ، فلما رأته في هذه الحال ، وهي معتزلة عن أهلها ، منفردة عن الناس ، قد اتخذت الحجاب عن أعز الناس عليها ، وهم أهلها ، خافت أن يكون رجلا قد تعرض لها بسوء ، وطمع فيها ، فاعتصمت بربها ، واستعاذت منه فقالت له :

[١٨] (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ) أي : ألتجئ به وأعتصم برحمته ، أن تنالني بسوء (إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) أي : إن كنت تخاف الله ، وتعمل بتقواه ، فاترك التعرض لي ، فجمعت بين الاعتصام بربها ، وبين تخويفه وترهيبه ، وأمره بلزوم التقوى ، وهي في تلك الحالة الخالية ، والشباب ، والبعد عن الناس ، وهو في ذلك الجمال الباهر ، والبشرية الكاملة السوية ، ولم ينطق لها بسوء ، أو يتعرض لها ، وإنما ذلك خوف منها ، وهذا أبلغ ما يكون من العفة ، والبعد عن الشر وأسبابه. وهذه العفة ـ خصوصا مع اجتماع الدواعي ، وعدم المانع ـ من أفضل الأعمال. ولذلك أثنى الله عليها فقال : (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) ، (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) (٩١).

[١٩ ـ ٢٠] فأعاضها الله بعفتها ، ولدا من آيات الله ، ورسولا من رسله ، فلما رأى جبريل منها الروع والخيفة ، قال : (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) أي : إنما وظيفتي وشغلي ، تنيفذ رسالة ربي فيك (لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) ، وهذه بشارة عظيمة بالولد وزكائه ، فإن الزكاء ، يستلزم تطهيره من الخصال الذميمة ، واتصافه بالخصال الحميدة ، فتعجبت من وجود الولد من غير أب فقالت : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) والولد لا يوجد إلا بذلك؟!!

[٢١] (قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) تدل على قدرة الله تعالى ، وعلى أن الأسباب جميعها ، لا تستقل بالتأثير ، وإنما تأثيرها بتقدير الله. فيري عباده خرق العوائد في بعض الأسباب العادية ، لئلا يقفوا

٥٧٣

مع الأسباب ، ويقطعوا النظر عن مقدرها ومسببها (وَرَحْمَةً مِنَّا) ولنجعله رحمة منا به ، وبوالدته ، وبالناس. أما رحمة الله به ، فلما خصه الله بوحيه ومنّ عليه بما منّ به على أولي العزم. وأما رحمته بوالدته ، فلما حصل لها من الفخر ، والثناء الحسن ، والمنافع العظيمة. وأما رحمته بالناس ، فإن أكبر نعمه عليهم ، أن بعث فيهم رسولا ، يتلو عليهم آياته ، ويزكيهم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ، فيؤمنون به ، ويطيعونه ، وتحصل لهم سعادة الدنيا والآخرة. (وَكانَ) أي : وجود عيسى عليه‌السلام على هذه الحالة (أَمْراً مَقْضِيًّا) قضاء سابقا ، فلا بد من نفوذ هذا التقدير والقضاء ، فنفخ جبريل عليه‌السلام في جيبها.

[٢٢ ـ ٢٣] أي : لما حملت بعيسى عليه‌السلام ، خافت من الفضيحة ، فتباعدت عن الناس (مَكاناً قَصِيًّا) ، فلما قرب ولادها ، ألجأها المخاض إلى جذع نخلة ، فلما آلمها وجع الولادة ، ووجع الانفراد عن الطعام والشراب ، ووجع قلبها من قالة الناس ، وخافت عدم صبرها ، تمنت أنها ماتت قبل هذا الحادث ، وكانت نسيا منسيا ، فلا تذكر.

[٢٤] وهذا التمني بناء على ذلك المزعج ، وليس في هذه الأمنية خير لها ، ولا مصلحة ، وإنما الخير والمصلحة ، بتقدير ما حصل فحينئذ سكّن الملك روعها وثبّت جأشها وناداها من تحتها ، لعله من مكان أنزل من مكانها ، و

قال لها : لا تحزني ، أي : لا تجزعي ولا تهتمي ، ف (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) أي : نهرا تشربين منه.

[٢٥] (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا) (٢٥) أي : طريا لذيذا نافعا (فَكُلِي) من التمر ، (وَاشْرَبِي) من النهر (وَقَرِّي عَيْناً) بعيسى ، فهذا طمأنينتها من جهة السلامة من ألم الولادة ، وحصول المأكل والمشرب الهنيّ.

[٢٦] وأما من جهة قالة الناس ، فأمرها أنها إذا رأت أحدا من البشر ، أن تقول على وجه الإشارة : (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) أي : سكوتا (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) أي : لا تخاطبيهم بكلام ، لتستريحي من قولهم وكلامهم. وكان معروفا عندهم أن السكوت من العبادات المشروعة ، وإنما لم تؤمر بمخاطبتهم في نفي ذلك عن نفسها لأن الناس لا يصدقونها ، ولا فيه فائدة ، وليكون تبرئتها بكلام عيسى في المهد ، أعظم شاهد على براءتها. فإن إتيان المرأة بولد ، من دون زوج ودعواها أنه من غير أحد ، من أكبر الدعاوى ، التي لو أقيم عليها عدة من الشهود ، لم تصدق بذلك ، فجعلت بينة هذا الخارق للعادة ، أمرا من جنسه ، وهو كلام عيسى في حال صغره جدا.

[٢٧] ولهذا قال تعالى : (فَأَتَتْ بِهِ) إلى (أُبْعَثُ حَيًّا). أي : فلما تعلت مريم من نفاسها ، أتت بعيسى قومها تحمله ، وذلك ، لعلمها ببراءة نفسها وطهارتها ، فأتت غير مبالية ولا مكترثة ، فقالوا : (لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) أي : عظيما وخيما وأرادوا بذلك : البغاء حاشاها من ذلك.

[٢٨] (يا أُخْتَ هارُونَ) الظاهر ، أنه أخ لها حقيقي ، فنسبوها إليه. (ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) أي : لم يكن أبواك إلا صالحين سالمين من الشر ، وخصوصا هذا الشر ، الذي يشيرون إليه ، وقصدهم : فكيف كنت

٥٧٤

على غير وصفهما؟ وأتيت بما لم يأتيا به؟ وذلك أن الذرية ـ في الغالب ـ بعضها من بعض ، في الصلاح وضده ، فتعجبوا ـ بحسب ما قام بقلوبهم ـ كيف وقع منها. فأشارت لهم إليه ، أي : كلموه.

[٢٩] وإنما أشارت لذلك ، لأنها أمرت عند مخاطبة الناس لها أن تقول : (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) ، فلما أشارت إليهم بتكليمه ، تعجبوا من ذلك وقالوا : (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) لأن ذلك لم تجر به عادة ، ولا حصل من أحد في ذلك السن.

[٣٠] فحينئذ قال عيسى عليه‌السلام ، وهو في المهد صبي : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) ، فخاطبهم بوصفه بالعبودية ، وأنه ليس فيه صفة ، يستحق بها أن يكون إلها ، أو ابنا للإله ، تعالى الله عن قول النصارى المخالفين لعيسى ـ في قوله : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) ومدعون موافقته. (آتانِيَ الْكِتابَ) أي : قضى أن يؤتيني الكتاب (وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) فأخبرهم بأنه عبد الله ، وأن الله علمه الكتاب ، وجعله من جملة أنبيائه ، فهذا من كماله لنفسه. ثم ذكر تكميله لغيره فقال :

[٣١] (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) أي : في أي مكان ، وأي زمان ، فالبركة جعلها الله فيّ من تعليم الخير والدعوة إليه ، والنهي عن الشر ، والدّعوة إلى الله في أقواله ، وأفعاله فكل من جالسه ، أو اجتمع به ، نالته بركته ، وسعد به مصاحبه. (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) أي : أوصاني بالقيام بحقوقه ، التي من أعظمها الصلاة ، وحقوق عباده ، التي أجلها الزكاة ، مدة حياتي ، أي : فأنا ممتثل لوصية ربي ، عامل عليها ، منفذ لها.

[٣٢] وأوصاني أيضا ، أن أبر والدتي فأحسن إليها غاية الإحسان ، وأقوم بما ينبغي لها ، لشرفها وفضلها ، ولكونها والدة ، لها حق الولادة وتوابعها. (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً) أي : متكبرا على الله ، مترفعا على عباده (شَقِيًّا) في دنياي وأخراي ، فلم يجعلني كذلك بل جعلني مطيعا له خاضعا خاشعا متذللا ، متواضعا لعباد الله ، سعيدا في الدنيا والآخرة ، أنا ومن اتبعني.

[٣٣] فلما تم له الكمال ، ومحامد الخصال قال : (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) (٣٣) أي : من فضل ربي وكرمه ، حصلت لي السلامة يوم ولادتي ، ويوم بعثي ـ من الشر ، والشيطان والعقوبة ، وذلك يقتضي سلامته من الأهوال ، ودار الفجار ، وأنه من أهل دار السّلام ، فهذه معجزة عظيمة ، وبرهان باهر ، على أنه رسول الله ، وعبد الله حقا.

[٣٤] أي : ذلك الموصوف بتلك الصفات ، عيسى ابن مريم ، من غير شك ولا مرية ، بل قول الحق ، وكلام الله ، الذي لا أصدق منه قيلا ، ولا أحسن منه حديثا ، فهذا الخبر اليقيني ، عن عيسى عليه‌السلام ، وما قبل فيه مما يخالف هذا ، فإنه مقطوع ببطلانه ، وغايته أن يكون شكا من قائله لا علم له به ، ولهذا قال : (الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) أي : يشكون فيمارون بشكهم ، ويجادلون بخرصهم ، فمن قائل عنه : إنه الله ، أو ابن الله ، أو ثالث ثلاثة ، تعالى الله عن إفكهم وتقوّلهم ، علوا كبيرا.

[٣٥] ف (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) أي : ما ينبغي ولا يليق ، لأن ذلك من الأمور المستحيلة ، لأنه الغني الحميد ، المالك لجميع الممالك ، فكيف يتخذ من عباده ومماليكه ولدا؟ (سُبْحانَهُ) أي : تنزه وتقدس عن الولد والنقص. (إِذا قَضى أَمْراً) أي : من الأمور الصغار والكبار ، لم يمتنع ، عليه ولم يستصعب (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، فإذا كان قدره ومشيئته نافذا في العالم العلوي والسفلي ، فكيف يكون له ولد؟ وإذا كان إذا أراد شيئا قال له : (كُنْ فَيَكُونُ) فكيف يستبعد إيجاده عيسى من غير أب؟!!

[٣٦] ولهذا أخبر عيسى أنه عبد مربوب كغيره فقال : (وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) الذي خلقنا ، وصورنا ، ونفذ فينا تدبيره ، وصرفنا تقديره. (فَاعْبُدُوهُ) أي : أخلصوا له العبادة ، واجتهدوا في الإنابة ، وفي هذا ، الإقرار بتوحيد

٥٧٥

الربوبية ، وتوحيد الإلهية ، والاستدلال بالأول على الثاني ، ولهذا قال : (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي : طريق معتدل ، موصل إلى الله ، لكونه طريق الرسل وأتباعهم ، وما عدا هذا ، فإنه من طرق الغيّ والضلال.

[٣٧] لما بين تعالى حال عيسى ابن مريم الذي لا يشكّ فيها ولا يمترى ، أخبر أن الأحزاب ، أي : فرق الضلال ، من اليهود والنصارى وغيرهم ، على اختلاف طبقاتهم ـ اختلفوا في عيسى عليه‌السلام ، فمن غال فيه وجاف.

فمنهم من قال : إنه الله ، ومنهم ، من قال : إنه ابن الله ، ومنهم من قال : إنه ثالث ثلاثة. ومنهم من لم يجعله رسولا ، بل رماه بأنه ولد بغيّ كاليهود. وكل هؤلاء أقوالهم باطلة ، وآراؤهم فاسدة ، مبنية على الشك والعناد ، والأدلة الفاسدة ، والشبه الكاسدة ، وكل هؤلاء مستحقون للوعيد الشديد ، ولهذا قال : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) بالله ورسله ، وكتبه. ويدخل فيهم ، اليهود والنصارى ، القائلون بعيسى قول الكفر. (مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي : مشهد يوم القيامة ، الذي يشهده الأولون والآخرون ، أهل السموات ، وأهل الأرض ، الخالق والمخلوق ، الممتلئ بالزلازل والأهوال المشتمل على الجزاء بالأعمال ، فحينئذ يتبين ما كانوا يخفون ويبدون ، وما كانوا يكتمون.

[٣٨] (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا) أي : ما أسمعهم وما أبصرهم في ذلك اليوم؟ فيقرون بكفرهم وشركهم ، وأقوالهم ويقولون : (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) ففي القيامة ، يستيقنون حقيقة ما هم عليه. (لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) وليس لهم عذر في هذا الضلال ، لأنهم بين معاند ضال على بصيرة ، عارف بالحق ، صادف عنه ، وبين ضال عن طريق الحق ، متمكن من معرفة الحق والصواب ، ولكنه راض بضلاله وما هو عليه من سوء أعماله ، غير ساع في معرفة الحق من الباطل ، وتأمل كيف قال : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) بعد قوله : (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) ، ولم يقل «فويل لهم» ليعود الضمير إلى الأحزاب ، لأن من الأحزاب المختلفين ، طائفة أصابت الصواب ، ووافقت الحق فقالت في عيسى : «إنه عبد الله ورسوله» فآمنوا به ، واتبعوه ، فهؤلاء مؤمنون ، غير داخلين في هذا الوعيد ، فلهذا خص الله بالوعيد الكافرين.

[٣٩] الإنذار هو : الإعلام بالمخوف على وجه الترهيب ، والإخبار بصفاته ، وأحق ما ينذر به ويخوف به العباد ، يوم الحسرة حين يقضي الأمر ، فيجمع الأولون والآخرون في موقف واحد ، ويسألون عن أعمالهم ، فمن آمن بالله ، واتبع رسله ، سعد سعادة لا يشقى بعدها ، ومن لم يؤمن بالله ويتبع رسله شقي شقاء لا يسعد بعدها ، وخسر نفسه وأهله ، فحينئذ يتحسر ويندم ندامة ، تنقطع منها القلوب ، وتتصدع منها الأفئدة ، وأي : حسرة أعظم من فوات رضا الله وجنته ، واستحقاق سخطه والنار ، على وجه لا يتمكن الرجوع ، ليستأنف العمل ولا سبيل له إلى تغيير حاله بالعودة إلى الدنيا؟

[٤٠] فهذا قدامهم ، والحال أنهم في الدنيا غفلة عن هذا الأمر العظيم لا يخطر بقلوبهم ، ولو خطر ، فعلى سبيل الغفلة ، قد عمتهم الغفلة وشملتهم السكرة ، فهم لا يؤمنون بالله ، ولا يتبعون رسله ، قد ألهتهم دنياهم ،

٥٧٦

وحالت بينهم وبين الإيمان ، شهواتهم المنقضية الفانية ، فالدنيا وما فيها ، من أولها إلى آخرها ، ستذهب عن أهلها ، ويذهبون عنها ، وسيرث الله الأرض ومن عليها ، ويرجعهم إليه ، فيجازيهم بما عملوا فيها ، وما خسروا فيها أو ربحوا ، فمن عمل خيرا ، فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك ، فلا يلومنّ إلا نفسه.

[٤١] أجل الكتب وأفضلها وأعلاها ، هذا الكتاب المبين ، والذكر الحكيم ، فإن ذكر فيه الأخبار ، كانت أصدق الأخبار ، وأحقها ، وأنفعها ، وإن ذكر فيه الأمر والنهي ، كانت أجل الأوامر والنواهي ، وأعدلها وأقسطها ، وإن ذكر فيه الجزاء ، والوعد والوعيد ، كان أصدق الأنباء وأحقها وأدلها على الحكمة ، والعدل والفضل ، وإن ذكر فيه الأنبياء والمرسلون ، كان المذكور فيه ، أكمل من غيره ، وأفضل ، ولهذا كثيرا ما يبدىء ويعيد في قصص الأنبياء ، الّذين فضلهم على غيرهم ، ورفع قدرهم ، وأعلى أمرهم ، بسبب ما قاموا به ، من عبادة الله ومحبته ، والإنابة إليه ، والقيام بحقوقه ، وحقوق العباد ، ودعوة الخلق إلى الله ، والصبر على ذلك ، والمقامات الفاخرة ، والمنازل العالية. فذكر الله في هذه السورة ، جملة من الأنبياء ، يأمر الله رسوله أن يذكرهم ، لأن في ذكرهم إظهار الثناء على الله وعليهم ، وبيان فضله وإحسانه إليهم ، وفيه الحث على الإيمان بهم ، ومحبتهم ، والاقتداء بهم ، فقال : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) (٤١) جمع الله له بين الصديقية والنبوة. فالصديق : كثير الصدق ، فهو الصادق في أقواله ، وأفعاله ، وأحواله المصدق بكل ما أمر بالتصديق به ، وذلك يستلزم العلم العظيم الواصل إلى القلب ، المؤثر فيه ، الموجب لليقين ، والعمل الصالح الكامل ، وإبراهيم عليه‌السلام ، هو أفضل الأنبياء كلهم ، بعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهو الأب الثالث للطوائف الفاضلة ، وهو الذي جعل الله في ذريته النبوة والكتاب ، وهو الذي دعا الخلق إلى الله ، وصبر على ما ناله من العذاب العظيم ، فدعا القريب والبعيد.

[٤٢] واجتهد في دعوة أبيه ، مهما أمكنه. وذكر الله مراجعته إياه فقال : (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ) مهجنا له عبادة الأوثان (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) ، أي : لم تعبد أصناما ، ناقصة في ذاتها ، وفي أفعالها ، فلا تسمع ، ولا تبصر ، ولا تملك لعابدها ، نفعا ولا ضرا ، بل لا تملك لأنفسها شيئا من النفع ، ولا تقدر على شيء من الدفع ، فهذا برهان جليّ دال ، على أن عبادة الناقص ، في ذاته ، وأفعاله ، مستقبح ، عقلا وشرعا. ودل تنبيهه وإشارته ، أن الذي يجب ، ويحسن ، عبادة من له الكمال الذي ، لا ينال العباد نعمة إلا منه ، ولا يدفع عنهم نقمة ، إلا هو ، وهو الله تعالى.

[٤٣] (يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ) أي : يا أبت لا تحقرني وتقول : إني ابنك ، وإن عندك ما ليس عندي ، بل قد أعطاني الله من العلم ، ما لم يعطك ، والمقصود من هذا قوله : (فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) أي : مستقيما معتدلا ، وهو : عبادة الله وحده لا شريك له ، وطاعته في جميع الأحوال ، وفي هذا من لطف الخطاب ولينه ، ما لا يخفى ، فإنه لم يقل «يا أبت أنا عالم ، وأنت جاهل» أو «ليس عندك من العلم شيء» ، وإنما أتى بصيغة أن عندي وعندك علما ، وأن الذي وصل إليّ لم يصل إليك ، ولم يأتك ، فينبغي لك أن تتبع الحجة ، وتنقاد لها.

[٤٤] (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) لأن من عبد غير الله ، فقد عبد الشيطان كما قال تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٦٠). (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) فمن اتبع خطواته ، فقد اتخذه وليا وكان عاصيا لله بمنزلة الشيطان. وفي ذكر إضافة العصيان إلى اسم الرحمن ، إشارة إلى أن المعاصي ، تمنع العبد من رحمة الله ، وتغلق عليه أبوابها ، كما أن الطاعة ، أكبر الأسباب لنيل رحمته.

[٤٥] ولهذا قال : (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ) أي : بسبب إصرارك على الكفر ، وتماديك في الطغيان (فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) أي : في الدنيا والآخرة ، فتنزل بمنازله الذميمة ، وترتع في مراتعه الوخيمة ، فتدرج الخليل عليه‌السلام بدعوة أبيه ، بالأسهل فالأسهل ، فأخبره بعلمه ، وأن ذلك ، موجب لاتباعك إياي وأنك إن

٥٧٧

أطعتني ، اهتديت إلى صراط مستقيم ، ثم نهاه عن عبادة الشيطان ، وأخبره بما فيها من المضار ، ثم حذره عقاب الله ونقمته ، إن أقام على حاله ، وأنه يكون وليا للشيطان.

[٤٦] فلم ينجع هذا الدعاء ، بذلك الشقيّ ، فأجاب بجواب جاهل و (قالَ : أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ) فتبجح بآلهته ، التي هي من الحجر والأصنام ، ولام إبراهيم عن رغبته عنها ، وهذا من الجهل المفرط ، والكفر الوخيم ، يتمدح بعبادة الأوثان ، ويدعو إليها. (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) أي : عن شتم آلهتي ، ودعوتي إلى عبادة الله (لَأَرْجُمَنَّكَ) أي : قتلا بالحجارة (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) أي : لا تكلمني زمانا طويلا. فأجابه الخليل ، جواب عباد الرحمن عند خطاب الجاهلين ، ولم يشتمه بل صبر ، ولم يقابل أباه بما يكره.

[٤٧] و (قالَ : سَلامٌ عَلَيْكَ) أي : ستسلم من خطابي إياك بالشتم والسب ، وبما تكره. (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) أي : لا أزال أدعو الله لك بالهداية والمغفرة ، بأن يهديك للإسلام ، الذي به تحصل المغفرة. ف (إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) أي : رحيما رؤوفا بحالي ، معتنيا بي ، فلم يزل يستغفر الله له ، رجاء أن يهديه الله ، فلما تبين له أنه عدو الله ، وأنه لا يفيد فيه شيئا ، ترك الاستغفار له ، وتبرأ منه. وقد أمرنا الله باتباع ملة إبراهيم ، فمن اتباع ملته ، سلوك طريقه في الدعوة إلى الله ، بطريق العلم والحكمة ، واللين والسهولة ، والانتقال من رتبة إلى رتبة ، والصبر على ذلك ، وعدم السآمة منه ، والصبر على ما ينال الداعي من أذى الخلق ، بالقول والفعل ، ومقابلة ذلك ، بالصفح ، والعفو ، بل بالإحسان القولي والفعلي.

[٤٨] فلما أيس من قومه وأبيه قال : (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي : أنتم وأصنامكم (وَأَدْعُوا رَبِّي) وهذا شامل لدعاء العبادة ، ودعاء المسألة (عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) أي : عسى الله أن يسعدني ، بإجابة دعائي ، وقبول أعمالي ، وهذه وظيفة من أيس ممن دعاهم ، فاتبعوا أهواءهم ، فلم تنجع فيهم المواعظ ، فأصروا في طغيانهم يعمهون. فمن وقع في هذه الحال فعليه أن يشتغل بإصلاح نفسه ، ويرجو القبول من ربه ، ويعتزل الشر وأهله.

[٤٩] ولما كان مفارقة الإنسان لوطنه ومألفه وأهله وقومه ، من أشق شيء على النفس ، لأمور كثيرة معروفة ، ومنها انفراده عمن يتعزز بهم ويتكثر وكان من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه ، واعتزل إبراهيم قومه ، قال الله في حقه : (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا) من إسحق ويعقوب (جَعَلْنا نَبِيًّا) فحصل له ولهؤلاء الصالحين المرسلين إلى الناس ، الّذين خصهم الله بوحيه ، واختارهم لرسالته واصطفاهم من العالمين.

[٥٠] (وَوَهَبْنا لَهُمْ) أي : لإبراهيم وابنيه ، إسحق ويعقوب (مِنْ رَحْمَتِنا) وهذا يشمل جميع ما وهب الله لهم من الرحمة ، من العلوم النافعة ، والأعمال الصالحة ، والذرية الكثيرة المنتشرة ، الّذين قد كثر فيهم الأنبياء والصالحون. (وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) وهذا أيضا من الرحمة التي وهبها لهم ، لأن الله وعد كل محسن ، أن ينشر له ثناء صادقا بحسب إحسانه ، وهؤلاء من أئمة المحسنين ، فنشر الله الثناء الحسن الصادق ، غير الكاذب ، العالي غير الخفي

٥٧٨

فذكرهم ملأ الخافقين ، والثناء عليهم ومحبتهم ، امتلأت بها القلوب ، وفاضت به الألسنة فصاروا قدوة للمقتدين ، وأئمة للمهتدين ، ولا تزال أذكارهم في سائر العصور ، متجددة ، وذلك فضل الله ، يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم.

[٥١] أي : واذكر في هذا القرآن العظيم ، موسى بن عمران ، على وجه التبجيل له والتعظيم ، والتعريف بمقامه الكريم ، وأخلاقه الكاملة. (إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً) وقرىء بفتح اللام ، على معنى أن الله تعالى اختاره واستخلصه ، واصطفاه على العالمين. وقرىء بكسرها ، على معنى أنه كان مخلصا لله تعالى ، في جميع أعماله ، وأقواله ، ونياته ، فوصفه بالإخلاص في جميع أحواله ، والمعنيان متلازمان ، فإن الله أخلصه ، لإخلاصه ، وإخلاصه ، موجب لاستخلاصه. وأجل حالة يوصف بها العبد ، الإخلاص منه ، والاستخلاص من ربه. (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) أي : جمع الله له بين الرسالة والنبوة ، فالرسالة تقتضي تبليغ كلام المرسل ، وتبليغ جميع ما جاء به من الشرع ، دقه وجله. والنبوة ، تقتضي إيحاء الله إليه وتخصيصه بإنزال الوحي إليه. فالنبوة بينه وبين ربه ، والرسالة ، بينه وبين الخلق ، بل خصه الله من أنواع الوحي ، بأجل أنواعه وأفضلها ، وهو : تكليمه تعالى وتقريبه مناجيا لله تعالى ، وبهذا اختص من بين الأنبياء ، بأنه كليم الرحمن.

[٥٢] ولهذا قال : (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) أي : الأيمن من موسى في وقت مسيره ، أو الأيمن أي : الأبرك من «اليمن» والبركة. ويدل على هذا المعنى قوله تعالى : (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها). (وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) والفرق بين النداء والنجاء ، أن النداء هو : الصوت الرفيع ، والنجاء ، ما دون ذلك. وفي هذا إثبات الكلام لله تعالى وأنواعه ، من النداء ، والنجاء ، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة ، خلافا لمن أنكر ذلك ، من الجهمية ، والمعتزلة ، ومن نحا نحوهم.

[٥٣] وقوله : (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) (٥٣) هذا من أكبر فضائل موسى وإحسانه ، ونصحه لأخيه هرون ، أنه سأل ربه أن يشركه في أمره ، وأن يجعله رسولا مثله ، فاستجاب الله له ذلك ، ووهب له من رحمته ، أخاه هرون نبيا. فنبوة هرون ، تابعة لنبوة موسى عليهما‌السلام ، فساعده على أمره ، وأعانه عليه.

[٥٤] (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) (٥٤) أي : واذكر في القرآن الكريم ، هذا النبي العظيم ، الذي خرج منه الشعب العربي ، أفضل الشعوب وأجلها ، الّذين منهم سيد ولد آدم. (إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) أي : لا يعد وعدا ، إلا وفى به ، وهذا شامل للوعد الذي يعقده مع الله أو مع العباد. ولهذا لما وعد من نفسه الصبر على ذبح أبيه له قال : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) وفّى بذلك ومكّن أباه من الذبح ، الذي هو أكبر مصيبة تصيب الإنسان ، ثم وصفه بالرسالة والنبوة ، التي هي أكبر منن الله على عبده ، وجعله من الطبقة العليا من الخلق.

[٥٥] (وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) أي : كان مقيما لأمر الله على أهله فيأمرهم بالصلاة المتضمنة للإخلاص للمعبود ، وبالزكاة المتضمنة للإحسان إلى العبيد ، فكمل نفسه ، وكمل غيره وخصوصا أخص الناس عنده وهم أهله لأنهم أحق بدعوته من غيرهم. (وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) وذلك بسبب امتثاله لمراضي ربه واجتهاده فيما يرضيه ، ارتضاه الله وجعله من خواص عباده وأوليائه المقربين ، فرضي الله عنه ، ورضي هو عن ربه.

[٥٦] أي : اذكر في الكتاب على وجه التعظيم والإجلال ، والوصف بصفات الكمال. (إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) جمع الله له بين الصديقية ، الجامعة للتصديق التام ، والعلم الكامل ، واليقين الثابت ، والعمل الصالح ، وبين اصطفائه لوحيه ، واختياره لرسالته.

[٥٧] (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) (٥٧) أي : رفع الله ذكره في العالمين ، ومنزلته بين المقربين ، فكان عالي الذكر ، عالي المنزلة.

٥٧٩

[٥٨] لما ذكر هؤلاء الأنبياء المكرمين ، وخواص المرسلين ، وذكر فضائلهم ومراتبهم فقال : (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ). أي : أنعم الله عليهم نعمة لا تلحق ، ومنّة لا تسبق ، من النبوة والرسالة. وهم الّذين أمرنا أن ندعو الله أن يهدينا صراط الّذين أنعم عليهم ، وأن من أطاع الله ، كان (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ) الآية. وأن بعضهم (مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) أي : من ذريته (وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ) ، فهذه خير بيوت العالم ، اصطفاهم الله ، واختارهم ، واجتباهم. وكان حالهم عند تلاوة آيات الرحمن عليهم ، المتضمنة للإخبار بالغيوب وصفات علام الغيوب ، والإخبار باليوم الآخر ، والوعد والوعيد. (خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) أي : خضعوا لآيات الله ، وخشعوا لها ، وأثرت في قلوبهم من الإيمان والرغبة والرهبة ، ما أوجب لهم بالبكاء والإنابة ، والسجود لربهم. ولم يكونوا من الّذين إذا سمعوا آيات الله خروا عليها صما وعميانا. وفي إضافة الآيات إلى اسمه (الرَّحْمنِ) دلالة على أن آياته ، من رحمته بعباده ، وإحسانه إليهم حيث هداهم بها إلى الحق ، وبصرهم من العمى ، وأنقذهم من الضلالة ، وعلمهم من الجهالة.

[٥٩] لما ذكر تعالى هؤلاء الأنبياء وهم المخلصون المتبعون لمراضي ربهم ، المنيبون إليه ، ذكر من أتى بعدهم ، وبدّلوا ما أمروا به ، وأنه خلف من بعدهم خلف ، رجعوا إلى الخلف والوراء ، فأضاعوا الصلاة ، التي أمروا بالمحافظة عليها وإقامتها ، فتهاونوا بها وضيعوها ، وإذا ضيعوا الصلاة التي هي عماد الدين ، وميزان الإيمان والإخلاص لرب العالمين ، التي هي آكد الأعمال ، وأفضل الخصال ، كانوا لما سواها من دينهم ، أضيع ، وله أرفض. والسبب الداعي لذلك ، أنهم اتبعوا شهوات أنفسهم وإرادتها فصارت هممهم منصرفة إليها ، مقدمة لها على حقوق الله. فنشأ من ذلك ، التضييع ، لحقوقه ، والإقبال على شهوات أنفسهم ، مهما لاحت لهم ، حصلوها ، وعلى أي وجه اتفقت ، تناولوها. (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) أي : عذابا مضاعفا شديدا.

[٦٠] ثم استثنى تعالى فقال : (إِلَّا مَنْ تابَ) عن الشرك والبدع والمعاصي ، فأقلع عنها وندم عليها ، وعزم عزما جازما أن لا يعاودها. (وَآمَنَ) بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. (وَعَمِلَ صالِحاً) وهو العمل الذي شرعه الله على ألسنة رسله ، إذا قصد به وجهه. (فَأُولئِكَ) الّذين جمعوا بين التوبة والإيمان ، والعمل الصالح. (يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) المشتملة على النعيم المقيم ، والعيش السليم ، وجوار الرب الكريم. (وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) من أعمالهم ، بل يجدونها كاملة موفرة أجورها ، مضاعفا عددها.

[٦١] ثم ذكر أن الجنة التي وعدهم بدخولها ، ليست كسائر الجنات ، وإنما هي (جَنَّاتِ عَدْنٍ) أي : جنات إقامة ، لا ظعن فيها ، ولا حول ولا زوال ، وذلك لسعتها ، وكثرة ما فيها من الخيرات والسرور ، والبهجة والحبور.

(الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ) أي : التي وعدها الرحمن ، أضافها إلى اسمه (الرَّحْمنُ) لأنها فيها من الرحمة. والإحسان ، ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. وسماها تعالى رحمته فقال : (وَأَمَّا الَّذِينَ

٥٨٠