تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي

تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

المؤلف:

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ١١٣٥

[١٤] هذا من قولهم بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، وذلك أنهم إذا اجتمعوا بالمؤمنين ، أظهروا أنهم على طريقتهم ، وأنهم معهم ، فإذا خلوا إلى شياطينهم ـ أي كبرائهم ورؤسائهم بالشر ـ قالوا : إنا معكم في الحقيقة ، وإنما نحن مستهزئون بالمؤمنين بإظهارنا لهم ، أنا على طريقتهم ، فهذه حالهم الباطنة والظاهرة ، ولا يحيق المكر السيّء إلا بأهله.

[١٥] قال تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١٥) ، وهذا جزاء لهم على استهزائهم بعباده ، فمن استهزائه بهم ، أن زيّن لهم ما كانوا فيه من الشقاء والأحوال الخبيثة ، حتى ظنوا أنهم مع المؤمنين ، لما لم يسلط الله المؤمنين عليهم ، ومن استهزائه بهم يوم القيامة أن يعطيهم مع المؤمنين نورا ظاهرا ، فإذا مشى المؤمنون بنورهم ، طفىء نور المنافقين ، وبقوا في الظلمة بعد النور متحيرين ، فما أعظم اليأس بعد الطمع ، (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) (١٥) الآية. قوله : (وَيَمُدُّهُمْ) ، أي :

يزيدهم (فِي طُغْيانِهِمْ) ، أي : فجورهم وكفرهم ، (يَعْمَهُونَ) ، أي : حائرون مترددون ، وهذا من استهزائه تعالى بهم.

[١٦] ثم قال تعالى كاشفا عن حقيقة أحوالهم : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) (١٦) ، (أُولئِكَ) ، أي : المنافقون الموصوفون بتلك الصفات (الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) ، أي : رغبوا في الضلالة ، رغبة المشتري في السلعة ، التي ـ من رغبته فيها ـ يبذل فيها الأموال النفيسة ، وهذا من أحسن الأمثلة ، فإنه جعل الضلالة ، التي هي غاية الشر ، كالسلعة ، وجعل الهدى ، الذي هو غاية الصلاح ، بمنزلة الثمن ، فبذلوا الهدى ، رغبة عنه في الضلالة ، رغبة فيها ، فهذه تجارتهم ، فبئس التجارة ، وهذه صفقتهم ، فبئست الصفقة. وإذا كان من يبذل دينارا في مقابلة درهم خاسرا ، فكيف من بذل جوهرة وأخذ عنها درهما؟ فكيف من بذل الهدى ...

في مقابلة الضلالة ، واختار الشقاء على السعادة ، ورغب في سافل الأمور وترك عاليها؟ فما ربحت تجارته ، بل خسر فيها أعظم خسارة. (إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ* أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) [٣٩ ـ الزمر :١٥]. وقوله : (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) تحقيق لضلالهم ، وأنهم لم يحصل لهم من الهداية شيء ، فهذه أوصافهم القبيحة.

[١٧ ـ ٢٠] ثم ذكر مثلهم ، فقال : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٠) ، أي : مثلهم المطابق لما كانوا عليه ، كمثل الذي استوقد نارا ، أي : كان في ظلمة عظيمة ، وحاجة إلى النار شديدة فاستوقدها ، من غيره ، ولم تكن عنده معدة ، بل هي خارجة عنه ، فلما أضاءت النار ما حوله ، ونظر المحل الذي هو فيه ، وما فيه من المخاوف وأمنها ، وانتفع بتلك النار ،

٤١

وقرت بها عينه ، وظن أنه قادر عليها ، فبينما هو كذلك ، إذ ذهب الله بنوره ، فزال عنه النور ، وذهب معه السرور ، وبقي في الظلمة العظيمة والنار المحرقة ، فذهب ما فيها من الإشراق ، وبقي ما فيها من الإحراق ، فبقي في ظلمات متعددة : ظلمة الليل ، وظلمة السحاب ، وظلمة المطر ، والظلمة الحاصلة بعد النور ، فكيف يكون حال هذا الموصوف؟ فكذلك هؤلاء المنافقون ، استوقدوا نار الإيمان من المؤمنين ، ولم تكن صفة لهم ، فاستضاؤوا بها مؤقتا وانتفعوا ، فحقنت بذلك دماؤهم ، وسلمت أموالهم ، وحصل لهم نوع من الأمن في الدنيا ، فبينما هم كذلك ، إذ هجم عليهم الموت ، فسلبهم الانتفاع بذلك النور ، وحصل لهم كل هم وغم وعذاب ، وحصل لهم ظلمة القبر ، وظلمة الكفر ، وظلمة النفاق ، وظلمة المعاصي على اختلاف أنواعها ، وبعد ذلك ظلمة النار ، وبئس القرار. فلهذا قال تعالى عنهم : (صُمٌ) ، أي : عن سماع الخير ، (بُكْمٌ) ، أي : عن النطق به ، (عُمْيٌ) ، أي : عن رؤية الحق ، (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) لأنهم تركوا الحق بعد أن عرفوه ، فلا يرجعون إليه ، بخلاف من ترك الحق عن جهل وضلال ، فإنه لا يعقل ، وهو أقرب رجوعا منهم. ثم قال تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) ، أي : كصاحب صيب وهو المطر الذي يصوب ، أي : ينزل بكثرة ، (فِيهِ ظُلُماتٌ) ظلمة الليل ، وظلمة السحاب ، وظلمة المطر ، (وَرَعْدٌ) وهو الصوت الذي يسمع من السحاب ، (وَبَرْقٌ) وهو الضوء اللامع المشاهد مع السحاب ، (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ) البرق في تلك الظلمات (مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) ، أي : وقفوا. فهكذا حالة المنافقين ، إذا سمعوا القرآن وأوامره ونواهيه ، ووعده ووعيده ، جعلوا أصابعهم في آذانهم ، وأعرضوا عن أمره ونهيه ، ووعده ووعيده ، فيروعهم وعيده ، وتزعجهم وعوده ، فهم يعرضون عنها غاية ما يمكنهم ، ويكرهونها كراهة صاحب الصيب الذي يسمع الرعد ، فيجعل أصابعه في أذنيه خشية الموت ، فهذا ربما حصلت له السلامة. وأما المنافقون ، فأنى لهم السلامة ، وهو تعالى محيط بهم ، قدرة وعلما ، فلا يفوتونه ولا يعجزونه ، بل يحفظ عليهم أعمالهم ، ويجازيهم عليها أتم الجزاء. ولما كانوا مبتلين بالصمم والبكم ، والعمى المعنوي ، ومسدودة عليهم طرق الإيمان ، قال تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) ، أي : الحسيّة ، ففيه تخويف لهم وتحذير من العقوبة الدنيوية ، ليحذروا ، فيرتدعوا عن بعض شرهم ونفاقهم ، (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فلا يعجزه شيء ، ومن قدرته ، أنه إذا شاء شيئا فعله من غير ممانع ولا معارض. وفي هذه الآية وما أشبهها ، رد على القدرية القائلين بأن أفعالهم غير داخلة في قدرة الله تعالى ، لأن أفعالهم من جملة الأشياء الداخلة في قوله : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

[٢١] هذا أمر عام لجميع الناس ، بأمر عام ، وهو العبادة الجامعة ، لامتثال أوامر الله ، واجتناب نواهيه ، وتصديق خبره ، فأمرهم تعالى بما خلقهم له ، قال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٥٦). ثم استدل على وجوب عبادته وحده ، بأنه ربكم الذي رباكم بأصناف النعم ، فخلقكم بعد العدم ، وخلق الذين من قبلكم ، وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة ، فجعل لكم الأرض فراشا تستقرون عليها ، وتنتفعون بالأبنية ، والزراعة ، والحراثة ،

٤٢

والسلوك من محل إلى محل ، وغير ذلك من وجوه الانتفاع بها ، وجعل السماء بناء لمسكنكم ، وأودع فيها من المنافع ما هو من ضروراتكم وحاجاتكم ، كالشمس والقمر والنجوم. (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً).

[٢٢] والسماء هو كل ما علا فوقك فهو سماء ، ولهذا قال المفسرون : المراد بالسماء هاهنا ، السحاب ، فأنزل منه تعالى ماء : (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ) كالحبوب والثمار من نخيل وفواكه وزروع وغيرها ، (رِزْقاً لَكُمْ) به ترتزقون ، وتتقوتون وتعيشون وتفكهون. (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) ، أي : أشباها ونظراء من المخلوقين ، فتعبدونهم كما تعبدون الله ، وتحبونهم كما تحبونه ، وهم مثلكم مخلوقون مرزوقون مدبرون ، لا يملكون مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، ولا ينفعونكم ولا يضرون. (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أن الله ليس له شريك ، ولا نظير ، لا في الخلق ، والرزق والتدبير ، ولا في الألوهية والكمال ، فكيف تعبدون معه آلهة أخرى مع علمكم بذلك؟ هذا من أعجب العجب ، وأسفه السفه. وهذه الآية جمعت بين الأمر بعبادة الله وحده ، والنهي عن عبادة ما سواه ، وبيان الدليل الباهر على وجوب عبادته ، وبطلان عبادة ما سواه ، وهو ذكر توحيد الربوبية ، المتضمن انفراده بالخلق والرزق والتدبير ، فإذا كان كل أحد ، مقرا بأنه ليس له شريك بذلك ، فكذلك فليكن الإقرار بأن الله ليس له شريك في عبادته ، وهذا أوضح دليل عقلي ، على وحدانية الباري تعالى ، وبطلان الشرك. وقوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) يحتمل أن المعنى أنكم إذا عبدتم الله وحده ، اتقيتم بذلك سخطه وعذابه ، لأنكم أتيتم بالسبب الدافع لذلك ، ويحتمل أن يكون المعنى : أنكم إذا عبدتم الله ، صرتم من المتقين الموصوفين بالتقوى ، وكلا المعنيين صحيح ، وهما متلازمان ، فمن أتى بالعبادة كاملة ، كان من المتقين ، ومن كان من المتقين ، حصلت له النجاة من عذاب الله وسخطه ، وهذا دليل عقلي على صدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصحة ما جاء به ، فقال :

[٢٣] وإن كنتم ـ يا معشر المعاندين للرسول ، الرادين دعوته ، الزاعمين كذبه ـ في شك واشتباه ، مما نزلنا على عبدنا ، هل هو حق أو غيره؟ فههنا أمر نصف فيه الفيصلة بينكم وبينه ، وهو أنه بشر مثلكم ، ليس من جنس آخر ، وأنتم تعرفونه منذ نشأ بينكم ، لا يكتب ولا يقرأ ، فأتاكم بكتاب ، أخبركم أنه من عند الله ، وقلتم أنتم ، إنه تقوّله وافتراه. فإن كان الأمر كما تقولون ، فأتوا بسورة من مثله ، واستعينوا بمن تقدرون عليه من أعوانكم وشهدائكم ، فإن هذا أمر يسير عليكم ، خصوصا ، وأنتم أهل الفصاحة والخطابة ، والعداوة العظيمة للرسول ، فإن جئتم بسورة من مثله ، فهو كما زعمتم ، وإن لم تأتوا بسورة من مثله وعجزتم غاية العجز ، فهذا آية كبيرة ، ودليل واضح جلي على صدقه وصدق ما جاء به ، فيتعين عليكم اتباعه ، واتقاء النار التي بلغت في الحرارة العظيمة والشدة ، أن كان وقودها الناس والحجارة ، ليست كنار الدنيا ، التي تتقد بالحطب ، وهذه النار الموصوفة ، معدّة ومهيّأة للكافرين بالله ورسله ، فاحذروا الكفر برسوله ، بعد ما تبين لكم أنه رسول الله. وهذه الآية ونحوها يسمونها آية التحدي ، وهو تعجيز الخلق عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن ويعارضوه بوجه ، قال تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (٨٨). وكيف يقدر المخلوق من تراب ، أن يكون كلامه ككلام رب الأرباب؟ أم كيف يقدر الفقير الناقص من جميع الوجوه ، أن يأتي بكلام ككلام الكامل الذي له الكمال المطلق ، والغنى الواسع من جميع الوجوه؟ هذا ليس في الإمكان ، ولا في قدرة الإنسان ، وكل من له أدنى ذوق ومعرفة بأنواع الكلام ، إذا وزن هذا القرآن بغيره من كلام البلغاء ، ظهر له الفرق العظيم. وفي قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) إلى آخره ، دليل على أن الذي يرجى له الهداية من الضلالة ، هو الشاك الحائر الذي لم يعرف الحق من الضلالة ، فهذا الذي إذا بين له الحق حري باتباعه ، إن كان صادقا في طلب الحق. وأما المعاند الذي يعرف الحق ويتركه ، فهذا لا يمكن رجوعه ، لأنه ترك الحق بعد ما تبين له ، ولم يتركه عن جهل ، فلا حيلة فيه. وكذلك الشاك الذي ليس بصادق في طلب الحق ، بل هو معرض ، غير مجتهد بطلبه ، فهذا ـ في الغالب ـ لا يوفق. وفي وصف الرسول بالعبودية في

٤٣

هذا المقام العظيم ، دليل على أن أعظم أوصافه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قيامه بالعبودية التي لا يلحقه فيها أحد من الأولين والآخرين. كما وصفه بالعبودية في مقام الإسراء ، فقال : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) ، وفي مقام تنزيل القرآن عليه ، فقال : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) (١).

[٢٤] وفي قوله : (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) ونحوها من الآيات ، دليل لمذهب أهل السنة والجماعة ، أن الجنة والنار مخلوقتان خلافا للمعتزلة ، وفيها أيضا ، أن الموحدين ـ وإن ارتكبوا بعض الكبائر ـ لا يخلدون في النار ، لأنه قال :

(أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) ، فلو كان عصاة الموحدين يخلدون فيها ، لم تكن معدة للكافرين وحدهم خلافا للخوارج والمعتزلة. وفيها دلالة على أن العذاب مستحق بأسبابه ، وهو الكفر ، وأنواع المعاصي على اختلافها. ولما ذكر جزاء الكافرين ، ذكر جزاء المؤمنين ، أهل الأعمال الصالحات ، كما هي طريقته تعالى في كتابه ، يجمع بين الترغيب والترهيب ، ليكون العبد راغبا راهبا ، خائفا راجيا ، فقال :

[٢٥] (وَبَشِّرِ) ، أي : أيها الرسول ، ومن قام مقامك ، (الَّذِينَ آمَنُوا) بقلوبهم (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بجوارحهم ، فصدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة. ووصفت أعمال الخير بالصالحات ، لأن بها تصلح أحوال العبد ، وأمور دينه ودنياه ، وحياته الدنيوية والأخروية ، ويزول بها عنه فساد الأحوال ، فيكون بذلك من الصالحين ، الذين يصلحون لمجاورة الرحمن في جنته. فبشّرهم (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) ، أي : بساتين جامعة للأشجار العجيبة ، والثمار الأنيقة ، والظل المديد ، والأغصان والأفنان ، وبذلك صارت جنة ، يجتن بها داخلها ، وينعم فيها ساكنها. (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) ، أي : أنهار الماء ، واللبن ، والعسل ، والخمر ، يفجرونها كيف شاؤوا ، ويصرفونها أين أرادوا ، وتسقى منها تلك الأشجار فتنبت أصناف الثمار. (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) ، أي : هذا من جنسه ، وعلى وصفه ، كلها متشابهة في الحسن واللذة ، ليس فيها ثمرة خاسّة ، وليس لهم وقت خال من اللذة ، فهم دائما متلذذون بأكلها. وقوله : (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) ، قيل : متشابها في الاسم ، مختلفا في الطعم ، وقيل : متشابها في اللون ، مختلفا في الاسم ، وقيل : يشبه بعضه بعضا في الحسن واللذة والفكاهة ، ولعل هذا أحسن. ثم لما ذكر مسكنهم ، وأقواتهم من الطعام والشراب وفواكههم ، ذكر أزواجهم ، فوصفهن بأكمل وصف وأوجزه ، وأوضحه فقال : (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) فلم يقل «مطهرة من العيب الفلاني» ليشمل جميع أنواع التطهير ، فهن مطهرات الأخلاق ، مطهرات الخلق ، مطهرات اللسان ، مطهرات الأبصار ، فأخلاقهن ، أنهن عرب متحببات إلى أزواجهن بالخلق الحسن ، وحسن التبعل ، والأدب القولي والفعلي ، ومطهر خلقهن من الحيض والنفاس والمني ، والبول والغائط ، والمخاط والبصاق ، والرائحة الكريهة ، ومطهرات الخلق أيضا ، بكمال الجمال ، فليس فيهن عيب ، ولا دمامة خلق ، بل هن خيرات حسان ، مطهرات اللسان والطرف ، قاصرات طرفهن على أزواجهن ، وقاصرات ألسنتهن عن كل كلام قبيح. ففي هذه الآية الكريمة ، ذكر المبشر ، والمبشّر به ، والسبب الموصل لهذه البشارة ، فالمبشّر : هو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن قام مقامه من أمته ، والمبشّر : هم المؤمنون العاملون الصالحات ، والمبشّر به : هي الجنات الموصوفات بتلك الصفات ، والسبب الموصل لذلك ، هو الإيمان والعمل الصالح ، فلا سبيل إلى الوصول إلى هذه البشارة ، إلا بهما ، وهذا أعظم بشارة حاصلة على يد أفضل الخلق ، بأفضل الأسباب. وفيه استحباب بشارة المؤمنين وتنشيطهم على الأعمال بذكر جزائها وثمراتها ، فإنها بذلك تخف وتسهل ، وأعظم بشرى حاصلة للإنسان توفيقه للإيمان والعمل الصالح ، فذلك أول البشارة وأصلها ، ومن بعده ، البشرى عند الموت ، ومن بعده ، الوصول إلى هذا النعيم المقيم ، نسأل الله من فضله.

[٢٦] يقول تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما) ، أي : أيّ مثل كان (بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) ، لاشتمال الأمثال على الحكمة ، وإيضاح الحق ، والله لا يستحيي من الحق ، وكأنّ في هذا جوابا لمن أنكر ضرب الأمثال في

٤٤

الأشياء الحقيرة ، واعترض على الله في ذلك ، فليس في ذلك محل اعتراض ، بل هو من تعليم الله لعباده ورحمته بهم ، فيجب أن تتلقى بالقبول والشكر ، ولهذا قال : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) فيفهمونها ، ويتفكرون فيها. فإن علموا ما اشتملت عليه على وجه التفصيل ، ازداد بذلك علمهم وإيمانهم ، وإلا علموا أنها حق ، وما اشتملت عليه حق ، وإن خفي عليهم وجه الحق فيها لعلمهم بأن الله لم يضربها عبثا ، بل لحكمة بالغة ، ونعمة سابغة. (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) فيعترضون ويتحيرون ، فيزدادون كفرا إلى كفرهم ، كما ازداد المؤمنون ، إيمانا على إيمانهم. ولهذا قال : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) ، فهذا حال المؤمنين والكافرين عند نزول تلك الآيات القرآنية. قال تعالى : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) (١٢٥) ، فلا أعظم نعمة على العباد من نزول الآيات القرآنية ، ومع هذا ، تكون لقوم محنة ، وحيرة ، وضلالة ، وزيادة شر إلى شرهم ، ولقوم منحة ، ورحمة ، وزيادة خير إلى خيرهم ، فسبحان من فاوت بين عباده ، وانفرد بالهداية والإضلال. ثم ذكر حكمته وعدله في إضلاله من يضل فقال : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) أي : الخارجين عن طاعة الله ؛ المعاندين لرسل الله ؛ الّذين صار الفسق وصفهم ، فلا يبغون به بدلا ، فاقتضت حكمته تعالى إضلالهم لعدم صلاحيتهم للهدى ، كما اقتضى فضله وحكمته هداية من اتصف بالإيمان ، وتحلى بالأعمال الصالحة. والفسق نوعان : نوع مخرج من الدين ، وهو الفسق المقتضي للخروج من الإيمان ، كالمذكور في هذه الآية ونحوها ، ونوع غير مخرج من الإيمان كما في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) الآية.

[٢٧] ثم وصف الفاسقين ، فقال : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) ، وهذا يعم العهد الذي بينهم وبين ربهم ؛ والذي بينهم وبين الخلق ؛ الذي أكده عليهم بالمواثيق الثقيلة والإلزامات ، فلا يبالون بتلك المواثيق ، بل ينقضونها ويتركون أوامره ، ويرتكبون نواهيه ، وينقضون العهود التي بينهم وبين الخلق. (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) ، وهذا يدخل في أشياء كثيرة ، فإن الله أمرنا أن نصل ما بيننا وبينه بالإيمان به ، والقيام بعبوديته ، وما بيننا وبين رسوله بالإيمان به ، ومحبته ، وتعزيره ، والقيام بحقوقه ، وما بيننا وبين الوالدين والأقارب ، والأصحاب ، وسائر الخلق بالقيام بحقوقهم التي أمر الله أن نصلها. فأما المؤمنون ، فوصلوا ما أمر الله به أن يوصل من هذه الحقوق ؛ وقاموا بها أتم القيام ، وأما الفاسقون ، فقطعوها ونبذوها وراء ظهورهم معتاضين عنها بالفسق والقطيعة ، والعمل بالمعاصي ، وهو : الإفساد في الأرض. (أُولئِكَ) ، أي : من هذه صفته (هُمُ الْخاسِرُونَ) ، في الدنيا والآخرة ، فحصر الخسارة فيهم ، لأن خسرانهم عام في كل أحوالهم ، ليس لهم نوع من الربح ؛ لأن كل عمل صالح ، شرطه الإيمان ، فمن لا إيمان له لا عمل له ، وهذا الخسار هو خسار الكفر ، وأما الخسار الذي قد يكون كفرا ، وقد يكون معصية ، وقد يكون تفريطا في ترك مستحب المذكور في قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) (٢) ،

٤٥

فهذا عام لكل مخلوق ، إلا من اتصف بالإيمان والعمل الصالح ، والتواصي بالحق ، والتواصي بالصبر ، وحقيقته فوات الخير ، الذي كان العبد بصدد تحصيله وهو تحت إمكانه.

[٢٨] ثم قال تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢٨) ، هذا استفهام بمعنى التعجب والتوبيخ والإنكار ، أي : كيف يحصل منكم الكفر بالله ، الذي خلقكم من العدم ؛ وأنعم عليكم بأصناف النعم ، ثم يميتكم عند استكمال آجالكم ، ويجازيكم في القبور ، ثم يحييكم بعد البعث والنشور ، ثم إليه ترجعون ، فيجازيكم الجزاء الأوفى. فإذا كنتم في تصرفه وتدبيره وبرّه ، وتحت أوامره الدينية ، وبعد ذلك تحت دينه الجزائي ، أفيليق بكم أن تكفروا به ، وهل هذا إلا جهل عظيم وسفه كبير؟ بل الذي يليق بكم أن تتقوه ، وتشكروه ، وتؤمنوا به ، وتخافوا عذابه ، وترجوا ثوابه.

[٢٩] (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢٩) (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) ، أي : خلق لكم برا بكم ورحمة ، جميع ما على الأرض ، للانتفاع والاستمتاع ، والاعتبار. وفي هذه الآية الكريمة ، دليل على أن الأصل في الأشياء الإباحة والطهارة ، لأنها سيقت في معرض الامتنان ، يخرج بذلك ، الخبائث فإن تحريمها أيضا ، يؤخذ من فحوى الآية ، وبيان المقصود منها ، وأنه خلقها لنفعنا ، فما فيه ضرر ، فهو خارج من ذلك. ومن تمام نعمته ، منعنا من الخبائث تنزيها لنا. وقوله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

معاني كلمة «استوى»

(اسْتَوى) : ترد في القرآن على ثلاثة معاني : فتارة لا تعدى بالحرف ، فيكون معناها : الكمال والتمام ، كما في قوله عن موسى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى) ، وتارة تكون بمعنى «علا» و «ارتفع» وذلك إذا عديت ب «على» كقوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٥) ، (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) ، وتارة تكون بمعنى «قصد» كما إذا عديت ب «إلى» كما ي هذه الآية ، أي : لما خلق تعالى الأرض قصد إلى خلق السماوات فسواهن سبع سماوات ، فخلقها وأحكمها ، وأتقنها ، وهو بكل شيء عليم ، فيعلم ما يلج في الأرض ، وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء ، وما يعرج فيها ، و (يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) ، ويعلم السرّ وأخفى. وكثيرا ما يقرن بين خلقه ، وإثبات علمه كما في هذه الآية ، وكما في قوله تعالى : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١٤) لأن خلقه للمخلوقات ، أدل دليل على علمه وحكمته وقدرته.

[٣٠] (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) ، هذا شروع في ابتداء خلق آدم عليه‌السلام أبي البشر ، وفضله ، وأن الله تعالى ـ حين أراد خلقه ـ أخبر الملائكة بذلك ، وأن الله مستخلفه في الأرض ، فقالت الملائكة عليهم‌السلام : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) بالمعاصي (وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) ، وهذا تخصيص بعد تعميم ، لبيان شدة مفسدة القتل ، وهذا بحسب ظنهم أن المجعول في الأرض سيحدث منه ذلك ، فنزهوا الباري عن ذلك ، وعظموه ، وأخبروا أنهم قائمون بعبادة الله على وجه خال من المفسدة ، فقالوا : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) ، أي : ننزهك التنزيه اللائق بحمدك وجلالك ، (وَنُقَدِّسُ لَكَ) يحتمل أن معناها : ونقدسك ، فتكون اللام مفيدة للتخصيص والإخلاص ، ويحتمل أن يكون : ونقدس لك أنفسنا ، أي : نطهرها بالأخلاق الجميلة ، كمحبة الله وخشيته وتعظيمه ، ونطهرها من الأخلاق الرذيلة. قال الله للملائكة : (إِنِّي أَعْلَمُ) من هذا الخليفة (ما لا تَعْلَمُونَ) ؛ لأن كلامكم بحسب ما ظننتم ، وأنا عالم بالظواهر والسرائر ، وأعلم أن الخير الحاصل بخلق هذا الخليفة أضعاف أضعاف ما في ضمن ذلك من الشر. فلو لم يكن في ذلك ، إلا أن الله تعالى أراد أن يجتبي منهم الأنبياء والصدّيقين ،

٤٦

والشهداء ، والصالحين ، ولتظهر آياته للخلق ، ويحصل من العبوديات التي لم تكن تحصل بدون خلق هذا الخليفة ، كالجهاد وغيره ، وليظهر ما كمن في غرائز المكلفين من الخير والشر بالامتحان ، وليتبين عدوه من وليه ، وحزبه من حربه ، وليظهر ما كمن في نفس إبليس من الشر الذي انطوى عليه ، واتصف به ، فهذه حكم عظيمة ، يكفي بعضها في ذلك.

[٣١] ثم لما كان قول الملائكة عليهم‌السلام ، فيه إشارة إلى فضلهم على الخليفة الذي يجعله الله في الأرض ، أراد الله تعالى أن يبين لهم من فضل آدم ما يعرفون به فضله ، وكمال حكمة الله وعلمه ، فقال : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) ، أي : أسماء الأشياء ، وما هو مسمى لها ، فعلّمه الاسم والمسمّى ، أي : الألفاظ والمعاني ، حتى المصغر من الأسماء والمكبر ، كالقصعة والقصيعة. (ثُمَّ عَرَضَهُمْ) ، أي : عرض المسميات (عَلَى الْمَلائِكَةِ) امتحانا لهم ، هل يعرفونها أم لا؟ (فَقالَ) (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في قولكم وظنكم ، أنكم أفضل من هذا الخليفة.

[٣٢] (قالُوا سُبْحانَكَ) ، أي : ننزهك من الاعتراض منا عليك ، ومخالفة أمرك ، (لا عِلْمَ لَنا) بوجه من الوجوه ، (إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) إياه ، فضلا منك وجودا ، (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) العليم الذي أحاط علما بكل شيء ، فلا يغيب عنه ، ولا يعزب مثقال ذرة في السماوات والأرض ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر. الحكيم : من له الحكمة التامة ، التي لا يخرج عنها مخلوق ، ولا يشذ عنها مأمور ، فما خلق شيئا إلا لحكمة ، ولا أمر بشيء إلا لحكمة ، والحكمة : وضع الشيء في موضعه اللائق به ، فأقروا ، واعترفوا بعلم الله وحكمته ، وقصورهم عن معرفة أدنى شيء ، واعترافهم بفضل الله عليهم ، وتعليمه إياهم ما لا يعلمون.

[٣٣] فحينئذ قال الله : (قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) ، أي : أسماء المسميات التي عرضها الله على الملائكة فعجزوا عنها. (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) تبين للملائكة فضل آدم عليهم ، وحكمة الباري وعلمه في استخلاف هذا الخليفة ، (قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وهو ما غاب عنا ، فلم نشاهده ، فإذا كان عالما بالغيب ، فالشهادة من باب أولى ، (وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ) ، أي : تظهرون (وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ). ثم أمرهم تعالى بالسجود لآدم ، إكراما له وتعظيما ، وعبودية لله تعالى ، فامتثلوا أمر الله ، وبادروا كلهم بالسجود ،

[٣٤] (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى) امتنع عن السجود ، واستكبر عن أمر الله وعلى آدم ، قال : (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) ، وهذا الإباء منه والاستكبار ، نتيجة الكفر الذي هو منطو عليه ، فتبينت حينئذ عداوته لله ، ولآدم ، وكفره واستكباره. وفي هذه الآيات من العبر والآيات إثبات الكلام لله تعالى ، وأنه لم يزل متكلما ، يقول ما شاء ، ويتكلم بما شاء ، وأنه عليم حكيم ، وفيه أن العبد إذا خفيت عليه حكمة الله في بعض المخلوقات والمأمورات فالواجب عليه التسليم ، واتهام عقله ، والإقرار لله بالحكمة ، وفيه اعتناء الله بشأن الملائكة ، وإحسانه بهم ، بتعليمهم ما جهلوا ، وتنبيههم على ما لم يعلموه. وفيه فضيلة العلم من وجوه : منها : أن الله تعرف لملائكته ، بعلمه وحكمته ، ومنها : أن الله عرّفهم فضل آدم بالعلم ، وأنه أفضل صفة تكون في العبد ، ومنها : أن الله أمرهم بالسجود لآدم ، إكراما له ، لما بان فضل

٤٧

علمه ، ومنها : أن الامتحان للغير ، إذا عجزوا عما امتحنوا به ، ثم عرفه صاحب الفضيلة ، فهو أكمل مما عرفه ابتداء ، ومنها : الاعتبار بحال أبوي الإنس والجن ، وبيان فضل آدم ، وأفضال الله عليه ، وعداوة إبليس له ، إلى غير ذلك من العبر.

[٣٥] لما خلق الله آدم وفضله ، أتم نعمته عليه ، بأن خلق منه زوجه ، ليسكن إليها ، ويستأنس بها ، وأمرهما بسكنى الجنة ، والأكل منها رغدا ، أي : واسعا هنيئا ، (حَيْثُ شِئْتُما) ، أي : من أصناف الثمار والفواكه ، وقال الله له : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) (١١٩). (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) نوع من أنواع شجر الجنة ، الله أعلم به ، وإنما نهاهما عنها امتحانا وابتلاء ، أو لحكمة غير معلومة لنا ، (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) دل على أن النهي للتحريم ، لأنه رتب الظلم عليه. فلم يزل عدوهما يوسوس لهما ، ويزين لهما تناول ما نهيا عنه ، حتى أزلّهما ، أي : حملهما على الزلل بتزيينه ، (وَقاسَمَهُما) بالله (إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) ، فاغترّا به وأطاعاه ، فأخرجهما مما كانا فيه ، من النعيم والرغد ، وأهبطوا إلى دار التعب والنصب والمجاهدة.

[٣٦] (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) ، أي : آدم وذريته ، أعداء لإبليس وذريته ، ومن المعلوم أن العدو يجدّ ويجتهد في ضرر عدوه وإيصال الشرّ إليه بكل طريق ، وحرمانه الخير بكل طريق ، ففي ضمن هذا ، تحذير بني آدم من الشيطان ، كما قال تعالى : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) (٦) ، (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً). ثم ذكر منتهى الإهباط ، فقال : (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) ، أي : مسكن وقرار ، (وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) انقضاء آجالكم ، ثم تنتقلون منها للدار التي خلقتم لها ، وخلقت لكم ، ففيها أن مدة هذه الحياة مؤقتة عارضة ، ليست مسكنا حقيقيا ، وإنما هي معبر يتزود منها لتلك الدار ، ولا تعمر للاستقرار.

[٣٧] (فَتَلَقَّى آدَمُ) ، أي : تلقف وتلقن ، وألهمه الله (مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) ، وهي قوله : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) الآية ، فاعترف بذنبه ، وسأل الله مغفرته (فَتابَ) الله (عَلَيْهِ) ، ورحمه (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ) لمن تاب إليه وأناب. وتوبته نوعان : توفيقه أولا ، ثم قبوله للتوبة إذا اجتمعت شروطها ثانيا. (الرَّحِيمُ) بعباده ، ومن رحمته بهم ، أن وفقهم للتوبة ، وعفا عنهم وصفح.

[٣٨] كرّر الإهباط ، ليرتب عليه ما ذكر وهو قوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) أي : وقت وزمان جاءكم مني ، يا معشر الثقلين ، هدىّ ، أي : رسول وكتاب يهديكم لما يقربكم مني ، ويدنيكم مني ، ويدنيكم من رضائي ، (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) منكم ، بأن آمن برسلي وكتبي ، واهتدى بهم ، وذلك بتصديق جميع أخبار الرسل والكتب ، والامتثال للأمر والاجتناب للنهي ، (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). وفي الآية الأخرى : (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى). فرتب على اتباع هداه أربعة أشياء : نفي الخوف والحزن ، والفرق بينهما ، أن المكروه إن كان قد مضى ، أحدث الحزن ، وإن كان منتظرا أحدث الخوف ، فنفاهما عمن اتبع الهدى ، وإذا انتفيا ثبت ضدهما ، وهو الهدى والسعادة ،

٤٨

فمن اتبع هداه ، حصل له الأمن والسعادة الدنيوية والأخروية والهدى ، وانتفى عنه كل مكروه ، من الخوف والحزن والضلال والشقاء ، فحصل له المرغوب ، واندفع عنه المرهوب. وهذا عكس من لم يتبع هداه ، فكفر به ، وكذب آياته.

[٣٩] (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) ، أي : الملازمون لها ، ملازمة الصاحب لصاحبه ، والغريم لغريمه ، (هُمْ فِيها خالِدُونَ) لا يخرجون منها ، ولا يفتر عنهم العذاب ولا هم ينصرون. وفي هذه الآيات وما أشبهها ، انقسام الخلق من الجن والإنس ، إلى أهل السعادة ، وأهل الشقاوة ، وفيها صفات الفريقين والأعمال الموجبة لذلك ، وأن الجن كالإنس في الثواب والعقاب ، كما أنهم مثلهم في الأمر والنهي. ثم شرع تعالى يذكّر بني إسرائيل نعمه عليهم وإحسانه ، فقال :

[٤٠] (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) ، المراد بإسرائيل : يعقوب عليه‌السلام ، والخطاب مع فرق بني إسرائيل ، الذين بالمدينة وما حولها ، ويدخل فيهم من أتى بعدهم ، فأمرهم بأمر عام ، فقال : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) ، وهو يشمل سائر النعم ، التي سيذكر في هذه السورة بعضها ، والمراد ذكرها بالقلب اعترافا ، وباللسان ثناء ، وبالجوارح باستعمالها فيما يحبه ويرضيه. (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) وهو ما عهده إليهم من الإيمان به ، وبرسله ، وإقامة شرعه ، (أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) وهو المجازاة على ذلك. والمراد بذلك : ما ذكره الله في قوله : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي) ، إلى قوله : (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ).

[٤١] ثم أمرهم بالسبب الحامل لهم ، على الوفاء بعهده ، وهو الرهبة منه تعالى ، وخشيته وحده ، فإن من خشيه ، أوجبت له خشيته امتثال أمره ، واجتناب نهيه. ثم أمرهم بالأمر الخاص ، الذي لا يتم إيمانهم ، ولا يصح إلا به ، فقال : (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ) وهو القرآن الذي أنزله على عبده ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمرهم بالإيمان به واتباعه ، ويستلزم ذلك ، الإيمان بمن أنزل عليه. وذكر الداعي لإيمانهم ، فقال : (مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) ، أي : موافقا له لا مخالفا ولا مناقضا ، فإذا كان موافقا لما معكم من الكتب ، غير مخالف لها ، فلا مانع لكم من الإيمان به ، لأنه جاء بما جاء به المرسلون ، فأنتم أولى من آمن به وصدق به ، لكونكم أهل الكتب والعلم. وأيضا فإن في قوله : (مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) إشارة إلى أنكم إن لم تؤمنوا به ، عاد ذلك عليكم ، بتكذيب ما معكم ، لأن ما جاء به هو الذي جاء به موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء ، فتكذيبكم له تكذيب لما معكم. وأيضا ، فإن في الكتب التي بأيديكم صفة هذا النبي الذي جاء بهذا القرآن والبشارة به ، فإن لم تؤمنوا به ، كذبتم ببعض ما أنزل إليكم ، ومن كذب ببعض ما أنزل إليه ، فقد كذب بجميعه ، كما أن من كفر برسوله ، فقد كذب الرسل جميعهم. فلما أمرهم بالإيمان به ، نهاهم وحذرهم عن ضده وهو الكفر به ، فقال : (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) ، أي : بالرسول والقرآن. وقوله : (أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) ، أبلغ من قوله : (ولا تكفروا به) ، لأنهم إذا كانوا أول كافر به ، كان فيه مبادرتهم إلى الكفر ، عكس ما ينبغي منهم ، وصار عليهم إثمهم وإثم من اقتدى بهم من بعدهم. ثم ذكر المانع لهم من الإيمان ، وهو اختيار العرض الأدنى على السعادة الأبدية ، فقال : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) ، وهو ما يحصل لهم من المناصب والمآكل ، التي يتوهمون انقطاعها ، إن آمنوا بالله ورسوله ، فاشتروها بآيات الله واستحبوها ، وآثروها. (وَإِيَّايَ) ، أي : لا غيري (فَاتَّقُونِ) فإنكم إذا اتقيتم الله وحده ، أوجبت لكم تقواه تقديم الإيمان بآياته على الثمن القليل ، كما أنكم إذا اخترتم الثمن القليل ، فهو دليل على ترحل التقوى من قلوبكم.

[٤٢] ثم قال : (وَلا تَلْبِسُوا) ، أي : تخلطوا (الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَ) فنهاهم عن شيئين ، عن خلط الحق بالباطل ، وكتمان الحق ؛ لأن المقصود من أهل الكتب والعلم ، تمييز الحق ، وإظهار الحق ، ليهتدي بذلك المهتدون ،

٤٩

ويرجع الضالون ، وتقوم الحجة على المعاندين ؛ لأن الله فصل آياته ، وأوضح بيناته ، ليميز الحق من الباطل ، ولتستبين سبيل المجرمين ، فمن عمل بهذا من أهل العلم ، فهو من خلفاء الرسل وهداة الأمم. ومن لبس الحق بالباطل ، فلم يميز هذا من هذا ، مع علمه بذلك ، وكتم الحق الذي يعلمه ، وأمر بإظهاره ، فهو من دعاة جهنم ، لأن الناس لا يقتدون في أمر دينهم بغير علمائهم ، فاختاروا لأنفسكم إحدى الحالتين. ثم قال :

[٤٣] (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) ، أي : ظاهرا وباطنا (وَآتُوا الزَّكاةَ) مستحقيها ، (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) ، أي : صلوا مع المصلين ، فإنكم إذا فعلتم ذلك مع الإيمان برسل الله وآيات الله ، فقد جمعتم بين الأعمال الظاهرة والباطنة ، وبين الإخلاص للمعبود ، والإحسان إلى عبيده وبين العبادات القلبية والبدنية والمالية. وقوله : (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) ، أي : صلوا مع المصلين ، ففيه الأمر بالجماعة للصلاة ووجوبها ، وفيه أن الركوع ركن من أركان الصلاة لأنه عبّر عن الصلاة بالركوع ، والتعبير عن العبادة بجزئها يدل على فرضيته فيها.

[٤٤] (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ) ، أي : بالإيمان والخير (وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) ، أي : تتركونها عن أمرها بذلك ، والحال : (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) ، وسمي العقل عقلا لأنه يعقل به ما ينفعه من الخير ، وينعقل به عما يضره ، وذلك أن العقل يحث صاحبه أن يكون أول فاعل لما يأمر به ، وأول تارك لما ينهى عنه ، فمن أمر غيره بالخير ولم يفعله ، أو نهاه عن الشر فلم يتركه ، دل على عدم عقله وجهله ، خصوصا إذا كان عالما بذلك ، فقد قامت عليه الحجة. وهذه الآية ، وإن كانت نزلت في سبب بني إسرائيل ، فهي عامة لكل أحد لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) (٣) ، وليس في الآية أن الإنسان إذا لم يقم بما أمر به أنه يترك الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، لأنها دلت على التوبيخ بالنسبة إلى الواجبين ، وإلا فمن المعلوم أن على الإنسان واجبين : أمر غيره ونهيه ، وأمر نفسه ونهيها ، فترك أحدهما لا يكون رخصة في ترك الآخر ، فإن الكمال أن يقوم الإنسان بالواجبين ، والنقص الكامل أن يتركهما ، وأما قيامه بأحدهما دون الآخر ، فليس في رتبة الأول ، وهو دون الأخير ، وأيضا فإن النفوس مجبولة على عدم الانقياد لمن يخالف قوله فعله ، فاقتداؤهم بالأفعال أبلغ من اقتدائهم بالأقوال المجردة.

[٤٥] (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) أمرهم الله أن يستعينوا في أمورهم كلها بالصبر بجميع أنواعه ، وهو الصبر عن معصية الله حتى يتركها ، والصبر على أقدار الله المؤلمة فلا يتسخطها ، فبالصبر وحبس النفس على ما أمر الله بالصبر عليه معونة عظيمة على كل أمر من الأمور ، ومن يتصبر يصبره الله ، وكذلك الصلاة ، التي هي ميزان الإيمان ، وتنهى عن الفحشاء والمنكر ، يستعان بها على كل أمر من الأمور (وَإِنَّها) أي : الصلاة (لَكَبِيرَةٌ) ، أي : شاقة (إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) فإنها سهلة عليهم ، لأن الخشوع ، وخشية الله ، ورجاء ما عنده ، يوجب له فعلها ، منشرحا صدره ، لترقبه للثواب ، وخشيته من العقاب بخلاف من لم يكن كذلك ، فإنه لا داعي له يدعوه إليها ، وإذا فعلها صارت من

٥٠

أثقل الأشياء عليه. والخشوع هو : خضوع القلب وطمأنينته ، وسكونه لله تعالى ، وانكساره بين يديه ، ذلا وافتقارا ، وإيمانا به وبلقائه.

[٤٦] ولهذا قال : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ) ، أي : يستيقنون (أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) فيجازيهم بأعمالهم (وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) ، فهذا الذي خفف عليهم العبادات وأوجب لهم التسلي في المصيبات ، ونفس عنهم الكربات ، وزجرهم عن فعل السيئات ، فهؤلاء لهم النعيم المقيم في الغرفات العاليات ، ومن لم يؤمن بلقاء ربه ، كانت الصلاة وغيرها من العبادات من أشق شيء عليه. ثم كرر على بني إسرائيل التذكير بنعمته ، وعظا لهم ، وتحذيرا وحثّا.

[٤٨] وخوّفهم بيوم القيامة الذي (لا تَجْزِي) فيه ، أي : لا تغني (نَفْسٌ) ولو كانت من الأنفس الكريمة كالأنبياء والصالحين (عَنْ نَفْسٍ) ولو كانت من العشيرة الأقربين (شَيْئاً) لا كبيرا ولا صغيرا ، وإنما ينفع الإنسان عمله الذي قدمه ، (وَلا يُقْبَلُ مِنْها) ، أي : النفس ، (شَفاعَةٌ) لأحد بدون إذن الله ورضاه عن المشفوع له ، ولا يرضى من العمل إلا ما أريد به وجهه ، وكان على السبيل والسنة ، (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) ، أي : فداء (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ) ولا يقبل منهم ذلك (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) ، أي : يدفع عنهم المكروه ، فنفى الانتفاع من الخلق بوجه من الوجوه. فقوله : (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) هذا في تحصيل المنافع ، (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) هذا في دفع المضار ، فهذا النفي للأمر المستقبل به النافع. ولا تقبل منها شفاعة ، ولا يؤخذ منها عدل ، هذا نفي للنفع الذي يطلب ممن يملكه بعوض كالعدل ، أو بغيره كالشفاعة ، فهذا يوجب للعبد أن ينقطع قلبه من التعلق بالمخلوقين ، لعلمه أنهم لا يملكون له مثقال ذرة من النفع ، وأن يعلقه بالله الذي يجلب المنافع ، ويدفع المضار ، فيعبده وحده لا شريك له ، ويستعين على عبادته.

[٤٩] هذا شروع في تعداد نعمه على بني إسرائيل على وجه التفصيل ، فقال : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) ، أي : من فرعون وملئه وجنوده ، وكانوا قبل ذلك (يَسُومُونَكُمْ) ، أي : يولونهم ويستعملونهم (والمعنى يذيقونكم) ، (سُوءَ الْعَذابِ) ، أي : أشدّه بأن كانوا (يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) خشية نموكم (وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) ، أي : فلا يقتلونهن ، فأنتم بين قتيل ومذلل بالأعمال الشاقة ، مستحي على وجه المنة عليه والاستعلاء عليه فهذا غاية الإهانة ، فمنّ الله عليهم بالنجاة التامة وإغراق عدوهم وهم ينظرون لتقرّ أعينهم. (وَفِي ذلِكُمْ) ، أي : الإنجاء (بَلاءٌ) ، أي : إحسان (مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) ، فهذا مما يوجب عليكم الشكر والقيام بأوامره.

[٥١] ثم ذكر منته عليهم بوعده لموسى أربعين ليلة لينزل عليهم التوراة المتضمنة للنعم العظيمة والمصالح العميمة ، ثم إنهم لم يصبروا قبل استكمال الميعاد حتى عبدوا العجل من بعده ، أي : ذهابه. (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) تعلمون بظلمكم ، قد قامت عليكم الحجة ، فهو أعظم جرما وأكبر إثما.

[٥٢ ـ ٥٤] ثم إنه أمركم بالتوبة على لسان نبيه موسى بأن يقتل بعضكم بعضا ، فعفا الله عنكم بسبب ذلك (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الله.

[٥٥] (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) ، وهذا غاية الجرأة على الله وعلى رسوله ، (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) : إما الموت ، أو الغشية العظيمة ، (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) وقوع ذلك ، كل ينظر إلى صاحبه.

[٥٦] (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٥٦).

[٥٧] ثم ذكر نعمته عليهم في التيه والبرية الخالية من الظلال وسعة الأرزاق فقال : (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَ) وهو اسم جامع لكل رزق يحصل بلا تعب ، ومنه الزنجبيل والكمأة والخبز وغير ذلك ، (وَالسَّلْوى) طائر صغير يقال له السمانى ، طيب اللحم ، فكان ينزل عليهم من المن والسلوى ما يكفيهم ويقيتهم (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) ، أي : رزقا لا يحصل نظيره لأهل المدن المترفهين ، فلم يشكروا هذه النعمة ، واستمروا

٥١

على قساوة القلوب وكثرة الذنوب. (وَما ظَلَمُونا) يعني بتلك الأفعال المخالفة لأوامرنا لأن الله لا تضره معصية العاصين ، كما لا تنفعه طاعات الطائعين ، (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) فيعود ضرره عليهم.

[٥٨] وهذا أيضا من نعمته عليهم بعد معصيتهم إياه ، فأمرهم بدخول قرية تكون لهم عزا ووطنا ومسكنا ، ويحصل لهم فيها الرزق الرغد ، وأن يكون دخولهم على وجه خاضعين لله فيه بالفعل ، وهو دخول الباب (سُجَّداً) ، أي : خاضعين ذليلين ، وبالقول ، وهو أن يقولوا (حِطَّةٌ) ، أي : أن يحط عنهم خطاياهم بسؤالهم إياه مغفرته. (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ) بسؤالكم المغفرة ، (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) بأعمالهم ، أي : جزاء عاجلا وآجلا.

[٥٩] (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) منهم ، ولم يقل فبدلوا لأنهم لم يكونوا كلهم بدلوا (قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) فقالوا بدل حطة : حبة في حنطة ، استهانة بأمر الله ، واستهزاء ، وإذا بدلوا القول مع خفته فتبديلهم للفعل من باب أولى وأحرى ، ولهذا دخلوا يزحفون على أدبارهم ، ولما كان هذا الطغيان أكبر سبب لوقوع عقوبة الله بهم ، قال : (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) «منهم» (رِجْزاً) ، أي : عذابا (مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) بسبب فسقهم وبغيهم.

[٦٠] (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ) ، أي : طلب لهم ماء يشربون منه ، (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) ، إما حجر مخصوص معلوم عنده ، وإما اسم جنس ، (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) وقبائل بني إسرائيل اثنتا عشرة قبيلة ، (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) ، أي : محلهم الذي يشربون عليه من هذه الأعين ، فلا يزاحم بعضهم بعضا ، بل يشربونه متهنئين لا متكدرين ، ولهذا قال : (كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ) ، أي : الذي آتاكم من غير سعي ولا تعب ، (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) ، أي : تخربوا على وجه الإفساد.

[٦١] (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى) ، أي : واذكروا ، إذ قلتم لموسى على وجه التملل لنعم الله والاحتقار لها ، (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) ، أي : جنس من الطعام ، وإن كان كما تقدم أنواعا ، لكنها لا تتغير ، (فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها) ، أي : نباتها الذي ليس بشجر يقوم على ساقه ، (وَقِثَّائِها) وهو الخيار (وَفُومِها) ، أي : ثومها ، (وَعَدَسِها وَبَصَلِها) والعدس والبصل معروف. (قالَ) لهم موسى : (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى) وهو الأطعمة المذكورة ، (بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) وهو المن والسلوى ، فهذا غير لائق بكم ، فإن هذه الأطعمة التي طلبتموها ، أيّ مصر هبطتموه وجدتموها ، وأما طعامكم الذي منّ الله به عليكم ، فهو خير الأطعمة وأشرفها ، فكيف تطلبون به بدلا؟ ولما كان الذي جرى منهم فيه أكبر دليل على قلة صبرهم واحتقارهم لأوامر الله ونعمه ، جازاهم من جنس عملهم ، فقال : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) التي تشاهد على ظاهر أبدانهم (وَالْمَسْكَنَةُ) بقلوبهم ، فلم تكن أنفسهم عزيزة ، ولا لهم همم عالية ، بل أنفسهم أنفس مهينة ، وهممهم أردا الهمم. (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) ، أي : لم تكن غنيمتهم التي رجعوا بها وفازوا ، إلا أن رجعوا بسخطه عليهم ، فبئست الغنيمة غنيمتهم ، وبئست الحالة حالتهم.

٥٢

(ذلِكَ) الذي استحقوا به غضبه (بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) الدالات على الحق ، الموضحة له ، فلما كفروا بها عاقبهم بغضبه عليهم ، وبما كانوا (يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ). وقوله : (بِغَيْرِ الْحَقِ) زيادة شناعة ، وإلا فمن المعلوم أن قتل النبيين لا يكون بحق ، لكن لئلا يظن جهلهم وعدم علمهم. (ذلِكَ بِما عَصَوْا) بأن ارتكبوا معاصي الله (وَكانُوا يَعْتَدُونَ) على عباد الله ، فإن المعاصي يجر بعضها بعضا ، فالغفلة ينشأ عنها الذنب الصغير ، ثم ينشأ عنها الذنب الكبير ، ثم ينشأ عنها أنواع البدع والكفر وغير ذلك ، فنسأل الله العافية من كل بلاء. واعلم أن الخطاب في هذه الآيات لأمة بني إسرائيل الذين كانوا موجودين وقت نزول القرآن ، وهذه الأفعال المذكورة خوطبوا بها وهي فعل أسلافهم ، ونسبت لهم لفوائد عديدة منها أنهم كانوا يتمدحون ويزكون أنفسهم ، ويزعمون فضلهم على محمد ومن آمن به ، فبيّن الله من أحوال سلفهم التي قد تقررت عندهم ، ما يبين به لكل واحد منهم أنهم ليسوا من أهل الصبر ومكارم الأخلاق ، ومعالي الأعمال ، فإذا كانت هذه حالة سلفهم ـ مع أن المظنة أنهم أولى وأرفع حالة ممن بعدهم ـ فكيف الظن بالمخاطبين؟ ومنها : أن نعمة الله على المتقدمين منهم ، نعمة واصلة إلى المتأخرين ، والنعمة على الآباء ، نعمة على الأبناء ، فخوطبوا بها ، لأنها نعم تشملهم وتعمهم. ومنها : أن الخطاب لهم بأفعال غيرهم ، مما يدل على أن الأمة المجتمعة على دين تتكافل وتتساعد على مصالحها ، حتى كان متقدمهم ومتأخرهم في وقت واحد ، وكان الحادث من بعضهم حادثا من الجميع ؛ لأن ما يعمله بعضهم من الخير ، يعود بمصلحة الجميع ، وما يعمله من الشر يعود بضرر الجميع. ومنها : أن أفعالهم أكثرهم لم ينكرها ، والراضي بالمعصية شريك للعاصي ، إلى غير ذلك من الحكم ، التي لا يعلمها إلا الله.

[٦٢] ثم قال تعالى حاكما بين الفرق الكتابية : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٦٢) ، وهذا الحكم على أهل الكتاب خاصة ، لأن الصابئين ، الصحيح ، أنهم من جملة فرق النصارى ، فأخبر الله أن المؤمنين من هذه الأمة ، واليهود والنصارى ، والصابئين ، من آمن بالله واليوم الآخر ، وصدّقوا رسلهم ، فإن لهم الأجر العظيم ، والأمن ، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وأما من كفر منهم بالله ورسله واليوم الآخر ، فهو بضد هذه الحال ، فعليه الخوف والحزن. والصحيح أن هذا الحكم بين هذه الطوائف ، من حيث هم ، لا بالنسبة إلى الإيمان بمحمد ، فإن هذا إخبار عنهم قبل بعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن هذا مضمون أحوالهم. وهذه طريقة القرآن إذا وقع في بعض النفوس عند سياق الآيات بعض الأوهام ، فلا بد أن تجد ما يزيل ذلك الوهم ، لأنه تنزيل ممن يعلم الأشياء قبل وجودها ، ومن رحمته وسعت كل شيء. وذلك ـ والله أعلم ـ أنه لما ذكر بني إسرائيل وذمهم ، وذكر معاصيهم وقبائحهم ، ربما وقع في بعض النفوس أنهم كلهم يشملهم الذم ، فأراد الباري تعالى أن يبين من لا يلحقه الذم منهم بوصفه. ولما كان أيضا ، ذكر بني إسرائيل خاصة ، يوهم الاختصاص بهم ، ذكر تعالى حكما عاما يشمل الطوائف كلها ، ليتضح الحق ، ويزول التوهم

٥٣

والإشكال ، فسبحان من أودع في كتابه ما يبهر عقول العالمين.

[٦٣] ثم عاد تبارك وتعالى يوبخ بني إسرائيل بما فعل سلفهم ، فقال : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) الآية ، أي : واذكروا (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) وهو العهد الثقيل المؤكد بالتخويف لهم ، برفع الطور فوقهم ، وقيل لهم : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ) من التوراة (بِقُوَّةٍ) ، أي : بجد واجتهاد ، وصبر على أوامر الله ، (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) ، أي : ما في كتابكم ، بأن تتلوه وتتعلموه ، (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) عذاب الله وسخطه ، أو لتكونوا من أهل التقوى.

[٦٤] فبعد هذا التأكيد البليغ (تَوَلَّيْتُمْ) وأعرضتم ، وكان ذلك موجبا لأن يحل بكم أعظم العقوبات ، ولكن (فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ).

[٦٥] (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) ، أي :

ولقد تقرر عندكم حالة (الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) وهم الذين ذكر الله قصتهم مبسوطة في سورة الأعراف في قوله : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) الآيات. فأوجب لهم هذا الذنب العظيم ، أن غضب الله عليهم ، وجعلهم (قِرَدَةً خاسِئِينَ) حقيرين ذليلين.

[٦٦] وجعل الله هذه العقوبة (نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها) ، أي : لمن حضرها من الأمم ، وبلغه خبرها ، ممن هو في وقتهم ، (وَما خَلْفَها) ، أي : من بعدها ، فتقوم على العباد حجة الله ، وليرتدعوا عن معاصيه ، ولكنها لا تكون موعظة نافعة إلا للمتقين ، وأما من عداهم فلا ينتفعون بالآيات.

[٦٧] (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) ، أي : واذكروا ما جرى لكم مع موسى ، حين قتلتم قتيلا ، فادارأتم فيه ، أي : تدافعتم واختلفتم في قاتله ، حتى تفاقم الأمر بينكم وكاد ـ لو لا تبيين الله لكم ـ يحدث بينكم شر كبير ، فقال لكم موسى في تبيين القاتل : اذبحوا بقرة ، وكان من الواجب المبادرة إلى امتثال أمره ، وعدم الاعتراض عليه ، ولكنهم أبوا إلا الاعتراض ، فقالوا : (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) ، فقال نبي الله : (أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) ، فإن الجاهل هو الذي يتكلم بالكلام الذي لا فائدة فيه ، وهو الذي يستهزىء بالناس. وأما العاقل ، فيرى أن من أكبر العيوب المزرية بالدين والعقل ، استهزاءه بمن هو آدمي مثله ، وإن كان قد فضل عليه ، فتفضيله يقتضي منه الشكر لربه ، والرحمة لعباده. فلما قال لهم موسى ذلك ، علموا أن ذلك صدق ، فقالوا :

[٦٨] (ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) ، أي : ما سنها؟ (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ) ، أي : كبيرة (وَلا بِكْرٌ) ، أي : صغيرة (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) ، أي : متوسطة بين السنين المذكورين سابقا ، وهما الصغر والكبر. (فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ) واتركوا التشديد والتعنت.

[٦٩] (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها) ، أي : شديد (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) من حسنها.

[٧٠] (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) ، فلم نهتد إلى ما نريد (وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ).

٥٤

(قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ) ، أي : مذللة بالعمل ، (تُثِيرُ الْأَرْضَ) بالحراثة ، (وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ) ، أي : ليست بساقية ، (مُسَلَّمَةٌ) من العيوب أو من العمل (لا شِيَةَ فِيها) ، أي : لا لون فيها غير لونها الموصوف المتقدم. (قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ) ، أي : بالبيان الواضح ، وهذا من جهلهم ، وإلا فقد جاءهم بالحق أول مرة ، فلو أنهم اعترضوا أي بقرة ، لحصل المقصود ، ولكنهم شددوا بكثرة الأسئلة فشدد الله عليهم ، ولو لم يقولوا «إن شاء الله» لم يهتدوا أيضا إليها. (فَذَبَحُوها) ، أي : البقرة التي وصفت بتلك الصفات ، (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) بسبب التعنت الذي جرى منهم.

[٧٣] فلما ذبحوها ، قلنا لهم اضربوا القتيل ببعضها ، أي : بعضو منها ، إما بعضو معين ، أو أي عضو منها ، فليس في تعيينه فائدة ، فضربوه ببعضها فأحياه الله ، وأخرج ما كانوا يكتمون ، فأخبر بقاتله ، وكان في إحيائه ـ وهم يشاهدون ـ ما يدل على إحياء الله الموتى ، لعلكم تعقلون ، فتنزجرون عن ما يضركم.

[٧٤] (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ) ، أي : اشتدت وغلظت ، فلم تؤثر فيها الموعظة ، (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) ، أي : من بعد ما أنعم الله عليكم بالنعم العظيمة ، وأراكم الآيات ، ولم يكن ينبغي أن تقسو قلوبكم لأن ما شاهدتم مما يوجب رقة القلب وانقياده. ثم وصف قسوتها بأنها (كَالْحِجارَةِ) التي هي أشد قسوة من الحديد ، لأن الحديد والرصاص إذا أذيب في النار ذاب بخلاف الأحجار. وقوله : (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) ، أي : إنها لا تقصر عن قساوة الأحجار ، وليست «أو» بمعنى «بل». ثم ذكر فضيلة الأحجار على قلوبهم ، فقال : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) فبهذه الأمور فضلت قلوبكم. ثم توعدهم تعالى أشد الوعيد ، فقال : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ، بل هو عالم بها حافظ لصغيرها وكبيرها ، وسيجازيكم على ذلك ، أتم الجزاء وأوفاه. واعلم أن كثيرا من المفسرين رحمهم‌الله ، قد أكثروا في حشو تفاسيرهم من قصص بني إسرائيل ، ونزلوا عليها الآيات القرآنية ، وجعلوها تفسيرا لكتاب الله ، محتجين بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج». والذي أرى أنه ـ وإن جاز نقل أحاديثهم على وجه ـ تكون مفردة غير مقرونة ، ولا منزلة على كتاب الله ، فإنه لا يجوز جعلها تفسيرا لكتاب الله قطعا إذا لم تصح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك أن مرتبتها كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم» ، فإذا كانت مرتبتها أن تكون مشكوكا فيها ، وكان من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن القرآن يجب الإيمان به ، والقطع بألفاظه ومعانيه ، فلا يجوز أن تجعل تلك القصص المنقولة بالروايات المجهولة ، التي يغلب على الظن كذبها ، أو كذب أكثرها ، معاني لكتاب الله ، مقطوعا بها ، ولا يستريب بها أحد ، ولكن بسبب الغفلة عن هذا ، حصل ما حصل ، والله الموفق.

[٧٥] (أَفَتَطْمَعُونَ) ، هذا قطع لأطماع المؤمنين من إيمان أهل الكتاب ، أي : فلا تطمعوا في إيمانهم. وأخلاقهم لا تقتضي الطمع فيهم ، فإنهم كانوا يحرفون كلام الله من بعد ما عقلوه وعلموه ، فيضعون له معاني ، ما أرادها الله ، ليوهموا الناس أنها من عند الله ، وما هي من عند الله ، فإذا كانت حالهم في كتابهم الذي يرونه شرفهم ودينهم ،

٥٥

يصدون به الناس عن سبيل الله ، فكيف يرجى منهم إيمان لكم؟ فهذا من أبعد الأشياء.

[٧٦] ثم ذكر حال منافقي أهل الكتاب فقال : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) فأظهروا لهم الإيمان قولا بألسنتهم ، ما ليس في قلوبهم ، (وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) فلم يكن عندهم أحد من غير أهل دينهم ، قال بعضهم لبعض : (أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) ، أي : أتظهرون لهم الإيمان وتخبرونهم أنكم مثلهم ، فيكون ذلك حجة لهم عليكم؟ يقولون : إنهم قد أقروا بأن ما نحن عليه حق ، وما هم عليه باطل ، فيحتجون عليكم بذلك عند ربهم (أَفَلا تَعْقِلُونَ) ، أي : أفلا يكون لكم عقل ، فتتركون ما هو حجة عليكم؟ هذا يقوله بعضهم لبعض.

[٧٧] (أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) (٧٧) فهم وإن أسرّوا ما يعتقدونه فيما بينهم ، وزعموا أنهم بإسرارهم ، لا يتطرق عليهم حجة للمؤمنين ، فإن هذا غلط منهم وجهل كبير ، فإن الله يعلم سرهم وعلنهم ، فيظهر لعباده ما هم عليه.

[٧٨] (وَمِنْهُمْ) ، أي : من أهل الكتاب (أُمِّيُّونَ) ، أي : عوام ، وليسوا من أهل العلم ، (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ) ، أي : ليس لهم حظ من كتاب الله إلا التلاوة فقط ، وليس عندهم خبر بما عند الأولين الذين يعلمون حق المعرفة حالهم ، وهؤلاء إنما معهم ظنون وتقاليد لأهل العلم منهم. فذكر في هذه الآيات علماءهم ، وعوامهم ، ومنافقيهم ، ومن لم ينافق منهم ، فالعلماء منهم متمسكون بما هم عليه من الضلال. والعوام مقلدون لهم ، لا بصيرة عندهم فلا مطمع لكم في الطائفتين.

[٧٩] (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ) ، توعد تعالى المحرّفين للكتاب ، الذين يقولون لتحريفهم وما يكتبون (هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ) ، وهذا فيه إظهار الباطل وكتم الحق ، وإنما فعلوا ذلك مع علمهم (لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) ، والدنيا كلها ـ من أولها إلى آخرها ـ ثمن قليل. فجعلوا باطلهم شركا يصطادون به ما في أيدي الناس ، فظلموهم من وجهين : من جهة تلبيس دينهم عليهم ، ومن جهة أخذ أموالهم بغير حق ، بل بأبطل الباطل ، وذلك أعظم ممن يأخذها غصبا وسرقة ونحوهما ، ولهذا توعدهم بهذين الأمرين فقال : (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ) ، أي : من التحريف والباطل ، (وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) من الأموال ، والويل : شدة العذاب والحسرة ، وفي ضمنها الوعيد الشديد. قال شيخ الإسلام لما ذكر هذه الآيات من قوله : (أَفَتَطْمَعُونَ) ، إلى : (يَكْسِبُونَ) : فإن الله ذم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه ، وهو متناول لمن حمل الكتاب والسنة ، على ما أصله من البدع الباطلة. وذمّ الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني ، وهو متناول لمن ترك سر تدبر القرآن ولم يعلم إلا مجرد تلاوة حروفه ، ومتناول لمن كتب كتابا بيده ، مخالفا لكتاب الله ، لينال به دنيا ، وقال : إنه من عند الله ، مثل أن يقول : هذا هو الشرع والدين ، وهذا معنى الكتاب والسنة ، وهذا معقول السلف والأئمة ، وهذا هو أصول الدين ، الذي يجب اعتقاده على الأعيان والكفاية ، ومتناول لمن كتم ما عنده من الكتاب والسنة ، لئلا يحتج به مخالفة في الحق الذي يقوله. وهذه الأمور كثيرة جدا في أهل

٥٦

الأهواء جملة ، كالرافضة ، وتفصيلا مثل كثير من المنتسبين إلى الفقهاء. انتهى.

[٨٠] ذكر أفعالهم القبيحة ، ثم ذكر ـ مع هذا ـ أنهم يزكون أنفسهم ، ويشهدون لها بالنجاة من عذاب الله ، والفوز بثوابه ، وأنهم لن تمسهم النار إلا أياما معدودة ، أي : قليلة تعد بالأصابع ، فجمعوا بين الإساءة والأمن. ولما كان هذا مجرد دعوى ، رد الله تعالى عليهم ، فقال : (قُلْ) لهم يا أيها الرسول (أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً) ، أي : بالإيمان به وبرسله وبطاعته ، فهذا الوعد الموجب لنجاة صاحبه الذي لا يتغير ولا يتبدل ، (أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)؟ فأخبر تعالى أن صدق دعواهم متوقف على أحد هذين الأمرين اللذين لا ثالث لهما. إما أن يكونوا قد اتخذوا عند الله عهدا ، فتكون دعواهم صحيحة. وإما أن يكونوا متقولين عليه ، فتكون كاذبة ، فيكون أبلغ لخزيهم وعذابهم. وقد علم من حالهم أنهم لم يتخذوا عند الله عهدا ، لتكذيبهم كثيرا من الأنبياء ، حتى وصلت بهم الحال إلى أن قتلوا طائفة منهم ، ولنكولهم عن طاعة الله ونقضهم المواثيق ، فتعين بذلك ، أنهم متقولون مختلقون ، قائلون عليه ما لا يعلمون ، والقول عليه بلا علم من أعظم المحرمات ، وأشنع القبيحات.

[٨١] ثم ذكر تعالى حكما عاما لكل أحد ، يدخل فيه بنو إسرائيل وغيرهم ، وهو الحكم الذي لا حكم غيره ، لا أمانيهم ودعاويهم بصفة الهالكين والناجين ، فقال : (بَلى) ، أي : ليس الأمر كما ذكرتم ، فإنه قول لا حقيقة له ، ولكن (مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) وهو نكرة في سياق الشرط ، فيعم الشرك فما دونه ، والمراد به ـ هنا ـ الشرك ، بدليل قوله : (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) ، أي : أحاطت بعاملها ، فلم تدع له منفذا ، وهذا لا يكون إلا الشرك ، فإن من معه الإيمان لا تحيط به خطيئته. (فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) ، وقد احتج بها الخوارج على كفر صاحب المعصية ، وهي حجة عليهم كما ترى ، فإنها ظاهرة في الشرك ، وهكذا كل مبطل يحتج بآية ، أو حديث صحيح على قوله الباطل ، فلا بد أن يكون فيما احتج به حجة عليه.

[٨٢] (وَالَّذِينَ آمَنُوا) بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ، ولا تكون الأعمال صالحة إلا بشرطين : أن تكون خالصة لوجه الله ، متبعا بها سنة رسوله. فحاصل هاتين الآيتين ، أن أهل النجاة والفوز هم أهل الإيمان والعمل الصالح ، والهالكون أهل النار هم المشركون بالله ، الكافرون به. فهذه الشرائع من أصول الدين ، التي أمر الله بها في كل شريعة ، لاشتمالها على المصالح العامة في كل زمان ومكان ، فلا يدخلها نسخ ، كأصل الدين ، ولهذا أمرنا بها في قوله : (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) إلى آخر الآية.

[٨٣] فقوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) ، هذا من قسوتهم أن كل أمر أمروا به ، استعصوا فلا يقبلونه إلا بالأيمان الغليظة ، والعهود الموثقة. (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) هذا أمر بعبادة الله وحده ، ونهي عن الشرك به ، وهذا أصل الدين ، فلا تقبل الأعمال كلها ، إن لم يكن هذا أساسها ، فهذا حق الله تعالى على عباده ، ثم قال : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) ، أي : أحسنوا بالوالدين إحسانا ، وهذا يعم كل إحسان ، قولي وفعلي ، مما هو إحسان إليهم ، وفيه النهي

٥٧

عن الإساءة إلى الوالدين ، أو عدم الإحسان والإساءة ، لأن الواجب الإحسان ، والأمر بالشيء نهي عن ضده. وللإحسان ضدان : الإساءة ، وهي أعظم جرما ، وترك الإحسان بدون إساءة ، وهذا محرم ، لكن لا يجب أن يلحق بالأول ، وكذا يقال في صلة الأقارب واليتامى والمساكين. وتفاصيل الإحسان لا تنحصر بالعد ، بل تكون بالحد ، كما تقدم. ثم أمر بالإحسان إلى الناس عموما ، فقال : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) ، ومن القول الحسن أمرهم بالمعروف ، ونهيهم عن المنكر ، وتعليمهم العلم ، وبذل السلام ، والبشاشة وغير ذلك من كل كلام طيب. ولما كان الإنسان لا يسع الناس بماله ، أمر بأمر يقدر به على الإحسان إلى كل مخلوق ، وهو الإحسان بالقول ، فيكون في ضمن ذلك النهي عن الكلام القبيح للناس حتى للكفار ، ولهذا قال تعالى : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ). ومن أدب الإنسان الذي أدب الله به عباده ، أن يكون الإنسان نزيها في أقواله وأفعاله ، غير فاحش ولا بذيء ، ولا شاتم ، ولا مخاصم ، بل يكون حسن الخلق ، واسع الحلم ، مجاملا لكل أحد ، صبورا على ما يناله من أذى الخلق ، امتثالا لأمر الله ، ورجاء لثوابه. ثم أمرهم بإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، لما تقدم أن الصلاة متضمنة للإخلاص للمعبود ، والزكاة متضمنة للإحسان إلى العبيد. ثم بعد هذا الأمر لكم ، بهذه الأوامر الحسنة التي إذا نظر إليها البصير العاقل ، عرف أن من إحسان الله على عباده أن أمرهم بها ، وتفضل بها عليهم ، وأخذ المواثيق عليهم (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) على وجه الإعراض ، لأن المتولي قد يتولى ، وله نية رجوع إلى ما تولى عنه ، وهؤلاء ليس لهم رغبة ولا رجوع في هذه الأوامر ، فنعوذ بالله من الخذلان. وقوله : (إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ) ، هذا استثناء ، لئلا يوهم أنهم تولوا كلهم ، فأخبر أن قليلا منهم ، عصمهم الله وثبتهم.

ولهذا الفعل المذكور في هذه الآية ، فعل للذين كانوا في زمن الوحي بالمدينة ، وذلك أن الأوس والخزرج ـ وهم الأنصار ـ كانوا قبل مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مشركين ، وكانوا يقتتلون على عادة الجاهلية ، فنزلت عليهم الفرق الثلاث من فرق اليهود : بنو قريظة ، وبنو النضير ، وبنو قينقاع ، فكل فرقة منهم ، حالفت فرقة من أهل المدينة.

[٨٤ ـ ٨٥] فكانوا إذا اقتتلوا ، أعان اليهودي حليفه على مقاتليه ، الذين تعينهم الفرقة الأخرى من اليهود ، فيقتل اليهودي اليهودي ، ويخرجه من دياره إذا حصل جلاء ونهب ، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها ، وكان قد حصل أسارى بين الطائفتين فدى بعضهم بعضا. والأمور الثلاثة كلها قد فرضت عليهم ، ففرض عليهم أن لا يسفك بعضهم دم بعض ، ولا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم ، وإذا وجدوا أسيرا منهم ، وجب عليهم فداؤه ، فعملوا بالأخير وتركوا الأولين ، فأنكر الله عليهم ذلك ، فقال : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ) وهو فداء الأسير ، (وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) وهو القتل والإخراج. وفيها دليل على أن الإيمان يقتضي فعل الأوامر ، واجتناب النواهي ، وأن فعل المأمورات من الإيمان ، قال تعالى : (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) وقد وقع ذلك. فأخزاهم الله ، وسلّط رسوله عليهم ، فقتل من قتل ، وسبى من سبى منهم ، وأجلى من أجلى. (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ) ، أي : أعظمه (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

[٨٦] ثم أخبر تعالى عن السبب الذي أوجب لهم الكفر ببعض الكتاب ، والإيمان ببعضه ، فقال : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) توهموا أنهم إن لم يعينوا حلفاءهم حصل لهم عار ، فاختاروا النار على العار ، فلهذا قال : (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) ، بل هو باق على شدته ، ولا يحصل لهم راحة بوقت من الأوقات ، (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) ، أي : يدفع عنهم مكروه.

[٨٧] يمتن تعالى على بني إسرائيل ، أن أرسل لهم كليمه موسى ، وآتاه التوراة ، ثم تابع بعده بالرسل الذين يحكمون بالتوراة ، إلى أن ختم أنبياءهم بعيسى عليه‌السلام ، وآتاه من الآيات البينات ، ما يؤمن على مثله البشر ، (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) ، أي : قواه الله بروح القدس. قال أكثر المفسرين : إنه جبريل عليه‌السلام ، وقيل : إنه

٥٨

الإيمان الذي يؤيد الله به عباده. ثم مع هذه النعم التي لا يقدر قدرها ، لما أتوكم (بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ) عن الإيمان بهم ، (فَفَرِيقاً) منهم (كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) ، فقدمتم الهوى على الهدى ، وآثرتم الدنيا على الآخرة ، وفيها من التوبيخ والتشديد ، ما لا يخفى.

[٨٨ ـ ٩٠] (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) ، أي : اعتذروا عن الإيمان لما دعوتهم إليه ، يا أيها الرسول ، بأن قلوبهم غلف ، أي : عليها غلاف وأغطية ، فلا تفقه ما تقول ، يعني ، فيكون لهم ـ بزعمهم ـ عذر لعدم العلم ، وهذا كذب منهم ، فلهذا قال تعالى : (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) ، أي : أنهم مطرودون ملعونون ، بسبب كفرهم ، فقليلا المؤمن منهم ، أو قليلا إيمانهم ، وكفرهم هو الكثير. أي : ولما جاءهم من عند الله على يد أفضل الخلق ، وخاتم الأنبياء ، الكتاب المشتمل على تصديق ما معهم من التوراة ، وقد علموا به ، وتيقنوه على أنهم إذا كان وقع بينهم وبين المشركين في الجاهلية حروب ، استنصروا بهذا النبي ، وتوعدوهم بخروجه ، وأنهم يقاتلون المشركين معه. فلما جاءهم هذا الكتاب والنبي الذي عرفوا ، كفروا به ، بغيا وحسدا ، أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده ، فلعنهم الله ، وغضب عليهم غضبا بعد غضب ، لكثرة كفرهم ، وتوالي شكهم وشركهم. (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) ، أي : مؤلم موجع ، وهو صلي الجحيم ، وفوت النعيم المقيم ، فبئس الحال حالهم ، وبئس ما استعاضوا واستبدلوا من الإيمان بالله وكتبه ورسله ، الكفر به ، وبكتبه وبرسله ، مع علمهم وتيقنهم ، فيكون أعظم لعذابهم.

[٩١] (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) ، أي : وإذا أمر اليهود بالإيمان بما أنزل الله على رسوله ، وهو القرآن ، استكبروا وعتوا ، و (قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ) ، أي : بما سواه من الكتب ، مع أن الواجب أن يؤمنوا بما أنزل الله مطلقا ، سواء أنزل عليهم ، أو على غيرهم ، وهذا هو الإيمان النافع ، الإيمان بما أنزل الله على جميع رسله. وأما التفريق بين الرسل والكتب ، وزعم الإيمان ببعضها دون بعض ، فهذا ليس بإيمان ، بل هو الكفر بعينه ، ولهذا قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا). ولهذا رد عليهم تبارك وتعالى هنا ردا شافيا ، وألزمهم إلزاما لا محيد لهم عنه ، فرد عليهم بكفرهم بالقرآن بأمرين ، فقال : (وَهُوَ الْحَقُ) ، فإذا كان هو الحق في جميع ما اشتمل عليه من الإخبارات ، والأوامر والنواهي ، وهو من عند ربهم ، فالكفر به ـ بعد ذلك ـ كفر بالله ، وكفر بالحق الذي أنزله. ثم قال : (مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ) ، أي : موافقا له في كل ما دل عليه من الحق ومهيمنا عليه. فلم تؤمنون بما أنزل عليكم ، وتكفرون بنظيره؟ هل هذا إلا تعصب ، واتباع للهوى لا للهدى؟ وأيضا ، فإن كون القرآن مصدقا لما معهم ، يقتضي أنه حجة لهم على صدق ما في أيديهم من الكتب ، فلا سبيل لهم إلى إثباتها إلا به ، فإذا كفروا به وجحدوه ، صاروا بمنزلة من ادعى دعوى بحجة وبينة ، ليس له غيرها ، ولا تتم دعواه إلا بسلامة بينته ، ثم يأتي هو لبينته وحجته ، فيقدح فيها ويكذب بها ، أليس هذا من الحماقة والجنون؟ فكان كفرهم بالقرآن ،

٥٩

كفرا بما في أيديهم ونقضا له. ثم نقض عليهم تعالى دعواهم الإيمان بما أنزل إليهم بقوله : (قُلْ) لهم (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)

[٩٢] (وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ) ، أي : بالأدلة الواضحات المبينة للحق. (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ) ، أي : بعد مجيئه (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) في ذلك ليس لكم عذر.

[٩٣] (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا) ، أي : سماع قبول وطاعة واستجابة ، (قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا) ، أي : صارت هذه حالتهم (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) ، أي : صبغ حب العجل ، وحب عبادته ، في قلوبهم ، وشربها بسبب كفرهم. (قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، أي : أنتم تدعون الإيمان وتتمدحون بالدين الحق ، وأنتم قتلتم أنبياء الله ، واتخذتم العجل إلها من دون الله ، لما غاب عنكم موسى ، نبي الله ، ولم تقبلوا أوامره ونواهيه إلا بعد التهديد ورفع الطور فوقكم ، فالتزمتم بالقول ، ونقضتم بالفعل. فما هذا الإيمان الذي ادعيتم ، وما هذا الدين؟ فإذا كان هذا إيمانا على زعمكم ، فبئس الإيمان الداعي صاحبه إلى الطغيان ، والكفر برسل الله ، وكثرة العصيان ، وقد عهد أن الإيمان الصحيح يأمر صاحبه بكل خير ، وينهاه عن كل شر ، فوضح بهذا كذبهم ، وتبين تناقضهم.

[٩٤] أي : (قُلْ) لهم على وجه تصحيح دعواهم (إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ) ، يعني الجنة (خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ) كما زعمتم أنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ، وأن النار لن تمسكم إلا أياما معدودة ، فإن كنتم صادقين في هذه الدعوى (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) وهذا نوع مباهلة بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وليس بعد هذا الإلجاء والمضايقة لهم بعد العناد منهم ، إلا أحد أمرين : إما أن يؤمنوا بالله ورسوله ، وإما أن يباهلوا على ما هم عليه بأمر يسير عليهم ، وهو تمني الموت الذي يوصلهم إلى الدار التي هي خالصة لهم ، فامتنعوا من ذلك.

[٩٥] فعلم كل أحد أنهم في غاية المعاندة والمحادة لله ولرسوله ، مع علمهم بذلك ، ولهذا قال تعالى : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ). من الكفر والمعاصي ، لأنهم يعلمون أنه طريق لهم إلى المجازاة بأعمالهم الخبيثة.

[٩٦] فالموت أكره شيء إليهم ، وهم أحرص على الحياة من كل أحد من الناس ، حتى من المشركين الذين لا يؤمنون بأحد من الرسل والكتب. ثم ذكر شدة محبتهم للدنيا ، فقال : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) ، وهذا أبلغ ما يكون من الحرص ، تمنوا حالة هي من المحالات ، والحال أنهم لو عمروا العمر المذكور ، لم يغن عنهم شيئا ، ولا دفع عنهم من العذاب شيئا. (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ). تهديد لهم على المجازاة بأعمالهم.

[٩٧ ـ ٩٨] (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا) ، أي : قل لهؤلاء اليهود ، الذين زعموا أن الذي منعهم من الإيمان بك ، أن وليك جبريل عليه‌السلام ، ولو كان غيره من ملائكة الله ، لآمنوا بك وصدقوا : إن هذا الزعم منكم ، تناقض وتهافت ، وتكبر على الله ، فإن جبريل عليه‌السلام هو الذي نزّل القرآن من عند الله على قلبك ، وهو الذي ينزل على الأنبياء قبلك ، والله هو الذي أمره ، وأرسله بذلك ، فهو رسول محض. مع أن هذا الكتاب الذي نزل به جبريل ـ

٦٠