تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي

تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

المؤلف:

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ١١٣٥

هؤلاء ـ يعني المهاجرين ـ إلّا كما قال القائل : (سمّن كلبك يأكلك). وقال : لئن رجعنا إلى المدينة (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) بزعمه أنه هو وإخوانه المنافقين ، الأعزون ، وأن رسول الله ، ومن اتبعه هم الأذلون ، والأمر بعكس ما قال هذا المنافق. فلهذا قال تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) فهم الأعزاء ، والمنافقون وإخوانهم من الكفار ، هم الأذلاء. (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) ذلك ، فلذلك زعموا أنهم الأعزاء ، اغترارا بما هم عليه من الباطل.

[٩] ثمّ قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلى : (بِما تَعْمَلُونَ). يأمر تعالى عباده المؤمنين بالإكثار من ذكره ، فإن في ذلك ، الربح والفلاح ، والخيرات الكثيرة ، وينهاهم أن تشغلهم أموالهم وأولادهم عن ذكره ، فإن محبة المال والأولاد مجبولة عليها أكثر النفوس ، فتقدمها على محبة الله ، وفي ذلك الخسارة العظيمة ، ولهذا قال تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) ، أي : يلهه ماله وولده ، عن ذكر الله (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) للسعادة الأبدية ، والنعيم المقيم ، لأنهم آثروا ما يفنى على ما يبقى. قال تعالى : (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (١٥).

[١٠] وقوله : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ) يدخل في هذا ، النفقات الواجبة ، من الزكاة والكفارات ، ونفقة الزوجات ، والمماليك ، ونحو ذلك ، والنفقات المستحبة كبذل المال في جميع المصالح. وقال : (مِمَّا رَزَقْناكُمْ) ليدل ذلك على أنه تعالى ، لم يكلف العباد من النفقة ما يعنتهم ويشق عليهم ، بل أمرهم بإخراج جزء مما رزقهم ، ويسره ، ويسر أسبابه. فليشكروا الذي أعطاهم ، بمواساة إخوانهم المحتاجين ، وليبادروا بذلك الموت الذي إذا جاء ، لم يمكّن العبد أن يأتي بمثقال ذرة من الخير ، ولهذا قال : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ) متحسرا على ما فرّط في وقت الإمكان ، سائلا الرجعة الّتي هي محال : (رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) ، أي : لأتدارك ما فرّطت فيه. (فَأَصَّدَّقَ) من مالي ، ما به أنجو من العذاب ، وأستحق جزيل الثواب. (وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) بأداء المأمورات كلها ، واجتناب المنهيات ، ويدخل في هذا ، الحج وغيره.

[١١] وهذا السؤال والتمني ، قد فات وقته ، ولا يمكن تداركه ، ولهذا قال : (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها) المحتوم لها (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) من خير وشر ، فيجازيكم على ما علمه ، من النيات والأعمال.

تفسير سورة التغابن

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] هذه الآيات الكريمات ، مشتملات على جملة كثيرة واسعة ، من أوصاف الباري العظيمة ، فذكر كمال

١٠٤١

ألوهيته سبحانه ، وسعة غناه ، وافتقار جميع الخلائق إليه ، وتسبيح من في السماوات والأرض بحمد ربها ، وأن الملك كله لله ، فلا يخرج عن ملكه مخلوق. والحمد كله له ، حمد على ما له من صفات الكمال ، وحمد على ما أوجده من الأشياء ، وحمد على ما شرعه من الأحكام ، وأسداه من النعم. وقدرته شاملة ، لا يخرج عنها موجود ، فلا يعجزه شيء يريده.

[٢] وذكر أنه خلق العباد ، وجعل منهم المؤمن والكافر ، فإيمانهم وكفرهم كله ، بقضاء الله وقدره ، وهو الذي شاء ذلك منهم ، بأن جعل لهم قدرة وإرادة ، بها يتمكنون من كلّ ما يريدون ، من الأمر والنهي ، (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

[٣] فلما ذكر خلق الإنسان المأمور المنهي ، ذكر خلق باقي المخلوقات ، فقال : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ، أي : أجرامهما ، وجميع ما فيهما ، فأحسن خلقهما. (بِالْحَقِ) ، أي : بالحكمة ، والغاية المقصودة له تعالى. (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) كما قال تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (٤). فالإنسان ، أحسن المخلوقات صورة ، وأبهاها منظرا. (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) ، أي : المرجع يوم القيامة ، فيجازيكم على إيمانكم وكفركم ، ويسألكم عن النعم والنعيم الذي أولاكم ، هل قمتم بشكره أم لم تقوموا به؟ ثمّ ذكر عموم علمه ، فقال :

[٤] (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، أي : في السرائر والظواهر ، والغيب والشهادة. (وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) ، أي : بما فيها من الأسرار الطيبة ، والخبايا الخبيثة ، والنيات الصالحة ، والمقاصد الفاسدة. فإذا كان عليما بذات الصدور ، تعين على العاقل البصير ، أن يحرص ويجتهد في حفظ باطنه ، من الأخلاق الرذيلة ، واتصافه بالأخلاق الجميلة.

[٥] لما ذكر تعالى من أوصافه الكاملة العظيمة ، ما به يعرف ويعبد ، ويبذل الجهد في مرضاته ، وتجتنب مساخطه ، أخبر بما فعل بالأمم السابقين ، والقرون الماضين ، الّذين لم تزل أنباؤهم ، يتحدث بها المتأخرون ، ويخبر بها الصادقون ، وأنهم حين جاءتهم رسلهم بالحق ، كذبوهم وعاندوهم. (فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) في الدنيا ، وأخزاهم الله فيها (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الدار الآخرة ، ولهذا ذكر السبب في هذه العقوبة ، فقال :

[٦] (ذلِكَ) النكال والوبال ، الذي أحللناه بهم (بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) ، أي : بالآيات الواضحات ، الدالة على الحقّ والباطل ، فاشمأزوا ، واستكبروا على رسلهم ، فقالوا : (أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) ، أي : ليس لهم فضل علينا ، ولأي شيء خصهم الله دوننا. كما قال في الآية الأخرى : (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) فهم حجروا فضل الله ومنته على أنبيائه أن يكونوا رسلا للخلق ، واستكبروا عن الانقياد لهم. فابتلوا بعبادة الأشجار ، والأحجار ونحوها (فَكَفَرُوا) بالله (وَتَوَلَّوْا) عن طاعته. (وَاسْتَغْنَى اللهُ) عنهم ، فلا يبالي بهم ، ولا يضره ضلالهم شيئا. (وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) ، أي : هو الغني ، الذي له الغني التام المطلق ، من جميع الوجوه. الحميد ، في أقواله وأفعاله وأوصافه.

١٠٤٢

[٧] يخبر تعالى عن عناد الكافرين ، وزعمهم الباطل ، وتكذيبهم بالبعث بغير علم ، ولا هدى ولا كتاب منير. فأمر أشرف خلقه ، أن يقسم بربه على بعثهم ، وجزائهم بأعمالهم الخبيثة ، وتكذيبهم بالحق. (وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) فإنه ، وإن كان عسيرا بل متعذرا ، بالنسبة إلى الخلق ، فإن قواهم كلهم ، لو اجتمعت على إحياء ميت واحد ، ما قدروا على ذلك. وأما الله تعالى ، فإنه إذا أراد شيئا ، قال له كن فيكون. قال تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (٦٨).

[٨] لما ذكر تعالى إنكار من أنكر البعث ، وأن ذلك منهم موجب كفرهم بالله وآياته ، أمر بما يعصم من الهلكة والشقاء ، وهو الإيمان به ، وبرسوله ، وبكتابه. وسماه الله نورا ، لأن النور ضد الظلمة ، فما في الكتاب الذي أنزله الله من الأحكام والشرائع والأخبار ، أنوار يهتدى بها في ظلمات الجهل المدلهمة ، ويمشى بها في حندس الليل البهيم. وما سوى الاهتداء بكتاب الله ، فهي علوم ، ضررها أكثر من نفعها ، وشرها أكثر من خيرها. بل لا خير فيها ولا نفع ، إلّا ما وافق ما جاءت به الرسل. والإيمان بالله ورسوله وكتابه ، يقتضي الجزم التام ، واليقين الصادق بها ، والعمل بمقتضى ذلك التصديق ، من امتثال الأوامر ، واجتناب النواهي. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فيجازيكم بأعمالكم ، الصالحة والسيئة.

[٩] يعني : اذكروا يوم الجمع الذي يجمع الله به الأولين والآخرين ، ويقفهم موقفا هائلا عظيما ، وينبئهم بما عملوا. فحينئذ يظهر الفرق والتغابن بين الخلائق ، ويرفع أقوام إلى أعلى عليين ، في الغرف العاليات ، والمنازل المرتفعات ، المشتملة على جميع اللذات والشهوات. ويخفض أقوام إلى أسفل سافلين ، محل الهم والغم ، والحزن والعذاب الشديد ، وذلك نتيجة ما قدموه لأنفسهم ، وأسلفوه أيام حياتهم ، ولهذا قال : (ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ). أي : يظهر فيه التغابن ، والتفاوت بين الخلائق ، ويغبن المؤمنون الفاسقين ، ويعرف المجرمون ، أنهم على غير شيء ، وأنهم هم الخاسرون ، فكأنه قيل : بأي شيء يحصل الفلاح والشقاء والنعيم والعذاب؟ فذكر أسباب ذلك بقوله : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ) إيمانا تاما ، شاملا لجميع ما أمر الله بالإيمان به. (وَيَعْمَلْ صالِحاً) من الفرائض والنوافل ، من أداء حقوق الله وحقوق عباده. (يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) ، فيها ما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين ، وتختاره الأرواح ، وتحن إليه القلوب ، ويكون نهاية كلّ مرغوب. (خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

[١٠] (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) ، أي : كفروا بها ، من غير مستند شرعي ولا عقلي. بل جاءتهم الأدلة والبينات ، فكذبوا بها وعاندوا ، ما دلت عليه. (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) لأنها جمعت كلّ بؤس وشدة ، وشقاء وعذاب.

[١١] يقول تعالى : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) هذا عام لجميع المصائب ، في النفس ، والمال ، والولد ، والأحباب ، ونحوهم. فجميع ما أصاب العباد ، بقضاء الله وقدره ، قد سبق بذلك ، علم الله ، وجرى به قلمه ، ونفذت مشيئته ، واقتضته حكمته ، ولكن الشأن كلّ الشأن ، هل يقوم العبد بالوظيفة ، الّتي عليه في هذا المقام ، أم لا يقوم بها؟ فإن قام بها ، فله الثواب الجزيل ، والأجر الجميل ، في الدنيا والآخرة. فإذا آمن أنها من عند الله ، فرضي بذلك ، وسلّم لأمره ، هدى الله قلبه ، فاطمأن ولم ينزعج عند المصائب ، كما يجري ممن لم يهد الله قلبه ، بل يرزقه الثبات عند ورودها والقيام بموجب الصبر فيحصل له بذلك ثواب عاجل ، مع ما يدخر له يوم الجزاء من الأجر العظيم ، كما قال تعالى : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ). وعلم من ذلك ، أن من لم يؤمن بالله عند ورود المصائب ، بأن لم يلحظ قضاء الله وقدره ، بل وقف مع مجرد الأسباب ، أنه يخذل ، ويكله الله إلى نفسه. وإذا وكلّ العبد إلى نفسه ، فالنفس ليس عندها إلّا الهلع والجزع ، الذي هو عقوبة عاجلة على العبد ، قبل عقوبة الآخرة ، على ما فرط في واجب الصبر. هذا ما يتعلق بقوله : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) ، في مقام المصائب الخاص. وأما ما يتعلق بها من حيث العموم اللفظي ، فإن الله أخبر أن كلّ من آمن ، أي : الإيمان المأمور به ،

١٠٤٣

وهو الإيمان بالله وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، والقدر خيره وشره. وصدق إيمانه ، بما يقتضيه الإيمان من لوازمه وواجباته ، أن هذا السبب الذي قام به العبد ، أكبر سبب لهداية الله له في أقواله وأفعاله ، وجميع أحواله وفي علمه وعمله. وهذا أفضل جزاء ، يعطيه الله لأهل الإيمان ، كما قال تعالى ـ مخبرا ـ أنه يثبت المؤمنين في الحياة الدنيا ، وفي الآخرة. وأصل الثبات : ثبات القلب وصبره ، ويقينه عند ورود كلّ فتنة ، فقال : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) ، فأهل الإيمان ، أهدى الناس قلوبا ، وأثبتهم عند المزعجات والمقلقات ، وذلك لما معهم من الإيمان.

[١٢] وقوله : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) ، أي : في امتثال أمرهما ، واجتناب نهيهما ، فإن طاعة الله ، وطاعة رسوله ، مدار السعادة ، وعنوان الفلاح. (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) ، أي : عن طاعة الله وطاعة رسوله ، (فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) ، أي : يبلغكم ما أرسل به إليكم ، بلاغا بينا واضحا ، فتقوم عليكم به الحجة ، وليس بيده من هدايتكم ، ولا من حسابكم شيء. وإنّما يحاسبكم على القيام بطاعة الله وطاعة رسوله ، أو عدم ذلك ، عالم الغيب والشهادة.

[١٣] (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ، أي : هو المستحق للعبادة والألوهية ، فكل معبود سواه باطل. (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) ، أي : فليعتمدوا عليه في كلّ أمر نابهم ، وفيما يريدون القيام به. فإنه لا يتيسر أمر من الأمور إلّا بالله ، ولا سبيل إلى ذلك إلّا بالاعتماد على الله ، ولا يتم الاعتماد على الله ، حتى يحسن العبد ظنه بربه ، ويثق به في كفايته الأمر ، الذي يعتمد عليه به ، وبحسب إيمان العبد يكون توكله ، قوة وضعفا.

[١٤ ـ ١٥] هذا تحذير من الله للمؤمنين ، عن الاغترار بالأزواج والأولاد ، فإن بعضهم عدو لكم ، والعدو هو الذي يريد لك الشر ، فوظيفتك الحذر ممن هذه صفته ، والنفس مجبولة على محبة الأزواج والأولاد. فنصح تعالى عباده ، أن توجب لهم هذه المحبة ، الانقياد لمطالب الأزواج والأولاد ، الّتي فيها محذور شرعي ، ورغبهم في امتثال أوامره ، وتقديم مرضاته بما عنده ، من الأجر العظيم المشتمل على المطالب العالية ، والمحاب الغالية ، وأن يؤثروا الآخرة على الدنيا الفانية المنقضية. ولما كان النهي عن طاعة الأزواج والأولاد ، فيما هو ضرر على العبد ، والتحذير من ذلك ، قد يوهم الغلظة عليهم وعقابهم ، أمر تعالى بالحذر منهم ، والصفح عنهم والعفو ، فإن في ذلك من المصالح ما لا يمكن حصره ، فقال : (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لأن الجزاء من جنس العمل. فمن عفا ، عفا الله عنه ، ومن صفح ، صفح عنه ، ومن عامل الله فيما يحب ، وعامل عباده بما يحبون ، وينفعهم ، نال محبة الله ، ومحبة عباده ، واستوثق له أمره.

[١٦] يأمر تعالى بتقواه ، الّتي هي امتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ، وقيد ذلك بالاستطاعة والقدرة. فهذه الآية تدل على أن كلّ واجب عجز عنه العبد ، يسقط عنه ، وأنه إذا قدر على بعض الأمور ، وعجز عن بعضها ، فإنه يأتي بما قدر عليه ، ويسقط عنه ما يعجز عنه ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم». ويدخل تحت

١٠٤٤

هذه القاعدة الشرعية من الفروع ، ما لا يدخل تحت الحصر. وقوله : (وَاسْمَعُوا) ، أي : اسمعوا ما يعظكم الله به ، وما يشرعه لكم ، من الأحكام واعلموا ذلك ، وانقادوا له (وَأَطِيعُوا) الله ورسوله في جميع أموركم. (وَأَنْفِقُوا) من النفقات الواجبة والمستحبة ، يكن ذلك الفعل منكم (خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) في الدنيا والآخرة ، فإن الخير كله في امتثال أوامر الله ، وقبول نصائحه ، والانقياد لشرعه ، والشر كله ، في مخالفة ذلك. ولكن ثمّ آفة تمنع كثيرا من الناس ، من النفقة المأمور بها ، وهو الشح المجبولة عليه أكثر النفوس ، فإنها تشح بالمال ، وتحب وجوده ، وتكره خروجه من اليد غاية الكراهة. (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) بأن تسمح بالإنفاق النافع لها (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) لأنهم أدركوا المطلوب ، ونجوا من المرهوب ، بل لعل ذلك شامل لكل ما أمر به العبد ، ونهى عنه. فإنه إن كانت نفسه شحيحة ، لا تنقاد لما أمرت به ، ولا تخرج ما قبلها ، «من النفقات المأمورة بها» لم يفلح ، بل خسر الدنيا والآخرة. وإن كانت نفسه نفسا سمحة ، مطمئنة ، منشرحة لشرع الله ، طالبة لمرضاته ، فإنها ليس بينها وبين فعل ما كلفت به إلّا العلم به ، ووصول معرفته إليها ، والبصيرة بأنه مرض لله ، وبذلك تفلح وتنجح وتفوز كلّ الفوز.

[١٧] ثمّ رغّب تعالى في النفقة ، فقال : (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) وهو : كل نفقة كانت في الحلال ، وإذا قصد بها العبد وجه الله تعالى ، ووضعها في موضعها (يُضاعِفْهُ لَكُمْ) ، النفقة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، إلى أضعاف كثيرة. (وَ) مع المضاعفة أيضا (يَغْفِرْ لَكُمْ) بسبب الإنفاق والصدقة ، ذنوبكم ، فإن الذنوب تكفرها الصدقات والحسنات : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ). (وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) لا يعاجل من عصاه ، بل يمهله ولا يهمله. (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى). (وَاللهُ) تعالى (شَكُورٌ) يقبل من عباده اليسير من العمل ، ويجازيهم عليه الكثير من الأجر. ويشكر تعالى لمن تحمل من أجله المشاق والأثقال ، وأنواع التكاليف الثقال ، ومن ترك شيئا ، عوضه الله خيرا منه.

[١٨] (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) ، أي : ما غاب عن العباد من الجنود الّتي لا يعلمها إلّا هو ، وما يشاهدونه من المخلوقات. (الْعَزِيزُ) الذي لا يغالب ، ولا يمانع ، الذي قهر جميع الأشياء. (الْحَكِيمُ) في خلقه وأمره ، الذي يضع الأشياء مواضعها. تم تفسير سورة التغابن ـ ولله الحمد.

تفسير سورة الطلاق

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] يقول تعالى ـ مخاطبا لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين ـ : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) ، أي : أردتم طلاقهن (ف) التمسوا لطلاقهن الأمر المشروع ، ولا تبادروا بالطلاق ، من حين يوجد سببه ، من غير مراعاة لأمر الله. بل طلقوهن (لِعِدَّتِهِنَ) ، أي : لأجل عدتهن ، بأن يطلقها زوجها ، وهي طاهر ، في طهر لم يجامعها فيه ، فهذا الطلاق هو الذي تكون العدة فيه واضحة بينة. بخلاف ما لو طلقها وهي حائض ، فإنها لا تحتسب تلك الحيضة ، الّتي وقع فيها الطلاق ، وتطول عليها العدة بسبب ذلك. وكذلك لو طلقها في طهر وطىء فيه ، فإنه لا يؤمن حملها ، فلا يتبين ، ولا يتضح بأي عدة تعتد. (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) وإحصاء العدة ، ضبطها إن كانت تحيض ، أو بالأشهر ، إن لم تكن تحيض ، وليست حاملا. فإن في إحصائها ، أداء لحق الله ، وحق الزوج المطلق ، وحق من سيتزوجها بعد ،

١٠٤٥

وحقها في النفقة ونحوها. فإذا ضبطت عدتها ، علمت حالها على بصيرة ، وعلم ما يترتب عليها ، من الحقوق ، وما لها منها. وهذا الأمر بإحصاء العدة ، يتوجه للزوج ، وللمرأة ، إن كانت مكلفة ، وإلا فلوليّها. وقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ) ، أي : في جميع أموركم ، وخافوه في حق الزوجات المطلقات. (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَ) مدة العدة ، بل تلزم بيتها الذي طلقها زوجها وهي فيه. (وَلا يَخْرُجْنَ) ، أي : لا يجوز لهن الخروج منها. أما النهي عن إخراجها ، فلأن المسكن ، يجب على الزوج للزوجة ، لتكمل فيه عدتها الّتي هي حق من حقوقه. وأما النهي عن خروجها ، فلما في خروجها ، من إضاعة حق الزوج ، وعدم صونه. ويستمر هذا النهي عن الخروج من البيوت ، والإخراج إلى تمام العدة. (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) ، أي : بأمر قبيح واضح ، موجب لإخراجها ، بحيث يدخل على أهل البيت الضرر ، من عدم إخراجها ، كالأذى بالأقوال ، والأفعال الفاحشة ، ففي هذه الحال يجوز لهم إخراجها ، لأنها هي الّتي تسببت لإخراج نفسها ، والإسكان فيه جبر لخاطرها ، ورفق بها ، فهي الّتي أدخلت الضرر عليها ، وهذا في المعتدة الرجعية. وأما البائن ، فليس لها سكنى واجبة ، لأن السكن تبع للنفقة ، والنفقة تجب للرجعية دون البائن. (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) ، أي : الّتي حدها لعباده وشرعها لهم ، وأمرهم بلزومها ، والوقوف معها. (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ) بأن لم يقف معها ، بل تجاوزها ، أو قصر عنها. (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) ، أي : بخسها حقها ، وأضاع نصيبه من اتباع حدود الله الّتي هي الصلاح في الدنيا والآخرة. (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) ، أي : شرع الله العدة ، وحدد الطلاق بها ، لحكم عظيمة. فمنها : أنه لعل الله يحدث في قلب المطلق الرحمة والمودة ، فيراجع من طلقها ، ويستأنف عشرتها ، فيتمكن من ذلك «من معرفة» مدة العدة ، ولعله يطلقها لسبب منها ، فيزول ذلك السبب ، في مدة العدة ، فيراجعها ، لانتفاء سبب الطلاق. ومن الحكم : أنها مدة التربص ، يعلم براءة رحمها من زوجها.

[٢] وقوله : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) ، أي : قاربن انقضاء العدة ، لأنهن لو خرجن من العدة ، لم يكن الزوج مخيرا بين الإمساك والفراق. (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) ، أي ؛ على وجه المعاشرة الحسنة ، والصحبة الجميلة ، لا على وجه الضرر ، وإرادة الشر والحبس ، فإن إمساكها على هذا الوجه لا يجوز. (أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) ، أي : فراقا لا محذور فيه ، من غير تشاتم ولا تخاصم ، ولا قهر لها ، على أخذ شيء من مالها. (وَأَشْهِدُوا) على طلاقها ورجعتها (ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) ، أي : رجلين مسلمين عدلين ، لأن في الإشهاد المذكور ، سدا لباب المخاصمة ، وكتمان كلّ منهما ، ما يلزم بيانه. (وَأَقِيمُوا) أيها الشهداء (الشَّهادَةَ لِلَّهِ) ، أي : ائتوا بها على وجهها ، من غير زيادة ولا نقص. واقصدوا بإقامتها ، وجه الله تعالى ، ولا تراعوا بها قريبا لقرابته ، ولا صاحبا لمحبته. (ذلِكُمْ) الذي ذكرنا لكم من الأحكام والحدود (يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فإن الإيمان بالله ، واليوم الآخر ، يوجب لصاحبه أن يتعظ بمواعظ الله ، وأن يقدم لآخرته من الأعمال الصالحة ، ما يتمكن منها. بخلاف من ترحل الإيمان من قلبه ، فإنه لا يبالي بما أقدم عليه من الشر ، ولا يعظم مواعظ الله ، لعدم الموجب لذلك. ولما كان الطلاق ، قد يوقع في

١٠٤٦

الضيق والكرب والغم ، أمر تعالى بتقواه ووعد من اتقاه في الطلاق وغيره بأن يجعل له فرجا ومخرجا. فإذا أراد العبد الطلاق ، ففعله على الوجه الشرعي ، بأن أوقعه طلقة واحدة ، في غير حيض ولا طهر أصابها فيه ، فإنه لا يضيق عليه الأمر ، بل جعل الله له فرجا وسعة ، يتمكن بها من الرجوع إلى النكاح ، إذا ندم على الطلاق. والآية ، وإن كانت في سياق الطلاق والرجعة ، فإن العبرة بعموم اللفظ ، فكل من اتقى الله ، ولازم مرضاته في جميع أحواله ، فإن الله يثيبه في الدنيا والآخرة. ومن جملة ثوابه أن يجعل له فرجا ومخرجا من كلّ شدة ومشقة. وكما أن من اتقى الله ، جعل له فرجا ومخرجا ، فمن لم يتق الله ، يقع في الآصار والأغلال ، الّتي لا يقدرون على التخلص منها ، والخروج من تبعتها. واعتبر ذلك في الطلاق ، فإن العبد إذا لم يتق الله فيه ، بل أوقعه ، على الوجه المحرم ، كالثلاث ونحوها ، فإنه لا بد أن يندم ندامة ، لا يتمكن من استدراكها ، والخروج منها.

[٣] وقوله : (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) ، أي : يسوق الله الرزق للمتقي ، من وجه لا يحتسبه ، ولا يشعر به. (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) في أمر دينه ودنياه ، بأن يعتمد على الله في جلب ما ينفعه ، ودفع ما يضره ، ويثق به في تسهيل ذلك (فَهُوَ حَسْبُهُ) ، أي : كافيه الأمر الذي توكل عليه فيه. وإذا كان الأمر في كفالة الغني القوي ، العزيز الرحيم ، فهو أقرب إلى العبد من كلّ شيء. ولكن ربما أن الحكمة الإلهية اقتضت تأخيره إلى الوقت المناسب له ، فلهذا قال تعالى : (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) ، أي : لا بد من نفوذ قضائه وقدره. ولكن (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) ، أي : وقتا ومقدارا ، لا يتعداه ، ولا يقصر عنه.

[٤] لما ذكر تعالى ، أن الطلاق المأمور به ، يكون لعدة النساء ، ذكر العدة ، فقال : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ) بأن كن يحضن ، ثمّ ارتفع حيضهن ، لكبر أو غيره ، ولم يرج رجوعه (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) جعل كلّ شهر ، مقابله حيضة. (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) ، أي : الصغار اللائي لم يأتهن الحيض بعد ، أو البالغات ، اللاتي لم يأتهن حيض بالكلية ، فإنهن كالآيسات ، عدتهن ثلاثة أشهر. وأما اللائي يحضن ، فذكر الله عدتهن في قوله : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ). وقوله : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَ) ، أي : عدتهن (أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) ، أي : جميع ما في بطونهن ، من واحد ، ومتعدد ، ولا عبرة حينئذ بالأشهر ولا غيرها. (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) أي : من اتقى ، يسّر له الأمور ، وسهّل عليه كلّ عسير.

[٥] (ذلِكَ) ، أي : الحكم الذي بينه الله لكم (أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ) لتمشوا عليه ، وتأتموا به ، وتعظموه. (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) ، أي : يندفع عنه المحذور ، ويحصل له المطلوب.

[٦] تقدم أن الله نهى عن إخراج المطلقات من البيوت ، وهنا أمر بإسكانهن وقدر إسكانهن بالمعروف ، وهو البيت الذي يسكنه مثله ومثلها ، بحسب وجد الزوج وعسره. (وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ) ، أي : لا تضاروهن ، عند سكناهن بالقول أو الفعل ، لأجل أن يمللن ، فيخرجن من البيوت ، قبل تمام العدة ، فتكونوا أنتم المخرجين لهن. وحاصل هذا أنه نهى عن إخراجهن ، ونهاهن عن الخروج ، وأمر بسكناهن ، على وجه لا يحصل به عليهن

١٠٤٧

ضرر ولا مشقة ، وذلك راجع إلى العرف. (وَإِنْ كُنَ) ، أي : المطلقات (أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) وذلك لأجل الحمل الذي في بطنها ، إن كانت بائنا. ولها ولحملها ، إن كانت رجعية ومنتهى النفقة ، إلى وضع الحمل ، فإذا وضعن حملهن ، فإما أن يرضعن أولادهن ، أو لا. (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) المسماة لهن ، إن كان مسمى ، وإلا فأجر المثل. (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) ، أي : وليأمر كل واحد من الزوجين وغيرهما ، الآخر بالمعروف ، وهو كلّ ما فيه منفعة ومصلحة في الدنيا والآخرة ، فإن الغفلة عن الائتمار بالمعروف ، يحصل فيها من الضرر والشر ، ما لا يعلمه إلا الله ، وفي الائتمار به تعاون على البر والتقوى. ومما يناسب هذا المقام ، أن الزوجين عند الفراق وقت العدة ، خصوصا إذا ولد بينهما ولد ، في الغالب يحصل من التنازع والتشاجر لأجل النفقة عليها وعلى الولد مع الفراق ، الذي لا يحصل في الغالب إلا مقرونا بالبغض ، فيتأثر من ذلك شيء كثير. فكل منهما يؤمر بالمعروف ، والمعاشرة الحسنة ، وعدم المشاقة والمنازعة ، وينصح على ذلك. (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ) بأن لم يتفق الزوجان على رضاعها لولدها. (فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) غيرها (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ). وهذا حيث كان الولد يقبل ثدي غير أمه ، فإن لم يقبل إلا ثدي أمه ، تعينت لإرضاعه ، ووجب عليها ، وأجبرت إن امتنعت ، وكان لها أجرة المثل ، إن لم يتفقا على مسمى. وهذا مأخوذ من الآية الكريمة من حيث المعنى ، فإن الولد ، لما كان في بطن أمه مدة الحمل ، لا خروج له منه ، عينّ تعالى على وليه النفقة. فلما ولد ، وكان يتمكن أن يتقوت من أمه ، ومن غيرها ، أباح تعالى الأمرين ، فإذا كان بحالة ، لا يمكن أن يتقوت إلا من أمه ، كان بمنزلة الحمل ، وتعينت أمه طريقا لقوته. ثمّ قدر تعالى النفقة ، بحسب حال الزوج ، فقال :

[٧] (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) ، أي : لينفق الغني من غناه ، فلا ينفق نفقة الفقراء. (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) ، أي : ضيق عليه (فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) من الرزق. (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) وهذا مناسب للحكمة والرحمة الإلهية حيث جعل كلا بحسبه ، وخفف عن المعسر ، وأنه لا يكلفه إلا ما آتاه ، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، في باب النفقة وغيرها. (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) ، وهذه بشارة للمعسرين ، أن الله تعالى سيزيل عنهم الشدة ، ويرفع عنهم المشقة ، (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (٥).

[٨] يخبر تعالى عن إهلاكه الأمم العاتية ، والقرون المكذبة للرسل ، وأن كثرتهم وقوتهم ، لم تغن عنهم شيئا ، حين جاءهم الحساب الشديد ، والعذاب الأليم ، وأن الله أذاقهم من العذاب ما هو موجب أعمالهم السيئة. ومع عذاب الدنيا ، فإن الله أعد لهم في الآخرة عذابا شديدا.

[١٠] (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ) ، أي : يا ذوي العقول ، الّتي تفهم عن الله آياته وعبره ، وأن الذي أهلك القرون الماضية بتكذيبهم ، أن من بعدهم مثلهم ، لا فرق بين الطائفتين. ثمّ ذكر عباده المؤمنين ، بما أنزل عليهم من كتابه ، الذي أنزله على رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ليخرج الخلق من ظلمات الجهل والكفر والمعصية ، إلى نور العلم والإيمان والطاعة. فمن الناس من آمن به ، ومنهم من لم يؤمن به.

١٠٤٨

(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً) من الواجبات والمستحبات.

[١١] (وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) فيها من النعيم المقيم ، ما لا عين رأيت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. (خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) ، أي : ومن لم يؤمن بالله ورسوله ، فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.

[١٢] ثمّ أخبر تعالى أنه خلق السماوات والأرض ، ومن فيهن ، والأرضين السبع ومن فيهن ، وما بينهن ، وأنزل الأمر وهو : الشرائع والأحكام الدينية ، الّتي أوحاها إلى رسله لتذكير العباد ووعظهم ، وكذلك الأوامر الكونية والقدرية ، الّتي يدبر بها الخلق ، كل ذلك لأجل أن يعرفه العباد ويعلموا إحاطة قدرته بالأشياء كلها ، وإحاطة علمه بجميع الأشياء. فإذا عرفوه بأسمائه الحسنى وأوصافه المقدسة ، عبدوه ، وأحبوه ، وقاموا بحقه ، فهذه هي الغاية المقصودة من الخلق والأمر : معرفة الله وعبادته. فقام بذلك الموفقون من عباد الله الصالحين ، وأعرض عن ذلك ، الظالمون المعرضون. تم تفسير سورة الطلاق ـ والحمد لله.

تفسير سورة التحريم

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] هذا عتاب من الله لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حين حرم على نفسه سريته «مارية» أو شرب العسل ، مراعاة لخاطر بعض زوجاته ، في قصة معروفة. فأنزل الله هذه الآيات (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) ، أي : يا أيها الذي أنعم الله عليه بالنبوة والرسالة والوحي (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) من الطيبات الّتي أنعم الله بها عليك وعلى أمتك. (تَبْتَغِي) بذلك التحريم (مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ). هذا تصريح بأن الله قد غفر لرسوله ، ورفع عنه اللوم ، ورحمه ، وصار ذلك التحريم الصادر منه سببا لشرع حكم عام لجميع الأمة ، فقال تعالى :

[٢] (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) ، وهذا عام في جميع أيمان المؤمنين ، أي : قد شرع لكم ، وقدر ما به تنحل أيمانكم قبل الحنث ، وما به تتكفر بعد الحنث. وذلك كما في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (٨٧) إلى أن قال : (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ). فكل من حرم حلالا عليه ، من طعام أو شراب ، أو سرية ، أو حلف يمينا بالله ، على فعل أو ترك ، ثمّ حنث ، وأراد الحنث ، فعليه هذه الكفارة المذكورة. وقوله : (وَاللهُ مَوْلاكُمْ) ، أي : متولي أموركم ، ومربيكم أحسن تربية ، في أمر دينكم ودنياكم ، وما به يندفع عنكم الشر ، فلذلك فرض لكم تحلة أيمانكم ، لتبرأ ذممكم. (وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) الذي أحاط علمه بظواهركم وبواطنكم ، وهو الحكيم في جميع ما خلقه وحكم به.

١٠٤٩

فلذلك شرع لكم من الأحكام ، ما يعلم أنه موافق لمصالحكم ، ومناسب لأحوالكم.

[٣] وقوله : (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) قال كثير من المفسرين : هي حفصة ، أم المؤمنين رضي الله عنها ، أسرّ لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديثا ، وأمر أن لا تخبر به أحدا ، فحدثت به عائشة رضي الله عنهما. وأخبره الله بذلك الخبر ، الذي أذاعته ، فعرّفها صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ببعض ما قالت ، وأعرض عن بعضه ، كرما منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحلما. (قالَتْ) له : (مَنْ أَنْبَأَكَ هذا) الخبر الذي لم يخرج منا؟ (قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) الذي لا تخفى عليه خافية ، يعلم السر وأخفى.

[٤] وقوله : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) الخطاب للزوجتين الكريمتين حفصة وعائشة رضي الله عنهما ، كانتا سببا لتحريم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على نفسه ما يحبه. فعرض الله عليهما التوبة ، وعاتبهما على ذلك ، وأخبرهما أن قلوبكما قد صغت ، أي : مالت وانحرفت عما ينبغي لهن ، من الورع والأدب ، مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واحترامه ، وأن لا يشققن عليه. (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ) ، أي : تعاونا على ما يشق عليه ، ويستمر هذا الأمر منكن. (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) ، أي : الجميع أعوان للرسول ، مظاهرون له ، ومن كان هؤلاء أنصاره ، فهو المنصور ، وغيره إن يناوئه فهو مخذول. وفي هذا أكبر فضيلة وشرف لسيد المرسلين ، حيث جعل الباري نفسه الكريمة ، وخواص خلقه ، أعوانا لهذا الرسول الكريم. وفيه من التحذير للزوجتين الكريمتين ما لا يخفى.

[٥] ثمّ خوفهما أيضا ، بحالة تشق على النساء غاية المشقة ، وهو الطلاق ، الذي هو أكبر شيء عليهن ، فقال : (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ) ، أي : فلا تترفعن عليه ، فإنه لو طلقكن ، لا يضيق عليه الأمر ، ولم يكن مضطرا إليكن ، فإنه سيجد ، ويبدله الله أزواجا خيرا منكن ، دينا وجمالا ، وهذا من باب التعليق الذي لم يوجد ، ولا يلزم وجوده. فإنه ما طلقهن ، ولو طلقهن ، لكان ما ذكره الله من هذه الأزواج الفاضلات. (مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ) جامعات بين الإسلام ، وهو القيام بالشرائع الظاهرة ، والإيمان ، وهو : القيام بالشرائع الباطنة ، من العقائد وأعمال القلوب. (قانِتاتٍ) والقنوت هو : دوام الطاعة واستمرارها ، (تائِباتٍ) عما يكرهه الله ، فوصفهن بالقيام بما يحبه الله ، والتوبة عما يكرهه الله. (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) ، أي : بعضهن ثيب ، وبعضهن أبكار ، ليتنوع صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يحب. فلما سمعن ـ رضي الله عنهن ـ هذا التخويف والتأديب ، بادرن إلى رضا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكان هذا الوصف منطبقا عليهن ، فصرن أفضل نساء المؤمنين.

[٦] أي : يا من منّ الله عليهم بالإيمان ، قوموا بلوازمه وشروطه. ف (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) موصوفة بهذه الأوصاف الفظيعة ، ووقاية الأنفس بإلزامها أمر الله ، امتثالا ، ونهيه اجتنابا ، والتوبة عما يسخط الله ، ويوجب العذاب. ووقاية الأهل والأولاد ، بتأديبهم وتعليمهم ، وإجبارهم على أمر الله. فلا يسلم العبد إلا إذا قام بما أمر الله به في نفسه ، وفيمن تحت ولايته وتصرفه. ووصف الله النار بهذه الأوصاف ، ليزجر عباده عن التهاون بأمره ، فقال : (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) ، كما قال تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها

١٠٥٠

وارِدُونَ) (٩٨). (عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ) ، أي : غليظة أخلاقهم ، شديد انتصارهم يفزعون بأصواتهم ويزعجون بمرآهم ، ويهينون أصحاب النار بقوتهم ، وينفذون فيهم أمر الله ، الذي حتّم عليهم بالعذاب ، وأوجب عليهم شدة العقاب. (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) وهذا فيه أيضا مدح للملائكة الكرام ، وانقيادهم لأمر الله ، وطاعتهم له في كلّ ما أمرهم به.

[٧] أي : يوبخ أهل النار يوم القيامة بهذا التوبيخ ، فيقال لهم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ) ، أي : فإنه ذهب وقت الاعتذار ، وزال نفعه ، فلم يبق الآن إلا الجزاء على الأعمال. وأنتم لم تقدموا إلا الكفر بالله ، والتكذيب بآياته ومحاربة رسله وأوليائه.

[٨] قد أمر الله بالتوبة النصوح في هذه الآية ، ووعد عليها بتكفير السيئات ، ودخول الجنات ، والفوز والفلاح ، حين يسعى المؤمنون يوم القيامة ، بنور إيمانهم ، ويمشون بضيائه ، ويتمتعون بروحه وراحته ، ويشفقون إذا طفئت الأنوار ، الّتي تعطى المنافقين ، ويسألون الله ، أن يتم لهم نورهم فيستجيب الله دعوتهم ، ويوصلهم بما معهم من النور واليقين ، إلى جنات النعيم ، وجوار الرب الكريم ، وكلّ هذا ، من آثار التوبة النصوح. والمراد بها : التوبة العامة الشاملة لجميع الذنوب ، الّتي عقدها العبد لله ، لا يريد بها إلا وجه الله ، والقرب منه ، ويستمر عليها في جميع أحواله.

[٩] يأمر الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بجهاد الكفار والمنافقين ، والإغلاظ عليهم في ذلك ، وهذا شامل لجهادهم بإقامة الحجة عليهم ، ودعوتهم بالموعظة الحسنة ، وإبطال ما هم عليه من أنواع الضلال ، وجهادهم بالسلاح والقتال ، لمن أبى أن يجيب دعوة الله ، وينقاد لحكمه ، فإن هذا ، يجاهد ويغلظ عليه. وأما المرتبة الأولى ، فتكون بالتي هي أحسن. فالكفار والمنافقون ، لهم عذاب في الدنيا ، بتسليط الله لرسوله ، وحزبه عليهم ، وعلى جهادهم ، وعذاب النار في الآخرة وبئس المصير ، الذي يصير إليه كلّ شقي خاسر.

[١٠] هذان المثلان ، اللذان ضربهما الله للمؤمنين والكافرين ، ليبين لهم أن اتصال الكافر بالمؤمن ، وقربه منه ، لا يفيده شيئا ، وأن اتصال المؤمن بالكافر ، لا يضره شيئا ، مع قيامه بالواجب عليه. فكأن في ذلك ، إشارة وتحذيرا لزوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عن المعصية ، وأن اتصالهن به صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينفعهن شيئا مع الإساءة ، فقال : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا) ، أي : المرأتان (تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ) وهما نوح ، ولوط ، عليهما‌السلام. (فَخانَتاهُما) في الدين ، بأن كانتا على غير دين زوجيهما ، وهذا هو المراد بالخيانة ، لا خيانة النسب والفراش ، فإنه ما بغت امرأة نبي قط ، وما كان الله ، ليجعل امرأة أحد من أنبيائه بغيا. (فَلَمْ يُغْنِيا) ، أي : نوح ولوط (عَنْهُما) ، أي : عن امرأتيهما (مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ).

[١١] (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ) وهي آسية بنت مزاحم رضي الله عنها ، (إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). فوصفها الله بالإيمان والتضرع لربها ، و؟؟؟ أجل المطالب ، وهو دخول

١٠٥١

الجنة ، ومجاورة الرب الكريم ، وسؤالها أن ينجيها من فتنة فرعون وأعماله الخبيثة ، ومن فتنه كل ظالم. فاستجاب الله لها ، فعاشت في إيمان كامل ، وثبات تام ، ونجاة من الفتن ، ولهذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم ، وخديجة بنت خويلد ، وفضل عائشة على النساء ، كفضل الثريد على سائر الطعام».

[١٢] وقوله : (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) ، أي : حفظته وصانته عن الفاحشة ، لكمال ديانتها ، وعفتها ، ونزاهتها. (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) ، بأن نفخ جبريل عليه‌السلام في جيب درعها ، فوصلت نفخته إلى مريم ، فجاء منها عيسى عليه‌السلام ، الرسول الكريم والسيد العظيم. (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ) ، وهذا وصف لها بالعلم والمعرفة ، فإن التصديق بكلمات الله ، يشمل كلماته الدينية والقدرية. والتصديق بكتبه ، يقتضي معرفة ما به يحصل التصديق ، ولا يكون ذلك إلا بالعلم والعمل ، ولهذا قال : (وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) ، أي : المداومين على طاعة الله ، بخشية وخشوع. وهذا وصف لها بكمال العمل ، فإنها ـ رضي الله عنها ـ صديقة ، والصديقية هي : كمال العلم والعمل. تم تفسير سورة التحريم ـ بعون الله وتيسيره.

تفسير سورة الملك

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) ، أي : تعاظم وتعالى ، وكثر خيره ، وعم إحسانه. من عظمته أن بيده ملك العالم العلوي والسفلي ، فهو الذي خلقه ، ويتصرف فيه بما شاء ، من الأحكام القدرية ، والأحكام الدينية ، التابعة لحكمته. (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، أي : ومن عظمته ، كمال قدرته ، الّتي يقدر بها على كلّ شيء ، وبها أوجد ما أوجد من المخلوقات العظيمة ، كالسموات والأرض.

[٢] (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) أي : قدر لعباده أن يحييهم ثمّ يميتهم. (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ، أي : أخلصه وأصوبه ، وذلك أن الله خلق عباده ، وأخرجهم لهذه الدار ، وأخبرهم أنهم سينتقلون منها ، وأمرهم ونهاهم ، وابتلاهم بالشهوات المعارضة لأمره ، فمن انقاد لأمر الله ، أحسن الله له الجزاء في الدارين ، ومن مال مع شهوات النفس ، ونبذ أمر الله ، فله شر الجزاء. (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي له العزة كلها ، الّتي قهر بها جميع الأشياء ، وانقادت له المخلوقات. (الْغَفُورُ) عن المسيئين ، والمقصرين ، والمذنبين ، خصوصا إذا تابوا وأنابوا. فإنه يغفر ذنوبهم ، ولو بلغت عنان السماء ، ويستر عيوبهم ، ولو كانت ملء الدنيا.

[٣] (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) ، أي : كل واحدة فوق الأخرى ، ولسن طبقة واحدة ، وخلقها في غاية

١٠٥٢

الحسن والإتقان (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) ، أي : خلل ونقص. وإذا انتفى النقص من كلّ وجه ، وصارت حسنة كاملة ، متناسبة من كلّ وجه ، في لونها وهيئتها ، وارتفاعها ، وما فيها من الشمس ، والكواكب النيرات ، الثوابت منهن والسيارات. ولما كان كمالها معلوما ، أمر الله تعالى بتكرار النظر إليها والتأمل في أرجائها ، فقال : (فَارْجِعِ الْبَصَرَ) ، أي : أعده إليها ، ناظرا معتبرا (هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) ، أي : نقص واختلال.

[٤] (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) المراد بذلك : كثرة التكرار (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) ، أي : عاجزا عن أن يرى خللا أو فطورا ، ولو حرص غاية الحرص.

[٥] ثمّ صرح بذكر حسنها ، فقال : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ) ، إلى : (لِأَصْحابِ السَّعِيرِ). (وَلَقَدْ زَيَّنَّا) ، أي : ولقد جمّلنا (السَّماءَ الدُّنْيا) الّتي ترونها وتليكم. (بِمَصابِيحَ) وهي النجوم ، على اختلافها في النور والضياء ، فإنه لو لا ما فيها من النجوم ، لكانت سقفا مظلما ، لا حسن فيه ولا جمال. ولكن جعل الله هذه النجوم زينة للسماء ، وجمالا ونورا ، وهداية يهتدى بها في ظلمات البر والبحر. ولا ينافي إخباره أنه زين السماء الدنيا بمصابيح ، أن يكون كثير من النجوم فوق السماوات السبع ، فإن السماوات شفافة ، وبذلك تحصل الزينة للسماء الدنيا ، وإن لم تكن الكواكب فيها. (وَجَعَلْناها) ، أي : المصابيح (رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) الّذين يريدون استراق خبر السماء. فجعل الله هذه النجوم ، حراسة للسماء عن تلقف الشياطين أخبارها ، إلى الأرض ، فهذه الشهب ، الّتي ترمى من النجوم ، أعدها الله في الدنيا للشياطين. (وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ) لأنهم تمردوا على الله ، وأضلوا عباده ، ولهذا كان أتباعهم من الكفار مثلهم ، قد أعد الله لهم عذاب السعير ، فلهذا قال :

[٦] (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٦) الّتي يهان أهلها ، غاية الهوان.

[٧] (إِذا أُلْقُوا فِيها) على وجه الإهانة والذل (سَمِعُوا لَها شَهِيقاً) ، أي : صوتا عاليا فظيعا (وَهِيَ تَفُورُ).

[٨] (تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) ، أي : تكاد على اجتماعها أن يفارق بعضها بعضا ، وتتقطع من شدة غيظها على الكفار ، فما ظنك ما تفعل بهم ، إذا حصلوا فيها؟ ثمّ ذكر توبيخ الخزنة لأهلها ، فقال : (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ)؟ أي : حالكم هذه واستحقاقكم النار ، كأنكم لم تخبروا عنها ، ولم تحذركم النذر منها.

[٩] (قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) (٩) ، فجمعوا بين تكذيبهم الحاضر ، والتكذيب العام بكل ما أنزل الله. ولم يكفهم ذلك ، حتى أعلنوا بضلال الرسل المنذرين وهم الهداة المهتدون ، ولم يكتفوا بمجرد الضلال ، بل جعلوا ضلالهم ضلالا كبيرا ، فأي عناد وتكبّر وظلم يشبه هذا؟

[١٠] (وَقالُوا) معترفين بعدم أهليتهم للهدى والرشاد : (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) فنفوا عن أنفسهم طرق الهدى ، وهي السمع لما أنزل الله ، وجاءت به الرسل ، والعقل الذي ينفع صاحبه ، ويوقفه على حقائق الأشياء ، وإيثار الخير ، والانزجار عن كلّ ما عاقبته ذميمة ، فلا سمع لهم ولا عقل. وهذا بخلاف أهل اليقين والعرفان ، وأرباب الصدق والإيمان ، فإنهم أيدوا إيمانهم بالأدلة السمعية ، فسمعوا ما جاء من عند الله ، وجاء به

١٠٥٣

رسول الله علما ومعرفة وعملا. والأدلة العقلية : المعرفة للهدى من الضلال ، والحسن من القبيح ، والخير من الشر. وهم ـ في الإيمان ـ بحسب ما منّ الله عليهم به ، من الاقتداء بالمعقول والمنقول ، فسبحان من يختص بفضله من يشاء ، ويمن على من يشاء من عباده ، ويخذل من لا يصلح للخير. قال تعالى عن هؤلاء الداخلين للنار ، المعترفين بظلمهم وعنادهم :

[١١] (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) (١١) ، أي : بعدا لهم وخسارة وشقاء. فما أشقاهم وأرداهم ، حيث فاتهم ثواب الله ، وكانوا ملازمين للسعير ، الّتي تستعر في أبدانهم ، وتطلع على أفئدتهم!!

[١٢] لما ذكر حالة الأشقياء الفجار ، ذكر وصف الأبرار السعداء ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) ، أي : في جميع أحوالهم ، حتى في الحالة الّتي لا يطلع عليهم فيها إلا الله ، فلا يقدمون على معاصيه ، ولا يقصرون عما أمرهم به. (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لذنوبهم ، وإذا غفر الله ذنوبهم ، وقاهم شرها ، ووقاهم عذاب الجحيم. (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) هو ما أعده لهم في الجنة ، من النعيم المقيم ، والملك الكبير ، واللذات المتواصلات ، والقصور والمنازل العاليات ، والحور الحسان ، والخدم ، والولدان. وأعظم من ذلك وأكبر رضا الرحمن الذي يحله على ساكني الجنان.

[١٣] هذا إخبار من الله بسعة علمه ، وشمول لطفه ، فقال : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ) ، أي : كلاهما سواء لديه ، لا يخفى عليه منهما خافية. (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) ، أي : بما فيها من النيات ، والإرادات ، فكيف بالأقوال والأفعال ، الّتي تسمع وترى؟

[١٤] ثمّ قال ـ مستدلا بدليل عقلي على علمه ـ : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) ، فمن خلق الخلق وأتقنه ، وأحسنه ، كيف لا يعلمه؟ (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) الذي لطف علمه وخبره ، حتى أدرك السرائر والضمائر ، والخبايا والخفايا ، والغيوب (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى). ومن معاني اللطيف ، أنه الذي يلطف بعبده ووليه ، فيسوق إليه البر والإحسان ، من حيث لا يشعر ، ويعصمه من الشر ، من حيث لا يحتسب ، ويرقيه إلى أعلى المراتب ، بأسباب لا تكون من العبد على بال ، حتى إنه يذيقه المكاره ، ليوصله بها ، إلى المحاب الجليلة ، والمطالب النبيلة.

[١٥] أي : هو الذي سخر لكم الأرض ، وذللها ، لتدركوا منها كلّ ما تعلقت به حاجتكم ، من غرس وبناء ، وحرث ، وطرق يتوصل بها إلى الأقطار النائية ، والبلدان الشاسعة. (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها) ، أي : لطلب الرزق والمكاسب. (وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) ، أي : بعد أن تنتقلوا من هذه الدار الّتي جعلها الله امتحانا ، وبلغة يتبلغ بها إلى الدار الآخرة ، تبعثون بعد موتكم ، وتحشرون إلى الله ، ليجازيكم بأعمالكم الحسنة والسيئة.

[١٦] هذا تهديد ووعيد ، لمن استمر في طغيانه وتعدّيه ، وعصيانه الموجب للنكال ، وحلول العقوبة ، فقال : (أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ) وهو الله تعالى ، العالي على خلقه. (أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ) بكم وتضطرب ، حتى تهلكوا وتتلفوا.

[١٧] (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) ، أي : عذابا من السماء ، يحصبكم ، وينتقم الله منكم (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) ، أي : كيف يأتيكم ما أنذرتكم به الرسل والكتب. فلا تحسبوا أن أمنكم من أن يعاقبكم

١٠٥٤

بعقاب من الأرض ومن السماء ينفعكم ، فستجدون عاقبة أمركم ، سواء طال عليكم الأمد أو قصر.

[١٨] فإن من قبلكم ، كذبوا كما كذبتم ، فأهلكهم الله تعالى ، فانظروا كيف إنكار الله عليهم ، عاجلهم بالعقوبة الدنيوية قبل عقوبة الآخرة ، فاحذروا أن يصيبكم ما أصابهم.

[١٩] وهذا عتاب وحث على النظر إلى حالة الطير ، الّتي سخرها الله ، وسخر لها الجو والهواء ، تصف فيه أجنحتها للطيران ، وتقبضها للوقوع ، فتظل سابحة في الجو ، مترددة فيه ، بحسب إرادتها وحاجتها. (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ) فإنه الذي سخر لهن الجو ، وجعل أجسادها وخلقتها ، في حالة مستعدة للطيران. فمن نظر في حالة الطير ، واعتبر فيها ، دلته على قدرة الباري ، وعنايته الربانية ، وأنه الواحد الأحد ، الذي لا تنبغي العبادة إلا له. (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) ، فهو المدبر لعباده ، بما يليق بهم ، وتقتضيه حكمته.

[٢٠] يقول تعالى للعتاة النافرين عن أمره ، المعرضين عن الحقّ : (أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ) ، أي : ينصركم ، إذا أراد الرحمن بكم سوءا ، فيدفعه عنكم؟ أي : من الذي ينصركم على أعدائكم غير الرحمن؟ فإنه تعالى هو الناصر المعز المذل ، وغيره من الخلق لو اجتمعوا على نصر عبد ، لم ينفعوه بمثقال ذرة ، على أيدي أيّ عدوّ كان. فاستمرار الكافرين على كفرهم ، بعد أن علموا أنه لا ينصرهم أحد من دون الرحمن ، غرور وسفه.

[٢١] (أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ) ، أي : الرزق كله من الله ، فلو أمسك عنكم الرزق ، فمن الذي يرسله لكم؟ فإن الخلق لا يقدرون على رزق أنفسهم ، فكيف بغيرهم؟ فالرزاق المنعم ، الذي لا يصيب العباد نعمة إلا منه ، هو الذي يستحق أن يفرد بالعبادة. ولكن الكافرين (لَجُّوا) ، أي : استمروا (فِي عُتُوٍّ) ، أي : قسوة وعدم لين للحق (وَنُفُورٍ) ، أي : شرود عن الحقّ.

[٢٢] (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢٢) أي : أيّ الرجلين أهدى؟ من كان تائها في الضلال ، غارقا في الكفر قد انتكس قلبه ، فصار الحقّ عنده باطلا ، والباطل حقا؟ أو من كان عالما بالحق ، مؤثرا له ، عاملا يمشي على الصراط المستقيم في أقواله وأعماله ، وجميع أحواله؟ فبمجرد النظر إلى حال الرجلين ، يعلم الفرق بينهما ، والمهتدي من الضال منهما ، والأحوال أكبر شاهد من الأقوال.

[٢٣] يقول تعالى ـ مبينا أنه المعبود وحده ، وداعيا عباده إلى شكره ، وإفراده بالعبادة ـ : (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ) ، أي : أوجدكم من العدم ، من غير معاون له ولا مظاهر. ولما أنشأكم ، كمل لكم الوجود ، إذ (جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) ، وهذه الثلاثة ، هي أفضل أعضاء البدن ، وأكمل القوى الجسمانية. ولكنكم مع هذا الإنعام (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) الله ، قليل منكم الشاكر ، وقليل منكم الشكر.

[٢٤] (قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) ، أي : بثكم في أقطارها ، وأسكنكم في أرجائها ، وأمركم ، ونهاكم ، وأسدى إليكم من النعم ، ما به تنتفعون ، ثمّ بعد ذلك يحشركم ليوم القيامة.

[٢٥] ولكن هذا الوعد بالجزاء ، ينكره هؤلاء المعاندون (وَيَقُولُونَ) تكذيبا : (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ، جعلوا علامة صدقهم ، أن يخبروهم بوقت مجيئه ، وهذا ظلم وعناد.

[٢٦] (قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) لا

١٠٥٥

عند أحد من الخلق ، ولا ملازمة بين هذا الخبر ، وبين الإخبار بوقته ، فإن الصدق يعرف بأدلته. وقد أقام الله من الأدلة والبراهين على صحته ، ما لا يبقى معه أدنى شك ، لمن ألقى السمع وهو شهيد.

[٢٧] يعني أن محل تكذيب الكفار وغرورهم به حين كانوا في الدنيا ، فإذا كان يوم الجزاء ، ورأوا العذاب منهم (زُلْفَةً) ، أي : قريبا ، ساءهم ذلك ، وأفظعهم ، وأقلقهم ، فتغيرت لذلك وجوههم ، ووبخوا على تكذيبهم ، وقيل : (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ). فاليوم رأيتموه عيانا ، وانجلى لكم الأمر ، وتقطعت بكم الأسباب ، ولم يبق إلا مباشرة العذاب.

[٢٨] ولما كان المكذبون للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الّذين يردون دعوته ، ينتظرون هلاكه ، ويتربصون به ريب المنون ، أمره الله أن يقول لهم : إنكم إن حصلت لكم أمنيتكم ، وأهلكني الله ومن معي ، فليس ذلك بنافع لكم شيئا ، لأنكم كفرتم بآيات الله ، واستحققتم العذاب ، فمن يجيركم من عذاب أليم قد تحتّم وقوعه بكم؟ فإذا ، تعبكم وحرصكم على هلاكي ، غير مفيد ولا مجد لكم شيئا. ومن قولهم : إنهم على هدى ، والرسول على الضلال ، أعادوا في ذلك وأبدوا ، وجادلوا عليه وقاتلوا.

[٢٩] فأمر الله نبيه أن يخبر عن حاله ، وحال أتباعه ، ما به يتبين لكل أحد هداهم وتقواهم ، وهو أن يقولوا : (هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا) ، والإيمان يشمل التصديق الباطن ، والأعمال الباطنة والظاهرة. ولما كانت الأعمال ، وجودها وكمالها ، متوقفان على التوكل ، خص الله التوكل من سائر الأعمال ، وإلا فهو داخل في الإيمان ، ومن جملة لوازمه كما قال تعالى : (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). فإذا كانت هذه حال الرسول ، وحال من اتبعه ، وهي الحال الّتي تتعين للفلاح ، وتتوقف عليها السعادة ، وحالة أعدائه بضدها ، فلا إيمان لهم ولا توكل ، علم بذلك ، من هو على هدى ، ومن هو في ضلال مبين. ثمّ أخبر عن انفراده بالنعم ، خصوصا الماء الذي جعل الله منه كلّ شيء حيّ ، فقال :

[٣٠] (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) ، أي : غائرا (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) تشربون منه ، وتسقون أنعامكم ، وأشجاركم ، وزروعكم؟ وهذا استفهام بمعنى النفي ، أي : لا يقدر أحد على ذلك ، غير الله تعالى. تم تفسير سورة الملك ـ والحمد لله.

تفسير سورة القلم

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] يقسم تعالى بالقلم ، وهو اسم جنس شامل للأقلام ، الّتي تكتب بها أنواع العلوم ، ويسطر بها المنثور والمنظوم.

[٢] وذلك أن القلم ، وما يسطر به من أنواع الكلام ، من آياته العظيمة ، الّتي تستحق أن يقسم بها ، على براءة نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مما نسبه إليه أعداؤه من الجنون ، فنفى عنه ذلك بنعمة ربه عليه ، وإحسانه ، حيث منّ عليه بالعقل الكامل ، والرأي الجزل ، والكلام الفصل ، الذي هو أحسن ما جرت به الأقلام ، وسطره الأنام ، وهذا هو السعادة في الدنيا.

[٣] ثمّ ذكر سعادته في الآخرة ، فقال : (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ) (٣) ، أي : لأجرا عظيما ، كما يفيده التنكير ، غير مقطوع ، بل هو دائم مستمر. وذلك لما أسلفه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأعمال الصالحة ، والأخلاق الكاملة ، والهداية إلى كلّ خير.

[٤] ولهذا قال : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (٤) ، أي : عليّ به ، مستعل بخلقك الذي منّ الله عليك به. وحاصل خلقه العظيم ، ما فسرته به أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لمن سألها عنه ، فقالت : «كان خلقه القرآن» ، وذلك نحو

١٠٥٦

قوله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) (١٩٩) ، (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) الآية ، (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) الآية. وما أشبه ذلك من الآيات الدالات على اتصافه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكارم الأخلاق ، والآيات الحاثّات على كلّ خلق جميل ، فكان له منها ، أكملها وأجلّها ، وهو في كلّ خصلة منها ، في الذروة العليا. فكان سهلا لينا ، قريبا من الناس ، مجيبا لدعوة من دعاه ، قاضيا لحاجة من استقضاه ، جابرا لقلب من سأله ، لا يحرمه ، ولا يرده خائبا. وإذا أراد أصحابه منه أمرا وافقهم عليه ، وتابعهم فيه إذا لم يكن فيه محذور ، وإن عزم على أمر لم يستبد به دونهم ، بل يشاورهم ويؤامرهم. وكان يقبل من محسنهم ، ويعفو عن مسيئهم ، ولم يكن يعاشر جليسا ، إلا أتم عشرة وأحسنها. فكان لا يعبس في وجهه ، ولا يغلظ عليه في مقاله ، ولا يطوي عنه بشره ، ولا يمسك عليه فلتات لسانه ، ولا يؤاخذه بما يصدر منه من جفوة ، بل يحسن إليه غاية الإحسان ويحتمله غاية الاحتمال. فلما أنزل الله نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أعلى المنازل ، وكان أعداؤه ينسبون إليه أنه مجنون مفتون ، قال :

[٥ ـ ٦] (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) (٦) ، وقد تبين أنه أهدى الناس ، وأكملهم لنفسه ولغيره. وأن أعداءه أضل الناس ، وشر الناس للناس ، وأنهم الّذين فتنوا عباد الله ، وأضلوهم عن سبيله ، وكفى بعلم الله بذلك ، فإنه المحاسب المجازي.

[٧] (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (٧) ، وهذا فيه تهديد للضالين ، ووعد للمهتدين ، وبيان لحكمة الله ، حيث كان يهدي من يصلح للهداية دون غيره.

[٨] يقول الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) (٨) الّذين كذبوك ، وعاندوا الحقّ ، فإنهم ليسوا أهلا لأن يطاعوا ، لأنهم لا يأمرون إلا بما يوافق أهواءهم ، وهم لا يريدون إلا الباطل ، فالمطيع لهم مقدم على ما يضره ، وهذا عام في كلّ مكذب ، وفي كلّ طاعة ناشئة عن التكذيب ، وإن كان السياق في شيء خاص ، وهو أن المشركين طلبوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يسكت عن عيب آلهتهم ودينهم ، ويسكتوا عنه ، ولهذا قال :

[٩] (وَدُّوا) ، أي : المشركون (لَوْ تُدْهِنُ) ، أي : توافقهم على بعض ما هم عليه ، إما بالقول ، أو الفعل ، أو بالسكوت عما يتعين الكلام فيه.

(فَيُدْهِنُونَ) ، ولكن اصدع بأمر الله ، وأظهر دين الإسلام ، فإن تمام إظهاره ، نقض ما يضاده ، وعيب ما يناقضه.

[١٠] (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ) ، أي : كثير الحلف ، فإنه لا يكون كذلك إلا وهو كذاب. ولا يكون كذابا ، إلا وهو (مَهِينٍ) ، أي : خسيس النفس ، ناقص الحكمة ، ليس له رغبة في الخير ، بل إرادته في شهوات نفسه الخسيسة.

[١١] (هَمَّازٍ) أي : كثير العيب للناس والطعن فيهم ، بالغيبة والاستهزاء ، وغير ذلك. (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) ، أي : يمشي بين الناس بالنميمة ، وهو : نقل كلام بعض الناس لبعض ، لقصد الإفساد بينهم ، وإيقاع العداوة والبغضاء.

[١٢ ـ ١٣] (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) الذي يلزمه القيام به من النفقات الواجبة والكفارات والزكوات وغير ذلك ، (مُعْتَدٍ) على الخلق يظلمهم في دمائهم وأموالهم وأعراضهم (أَثِيمٍ) ، أي : كثير الإثم والذنوب المتعلقة في حق

١٠٥٧

الله (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ) أي : غليظ شرس الخلق قاس ، غير منقاد (زَنِيمٍ) أي : دعيّ ، ليس له أصل ولا مادة ينتج منها الخير ، بل أخلاقه أقبح الأخلاق ، ولا يرجى منه فلاح ، له زنمة ، أي : علامة في الشر يعرف بها. وحاصل هذا ، أن الله تعالى نهى عن طاعة كلّ حلاف كذاب ، خسيس النفس ، سيىء الأخلاق ، خصوصا الأخلاق المتضمنة للإعجاب بالنفس ، والتكبر على الحقّ وعلى الخلق ، والاحتقار للناس ، بالغيبة والنميمة ، والطعن فيهم ، وكثرة المعاصي.

[١٤ ـ ١٥] وهذه الآيات ـ وإن كانت نزلت في بعض المشركين ـ كالوليد بن المغيرة أو غيره ، لقوله عنه : (أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (١٤) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (١٥) أي : لأجل كثرة ماله وولده ، طغى واستكبر عن الحقّ ، ودفعه حين جاءه ، وجعله من جملة أساطير الأولين ، الّتي يمكن صدقها وكذبها. فإنها عامة في كلّ من اتصف بهذا الوصف ، لأن القرآن نزل لهداية الخلق كلهم ، ويدخل فيه أول الأمة وآخرهم. وربما نزل بعض الآيات في سبب شخص من الأشخاص ، لتتضح به القاعدة العامة ، ويعرف به أمثال الجزئيات الداخلة في القضايا العامة.

[١٦] ثمّ توعد تعالى من جرى منه ما وصف الله ، بأن الله سيسمه على الخرطوم في العذاب ، ويعذبه عذابا ظاهرا ، يكون عليه سمة وعلامة ، في أشق الأشياء عليه ، وهو وجهه.

[١٧] يقول تعالى : إنا بلونا هؤلاء المكذبين بالخير ، وأمهلناهم ، وأمددناهم بما شئنا من مال وولد وطول عمر ، ونحو ذلك ، مما يوافق أهواءهم ، لا لكرامتهم علينا ، بل ربما يكون استدراجا لهم ، من حيث لا يعلمون. فاغترارهم بذلك ، نظير اغترار أصحاب الجنة ، الذي هم فيها شركاء ، حين أينعت أشجارها ، وزهت ثمارها ، وآن وقت صرامها ، وجزموا أنها في أيديهم ، وطوع أمرهم ، وأنه ليس ثمّ مانع يمنعهم منها.

[١٨] ولهذا أقسموا وحلفوا من غير استثناء ، أنهم سيصرمونها ، أي : يجذونها مصبحين. ولم يدروا أن الله بالمرصاد ، وأن العذاب سيخلفهم عليها ، ويبادرهم إليها.

[١٩ ـ ٢١] (فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ) ، أي : عذاب نزل عليها ليلا (وَهُمْ نائِمُونَ) ، فأبادها ، وأتلفها (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) (٢٠) ، أي : كالليل المظلم ، وذهبت الأشجار والثمار ، هذا وهم لا يشعرون بهذا الواقع الملم ، ولهذا تنادوا فيها بينهم لما أصبحوا ، يقول بعضهم لبعض :

[٢٢ ـ ٢٤] (أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا) قاصدين لها (وَهُمْ يَتَخافَتُونَ) فيما بينهم بمنع حق الله تعالى ، ويقولون : (لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) ، أي : بكروا قبل انتشار الناس ، وتواصوا مع ذلك ، بمنع الفقراء والمساكين. ومن شدة حرصهم وبخلهم ، أنهم يتخافتون بهذا الكلام مخافتة ، خوفا أن يسمعهم أحد ، فيخبر الفقراء.

[٢٥] (وَغَدَوْا) في هذه الحالة الشنيعة ، والقسوة ، وعدم الرحمة (عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ) ، أي : على إمساك ومنع لحق الله ، جازمين بقدرتهم عليها.

[٢٦] (فَلَمَّا رَأَوْها) على الوصف الذي ذكر الله كالصريم ، (قالُوا) من الحيرة والانزعاج : (إِنَّا لَضَالُّونَ) ، أي : تائهون عنها ، لعلها غيرها.

[٢٧] فلما تحققوها ، ورجعت إليهم عقولهم ، قالوا : (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) (٢٧) منها ، فعرفوا حينئذ أنه عقوبة.

[٢٨] (قالَ أَوْسَطُهُمْ) ، أي : أعدلهم ، وأحسنهم طريقة : (أَلَمْ

١٠٥٨

أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) ، أي : تنزهون الله عما لا يليق به ، ومن ذلك ، ظنكم أن قدرتكم مستقلة ، فلو استثنيتم ، وقلتم : «إن شاء الله» وجعلتم مشيئتكم تابعة لمشيئته ، ما جرى عليكم ما جرى.

[٢٩] (قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) (٢٩) ، أي : استدركوا بعد ذلك ، ولكن بعد ما وقع على جنتهم العذاب ، الذي لا يرفع. ولكن بعد ما وقع على جنتهم العذاب ، الذي لا يرفع. ولكن لعل تسبيحهم هذا ، وإقرارهم على أنفسهم بالظلم ، ينفعهم في تخفيف الإثم ويكون توبة ، ولهذا ندموا ندامة عظيمة.

[٣٠ ـ ٣١] (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ) (٣٠) فيما أجروه وفعلوه ، (قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ) (٣١) ، أي : متجاوزين للحد في حق الله ، وحق عباده.

[٣٢] (عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) (٣٢) فهم رجوا الله أن يبدلهم خيرا منها ، ووعدوا أنهم سيرغبون إلى الله ، ويلحون عليه في الدنيا. فإن كانوا كما قالوا ، فالظاهر أن الله أبدلهم في الدنيا خيرا منها لأن من دعا الله صادقا ، ورغب إليه ورجاه ، أعطاه سؤله.

[٣٣] قال تعالى معظما ما وقع : (كَذلِكَ الْعَذابُ) ، أي : الدنيوي لمن أتى بأسباب العذاب أن يسلبه الله الشيء الذي طغى به وبغى ، وآثر الحياة الدنيا ، وأن يزيله عنه ، أحوج ما يكون إليه. (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) من عذاب الدنيا (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) ، فإن من علم ذلك ، أوجب له الانزجار عن كلّ سبب يوجب العقاب ، ويحرم الثواب.

[٣٤ ـ ٣٥] يخبر تعالى بما أعده للمتقين الكفر والمعاصي ، من أنواع النعيم والعيش السليم في جوار أكرم الأكرمين ، وأن حكمته تعالى ، لا تقتضي أن يجعل المتقين القانتين لربهم ، المنقادين لأوامره ، المتبعين مراضيه ، كالمجرمين الّذين أوضعوا في معاصيه ، والكفر بآياته ، ومعاندة رسله ، ومحاربه أوليائه.

[٣٦] وأن من ظن أنه يسويهم في الثواب ، فإنه قد أساء الحكم ، وأن حكمه باطل ، ورأيه فاسد.

[٣٧ ـ ٣٨] وأن المجرمين إذا ادعوا ذلك ، فليس لهم مستند ، لا كتاب فيه يدرسون ويتلون ، أنهم من أهل الجنة ، وأن لهم ما طلبوا وتخيروا.

[٣٩] وليس لهم عند الله عهد ويمين بالغة إلى يوم القيامة أن لهم ما يحكمون وليس لهم شركاء وأعوان على إدراك ما طلبوا ، فإن كان لهم شركاء وأعوان ، فليأتوا بهم ، إن كانوا صادقين. ومن المعلوم أن جميع ذلك منتف ، فليس لهم كتاب ، ولا لهم عهد عند الله في النجاة ، ولا لهم شركاء يعينونهم ، فعلم أن دعواهم باطلة فاسدة.

[٤٠] وقوله : (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ) (٤٠) ، أي : أيهم الكفيل بهذه الدعوى الّتي تبين بطلانها ، فإنه لا يمكن أحدا ، أن يتصدر بها ، ولا يكون زعيما فيها.

[٤٢] أي : إذا كان يوم القيامة ، وانكشف فيه من القلاقل والزلازل والأهوال ، ما لا يدخل تحت الوهم ، وأتى الباري لفصل القضاء بين عباده ، ومجازاتهم ، فكشف عن ساقه الكريمة ، الّتي لا يشبهها شيء ، ورأى الخلائق من جلال الله وعظمته ، ما لا يمكن التعبير عنه ، فحينئذ يدعون إلى السجود لله. فيسجد المؤمنون الّذين كانوا يسجدون لله ، طوعا واختيارا ، ويذهب الفجار المنافقون ليسجدوا فلا يقدرون على السجود ، وتكون ظهورهم كصياصي البقر ، لا يستطيعون الانحناء.

[٤٣] وهذا الجزاء من جنس عملهم ، فإنهم كانوا يدعون في الدنيا إلى السجود لله ،

١٠٥٩

وتوحيده وعبادته ، وهم سالمون ، لا علة فيهم ، فيستكبرون عن ذلك ويأبون ، فلا تسأل يومئذ عن حالهم ، وسوء مآلهم ، فإن الله سخط عليهم ، وحقت عليهم كلمة العذاب ، وتقطعت أسبابهم ، ولم تنفعهم الندامة والاعتذار يوم القيامة. ففي هذا ما يزعج القلوب عن المقام على المعاصي ، ويوجب التدارك مدة الإمكان.

[٤٤ ـ ٤٥] أي : دعني والمكذبين بالقرآن العظيم ، فإن عليّ جزاءهم ، ولا تستعجل لهم ، (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) فنمدهم بالأموال والأولاد ، ونمدهم في الأرزاق والأعمال ، ليغتروا ، ويستمروا على ما يضرهم ، وهذا من كيد الله لهم ، وكيد الله لأعدائه متين قوي ، يبلغ من ضررهم وعقوبتهم كلّ مبلغ.

[٤٦] (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) (٤٦) ، أي : ليس لنفورهم عنك ، وعدم تصديقهم لك ، سبب يوجب لهم ذلك ، فإنك تعلمهم ، وتدعوهم إلى الله ، لمحض مصلحتهم ، من غير أن تصيبهم من أموالهم مغرما ، يثقل عليهم.

[٤٧] (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) (٤٧) ما كان عندهم من الغيوب ، وقد وجدوا أنهم على حق ، وأن لهم الثواب عند الله. فهذا أمر ما كان ، وإنّما كانت حالهم ، حال معاند ظالم.

[٤٨] فلم يبق إلا الصبر لأذاهم ، والتحمل لما يصدر منهم ، والاستمرار على دعوتهم ، ولهذا قال : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) ، أي : لما حكم به ، شرعا وقدرا ، فالحكم القدري ، يصبر على المؤذى منه ، ولا يتلقّى بالسخط والجزع ، والحكم الشرعي ، يقابل بالقبول والتسليم ، والانقياد لأمره. وقوله : (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) وهو يونس بن متى ، عليه الصلاة والسّلام. أي : ولا تشابهه في الحال الّتي أوصلته وأوجبت له الانحباس في بطن الحوت ، وهو عدم صبره على قومه ، الصبر المطلوب منه ، وذهابه مغاضبا لربه ، حتى ركب البحر ، فاقترع أهل السفينة حين ثقلت بأهلها ، أيهم يلقون لكي تخف بهم ، فوقعت القرعة عليه ، فالتقمه الحوت وهو مليم. وقوله : (إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ) ، أي : وهو في بطنها قد كظمت عليه ، أو نادى وهو مغتمّ مهتم ، فقال : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ). فاستجاب الله له ، وقذفته الحوت من بطنها بالعراء ، وهو سقيم ، وأنبت الله عليه شجرة من يقطين ، ولهذا قال هنا :

[٤٩] (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ) ، أي : لطرح في العراء ، وهي الأرض الخالية (وَهُوَ مَذْمُومٌ) ، ولكن الله تغمده برحمته ، فنبذ وهو ممدوح ، وصارت حاله أحسن من حاله الأولى ، ولهذا قال :

[٥٠] (فَاجْتَباهُ رَبُّهُ) ، أي : اختاره ونقاه من كلّ كدر. (فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) ، أي : الّذين صلحت أعمالهم وأقوالهم ، ونياتهم وأحوالهم. فامتثل نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر الله ، فصبر لحكم ربه صبرا لا يدركه أحد من العالمين. فجعل الله له العاقبة (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) ولم يبلغ أعداؤه فيه إلا ما يسوؤهم.

[٥١] حتى إنهم حرصوا على أن يزلقوه بأبصارهم ، أي : يصيبوه بأعينهم ، من حسدهم وحنقهم وغيظهم. هذا منتهى ما قدروا عليه من الأذى الفعليّ ، والله حافظه وناصره. وأما الأذى القولي ، فيقولون فيه أقوالا ، بحسب ما توحي إليهم قلوبهم ، فيقولون تارة : «مجنون» ، وتارة : «شاعر» ، وتارة : «ساحر».

[٥٢] قال تعالى : (وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) (٥٢) ، أي : وما هذا القرآن العظيم ، والذكر الحكيم ، إلا ذكر للعالمين ، يتذكرون به مصالح دينهم ودنياهم ، والحمد لله. تم تفسير سورة القلم ـ بمنّ الله وكرمه.

١٠٦٠