تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي

تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

المؤلف:

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ١١٣٥

ما يدعو إليه ، وذكر تفاصيل ما يدعو إليه ، بتعريفهم لربهم بصفاته المقدسة ، وتنزيهه عمّا لا يليق بجلاله ، وذكر أنواع العبودية ، والدعوة إلى الله بأقرب طريق موصل إليه ، وإعطاء كل ذي حق حقه ، وإخلاص الدعوة إلى الله ، لا إلى نفسه وتعظيمها ، كما قد يعرض ذلك لكثير من النفوس في هذا المقام. وذلك كله (بِإِذْنِهِ) تعالى له في الدعوة وأمره وإرادته وقدره. الخامس : كونه (سِراجاً مُنِيراً) ، وذلك يقتضي أن الخلق في ظلمة عظيمة ، لا نور يهتدى به في ظلماتها ، ولا علم يستدل به في جهاتها. حتى جاء الله بهذا النبي الكريم ، فأضاء الله به تلك الظلمات ، وعلم به من الجهالات ، وهدى به ضلالا إلى الصراط المستقيم. فأصبح أهل الاستقامة ، قد وضّح لهم الطريق ، فمشوا خلف هذا الإمام وعرفوا به الخير والشر ، وأهل السعادة من أهل الشقاوة ، واستناروا به ، لمعرفة معبودهم ، وعرفوه بأوصافه الحميدة ، وأفعاله السديدة ، وأحكامه الرشيدة.

[٤٧] وقوله : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً) (٤٧) ذكر في هذه الجملة ، المبشّرين ، وهم المؤمنون ، وعند ذكر الإيمان بمفرده ، تدخل فيه الأعمال الصالحة. وذكر المبشّر به ، وهو الفضل الكبير ، أي : العظيم الجليل ، الذي لا يقادر قدره ، من النصر في الدنيا ، وهداية القلوب ، وغفران الذنوب ، وكشف الكروب ، وكثرة الأرزاق الدارّة ، وحصول النعم السارة ، والفوز برضا ربهم وثوابه ، والنجاة من سخطه وعقابه. وهذا مما ينشط العاملين ، أن يذكر لهم ، من ثواب الله على أعمالهم ، ما به يستعينون على سلوك الصراط المستقيم. وهذا من جملة حكم المشرع ، كما أن من حكمه ، أن يذكر في مقام الترهيب ، العقوبات المترتبة على ما يرهب منه ، ليكون عونا على الكف عمّا حرّم الله. ولما كان ثمّ طائفة من الناس ، مستعدة للقيام بصد الداعين إلى الله ، من الرسل وأتباعهم ، وهم المنافقون ، الّذين أظهروا الموافقة في الإيمان ، وهم كفرة فجرة في الباطن ، والكفار ظاهرا وباطنا ، نهى الله رسوله عن طاعتهم ، وحذره ذلك فقال :

[٤٨] (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) أي : في كلّ أمر يصد عن سبيل الله. ولكن لا يقتضي هذا أذاهم ، بل لا تطعهم (وَدَعْ أَذاهُمْ) فإن ذلك ، جالب لهم ، وداع إلى قبول الإسلام ، وإلى كف كثير من أذيتهم له ، ولأهله. (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) في إتمام أمرك ، وخذلان عدوك. (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) توكل إليه الأمور المهمة ، فيقوم بها ، ويسهلها على عبده.

[٤٩] يخبر تعالى المؤمنين ، أنهم إذا نكحوا المؤمنات ، ثمّ طلقوهن من قبل أن يمسوهن ، فليس عليهن في ذلك عدة تعتدها أزواجهن عليهن. وأمرهم بتمتيعهن بهذه الحالة ، بشيء من متاع الدنيا ، الذي يكون فيه جبر لخواطرهن ، لأجل فراقهن ، وأن يفارقوهن فراقا جميلا ، من غير مخاصمة ، ولا مشاتمة ، ولا مطالبة ، ولا غير ذلك. ويستدل بهذه الآية ، على أن الطلاق ، لا يكون إلا بعد النكاح. فلو طلقها قبل أن ينكحها ، أو علّق طلاقها على نكاحها ، لم يقع ، لقوله : (إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَ) فجعل الطلاق بعد النكاح. فدل على أنه قبل ذلك لا محل له. وإذا كان الطلاق الذي هو فرقة تامة ، وتحريم تام ، لا يقع قبل النكاح ، فالتحريم الناقص ، لظهار ، أو إيلاء

٨٠١

ونحوه ، من باب أولى وأحرى ، أن لا يقع قبل النكاح ، كما هو أصح قولي العلماء. وعلى جواز الطلاق ، لأن الله أخبر به عن المؤمنين ، على وجه لم يلمهم عليه ، ولم يؤنبهم ، مع تصدير الآية بخطاب المؤمنين. وعلى جوازه قبل المسيس ، كما قال في الآية الأخرى : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ). وعلى أن المطلقة قبل الدخول ، لا عدة لها ، بل بمجرد طلاقها يجوز لها التزوج ، حيث لا مانع ، وعلى أن عليها العدة ، بعد الدخول. وهل المراد بالدخول والمسيس الوطء ، كما هو مجمع عليه؟ أو ، وكذلك الخلوة ، ولو لم يحصل معها وطء ، كما أفتى بذلك الخلفاء الراشدون ، وهو الصحيح. فمتى دخل عليها ، وطئها ، أم لا ، إذا خلا بها ، وجب عليها العدة. وعلى أن المطلقة قبل المسيس ، تمتع على الموسع قدره ، وعلى المقتر قدره ، ولكن هذا إذا لم يفرض لها مهر ، فإن كان لها مهر مفروض ، فإنه إذا طلق قبل الدخول ، تنصّف المهر ، وكفى عن المتعة. وعلى أنه ينبغي لمن فارق زوجته قبل الدخول أو بعده ، أن يكون الفراق جميلا ، يحمد فيه كلّ منهما الآخر. ولا يكون غير جميل ، فإن في ذلك من الشر المترتب عليه ، من قدح كلّ منهما بالآخر ، شيء كثير. وعلى أن العدة حق للزوج. فقوله : (فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ) دل مفهومه ، أن لو طلقها بعد المسيس ، كان له عليها عدة. وعلى أن المفارقة بالوفاة ، تعتد مطلقا ، لقوله : (ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَ) الآية. وعلى أن من عدا غير المدخول بها ، من المفارقات من الزوجات ، بموت أو حياة ، عليهن العدة.

[٥٠] يقول تعالى ، ممتنا على رسوله بإحلاله له ما أحل مما يشترك فيه هو والمؤمنون ، وما ينفرد به ويختص : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ) أي : أعطيتهن مهورهن ، من الزوجات. وهذا من الأمور المشتركة بينه وبين المؤمنين ، فإن المؤمنين كذلك ، يباح لهم من آتوهن أجورهن من الأزواج. (وَ) كذلك أحللنا لك (وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) أي : الإماء الّتي ملك (مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ) من غنيمة الكفار من عبيدهم ، والأحرار من لهن زوج منهم ، ومن لا زوج لهن ، وهذا أيضا مشترك. وكذلك من المشترك ، قوله : (وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ) شمل العم والعمة ، والخال والخالة ، القريبين والبعيدين ، وهذا حصر المحللات. يؤخذ من مفهومه أن ما عداهن من الأقارب ، غير محلل ، كما تقدم في سورة النساء. فإنه لا يباح من الأقارب من النساء ، غير هؤلاء الأربع ، وما عداهن من الفروع مطلقا ، والأصول مطلقا ، إلا فروع الأب والأم ، وإن نزلوا ، وفروع من فوقهم لصلبه ، فإنه لا يباح. وقوله : (اللَّاتِي هاجَرْنَ) قيد لحل هؤلاء للرسول ، كما هو الصواب من القولين ، في تفسير هذه الآية. وأما غيره عليه الصلاة والسّلام ، فقد علم أن هذا قيد لغير الصحة. (وَ) أحللنا لك (امْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِ) بمجرد هبتها نفسها. (إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها) أي : هذا تحت الإرادة والرغبة. (خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) يعني : إباحة الموهوبة. وأما المؤمنون ، فلا يحل لهم أن يتزوجوا امرأة بمجرد هبتها نفسها لهم. (قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) أي : قد علمنا ما على المؤمنين ، وما يحل لهم ، وما لا يحل ، من الزوجات وملك اليمين. وقد أعلمناهم بذلك ، وبينا فرائضه. فما في هذه الآية ، مما يخالف ذلك ، فإنه خاص ، لكون الله جعله خطابا للرسول وحده بقوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ) إلى آخر الآية. وقوله : (خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) أي : وأبحنا لك يا أيها النبي ما لم نبح لهم ، ووسعنا عليك ما لم نوسع على غيرك. (لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ) وهذا من زيادة اعتناء الله تعالى برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي : لم يزل متصفا بالمغفرة والرحمة ، وينزل على عباده من مغفرته ورحمته ، وجوده وإحسانه ، ما اقتضته حكمته ، ووجدت منهم أسبابه.

[٥١] وهذا أيضا من توسعة الله على رسوله ورحمته به ، أن أباح له ترك القسم بين زوجاته ، على وجه الوجوب ، وأنه إن فعل ذلك ، فهو تبرع منه. ومع ذلك ، فقد كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجتهد في القسم بينهن في كلّ شيء ، ويقول : «اللهم هذا قسمي فيما أملك ، فلا تلمني فيما لا أملك».

٨٠٢

فقال هنا : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَ) أي : تؤخر من أردت من زوجاتك فلا تؤويها إليك ، ولا تبيت عندها. (وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) أي : تضمها وتبيت عندها. (وَ) مع ذلك لا يتعين هذا الأمر (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ) أي : أن تؤويها (مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ). والمعنى أن الخيرة بيدك في ذلك كله. وقال كثير من المفسرين : إن هذا خاص بالواهبات ، له أن يرجي من يشاء ، ويؤوي من يشاء. أي : إن شاء قبل من وهبت نفسها له ، وإن شاء لم يقبلها ، والله أعلم. ثمّ بيّن الحكمة في ذلك فقال : (ذلِكَ) أي : التوسعة عليك ، وكون الأمر راجعا إليك وبيدك ، وكون ما جاء منك إليهن تبرعا منك (أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَ) لعلمهن أنك لم تترك واجبا ، ولم تفرط في حق لازم. (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ) أي : ما يعرض لها عند أداء الحقوق الواجبة والمستحبة ، وعند المزاحمة في الحقوق ، فلذلك شرع لك التوسعة يا رسول الله ، لتطمئن قلوب زوجاتك. (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً) أي : واسع العلم ، كثير الحلم. ومن علمه ، أن شرع لكم ما هو أصلح لأموركم ، وأكثر لأجوركم. ومن حلمه ، أن لم يعاقبكم بما صدر منكم ، وما أصرت عليهم قلوبكم من الشر.

[٥٢] وهذا شكر من الله ، الذي لم يزل شكورا ، لزوجات رسوله ، رضي الله عنهن ، حيث اخترن الله ورسوله والدار الآخرة ، أن رحمهن ، وقصر رسوله عليهن فقال : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) زوجاتك الموجودات (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ) أي : ولا أن تطلق بعضهن ، فتأخذ بدلها. فحصل بهذا ، أمنهن من الضرائر ، ومن الطلاق ، لأن الله قضى أنهن زوجاته في الدنيا والآخرة ، لا يكون بينه وبينهن فرقة. (وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَ) أي : حسن غيرهن ، فلا يحللن لك (إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) أي : السراري ، فذلك جائز لك ، لأن المملوكات ، في كراهة الزوجات ، لسن بمنزلة الزوجات ، في الإضرار للزوجات. (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) أي : مراقبا للأمور ، وعالما بما إليه تؤول وقائما بتدبيرها على أكمل نظام ، وأحسن أحكام.

[٥٣] يأمر تعالى عباده المؤمنين ، بالتأدب مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في دخول بيوته فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ) أي : لا تدخلوها بغير إذن للدخول فيها ، لأجل الطعام. وأيضا (غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) أي : منتظرين استواءه ، ومتحينين نضجه ، أو سعة صدر بعد الفراغ منه. والمعنى : إنكم لا تدخلوا بيوت النبي إلا بشرطين : الإذن لكم بالدخول ، وأن يكون جلوسكم بمقدار الحاجة ، ولهذا قال : (وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) أي : قبل الطعام وبعده. ثمّ بيّن حكمة النهي وفائدته فقال : (إِنَّ ذلِكُمْ) أي : انتظاركم الزائد على الحاجة. (كانَ يُؤْذِي النَّبِيَ) أي : يتكلف منه ويشق عليه حبسكم إياه عن شؤون بيته ، وإشغاله فيه (فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ) أن يقول لكم : «اخرجوا» كما هو جاري العادة ، أن الناس ـ وخصوصا أهل الكرم منهم ـ يستحيون أن يخرجوا الناس من مساكنهم. (وَ) لكن (اللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ). فالأمر الشرعي ، ولو كان يتوهم أن في تركه أدبا وحياء ، فإن الحزم كلّ الحزم ، اتباع الأمر

٨٠٣

الشرعي ، وأن يجزم أن ما خالفه ، ليس من الأدب في شيء. والله تعالى لا يستحي أن يأمركم ، بما فيه الخير لكم ، والرفق لرسوله كائنا ما كان. فهذا أدبهم في الدخول في بيوته. وأما أدبهم معه في خطاب زوجاته ، فإنه إما أن يحتاج إلى ذلك ، أو لا يحتاج إليه. فإن لم يحتج إليه ، فلا حاجة إليه ، والأدب تركه. وإن احتيج إليه ، كأن يسألهن متاعا ، أو غيره من أواني البيت أو نحوها ، فإنهن يسألن (مِنْ وَراءِ حِجابٍ) أي : يكون بينكم وبينهن ستر ، يستر عن النظر ، لعدم الحاجة إليه. فصار النظر إليهن ممنوعا بكل حال ، وكلامهن فيه التفصيل الذي ذكره الله. ثمّ ذكر حكمة ذلك بقوله : (ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَ) أنه أبعد عن الريبة. وكلما بعد الإنسان عن الأسباب الداعية إلى الشر ، فإنه أسلم له ، وأطهر لقلبه. فلهذا ، من الأمور الشرعية الّتي بيّن الله كثيرا من تفاصيلها ، أن جميع وسائل الشر وأسبابه ومقدماته ، ممنوعة ، وأنه مشروع البعد عنها ، بكل طريق. ثمّ قال كلمة جامعة وقاعدة عامة : (وَما كانَ لَكُمْ) يا معشر المؤمنين ، أي : غير لائق ولا مستحسن منكم ، بل هو أقبح شيء. (أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) أي : أذية قولية أو فعلية ، بجميع ما يتعلق به. (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) هذا من جملة ما يؤذيه ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، له مقام التعظيم ، والرفعة والإكرام ، وتزوج زوجاته بعده ، مخل بهذا المقام. وأيضا ، فإنهن زوجاته في الدنيا والآخرة ، والزوجية باقية بعد موته ، فلذلك لا يحل نكاح زوجاته بعده ، لأحد من أمته. (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً) وقد امتثلت هذه الأمة هذا الأمر ، واجتنبت ما نهى الله عنه منه ، ولله الحمد والشكر.

[٥٤] ثمّ قال تعالى : (إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً) أي : تظهروه (أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) يعلم ما في قلوبكم ، وما أظهرتموه ، فيجازيكم عليه.

[٥٥] لما ذكر أنهن لا يسألن متاعا إلا من وراء حجاب ، وكان اللفظ عاما لكل أحد ، احتيج أن يستثنى منه هؤلاء المذكورون ، من المحارم ، وأنه (لا جُناحَ عَلَيْهِنَ) في عدم الاحتجاب عنهم. ولم يذكر فيها الأعمام ، والأخوال ، لأنهن ، إذا لم يحتجبن عمّن هن عماته وخالاته ، من أبناء الإخوة والأخوات ، مع رفعتهن عليهم ، فعدم احتجابهن عن عمهن وخالهن ، من باب أولى ، ولأن منطوق الآية الأخرى ، المصرحة بذكر العم والخال مقدمة ، على ما يفهم من هذه الآية. وقوله : (وَلا نِسائِهِنَ) أي : اللاتي من جنسهن في الدين ، فيكون ذلك مخرجا لنساء الكفار. ويحتمل أن المراد جنس النساء ، فإن المرأة لا تحتجب عن المرأة. (وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) ما دام العبد في ملكها جميعه. ولما رفع الجناح عن هؤلاء ، شرط فيه وفي غيره ، لزوم تقوى الله ، وأن لا يكون في ذلك محذور شرعي فقال : (وَاتَّقِينَ اللهَ) أي : استعملن تقواه في جميع الأحوال (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) يشهد أعمال العباد ، ظاهرها وباطنها ، ويسمع أقوالهم ، ويرى حركاتهم ، ثمّ يجازيهم على ذلك ، أتم الجزاء وأوفاه.

[٥٦] وهذا فيه تنبيه على كمال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورفعة درجته ، وعلو منزلته عند الله وعند خلقه ، ورفع ذكره. و (إِنَّ اللهَ) تعالى (وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) أي : يثني الله عليه بين الملائكة ، وفي الملأ الأعلى ، لمحبته تعالى

٨٠٤

إياه. ويثني عليه الملائكة المقربون ، ويدعون له ويتضرعون. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) اقتداء بالله وملائكته ، وجزاء له على بعض حقوقه عليكم ، وتكميلا لإيمانكم ، وتعظيما له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومحبة وإكراما ، وزيادة في حسناتكم ، وتكفيرا عن سيئاتكم. وأفضل هيئات الصلاة عليه عليه الصلاة والسّلام ، ما علمه أصحابه «اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد» وهذا الأمر بالصلاة والسّلام عليه مشروع في جميع الأوقات وأوجبه كثير من العلماء في الصلاة.

[٥٧] لما أمر تعالى بتعظيم رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبالصلاة والسّلام عليه ، نهى عن أذيته ، وتوعد عليها فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) وهذا يشمل كلّ أذية ، قولية أو فعلية ، من سب وشتم ، أو تنقص له ، أو لدينه ، أو ما يعود إليه بالأذى. (لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا) أي : أبعدهم وطردهم ، ومن لعنهم في الدنيا ، أنه يتحتم قتل من شتم الرسول ، وآذاه. (وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً) جزاء له على أذاه ، أن يؤذى بالعذاب المهين ، فأذية الرسول ليست كأذية غيره ، لأنه لا يؤمن العبد بالله ، حتى يؤمن برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وله من التعظيم ، الذي هو من لوازم الإيمان ، ما يقتضي ذلك أن لا يكون مثل غيره.

[٥٨] وإن كان أذية المؤمنين عظيمة ، وإثمها عظيما ، ولهذا قال فيها : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) أي : بغير جناية منهم موجبة للأذى (فَقَدِ احْتَمَلُوا) على ظهورهم (بُهْتاناً) حيث آذوهم بغير سبب (وَإِثْماً مُبِيناً) حيث تعدوا عليهم ، وانتهكوا حرمة أمر الله باحترامها. ولهذا كان سبّ آحاد المؤمنين ، موجبا للتعزير ، بحسب حالته وعلو مرتبته. فتعزير من سبّ الصحابة أبلغ ، وتعزير من سبّ العلماء وأهل الدين ، أعظم من غيرهم.

[٥٩] هذه الآية ، هي الّتي تسمى آية الحجاب ، فأمر الله نبيه ، أن يأمر النساء عموما ، ويبدأ بزوجاته وبناته ، لأنهن آكد من غيرهن ، ولأن الآمر لغيره ، ينبغي أن يبدأ بأهله ، قبل غيرهم كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً). أن (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) وهن اللاتي يكن فوق الثياب من ملحفة وخمار ورداء ونحوه ، أي : يغطين بها ، وجوههن وصدورهن. ثمّ ذكر حكمة ذلك فقال : (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ) دلّ على وجود أذية ، إن لم يحتجبن ، وذلك لأنهن إذا لم يحتجبن ، ربما ظن أنهن غير عفيفات ، فيتعرض لهن من في قلبه مرض ، فيؤذيهن. وربما استهين بهن ، وظن أنهن إماء ، فتهاون بهن من يريد الشر. فالاحتجاب حاسم لمطامع الطامعين فيهن. (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) حيث غفر لكم ما سلف ، ورحمكم ، بأن بيّن لكم الأحكام ، وأوضح الحلال والحرام ، فهذا سد للباب من جهتين.

[٦٠] وأما من جهة أهل الشر فقد توعدهم بقوله : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي : مرض شك أو شهوة (وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) أي : المخوفون المرهبون الأعداء ، المتحدثون بكثرتهم وقوتهم ، وضعف

٨٠٥

المسلمين. ولم يذكر المعمول الذي ينتهون عنه ، ليعم ذلك ، كل ما توحي به أنفسهم إليهم ، وتوسوس به ، وتدعو إليه من الشر ، من التعريض بسبّ الإسلام وأهله ، والإرجاف بالمسلمين ، وتوهين قواهم ، والتعرض للمؤمنات بالسوء والفاحشة ، وغير ذلك من المعاصي الصادرة ، من أمثال هؤلاء. (لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) أي : نأمرك بعقوبتهم وقتالهم ، ونسلطك عليهم. ثمّ إذا فعلنا ذلك ، لا طاقة لهم بك ، وليس لهم قوة ولا امتناع. ولهذا قال : (ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً) أي : لا يجاورونك في المدينة إلا قليلا ، بأن تقتلهم أو تنفيهم.

[٦١] وهذا فيه دليل ، لنفي أهل الشر ، الّذين يتضرر بإقامتهم بين أظهر المسلمين ، فإن ذلك أحسم للشر ، وأبعد منه ، ويكونون (مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) (٦١) أي : مبعدين ، حيث وجدوا ، لا يحصل لهم أمن ، ولا يقر لهم قرار ، يخشون أن يقتلوا ، أو يحبسوا ، أو يعاقبوا.

[٦٢] (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) أن من تمادى في العصيان ، وتجرأ على الأذى ، ولم ينته منه ، فإنه يعاقب عقوبة بليغة. (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) أي : تغييرا ، بل سنّته تعالى وعادته ، جارية مع الأسباب المقتضية لمسبباتها.

[٦٣] أي يستخبرك الناس عن الساعة ، استعجالا لها ، وبعضهم تكذيبا لوقوعها ، وتعجيزا للذي أخبر بها. (قُلْ) لهم : (إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) أي : لا يعلمها إلا الله ، فليس لي ، ولا لغيري بها علم. ومع هذا ، فلا تستبطئوها. (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) ومجرد مجيء الساعة ، قربا وبعدا ، ليس تحته نتيجة ولا فائدة ، وإنّما النتيجة والخسار ، والربح ، والشقاوة والسعادة ، هل يستحق العبد العذاب ، أو يستحق الثواب؟ فهذه سأخبركم بها ، وأصف لكم مستحقها.

[٦٤] فوصف مستحق العذاب ، ووصف العذاب ، لأن الوصف المذكور ، منطبق على هؤلاء المكذبين بالساعة فقال : (إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ) أي : الّذين صار الكفر دأبهم وطريقتهم ، الكفر بالله وبرسله ، وبما جاءوا به من عند الله ، فأبعدهم الله في الدنيا والآخرة من رحمته ، وكفى بذلك عقابا. (وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً) أي : نارا موقدة ، تسعر في أجسامهم ، ويبلغ العذاب إلى أفئدتهم ، ويخلدون في ذلك العذاب الشديد ، فلا يخرجون منه ، ولا يفتّر عنهم ساعة.

[٦٥] (لا يَجِدُونَ وَلِيًّا) فيعطيهم ما طلبوه (وَلا نَصِيراً) يدفع عنهم العذاب.

[٦٦] بل قد تخلى عنهم النصير ، وأحاط بهم عذاب السعير ، وبلغ منهم مبلغا عظيما. ولهذا قال : (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) فيذوقون حرها ، ويشتد عليهم أمرها ، ويتحسرون على ما أسلفوا. (يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) فسلمنا من هذا العذاب ، واستحققنا كالمطيعين جزيل الثواب. ولكن أمنية فات وقتها ، فلم تفدهم إلا حسرة وندما ، وهمّا ، وغمّا ، وألما.

[٦٧] (وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا) وقلدناهم على ضلالهم. (فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا). كقوله تعالى : (وَيَوْمَ

٨٠٦

يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ) الآية.

[٦٨] ولما علموا أنهم ، وكبراءهم ، مستحقون للعقاب ، أرادوا أن يشتفوا ممن أضلوهم ، فقالوا : (رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) (٦٨) فيقول الله لكل ضعف ، فكلكم اشتركتم في الكفر والمعاصي ، فتشتركون في العقاب ، وإن تفاوت عذاب بعضكم على بعض بحسب تفاوت الجرم.

[٦٩] يحذر تعالى عباده المؤمنين عن أذية رسولهم ، محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، النبي الكريم ، الرؤوف الرحيم ، لئلا يقابلوه بضد ما يجب له من الإكرام والاحترام ، وأن لا يتشبهوا بحال الّذين آذوا موسى بن عمران ، كليم الرحمن ، فبرأه الله مما قالوا من الأذية ، أي أظهر الله لهم براءته. والحال أنه عليه الصلاة والسّلام ، ليس محل التهمة والأذية ، فإنه كان وجيها عند الله ، مقربا لديه ، من خواص المرسلين ، ومن عباد الله المخلصين ؛ فلم يزجرهم ما له من الفضائل ، عن أذيته ، والتعرض له بما يكره ، فاحذروا أيها المؤمنون ، أن تتشبهوا بهم في ذلك. والأذية المشار إليها هي قول بني إسرائيل عن موسى ، لما رأوا شدة حيائه وتستره عنهم : «إنه ما يمنعه من ذلك إلا أنه آدر» أي : كبير الخصيتين ، واشتهر ذلك عندهم. فأراد أن يبرئه منهم ، فاغتسل يوما ، ووضع ثوبه على حجر ، ففر الحجر بثوبه ، فأهوى موسى عليه‌السلام في طلبه ، فمرّ به على مجالس بني إسرائيل ، فرأوه أحسن خلق الله ، فزال عنه ما رموه به.

[٧٠] يأمر تعالى المؤمنين بتقواه ، في جميع أحوالهم ، في السر والعلانية ، ويخص منها ، ويندب للقول السديد ، وهو القول الموافق للصواب ، أو المقارب له ، عند تعذر اليقين ، من قراءة ، وذكر ، وأمر بمعروف ، ونهي عن منكر ، وتعلم علم وتعليمه ، والحرص على إصابة الصواب ، في المسائل العلمية ، وسلوك كلّ طريق يوصل لذلك ، وكل وسيلة تعين عليه. ومن القول السديد ، لين الكلام ولطفه ، في مخاطبة الأنام ، والقول المتضمن للنصح ، والإشارة بما هو الأصلح.

[٧١] ثمّ ذكر ما يترتب على تقواه ، وقول القول السديد فقال : (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ) أي : يكون ذلك سببا لصلاحها ، وطريقا لقبولها ؛ لأن استعمال التقوى ، تتقبل به الأعمال كما قال تعالى : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ). ويوفق فيه الإنسان للعمل الصالح ، ويصلح الله الأعمال أيضا ، بحفظها عمّا يفسدها ، وحفظ ثوابها ومضاعفته. كما أن الإخلال بالتقوى ، والقول السديد سبب لفساد الأعمال ، وعدم قبولها ، وعدم ترتّب آثارها عليها. (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) أيضا (ذُنُوبَكُمْ) الّتي هي السبب في هلاككم. فبالتقوى تستقيم الأمور ، ويندفع بها كلّ محذور ولهذا قال : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً).

[٧٢] يعظم تعالى شأن الأمانة ، الّتي ائتمن الله عليها المكلفين ، الّتي هي امتثال الأوامر ، واجتناب المحارم ، في حال السر والخفية ، كحال العلانية. وأنه تعالى عرضها على المخلوقات العظيمة ، والسموات والأرض والجبال ، عرض تخيير لا تحتيم ، وأنك إن قمت بها وأدّيتها على وجهها ، فلك الثواب ، وإن لم تقم بها ، ولم تؤدها ، فعليك العقاب ، (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها) أي خوفا أن لا يقمن بما حملن ، لا عصيانا لربهن ، ولا زهدا في ثوابه. وعرضها الله على الإنسان ، على ذلك الشرط المذكور ، فقبلها ، وحملها مع ظلمه وجهله ، وحمل هذا الحمل الثقيل. فانقسم الناس ـ بحسب قيامهم بها وعدمه ـ إلى ثلاثة أقسام : منافقون : قاموا بها ظاهرا لا باطنا ، ومشركون : تركوها ظاهرا وباطنا ، ومؤمنون : قائمون بها ظاهرا وباطنا. فذكر الله تعالى أعمال هؤلاء الأقسام الثلاثة ، وما لهم من الثواب والعقاب فقال :

[٧٣] (لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٧٣). فله تعالى الحمد ، حيث ختم هذه الآية بهذين الاسمين الكريمين ، الدالين على تمام مغفرة الله ،

٨٠٧

وسعة رحمته ، وعموم جوده ، مع أن المحكوم عليهم ، كثير منهم ، لم يستحق المغفرة والرحمة ، لنفاقه وشركه. تم تفسير سورة الأحزاب.

سورة سبأ

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] الحمد : الثناء بالصفات الحميدة ، والأفعال الحسنة ، فلله تعالى الحمد ، لأن جميع صفاته ، يحمد عليها ، لكونها صفات كمال ، وأفعاله ، يحمد عليها ، لأنها دائرة بين الفضل الذي يحمد عليه ويشكر ، والحمد الذي يحمد عليه ويعترف بحكمته فيه. وحمد نفسه هنا ، على أن (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ملكا وعبيدا ، يتصرف فيهم بحمده. (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) لأن في الآخرة ، يظهر من حمده ، والثناء عليه ، ما لا يكون في الدنيا. فإذا قضى الله تعالى بين الخلائق كلهم ، ورأى الناس والخلق كلهم ، ما حكم به ، وكمال عدله وقسطه ، وحكمته فيه ، حمدوه كلهم على ذلك. حتى أهل العقاب ما دخلوا النار ، إلا وقلوبهم ممتلئة من حمده ، وأن عذابهم من جراء أعمالهم ، وأنه عادل في حكمه بعقابهم. وأما ظهور حمده في دار النعيم والثواب ، فذلك شيء ، قد تواردت وتواترت به الأخبار ، وتوافق عليه الدليل السمعي والعقلي. فإنهم في الجنة ، يرون من توالي نعم الله ، وإدرار خيره ، وكثرة بركاته ، وسعة عطاياه ، الّتي لا يبقى في قلوب أهل الجنة أمنية ، ولا إرادة ، إلا وقد أعطى منها كلّ واحد منهم ، فوق ما تمنى وأراد. بل يعطون من الخير ما لم تتعلق به أمانيهم ، ولا يخطر بقلوبهم. فما ظنك بحمدهم لربهم في هذه الحال ، مع أن في الجنة ، تضمحل العوارض والقواطع ، الّتي تقطع عن معرفة الله ، ومحبته ، والثناء عليه ، ويكون ذلك أحب إلى أهلها من كلّ نعيم ، وألذ عليهم من كلّ لذة. ولهذا إذا رأوا الله تعالى ، وسمعوا كلامه عند خطابه لهم ، أذهلهم ذلك عن كلّ نعيم ، ويكون الذكر لهم في الجنة كالنّفس ، متواصلا في جميع الأوقات. هذا إذا أضفت ذلك إلى أنه يظهر لأهل الجنة ، في الجنة ، كل وقت ، من عظمة ربهم ، وجلاله ، وجماله ، وسعة كماله ، ما يوجب لهم كمال الحمد ، والثناء عليه. (وَهُوَ الْحَكِيمُ) في ملكه وتدبيره ، الحكيم في أمره ونهيه. (الْخَبِيرُ) المطلع على سرائر الأمور وخفاياها. ولهذا فصل علمه بقوله :

[٢] (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) أي : من مطر ، وبذر ، وحيوان (وَما يَخْرُجُ مِنْها) من أنواع النباتات ، وأصناف الحيوانات (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) من الأملاك والأرزاق ، والأقدار (وَما يَعْرُجُ فِيها) من الملائكة والأرواح وغير ذلك. ولما ذكر مخلوقاته وحكمته فيها ، وعلمه بأحوالها ، ذكر مغفرته ورحمته لها ، فقال : (وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) أي : الذي ، الرحمة والمغفرة وصفه ، ولم تزل آثارهما تنزل على العباد كلّ وقت بحسب ما قاموا به من مقتضياتهما.

[٣] لما بيّن تعالى ، عظمته ، بما وصف به نفسه ، وكان هذا موجبا لتعظيمه وتقديسه ، والإيمان به ، ذكر أن من أصناف الناس ، طائفة لم تقدر ربها حق قدره ، ولم تعظمه حق عظمته ، بل كفروا به ، وأنكروا قدرته على إعادة

٨٠٨

الأموات ، وقيام الساعة ، وعارضوا بذلك رسله ، فقال : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : بالله وبرسله ، وبما جاءوا به. فقالوا بسبب كفرهم : (لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) أي : ما هي ، إلا هذه الحياة الدنيا ، نموت ونحيا. فأمر الله رسوله ، أن يرد قوله ويبطله ، ويقسم على البعث ، وأنه سيأتيهم فقال : (قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) ، واستدل على ذلك بدليل من أقرّ به ، لزمه أن يصدق بالبعث ضرورة ، وهو علمه تعالى الواسع العام فقال : (عالِمِ الْغَيْبِ) أي : الأمور الغائبة عن أبصارنا ، وعن علمنا ، فكيف بالشهادة؟ ثمّ أكّد علمه فقال : (لا يَعْزُبُ عَنْهُ) أي : لا يغيب عن علمه (مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) أي : جميع الأشياء بذواتها وأجزائها ، حتى أصغر ما يكون من الأجزاء ، وهي المثاقيل منها. (وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي : قد أحاط به علمه ، وجرى به قلمه ، وتضمنه الكتاب المبين ، الذي هو اللوح المحفوظ. فالذي لا يخفى عن علمه مثقال الذرة فما دونه ، في جميع الأوقات ، ويعلم ما تنقص الأرض من الأموات ، وما يبقى من أجسادهم ، قادر على بعثهم ، من باب أولى ، وليس بعثهم بأعجب من هذا العلم المحيط.

[٤] ثمّ ذكر المقصود من البعث فقال : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) بقلوبهم ، وصدقوا الله ، وصدقوا رسله تصديقا جازما (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) تصديقا لإيمانهم. (أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لذنوبهم ، بسبب إيمانهم وعملهم ، يندفع بها كل شر وعقاب. (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) بإحسانهم ، يحصل لهم به كلّ مطلوب ومرغوب وأمنية.

[٥] (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ) أي : سعوا فيها كفرا بها ، وتعجيزا لمن جاء بها ، وتعجيزا لمن أنزلها ، كما عجزوه في الإعادة بعد الموت. (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) أي : مؤلم لأبدانهم ، وقلوبهم.

[٦] لما ذكر تعالى إنكار من أنكر البعث ، وأنهم يرون ما أنزل على رسوله ليس بحق ، ذكر حالة الموفقين من العباد ، وهم أهل العلم ، وأنهم يرون ما أنزل الله على رسوله ، من الكتاب ، وما اشتمل عليه من الأخبار ، هو الحقّ ، منحصر فيه ، وما خالفه وناقضه ، فإنه باطل ، لأنهم وصلوا من العلم إلى درجة اليقين. ويرون أيضا أنه في أوامره ونواهيه (يَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) وذلك لأنهم جزموا بصدق ما أخبر به من وجوه كثيرة. من جهة علمهم ، بصدق ما أخبر به. ومن جهة موافقته للأمور الواقعة ، والكتب السابقة. ومن جهة ما يشاهدون من أخبارها ، الّتي تقع عيانا. ومن جهة ما يشاهدون من الآيات العظيمة الدالة عليها في الآفاق ، وفي أنفسهم. ومن جهة موافقتها ، لما دلت عليه أسماؤه تعالى وأوصافه. ويرون في الأوامر والنواهي ، أنها تهدي إلى الصراط المستقيم ، وبر الوالدين ، وصلة الأرحام ، والإحسان إلى عموم الخلق ، ونحو ذلك. وتنهى عن كلّ صفة قبيحة ، تدنس النفس ، وتحبط الأجر ، وتوجب الإثم والوزر ، من الشرك ، والربا ، والظلم في الدماء والأموال ، والأعراض. وهذه منقبة لأهل العلم وفضيلة ، وعلامة لهم ، وأنه كلما كان العبد أعظم علما وتصديقا بأخبار ما جاء به الرسول ، وأعظم معرفة بحكم أوامره ونواهيه ، كان من أهل العلم الّذين جعلهم الله حجة على ما جاء به الرسول ، احتج الله بهم على المكذبين المعاندين ، كما في هذه الآية وغيرها.

٨٠٩

[٧] أي : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) على وجه التكذيب والاستهزاء والاستبعاد. أي : قال بعضهم لبعض : (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) يعنون بذلك الرجل ، رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه رجل أتى بما يستغرب منه ، حتى صار ـ بزعمهم ـ فرجة يتفرجون عليه ، وأعجوبة يسخرون منه. وأنه كيف يقول : (إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ) بعد ما مزقكم البلى ، وتفرقت أوصالكم ، واضمحلت أعضاؤكم؟

[٨] فهذا الرجل الذي أتى بذلك ، هل (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) فتجرأ عليه وقال ما قال ، (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ)؟ فلا يستغرب منه ، فإن الجنون فنون. وكان هذا منهم ، على وجه العناد والظلم ، ولقد علموا ، أنه أصدق خلق الله وأعقلهم ، ومن علمهم ، أنهم أبدأوا وأعادوا في معاداتهم ، وبذلوا أنفسهم وأموالهم ، في صد الناس عنه ؛ فلو كان كاذبا مجنونا ـ يا أهل العقول غير الزاكية ـ لم ينبغ أن تصغوا لما قال ، ولا أن تحتفلوا بدعوته. فإن المجنون ، لا ينبغي للعاقل أن يلفت إليه نظره ، أو يبلغ قوله منه ، كل مبلغ. ولو لا عنادكم وظلمكم ، لبادرتم لإجابته ، ولبيتم دعوته ، ولكن (ما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) ولهذا قال تعالى : (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) ومنهم الّذين قالوا تلك المقالة. (فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) أي : في الشقاء العظيم ، والضلال البعيد ، الذي ليس بقريب من الصواب. وأي شقاء وضلال ، أبلغ من إنكارهم لقدرة الله على البعث ، وتكذيبهم لرسوله ، الذي جاء به ، واستهزائهم به ، وجزمهم بأن ما جاءوا به هو الحقّ ، فرأوا الحقّ باطلا ، والباطل والضلال حقا وهدى.

[٩] ثمّ نبههم على الدليل العقلي ، الدال على عدم استبعاد البعث ، الذي استبعدوه ، وأنهم لو نظروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم ، من السماء والأرض لرأوا من قدرة الله فيهما ، ما يبهر العقول ، ومن عظمته ما يذهل العلماء الفحول ، وأن خلقهما وعظمتهما ، وما فيهما من المخلوقات ، أعظم من إعادة الناس ـ بعد موتهم ـ من قبورهم. فما الحامل لهم ، على ذلك التكذيب ، مع التصديق بما هو أكبر منه؟ نعم ذاك خبر غيبي إلى الآن ، ما شاهدوه ، فلذلك كذبوا به. قال الله : (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) أي : من العذاب ، لأن الأرض والسماء ، تحت تدبيرنا ، فإن أمرناهما ، لم يستعصيا. فاحذروا إصراركم على تكذيبكم ، فنعاقبكم أشد العقوبة. (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : خلق السموات والأرض ، وما فيهما من المخلوقات (لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) راجع إلى ربه ، ومطيع له ، فيجزم بأن الله قادر على البعث. فكلما كان العبد أعظم إنابة إلى الله ، كان انتفاعه بالآيات أعظم ، لأن المنيب مقبل إلى ربه ، قد توجهت إرادته وهماته لربه ، ورجع إليه في كلّ أمر من أموره ، فصار قريبا من ربه ، ليس له هم إلا الاشتغال بمرضاته. فيكون نظره للمخلوقات ، نظر فكر وعبرة ، لا نظر غفلة غير نافعة.

[١٠ ـ ١١] أي : ولقد مننا على عبدنا ورسولنا ، داود عليه الصلاة والسّلام ، وآتيناه فضلا من العلم النافع ، والعمل الصالح ، والنّعم الدينية والدنيوية. ومن نعمه عليه ، ما خصه من أمره تعالى الجمادات ، كالجبال والحيوانات ، من الطيور ، أن تؤوّب معه ، وترجّع التسبيح بحمد ربها ، مجاوبة له. وفي هذا من النعمة عليه ، أن كان

٨١٠

ذلك من خصائصه الّتي لم تكن لأحد قبله ولا بعده ، وأن ذلك يكون منهضا له ولغيره ، على التسبيح إذا رأوا هذه الجمادات والحيوانات ، تتجاوب بتسبيح ربها ، وتمجيده ، وتكبيره ، وتحميده ، كان ذلك مما يهيج على ذكر الله تعالى. ومنها : أن ذلك ـ كما قال كثير من العلماء ، أنه طرب لصوت داود. فإن الله تعالى ، قد أعطاه من حسن الصوت ، ما فاق به غيره ، وكان إذا رجّع التسبيح والتهليل والتمجيد بذلك الصوت الرخيم الشجي المطرب ، طرب كلّ من سمعه ، من الإنس ، والجن ، حتى الطيور والجبال ، وسبحت بحمد ربها. ومنها : أنه لعله ليحصل له أجر تسبيحها ، لأنه سبب ذلك ، وتسبح تبعا له. ومن فضله عليه ، أن ألان له الحديد ، ليعمل الدروع السابغات ، وعلّمه تعالى كيفية صنعته ، بأن يقدره في السرد ، أي : يقدره حلقا ، ويصنعه كذلك ، ثمّ يدخل بعضها ببعض. قال تعالى : (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) (٨٠) ولما ذكر ما امتنّ به عليه وعلى آله ، أمره بشكره ، وأن يعملوا صالحا ، ويراقبوا الله تعالى فيه ، بإصلاحه وحفظه من المفسدات ، فإنه بصير بأعمالهم ، مطلع عليهم ، لا يخفى عليه منها شيء.

[١٢] لما ذكر فضله على داود عليه‌السلام ، ذكر فضله على ابنه سليمان ، عليه الصلاة والسّلام ، وأن الله سخر له الريح تجري بأمره ، وتحمله ، وتحمل جميع ما معه ، وتقطع المسافة البعيدة جدا ، في مدة يسيرة ، فتسير في اليوم ، مسيرة شهرين. (غُدُوُّها شَهْرٌ) أي : أوّل النهار إلى الزوال (وَرَواحُها شَهْرٌ) أي الزوال ، إلى آخر النهار (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) أي : سخرنا له عين النحاس ، وسهلنا له الأسباب ، في استخراج ما يستخرج منها من الأواني وغيرها.

[١٣] وسخر الله له أيضا ، الشياطين والجن ، لا يقدرون أن يستعصوا عن أمره ، (وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) وأعمالهم ، كل ما شاء سليمان عملوه. (مِنْ مَحارِيبَ) وهو : كل بناء يعقد ، وتحكم به الأبنية ، فهذا فيه ، ذكر الأبنية الفخمة. (وَتَماثِيلَ) أي : صور الحيوانات والجمادات ، من إتقان صنعتهم ، وقدرتهم على ذلك. (وَجِفانٍ كَالْجَوابِ) أي : كالبرك الكبار ، يعملونها لسليمان للطعام ، لأنه يحتاج إلى ما لا يحتاج إليه غيره. (وَ) يعملون له من (قُدُورٍ راسِياتٍ) لا تزول عن أماكنها ، من عظمها. فلما ذكر منته عليهم ، أمرهم بشكرها فقال : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ) وهم داود ، وأولاده ، وأهله ، لأن المنّة على الجميع ، وكثير من هذه المصالح عائد لكلهم. (شُكْراً) لله على ما أعطاهم ، ومقابلة لما أولاهم. (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) فأكثرهم ، لم يشكروا الله تعالى على ما أولاهم ، من النّعم ، ودفع عنهم من النقم. والشكر : اعتراف القلب بمنة الله تعالى ، وتلقيها افتقارا إليها ، وصرفها في طاعة الله تعالى ، وصونها عن صرفها في المعصية. فلم يزل الشياطين يعملون لسليمان ، عليه‌السلام ، كل بناء. وكانوا قد موهوا على الإنس ، وأخبروهم أنهم يعلمون الغيب ، ويطلعون على المكنونات. فأراد الله تعالى أن يري العباد كذبهم في هذه الدعوى ، فمكثوا يعملون على عملهم. وقضى الله بالموت على سليمان عليه‌السلام ، واتّكا على عصاه ، وهي المنسأة. فصاروا إذا مروا به وهو متكىء عليها ، ظنوه حيا ، وهابوه.

[١٤] فغدوا على عملهم كذلك سنة كاملة على ما قيل ، حتى سلطت دابة الأرض على عصاه ، فلم تزل ترعاها ، حتى بادت ، وسقطت ، فسقط سليمان وتفرقت الشياطين وتبينت الإنس أن الجن (أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) وهو العمل الشاق عليهم. فلو علموا الغيب ، لعلموا موت سليمان ، الذي هم أحرص شيء عليه ، ليسلموا مما هم فيه.

[١٥ ـ ١٨] سبأ قبيلة معروفة في أداني اليمن ، ومسكنهم بلدة يقال لها «مأرب». ومن نعم الله ولطفه بالناس عموما ، وبالعرب خصوصا ، أنه قص في القرآن أخبار المهلكين والمعاقبين ، ممن كان يجاور العرب ، ويشاهد آثارهم ، ويتناقل الناس أخبارهم ، ليكون ذلك أدعى إلى التصديق ، وأقرب للموعظة فقال : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ) أي : محلهم الذي يسكنون فيه (آيَةٌ). والآية هنا : ما أدرّ الله عليهم من النّعم ، وصرف عنهم من النقم ، الذي

٨١١

يقتضي ذلك منهم ، أن يعبدوا الله ويشكروه. ثم فسّر الآية بقوله : (جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ) وكان لهم واد عظيم ، تأتيه سيول كثيرة ، وكانوا بنوا سدا محكما ، يكون مجمعا للماء. فكانت السيول تأتيه ، فيجتمع هناك ماء عظيم ، فيفرقونه على بساتينهم ، التي عن يمين ذلك الوادي وشماله. وتغلّ لهم تلك الجنتان العظيمتان ، من الثمار ما يكفيهم ، ويحصل لهم الغبطة والسرور. فأمرهم الله بشكر نعمه ، التي أدرّها عليهم من وجوه كثيرة : منها : أن الله جعل بلدهم ، بلدة طيبة ، لحسن هوائها ، وقلة وخمها ، وحصول الرزق الرغد فيها. ومنها : أن الله تعالى وعدهم ـ إن شكروه ـ أن يغفر لهم ويرحمهم ، ولهذا قال : (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ). ومنها : أن الله لما علم احتياجهم في تجارتهم ومكاسبهم ، إلى الأرض المباركة ، الظاهر أنها : قرى صنعاء ، كما قاله غير واحد من السلف ، وقيل : إنها الشام ، هيأ لهم من الأسباب ، ما به يتيسر وصولهم إليها ، بغاية السهولة ، من الأمن ، وعدم الخوف ، وتواصل القرى بينهم وبينها ، بحيث لا يكون عليهم مشقة ، بحمل الزاد والمزاد. ولهذا قال : (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) أي : سيرا مقدرا يعرفونه ، ويحكمون عليه ، بحيث لا يتيهون عنه (سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ) أي : مطمئنين في السير ، في تلك الليالي والأيام ، غير خائفين. وهذا من تمام نعمة الله عليهم ، أن أمنهم من الخوف. فأعرضوا عن المنعم ، وعن عبادته ، وبطروا النعمة ، وملوها. حتى إنهم طلبوا وتمنوا ، أن تتباعد أسفارهم بين تلك القرى ، الّتي كان السير فيها متيسرا.

[١٩] (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بكفرهم بالله وبنعمته ، فعاقبهم الله تعالى بهذه النعمة ، الّتي أطغتهم ، فأبادها عليهم ، فأرسل عليها سيل العرم ، أي : السيل المتوعر ، الذي خرب سدهم ، وأتلف جناتهم ، وخرّب بساتينهم. فتبدلت تلك الجنات ذات الحدائق المعجبة ، والأشجار المثمرة ، وصار بدلها ، أشجار لا نفع فيها ، ولهذا قال : (وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ) أي : شيء قليل من الأكل الذي لا يقع منهم موقعا (خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) وهذا كله شجر معروف ، وهذا من جنس عملهم. فكما بدلوا الشكر الحسن ، بالكفر القبيح ، بدلوا تلك النعمة بما ذكر ، ولهذا قال : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) (١٧) أي : وهل نجازي جزاء العقوبة ـ بدليل السياق ـ إلا من كفر بالله وبطر النعمة؟ فلما أصابهم ما أصابهم ، تفرقوا وتمزقوا ، بعد ما كانوا مجتمعين ، وجعلهم الله أحاديث يتحدث بهم ، وأسمارا للناس ، وكان يضرب بهم المثل فيقال : «تفرقوا أيدي سبأ» فكل أحد يتحدث بما جرى لهم. ولكن لا ينتفع بالعبرة فيهم إلا من قال الله فيهم : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) صبّار على المكاره والشدائد ، يتحملها لوجه الله ، ولا يتسخطها بل يصبر عليها. شكور لنعمة الله تعالى يقرّ بها ، ويعترف ، ويثني على من أولاها ، ويصرفها في طاعته. فهذا إذا سمع بقصتهم ، وما جرى منهم وعليهم ، عرف بذلك أن تلك العقوبة ، جزاء لكفرهم نعمة الله ، وأن من فعل مثلهم ، فعل به ، كما فعل بهم. وأن شكر الله تعالى ، حافظ للنعمة ، دافع للنقمة. وأن رسل الله ، صادقون فيما أخبروا به. وأن الجزاء حق ، كما رأى أنموذجه في دار الدنيا.

٨١٢

[٢٠] ثمّ ذكر أن قوم سبأ من الّذين صدّق عليهم إبليس ظنه ، حيث قال لربه : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٨٣). وهذا ظن من إبليس ، لا يقين ؛ لأنه لا يعلم الغيب ، ولم يأته خبر من الله أنه سيغويهم أجمعين ، إلا من استثنى. فهؤلاء وأمثالهم ، ممن صدق عليه إبليس ظنه ، ودعاهم وأغواهم (فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ممن لم يكفر بنعمة الله ، فإنه لم يدخل تحت ظن إبليس. ويحتمل أن قصة سبأ ، انتهت عند قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ). ثمّ ابتدأ فقال : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ) أي : على جنس الناس ، فتكون الآية عامة ، في كلّ من اتبعه.

[٢١] ثمّ قال تعالى : (وَما كانَ لَهُ) أي : لإبليس (عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ) أي : تسلط ، وقهر ، وقسر على ما يريده منهم ، ولكن حكمة الله تعالى ، اقتضت تسليطه ، وتسويله لبني آدم. (لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍ) أي : ليقوم سوق الامتحان ، ويعلم به الصادق من الكاذب ، ويعرف من كان إيمانه صحيحا ، يثبت عند الامتحان والاختبار ، وإلقاء الشبه الشيطانية ، ممن إيمانه غير ثابت ، يتزلزل بأدنى شبهة ، ويزول بأقل داع يدعوه إلى ضده. فالله تعالى جعله امتحانا ، يمتحن به عباده ، ويظهر الخبيث من الطيب. (وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) يحفظ العباد ، ويحفظ عليهم أعمالهم ، ويحفظ تعالى جزاءها ، فيوفيهم إياها ، كاملة موفرة.

[٢٢] أي : (قُلِ) يا أيها الرسول ، للمشركين بالله غيره من المخلوقات ، الّتي لا تنفع ولا تضر ، ملزما لهم بعجزها ، ومبينا بطلان عبادتها : (ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) أي : زعمتموهم شركاء لله ، إن كان دعاؤكم ينفع ، فإنهم قد توفرت فيهم أسباب العجز ، وعدم إجابة الدعاء من كلّ وجه. فإنهم ليس لهم أدنى ملك (لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) على وجه الاستقلال ، ولا على وجه الاشتراك ، ولهذا قال : (وَما لَهُمْ) أي : لتلك الآلهة الّذين زعمتم (فِيهِما) أي : في السموات والأرض. (مِنْ شِرْكٍ) أي : لا شرك قليل ولا كثير ، فليس لهم ملك ، ولا شركة ملك. بقي أن يقال : ومع ذلك ، فقد يكونون أعوانا للمالك ، ووزراء له ، فدعاؤهم يكون نافعا ، لأنهم ـ بسبب حاجة الملك إليهم ـ يقضون حوائج من تعلق بهم. فنفى تعالى هذه المرتبة فقال : (وَما لَهُ) أي : لله تعالى الواحد القهار (مِنْهُمْ) أي : من هؤلاء المعبودين (مِنْ ظَهِيرٍ) أي : معاون ووزير ، يساعده على الملك والتدبير.

[٢٣] فلم يبق إلا الشفاعة ، فنفاها بقوله : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ). فهذه أنواع التعلقات ، الّتي يتعلق بها المشركون بأندادهم ، وأوثانهم ، من البشر ، والشجر ، وغيرهم ، قطعها الله وبيّن بطلانها ، تبيينا حاسما لمواد الشرك ، قاطعا لأصوله. لأن المشرك ، إنّما يدعو ويعبد غير الله ، لما يرجو منه من النفع ، فهذا الرجاء ، هو الذي أوجب له الشرك. فإذا كان من يدعوه غير الله ، لا مالكا للنفع والضر ، ولا شريكا للمالك ، ولا عونا وظهيرا للمالك ، ولا يقدر أن يشفع بدون إذن المالك ، كان هذا الدعاء ، وهذه العبادة ، ضلالا في العقل ، باطلة في الشرع. بل ينعكس على المشرك مطلوبه ، ومقصوده ، فإنه يريد منها النفع ، فبيّن الله بطلانه ، وعدمه ، وبيّن في آيات أخر ،

٨١٣

ضررها على عابديها ، وأنه يوم القيامة ، يكفر بعضهم ببعض ، ويلعن بعضهم بعضا ، ومأواهم النار (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) (٦). والعجب ، أن المشرك استكبر عن الانقياد للرسل ، بزعمه أنهم بشر ، ورضي أن يعبد ويدعو الشجر ، والحجر ، استكبر عن الإخلاص للملك الرحمن الديان ، ورضي بعبادة من ضره أقرب من نفعه ، طاعة لأعدى عدو له وهو الشيطان. وقوله : (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ). يحتمل أن الضمير في هذا الموضع ، يعود إلى المشركين ، لأنهم مذكورون في اللفظ. والقاعدة في الضمائر ، أن تعود إلى أقرب مذكور. ويكون المعنى : إذا كان يوم القيامة ، وفزع عن قلوب المشركين ، أي : زال الفزع ، وسئلوا حين رجعت إليهم عقولهم ، عن حالهم في الدنيا ، وتكذيبهم للحق الذي جاءت به الرسل ، أنهم يقرون أن ما هم عليه من الكفر والشرك باطل ، وأن ما قال الله ، وأخبرت به عنه رسله ، هو الحق (بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) وعملوا أن الحق لله ، واعترفوا بذنوبهم. (وَهُوَ الْعَلِيُ) بذاته ، فوق جميع المخلوقات ، وقهره لهم ، وعلو قدره ، بما له من الصفات العظيمة ، الجليلة المقدار (الْكَبِيرُ) في ذاته وصفاته. ومن علوه ، أن حكمه تعالى يعلو ، وتذعن له النفوس ، حتى نفوس المتكبرين والمشركين. وهذا المعنى أظهر ، وهو الذي يدل عليه السياق. ويحتمل أن الضمير يعود إلى الملائكة ، وذلك أن الله تعالى إذا تكلم بالوحي ، سمعته الملائكة ، فصعقوا وخروا لله سجدا. فيكون أوّل من يرفع رأسه ، جبريل فيكلمه الله من وحيه بما أراد. فإذا زال الصعق عن قلوب الملائكة ، وزال الفزع فيسأل بعضهم بعضا عن ذلك الكلام ، الذي صعقوا منه : ماذا قال ربكم؟ فيقول بعضهم لبعض : قال الحق ، إما إجمالا ، لعلمهم أنه لا يقول إلا حقا. وإما أن يقولوا : قال كذا وكذا ، للكلام الذي سمعوه منه ، وذلك من الحق. فيكون المعنى على هذا : أن المشركين الّذين عبدوا مع الله تلك الآلهة ، الّتي وصفنا لكم عجزها ونقصها ، وعدم نفعها بوجه من الوجوه ، كيف صدفوا وصرفوا عن إخلاص العبادة للرب العظيم ، العلي الكبير ، الذي ـ من عظمته وجلاله ـ أن الملائكة الكرام ، والمقربين من الخلق ، يبلغ بهم الخضوع والصعق ، عند سماع كلامه هذا المبلغ ، ويقرون كلهم لله ، أنه لا يقول إلا الحق. فما بال هؤلاء المشركين ، استكبروا عن عبادة من هذا شأنه ، وعظمة ملكه وسلطانه. فتعالى العلي الكبير ، عن شرك المشركين ، وإفكهم ، وكذبهم.

[٢٤] يأمر تعالى ، نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن يقول لمن أشرك بالله ويسأله عن صحة شركه : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فإنهم ، لا بد أن يقروا أنه الله. ولئن لم يقروا (قُلِ اللهُ) فإنك لا تجد من يدفع هذا القول. فإذا تبيّن أن الله وحده ، الذي يرزقكم من السموات والأرض ، وينزل لكم المطر ، وينبت لكم النبات ، ويفجر لكم الأنهار ، ويطلع لكم من ثمار الأشجار ، وجعل لكم الحيوانات جميعها ، لنفعكم ورزقكم ، فلم تعبدون من لا يرزقكم شيئا ، ولا يفيدكم نفعا؟ وقوله : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي : إحدى الطائفتين ، منا ومنكم ، على الهدى ، مستعلية عليه ، أو في ضلال بين ، منغمرة فيه ، وهذا الكلام ، يقوله من تبيّن له الحق ، واتضح له الصواب ، وجزم بالحق الذي هو عليه ، وبطلان ما عليه خصمه. أي : قد شرحنا من الأدلة الواضحة ، عندنا وعندكم ، ما به يعلم علما يقينيا لا شك فيه ، من المحق منّا ، ومن المبطل ، ومن المهتدي ومن الضال؟ حتى إنه يصير اليقين بعد ذلك ، لا فائدة فيه. فإنك إذا وازنت بين من يدعو إلى عبادة الخالق ، بسائر المخلوقات المتصرف فيها بجميع أنواع التصرفات ، المسدي جميع النعم ، الذي رزقهم ، وأوصل إليهم كلّ نعمة ، ودفع عنهم كلّ نقمة ، الذي له الحمد كله ، والملك كله ، وكلّ أحد من الملائكة فمن دونهم ، خاضعون لهيبته ، متذللون لعظمته ، وكلّ الشفعاء ، تخافه ، لا يشفع أحد منهم عنده إلا بإذنه. العلي الكبير ، في ذاته ، وأوصافه ، وأفعاله ، الذي له كلّ كمال ، وكل جلال ، وكلّ جمال ، وكلّ حمد وثناء ومجد. يدعو إلى التقرب لمن هذا شأنه ، وإخلاص العمل له ، وينهي عن عبادة من سواه ، وبين من يتقرب إلى أوثان ، وأصنام ، وقبور ، لا تخلق ، ولا ترزق ، ولا تملك لأنفسها ، ولا لمن عبدها ،

٨١٤

نفعا ولا ضرا ، ولا موتا ، ولا حياة ، ولا نشورا. بل هي جمادات ، لا تعقل ، ولا تسمع دعاء عابديها ، ولو سمعته ، ما استجابت لهم. ويوم القيامة يكفرون بشركهم ، ويتبرأون منهم ، ويتلاعنون بينهم. ليس لهم قسط من الملك ، ولا شركة فيه ، ولا لهم شفاعة يستقلون بها دون الله. فهو يدعو ، من هذا وصفه ، ويتقرب إليه مهما أمكنه ، ويعادي من أخلص الدين لله ، ويحاربه ، ويكذب رسل الله ، الّذين جاءوا بالإخلاص لله وحده. تبيّن لك أي الفريقين ، المهتدي من الضال ، والشقي من السعيد؟ ولم يحتج إلى أن يعين لك ذلك ، لأن وصف الحال ، أوضح من لسان المقال.

[٢٥] (قُلْ) لهم (لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أي : كل منّا ومنكم ، له عمله. أنتم لا تسألون عن إجرامنا وذنوبنا لو أذنبنا ، ونحن لا نسأل عن أعمالكم. فليكن المقصود منا ومنكم ، طلب الحق ، وسلوك طريق الإنصاف. ودعوا ما كنا نعمل ، ولا يكن مانعا لكم من اتباع الحق. فإن أحكام الدنيا ، تجري على الظواهر ، ويتبع فيها الحق ، ويجتنب الباطل. وأما الأعمال ، فلها دار أخرى ، يحكم فيها أحكم الحاكمين ، ويفصل بين المختصمين ، أعدل العادلين.

[٢٦] ولهذا قال : (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا) أي : يحكم بيننا حكما ، يتبين به الصادق من الكاذب ، والمستحق للثواب ، من المستحق للعقاب (وَهُوَ الْفَتَّاحُ) أي : الحاكم في القضايا المنغلقة (الْعَلِيمُ) بما ينبغي أن يقضى به.

[٢٧] (قُلْ) لهم يا أيها الرسول ، ومن ناب منابك : (أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ) أي : أين هم؟ وأين السبيل إلى معرفتهم؟ وهل هم في الأرض ، أم في السماء؟ فإن عالم الغيب والشهادة قد أخبرنا أنه ليس في الوجود له شريك. (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ) الآية (وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ). وكذلك خواص خلقه ، من الأنبياء والمرسلين ، لا يعلمون له شريكا. فيا أيها المشركون أروني الّذين ألحقتم بزعمكم الباطل (بِهِ) أي : بالله (شُرَكاءَ). وهذا السؤال لا يمكنهم الإجابة عنه ، ولهذا قال : (كَلَّا) أي : ليس لله شريك ، ولا ند ، ولا ضد. (بَلْ هُوَ اللهُ) الذي لا يستحق التأله والتعبد ، إلا هو. (الْعَزِيزُ) الذي قهر كلّ شيء فكل ما سواه ، فهو مقهور له ، مسخر مدبر. (الْحَكِيمُ) الذي أتقن ما خلقه ، وأحسن ما شرعه. ولو لم يكن في حكمته في شرعه إلا أنه أمر بتوحيده ، وإخلاص الدين له ، وأحب ذلك ، وجعله طريقا للنجاة ، ونهى عن الشرك به ، واتخاذ الأنداد من دونه ، وجعل ذلك طريقا للشقاء والهلاك ، لكفى بذلك برهانا على كمال حكمته. فكيف ، وجميع ما أمر به ونهى عنه ، مشتمل على الحكمة؟

[٢٨] يخبر تعالى ، أنه ما أرسل رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إلا ليبشر جميع الناس بثواب الله ، ويخبرهم بالأعمال الموجبة لذلك. وينذرهم عقاب الله ، ويخبرهم بالأعمال الموجبة له ، فليس لك من الأمر شيء. وكلّ ما اقترح عليك أهل التكذيب والعناد ، فليس من وظيفتك ، إنّما ذلك بيد الله تعالى. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي : ليس لهم علم صحيح ، بل إما جهال ، أو معاندون لم يعملوا بعلمهم ، فكأنهم لا علم لهم. ومن عدم علمهم ، جعلهم عدم الإجابة لما اقترحوه على الرسول ، موجبا لرد دعوته.

[٢٩] فمما اقترحوه ، استعجالهم العذاب ، الذي أنذرهم به فقال : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢٩) وهذا ظلم منهم. فأي ملازمة بين صدقه ، وبين الإخبار بوقت وقوعه؟ وهل هذا إلا رد للحق ، وسفه في العقل؟ أليس النذير في أمر من أحوال الدنيا ، لو جاء قوما ، يعلمون صدقه ونصحه ، ولهم عدو ينتهز الفرصة منهم ويعدّ لهم ، فقال لهم : تركت عدوكم قد سار ، يريد اجتياحكم واستئصالكم. فلو قال بعضهم : إن

٨١٥

كنت صادقا ، فأخبرنا بأية ساعة يصل إلينا ، وأين مكانه الآن؟ فهل يعد هذا القائل عاقلا ، أم يحكم بسفهه وجنونه؟ هذا ، والمخبر يمكن صدقه وكذبه ، والعدو قد يبدو له غيرهم ، وقد تنحل عزيمته. وهم قد يكون بهم منعة ، يدافعون بها عن أنفسهم. فكيف بمن كذّب أصدق الخلق ، المعصوم في خبره ، الذي لا ينطق عن الهوى ، بالعذاب اليقين ، الذي لا مدفع له ، ولا ناصر منه؟ أليس رد خبره ، بحجة عدم بيان وقت وقوعه ، من أسفه السفه؟

[٣٠] (قُلْ) لهم ـ مخبرا بوقت وقوعه ، الذي لا شك فيه ـ : (لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) فاحذروا ذلك اليوم ، وأعدوا له عدته.

[٣١] لما ذكر تعالى ، أن ميعاد المستعجلين بالعذاب ، لا بد من وقوعه عند حلول أجله ؛ ذكر هنا ، حالهم في ذلك اليوم ، وأنك لو رأيت حالهم ، إذ وقفوا عند ربهم ، واجتمع الرؤساء والأتباع في الكفر والضلال ، لرأيت أمرا عظيما وهولا جسيما. ورأيت كيف يتراجعون ، ويرجع بعضهم إلى بعض القول. (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) وهم الأتباع (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) وهم القادة. (لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) ولكنكم حلتم بيننا وبين الإيمان ، وزينتم لنا الكفران ، فتبعناكم على ذلك. ومقصودهم بذلك ، أن يكون العذاب على الرؤساء ، دونهم.

[٣٢] (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) مستفهمين لهم ومخبرين أن الجميع مشتركون في الجرم : (أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ) أي : بقوتنا وقهرنا إياكم. (بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) أي : مختارين للإجرام ، لستم مقهورين عليه ، وإن كنا قد زينا لكم ، فما كان لنا عليكم من سلطان.

[٣٣] (وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً) أي : بل الذي دهانا منكم ، ووصل إلينا من إضلالكم ، ما دبرتموه من المكر ، في الليل والنهار ، إذ تحسّنون لنا الكفر ، وتدعوننا إليه ، وتقولون : إنه الحق ، وتقدحون في الحق ، وتهجنونه ، وتزعمون أنه الباطل. فما زال مكركم بنا ، وكيدكم إيانا ، حتى أغويتمونا وفتنتمونا. فلم تفد تلك المراجعة بينهم شيئا إلا براءة بعضهم من بعض ، والندامة العظيمة ، ولهذا قال : (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) أي : زال عنهم ذلك الاحتجاج الذي احتج به بعضهم ، لينجو من العذاب ، وعلم أنه ظالم مستحق له. فندم كلّ منهم غاية الندم ، وتمنى أن لو كان على الحق ، وأنه ترك الباطل الذي أوصله إلى هذا العذاب ، سرا في أنفسهم ، لخوفهم من الفضيحة في إقرارهم على أنفسهم. وفي بعض مواقف القيامة ، وعند دخولهم النار يظهرون ذلك الندم جهرا. (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) (٢٨) الآيات. (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (١٠) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) (١١).

(وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا) يغلون كما يغل المسجون ، الذي سيهان في سجنه كما قال تعالى : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) (٧٢) الآيات. (هَلْ يُجْزَوْنَ) في هذا

٨١٦

العذاب والنكال ، وتلك الأغلال الثقال (إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من الكفر والفسوق والعصيان.

[٣٤] يخبر تعالى عن حالة الأمم الماضية المكذبة للرسل ، أنها كحال هؤلاء الحاضرين المكذبين لرسولهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن الله إذا أرسل رسولا في قرية من القرى ، كفر به مترفوها ، وأبطرتهم نعمتهم ، وفخروا بها.

[٣٥] (وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً) أي : ممن اتبع الحق (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) أي : أولا ، لسنا بمبعوثين ، فإن بعثنا ، فالذي أعطانا الأموال والأولاد في الدنيا ، سيعطينا أكثر من ذلك في الآخرة ولا يعذبنا.

[٣٦] فأجابهم الله تعالى ، بأن بسط الرزق وتضييقه ، ليس دليلا على ما زعمتم. فإن الرزق تحت مشيئة الله ، إن شاء بسطه لعبده ، وإن شاء ضيّقه.

[٣٧] (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) وتدني إليه. وإنّما الذي يقرب منه زلفى ، الإيمان بما جاء به المرسلون ، والعمل الصالح الذي هو من لوازم الإيمان ، فإن أولئك ، لهم الجزاء عند الله تعالى مضاعفا الحسنة بعشر أمثالها ، إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، لا يعلمها إلا الله. (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) أي : في المنازل العاليات المرتفعات جدا ، ساكنين فيها ، مطمئنين ، آمنين من المكدرات والمنغصات ، لما فيه من اللذات وأنواع المشتهيات ، وآمنين من الخروج منها ، أو الحزن فيها.

[٣٨] (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ) أي : على وجه التعجيز لنا ، ولرسلنا ، والتكذيب. (أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) تحضرهم الزبانية فلا يجديهم ما عولوا عليه نفعا.

[٣٩] ثمّ أعاد تعالى أنه (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) ليرتب عليه قوله : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) نفقة واجبة ، أو مستحبة ، على قريب ، أو جار ، أو مسكين ، أو يتيم ، أو غير ذلك. (فَهُوَ) تعالى (يُخْلِفُهُ) فلا تتوهموا أن الإنفاق مما ينقص الرزق ، بل وعد بالخلف للمنفق ، الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فاطلبوا الرزق منه ، واسعوا في الأسباب الّتي أمركم بها.

[٤٠] (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) أي : العابدين لغير الله والمعبودين من دونه ، من الملائكة. (ثُمَّ يَقُولُ) الله (لِلْمَلائِكَةِ) على وجه التوبيخ لمن عبدهم. (أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) فتبرأوا من عبادتهم. و (قالُوا سُبْحانَكَ) أي : تنزيها لك وتقديسا ، أن يكون لك شريك ، أو ند (أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ) أي : أنت الذي نواليه من دونهم ، لا موالاة بيننا وبينهم. فنحن مفتقرون إلى ولايتك ، مضطرون إليها ، فكيف ندعو غيرنا إلى عبادتنا؟ أم كيف نصلح لأن نتخذ من دونك أولياء وشركاء؟ (بَلْ) هؤلاء المشركون (كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ) أي : الشياطين ، يأمرونهم بعبادتنا أو عبادة غيرنا ، فيطيعونهم بذلك. وطاعتهم ، هي عبادتهم ؛ لأن العبادة الطاعة ، كما قال تعالى مخاطبا لكل من اتخذ معه آلهة (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٦١). (أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) أي : مصدقون للجنّ ، منقادون لهم ؛ لأن الإيمان هو : التصديق الموجب للانقياد. فلما تبرأوا منهم ، قال تعالى مخاطبا لهم : (فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) تقطعت بينكم الأسباب ، وانقطع

٨١٧

بعضكم من بعض. (وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) بالكفر والمعاصي ـ بعد ما ندخلهم النار ـ (ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) فاليوم عاينتموها ، ودخلتموها جزاء لتكذيبكم ، وعقوبة لما أحدثه ذلك التكذيب ، من عدم الهرب من أسبابها.

[٤٣] يخبر تعالى عن حالة المشركين ، عند ما تتلى عليهم آيات الله البينات ، وحججه الظاهرات ، وبراهينه القاطعات ، الدالة على كلّ خير ، الناهية عن كلّ شر ، الّتي هي أعظم نعمة جاءتهم ، ومنّة وصلت إليهم ، الموجبة لمقابلتها بالإيمان والتصديق ، والانقياد ، والتسليم ، أنهم يقابلونها بضد ما ينبغي ، ويكذبون من جاءهم بها ويقولون : (ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ) أي : هذا قصده ، حين يأمركم بالإخلاص لله ، لتتركوا عوائد آبائكم الّذين تعظمونهم وتمشون خلفهم. فردوا الحق ، بقوة الضالين ، ولم يوردوا برهانا ، ولا شبهة. فأي شبهة إذا أمرت الرسل بعض الضالين ، باتباع الحق ، فادّعوا أن إخوانهم الّذين على طريقتهم لم يزالوا عليه؟ وهذه السفاهة ، ورد الحق ، بأقوال الضالين ، إذا تأملت كلّ حق رد ، فإذا هذا مآله ، لا يرد إلا بأقوال الضالين من المشركين ، والدهريين ، والفلاسفة ، والصابئين ، والملحدين في دين الله ، المارقين ، فهم أسوة كلّ من رد الحق إلى يوم القيامة. ولما احتجوا بفعل آبائهم ، وجعلوها دافعة لما جاءت به الرسل ، طعنوا بعد هذا ، بالحق. (وَقالُوا ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً) أي : كذب افتراه هذا الرجل ، الذي جاء به. (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي : سحر ظاهر لكل أحد ، تكذيبا بالحق ، وترويجا على السفهاء.

[٤٤] ولمّا بيّن ما ردوا به الحق ، وأنها أقوال دون مرتبة الشبهة ، فضلا عن أن تكون حجة ، ذكر أنهم وإن أراد أحد أن يحتج لهم ، فإنهم لا مستند لهم ، ولا لهم شيء يعتمد عليه أصلا ، فقال : (وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها) حتى تكون عمدة لهم (وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) حتى يكون عندهم من أقواله وأحواله ، ما يدفعون به ، ما جئتهم به. فليس عندهم علم ، ولا أثارة من علم.

[٤٥] ثمّ خوفهم ما فعل بالأمم المكذبين قبلهم فقال : (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا) أي : ما بلغ هؤلاء المخاطبون (مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ) أي : الأمم الّذين من قبلهم. (فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي : إنكاري عليهم ، وعقوبتي إياهم. وقد أعلمنا ما فعل بهم من النكال ، وأن منهم من أغرقه ، ومنهم من أهلكه بالريح العقيم ، وبالصيحة ، وبالرجفة ، وبالخسف بالأرض ، وبإرسال الحاصب من السماء. فاحذروا يا هؤلاء المكذبون ، أن تدوموا على التكذيب ، فيأخذكم كما أخذ من قبلكم ، ويصيبكم ما أصابهم.

[٤٦] أي (قُلْ) يا أيها الرسول ، لهؤلاء المكذبين المعاندين ، المتصدين لرد الحق وتكذيبه ، والقدح بمن جاء به : (إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ) أي : بخصلة واحدة ، أشير عليكم بها ، وأنصح لكم في سلوكها. وهي طريق نصف ، لست أدعوكم بها ، إلى اتباع قولي ، ولا إلى ترك قولكم ، من دون موجب لذلك ، وهي : (أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى) أي : تنهضوا بهمة ، ونشاط وقصد لاتباع الصواب ، وإخلاص لله ، مجتمعين ، ومتباحثين في ذلك ، ومتناظرين ،

٨١٨

وفرادى ، كل واحد يخاطب نفسه بذلك. فإذا قمتم لله ، مثنى وفرادى ، استعملتم فكركم ، وأجلتموه ، وتدبرتم أحوال رسولكم : هل هو مجنون ، فيه صفات المجانين من كلامه ، وهيئته ، وصفته؟ أم هو نبي صادق ، منذر لكم ما يضركم ، مما أمامكم من العذاب الشديد؟ فلو قبلوا هذه الموعظة ، واستعملوها ، لتبين لهم أكثر من غيرهم ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ليس بمجنون ، لأن هيئته ليست كهيئة المجانين ، في خنقهم ، واختلاجهم ، ونظرهم. بل هيئته أحسن الهيئات ، وحركاته أجلّ الحركات ، وهو أكمل الخلق ، أدبا ، وسكينة ، وتواضعا ، ووقارا ، لا يكون إلا لأرزن الرجال عقلا. ثمّ إذا تأملوا كلامه الفصيح ، ولفظه المليح ، وكلماته الّتي تملأ القلوب ، أمنا ، وإيمانا ، وتزكي النفوس ، وتطهر القلوب ، وتبعث على مكارم الأخلاق ، وتحث على محاسن الشيم ، وتزجر عن مساوئ الأخلاق ورذائلها. إذا تكلّم ، رمقته العيون ، هيبة وإجلالا ، وتعظيما. فهل هذا يشبه هذيان المجانين ، وعربدتهم ، وكلامهم الذي يشبه أحوالهم؟ فكل من تدبر أحواله ؛ وقصده استعلام هل هو رسول الله أم لا؟ سواء تفكر وحده ، أم معه غيره ، جزم بأنه رسول الله حقّا ، ونبيه صدقا ، خصوصا المخاطبين ، وهو صاحبهم يعرفون أول أمره وآخره.

[٤٧] وثمّ مانع للنفوس آخر ، عن اتباع الداعي ، إلى الحقّ ، وهو أنه يأخذ أموال من يستجيب له ، ويأخذ أجره على دعوته. فبيّن الله تعالى نزاهة رسوله عن هذا الأمر فقال : (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) أي : على اتباعكم للحق (فَهُوَ لَكُمْ) أي : فأشهدكم أن ذلك الأجر ـ على التقدير ـ أنه لكم. (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي : محيط علمه مما أدعو إليه. فلو كنت كاذبا ، لأخذني بعقوبته. وشهيد أيضا على أعمالكم ، سيحفظها عليكم ، ثمّ يجازيكم بها.

[٤٨ ـ ٥٠] ولما بيّن البراهين الدالة على صحة الحقّ ، وبطلان الباطل ، أخبر تعالى أن هذه سنته وعادته أن (يَقْذِفُ بِالْحَقِ) على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ؛ لأنه بيّن من الحقّ في هذا الموضع ، ورد به أقوال المكذبين ، ما كان عبرة للمعتبرين ، وآية للمتأملين. فإنك كما ترى ، كيف اضمحلت أقوال المكذبين ، وتبين كذبهم وعنادهم ، وظهر الحقّ وسطع ، وبطل الباطل وانقمع. وذلك بسبب بيان (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) الذي يعلم ما تنطوي عليه القلوب ، من الوساوس والشبه ، ويعلم ما يقابل ذلك ، ويدفعه من الحجج. فيعلم بها عباده ، ويبينها لهم ، ولهذا قال : (قُلْ جاءَ الْحَقُ) أي : ظهر وبان ، وصار بمنزلة الشمس ، وظهر سلطانه ، (وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) أي : اضمحل وبطل أمره ، وذهب سلطانه ، فلا يبدىء ولا يعيد. ولما تبين الحقّ بما دعا إليه الرسول ، وكان المكذبون له ، يرمونه بالضلال ، أخبرهم بالحق ، ووضحه لهم ، وبيّن لهم عجزهم عن مقاومته ، وأخبرهم أن رميهم له بالضلال ، ليس بضائر الحقّ شيئا ، ولا دافع ما جاء به. وأنه إن ضل ـ وحاشاه من ذلك ، لكن على سبيل التنزل في المجادلة ـ فإنما يضل على نفسه ، أي : ضلاله قاصر على نفسه ، غير متعد إلى غيره. (وَإِنِ اهْتَدَيْتُ) فليس ذلك من نفسي ، وحولي ، وقوتي ، وإنّما هدايتي بما (يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) فهو مادة هدايتي ، كما هو مادة هداية غيري. إن ربي

٨١٩

(سَمِيعٌ) للأقوال والأصوات كلها (قَرِيبٌ) ممن دعاه وسأله ، وعبده.

[٥١] يقول تعالى : (وَلَوْ تَرى) أيها لرسول ، ومن قام مقامك ، حال هؤلاء المكذبين. (إِذْ فَزِعُوا) حين رأوا العذاب ، وما أخبرتهم به الرسل ، وما كذبوا به ، لرأيت أمرا هائلا ، ومنظرا مفظعا ، وحالة منكرة ، وشدة شديدة ، وذلك حين يحق عليهم العذاب. (فَلا فَوْتَ) لهم وليس لهم عنه مهرب. (وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) أي : ليس بعيدا عن محل العذاب ، بل يؤخذون ، ثمّ يقذفون في النار.

[٥٢] (وَقالُوا) في تلك الحال : (آمَنَّا بِهِ) وصدقنا ما به كذبنا (وَ) لكن (أَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ) أي : تناول الإيمان (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) قد حيل بينهم وبينه ، وصار من الأمور المحالة في هذه الحالة. فلو أنهم آمنوا وقت الإمكان ، لكان إيمانهم مقبولا.

[٥٣] ولكنهم (كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ) أي : يرمون (بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) بقذفهم الباطل ، ليدحضوا به الحقّ. ولكن لا سبيل إلى ذلك ، كما لا سبيل للرامي ، من مكان بعيد إلى إصابة الغرض. فكذلك الباطل ، من المحال أن يغلب الحقّ أو يدفعه ، وإنّما يكون له صولة ، وقت غفلة الحقّ عنه ، فإذا برز الحقّ وقاوم الباطل قمعه.

[٥٤] (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) من الشهوات واللذات ، والأولاد ، والأموال ، والخدم والجنود. وقد انفردوا بأعمالهم ، وجاءوا فرادى ، كما خلقوا ، وتركوا ما خولوا ، وراء ظهورهم. (كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) أي : من الأمم السابقين ، حين جاءهم الهلاك ، حيل بينهم وبين ما يشتهون. (إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) أي : يحدث الريبة وقلق القلب ، فلذلك لم يؤمنوا ، ولم يعتبوا حين استعتبوا. تم تفسير سورة سبأ ـ ولله الحمد والمنّة ، والفضل ، ومنه العون ، وعليه التوكل ، وبه الثقة.

تفسير سورة فاطر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] يمدح تعالى نفسه الكريمة المقدسة ، على خلقه السموات والأرض ، وما اشتملتا عليه من المخلوقات ، لأن ذلك ، دليل على كمال قدرته ، وسعة ملكه ، وعموم رحمته ، وبديع حكمته ، وإحاطة علمه. ولما ذكر الخلق ، ذكر بعده ، ما يتضمن الأمر ، وهو : أنه (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) في تدبير أوامره القدرية ، ووسائط بينه وبين خلقه ، في تبليغ أوامره الدينية. وفي ذكره أنه جعل الملائكة رسلا ، ولم يستثن منهم أحدا ، دليل على كمال طاعتهم لربهم ، وانقيادهم لأمره ، كما قال تعالى : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ). ولما كانت الملائكة مدبرات ، بإذن

٨٢٠