تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي

تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

المؤلف:

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ١١٣٥

الله المؤلمة ، بعدم تسخطها. لكن بشرط أن يكون ذلك الصبر (ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) لا لغير ذلك من المقاصد والأغراض الفاسدة ، فإن هذا هو الصبر النافع ، الذي يحبس به العبد نفسه ، طلبا لمرضاة ربه ، ورجاء للقرب منه. والحظوة بثوابه ، هو الصبر الذي من خصائص أهل الإيمان ، وأما الصبر المشترك ، الذي غايته التجلد ، ومنتهاه الفخر ، فهذا يصدر من البر والفاجر ، والمؤمن والكافر ، فليس هو الممدوح ، على الحقيقة. (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) بأركانها ، وشروطها ، ومكملاتها ، ظاهرا وباطنا ، (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) دخل في ذلك ، النفقات الواجبة ، كالزكوات ، والكفارات ، والنفقات المستحبة ، وأنهم ينفقون ، حيث دعت الحاجة إلى النفقة ، سرا وعلانية ، (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي : من أساء إليهم ، بقول أو فعل ، لم يقابلوه بفعله ، بل قابلوه بالإحسان إليه. فيعطون من حرمهم ، ويعفون عمن ظلمهم ، ويصلون من قطعهم ، ويحسنون إلى من أساء إليهم ، وإذا كانوا يقابلون المسيء بالإحسان ، فما ظنك بغير المسيء؟ (أُولئِكَ) الّذين وصفت صفاتهم الجليلة ، ومناقبهم الجميلة (لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) ، فسرها بقوله : (جَنَّاتُ عَدْنٍ) أي : إقامة ، لا يزولون منها ، ولا يبغون عنها حولا ، لأنهم لا يرون فوقها غاية ، لما اشتملت عليه من النعيم ، والسرور ، الذي تنتهي إليه المطالب والغايات. ومن تمام نعيمهم وقرة أعينهم ، أنهم (يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) من الذكور والإناث وكذلك النظراء والأشباه ، والأصحاب ، والأحباب ، فإنهم من قبيل أزواجهم وذرياتهم ، (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) يهنئونهم بالسلامة ، وكرامة الله لهم ويقولون : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أي : حلّت عليكم السلامة ، والتحية من الله حصلت لكم ، وذلك متضمن لزوال كل مكروه ، ومستلزم لحصول كل محبوب. (بِما صَبَرْتُمْ) أي : بسبب صبركم ، وهو الذي أوصلكم إلى هذه المنازل العالية ، والجنان الغالية ، (فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ). فحقيق بمن نصح نفسه ، وكان لها عنده قيمة ، أن يجاهدها ، لعلها تأخذ من أوصاف أولي الألباب بنصيب ، ولعلها تحظى بهذه الدار ، التي هي منية النفوس ، وسرور الأرواح ، الجامعة لجميع اللذات والأفراح ، فلمثلها فليعمل العاملون وفيها فليتنافس المتنافسون.

[٢٥] لما ذكر حال أهل الجنة ، ذكر أن أهل النار ، بعكس ما وصفهم به فقال عنهم : (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) أي : من بعد ما أكده عليهم على أيدي رسله ، وغلظ عليهم ، فلم يقابلوه بالانقياد والتسليم ، بل قابلوه بالإعراض والنقض ، (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) فلم يصلوا ما بينهم وبين ربهم بالإيمان والعمل الصالح ، ولا وصلوا الأرحام ولا أدوا الحقوق ، بل أفسدوا في الأرض ، بالكفر والمعاصي ، والصد عن سبيل الله ، وابتغائها عوجا ، (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ) أي : البعد والذم ، من الله وملائكته ، وعباده المؤمنين ، (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) وهي : الجحيم ، بما فيها من العذاب الأليم.

[٢٦] أي : هو وحده يوسع الرزق ويبسطه على من يشاء ، ويقدره ويضيقه على من يشاء (وَفَرِحُوا) أي : الكفار (بِالْحَياةِ الدُّنْيا) فرحا ، أوجب لهم أن يطمئنوا بها ، ويغفلوا عن الآخرة ، وذلك لنقصان عقولهم ، (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) أي : شيء حقير ، يتمتع به قليلا ، ويفارق أهله وأصحابه ، ويعقبهم ويلا طويلا.

[٢٧] يخبر تعالى ، أن الّذين كفروا بآيات الله ، يتعنتون على رسول الله ، ويقترحون ويقولون : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) وبزعمهم أنها لو جاءت لآمنوا ، فأجابهم الله بقوله : (قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) أي : طلب رضوانه ، فليست الهداية والضلالة بأيديهم ، حتى يجعلوا ذلك متوقفا على الآيات ، ومع ذلك فهم كاذبون ، فلو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى ، وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ، ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ، ولكن أكثرهم يجهلون. ولا يلزم أن يأتي الرسول بالآية ، التي يعينونها ، ويقترحونها ، بل إذا جاءهم بآية ، وتبين ما جاء به من الحقّ ، كفى ذلك ، وحصل المقصود ، وكان أنفع لهم من طلبهم الآيات التي يعينونها ، فإنها لو جاءتهم طبق ما اقترحوا ، فلم يؤمنوا بها ، لعاجلهم العذاب.

٤٨١

[٢٨] ثمّ ذكر تعالى علامة المؤمنين فقال : (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) أي : يزول قلقها واضطرابها ، وتحضرها أفراحها ولذاتها. (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) أي : حقيق بها ، وحريّ أن لا تطمئن لشيء سوى ذكره ، فإنه لا شيء ألذ للقلوب ولا أحلى ، من محبة خالقها ، والأنس به ومعرفته ، وعلى قدر معرفتها بالله ومحبتها له ، يكون ذكرها له ، هذا على القول بأن ذكر الله ، هو ذكر العبد لربه ، من تسبيح ، وتهليل ، وتكبير وغير ذلك. وقيل : إن المراد بذكر الله كتابه ، الذي أنزله ذكرى للمؤمنين. فعلى هذا ، معنى طمأنينة القلب بذكر الله : أنها حين تعرف معاني القرآن وأحكامه ، تطمئن لها ، فإنها تدل على الحقّ المبين ، المؤيد بالأدلة والبراهين ، وبذلك تطمئن القلوب ، فإنها لا تطمئن القلوب ، إلا باليقين والعلم ، وذلك في كتاب الله ، مضمون على أتم الوجوه وأكملها ، وأما ما سواه من الكتب ، التي لا ترجع إليه ، فلا تطمئن بها ، بل لا تزال قلقة من تعارض الأدلة ، وتضاد الأحكام. (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) وهذا إنّما يعرفه من خبر كتاب الله ، وتدبره ، وتدبر غيره من أنواع العلوم ، فإنه يجد بينها وبينه فرقا عظيما.

[٢٩] ثمّ قال تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي : آمنوا بقلوبهم بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وصدقوا هذا الإيمان ، بالأعمال الصالحة ، أعمال القلوب ، كمحبة الله ، وخشيته ورجائه ، وأعمال الجوارح ، كالصلاة ونحوها ، (طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) أي : لهم حالة طيبة ، ومرجع حسن.

وذلك بما ينالون ، من رضوان الله وكرامته ، في الدنيا والآخرة ، وأن لهم كمال الراحة ، وتمام الطمأنينة ، ومن جملة ذلك ، شجرة طوبى ، التي في الجنة ، التي يسير الراكب في ظلها ، مائة عام ما يقطعها ، كما وردت بها الأحاديث الصحيحة.

[٣٠] يقول تعالى لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ) إلى قومك تدعوهم إلى الهدى ، (فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ) أرسلنا فيهم رسلنا. فلست ببدع من الرسل ، حتى يستنكروا رسالتك ، ولست تقول من تلقاء نفسك ، بل تتلو عليهم آيات الله ، التي أوحاها الله إليك ، التي تطهر القلوب ، وتزكي النفوس. والحال أن قومك ، يكفرون بالرحمن ، فلم يقابلوا رحمته وإحسانه ـ التي أعظمها أن أرسلناك إليهم رسولا ، وأنزلنا عليك كتابا ـ بالقبول والشكر ، بل قابلوها بالإنكار والرد ، فلا يعتبرون بمن خلا من قبلهم ، من القرون المكذبة ، كيف أخذهم الله بذنوبهم ، (قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وهذا متضمن التوحيدين ، توحيد الألوهية ، وتوحيد الربوبية. فهو ربي ، الذي رباني بنعمه ، منذ أوجدني ، وهو إلهي الذي (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) في جميع أموري (وَإِلَيْهِ مَتابِ) أي : أرجع في جميع عباداتي ، وفي حاجاتي.

[٣١] يقول تعالى ـ مبينا فضل القرآن الكريم على سائر الكتب المنزلة ـ : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً) من الكتب الإلهية (سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) عن أماكنها (أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ) جنانا وأنهارا (أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) لكان هذا القرآن. (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) فيأتي بالآيات ، التي تقتضيها حكمته ، فما بال المكذبين ، يقترحون من الآيات ـ ما يقترحون؟ فهل

٤٨٢

لهم ولغيرهم من الأمر شيء؟ (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) فليعلموا أنه قادر على هدايتهم جميعا ، ولكن لا يشاء ذلك ، بل يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا) على كفرهم ، لا يعتبرون ، ولا يتعظون. والله تعالى يوالي عليهم القوارع ، التي تصيبهم في ديارهم ، أو تحل قريبا منها ، وهم مصرون على كفرهم (حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ) الذي وعدهم به ، لنزول العذاب المتصل ، الذي لا يمكن رفعه ، (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) وهذا تهديد وتخويف لهم من نزول ما وعدهم الله به على كفرهم ، وعنادهم ، وظلمهم.

[٣٢] يقول تعالى لرسوله ـ مثبتا له ، ومسليا ـ (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) فلست أول رسول ، كذّب وأوذي (فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) برسلهم ، أي أمهلتهم مدة حتى ظنوا أنهم غير معذبين. (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) بأنواع العذاب (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) كان عقابا شديدا ، وعذابا أليما ، فلا يغتر هؤلاء الّذين كذبوك ، واستهزأوا بك ، بإمهالنا ، فلهم أسوة فيمن قبلهم من الأمم ، فليحذروا أن يفعل بهم كما فعل بأولئك.

[٣٣ ـ ٣٤] يقول تعالى : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) بالجزاء العاجل والآجل ، بالعدل والقسط ، وهو : الله تبارك وتعالى ، كمن ليس كذلك؟ ولهذا قال : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) وهو الله الأحد ، الفرد ، الصمد ، الذي لا شريك له ، ولا ندّ ولا نظير. (قُلْ) لهم ، إن كانوا صادقين : (سَمُّوهُمْ) لنعلم حالهم ، (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ) فإنه إذا كان عالم الغيب والشهادة ، وهو لا يعلم له شريكا ، علم بذلك ، بطلان دعوى الشريك له وأنكم بمنزلة الذي يعلّم الله أن له شريكا ، هو لا يعلمه ، وهذا أبطل ما يكون ، ولهذا قال : (أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) أي : غاية ما يمكن من دعوى الشريك له تعالى ، أنه بظاهر أقوالكم. وأما في الحقيقة ، فلا إله إلا الله ، وليس أحد من الخلق ، يستحق شيئا من العبادة ، (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ) الذي مكروه ، وهو كفرهم ، وشركهم ، وتكذيبهم لآيات الله ، (وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ) أي : عن الطريق ، المستقيمة ، الموصلة إلى الله ، وإلى دار كرامته ، (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) لأنه ليس لأحد من الأمر شيء. (لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ) من عذاب الدنيا ، لشدته ودوامه ، (وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) يقيهم من عذابه ، فعذابه إذا وجهه إليهم ، لا مانع منه.

[٣٥] يقول تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) الّذين تركوا ما نهاهم الله عنه ، ولم يقصروا فيما أمرهم به ، أي : صفتها وحقيقتها (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أنهار العسل ، وأنهار الخمر ، وأنهار اللبن ، وأنهار الماء التي تجري في غير أخدود ، فتسقي تلك البساتين ، والأشجار ، فتحمل جميع أنواع الثمار. (أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها) دائم أيضا ، (تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا) أي : مآلهم وعاقبتهم ، التي إليها يصيرون ، (وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ) فكم بين الفريقين من الفرق المبين؟

[٣٦] يقول تعالى : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) أي : مننّا عليهم به وبمعرفته ، (يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) فيؤمنون به ، ويصدقونه ، ويفرحون بموافقة الكتب بعضها لبعض ، وتصديق بعضها بعضا ، وهذه حال من آمن ، من أهل

٤٨٣

الكتاب ، (وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) أي : ومن طوائف الكفار المنحرفين عن الحقّ ، من ينكر بعض هذا القرآن ، ولا يصدقه. (فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) إنّما أنت يا محمد منذر ، تدعو إلى الله ، (قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ) أي : بإخلاص الدين لله وحده ، (إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ) أي : مرجعي الذي أرجع به إليه ، فيجازيني بما قمت به من الدعوة ، إلى دينه ، والقيام بما أمرت به.

[٣٧] (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ) أي : ولقد أنزلنا هذا القرآن والكتاب ، (حُكْماً عَرَبِيًّا) ، أي : محكما متقنا ، بأوضح الألسنة ، وأفصح اللغات ، لئلا يقع فيه شك واشتباه ، وليوجب أن يتبع وحده ، ولا يداهن فيه ، ولا يتبع ما يضاده ويناقضه ، من أهواء الّذين لا يعلمون. ولهذا توعد رسوله ـ مع أنه معصوم ـ ليمتن عليه بعصمته ، وليكون لأمته أسوة في الأحكام ، فقال : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) البين الذي ينهاك عن اتباع أهوائهم ، (ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) يتولاك فيحصل لك الأمر المحبوب ، (وَلا واقٍ) يقيك من الأمر المكروه.

[٣٨] أي : لست أول رسول أرسل إلى الناس ، حتى يستغربوا رسالتك ، (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً) فلا يعيبك أعداؤك ، بأن يكون لك أزواج وذرية ، كما كان لإخوانك المرسلين ، فلأي شيء يقدحون فيك بذلك وهم يعلمون أن الرسل قبلك كذلك ؛ إلا لأجل أغراضهم الفاسدة وأهوائهم؟ وإن طلبوا منك آية اقترحوها ، فليس لك من الأمر شيء ، (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) والله لا يأذن فيها إلا في وقتها الذي قدره وقضاه. (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) لا يتقدم عليه ، ولا يتأخر عنه ، فليس استعجالهم بالآيات أو العذاب ، موجبا لأن يقدم الله ما كتب أنه يؤخر ، مع أنه تعالى فعال لما يريد.

[٣٩] (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ) من الأقدار (وَيُثْبِتُ) ما يشاء منها ، وهذا المحو والتغيير ، في غير ما سبق به علمه ، وكتبه قلمه ، فإن هذا لا يقع فيه تبديل ولا تغيير ، لأن ذلك محال على الله ، أن يقع في علمه نقص ، أو خلل ، ولهذا قال : (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) أي : اللوح المحفوظ ، الذي ترجع إليه سائر الأشياء ، فهو أصلها ، وهي فروع وشعب. فالتغيير والتبديل ، يقع في الفروع والشعب ، كأعمال اليوم والليلة ، التي تكتبها الملائكة ، ويجعل الله لثبوتها أسبابا ، ولمحوها أسبابا ، لا تتعدى تلك الأسباب ، ما رسم في اللوح المحفوظ ، كما جعل الله البر ، والصلة ، والإحسان ، من أسباب طول العمر ، وسعة الرزق ، وكما جعل المعاصي ، سببا لمحق بركة الرزق والعمر ، وكما جعل أسباب النجاة من المهالك والمعاطب ، سببا للسلامة. وجعل التعرض لذلك ، سببا للعطب ، فهو الذي يدبر الأمور ، بحسب قدرته وإرادته ، وما يدبره منها ، لا يخالف ما قد علمه وكتبه ، في اللوح المحفوظ.

[٤٠] يقول تعالى ، لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تعجل عليهم ، بإصابة ما يوعدون من العذاب ، فهم إن استمروا على طغيانهم وكفرهم ، فلا بد أن يصيبهم ما وعدوا به ، (وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ) إياه في الدنيا ، فتقر بذلك عينك. [بل هي مبنية

٤٨٤

على القسط والعدل والحمد فلا يتعقبها أحد ، ولا سبيل إلى القدح فيها] (١). (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) قبل إصابتهم ، فليس ذلك شغلا لك (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) والتبيين للخلق. (وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) فنحاسب الخلق على ما قاموا به ، بما عليهم ، أو ضيعوه ، ونثيبهم أو نعاقبهم.

[٤١] ثم قال ـ متوعدا للمكذبين ـ : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) قيل بإهلاك المكذبين ، واستئصال الظالمين ، وقيل : بفتح بلدان المشركين ، ونقصهم في أموالهم وأبدانهم ، وقيل غير ذلك من الأقوال. والظاهر ـ والله أعلم ـ أن المراد بذلك ، أن أراضي هؤلاء المكذبين جعل الله يفتحها ويجتاحها ، ويحل القوارع بأطرافها ، تنبيها لهم قبل أن يجتاحهم النقص ، ويوقع الله بهم من القوارع ، ما لا يرده أحد ، ولهذا قال : (وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) ويدخل في هذا ، حكمه الشرعي ، والقدري ، والجزائي. فهذه الأحكام ، التي يحكم الله فيها ، توجد في غاية الحكمة والإتقان ، لا خلل فيها ولا نقص ، بل هي مبنية على القسط والعدل والحمد ، فلا يتعقبها أحد ولا سبيل إلى القدح فيها ، بخلاف حكم غيره ، فإنه قد يوافق الصواب ، وقد لا يوافقه. (وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) أي : فلا يستعجلوا بالعذاب ، فإن كل ما هو آت ، فهو قريب.

[٤٢] يقول تعالى : (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) برسلهم ، وبالحق الذي جاءت به الرسل ، فلم يغن عنهم مكرهم ، ولم يصنعوا شيئا ، فإنهم يحاربون الله ويبارزونه ، (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) أي : لا يقدر أحد أن يمكر مكرا إلا بإذنه ، وتحت قضائه وقدره. فإذا كانوا يمكرون بدينه ، فإن مكرهم سيعود عليهم بالخيبة والندم ، فإن الله (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) أي : همومها وإرادتها وأعمالها الظاهرة والباطنة. والمكر لا بد أن يكون من كسبها ، فلا يخفى على الله مكرهم ، فيمتنع أن يمكروا مكرا يضر الحقّ وأهله ، ويفيدهم شيئا ، (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) أي : ألهم أو لرسله؟ ومن المعلوم أن العاقبة للمتقين ، لا للكفر وأهله.

[٤٣] (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً) أي : يكذبونك ، ويكذبون ما أرسلت به ، (قُلْ) لهم ـ إن طلبوا على ذلك شهيدا : (كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) وشهادته بقوله وفعله وإقراره. أما قوله ، فيما أوحاه الله إلى أصدق خلقه ، مما يثبت به رسالته. وأما فعله ، فلأن الله تعالى أيد رسوله ، ونصره نصرا خارجا عن قدرته وقدرة أصحابه وأتباعه ، وهذا شهادة منه له بالفعل والتأييد. وأما إقراره ، فإنه أخبر الرسول عنه ، أنه رسول ، وأنه أمر الناس باتباعه. فمن اتبعه ، فله رضوان الله وكرامته ، ومن لم يتبعه ، فله النار والسخط ، وحل له ماله ودمه ، والله يقره على ذلك ، فلو تقول عليه بعض الأقاويل ، لعاجله بالعقوبة. (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) وهذا شامل لكل علماء أهل الكتاب ، فإنهم يشهد منهم للرسول ، من آمن ، واتبع الحقّ ، فصرح بتلك الشهادة التي عليه. ومن كتم ذلك ، فإخبار الله عنه ، أن عنده شهادة ، أبلغ من خبره ، ولو لم يكن عنده شهادة ، لرد استشهاده بالبرهان ، فسكوته يدل على أن عنده شهادة مكتومة. وإنّما أمر الله باستشهاد أهل الكتاب ، لأنهم أهل هذا الشأن ، وكل أمر ، إنّما يستشهد فيه أهله ، ومن هم أعلم به من غيرهم ، بخلاف من هو أجنبي عنه ، كالأميين ، من مشركي العرب وغيرهم ، فلا فائدة في استشهادهم ، لعدم خبرتهم ومعرفتهم. والله أعلم. ثمّ تفسير سورة الرعد ، والحمد لله رب العالمين.

__________________

(١) سقط من المطبوعة التي بين أيدينا ، وهو موافق للسياق.

٤٨٥

سورة إبراهيم

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] يخبر تعالى ، أنه أنزل كتابه على رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لنفع الخلق ، ليخرج الناس من ظلمات الجهل والكفر والأخلاق السيئة ، وأنواع المعاصي ، إلى نور العلم والإيمان ، والأخلاق الحسنة ، وقوله : (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي : لا يحصل منهم المراد المحبوب لله ، إلا بإرادة من الله ومعونة ، ففيه حث للعباد على الاستعانة بربهم. ثمّ فسر النور الذي يهديهم إليه هذا الكتاب ، فقال : (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) أي : الموصل إليه وإلى دار كرامته ، المشتمل على العلم بالحق والعمل به ، وفي ذكر (الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) بعد ذكر الصراط الموصل إليه ، إشارة إلى أن من سلكه ، فهو عزيز بعزة الله ، قوي ، ولو لم يكن له أنصار إلا الله ، محمود في أموره ، حسن العاقبة.

[٢] وليدل ذلك على أن صراط الله ، من أكبر الأدلة على ما لله ، من صفات الكمال ، ونعوت الجلال ، وأن الذي نصبه لعباده ، عزيز السلطان ، حميد ، في أقواله ، وأفعاله ، وأحكامه ، وأنه مألوه معبود بالعبادات ، التي هي منازل الصراط المستقيم ، وأنه كما أن له ملك السموات والأرض ، خلقا ورزقا ، وتدبيرا ، فله الحكم على عباده بأحكامه الدينية ، لأنهم ملكه ، ولا يليق به أن يتركهم سدى ، فلما بين الدليل والبرهان ، توعد من لم ينقد لذلك فقال : (وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) لا يقدر قدره ، ولا يوصف أمره.

[٣] ثمّ وصفهم بأنهم. (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) فرضوا بها ، واطمأنوا ، وغفلوا عن الدار الآخرة. (وَيَصُدُّونَ) الناس (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) التي نصبها لعباده ، وبينها في كتبه ، وعلى ألسنة رسله ، فهؤلاء قد نابذوا مولاهم بالمعاداة والمحاربة ، (وَيَبْغُونَها) أي : سبيل الله (عِوَجاً) أي : يحرصون على تهجينها وتقبيحها ، للتنفير منها ، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. (أُولئِكَ) الّذين ذكر وصفهم (فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) لأنهم ضلوا ، وأضلوا وشاقوا الله ورسوله ، وحاربوهم. فأي ضلال أبعد من هذا؟ ، وأما أهل الإيمان ، فعكس هؤلاء ، يؤمنون بالله وآياته ، ويستحبون الآخرة على الدنيا ، ويدعون إلى سبيل الله ويحسنونها ، مهما أمكنهم ، ويبغون استقامتها.

[٤] وهذا من لطفه بعباده ، أنه ما أرسل رسولا ، (إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) ما يحتاجون إليه ، ويتمكنون من تعلم ما أتى به ، بخلاف ما لو أتى على غير لسانهم ، فإنهم يحتاجون إلى تلك اللغة ، التي يتكلم بها ، ثمّ يفهمون عنه ، فإذا بين الرسول ما أمروا به ، ونهوا عنه ، وقامت عليهم حجة الله (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ) ، ممن لم ينقد للهدى ، ويهدي من يشاء ، ممن اختصه برحمته. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ، الذي ـ من عزته ـ أنه انفرد بالهداية والإضلال ، وتقليب القلوب إلى ما شاء ومن حكمته أنه لا يضع هدايته ولا إضلاله ، إلا بالمحل اللائق به. ويستدل

٤٨٦

بهذه الآية الكريمة ، على أن علوم العربية الموصلة إلى تبيين كلامه وكلام رسوله ، أمور مطلوبة ، محبوبة لله ، لأنه لا يتم معرفة ما أنزل على رسوله إلا بها. إلا إذا كان الناس في حالة ، لا يحتاجون إليها ، وذلك إذا تمرنوا على العربية ، ونشأ عليها صغيرهم ، وصارت طبيعة لهم ، فحينئذ قد اكتفوا المئونة وصلحوا لأن يتلقوا عن الله وعن رسوله ، ابتداء ، كما تلقى الصحابة رضي الله عنهم.

[٥] يخبر تعالى : أنه أرسل موسى بآياته العظيمة ، الدالة على صدق ما جاء به وصحته ، وأمره بما أمر الله به رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بل وبما أمر به جميع الرسل قومهم ، (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي : ظلمات الجهل والكفر وفروعه ، إلى نور العلم والإيمان وتوابعه ، (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) أي : بنعمه عليهم ، وإحسانه إليهم وبأيامه في الأمم المكذبين ، ووقائعه بالكافرين ، ليشكروا نعمه ، وليحذروا عقابه ، (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : في أيام الله على العباد (لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي : صبار في الضراء والعسر والضيق ، شكور على السراء والنعمة.

[٦] فإنه يستدل بأيامه ، على كمال قدرته ، وعميم إحسانه ، وتمام عدله وحكمته ، ولهذا امتثل موسى عليه‌السلام أمر ربه ، فذكرهم نعم الله فقال : (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) أي : بقلوبكم وألسنتكم. (إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ) أي : يولونكم (سُوءَ الْعَذابِ) أي : أشده ، وفسر ذلك بقوله : (وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) أي : يبقونهن فلا يقتلونهن ، (وَفِي ذلِكُمْ) الإنجاء (بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) أي : نعمة عظيمة ، أو في ذلكم العذاب ، الذي ابتليتم به من فرعون وملئه ابتلاء من الله عظيم لكم ، لينظر هل تعتبرون أم لا؟

[٧] وقال لهم ـ حاثا على شكر نعم الله ـ : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ) أي : أعلم ووعد ، (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) من نعمي (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) ومن ذلك ، أن يزيل عنهم النعمة ، التي أنعم بها عليهم. والشكر هو اعتراف القلب بنعم الله ، والثناء على الله بها ، وصرفها في مرضاة الله تعالى. وكفر النعمة ضد ذلك.

[٨] (وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) فلن تضروا الله شيئا ، (فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) فالطاعات لا تزيد في ملكه ، والمعاصي لا تنقص ، وهو كامل الغنى ، حميد في ذاته ، وأسمائه وصفاته ، وأفعاله ، ليس له من الصفات إلا كل صفة حمد وكمال ، ولا من الأسماء إلا كل اسم حسن ، ولا من الأفعال إلا كل فعل جميل.

[٩] يقول تعالى ـ مخوفا عباده ـ ما أحله بالأمم المكذبة ، حين جاءتهم الرسل ، فكذبوهم ، فعاقبهم بالعقاب العاجل ، الذي رآه الناس وسمعوه فقال : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ) وقد ذكر الله قصصهم في كتابه ، وبسطها ، (وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) من كثرتهم ، وكون أخبارهم اندرست. فهؤلاء كلهم (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي : بالأدلة الدالة على صدق ما جاؤوا به ، فلم يرسل الله رسولا ، إلا أتاه من الآيات ، ما يؤمن على مثله البشر ، فحين أتتهم رسلهم بالبينات لم ينقادوا لها ، بل استكبروا عنها ، (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) أي : لم يؤمنوا بما جاؤوا به ، ولم يتفوهوا بشيء مما يدل على الإيمان كقوله : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي

٤٨٧

آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ). (وَقالُوا) صريحا لرسلهم : (إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) أي : موقع في الريبة ، وقد كذبوا في ذلك وظلموا.

[١٠] ولهذا (قالَتْ) لهم (رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌ) أي : فإنه أظهر الأشياء وأجلاها ، فمن شك في الله (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الذي وجود الأشياء مستند إلى وجوده ، لم يكن عنده ثقة بشيء من المعلومات ، حتى الأمور المحسوسة ، ولهذا خاطبتهم الرسل ، خطاب من لا يشك فيه ولا يصلح الريب فيه (يَدْعُوكُمْ) إلى منافعكم ومصالحكم (لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي : ليثيبكم على الاستجابة لدعوته ، بالثواب العاجل والآجل. فلم يدعوكم لينتفع بعبادتكم ، بل النفع عائد إليكم. فردوا على رسلهم ، رد السفهاء الجاهلين و (قالُوا) لهم : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) أي : فكيف تفضلوننا بالنبوة والرسالة ، (تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) فكيف نترك رأي الآباء وسيرتهم ، لرأيكم؟ وكيف نطيعكم وأنتم بشر مثلنا؟ (فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي : بحجة وبينة ظاهرة ، ومرادهم بينة يقترحونها هم ، وإلا فقد تقدم أن رسلهم جاءتهم بالبينات.

[١١] (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ) مجيبين لاقتراحهم واعتراضهم : (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) أي : صحيح وحقيقة ، إنّا بشر مثلكم ، (وَلكِنَ) ليس في ذلك ، ما يدفع ما جئنا به من الحقّ ، فإن (اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) فإذا من الله علينا بوحيه ورسالته ، فذلك فضله وإحسانه ، وليس لأحد أن يحجر على الله فضله ويمنعه من تفضله. فانظروا ما جئناكم به ، فإن كان حقا ، فاقبلوه ، وإن كان غير ذلك ، فردوه ولا تجعلوا حالنا ، حجة لكم على رد ما جئناكم به ، وقولكم : (فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) فإن هذا ليس بأيدينا ، وليس لنا من الأمر شيء. (وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) فهو الذي إن شاء جاءكم به ، وإن شاء لم يأتكم به ، وهو لا يفعل إلا ما هو مقتضى حكمته ورحمته ، (وَعَلَى اللهِ) لا على غيره (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) فيعتمدون عليه في جلب مصالحهم ، ودفع مضارهم ، لعلمهم بتمام كفايته ، وكمال قدرته ، وعميم إحسانه ، ويثقون به ، في تيسير ذلك ، وبحسب ما معهم من الإيمان يكون توكلهم.

[١٢] فعلم بهذا ، وجوب التوكل ، وأنه من لوازم الإيمان ، ومن العبادات الكبار ، التي يحبها الله ويرضاها ، لتوقف سائر العبادات عليه ، (وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا). أي : أي شيء يمنعنا من التوكل على الله ، والحال ، أننا على الحقّ والهدى ، ومن كان على الحقّ والهدى ، فإن هداه ، يوجب له تمام التوكل ، وكذلك ما يعلم من أن الله متكفل بمعونة المهتدي وكفايته ، يدعو إلى ذلك ، بخلاف من لم يكن على الحقّ والهدى ، فإنه ليس ضامنا على الله ، فإن حاله مناقضة لحال المتوكل. وفي هذا كالإشارة من الرسل ، عليهم الصلاة والسّلام لقومهم ، بآية عظيمة ، وهو أن قومهم ـ في الغالب ـ أن لهم القهر والغلبة عليهم ، فتحدتهم رسلهم ، بأنهم متوكلون على الله ، في دفع كيدهم ومكرهم ، وجازمون بكفايته إياهم ، وقد كفاهم الله شرهم مع حرصهم على إتلافهم ، وإطفاء ما

٤٨٨

معهم من الحقّ ، فيكون هذا ، كقول نوح لقومه : (يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ) الآيات ، وقول هود عليه‌السلام : (إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) (٥٥). (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا) أي : ولنستمرن على دعوتكم ، ووعظكم ، وتذكيركم ، ولا نبالي بما يأتينا منكم ، من الأذى ، فإنا سنوطن أنفسنا على ما ينالنا منكم من الأذى ، احتسابا للأجر ، ونصحا لكم ، لعل الله أن يهديكم مع كثرة التذكير. (وَعَلَى اللهِ) وحده لا على غيره (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) فإن التوكل عليه ، مفتاح لكل خير. واعلم أن الرسل ، عليهم الصلاة والسّلام ، توكلهم في أعلى المطالب وأشرف المراتب ، وهو التوكل على الله ، في إقامة دينه ونصره ، وهداية عبيده ، وإزالة الضلال عنهم ، وهذا أكمل ما يكون من التوكل.

[١٣] لما ذكر دعوة الرسل لقومهم ودوامهم على ذلك ، وعدم مللهم ، ذكر منتهى ما وصلت بهم الحال ، مع قومهم فقال : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ) متوعدين لهم ـ (لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) وهذا أبلغ ما يكون من الرد ، وليس بعد هذا فيهم مطمع ، لأنه ما كفاهم أن أعرضوا عن الهدى ، بل توعدوهم بالإخراج من ديارهم ونسبوها إلى أنفسهم ، وزعموا أن الرسل ، لا حقّ لهم فيها ، وهذا من أعظم الظلم ، فإن الله أخرج عباده إلى الأرض ، وأمرهم بعبادته ، وسخر لهم الأرض وما عليها ، يستعينون بها على عبادته. فمن استعان بذلك على عبادة الله ، حل له ذلك ، وخرج من التبعة ، ومن استعان بذلك على الكفر وأنواع المعاصي ، لم يكن ذلك خالصا له ، ولم يحل له ، فعلم أن أعداء الرسل في الحقيقة ، ليس لهم شيء من الأرض ، التي توعدوا الرسل بإخراجهم منها. وإن رجعنا إلى مجرد العادة ، فإن الرسل من جملة أهل بلادهم ، وأفراد منهم ، فلأي شيء يمنعونهم حقا لهم ، صريحا واضحا؟ هل هذا إلا من عدم الدين والمروءة بالكلية؟ ولهذا لما انتهى مكرهم بالرسل إلى هذه الحال ، ما بقي حينئذ ، إلا أن يمضي الله أمره ، وينصر أولياءه ، (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) بأنواع العقوبات.

[١٤] (وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ) أي : العاقبة الحسنة التي جعلها الله للرسل ومن تبعهم ، جزاء (لِمَنْ خافَ مَقامِي) عليه في الدنيا ، وراقب الله مراقبة من يعلم أنه يراه ، (وَخافَ وَعِيدِ) أي : ما توعدت به من عصاني ، فأوجب له ذلك ، الانكفاف عما يكرهه الله ، والمبادرة إلى ما يحبه الله.

[١٥] (وَاسْتَفْتَحُوا) أي : الكفار ، أي : هم الّذين طلبوا ، واستعجلوا فتح الله وفرقانه ، بين أوليائه وأعدائه ، فجاءهم ما استفتحوا به ، وإلا فالله عليم حليم ، لا يعاجل من عصاه بالعقوبة ، (وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) أي :

خسر في الدنيا والآخرة ، من تجبر على الله وعلى الحقّ ، وعلى عباد الله ، واستكبر في الأرض ، وعاند الرسل ، وشاقّهم.

[١٦] (مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ) أي : جهنم لهذا الجبار العنيد بالمرصاد ، فلا بد له من ورودها ، فيذوق حينئذ العذاب

٤٨٩

الشديد ، (وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) في لونه ، وطعمه ، ورائحته الخبيثة ، وهو في غاية الحرارة.

[١٧] (يَتَجَرَّعُهُ) من العطش الشديد (وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ) فإنه إذا قرب إلى وجهه ، شواه ، وإذا وصل إلى بطنه ، قطع ما أتى عليه من الأمعاء ، (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) أي : يأتيه العذاب الشديد من كل نوع من أنواع العذاب ، وكل نوع منه ، من شدته يبلغ إلى الموت ولكن الله قضى أن لا يموتوا كما قال تعالى : (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها). (وَمِنْ وَرائِهِ) أي : الجبار العنيد (عَذابٌ غَلِيظٌ) أي : قوي شديد ، لا يعلم وصفه وشدته ، إلا الله تعالى.

[١٨] يخبر تعالى عن أعمال الكفار التي عملوها : إما أن المراد بها ، الأعمال التي عملوها لله ، بأنها في ذهابها وبطلانها واضمحلالها كاضمحلال الرماد ، الذي هو أدق الأشياء وأخفها ، إذا اشتدت به الريح في يوم عاصف شديد الهبوب ، فإنه لا يبقى منه شيء ، ولا يقدر منه على شيء ، يذهب ويضمحل. فكذلك أعمال الكفار (لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ) ولا على مثقال ذرة منه لأنه مبني على الكفر والتكذيب. (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) حيث بطل سعيهم ، واضمحل عملهم. وإما أن المراد بذلك ، أعمال الكفار التي عملوها ، ليكيدوا بها الحقّ ، فإنهم يسعون ويكدحون في ذلك ، ومكرهم عائد عليهم ، ولن يضروا الله ورسله وجنده وما معهم ، من الحقّ شيئا.

[١٩] ينبه تعالى عباده بأن (اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أي : ليعبده الخلق ويعرفوه ، ويأمرهم وينهاهم ، وليستدلوا بهما ، وما فيهما ، على ما له من صفات الكمال ، وليعلموا أن الذي خلق السموات والأرض ـ على عظمهما وسعتهما ـ قادر على أن يعيدهم خلقا جديدا ، ليجازيهم بإحسانهم وإساءتهم ، وأن قدرته ومشيئته ، لا تقصر عن ذلك ، ولهذا قال : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ). يحتمل أن المعنى : إن يشأ يذهبكم ويأت بقوم غيركم ، يكونون أطوع لله منكم ، ويحتمل أن المراد : إن يشأ يفنيكم ، ثمّ يعيدكم بالبعث خلقا جديدا ، ويدل على هذا الاحتمال ، ما ذكره بعده ، من أحوال يوم القيامة.

[٢٠] (وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) (٢٠) أي : بممتنع بل هو سهل عليه جدا ، (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ).

[٢١] (وَبَرَزُوا) أي : الخلائق (لِلَّهِ جَمِيعاً) حين ينفخ في الصور ، فيخرجون من الأجداث إلى ربهم ، فيقفون في أرض مستوية ، قاع صفصف ، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ويبرزون له ، لا يخفى عليه منهم خافية ، فإذا برزوا ، صاروا يتحاجون ، وكل يدفع عن نفسه ، ويدافع ما يقدر عليه ولكن أنى لهم ذلك؟ (فَقالَ الضُّعَفاءُ) أي : التابعون والمقلدون (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) وهم : المتبوعون ، الّذين هم قادة في الضلال : (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) أي : في الدنيا ، أمرتمونا بالضلال ، وزينتموه لنا ، فأغويتمونا ، (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) أي : ولو مثقال ذرة ، (قالُوا) أي : المتبوعون والرؤساء (أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) و (لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ) فلا يغني أحد أحدا ، (سَواءٌ

٤٩٠

عَلَيْنا أَجَزِعْنا) من العذاب (أَمْ صَبَرْنا) عليه ، (ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) أي : لا ملجأ نلجأ إليه ، ولا مهرب لنا من عذاب الله.

[٢٢] أي : (وَقالَ الشَّيْطانُ) الذي هو سبب لكل شر يقع ووقع في العالم ، مخاطبا لأهل النار ، ومتبرئا منهم (لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) ودخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار : (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ) على ألسنة رسله ، فلم تطيعوه ، فلو أطعتموه ، لأدركتم الفوز العظيم ، (وَوَعَدْتُكُمْ) الخير (فَأَخْلَفْتُكُمْ) أي : لم يحصل ، ولن يحصل لكم ما منيتكم به ، من الأماني الباطلة. (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) أي : من حجة على تأييد قولي ، (إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) أي : هذا نهاية ما عندي ، أني دعوتكم إلى مرادي ، وزينته لكم ، فاستجبتم لي ، اتّباعا لأهوائكم وشهواتكم ، فإذا كان الحال بهذه الصورة (فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) فأنتم السبب ، وعليكم المدار في موجب العقاب ، (ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ) أي : بمغيثكم من الشدة التي أنتم بها (وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَ) كل له قسط من العذاب. (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) أي : تبرأت من جعلكم لي شريكا مع الله ، فلست شريكا لله ، ولا تجب طاعتي ، (إِنَّ الظَّالِمِينَ) لأنفسهم بطاعة الشيطان (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) خالدين فيه أبدا. وهذا من لطف الله بعباده ، أن حذرهم من طاعة الشيطان وأخبر بمداخله ، التي يدخل منها على الإنسان ومقاصده فيه ، وأنه يقصد أن يدخله النيران ، وهنا بيّن لنا أنه إذا دخل النار هو وجنده ، أنه يتبرأ منهم هذه البراءة ، ويكفر بشركهم (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ). واعلم أن الله ذكر في هذه الآية ، أن الشيطان ليس له سلطان ، وقال في آية أخرى (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) (١٠٠) ، فالسلطان الذي نفاه عنه ، هو سلطان الحجة والدليل ، فليس له حجة أصلا ، على ما يدعو إليه ، وإنّما نهاية ذلك ، أن يقيم لهم من الشبه والتزيينات ، ما به يتجرؤون على المعاصي. وأما السلطان ، الذي أثبته ، فهو التسلط بالإغراء على المعاصي لأوليائه يؤزّهم إلى المعاصي أزّا ، وهم الّذين سلطوه على أنفسهم ، بموالاته ، والالتحاق بحزبه ، ولهذا ليس له سلطان على الّذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون.

[٢٣] ولما ذكر عقاب الظالمين ، ذكر ثواب الطائعين فقال : (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي : الّذين قاموا بالدين ، قولا ، وعملا ، واعتقادا ، (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) فيها من اللذات والشهوات ، ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، (خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي : لا بحولهم وقوتهم بل بحول الله وقوته (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) أي : يحيّي بعضهم بعضا بالسلام ، والتحية ، والكلام الطيب.

[٢٤ ـ ٢٥] يقول تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً) وهي شهادة أن لا إله إلا الله ، وفروعها ، (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) وهي النخلة (أَصْلُها ثابِتٌ) في الأرض (وَفَرْعُها) منتشر (فِي السَّماءِ) وهي كثيرة النفع دائما. (تُؤْتِي أُكُلَها) أي ثمرتها (كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها) ، فكذلك شجرة الإيمان ، أصلها ثابت في قلب المؤمن ، علما واعتقادا. وفرعها من الكلم الطيب ، والعمل الصالح ، والأخلاق المرضية ، والآداب الحسنة ، في السماء دائما ، يصعد إلى الله منه ، من الأعمال والأقوال ، التي تخرجها شجرة الإيمان ، ما ينتفع به المؤمن ، وينتفع غيره ، (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ما أمرهم به ونهاهم عنه ، فإن في ضرب الأمثال تقريبا للمعاني المعقولة من الأمثال المحسوسة. ويتبين المعنى الذي أراده الله غاية البيان ، ويتضح غاية الوضوح ، وهذا من رحمته ، وحسن تعليمه. فلله أتم الحمد وأكمله وأعمه ، فهذه صفة كلمة التوحيد وثباتها ، في قلب المؤمن.

[٢٦] ثمّ ذكر ضدها وهي : كلمة الكفر ، وفرعها فقال : (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) المأكل والمطعم ، وهي : شجرة الحنظل ونحوها ، (اجْتُثَّتْ) هذه الشجرة (مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ) أي : ثبوت فلا عروق تمسكها ، ولا ثمرة صالحة ، تنتجها ، بل إن وجد فيها ثمرة ، فهي ثمرة خبيثة ، كذلك كلمة الكفر والمعاصي ، ليس لها ثبوت نافع في القلب ، ولا تثمر إلا كل قول خبيث ، وعمل خبيث ، يؤذي صاحبه ، ولا يصعد إلى الله منه عمل

٤٩١

صالح ، ولا ينفع نفسه ولا ينتفع به غيره.

[٢٧] يخبر تعالى : أنه يثبت عباده المؤمنين أي : الذين قاموا بما عليهم من الإيمان القلبي التام ، الذي يستلزم أعمال الجوارح ويثمرها ، فيثبتهم الله في الحياة الدنيا ، عند ورود الشبهات ، بالهداية إلى اليقين ، وعند عروض الشهوات بالإرادة الجازمة ، على تقديم ما يحبه الله على هوى النفس ومرادها. وفي الآخرة عند الموت ، بالثبات على الدين الإسلامي ، والخاتمة الحسنة ، وفي القبر عند سؤال الملكين ، للجواب الصحيح ، إذا قيل للميت «من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟» هداهم للجواب الصحيح ، بأن يقول المؤمن : «الله ربي ، والإسلام ديني ، ومحمد نبيّي». (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) عن الصواب في الدنيا والآخرة ، وما ظلمهم الله ولكنهم ظلموا أنفسهم ، وفي هذه الآية ، دلالة على فتنة القبر ، وعذابه ، ونعيمه ، كما تواترت بذلك النصوص عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في الفتنة وصفتها ، ونعيم القبر وعذابه.

[٢٨] يقول تعالى ـ مبينا حال المكذبين لرسوله ، من كفار قريش ، وما آل إليه أمرهم : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) ونعمة الله هي : إرسال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إليهم يدعوهم إلى إدراك الخيرات في الدنيا والآخرة ، فبدلوا هذه النعمة ، بردها ، والكفر بها والصّدّ عنها ، بأنفسهم ، (وَ) صدهم غيرهم حتى (أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) وهي : النار ، حيث تسببوا لإضلالهم ، فصاروا وبالا على قومهم ، من حيث يظن نفعهم ، ومن ذلك أنهم زينوا لهم الخروج يوم «بدر» ليحاربوا الله ورسوله ، فجرى عليهم ما جرى ، وقتل كثير من كبرائهم وصناديدهم ، في تلك الواقعة.

[٢٩] (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها) أي : يحيط بهم حرها ، من جميع جوانبهم. (وَبِئْسَ الْقَرارُ).

[٣٠] (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) أي : نظراء وشركاء (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) أي : ليضلوا العباد عن سبيل الله ، بسبب ما جعلوا لله من الأنداد ، ودعوهم إلى عبادتها ، (قُلْ) لهم متوعدا : (تَمَتَّعُوا) بكفركم وضلالكم قليلا ، فليس ذلك بنافعكم ، (فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) أي : مآلكم ومأواكم فيها ، وبئس المصير.

[٣١] (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ) (٣١) أي : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) آمرا لهم بما فيه غاية صلاحهم ، أن ينتهزوا الفرصة ، قبل أن لا يمكنهم ذلك : (يُقِيمُوا الصَّلاةَ) ظاهرا وباطنا (وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) أي : من النعم التي أنعمنا بها عليهم ، قليلا أو كثيرا (سِرًّا وَعَلانِيَةً) ، وهذا يشمل النفقة الواجبة ، كالزكاة ، ونفقة من تجب عليه نفقته ، والمستحبة ، كالصدقات ونحوها. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ) أي : لا ينفع فيه شيء ، ولا سبيل إلى استدراك ما فات ، لا بمعاوضة بيع وشراء ، ولا بهبة خليل وصديق ، فكل امرئ له شأن يغنيه ، فليقدم أعماله ، ويحاسب نفسه ، قبل الحساب الأكبر.

[٣٢] يخبر تعالى : أنه وحده (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) على اتساعهما وعظمهما ، (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) وهو : المطر الذي ينزله الله من السحاب ، (فَأَخْرَجَ بِهِ) أي : بذلك الماء (مِنَ الثَّمَراتِ) المختلفة الأنواع.

٤٩٢

(رِزْقاً لَكُمْ) ورزقا لأنعامكم. (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ) أي : السفن والمراكب ، (لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) فهو الذي يسّر لكم صنعتها ، وأقدركم عليها ، وحفظها على تيار الماء ، لتحملكم ، وتحمل تجاراتكم وأمتعتكم ، إلى بلد تقصدونه. (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ) لتسقي حروثكم وأشجاركم ، وتشربوا منها.

[٣٣] (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ) لا يفتران ، ولا ينيان ، يسعيان لمصالحكم ، من حساب أزمنتكم ومصالح أبدانكم ، وحيواناتكم ، وزروعكم ، وثماركم ، (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ) لتسكنوا فيه (وَالنَّهارَ) مبصرا ، لتبتغوا من فضله.

[٣٤] (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) أي : أعطاكم من كل ما تعلقت به أمانيكم وحاجتكم ، مما تسألونه إياه. بلسان الحال ، أو بلسان المقال ، من أنعام ، وآلات ، وصناعات وغير ذلك. (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) فضلا عن قيامكم بشكرها (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) أي : هذه طبيعة الإنسان من حيث هو ظالم متجرىء على المعاصي ، مقصر في حقوق ربه ، كفّار لنعم الله ، لا يشكرها ولا يعترف بها ، إلا من هداه الله ، فشكر نعمه ، وعرف حق ربه ، وقام به. ففي هذه الآيات ، من أصناف نعم الله على العباد ، شيء عظيم ، مجمل ، ومفصل ، يدعو الله به العباد إلى القيام بشكره وذكره ، ويحثهم على ذلك ، ويرغبهم في سؤاله ودعائه ، آناء الليل والنهار ، كما أن نعمته ، تتكرر عليهم ، في جميع الأوقات.

[٣٥] أي : (وَ) اذكر إبراهيم ، عليه الصلاة والسّلام ، في هذه الحالة الجميلة ، (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ) أي : الحرم (آمِناً) ، فاستجاب الله دعاءه شرعا وقدرا ، فحرمه الله في الشرع ، ويسّر من أسباب حرمته ، قدرا ، ما هو معلوم ، حتى إنه لم يرده ظالم بسوء ، إلا قصمه الله كما فعل بأصحاب الفيل وغيرهم. ولما دعا له بالأمن ، دعا له ولبنيه بالإيمان فقال : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) ، أي : اجعلني وإياهم ، جانبا بعيدا عن عبادتها ، والإلمام بها ، ثمّ ذكر الموجب لخوفه عليه وعلى بنيه ، بكثرة من افتتن وابتلي بعبادتها ، فقال :

[٣٦] (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) أي : ضلوا بسببها ، (فَمَنْ تَبِعَنِي) على ما جئت به من التوحيد والإخلاص لله رب العالمين (فَإِنَّهُ مِنِّي) لتمام الموافقة ومن أحب قوما واتبعهم ، التحق بهم. (وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وهذا من شفقة الخليل ، عليه الصلاة والسّلام حيث دعا للعاصين بالمغفرة والرحمة من الله ، والله تبارك وتعالى ، أرحم منه بعباده ، لا يعذب إلا من تمرد عليه.

[٣٧] (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) وذلك أنه أتى ب «هاجر» أم إسماعيل وبابنها إسماعيل ، عليه الصلاة والسّلام ، وهو في الرضاع ، من الشام ، حتى وضعهما في مكة ، وهي ـ إذ ذاك ـ ليس فيها سكن ، ولا داع ، ولا مجيب ، فلما وضعهما ، دعا ربه بهذا الدعاء ، فقال ـ متضرعا متوكلا على ربه : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي) أي : لا كل ذريتي ، لأن إسحق في الشام ، وباقي بنيه كذلك ، وإنّما أسكن في مكة ، إسماعيل وذريته ، وقوله : (بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) أي : لأن أرض مكة لم يكن فيها ماء. (رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) أي : اجعلهم

٤٩٣

موحدين مقيمين الصلاة ، لأن إقامة الصلاة من أخص وأفضل العبادات الدينية ، فمن أقامها ، كان مقيما لدينه ، (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) أي : تحبهم ، وتحب الموضع الذي هم ساكنون فيه. فأجاب الله دعاءه ، فأخرج من ذرية إسماعيل ، محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى دعا ذريته إلى الدين الإسلامي ، وإلى ملة أبيهم إبراهيم ، فاستجابوا له وصاروا مقيمي الصلاة. وافترض الله حج هذا البيت ، الذي أسكن به ذرية إبراهيم ، وجعل فيه سرا عجيبا ، جاذبا للقلوب ، فهي تحجه ، ولا تقضي منه وطرا على الدوام ، بل كلما أكثر العبد التردد إليه ، ازداد شوقه ، وعظم ولعه وتوقه ، وهذا سر إضافته تعالى إلى نفسه المقدسة. (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) فأجاب الله دعاءه ، فصار يجبى إليه ، ثمرات كل شيء ، فإنك ترى مكة المشرفة كل وقت ، والثمار فيها متوفرة ، والأرزاق تتوالى إليها من كل جانب.

[٣٨] (رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ) أي : أنت أعلم بنا منا ، فنسألك من تدبيرك وتربيتك لنا ، أن تيسر لنا من الأمور التي نعلمها ، والتي لا نعلمها ، ما هو مقتضى علمك ورحمتك ، (وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) ومن ذلك هذا الدعاء الذي لم يقصد به الخليل إلا الخير ، وكثرة الشكر لله رب العالمين.

[٣٩] (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) فذلك من أكبر النعم ، وكونه على الكبر ، في حال الإياس من الأولاد ، نعمة أخرى ، وكونهم أنبياء صالحين ، أجلّ وأفضل ، (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) أي : لقريب الإجابة ، ممن دعاه ، وقد دعوته ، ولم يخيب رجائي.

[٤٠ ـ ٤١] ثمّ دعا لنفسه ولذريته. فقال : (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) (٤١) ، فاستجاب الله له في ذلك كله ، إلا أن دعاءه لأبيه ، إنّما كان من موعدة وعده إياه ، فلما تبين له أنه عدو لله ، تبرأ منه.

[٤٢] ثمّ قال تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً) إلى (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ). هذا وعيد شديد للظالمين ، وتسلية للمظلومين. يقول تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) حيث أمهلهم وأدرّ عليهم الأرزاق ، وتركهم يتقلبون في البلاد ، آمنين مطمئنين ، فليس في هذا ما يدل على حسن حالهم ، فإن الله يملي للظالم ويمهله ، ليزداد إثما ، حتى إذا أخذه ، لم يفلته (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (١٠٢) ، والظلم ـ هاهنا ـ يشمل الظلم فيما بين العبد وربه ، وظلمه لعباد الله ، (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) أي : لا تطرف من شدة ما ترى ، من الأهوال وما أزعجها من القلاقل.

[٤٣] (مُهْطِعِينَ) أي : مسرعين إلى إجابة الداعي حين يدعوهم إلى الحضور بين يدي الله للحساب ، لا امتناع لهم ولا محيص ، ولا ملجأ ، (مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) أي : رافعيها قد غلّت أيديهم إلى الأذقان ، فارتفعت لذلك ، رؤوسهم ، (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) أي : أفئدتهم فارغة من قلوبهم ، قد صعدت إلى الحناجر ، لكنها مملوءة من كل هم وغم ، وحزن وقلق.

٤٩٤

[٤٤ ـ ٤٥] يقول تعالى لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ) أي : صف لهم تلك الحال ، وحذّرهم من الأعمال الموجبة للعذاب ، الذي حين يأتي في شدائده وقلاقله ، (فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) بالكفر والتكذيب ، وأنواع المعاصي ، نادمين على ما فعلوا ، سائلين للرجعة في غير وقتها ، (رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) أي : ردّنا إلى الدنيا ، فإنا قد أبصرنا ، (نُجِبْ دَعْوَتَكَ) والله يدعو إلى دار السّلام (وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) وهذا كله ، لأمل التخلص من العذاب الأليم ، وإلا فهم كذبة في هذا الوعد (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ). ولهذا يوبخون ويقال لهم : (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) عن الدنيا ، وانتقال إلى الآخرة ، فها قد تبين لكم حنثكم في إقسامكم وكذبتم فيما تدعون. (وَ) ليس عملكم قاصرا في الدنيا من أجل الآيات البينات ، بل (سَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ) من أنواع العقوبات؟ وكيف أحلّ الله بهم العقوبات ، حين كذبوا بالآيات البينات ، وضربنا لكم الأمثال الواضحة التي لا تدع أدنى شك في القلب إلا أزالته ، فلم تنفع فيكم تلك الآيات ، بل أعرضتم ، ودمتم على باطلكم ، حتى صار ما صار : ووصلتم إلى هذا اليوم الذي لا ينفع فيه اعتذار من اعتذار بباطل.

[٤٦] (وَقَدْ مَكَرُوا) أي : المكذبون للرسل (مَكْرَهُمْ) الذي وصلت إليه إرادتهم ، وقدروا عليه ، (وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) أي : هو محيط به علما وقدرة ، وقد عاد مكرهم عليهم (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ). (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) أي : ولقد كان مكر الكفار المكذبين للرسل بالحق ، وبمن جاء به ـ من عظمه ـ لتزول الجبال الراسيات بسببه ، عن أماكنها ، أي : (وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً) (٢٢) لا يقدر قدره ولكن الله رد كيدهم في نحورهم. ويدخل في هذا ، كل من مكر من المخالفين للرسل ، لينصر باطلا ، أو يبطل حقا ، والقصد أن مكرهم ، لم يغن عنهم شيئا ، ولم يضروا الله شيئا ، وإنّما ضروا أنفسهم.

[٤٧] يقول تعالى : (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) بنجاتهم ، ونجاة أتباعهم وسعادتهم ، وإهلاك أعدائهم وخذلانهم في الدنيا ، وعقابهم في الآخرة ، فهذا لا بد من وقوعه ، لأنه وعد به الصادق قولا ، على ألسنة أصدق خلقه ، وهم : الرسل ، وهذا أعلى ما يكون من الأخبار ، خصوصا ، وهو مطابق للحكمة الإلهية ، والسنن الربانية ، وللعقول الصحيحة ، و (إِنَّ اللهَ) لا يعجزه شيء ، فإنه (عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ).

[٤٨] أي : إذا أراد أن ينتقم من أحد ، فإنه لا يفوته ولا يعجزه ، وذلك في يوم القيامة ، (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) تبدل غير السموات ، وهذا التبديل ، تبديل صفات ، لا تبديل ذات ، فإن الأرض يوم القيامة تسوى وتمد كمد الأديم ، ويلقى ما على ظهرها من جبل ومعلم ، فتصير قاعا صفصفا ، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ، وتكون السماء ، كالمهل ، من شدة أهوال ذلك اليوم ، ثمّ يطويها الله تعالى بيمينه. (وَبَرَزُوا) أي : الخلائق من قبورهم إلى يوم بعثهم ، ونشورهم في محل لا يخفى منهم على الله شيء ، (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) أي : المتفرد بعظمته

٤٩٥

وأسمائه وصفاته ، وأفعاله العظيمة ، وقهره لكل العوالم فكلها تحت تصرفه وتدبيره ، فلا يتحرك منها متحرك ، ولا يسكن ساكن إلا بإذنه.

[٤٩] (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ) أي : الّذين وصفهم الإجرام ، وكثرة الذنوب ، (يَوْمَئِذٍ) في ذلك اليوم (مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) أي : يسلسل كل أهل عمل من المجرمين ، بسلاسل من نار ، فيقادون إلى العذاب ، في أذل صورة وأشنعها ، وأبشعها.

[٥٠ ـ ٥١] (سَرابِيلُهُمْ) أي : ثيابهم (مِنْ قَطِرانٍ) وذلك لشدة اشتعال النار فيهم وحرارتها ، ونتن ريحها ، (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ) التي هي أشرف ما في أبدانهم (النَّارُ) أي : تحيط بها ، وتصلاها من كل جانب ، وغير الوجوه من باب أولى وأحرى ، وليس هذا ظلما من الله ، وإنّما هو جزاء لما قدموا وكسبوا ، ولهذا قال تعالى : (لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) من خير وشر ، بالعدل والقسط ، الذي لا جور فيه بوجه من الوجوه. (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) كقوله تعالى : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) (١) ، ويحتمل أن معناه : سريع المحاسبة ، فيحاسب الخلق في ساعة واحدة كما يرزقهم ويدبرهم بأنواع التدابير ، في لحظة واحدة ، لا يشغله شأن عن شأن ، وليس ذلك بعسير عليه سبحانه.

[٥٢] فلما بين البيان المبين في هذا القرآن ، قال في مدحه : (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ) أي : يتبلغون به ، ويتزودون إلى الوصول إلى أعلى المقامات وأفضل الكرامات ، لما اشتمل عليه من الأصول والفروع ، وجميع العلوم التي يحتاجها العباد. (وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) لما فيه من الترهيب من أعمال الشر ، وما أعد الله لأهلها من العقاب ، (وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) حيث صرف فيه من الأدلة والبراهين ، على ألوهيته ووحدانيته ، ما صار ذلك حق اليقين. (وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي : العقول الكاملة ، ما ينفعهم ، فيفعلونه وما يضرهم ، فيتركونه ، وبذلك صاروا أولي الألباب والبصائر. إذ بالقرآن ، ازدادت معارفهم وآراؤهم ، وتنورت أفكارهم ، لما أخذوه غضا طريا ، فإنه لا يدعو إلا إلى أعلى الأخلاق والأعمال وأفضلها ، ولا يستدل على ذلك إلا بأقوى الأدلة وأبينها. وهذه القاعدة إذا تدرب بها العبد الذكي ، لم يزل في صعود ورقي على الدوام في كل خصلة حميدة. والحمد لله رب العالمين.

تفسير سورة الحجر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] يقول تعالى ـ معظما لكتابه ، مادحا له : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) أي : الآيات الدالة على أحسن المعاني ، وأفضل المطالب ، (وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) للحقائق ، بأحسن لفظ وأوضحه ، وأدله على المقصود ، وهذا مما يوجب على الخلق ، الانقياد إليه ، والتسليم لحكمه وتلقيه بالقبول ، والفرح والسرور.

[٢] فأما من قابل هذه النعمة العظيمة بردها ، والكفر بها ، فإنه من المكذبين الضالين ، الّذين سيأتي عليهم وقت ، يتمنون أنهم مسلمون ، أي : منقادون لأحكامه ، وذلك حين ينكشف الغطاء ، وتظهر أوائل الآخرة ، ومقدمات الموت. فإنهم في أحوال الآخرة كلها ، يتمنون أنهم مسلمون ، وقد فات وقت الإمكان ، ولكنهم في هذه الدنيا مغترون.

[٣] (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا) بلذاتهم (وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ) أي : يؤملون البقاء في الدنيا ، فيلهيهم عن

٤٩٦

الآخرة. (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) أن ما هم عليه باطل ، وأن أعمالهم ذهبت خسرانا عليهم ، ولا يغتروا بإمهال الله تعالى ، فإن هذه سنته في الأمم.

[٤] (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ) كانت مستحقة للعذاب (إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) مقدر لإهلاكها.

[٥] (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) (٥) وإلا ، فالذنوب ، لا بد من وقوع أثرها ، وإن تأخر.

[٦ ـ ٨] أي : وقال المكذبون لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، استهزاء وسخرية : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) على زعمك (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) إذ تظن أنا سنتبعك ، ونترك ما وجدنا عليه آباءنا ، لمجرد قولك. (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ) يشهدون لك بصحة ما جئت به (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فلما لم تأت بالملائكة ، فلست بصادق. وهذا من أعظم الظلم والجهل. أما الظلم ، فظاهر ، فإن هذا تجرؤ على الله وتعنت بتعيين الآيات ، التي لم يخترها ، وحصل المقصود والبرهان بدونها ، من الآيات الكثيرة ، الدالة على صحة ما جاء به ، وأما الجهل ، فإنهم جهلوا مصلحتهم من مضرتهم ، فليس في إنزال الملائكة ، خير لهم ، بل لا ينزل الله الملائكة إلا بالحق الذي لا إمهال على من لم يتبعه وينقد له. (وَما كانُوا إِذاً) أي : حين تنزل الملائكة ، إن لم يؤمنوا ، ولن يؤمنوا (مُنْظَرِينَ) أي :

بممهلين ، فصار طلبهم لإنزال الملائكة ، تعجيلا لأنفسهم بالهلاك والدمار ، فإن الإيمان ليس في أيديهم ، وإنّما هو بيد الله ، (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ).

[٩] ويكفيهم من الآيات ، إن كانوا صادقين ، هذا القرآن العظيم ولهذا قال هنا : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) أي : القرآن الذي فيه ذكرى لكل شيء ، من المسائل والدلائل الواضحة ، وفيه يتذكر من أراد التذكر ، (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) أي : في حال إنزاله ، وبعد إنزاله ، ففي حال إنزاله حافظون له ، من استراق كل شيطان رجيم. وبعد إنزاله أودعه الله في قلب رسوله ، واستودعه في قلوب أمته ، وحفظ الله ألفاظه من التغيير فيها ، والزيادة والنقص ، ومعانيه ، من التبديل ، فلا يحرف محرف معنى من معانيه ، إلا وقيض الله له من يبين الحقّ المبين ، وهذا من أعظم آيات الله ونعمه على عباده المؤمنين ، ومن حفظه : أن الله يحفظ أهله من أعدائهم ، ولا يسلط عدوا يجتاحهم.

[١٠ ـ ١٣] يقول تعالى لنبيه إذ كذبه المشركون : لم يزل هذا دأب الأمم الخالية والقرون الماضية : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ) (١٠) ، أي : فرقهم وجماعتهم ، رسلا. (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ) يدعوهم إلى الحقّ والهدى (إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) ، (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ) أي : ندخل التكذيب (فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) أي : الّذين وصفهم الظلم والبهت ، عاقبناهم لما تشابهت قلوبهم بالكفر والتكذيب ، وتشابهت معاملتهم لأنبيائهم ، ورسلهم بالاستهزاء والسخرية وعدم الإيمان ، ولهذا قال : (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) (١٣) أي : عادة الله فيهم ، بإهلاك من لم يؤمن بآيات الله.

[١٤ ـ ١٥] أي : ولو جاءتهم كل آية عظيمة ، لم يؤمنوا وكابروا ، (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ) فصاروا

٤٩٧

يعرجون فيه ، ويشاهدونه ، عيانا بأنفسهم ، لقالوا ـ من ظلمهم وعنادهم ، منكرين لهذه الآية : ـ (إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) أي : أصابها سكر وغشاوة ، حتى رأينا ما لم نر ، (بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) أي : ليس هذا بحقيقة ، بل هذا سحر ، وقوم وصلت بهم الحال إلى هذا الإنكار ، فإنهم لا مطمع فيهم ولا رجاء ، ثمّ ذكر الآيات الدالات على ما جاءت به الرسل من الحقّ فقال : (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً) إلى (بِرازِقِينَ).

[١٦] يقول تعالى ـ مبينا كمال اقتداره ورحمته بخلقه ـ : (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً) أي : نجوما كالأبراج ، والأعلام العظام يهتدى بها في ظلمات البر والبحر ، (وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ) ، فإنه لو لا النجوم ، لما كان للسماء هذا المنظر البهي ، والهيئة العجيبة ، وهذا مما يدعو الناظرين إلى التأمل فيها ، والنظر في معانيها ، والاستدلال بها ، على باريها.

[١٧] (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) (١٧) إذا استرق السمع ، أتبعته الشهب الثواقب ، فبقيت السماء ، ظاهرها ، مجملا بالنجوم النيرات ، وباطنها ، محروسا ممنوعا ، من الآفات.

[١٨] (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) أي : في بعض الأوقات ، قد يسترق بعض الشياطين السمع ، بخفية واختلاس ، (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) أي : بين منير ، يقتله ، أو يخبله. فربما أدركه الشهاب ، قبل أن يوصلها الشيطان إلى وليه ، فينقطع خبر السماء عن الأرض ، وربما ألقاها إلى وليه ، قبل أن يدركه الشهاب ، فيضمّها ويكذب معها مائة كذبة ، ويستدل بتلك الكلمة التي ، سمعت من السماء.

[١٩] (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) أي : وسعناها سعة ، يتمكن الآدميون والحيوانات كلها ، من الامتداد بأرجائها ، والتناول من أرزاقها ، والسكون في نواحيها. (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) أي : جبالا عظاما ، تحفظ الأرض بإذن الله ، أن تميد ، وتثبتها أن تزول ، (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) أي : نافع متقوم ، يضطر إليه العباد والبلاد ، ما بين نخيل ، وأعناب ، وأصناف الأشجار ، وأنواع النبات ، والمعادن.

[٢٠] (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) من الحرث ، ومن الماشية ، ومن أنواع المكاسب والحرف. (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) أي : أنعمنا عليكم بعبيد وإماء ، وأنعام ، لنفعكم ، ومصالحكم ، وليس عليكم رزقها ، بل خولكم الله إياها ، وتكفل بأرزاقها.

[٢١] أي : جميع الأرزاق وأصناف الأقدار ، لا يملكها أحد إلا الله ، فخزائنها بيده ، يعطي من يشاء ، ويمنع من يشاء ، بحسب حكمته ورحمته الواسعة ، (وَما نُنَزِّلُهُ) أي : المقدر من كل شيء ، من مطر وغيره ، (إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) فلا يزيد على ما قدره الله ، ولا ينقص منه.

[٢٢] أي : وسخرنا الرياح ، رياح الرحمة ، تلقح السحاب ، كما يلقح الذكر الأنثى ، فينشأ عن ذلك ، الماء ، بإذن الله ، فيسقيه الله العباد ، ومواشيهم ، وأرضهم ، ويبقى في الأرض مدخرا لحاجاتهم وضروراتهم ، ما هو مقتضى

٤٩٨

قدرته ورحمته ، (وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) أي : لا قدرة لكم على خزنه وادخاره ، ولكن الله يخزنه لكم ، ويسلكه ينابيع في الأرض ، رحمة بكم ، وإحسانا إليكم.

[٢٣ ـ ٢٥] أي : هو وحده ، لا شريك له ، الذي يحيي الخلق من العدم ، بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا ويميتهم لآجالهم ، التي قدرها (وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) كقوله : (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) (٤٠) ، وليس ذلك بعزيز ، ولا ممتنع على الله ، فإنه تعالى يعلم المستقدمين من الخلق والمستأخرين منهم ، ويعلم ما تنقص الأرض منهم ، وما تفرق من أجزائهم ، وهو الذي ، قدرته لا يعجزها معجز ، فيعيد عباده خلقا جديدا ، ويحشرهم إليه. (إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) يضع الأشياء مواضعها ، وينزلها منازلها ، ويجازي كل عامل بعمله ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

[٢٦] يذكر تعالى نعمته وإحسانه على أبينا آدم عليه‌السلام ، وما جرى من عدوه إبليس ، وفي ضمن ذلك ، التحذير لنا من شره وفتنته ، فقال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) أي آدم عليه‌السلام (مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) أي : من طين قد يبس ، بعد ما خمر حتى صار له صلصلة وصوت ، كصوت الفخار. والحمأ المسنون ، الطين المتغير لونه وريحه ، من طول مكثه.

[٢٧] (وَالْجَانَ) وهو : أبو الجن أي : إبليس (خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ) خلق آدم (مِنْ نارِ السَّمُومِ) أي : من النار الشديدة الحرارة.

[٢٨ ـ ٢٩] فلما أراد الله خلق آدم قال للملائكة : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ) جسدا تاما (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) فامتثلوا أمر ربهم.

[٣٠ ـ ٣٣] (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) (٣٠) ، تأكيد بعد تأكيد ، ليدل على أنه لم يتخلف منهم أحد ، وذلك تعظيما لأمر الله ، وإكراما لآدم ، حيث علم ما لم يعلموا. (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) (٣١) وهذا أول عداوته لآدم وذريته ، (قالَ) الله : (يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) (٣٣) ، فاستكبر على أمر الله ، وأبدى العداوة لآدم وذريته ، وأعجب بعنصره وقال : أنا خير من آدم.

[٣٤ ـ ٣٥] (قالَ) الله ـ معاقبا له على كفره واستكباره ـ (فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) ، أي : مطرود ومبعد من كل خير ، (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ) أي : الذم ، والعيب ، والبعد عن رحمة الله (إِلى يَوْمِ الدِّينِ) ، ففيها ، وما أشبهها ، دليل على أنه سيستمر على كفره ، وبعده من الخير.

[٣٦ ـ ٣٨] (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي) أي : أمهلني (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) (٣٨) ، وليس إجابة الله لدعائه ، كرامة في حقه ، وإنّما ذلك ، امتحان وابتلاء من الله له وللعباد ، ليتبين الصادق الذي يطيع مولاه دون عدوه ، ممن ليس كذلك ، ولذلك حذرنا منه ، غاية التحذير ، وشرح لنا ، ما يريده منا.

[٣٩ ـ ٤٢] (قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي : أزين لهم الدنيا ، وأدعوهم إلى إيثارها على

٤٩٩

الأخرى ، حتى يكونوا منقادين لكل معصية. (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) أي : أصدهم كلهم عن الصراط المستقيم ، (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٤٠) أي : الّذين أخلصتهم واجتبيتهم ، لإخلاصهم وإيمانهم ، وتوكلهم. (قالَ) الله تعالى : (هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) أي : معتدل موصل إليّ ، وإلى دار كرامتي. (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) تميلهم به إلى ما تشاء من أنواع الضلالات ، بسبب عبوديتهم لربهم ، وانقيادهم لأوامره ، أعانهم الله وعصمهم من الشيطان. (إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ) فرضي بولايتك وطاعتك ، بدلا من طاعة الرحمن ، (مِنَ الْغاوِينَ) والغوي : ضد الراشد ، فهو : الذي عرف الحقّ وتركه ، والضال : الذي تركه من غير علم منه به.

[٤٣ ـ ٤٥] (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) (٤٣) أي :

إبليس وجنوده ، (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ) كل باب أسفل من الآخر ، (لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ) أي : من أتباع إبليس (جُزْءٌ مَقْسُومٌ) بحسب أعمالهم ، قال تعالى : (فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ) (٩٥). ولما ذكر تعالى ما أعد لأعدائه ، أتباع إبليس ، من النكال والعذاب الشديد ، ذكر ما أعد لأوليائه من الفضل العظيم ، والنعيم المقيم فقال : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) إلى (هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ). يقول تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) الّذين اتقوا طاعة الشيطان ، وما يدعوهم إليه ، من جميع الذنوب والعصيان (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) قد احتوت على جميع الأشجار ، وأينعت فيها جميع الثمار اللذيذة ، في جميع الأوقات.

[٤٦ ـ ٤٨] ويقال لهم حال دخولها : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ) (٤٦) من الموت ، والنوم والنصب ، واللغوب ، وانقطاع شيء من النعيم ، الذي هم فيه أو نقصانه ، ومن المرض ، والحزن ، والهم ، وسائر المكدرات ، (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) فتبقى قلوبهم سالمة ، من كل غل وحسد ، متصافية متحابة (إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ). دل ذلك على تزاورهم ، واجتماعهم ، وحسن أدبهم فيما بينهم ، في كون كل منهم مقابلا للآخر ، لا مستدبرا له ، متكئين على تلك السرر المزينة ، بالفرش واللؤلؤ ، وأنواع الجواهر. (لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ) لا ظاهر ولا باطن ، وذلك لأن الله ينشئهم نشأة وحياة كاملة ، لا تقبل شيئا من الآفات ، (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) على سائر الأوقات.

[٤٩] ولما ذكر ما يوجب الرغبة والرهبة ، من مفعولات الله ، من الجنة ، والنار ، ذكر ما يوجب ذلك من أوصافه تعالى فقال : (نَبِّئْ عِبادِي) أي : أخبرهم خبرا جازما ، مؤيدا بالأدلة ، (أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) فإنهم إذا عرفوا كمال رحمته ومغفرته.

[٥٠] سعوا بالأسباب الموصلة لهم إلى رحمته ، وأقلعوا عن الذنوب ، وتابوا منها ، لينالوا مغفرته. ومع هذا ، فلا ينبغي أن يتمادى بهم الرجاء إلى حال الأمن والإدلال ، فنبئهم (أَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) (٥٠) أي : لا عذاب في الحقيقة ، إلا عذاب الله ، الذي لا يقدر قدره ، ولا يبلغ كنهه ، نعوذ به من عذابه ، فإنهم إذا عرفوا أنه (لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ) (٢٦) حذروا ، وبعدوا عن كل سبب يوجب لهم العقاب ، فالعبد ينبغي أن يكون قلبه دائما ، بين الخوف والرجاء ، والرغبة والرهبة ، فإذا نظر إلى رحمة ربه ومغفرته ، وجوده وإحسانه ، أحدث له ذلك

٥٠٠