تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي

تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

المؤلف:

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ١١٣٥

الْخِصامِ) أي : عند الخصام ، الموجب لإظهار ما عند الشخص من الكلام (غَيْرُ مُبِينٍ) أي : غير مبين لحجته ، ولا مفصح عمّا احتوى عليه ضميره ، فكيف ينسبونهن لله تعالى؟

[١٩] ومنها : أنهم (جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) فتجرؤوا على الملائكة ، العباد المقربين ، ورقوهم عن مرتبة العبادة والذل ، إلى مرتبة المشاركة لله ، في شيء من خواصه ، ثمّ نزلوا بهم عن مرتبة الذكورية ، إلى مرتبة الأنوثية. فسبحان من أظهر تناقض من كذب عليه ، وعاند رسله. ومنها : أن الله رد عليهم بأنهم لم يشهدوا خلق الله لملائكته. فكيف يتكلمون بأمر غير المعلوم عند كل أحد ، أنه ليس لهم به علم؟ ولكن لا بد أن يسألوا عن هذه الشهادة ، وستكتب عليهم ، ويعاقبون عليها.

[٢٠] وقوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) فاحتجوا على عبادتهم الملائكة بالمشيئة ، وهي حجة لم يزل المشركون يطرقونها ، وهي حجة باطلة في نفسها ، عقلا ، وشرعا. فكل عاقل ، لا يقبل الاحتجاج بالقدر ، ولو سلكه في حالة من أحواله ، لم يثبت عليها قدمه. وأما شرعا ، فإن الله تعالى أبطل الاحتجاج به ، ولم يذكره عن غير المشركين به ، المكذبين لرسله ، فإن الله تعالى قد أقام الحجة أصلا ، ولهذا قال هنا : (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أي : يتخرصون تخرصا لا دليل عليه ، ويتخبطون خبط عشواء.

[٢١] ثمّ قال : (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ) (٢١) يخبرهم بصحة أفعالهم ، وصدق أقوالهم؟ ليس الأمر كذلك ، فإن الله أرسل محمدا نذيرا إليهم ، وهم لم يأتهم نذير غيره. أي : فلا عقل ، ولا نقل ، وإذا انتفى الأمران ، فلا ثمّ إلّا الباطل.

[٢٢] نعم لهم شبهة من أوهى الشّبه ، وهي : تقليد آبائهم الضالين ، الّذين ما زال الكفرة يردون بتقليدهم دعوة الرسل ، ولهذا قال هنا : (بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) أي : على دين وملة (وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) أي : فلا نتبع ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

[٢٣] (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) أي : منعموها ، وملؤها الّذين أطغتهم الدنيا ، وغرتهم الأموال ، واستكبروا على الحقّ. (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) أي : فهؤلاء ليسوا ببدع منهم ، وليسوا بأول من قال هذه المقالة. وهذا الاحتجاج ، من هؤلاء المشركين الضالين ، بتقليدهم لآبائهم الضالين ، ليس المقصود به ، اتباع الحقّ والهدى ، وإنّما هو تعصب محض ، يراد به نصرة ما معهم من الباطل.

[٢٤] ولهذا كل رسول يقول لمن عارضه بهذه الشبهة الباطلة (أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ) أي : أفتتبعوني لأجل الهدى. (قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) يعلم بهذا ، أنهم ما أرادوا اتباع الحقّ والهدى. وإنّما قصدهم ، اتباع الباطل والهوى.

[٢٥] (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) بتكذيبهم الحقّ ، وردهم إياه ، بهذه الشبهة الباطلة. (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) فليحذر هؤلاء ، أن يستمروا على تكذيبهم ، فيصيبهم ما أصابهم.

٩٢١

[٢٦ ـ ٢٧] يخبر تعالى عن ملة إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، الذي ينتسب إليه أهل الكتاب والمشركون ، وكلهم يزعم أنه على طريقته. فأخبر عن دينه الذي ورثه في ذريته فقال : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ) الّذين اتخذوا من دون الله آلهة يعبدونهم ، ويتقربون إليهم : (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) أي : مبغض له ، مجتنب معاد لأهله (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) فإني أتولاه ، وأرجو أن يهديني للعلم بالحق ، والعمل بالحق. فكما فطرني ودبرني بما يصلح بدني ودنياي (فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) لما يصلح ديني وآخرتي.

[٢٨] (وَجَعَلَها) أي : هذه الخصلة الحميدة ، الّتي هي أم الخصال وأساسها ، وهي إخلاص العبادة لله وحده ، والتبرّي من عبادة ما سواه. (كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) أي : في ذريته (لَعَلَّهُمْ) إليها (يَرْجِعُونَ) لشهرتها عنه ، وتوصيته لذريته ، وتوصية بعض بنيه ـ كإسحاق ويعقوب ـ لبعض ، كما قال تعالى : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) إلى آخر الآيات. فلم تزل هذه الكلمة موجودة في ذريته عليه‌السلام ، حتى دخلهم الترف والطغيان.

[٢٩] فقال تعالى : (بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ) بأنواع الشهوات ، حتى صارت هي غايتهم ، ونهاية مقصودهم ، فلم تزل يتربى حبها في قلوبهم ، حتى صارت صفات راسخة ، وعقائد متأصلة. (حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُ) الذي لا شك فيه ، ولا مرية ولا اشتباه. (وَرَسُولٌ مُبِينٌ) أي : بين الرسالة ، قامت أدلة رسالته ، قياما باهرا ، بأخلاقه ، ومعجزاته ، وبما جاء به ، وبما صدق به المرسلين ، وبنفس دعوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

[٣٠] (وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُ) الذي يوجب على من له أدنى دين ومعقول ، أن يقبله وينقاد له. (قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ) وهذا من أعظم المعاندة والمشاقة. فإنهم لم يكتفوا بمجرد الإعراض عنه ، بل ولا جحده ، فلم يرضوا حتى قدحوا به ، قدحا شنيعا ، وجعلوه بمنزلة السحر الباطل ، الذي لا يأتي به إلّا أخبث الخلق ، وأعظمهم افتراء. والذي حملهم على ذلك ، طغيانهم بما متعهم الله به وآباءهم.

[٣١] (وَقالُوا) مقترحين على الله بعقولهم الفاسدة : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) أي : معظّم عندهم ، مبجّل من أهل مكة ، وأهل الطائف ، كالوليد بن المغيرة ، ونحوه ، ممن هو عندهم عظيم.

[٣٢] قال الله ردا لاقتراحهم : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) أي : أهم الخزان لرحمة الله ، وبيدهم تدبيرها ، فيعطون النبوة والرسالة من يشاؤون ، ويمنعونها ممن يشاؤون؟ (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) أي : في الحياة الدنيا ، (وَ) الحال أن (رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) من الدنيا. فإذا كانت معايش العباد وأرزاقهم الدنيوية بيد الله تعالى ، وهو الذي يقسمها بين عباده ، فيبسط الرزق على من يشاء ، ويضيقه على من يشاء ، بحسب حكمته ، فرحمته الدينية ، الّتي أعلاها النبوة والرسالة ، أحرى أن تكون بيد الله تعالى ، فالله أعلم حيث يجعل رسالته. فعلم أن اقتراحهم ساقط لاغ ، وأن التدبير للأمور كلها ، دينيها ودنيويها ، بيد الله وحده. هذا إقناع لهم ، من جهة غلطهم في الاقتراح ، الذي ليس في أيديهم منه شيء ، إن هو إلّا ظلم منهم ، ورد للحق. وقولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) لو عرفوا حقائق الرجال ، والصفات الّتي بها يعرف علو قدر الرجل ، وعظم منزلته عند الله وعند خلقه ، لعلموا أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب

٩٢٢

صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، هو أعظم الرجال قدرا ، وأعلاهم فخرا ، وأكملهم عقلا ، وأغزرهم علما ، وأجلهم رأيا ، وعزما ، وحزما وأكملهم خلقا ، وأوسعهم رحمة ، وأشدهم شفقة ، وأهداهم وأتقاهم. وهو قطب دائرة الكمال ، وإليه المنتهى في أوصاف الرجال ، ألا وهو رجل العالم على الإطلاق. يعرف ذلك أولياؤه وأعداؤه ، إلا من ضل وكابر. فكيف يفضل عليه المشركون من لم يشم مثقال ذرة من كماله؟ ومن جرمه ومنتهى حمقه ، أن جعل إلهه الذي يعبده ، ويدعوه ، ويتقرب إليه ، صنما ، أو شجرا ، أو حجرا ، لا يضر ولا ينفع ، ولا يعطي ولا يمنع ، وهو كلّ على مولاه ، يحتاج لمن يقوم بمصالحه. فهل هذا ، إلّا من فعل السفهاء والمجانين؟ فكيف يجعل مثل هذا عظيما؟ أم كيف يفضل على خاتم الرسل وسيد ولد آدم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ ولكن الذين كفروا لا يعقلون. وفي هذه الآية تنبيه على حكمة الله تعالى ، في تفضيل الله بعض العباد على بعض في الدنيا (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) أي : ليسخر بعضهم بعضا ، في الأعمال والحرف ، والصنائع. فلو تساوى الناس في الغنى ، ولم يحتج بعضهم إلى بعض ، لتعطل كثير من مصالحهم ومنافعهم. وفيها دليل على أن نعمته الدينية ، خير من النعمة الدنيوية كما قال تعالى في الآية الأخرى : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (٥٨).

[٣٣] يخبر تعالى بأن الدنيا لا تسوى عنده شيئا ، وأنه لو لا لطفه ورحمته بعباده ، الّتي لا يقدم عليها شيئا ، لوسّع الدنيا على الّذين كفروا ، توسيعا عظيما ، ولجعل : (لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ) أي : درجا من فضة. (عَلَيْها يَظْهَرُونَ) إلى سطوحهم.

[٣٤ ـ ٣٥] (وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ) (٣٤) من فضة ، ولجعل لهم زخرفا ، أي : لزخرف لهم دنياهم بأنواع الزخارف ، وأعطاهم ما يشتهون. ولكن منعه من ذلك رحمته بعباده خوفا عليهم من التسارع في الكفر وكثرة المعاصي ، بسبب حب الدنيا ، ففي هذا دليل على أنه يمنع العباد بعض أمور الدنيا منعا عاما أو خاصا لمصالحهم. وأن الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة ، وأن كل هذه المذكورات متاع الحياة الدنيا ، منغصة ، مكدرة ، فانية ، وأن الآخرة عند الله تعالى خير للمتقين لربهم بامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه. لأن نعيمها تام كامل من كل وجه ، وفي الجنة ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، وهم فيها خالدون. فما أشد الفرق بين الدارين!!

[٣٦] يخبر تعالى عن عقوبته البليغة ، لمن أعرض عن ذكره فقال : (وَمَنْ يَعْشُ) أي : يعرض ويصد (عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) الذي هو القرآن العظيم ، الذي هو أعظم رحمة رحم بها الرحمن عباده. فمن قبلها ، فقد قبل خير المواهب ، وفاز بأعظم المطالب والرغائب. ومن أعرض عنها وردها ، فقد خاب وخسر خسارة ، لا يسعد بعدها أبدا ، وقيّض له الرحمن شيطانا مريدا ، يقارنه ، ويصاحبه ، ويعده ، ويمنيه ، ويؤزه إلى المعاصي أزا.

[٣٧] (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) أي : الصراط المستقيم ، والدين القويم. (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) بسبب تزيين الشيطان للباطل ، وتحسينه له ، وإعراضهم عن الحقّ ، فاجتمع هذا وهذا. فإن قيل : فهل لهذا من عذر ، من حيث إنه ظن أنه مهتد ، وليس كذلك؟ قيل : لا عذر لهذا وأمثاله ، الّذين مصدر جهلهم ، الإعراض عن ذكر الله ، مع تمكنهم من الاهتداء. فزهدوا في الهدى ، مع القدرة عليه ، ورغبوا في الباطل ، فالذنب ذنبهم ، والجرم جرمهم. فهذه حالة هذا المعرض عن ذكر الله في الدنيا ، مع قرينه ، وهي الضلال والغيّ ، وانقلاب الحقائق. وأما حاله ، إذا جاء ربه في الآخرة ، فهو شر الأحوال ، وهو : الندم والتحسر ، والحزن الذي لا يجبر مصابه ، والتبرّي من قرينه ، ولهذا قال تعالى :

[٣٨] (حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) (٣٨). كما في قوله تعالى : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) (٢٩).

[٣٩] وقوله تعالى : (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) (٣٩) أي : ولا ينفعكم يوم القيامة ،

٩٢٣

اشتراككم في العذاب ، أنتم وقرناؤكم ، وأخلاؤكم. وذلك لأنكم اشتركتم في الظلم ، فاشتركتم في عقابه وعذابه. ولن ينفعكم أيضا ، روح التسلي في المصيبة فإن المصيبة إذا وقعت في الدنيا ، واشترك فيها المعاقبون ، هان عليهم بعض الهون ، وتسلّى بعضهم ببعض. وأما مصيبة الآخرة ، فإنها جمعت كل عقاب ، ما فيه أدنى راحة ، حتى ولا هذه الراحة. نسألك يا ربنا العافية ، وأن تريحنا برحمتك.

[٤٠] يقول تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مسليا له عن امتناع المكذبين عن الاستجابة له ، وأنهم لا خير فيهم ، ولا فيهم زكاء يدعوهم إلى الهدى : (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَ) أي : الّذين لا يسمعون (أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ) الّذين لا يبصرون. (وَ) تهدي (مَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي : بيّن واضح ، لعلمه بضلاله ، ورضاه به. فكما أن الأصم لا يسمع الأصوات ، والأعمى لا يبصر ، والضال ضلالا مبينا لا يهتدي. فهؤلاء قد فسدت فطرهم وعقولهم ، بإعراضهم عن الذكر ، واستحدثوا عقائد فاسدة ، وصفات خبيثة ، تمنعهم وتحول بينهم وبين الهدى ، وتوجب لهم الازدياد من الردى. فهؤلاء لم يبق إلّا عذابهم ونكالهم ، إما في الدنيا ، أو في الآخرة ، ولهذا قال تعالى :

[٤١] (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) (٤١) أي : فإن ذهبنا بك قبل أن نريك ما نعدهم من العذاب ، فاعلم بخبرنا الصادق ، أنّا منهم منتقمون.

[٤٢] (أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ) من العذاب (فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) ولكن ذلك متوقف على اقتضاء الحكمة لتعجيله أو تأخيره. فهذه حالك ، وحال هؤلاء المكذبين.

[٤٣] وأما أنت (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ) فعلا واتصافا ، بما يأمر بالاتصاف به ودعوة إليه ، وحرصا على تنفيذه بنفسك وفي غيرك. (إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) موصل إلى الله وإلى دار كرامته. وهذا مما يوجب عليك زيادة التمسك به والاهتداء. إذا علمت أنه حق ، وعدل ، وصدق ، تكون بانيا على أصل أصيل ، إذا بنى غيرك على الشوك والأوهام ، والظلم والجور.

[٤٤] (وَإِنَّهُ) أي : هذا القرآن الكريم (لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) أي : فخر لكم ، ومنقبة جليلة ، ونعمة لا يقادر قدرها ، ولا يعرف وصفها ، ويذكركم أيضا ما فيه من الخير الدنيوي والأخروي ، ويحثكم عليه ، ويذكركم الشر ويرهبكم عنه. (وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) عنه ، هل قمتم به فارتفعتم وانتفعتم ، أم لم تقوموا به؟ فيكون حجة عليكم ، وكفرا منكم بهذه النعمة.

[٤٥] (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) (٤٥) حتى يكون للمشركين نوع حجة ، يتبعون فيها أحدا من الرسل. فإنك لو سألتهم ، واستخبرت عن أحوالهم ، لم تجد أحدا منهم يدعو إلى اتخاذ إله آخر مع الله ، وأن كل الرسل ، من أولهم إلى آخرهم ، يدعون إلى عبادة الله ، وحده لا شريك له. قال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) وكل رسول بعثه الله ، يقول لقومه : اعبدوا الله ما لكم من إله غيره. فدل هذا ، أن المشركين ليس لهم مستند في شركهم ، لا من عقل صحيح ، ولا نقل عن الرسل.

[٤٦] لما قال تعالى : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) (٤٥) بيّن تعالى حال موسى ودعوته ، الّتي هي أشهر ما يكون من دعوات الرسل ، ولأن الله تعالى ، أكثر من ذكرها في كتابه ، فذكر حاله

٩٢٤

مع فرعون. (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) الّتي دلت دلالة قاطعة على صحة ما جاء به ، كالعصا ، والحية ، وإرسال الجراد ، والقمل ، إلى آخر الآيات. (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) فدعاهم إلى الإقرار بربهم ، ونهاهم عن عبادة ما سواه.

[٤٧] (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) (٤٧) أي : ردوها وأنكروها ، واستهزأوا بها ، ظلما وعلوا.

[٤٨] فلم يكن لقصور بالآيات وعدم وضوح فيها ، ولهذا قال : (وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) أي : الآية المتأخرة أعظم من السابقة (وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) كالجراد ، والقمل والضفادع ، والدم ، آيات مفصلات. (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) إلى الإسلام ، ويذعنون له ، ليزول شركهم وشرهم.

[٤٩] (وَقالُوا) عند ما نزل عليهم العذاب : (يا أَيُّهَا السَّاحِرُ) يعنون موسى عليه‌السلام. وهذا ، إما من باب التهكم به ، وإما أن يكون هذا الخطاب عندهم ، مدحا ، فتضرعوا إليه بأن خاطبوه ، بما يخاطبون من يزعمون أنهم علماؤهم ، وهم السحرة فقالوا : (يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) أي : بما خصك الله به ، وفضلّك به ، من الفضائل والمناقب ، أن يكشف عنّا العذاب (إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) إن كشف الله عنّا ذلك.

[٥٠] (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) (٥٠) أي : لم يفوا بما قالوا ، بل غدروا ، واستمروا على كفرهم. وهذا كقوله تعالى : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) (١٣٥).

[٥١] (وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ) مستعليا بباطله ، قد غره ملكه ، وأطغاه ماله وجنوده : (يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) أي : ألست المالك لذلك ، المتصرف فيه. (وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) أي : الأنهار المنسحبة من النيل ، في وسط القصور والبساتين. (أَفَلا تُبْصِرُونَ) هذا الملك الطويل العريض. وهذا من جهله البليغ ، حيث افتخر بأمر خارج عن ذاته ، ولم يفخر بأوصاف حميدة ، ولا أفعال سديدة.

[٥٢] (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) يعني قبحه الله ـ بالمهين ، موسى بن عمران ، كليم الرحمن ، الوجيه عند الله. أي : أنا العزيز ، وهو الذليل المهان المحتقر ، فأيّنا خير؟ (وَ) مع هذا فإنه (لا يَكادُ يُبِينُ) عمّا في ضميره بالكلام ، لأنه ليس بفصيح اللسان. وهذا ليس من العيوب في شيء ، إذا كان يبين ما في قلبه ، ولو كان الكلام ثقيلا عليه.

[٥٣] ثمّ قال فرعون : (فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) أي : فهلّا كان موسى بهذه الحالة ، أن يكون مزينا مجملا بالحلي والأساور؟ (أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) يعاونونه على دعوته ، ويؤيدونه على قوله.

[٥٤] (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ) أي : استخف فرعون عقولهم ، بما أبدى لهم من هذه الشبه ، الّتي لا تسمن ولا تغني من جوع ، ولا حقيقة تحتها ، وليست دليلا على حق ولا على باطل ، ولا تروج إلّا على ضعفاء العقول. فأي دليل ، يدل على أن فرعون محق ، في كون ملك مصر له ، وأنهارها تجري من تحته؟ وأي دليل يدل على بطلان ما جاء به موسى ، لقلة أتباعه ، وثقل لسانه ، وعدم تحلية أمه له بأساور من ذهب؟ ولكن فرعون لقي ملأ لا معقول عندهم ،

٩٢٥

فمهما قال اتبعوه ، من حق وباطل. (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) فسبب فسقهم ، قيض لهم فرعون ، يزين لهم الشرك والشر.

[٥٥ ـ ٥٦] (فَلَمَّا آسَفُونا) أي : أغضبونا بأفعالهم (انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) (٥٦) ليعتبر بهم المعتبرون ويتعظ بأحوالهم المتعظون.

[٥٧] يقول تعالى : (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً) أي : نهي عن عبادته ، وجعلت عبادته بمنزلة عبادة الأصنام والأنداد. (إِذا قَوْمُكَ) المكذبون لك (مِنْهُ) أي : من أجل هذا المثل المضروب. (يَصِدُّونَ) أي : يلجون في خصومتهم لك ، ويصيحون ، ويزعمون أنهم قد غلبوا في حجتهم ، وأفلحوا.

[٥٨] (وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) يعني : عيسى ، حيث نهى عن عبادة الجميع ، وشورك بينهم بالوعيد على من عبدهم ، ونزل أيضا قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) (٩٨). ووجه حجتهم الظالمة ، أنهم قالوا : قد تقرر عندنا وعندك يا محمد ، أن عيسى من عباد الله المقربين ، الّذين لهم العاقبة الحسنة ، فلم سويت بينه وبين معبوداتنا ، في النهي عن عبادة الجميع؟ فلولا أن حجتك باطلة لم تتناقض. ولو قلت : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) (٩٨). وهذا اللفظ بزعمهم ، يعم الأصنام ، وعيسى ، فهل هذا إلّا تناقض؟ وتناقض الحجة ، دليل على بطلانها. هذا أقصى ما يقرون به هذه الشبهة ، الّتي فرحوا بها ، واستبشروا ، وجعلوا يصدون ويتباشرون. وهي ـ ولله الحمد ـ من أضعف الشبه وأبطلها ، فإن تسوية الله بين النهي عن عبادة المسيح ، وبين النهي عن عبادة الأصنام ، لأن العبادة ، حق لله تعالى ، لا يستحقها أحد من الخلق ، لا الملائكة المقربون ، ولا الأنبياء المرسلون ، ولا من سواهم من الخلق. فأي شبهة ، في تسوية النهي عن عبادة عيسى وغيره؟

[٥٩] وليس في تفضيل عيسى عليه‌السلام ، وكونه مقربا عند ربه ما يدل على الفرق بينه وبينها ، في هذا الموضع. وإنّما هو كما قال تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ) بالنبوة والحكمة والعلم والعمل (وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) يعرفون به قدرة الله تعالى على إيجاده من دون أب. وأما قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) (٩٨) فالجواب عنها من ثلاثة أوجه : أحدها : أن قوله : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أن «ما» اسم لما لا يعقل ، لا يدخل فيه المسيح ونحوه. الثاني : أن الخطاب للمشركين ، الّذين بمكة وما حولها ، وهم إنّما يعبدون أصناما وأوثانا. الثالث : أن الله قال بعد هذه الآية : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) (١٠١). فلا شك أن عيسى وغيره من الأنبياء والأولياء ، داخلون في هذه الآية.

[٦٠] ثمّ قال تعالى : (وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) (٦٠) أي : لجعلنا بدلكم ملائكة يخلفونكم في الأرض ، ويكونون في الأرض حتى نرسل إليهم ملائكة من جنسهم. وأما أنتم يا معشر البشر ، فلا تطيقون أن ترسل إليكم الملائكة. فمن رحمة الله بكم ، أن أرسل إليكم رسلا من جنسكم ، تتمكنون من الأخذ عنهم.

[٦١] (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) أي : وإن عيسى عليه‌السلام ، لدليل على الساعة ، وأن القادر على إيجاده ، من أم بلا

٩٢٦

أب ، قادر على بعث الموتى من قبورهم. أو ، وإن عيسى عليه‌السلام ، سينزل في آخر الزمان ، ويكون نزوله ، علامة من علامات الساعة. (فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) أي : لا تشكنّ في قيام الساعة ، فإن الشك فيها كفر. (وَاتَّبِعُونِ) بامتثال ما أمرتكم ، واجتناب ما نهيتكم. (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) موصل إلى الله عزوجل.

[٦٢] (وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ) عمّا أمركم الله به (إِنَّهُ) أي : الشيطان (لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) حريص على إغوائكم ، باذل جهده في ذلك.

[٦٣] (وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ) الدالة على صدق نبوته وصحة ما جاءهم به ، من إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه ، والأبرص ، ونحو ذلك من الآيات. (قالَ) لبني إسرائيل : (قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ) النبوة والعلم ، بما ينبغي على الوجه الذي ينبغي. (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) أي : أبين لكم صوابه وجوابه ، فيزول عنكم بذلك اللبس. فجاء عليه‌السلام مكملا ، ومتمما لشريعة موسى عليه‌السلام ، ولأحكام التوراة. وأتى ببعض التسهيلات ، الموجبة للانقياد له ، وقبول ما جاءهم به. (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) أي : اعبدوا الله وحده لا شريك له ، وامتثلوا أمره ، واجتنبوا نهيه ، وآمنوا بي ، وصدقوني ، وأطيعوني.

[٦٤] (إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٦٤) ففيه الإقرار بتوحيد الربوبية ، بأن الله هو المربي جميع خلقه بأنواع النّعم الظاهرة والباطنة والإقرار بتوحيد العبودية ، بالأمر بعبادة الله وحده لا شريك له ، وإخبار عيسى عليه‌السلام ، أنه عبد من عباد الله ، ليس كما قال النصارى فيه : «إنه ابن الله ، أو ثالث ثلاثة» والإخبار بأن هذا المذكور ، صراط مستقيم ، موصل إلى الله وإلى جنته.

[٦٥] فلما جاءهم عيسى عليه‌السلام بهذا اختلف (الْأَحْزابُ) المتحزبون على التكذيب (مِنْ بَيْنِهِمْ) كلّ قال بعيسى عليه‌السلام ، مقالة باطلة ، ورد ما جاء به ، إلّا من هدى الله من المؤمنين ، الّذين شهدوا له بالرسالة ، وصدقوا بكل ما جاء به ، وقالوا : إنه عبد الله ورسوله. (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) أي : ما أشد حزن الظالمين (مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) ومن أعظم خسارهم ، في ذلك اليوم!!

[٦٦] يقول تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ) أي : هل ينتظر المكذبون ، وهل يتوقعون (إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي : فإذا جاءت ، فلا تسألوا عن أحوال من كذّب بها ، واستهزأ بمن جاء بها.

[٦٧] وإن (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ) أي : يوم القيامة ، المتخالين على الكفر والتكذيب ، ومعصية الله (بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) لأن خلتهم ومحبتهم في الدنيا ، لغير الله ، فانقلبت يوم القيامة عداوة. (إِلَّا الْمُتَّقِينَ) للشرك والمعاصي ، فإن محبتهم تدوم وتتصل ، بدوام من كانت المحبة لأجله.

[٦٨] ذكر ثواب المتقين ، وأن الله تعالى يناديهم يوم القيامة بما يسر قلوبهم ، ويذهب عنهم كل آفة وشر ، فيقول : (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) (٦٨) أي : لا خوف يلحقكم فيما تستقبلونه من الأمور ، ولا حزن يصيبكم فيما مضى منها. وإذا انتفى المكروه من كل وجه ، ثبت المحبوب المطلوب.

[٦٩] (الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا) أي : وصفهم الإيمان بآيات الله ، وذلك شامل للتصديق بها ، وما لا يتم التصديق إلا به ، من العلم بمعناها والعمل

٩٢٧

بمقتضاها. (وَكانُوا مُسْلِمِينَ) لله منقادين في جميع أحوالهم. فجمعوا بين الاتصاف بعمل الظاهر والباطن.

[٧٠] (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) الّتي هي دار القرار (أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ) أي : من كان على مثل عملكم ، من كل مقارن لكم ، من زوجة ، وولد ، وصاحب ، وغيرهم. (تُحْبَرُونَ) أي : تنعمون وتكرمون ، ويأتيكم من فضل ربكم من الخيرات والسرور ، والأفراح ، واللذات ، ما لا تعبّر الألسن عن وصفه.

[٧١] (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ) أي : تدور عليهم خدامهم ، من الولدان المخلدين بطعامهم ، بأحسن الأواني وأفخرها ، وهي : صحاف الذهب وشرابهم ، بألطف الأواني ، وهي : الأكواب ، الّتي لا عرى لها ، وهي من أصفى الأواني ، من فضة أعظم من صفاء القوارير. (وَفِيها) أي : الجنة (ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) وهذا اللفظ جامع ، يأتي على كل نعيم وفرح ، وقرة عين ، وسرور قلب. فكل ما تشتهيه النفوس ، من مطاعم ، ومشارب ، وملابس ، ومناكح وما تلذه العيون ، من مناظر حسنة ، وأشجار محدقة ، ونعم مؤنقة ، ومبان مزخرفة ، فإنه حاصل فيها ، معد لأهلها ، على أكمل الوجوه وأفضلها ، كما قال تعالى : (لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) (٥٧). (وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) وهذا هو تمام نعيم أهل الجنة ، وهو : الخلد الدائم فيها ، الذي يتضمن دوام نعيمها وزيادته ، وعدم انقطاعه.

[٧٢] (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ) الموصوفة بأكمل الصفات هي (الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي : أورثكم الله إياها بأعمالكم ، وجعلها من فضله ، جزاء لها ، وأودع فيها من رحمته ما أودع. (لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ) كما في الآية الأخرى (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) (٥٢). (مِنْها تَأْكُلُونَ) أي : مما تتخيرون من تلك الفواكه الشهية ، والثمار اللذيذة تأكلون.

[٧٤] ولما ذكر نعيم الجنة ، عقبة بذكر عذاب جهنم فقال : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ) إلى (كارِهُونَ). (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ) الّذين أجرموا بكفرهم وتكذيبهم (فِي عَذابِ جَهَنَّمَ) أي : منغمرون فيه ، محيط بهم العذاب من كل جانب. (خالِدُونَ) فيه ، لا يخرجون منه أبدا.

[٧٥] و (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ) العذاب ساعة ، لا بإزالته ، ولا بتهوين عذابه. (وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) أي : آيسون من كل خير ، غير راجين للفرج ، وذلك أنهم ينادون ربهم فيقولون : (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) (١٠٨) وهذا العذاب العظيم ، بما قدمت أيديهم ، وبما ظلموا به أنفسهم.

[٧٦] (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) (٧٦) فالله لم يظلمهم ولم يعاقبهم بلا ذنب ولا جرم.

[٧٧] (وَنادَوْا) وهم في النار ، لعلهم يحصل لهم استراحة. (يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) أي : ليمتنا فنستريح ، فإننا في غمّ شديد ، وعذاب غليظ ، لا صبر لنا عليه ولا جلد. (قالَ) لهم مالك خازن النار ـ حين طلبوا منه أن يدعو الله لهم أن يقضي عليهم ـ : (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) أي : مقيمون فيها ، لا تخرجون منها أبدا. فلم يحصل لهم ما قصدوه ، بل أجابهم بنقيض قصدهم ، وزادهم غما إلى غمهم.

[٧٨] ثمّ وبخهم بما فعلوا فقال : (لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِ) الذي يوجب عليكم أن تتبعوه. فلو تبعتموه ، لفزتم وسعدتم. (وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) فلذلك شقيتم شقاوة لا سعادة بعدها.

[٧٩] يقول تعالى : (أَمْ أَبْرَمُوا) أي : أبرم المكذبون بالحق المعاندون له (أَمْراً) أي : كادوا كيدا ، ومكروا للحق ولمن جاء بالحق ، ليدحضوه ، بما موهوا من الباطل المزخرف المزوق. (فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) أي : محكمون أمرا ومدبرون تدبيرا ، يعلو تدبيرهم ، وينقضه ويبطله. وهو ما قيّضه الله من الأسباب والأدلة ، لإحقاق الحقّ ، وإبطال الباطل ، كما قال تعالى : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ).

[٨٠] (أَمْ يَحْسَبُونَ) بجهلهم وظلمهم (أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ) الذي لم يتكلموا به ، بل هو سر في قلوبهم (وَنَجْواهُمْ) أي : كلامهم الخفي الذي يتناجون به ، أي : فلذلك أقدموا على المعاصي ، وظنوا أنها لا تبعة لها ولا مجازاة على ما خفي منها. فرد الله عليهم بقوله : (بَلى) إنّا نعلم سرهم ونجواهم (وَرُسُلُنا) الملائكة الكرم. (لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) كل ما عملوه ، سيحفظ ذلك عليهم ، حتى يردوا

٩٢٨

القيامة ، فيجدوا ما عملوا حاضرا ، ولا يظلم ربك أحدا.

[٨١] أي : قل يا أيها الرسول الكريم ، للذين جعلوا لله ولدا ، وهو الأحد الفرد الصمد ، الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، ولم يكن له كفوا أحد. (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) (٨١) لذلك الولد ، لأنه جزء من والده ، وأنا أوّل الخلق انقيادا للأوامر المحبوبة لله ولكني أوّل المنكرين لذلك ، وأشدهم له نفيا ، فعلم بذلك بطلانه. فهذا احتجاج عظيم ، عن من عرف أحوال الرسل. وأنه إذا علم أنهم أكمل الخلق ، وأن كل خير فهم أوّل الناس سبقا إليه ، وتكميلا له. وكل شر فهم أوّل الناس تركا له ، وإنكارا له ، وبعدا منه. فلو كان للرحمن ولد وهو الحقّ ، لكان محمد بن عبد الله ، أفضل الرسل أوّل من عبده ، ولم يسبقه إليه المشركون. ويحتمل أن معنى الآية : لو كان للرحمن ولد ، فأنا أوّل العابدين لله. ومن عبادتي لله ، إثبات ما أثبته ، ونفي ما نفاه ، فهذا من العبادة القولية الاعتقادية. ويلزم من هذا ، لو كان حقا ، لكنت أوّل مثبت له. فعلم بذلك ، بطلان دعوى المشركين وفسادها ، عقلا ونقلا.

[٨٢] (سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) (٨٢) من الشريك والظهير ، والعوين ، والولد ، وغير ذلك ، مما نسبه إليه المشركون.

[٨٣] (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا) أي : يخوضوا بالباطل ، ويلعبوا بالمحال. فعلومهم ضارة غير نافعة ، وهي الخوض ، والبحث بالعلوم الّتي يعارضون بها الحقّ ، وما جاءت به الرسل ، وأعمالهم لعب وسفاهة ، لا تزكي النفوس ، ولا تثمر المعارف. ولهذا توعدهم بما أمامهم يوم القيامة فقال : (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) فسيعلمون فيه ماذا حصلوا ، وما حصلوا عليه من الشقاء الدائم ، والعذاب المستمر.

[٨٤] (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) يخبر تعالى ، أنه وحده ، المألوه ، المعبود في السموات والأرض. فأهل السموات كلهم ، والمؤمنون من أهل الأرض يعبدونه ، ويعظمونه ، ويخضعون لجلاله ، ويفتقرون لكماله. (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً). فهو تعالى المألوه المعبود ، الذي يألهه الخلائق كلهم ، طائعين مختارين ، وكارهين. وهذه كقوله تعالى : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) أي : ألوهيته ومحبته فيهما. وأما هو فإنه فوق عرشه ، بائن من خلقه ، متوحد بجلاله ، متمجد بكماله. (وَهُوَ الْحَكِيمُ) الذي أحكم ما خلقه ، وأتقن ما شرعه. فما خلق شيئا إلّا لحكمة ، وحكمه القدري ، والشرعي ، والجزائي مشتمل على الحكمة. (الْعَلِيمُ) بكل شيء يعلم السر وأخفى ، لا يعزب عنه مثقال ذرة في العالم العلوي والسفلي ، ولا أصغر منها ، ولا أكبر.

[٨٥] (وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) تبارك بمعنى تعالى وتعاظم ، وكثر خيره ، واتسعت صفاته ، وعظم ملكه. ولهذا ذكر سعة ملكه للسموات والأرض وما بينهما ، وسعة علمه ، وأنه بكل شيء عليم. حتى أنه تعالى ، انفرد بعلم الغيوب ، الّتي لم يطّلع عليها أحد من الخلق لا نبي مرسل ، ولا ملك مقرّب ولهذا قال : (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) قدم الظرف ، ليفيد الحصر ، أي : لا يعلم متى تجيء الساعة إلّا هو. ومن تمام ملكه وسعته ، أنه مالك الدنيا والآخرة ، ولهذا قال : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي : في الآخرة فيحكم بينكم

٩٢٩

بحكمه العدل. ومن تمام ملكه ، أنه لا يملك أحد من خلقه من الأمر شيئا ، ولا يقدم على الشفاعة عنده أحد ، إلّا بإذنه.

[٨٦] (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ) أي : كل من دعي من دون الله ، من الأنبياء والملائكة وغيرهم ، لا يملكون الشفاعة ، ولا يشفعون إلّا بإذن الله ، ولا يشفعون إلّا لمن ارتضى ، ولهذا قال : (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِ) أي : نطق بلسانه ، مقرا بقلبه ، عالما بما يشهد به ، ويشترط أن تكون شهادته بالحق ، وهي الشهادة لله تعالى بالوحدانية ، ولرسله بالنبوة والرسالة ، وصحة ما جاءوا به ، من أصول الدين ، وفروعه ، وحقائقه وشرائعه. فهؤلاء الذين تنفع فيهم شفاعة الشافعين ، وهؤلاء الناجون من عقاب الله ، الحائزون لثوابه.

[٨٧] ثم قال تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) أي : ولئن سألت المشركين عن توحيد الربوبية ، ومن هو الخالق ، لأقروا أنه الله وحده لا شريك له. (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي : فكيف يصرفون عن عبادة الله ، والإخلاص له وحده؟ فإقرارهم بتوحيد الربوبية ، يلزمهم به الإقرار بتوحيد الألوهية ، وهو من أكبر الأدلة على بطلان الشرك.

[٨٨] (وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) (٨٨) هذا معطوف على قوله : (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي : وعنده علم قيله ، أي : الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، شاكيا لربه تكذيب قومه ، متحزنا على ذلك ، متحسرا على عدم إيمانهم. فالله تعالى عالم بهذه الحال ، قادر على معاجلتهم بالعقوبة. ولكنه تعالى ، حليم يمهل العباد ، ويستأني بهم ، لعلهم يتوبون ، ويرجعون ولهذا قال :

[٨٩] (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ) أي : اصفح عنهم ، ما يأتيك من أذيتهم القولية والفعلية ، واعف عنهم ، ولا يبدر منك لهم إلّا السّلام الذي يقابل به أولو الألباب والبصائر الجاهلين. كما قال تعالى عن عباده الصالحين : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ) أي : خطابا بمقتضى جهلهم (قالُوا سَلاماً). فامتثل صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأمر ربه ، وتلقى ما يصدر إليه من قومه وغيرهم من الأذى ، بالعفو والصفح ، ولم يقابلهم ، عليه‌السلام ، إلّا بالإحسان إليهم والخطاب الجميل. فصلوات الله وسلامه ، على من خصه الله بالخلق العظيم ، الذي فضّل به أهل الأرض والسماء ، وارتفع به أعلى من كواكب الجوزاء. وقوله : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) أي : غبّ ذنوبهم ، وعاقبة جرمهم.

تفسير سورة الدخان

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٤] هذا قسم بالقرآن على القرآن ، فأقسم بالكتاب المبين لكل ما يحتاج إلى بيانه أنه أنزله (فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) ، أي : كثيرة الخير والبركة ، وهي ليلة القدر ، الّتي هي خير من ألف شهر ، فأنزل أفضل الكلام بأفضل الليالي والأيام ،

٩٣٠

على أفضل الأنام ، بلغة العرب الكرام ، لينذر به قوما ، عمتهم الجهالة ، وغلبت عليهم الشقاوة ، فيستضيئوا بنوره ويقتبسوا من هداه ، ويسيروا وراءه ، فيحصل لهم الخير الدنيوي ، والخير الأخروي ، ولهذا قال : (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيها) ، أي : في تلك الليلة الفاضلة الّتي نزل فيها القرآن (يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) ، أي : يفصل ويميز ، ويكتب كل أمر قدري وشرعي ، حكم الله به. وهذه الكتابة والفرقان ، الذي يكون في ليلة القدر ، إحدى الكتابات الّتي تكتب وتميز ، فتطابق الكتاب الأول ، الذي كتب الله به مقادير الخلائق ، وآجالهم ، وأرزاقهم ، وأعمالهم ، وأموالهم. ثمّ إن الله تعالى ، قد وكل ملائكة تكتب ما سيجري على العبد ، وهو في بطن أمه ، ثمّ وكلهم بعد خروجه إلى الدنيا ، وكّل به كراما كاتبين ، يكتبون ويحفظون عليه أعماله ، ثمّ إنه تعالى يقدر في ليلة القدر ، ما يكون في السنة.

[٥] وكل هذا من تمام علمه وكمال حكمته ، وإتقان حفظه ، واعتنائه تعالى بخلقه (أَمْراً مِنْ عِنْدِنا) ، أي : هذا الأمر الحكيم ، أمر صادر من عندنا.

[٦] (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) للرسل ومنزلين للكتب ، والرسل تبلغ أوامر المرسل وتخبر بأقداره ، (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) ، أي : إن إرسال الرسل وإنزال الكتب ، الّتي أفضلها القرآن ، رحمة من رب العباد بالعباد ، فما رحم الله عباده برحمة ، أجل من هدايتهم بالكتب والرسل. وكل خير ينالونه في الدنيا والآخرة ، فإنه من أجل ذلك وسببه. (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ، أي : يسمع جميع الأصوات ، ويعلم جميع الأمور الظاهرة والباطنة ، وقد علم تعالى ، ضرورة العباد إلى رسله وكتبه ، فرحمهم بذلك ، ومنّ عليهم ، فلله تعالى الحمد والمنة ، والإحسان.

[٧ ـ ٨] (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) ، أي : خالق ذلك ومدبره ، والمتصرف فيه بما شاء. (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) ، أي : عالمين بذلك علما مفيدا لليقين ، فاعلموا أن الرب للمخلوقات ، هو إلهها الحقّ ، ولهذا قال : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ، أي : لا معبود إلا وجهه ، (يُحْيِي وَيُمِيتُ) ، أي : هو المتصرف وحده بالإحياء والإماتة ، وسيجمعكم بعد موتكم فيجزيكم بعملكم ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر. (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) ، أي : رب الأولين والآخرين ، مربيهم بالنعم ، الدافع عنهم النقم.

[٩] فلما قرر تعالى ربوبيته وألوهيته ، بما يوجب العلم التام ، ويدفع الشك ، أخبر أن الكافرين مع هذا البيان (فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) ، أي : منغمرون في الشكوك والشبهات ، غافلون عما خلقوا له ، قد اشتغلوا باللعب الباطل ، الذي لا يجدي عليهم إلا الضرر.

[١٠ ـ ١١] (فَارْتَقِبْ) ، أي : انتظر فيهم العذاب ، فإنه قد قرب وآن أوانه ، (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ) ، أي : يعمهم ذلك الدخان ، ويقال لهم : (هذا عَذابٌ أَلِيمٌ). واختلف المفسرون في المراد بهذا الدخان ، فقيل : إنه الدخان الذي يغشى الناس ويعمهم ، حين تقرب النار من المجرمين في يوم القيامة وأن الله توعدهم بعذاب يوم القيامة وأمر نبيه أن ينتظر بهم ذلك اليوم. ويؤيد هذا المعنى ، أن هذه الطريقة هي طريقة القرآن في توعد الكفار والتأنّي بهم ، وترهيبهم بذلك اليوم وعذابه ، وتسلية الرسول والمؤمنين بالانتظار ، بمن آذاهم.

[١٣] ويؤيده أيضا ، أنه قال في هذه الآية : (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ) (١٣) وهذا يقال يوم

٩٣١

القيامة للكفار ، حين يطلبون الرجوع إلى الدنيا ، فيقال : قد ذهب وقت الرجوع. وقيل : إن المراد بذلك ، ما أصاب كفار قريش حين امتنعوا من الإيمان ، واستكبروا على الحقّ ، فدعا عليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «اللهم أعني عليهم بسنين كسني يوسف» ، فأرسل الله عليهم الجوع العظيم ، حتى أكلوا الميتات والعظام ، وصاروا يرون الذي بين السماء والأرض كهيئة الدخان وليس به ، وذلك من شدة الجوع. فيكون ـ على هذا ـ قوله : (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ) أن ذلك بالنسبة إلى أبصارهم ، وما يشاهدون ، وليس بدخان حقيقة. ولم يزالوا بهذه الحالة حتى استرحموا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسألوه أن يدعو الله لهم ، أن يكشفه الله عنهم ، فكشفه الله عنهم ، وعلى هذا فيكون قوله : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ) (١٥) إخبار بأن الله سيصرفه عنهم ، وتوعّد لهم أن يعودوا إلى الاستكبار والتكذيب ، وإخبار بوقوعه فوقع ، وأن الله سيعاقبهم بالبطشة الكبرى ، قالوا : وهي وقعة «بدر» وفي هذا القول نظر ظاهر. وقيل : إن المراد بذلك ، أن ذلك من أشراط الساعة ، وأنه يكون في آخر الزمان ، دخان يأخذ بأنفاس الناس ، ويصيب المؤمنين معه كهيئة الدخان. والقول هو الأول. وفي الآية احتمال أن المراد بقوله : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) (١٤) أن هذا كله يوم القيامة.

[١٥] وأن قوله تعالى : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) (١٦) أن هذا ما وقع لقريش كما تقدم. وإذا نزلت هذه الآيات على هذين المعنيين ، لم تجد في اللفظ ، ما يمنع من ذلك. بل تجدها مطابقة لهما أتم المطابقة ، وهذا الذي يظهر عندي ، ويترجح ، والله أعلم.

[١٧] لما ذكر تعالى تكذيب من كذب الرسول محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر أن لهم سلفا من المكذبين ، فذكر قصتهم مع موسى ، وما أحل الله بهم ليرتدع هؤلاء المكذبون عن ما هم عليه ، فقال : (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ) ، أي : ابتليناهم واختبرناهم بإرسال رسولنا ، موسى بن عمران إليهم ، الرسول الكريم ، الذي فيه من الكرم ومكارم الأخلاق ما ليس في غيره.

[١٨] (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ) ، أي : قال لفرعون وملئه : أدوا إليّ عباد الله ، يعني بهم : بني إسرائيل ، أي : أرسلوهم ، وأطلقوهم من عذابكم وسومكم إياهم سوء العذاب ، فإنهم عشيرتي ، وأفضل العالمين في زمانهم. وأنتم قد ظلمتموهم ، واستعبدتموهم بغير حق ، فأرسلوهم ليعبدوا ربهم ، (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) ، أي : رسول من رب العالمين ، أمين على ما أرسلني به ، لا أكتمكم منه شيئا ، ولا أزيد فيه ولا أنقص ، وهذا يوجب تمام الانقياد له.

[١٩] (وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ) بالاستكبار عن عبادته ، والعلو على عباد الله ، (إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) ، أي : بحجة بينة ظاهرة ، وهو ما أتى به من المعجزات الباهرات ، والأدلة القاهرات ، فكذبوه وهموا بقتله ، فلجأ إلى الله من شرهم ، فقال :

[٢٠] (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) (٢٠) ، أي : تقتلوني شر القتلات ، بالرجم بالحجارة.

[٢١] (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) (٢١) ، أي : لكم ثلاث مراتب : الإيمان بي ، وهو مقصودي منكم ، فإن لم تحصل منكم هذه المرتبة ، فاعتزلوني ، لا عليّ ولا لي ، فاكفوني شركم.

[٢٢] فلم تحصل منهم المرتبة الأولى ولا الثانية ، بل لم يزالوا متمردين عاتين على الله ، محاربين لنبيه موسى عليه‌السلام ، غير ممكنين له من قومه بني إسرائيل ، (فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) (٢٢) ، أي : قد أجرموا جرما ، يوجب تعجيل العقوبة. فأخبر عليه‌السلام بحالهم ، وهذا دعاء بالحال ، الّتي هي أبلغ من المقال ، عن نفسه عليه‌السلام (رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) ، فأمره الله أن يسري بعباده ليلا ، وأخبره أن فرعون وقومه سيتبعونه.

[٢٤] (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً) ، وذلك أنه لما سرى موسى ببني إسرائيل كما أمره الله ، ثمّ تبعهم فرعون ، أمر الله موسى أن يضرب البحر ، فضربه ، فصار اثنى عشر طريقا ، وصار الماء من بين تلك الطرق ، كالجبال العظيمة ، فسلكه موسى وقومه. فلما خرجوا منه ، أمره الله أن يتركه رهوا ، أي : بحاله ، ليسلكه فرعون وجنوده (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ).

٩٣٢

[٢٥ ـ ٢٨] فلما تكامل قوم موسى خارجين منه ، وقوم فرعون داخلين فيه ، أمره الله تعالى أن يلتطم عليهم ، فغرقوا عن آخرهم ، وتركوا ما متعوا به من الحياة الدنيا ، وأورثه الله بني إسرائيل ، الّذين كانوا مستعبدين لهم ، ولهذا قال : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها) ، أي : هذه النعمة المذكورة (قَوْماً آخَرِينَ) ، وفي الآية الأخرى : (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) (٥٩).

[٢٩] (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) ، أي : لما أتلفهم الله وأهلكهم ، لم تبك عليهم السماء والأرض ، أي : لم يحزن عليهم ، ولم ييأس على فراقهم ، بل كل استبشر بهلاكهم وتلفهم حتى السماء والأرض ، لأنهم ما خلفوا من آثارهم إلا ما يسود وجوههم ، ويوجب عليهم اللعنة والمقت من العالمين. (وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) ، أي : ممهلين عن العقوبة ، بل اصطلتهم في الحال.

[٣٠] ثمّ امتنّ تعالى على بني إسرائيل ، فقال : (وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ) (٣٠) الذي كانوا فيه (مِنْ فِرْعَوْنَ) إذ يذبّح أبناءهم ، ويستحيي نساءهم. (إِنَّهُ كانَ عالِياً) ، أي : مستكبرا في الأرض بغير الحقّ (مِنَ الْمُسْرِفِينَ) المتجاوزين لحدود الله ، والمتجرئين على محارمه.

[٣٢] (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ) ، أي : اصطفيناهم وانتقيناهم (عَلى عِلْمٍ) منا بهم ، وباستحقاقهم لذلك الفضل (عَلَى الْعالَمِينَ) ، أي : عالمي زمانهم ومن قبلهم وبعدهم حتى أتى الله بأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ففضلوا العالمين كلهم ، وجعلهم الله خير أمة أخرجت للناس ، وامتن عليهم ، بما لم يمتن به على غيرهم.

[٣٣] (وَآتَيْناهُمْ) ، أي : بني إسرائيل (مِنَ الْآياتِ) الباهرة ، والمعجزات الظاهرة. (ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ) ، أي : إحسان كثير ، ظاهر منا عليهم ، وحجة عليهم ، على صحة ما جاءهم به نبيهم موسى عليهم‌السلام.

[٣٤] يخبر تعالى (إِنَّ هؤُلاءِ) المكذبين (لَيَقُولُونَ) مستبعدين للبعث والنشور : (إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) (٣٥) ، أي : ما هي إلا الحياة الدنيا ، فلا بعث ، ولا نشور ، ولا جنة ، ولا نار.

[٣٦] ثمّ قالوا ـ متجرئين على ربهم ، معجزين له ـ : (فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٣٦) ، وهذا من اقتراح الجهلة المعاندين في مكان سحيق ، فأي ملازمة بين صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه متوقف على الإتيان بآبائهم؟ فإن الآيات ، قد قامت على صدق ما جاءهم به ، وتواترت تواترا عظيما من كل وجه.

[٣٧] قال تعالى : (أَهُمْ خَيْرٌ) ، أي : هؤلاء المخاطبون (أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) ، فإنهم ليسوا خيرا منهم ، وقد اشتركوا في الإجرام ، فليتوقعوا من الهلاك ما أصاب إخوانهم المجرمين.

[٣٨ ـ ٣٩] يخبر تعالى ، عن كمال قدرته ، وتمام حكمته ، وأنه ما خلق السماوات والأرض لعبا ، ولا لهوا ، ولا سدى من غير فائدة ، وأنه ما خلقهما إلا بالحق ، أي : نفس خلقهما بالحق ، وخلقهما مشتمل على الحقّ ، وأنه أوجدهما ليعبدوه وحده لا شريك له ، وليأمر العباد ، وينهاهم ويثيبهم ، ويعاقبهم. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ، فلذلك لم يتفكروا في خلق السماوات والأرض.

[٤٠] (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) وهو يوم القيامة الذي يفصل الله به بين

٩٣٣

الأولين والآخرين ، وبين كل مختلفين (مِيقاتُهُمْ) ، أي : الخلائق (أَجْمَعِينَ). كلهم سيجمعهم الله فيه ، ويحضرهم ويحضر أعمالهم ، ويكون الجزاء عليها.

[٤١] (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً) لا قريب عن قريبه ، ولا صديق عن صديقه ، (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) ، أي : يمنعون عذاب الله عزوجل ، لأن أحدا من الخلق لا يملك من الأمر شيئا.

[٤٢] (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (٤٢) ، فإنه هو الذي ينتفع ويرتفع برحمة الله تعالى ، الّتي تسبب إليها ، وسعى لها سعيها في الدنيا.

[٤٣] ثمّ قال تعالى : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ) (٤٣) إلى : (تَمْتَرُونَ). لما ذكر يوم القيامة ، وأنه يفصل بين عباده فيه ، ذكر افتراقهم إلى فريقين : فريق في الجنة ، وفريق في السعير ، وهم : الآثمون بعمل الكفر والمعاصي ، وأن طعامهم (شَجَرَةَ الزَّقُّومِ) شر الأشجار وأفظعها ، وأن طعمها (كَالْمُهْلِ) ، أي : كالصديد المنتن ، خبيث الريح والطعم ، شديد الحرارة.

[٤٥ ـ ٤٦] (يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) (٤٦) ، ويقال للمعذّب :

[٤٩] (ذُقْ) هذا العذاب الأليم ، والعقاب الوخيم (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) ، أي بزعمك أنك عزيز ، ستمتنع من عذاب الله ، وأنك كريم على الله لا يصيبك بعذاب. فاليوم تبين لك ، أنك أنت الذليل المهان الخسيس.

[٥٠] (إِنَّ هذا) العذاب العظيم ، هو (ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) ، أي :

تشكون ، فالآن صار عندكم ، حق اليقين.

[٥١] هذا جزاء المتقين لله الّذين اتقوا سخطه وعذابه ، بتركهم المعاصي ، وفعلهم الطاعات ، فلما انتفى السخط عنهم والعذاب ، ثبت لهم الرضا من الله ، والثواب العظيم ، في ظل ظليل ، من كثرة الأشجار والفواكه والعيون ، تجري من تحتهم الأنهار ، يفجرونها تفجيرا في جنات النعيم. فأضاف الجنات إلى النعيم ، لأن ما اشتملت عليه كله نعيم وسرور ، كامل من كل وجه ، ما فيه منغص ولا مكدر ، بوجه من الوجوه. ولباسهم من الحرير الأخضر من السندس والإستبرق ، أي : غليظ الحرير ورقيقه ، مما تشتهيه أنفسهم. (مُتَقابِلِينَ) في قلوبهم ووجوههم في كمال الراحة ، والطمأنينة ، والمحبة والعشرة الحسنة ، والآداب المستحسنة. (كَذلِكَ) النعيم التام والسرور الكامل (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ) ، أي : نساء جميلات من جمالهن وحسنهن أنه يحار الطرف في حسنهن ، وينبهر العقل بجمالهن ، وينخلب اللب لكمالهن (عِينٍ) ، أي : واسعات الأعين ، حسانها. (يَدْعُونَ فِيها) ، أي : الجنة (بِكُلِّ فاكِهَةٍ) مما له اسم في الدنيا ، ومما لا يوجد له اسم ، ولا نظير في الدنيا. فمهما طلبوه من أنواع الفاكهة وأجناسها ، أحضر لهم في الحال ، من غير تعب ولا كلفة ، (آمِنِينَ) من انقطاع ذلك ، وآمنين من مضرته ، وآمنين من كل مكدر ، وآمنين من الخروج منها والموت ، ولهذا قال : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) ، أي : ليس فيها موت بالكلية. ولو كان فيها موت يستثنى ، لم يستثن الموتة الأولى ، الّتي هي الموتة في الدنيا ، فتم لهم كل محبوب مطلوب ، (وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ) ، أي : حصول النعيم واندفاع العذاب عنهم ، من فضل الله عليهم وكرمه ، فإنه تعالى هو الذي وفقهم للأعمال الصالحة ، الّتي بها نالوا خير الآخرة ، وأعطاهم أيضا ، ما لم تبلغه أعمالهم.

٩٣٤

(ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ، وأي فوز أعظم من نيل رضوان الله وجنته ، والسلامة من عذابه وسخطه؟ (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ) ، أي : القرآن (بِلِسانِكَ) ، الذي هو أفصح الألسنة على الإطلاق وأجلها ، فتيسر به لفظه ، وتيسر به معناه. (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ما فيه نفعهم فيفعلونه ، وما فيه ضررهم فيتركونه. (فَارْتَقِبْ) ، أي انتظر ما وعدك ربك ، من الخير والنصر (إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) ما يحل بهم من العذاب ، وفرق بين الارتقابين : رسول الله وأتباعه يرتقبون الخير في الدنيا والآخرة. وضدهم ، يرتقبون الشر في الدنيا والآخرة. تم تفسير سورة الدخان ـ ولله الحمد والمنة.

سورة الجاثية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[٢] يخبر تعالى خبرا ، يتضمن الأمر بتعظيم القرآن ، والاعتناء به ، وأنه (تَنْزِيلُ) ، ... (مِنَ اللهِ) المألوه المعبود ، لما اتصف به من صفات الكمال ، وانفرد به من النعم ، الذي له العزة الكاملة والحكمة التامة.

[٣] ثمّ أيد ذلك بما ذكره من الآيات الأفقية والنفسية ، من خلق السماوات والأرض ، وما بث فيهما من الدواب ، وما أودع فيهما من المنافع ، وما أنزل الله من الماء ، الذي يحيي به الله البلاد والعباد. فهذه كلها آيات بينات ، وأدلة واضحات ، على صدق هذا القرآن العظيم ، وصحة ما اشتمل عليه من الحكم والأحكام ، ودالات أيضا على ما لله تعالى من الكمال ، وعلى البعث والنشور. ثمّ قسم تعالى الناس ، بالنسبة إلى الانتفاع بآياته وعدمه ، إلى قسمين : قسم يستدلون بها ، ويتفكرون بها ، وينتفعون فيرتفعون وهم المؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر إيمانا تاما ، وصل بهم إلى درجة اليقين ، فزكى منهم العقول ، وازدادت به معارفهم وألبابهم وعلومهم. وقسم يسمع آيات الله سماعا تقوم به الحجة عليهم ، ثمّ يعرض عنها ، ويستكبر ـ كأنه ما سمعها ، لأنها لم تزك قلبه ، ولا طهّرته ، بل ـ بسبب استكباره عنها ، ازداد طغيانه.

[٧] وأنه إذا علم من آيات الله شيئا ، اتخذها هزوا ، فتوعده الله تعالى بالويل فقال : (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) (٧) ، أي : كذاب في مقاله ، أثيم في فعاله.

[١٠] وأخبر أن له عذابا أليما ، وأن (مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) تكفي في عقوبتهم البليغة. وأنه (لا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا) من الأمول (شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) يستنصرون بهم فخذلوهم ، أحوج ما كانوا إليهم لو نفعوا.

[١١] فلما بيّن آياته القرآنية والعيانية ، وأن الناس فيها على قسمين ، أخبر عن القرآن المشتمل على هذه المطالب العالية ، أنه هدى ، فقال : (هذا هُدىً) وهو وصف عام لجميع القرآن ، فإنه يهدي إلى معرفة الله تعالى ، بصفاته المقدسة ، وأفعاله الحميدة. ويهدي إلى معرفة رسله ، وأوليائهم ، وأعدائهم ، وأوصافهم ، ويهدي إلى الأعمال الصالحة ويدعو إليها ، ويبين الأعمال السيئة وينهى عنها ، ويهدي إلى بيان الجزاء على الأعمال ، ويبين الجزاء الدنيوي

٩٣٥

والأخروي ، فالمهتدون اهتدوا به ، فأفلحوا وسعدوا. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) الواضحة القاطعة ، الّتي لا يكفر بها إلا من اشتد ظلمه ، وتضاعف طغيانه (لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ).

[١٢ ـ ١٣] يخبر تعالى عن فضله على عباده وإحسانه إليهم ، بتسخير البحر لسير المراكب والسفن بأمره وتيسيره. (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) بأنواع التجارات والمكاسب. (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الله تعالى ، فإنكم إذا شكرتموه ، زادكم من نعمه وأثابكم على شكركم أجرا جزيلا. (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) ، أي : من فضله وإحسانه. وهذا شامل لأجرام السماوات والأرض ، ولما أودع الله فيهما ، من الشمس والقمر ، والكواكب ، والثوابت ، والسيارات ، وأنواع الحيوانات ، وأصناف الأشجار والثمرات ، وأجناس المعادن ، وغير ذلك مما هو معد لمصالح بني آدم ، ومصالح ما هو من ضروراته ، فهذا يوجب عليهم أن يبذلوا غاية جهدهم في شكر نعمته ، وأن تتغلغل أفكارهم في تدبر آياته وحكمه ، ولهذا قال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). وجملة ذلك أن خلقها وتدبيرها وتسخيرها ، دالّ على نفوذ مشيئة الله ، وكمال قدرته. وما فيها من الإحكام والإتقان ، وبديع الصنعة ، وحسن الخلقة ، دالّ على كمال حكمته وعلمه. وما فيها من السعة والعظمة والكثرة ، دال على سعة ملكه وسلطانه. وما فيها من التخصيصات والأشياء المتضادات ، دليل على أنه الفعّال لما يريد. وما فيها من المنافع ، والمصالح الدينية والدنيوية ، دليل على سعة رحمته ، وشمول فضله وإحسانه ، وبديع لطفه وبره. وكل ذلك دال على أنه وحده ، المألوه المعبود الذي لا تنبغي العبادة والذل والمحبة إلا له ، وأن رسله صادقون فيما جاؤوا به. فهذه أدلة عقلية واضحة ، لا تقبل ريبا ولا شكا.

[١٤] يأمر تعالى عباده المؤمنين بحسن الخلق ، والصبر على أذية المشركين به ، الّذين لا يرجون أيام الله ، أي : لا يرجون ثوابه ، ولا يخافون وقائعه في العاصين ، فإنه تعالى سيجزي كل قوم بما يكسبون. فأنتم يا معشر المؤمنين ، يجزيكم على إيمانكم ، وصفحكم وصبركم ، ثوابا جزيلا.

[١٥] وهم ـ إن استمروا على تكذيبهم ـ فلا يحل بكم ما حلّ بهم من العذاب الشديد والخزي ، ولهذا قال : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (١٥).

[١٦] أي : ولقد أنعمنا على بني إسرائيل نعما لم تحصل لغيرهم من الناس ، وآتيناهم (الْكِتابَ) ، أي : التوراة والإنجيل ، (وَالْحُكْمَ) بين الناس ، (وَالنُّبُوَّةَ) الّتي امتازوا بها ، وصارت النبوة في ذرية إبراهيم عليه‌السلام ، أكثرهم من بني إسرائيل. (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) من المآكل والمشارب والملابس ، وإنزال المن والسلوى عليهم. (وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) ، أي : على الخلق بهذه النّعم ، ويخرج من هذا العموم اللفظي ، هذه الأمة ، فإنهم خير أمة أخرجت للناس. والسياق يدل على أن المراد غير هذه الأمة ، فإن الله يقص علينا ما امتن به على بني إسرائيل ، وميزهم على غيرهم. وأيضا فإن الفضائل الّتي فاق بها بنو إسرائيل من الكتاب ، والحكم ، والنبوة ، وغيرها من النعوت ، قد حصلت كلها لهذه الأمة ، وزادت عليهم هذه الأمة فضائل كثيرة ، فهذه الشريعة ، شريعة بني إسرائيل جزء منها ، فإن هذا الكتاب مهيمن على سائر الكتب السابقة ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مصدق لجميع المرسلين.

٩٣٦

[١٧] (وَآتَيْناهُمْ) ، أي : آتينا بني إسرائيل (بَيِّناتٍ) ، أي : دلالات تبين الحق من الباطل (مِنَ الْأَمْرِ) القدري ، الذي أوصله الله إليهم. وتلك الآيات هي المعجزات التي رأوها على يد موسى عليه‌السلام. فهذه النعم التي أنعم الله بها على بني إسرائيل ، تقتضي الحال أن يقوموا بها على أكمل الوجوه ، وأن يجتمعوا على الحق ، الذي بينه الله لهم ، ولكن انعكس الأمر ، فعاملوها بعكس ما يجب. وافترقوا فيما أمروا بالاجتماع به ، ولهذا قال : (فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) ، أي : الموجب لعدم الاختلاف ، وإنما حملهم على الاختلاف البغي من بعضهم على بعض ، والظلم. (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) فيميز المحق من المبطل ، والذي حمله على الاختلاف ، الهوى وغيره.

[١٨] أي : ثمّ شرعنا لك شريعة كاملة تدعو إلى كل خير ، وتنهى عن كل شر ، من أمرنا الشرعي (فَاتَّبِعْها) ، فإن في اتباعها السعادة الأبدية ، والصلاة والفلاح. (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) ، أي : الّذين تكون أهويتهم ، غير تابعة للعلم ، ولا ماشية خلفه ، وهم كل من خالف شريعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هواه وإرادته ، فإنه من أهواء الّذين لا يعلمون.

[١٩] (إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً) ، أي : لا ينفعونك عند الله ، فيحصلوا لك الخير ، ويدفعوا عنك الشر ، إن اتبعتهم على أهوائهم ، ولا يصلح أن توافقهم وتواليهم ، فإنك وإياهم متباينون. (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) يخرجهم من الظلمات إلى النور بسبب تقواهم وعملهم بطاعته.

[٢٠] أي (هذا) القرآن الكريم والذكر الحكيم (بَصائِرُ لِلنَّاسِ) ، أي : تحصل به التبصرة في جميع الأمور للناس ، فيحصل به الانتفاع للمؤمنين. (وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) فيهتدون به إلى الصراط المستقيم ، في أصول الدين وفروعه ، ويحصل به الخير والسرور ، والسعادة في الدنيا والآخرة ، وهي الرحمة ، فتزكو به نفوسهم ، وتزداد به عقولهم ، ويزيد به إيمانهم ويقينهم ، وتقوم به الحجة على من أصر وعاند.

[٢١] أي : أم حسب المسيئون ، المكثرون من الذنوب ، المقصرون في حقوق ربهم. (أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بأن قاموا بحقوق ربهم ، واجتنبوا مساخطه ، ولم يزالوا مؤثرين رضاه على هوى أنفسهم؟ أي : أحسبوا أن يكونوا (سَواءً) في الدنيا والآخرة؟ ساء ما ظنوا وحسبوا ، وساء ما حكموا به فإنه حكم يخالف حكمة أحكم الحاكمين ، وخير العادلين ، ويناقض العقول السليمة ، والفطر المستقيمة ، ويضاد ما نزلت به الكتب ، وأخبرت به الرسل. بل الحكم الواقع القطعي ، أن المؤمنين العاملين الصالحات ، لهم النصر والفلاح والسعادة والثواب ، في العاجل والآجل ، كل على قدر إحسانه ، وأن المسيئين لهم الغضب والإهانة ، والعذاب والشقاء في الدنيا والآخرة.

[٢٢] أي : خلق الله السماوات والأرض بالحكمة ، وليعبد وحده لا شريك له. ثمّ يحاسب بعد ذلك من أمرهم بعبادته ، وأنعم عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة هل شكروا الله تعالى ، وقاموا بالمأمور؟ أم كفروا ، فاستحقوا جزاء الكفور؟

٩٣٧

[٢٣] يقول تعالى : (أَفَرَأَيْتَ) الرجل الضال الذي (اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) فما هواه سلكه ، سواء كان يرضي الله ، أم يسخطه. (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) من الله ، أنه لا تليق به الهداية ، ولا يزكو عليها. (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ) فلا يسمع ما ينفعه (وَقَلْبِهِ) فلا يعي الخير (وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) تمنعه من نظر الحقّ (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) ، أي : لا أحد يهديه وقد سد الله عليه أبواب الهداية ، وفتح له أبواب الغواية. وما ظلمه الله ، ولكن هو الذي ظلم نفسه ، وتسبب لمنع رحمة الله عليه (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) ما ينفعكم فتسلكوه ، وما يضركم فتجتنبوه.

[٢٤] (وَقالُوا) ، أي : منكرو البعث (ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) إن هي إلا عادات ، وجري على رسوم الليل والنهار ، يموت أناس ، ويحيا أناس ، ومن مات فليس براجع إلى الله ، ولا مجازى بعمله. وقولهم هذا صادر عن غير علم (إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) فأنكروا المعاد وكذبوا الرسل الصادقين ، من غير دليل دلهم ، ولا برهان.

[٢٥] إن هي إلا ظنون ، واستبعادات خالية عن الحقيقة ، ولهذا قال تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢٥) ، وهذا جراءة منهم على الله ، حيث اقترحوا هذا الاقتراح ، وزعموا أن صدق رسل الله ، متوقف على الإتيان بآبائهم ، وأنهم لو جاؤوهم بكل آية لم يؤمنوا ، إلا إن اتبعتهم الرسل على ما قالوا.

[٢٦] وهم كذبة فيما قالوا ، وإنّما قصدهم دفع دعوة الرسل ، لا بيان الحقّ ، قال تعالى : (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٢٦) وإلا فلو وصل العلم باليوم الآخر إلى قلوبهم ، لعملوا له أعمالا وتهيؤوا له.

[٢٧] يخبر تعالى عن سعة ملكه ، وانفراده بالتصرف والتدبير ، في جميع الأوقات ، وأنه (يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) ويجمع الخلائق لموقف القيامة ، يحصل الخسار على المبطلين ، الّذين أتوا بالباطل ، ليدحضوا به الحقّ ، وكانت أعمالهم باطلة ، لأنها متعلقة بالباطل ، فبطلت في يوم القيامة ، اليوم الذي تستبين فيه الحقائق واضمحلت عنهم ، وفاتهم الثواب ، وحصلوا على أليم العقاب.

[٢٨] ثمّ وصف تعالى شدة يوم القيامة وهو له ليحذره الناس ، ويستعد له العباد ، فقال : (وَتَرى) أيها الرائي لذلك اليوم (كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً) على ركبها خوفا وذعرا ، وانتظارا لحكم الملك الرحمن. (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) ، أي : إلى شريعة نبيهم ، الذي جاءهم من عند الله ، وهل قاموا بها فيحصل الثواب والنجاة؟ أم ضيعوها ، فيحصل لهم الخسران. (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فأمة موسى يدعون إلى شريعة موسى ، وأمة عيسى كذلك ، وأمة محمد كذلك ، وهكذا غيرهم كل أمة تدعى إلى شرعها الذي كلفت به. هذا أحد الاحتمالات في الآية ، وهو معنى صحيح في نفسه ، غير مشكوك فيه ، ويحتمل أن المراد بقوله : (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) ، أي : إلى كتاب أعمالها ، وما سطر عليها ، من خير وشر ، وأن كل أحد يجازى بما عمله بنفسه ، كقوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها).

[٢٩] ويحتمل أن المعنيين كليهما ، مراد من الآية ، ويدل على هذا قوله : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) ، أي : هذا كتابنا الذي أنزلنا عليكم ، يفصل بالحق الذي هو العدل (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فهذا كتاب الأعمال.

٩٣٨

[٣٠] ولهذا فصل ما يفعل الله بالفريقين فقال : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) إيمانا صحيحا ، وصدقوا إيمانهم بالأعمال الصالحة ، من واجبات ومستحبات (فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ) الّتي محلها الجنة ، وما فيها من النعيم المقيم ، والعيش السليم. (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) ، أي : المفاز والنجاة والربح ، والفلاح الواضح البيّن الذي إذا حصل للعبد ، حصل له كل خير ، واندفع عنه كل شر.

[٣١] (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله ، فيقال لهم توبيخا وتقريعا : (أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) وقد دلتكم على ما فيه صلاحكم ، ونهتكم عما فيه ضرركم ، وهي أكبر نعمة وصلت إليكم ، لو وفقتم لها. (فَاسْتَكْبَرْتُمْ) عنها ، وأعرضتم ، وكفرتم بها ، فجنيتم أكبر جناية ، وأجرمتم أشد الجرم ، فاليوم تجزون ما كنتم تعملون.

[٣٢] ويوبخون أيضا بقوله : (وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ) منكرين لذلك : (ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ).

[٣٣] فهذه حالهم في الدنيا ، وحال البعث الإنكار له ، وردوا قول من جاء به ، قال تعالى : (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) ، أي : وظهر لهم يوم القيامة عقوبات أعمالهم. (وَحاقَ بِهِمْ) ، أي : نزل (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) ، أي : نزل بهم العذاب ، الذي كانوا في الدنيا ، يستهزئون بوقوعه ، وبمن جاء به.

[٣٤] (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ) ، أي : نترككم في العذاب (كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) ، فإن الجزاء من جنس العمل (وَمَأْواكُمُ النَّارُ) ، أي : هي مقركم ومصيركم. (وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) ينصرونكم من عذاب الله ، ويدفعون عنكم عقابه.

[٣٥] (ذلِكُمْ) الذي حصل لكم من العذاب (ب) سبب أنكم (اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً) مع أنها موجبة للجد والاجتهاد ، وتلقيها بالسرور والاستبشار والفرح. (وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) بزخارفها ولذاتها وشهواتها ، فاطمأننتم إليها ، وعملتم لها ، وتركتم العمل للدار الباقية. (فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) ، أي : ولا يمهلون ، ولا يردون إلى الدنيا ليعملوا صالحا.

[٣٦] (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ) كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه (رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، أي : له الحمد على ربوبيته لسائر الخلق ، حيث خلقهم ورباهم ، وأنعم عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة.

[٣٧] (وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، أي : له الجلال والعظمة والمجد. فالحمد فيه الثناء على الله بصفات الكمال ، ومحبته تعالى وإكرامه ، والكبرياء فيها عظمته وجلاله ، والعبادة مبنية على ركنين ، محبة الله ، والذل له ، وهما ناشئان عن العلم بمحامد الله وجلاله وكبريائه. (وَهُوَ الْعَزِيزُ) القاهر لكل شيء ، (الْحَكِيمُ) الذي يضع الأشياء مواضعها ، فلا يشرع ما يشرعه إلا لحكمة ومصلحة ، ولا يخلق ما يخلقه إلا لفائدة ومنفعة.

٩٣٩

سورة الأحقاف

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[٢] هذا ثناء منه تعالى على كتابه العزيز وتعظيم له ، وفي ضمن ذلك إرشاد العباد إلى الاهتداء بنوره ، والإقبال على تدبر آياته ، واستخراج كنوزه. ولما بين إنزال كتابه المتضمن للأمر والنهي ، ذكر خلقه السماوات والأرض ، فجمع بين الخلق والأمر (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) ، كما قال تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) ، وكما قال تعالى : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ). فالله تعالى ، هو الذي خلق المكلفين ، وخلق مساكنهم ، وسخر لهم ما في السماوات وما في الأرض ، ثمّ أرسل إليهم رسله ، وأنزل عليهم كتبه ، وأمرهم ونهاهم ، وأخبرهم أن هذه الدار دار أعمال وممر للعمال ، لا دار إقامة ، لا يرحل عنها أهلها. وهم سينتقلون منها إلى دار الإقامة والقرار ، وموطن الخلود والدوام ، وإنّما أعمالهم الّتي عملوها في هذه الدار ، سيجدون ثوابها في تلك الدار كاملا موفورا.

[٣] وأقام تعالى الأدلة على تلك الدار وأذاق العباد نموذجا من الثواب والعقاب العاجل ، ليكون أدعى لهم إلى طلب المحبوب ، والهرب من المرهوب ، ولهذا قال هنا : (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) ، أي : لا عبثا ، ولا سدى ، بل ليعرف العباد عظمة خالقها ، ويستدلوا على كماله ، ويعلموا أن الذي خلقهما ، قادر على أن يعيد العباد بعد موتهم للجزاء ، وأن خلقهما وبقاءهما ، مقدر إلى ساعة معينة (وَأَجَلٍ مُسَمًّى). فلما أخبر بذلك ـ وهو أصدق القائلين ـ وأقام الدليل ، وأنار السبيل ، أخبر ـ مع ذلك ـ أن طائفة من الخلق قد أبوا إلا إعراضا عن الحقّ ، وصدوفا عن دعوة الرسل ، فقال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ). وأما الّذين آمنوا ، فلما علموا حقيقة الحال قبلوا وصايا ربهم ، وتلقوها بالقبول والتسليم ، وقابلوها بالانقياد والتعظيم ، ففازوا بكل خير ، واندفع عنهم كل شر.

[٤] أي : (قُلْ) لهؤلاء الّذين أشركوا بالله ، أوثانا وأندادا ، لا تملك نفعا ولا ضرا ، ولا موتا ولا حياة ، ولا نشورا. قل لهم ـ مبينا عجز أوثانهم ، وأنها لا تستحق شيئا من العبادة ـ : (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ). هل خلقوا من أجرام السماوات شيئا؟ هل خلقوا جبالا؟ هل أجروا أنهارا؟ هل نشروا حيوانا؟ هل أنبتوا أشجارا؟ هل كان منهم معاونة على خلق شيء من ذلك؟ لا شيء من ذلك ، بإقرارهم على أنفسهم ، فضلا عن غيرهم ، فهذا دليل عقلي قاطع على أن كل من سوى الله ، فعبادته باطلة. ثمّ ذكر انتفاء الدليل النقلي ، فقال : (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا) الكتاب يدعو إلى الشرك ، (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) موروث عن الرسل يأمر بذلك. من المعلوم أنهم عاجزون أن يأتوا عن أحد من الرسل بدليل يدل على ذلك ، بل نجزم ونتيقن أن جميع الرسل دعوا إلى توحيد ربهم ، ونهوا عن الشرك به. وهي أعظم ما يؤثر عنهم من العلم ، قال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ

٩٤٠