تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي

تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

المؤلف:

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ١١٣٥

ناقض للوضوء. الثاني والثلاثون : اشتراط عدم الماء ، لصحة التيمم. الثالث والثلاثون : أن مع وجود الماء ، ولو في الصلاة ، يبطل التيمم ، لأن الله إنما أباحه ، مع عدم الماء. الرابع والثلاثون : أنه إذا دخل الوقت ، وليس معه ماء ، فإنه يلزمه طلبه في رحله ، وفيما قرب منه ، لأنه لا يقال «لم يجد» لمن لم يطلب. الخامس والثلاثون : أن من وجد ماء لا يكفي بعض طهارته ، فإنه يلزمه استعماله ، ثم يتيمم بعد ذلك. السادس والثلاثون : أن الماء المتغير بالطاهرات ، مقدم على التيمم ، أي يكون طهورا ، لأن الماء المتغير ماء ، فيدخل في قوله : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً). السابع والثلاثون : أنه لا بد من نية التيمم لقوله : (فَتَيَمَّمُوا) أي : اقصدوا. الثامن والثلاثون : أنه يكفي التيمم بكل ما تصاعد على وجه الأرض ، من تراب وغيره. فيكون على هذا ، قوله : (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) إما من باب التغليب ، وأن الغالب أن يكون له غبار يمسح منه ، ويعلق بالوجه واليدين. وإما يكون إرشادا للأفضل ، وأنه إذا أمكن التراب الذي فيه غبار فيه ، فهو أولى. التاسع والثلاثون : أنه لا يصح التيمم بالتراب النجس ، لأنه لا يكون طيبا ، بل خبيثا. الأربعون : أنه يمسح في التيمم ، الوجه واليدان فقط ، دون بقية الأعضاء. الحادي والأربعون : أن قوله : (بِوُجُوهِكُمْ) شامل لجميع الوجه أن يعمه بالمسح ، إلا أنه معفو عن إدخال التراب في الفم والأنف ، وفيما تحت الشعور ، ولو خفيفة. الثاني والأربعون : أن اليدين تمسحان إلى الكوعين فقط ، لأن اليدين عند الإطلاق ، كذلك. فلو كان يشترط إيصال المسح إلى الذراعين ، لقيده الله بذلك ، كما قيده في الوضوء. الثالث والأربعون : أن الآية عامة في جواز التيمم ، لجميع الأحداث كلها ، الحدث الأكبر ، والأصغر ، بل ونجاسة البدن ، لأن الله جعلها بدلا عن طهارة الماء ، وأطلق في الآية ، فلم يقيد. وقد يقال : إن نجاسة البدن ، لا تدخل في حكم التيمم ، لأن السياق في الأحداث ، وهو قول جمهور العلماء. الرابع والأربعون : أن محل التيمم في الحدث الأصغر والأكبر ، واحد ، وهو الوجه واليدان. الخامس والأربعون : أنه لو نوى من عليه حدثان ، التيمم عنهما ، فإنه يجزىء ، أخذا من عموم الآية وإطلاقها. السادس والأربعون : أنه يكفي المسح بأي شيء كان ، بيده أو غيرها ، لأن الله قال : (فَامْسَحُوا) ولم يذكر الممسوح به ، فدل على جوازه بكل شيء. السابع والأربعون : اشتراط الترتيب في طهارة التيمم ، كما يشترط ذلك في الوضوء. ولأن الله بدأ بمسح الوجه ، قبل مسح اليدين. الثامن والأربعون : أن الله تعالى ـ فيما شرعه لنا من الأحكام ـ لم يجعل علينا في ذلك من حرج ولا مشقة ولا عسر. وإنما هو رحمة منه بعباده ، ليطهرهم ، وليتم نعمته عليهم. وهذا هو التاسع والأربعون : أن طهارة الظاهر بالماء والتراب ، تكميل لطهارة الباطن بالتوحيد ، والتوبة النصوح. الخمسون : أن طهارة التيمم ـ وإن لم يكن فيها نظافة وطهارة ، تدرك بالحس والمشاهدة ، فإن فيها طهارة معنوية ، ناشئة عن امتثال أمر الله تعالى. الحادي والخمسون : أنه ينبغي للعبد أن يتدبر الحكم والأسرار ، في شرائع الله ، في الطهارة وغيرها ليزداد معرفة وعلما ، ويزداد شكرا لله ومحبة له ، على ما شرع من الأحكام التي توصل العبد إلى المنازل العالية الرفيعة.

[٧] يأمر تعالى عباده بذكر نعمه الدينية والدنيوية ، بقلوبهم وألسنتهم. فإن في استدامة ذكرها ، داعيا لشكر الله تعالى ، ومحبته ، وامتلاء القلب من إحسانه. وفيه زوال للعجب ، من النفس ، بالنعم الدينية ، وزيادة لفضل الله وإحسانه. و (وَمِيثاقَهُ) أي : واذكروا ميثاقه (الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ) أي : عهده الذي أخذه عليكم. وليس المراد بذلك ، أنهم لفظوا ونطقوا بالعهد والميثاق. وإنما المراد بذلك ، أنهم ـ بإيمانهم بالله ورسوله ـ قد التزموا طاعتهما.

ولهذا قال : (إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا) أي : سمعنا ما دعوتنا به ، من آياتك القرآنية والكونية ، سمع فهم ، وإذعان ، وانقياد. وأطعنا ما أمرتنا به ، بالامتثال ، وما نهيتنا عنه بالاجتناب. وهذا شامل لجميع شرائع الدين ، الظاهرة والباطنة. وأن المؤمنين يذكرون في ذلك ، عهد الله وميثاقه عليهم ، وتكون منهم على بال ، ويحرصون على أداء ما أمروا به كاملا غير ناقص. (وَاتَّقُوا اللهَ) في جميع أحوالكم (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي : ما تنطوي عليه ،

٢٤١

من الأفكار ، والأسرار ، والخواطر. فاحذروا أن يطلع ، من قلوبكم ، على أمر لا يرضاه ، أو يصدر منكم ما يكرهه ، واعمروا قلوبكم ، بمعرفته ، ومحبته ، والنصح لعباده. فإنكم ـ إن كنتم كذلك ـ غفر لكم السيئات ، وضاعف لكم الحسنات ، لعلمه بصلاح قلوبكم.

[٨] أي : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بما أمروا بالإيمان به ، قوموا بلازم إيمانكم ، بأن تكونوا (قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) ، بأن تنشط للقيام بالقسط ، حركاتكم الظاهرة والباطنة. وأن يكون ذلك القيام ، لله وحده ، لا لغرض من الأغراض الدنيوية. وأن تكونوا قاصدين للقسط ، الذي هو العدل ، لا الإفراط ولا التفريط ، في أقوالكم ولا في أفعالكم. وقوموا بذلك ، على القريب ، والبعيد ، والصديق والعدو. (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) أي : لا يحملنكم (شَنَآنُ قَوْمٍ) أي : بغضهم. (عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا) كما يفعله من لا عدل عنده ولا قسط. بل كما تشهدون لوليكم ، فاشهدوا عليه ، وكما تشهدون على عدوكم ، فاشهدوا له ، فلو كان كافرا أو مبتدعا. فإنه يجب العدل فيه ، وقبول ما يأتي به من الحق ، لا لأنه قاله. ولا يرد الحق لأجل قوله ، فإن هذا ظلم للحق. (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) أي : كلما حرصتم على العدل ، واجتهدتم في العمل به ، كان ذلك أقرب لتقوى قلوبكم ، فإن تم العدل ، كملت التقوى. (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فمجازيكم بأعمالكم ، خيرها ، وشرها ، صغيرها ، وكبيرها ، جزاء عاجلا ، وآجلا.

[٩] أي : (وَعَدَ اللهُ) الذي لا يخلف الميعاد ، وهو أصدق القائلين ـ المؤمنين به ، وبكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر. (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) من واجبات ، ومستحبات ـ بالمغفرة لذنوبهم ، بالعفو عنها ، وعن عواقبها ، وبالأجر العظيم الذي لا يعلم عظمه إلا الله تعالى. (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٧).

[١٠] (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) الدالة على الحق المبين ، فكذبوا بها ، بعد ما أبانت الحقائق. (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) الملازمون لها ، ملازمة الصاحب لصاحبه.

[١١] يذكّر تعالى عباده المؤمنين ، بنعمه العظيمة ، ويحثهم على تذكرها بالقلب واللسان. وأنهم ـ كما أنهم يعدون قتلهم لأعدائهم ، وأخذ أموالهم وبلادهم وسبيهم نعمة ـ فليعدوا أيضا ، إنعامه عليهم ، بكف أيديهم عنهم ، ورد كيدهم في نحورهم ، نعمة. فإن الأعداء ، قد هموا بأمر ، وظنوا أنهم قادرون عليه. فإذا لم يدركوا بالمؤمنين مقصودهم ، فهو نصر من الله ، لعباده المؤمنين ينبغي لهم أن يشكروا الله على ذلك ، ويعبدوه ويذكروه. وهذا يشمل كل من هم بالمؤمنين بشر ، من كافر ، ومنافق ، وباغ ، كف الله شره عن المسلمين ، فإنه داخل في هذه الآية. ثم أمرهم بما يستعينون به على الانتصار على عدوهم ، وعلى جميع أمورهم فقال : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي : يعتمدوا عليه في جلب مصالحهم الدينية والدنيوية ، ويتبرأوا من حولهم وقوتهم ، ويثقوا بالله تعالى ، في حصول ما يحبون. وعلى حسب إيمان العبد ، يكون توكله ، وهو من واجبات القلب المتفق عليها.

[١٢] يخبر تعالى أنه أخذ على بني إسرائيل الميثاق الثقيل المؤكد. وذكر صفة الميثاق وأجرهم ، إن قاموا به ،

٢٤٢

وإثمهم ، إن لم يقوموا به. ثم ذكر أنهم ما قاموا به ، وذكر ما عاقبهم به فقال : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي : عهدهم المؤكد الغليظ. (وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) أي : رئيسا وعريفا على من تحته ، ليكون ناظرا عليهم ، حاثا لهم على القيام بما أمروا به ، مطالبا يدعوهم. (وَقالَ اللهُ) للنقباء الذين تحملوا من الأعباء ما تحملوا : (إِنِّي مَعَكُمْ) أي : بالعون والنصر ، فإن المعونة ، بقدر المئونة. ثم ذكر ما واثقهم عليه فقال : (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ) ظاهرا ، وباطنا ، بالإتيان بما يلزم وينبغي فيها ، والمداومة على ذلك. (وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ) لمستحقيها (وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي) جميعهم ، الذين أفضلهم وأكملهم ، محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) أي : عظمتموهم ، وأديتم ما يجب لهم من الاحترام والطاعة. (وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) وهو الصدقة والإحسان ، الصادر عن الصدق والإخلاص ، وطيب المكسب. فإذا قمتم بذلك (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ). فجمع لهم بين حصول المحبوب بالجنة وما فيها من النعيم ، واندفاع المكروه بتكفير السيئات ، ودفع ما يترتب عليها من العقوبات. (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ) العهد والميثاق المؤكد بالإيمان ، والالتزامات المقرونة بالترغيب بذكر ثوابه. (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أي : عن عمد وعلم ، فيستحق ما يستحقه الضالون ، من حرمان الثواب ، وحصول العقاب. فكأنه قيل : ليت شعري ، ماذا فعلوا؟ وهل وفوا بما عاهدوا الله عليه ، أم نكثوا؟

[١٣] فبيّن أنهم نقضوا ذلك فقال : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) أي : بسببه عاقبناهم بعدة عقوبات : الأولى : أن (لَعَنَّاهُمْ) أي : طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا ، حيث أغلقوا على أنفسهم أبواب الرحمة ، ولم يقوموا بالعهد الذي أخذ عليهم ، الذي هو سببها الأعظم. الثانية : قوله : (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) أي : غليظة لا تجدي فيها المواعظ ، ولا تنفعها الآيات والنذر ، فلا يرغبهم تشويق. ولا يزعجهم تخويف. وهذا من أعظم العقوبات على العبد ، أن يكون قلبه بهذه الصفة ، التي لا يفيده معها ، الهدى ، والخير إلا شرا. الثالثة : أنهم (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) أي : ابتلوا بالتغيير والتبديل ، فيجعلون الكلام الذي أراد الله له معنى ، غير ما أراد الله ، ولا رسوله. الرابعة : أنهم (نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ). فإنهم ذكروا بالتوراة ، وبما أنزل الله على موسى ، فنسوا حظا منه. وهذا شامل ، لنسيان علمه ، وأنهم نسوه ، وضاع عنهم ، ولم يوجد كثير مما أنساهم الله إياه ، عقوبة منه لهم. وشامل لنسيان العمل ، الذي هو الترك ، فلم يوفقوا للقيام بما أمروا به. ويستدل بهذا على أهل الكتاب ، بإنكارهم بعض الذي قد ذكر في كتابهم ، أو وقع في زمانهم ، أنه مما نسوه. الخامسة : الخيانة المستمرة التي (لا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ) أي : خيانتهم لله ، ولعباده المؤمنين. ومن أعظم الخيانة منهم ، كتمهم الحق ، عن من يعظهم ، ويحسن فيهم الظن ، وإبقاؤهم على كفرهم ، فهذه خيانة عظيمة. وهذه الخصال الذميمة ، حاصلة لكل من اتصف بصفاتهم. فكل من لم يقم بما أمر الله به ، وأخذ به عليه الالتزام ، كان له نصيب من اللعنة وقسوة القلب ، والابتلاء بتحريف الكلم ، وأنه لا يوفق للصواب ونسيان حظ مما ذكر به. وأنه لا بد أن يبتلى بالخيانة. نسأل الله العافية. وسمى الله تعالى ما ذكروا به حظا ، لأنه هو أعظم الحظوظ ، وما عداه فإنما هي حظوظ دنيوية. كما قال تعالى : (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ). وقال في الحظ النافع : (وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (٣٥). وقوله : (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) أي : فإنهم وفوا بما عاهدوا الله عليهم فوفقهم ، وهداهم للصراط المستقيم. (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) أي : لا تؤاخذهم بما يصدر منهم من الأذى ، الذي يقتضي أن يعفى عنهم. واصفح ، فإن ذلك من الإحسان (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) والإحسان : هو أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك. وفي حق المخلوقين : بذل النفع الديني والدنيوي لهم.

[١٤] أي : وكما أخذنا من اليهود العهد والميثاق ، فكذلك أخذنا (مِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) لعيسى ابن مريم ، وزكوا أنفسهم بالإيمان بالله ، ورسله ، وما جاؤوا به ، ونقضوا العهد. (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ)

٢٤٣

نسيانا علميا ، ونسيانا عمليا. (فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي : سلطنا بعضهم على بعض ، وصار بينهم من الشرور والإحن ، ما يقتضي بغض بعضهم بعضا ومعاداة بعضهم بعضا إلى يوم القيامة. وهذا أمر مشاهد ، فإن النصارى لم يزالوا في بغض وعداوة وشقاق. (وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) فيعاقبهم عليه.

[١٥] لما ذكر تعالى ، ما أخذه الله على أهل الكتاب ، من اليهود والنصارى وأنهم نقضوا ذلك ، إلا قليلا ، أمرهم جميعا أن يؤمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واحتج عليهم بآية قاطعة دالة على صحة نبوته. وهي : أنه يبين لهم كثيرا مما يخفون عن الناس ، حتى عن العوام من أهل ملتهم. فإذا كانوا هم المشار إليهم في العلم ولا عند أحد في ذلك الوقت إلا ما عندهم ، فالحريص على العلم ، لا سبيل له إلى إدراكه إلا منهم. فإتيان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا القرآن العظيم ، الذي بيّن به ما كانوا يتكاتمون بينهم ، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب ـ من أدل الدلائل على القطع برسالته. وذلك مثل صفة محمد في كتبهم ، ووجود البشائر به في كتبهم ، وبيان آية الرجم ونحو ذلك. (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) أي : يترك بيان ما لا تقتضيه الحكمة. (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ) وهو القرآن ، يستضاء به في ظلمات الجهالة ، وعماية الضلالة. (وَكِتابٌ مُبِينٌ) بكل ما يحتاج الخلق إليه ، من أمور دينهم ودنياهم. من العلم بالله ، وأسمائه ، وصفاته ، وأفعاله ، ومن العلم بأحكامه الشرعية وأحكامه الجزائية.

[١٦] ثم ذكر من الذي يهتدي بهذا القرآن؟ وما هو السبب الذي من العبد لحصول ذلك فقال : (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) أي : يهدي من اجتهد وحرص ، على بلوغ مرضاة الله ، وصار قصده حسنا ـ سبل السلام ، التي يسلم صاحبها من العذاب ، وتوصله إلى دار السلام ، وهو العلم بالحق والعمل به ، إجمالا وتفصيلا. (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ) ظلمات الكفر والبدعة والمعصية ، والجهل والغفلة. (إِلَى النُّورِ) نور الإيمان والسنّة ، والطاعة ، والعلم ، والذكر. وكل هذه من الهداية بإذن الله ، الذي ما شاء كان ، وما لم يشأ ، لم يكن. (وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

[١٧] لما ذكر تعالى أخذ الميثاق على أهل الكتابين ، وأنهم لم يقوموا به بل نقضوه ـ ذكر أقوالهم الشنيعة. فذكر قول النصارى ، القول الذي ما قاله أحد غيرهم ، بأن الله هو المسيح ابن مريم. ووجه شبهتهم ، أنه ولد من غير أب ، فاعتقدوا فيه هذا الاعتقاد الباطل. مع أن حواء نظيره ، خلقت بلا أم. وآدم أولى منه ، خلق بلا أب ولا أم. فهلا ادعوا فيهما الإلهية ، كما ادعوها في المسيح؟ فدل على أن قولهم ، اتباع هوى من غير برهان ولا شبهة. فردّ الله عليهم ، بأدلة عقلية واضحة فقال : (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً). فإذا كان المذكورون ، لا امتناع عندهم ، يمنعهم لو أراد الله أن يهلكهم ، ولا قدرة لهم على ذلك ـ دل على بطلان إلهية من لا يمتنع من الإهلاك ، ولا في قوته شيء من الفكاك. ومن الأدلة أنّ (لِلَّهِ) وحده (مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) يتصرف فيهم بحكمه الكوني والشرعي والجزائي ، وهم مملوكون

٢٤٤

مدبرون. فهل يليق أن يكون المملوك العبد الفقير ، إلها معبودا ، غنيا من كل وجه؟ هذا من أعظم المحال. ولا وجه لاستغرابهم ، لخلق المسيح عيسى ابن مريم ، من غير أب فإن الله (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) إن شاء من أب وأم ، كسائر بني آدم ، وإن شاء من أب بلا أم ، كحواء. وإن شاء من أم بلا أب ، كعيسى. وإن شاء من غير أب ولا أم ، كآدم.

[١٨] فنوع خليقته تعالى ، بمشيئته النافذة ، التي لا يستعصي عليها شيء ولهذا قال : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). ومن مقالات اليهود والنصارى ، أن كلا منهما ، ادعى دعوى باطلة ، يزكون بها أنفسهم بأن قال كل منهما : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ). والابن في لغتهم هو الحبيب ، ولم يريدوا البنوة الحقيقية ، فإن هذا ليس من مذهبهم إلا مذهب النصارى في المسيح. قال الله ردا عليهم ، حيث ادعوا بلا برهان : (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ)؟ فلو كنتم أحبابه ، ما عذبكم ، لكون الله لا يحب إلا من قام بمراضيه. (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) تجري عليكم أحكام العدل والفضل. (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) إذا أتوا بأسباب المغفرة أو أسباب العذاب. (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي : فأي شيء خصكم بهذه الفضيلة ، وأنتم من جملة المماليك ، ومن جملة من يرجع إلى الله في الدار الآخرة ، فيجازيكم بأعمالكم.

[١٩] يدعو تبارك وتعالى أهل الكتاب ـ بسبب ما منّ عليهم من كتابه ـ أن يؤمنوا برسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويشكروا الله تعالى ، الذي أرسله إليهم (عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) وشدة حاجة إليه. وهذا مما يدعو إلى الإيمان به ، وأن يبين لهم جميع المطالب الإلهية والأحكام الشرعية. وقد قطع الله بذلك حجتهم ، لئلا يقولوا : (ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ). يبشر بالثواب العاجل والآجل ، وبالأعمال الموجبة لذلك ، وصفة العاملين بها. وينذر بالعقاب العاجل والآجل ، وبالأعمال الموجبة لذلك ، وصفة العاملين بها. (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) انقادت الأشياء طوعا وإذعانا ، لقدرته ، فلا يستعصي عليه شيء منها. ومن قدرته أن أرسل الرسل ، وأنزل الكتب ، وأنه يثيب من أطاعهم ويعاقب من عصاهم.

[٢٠] لما امتنّ الله على موسى وقومه ، بنجاتهم من فرعون وقومه ، وأسرهم واستعبادهم ، ذهبوا قاصدين ، لأوطانهم ومساكنهم ، وهي بيت المقدس ، وما حواليه وقاربوا وصول بيت المقدس. وكان الله قد فرض عليهم جهاد عدوهم ، ليخرجوه من ديارهم. فوعظهم موسى عليه‌السلام ؛ وذكّرهم ، ليقووا على الجهاد فقال : (اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) بقلوبكم وألسنتكم. فإن ذكرها داع إلى محبته تعالى ومنشط على العبادة. (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ) يدعونكم إلى الهدى ، ويحذرونكم من الردى ويحثونكم على سعادتكم الأبدية ، ويعلمونكم ما لم تكونوا تعلمون. (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) تملكون أمركم ، بحيث إنه زال عنكم استعباد عدوكم لكم ، فكنتم تملكون أمركم ، وتتمكنون من إقامة دينكم. (وَآتاكُمْ) من النعم الدينية والدنيوية (ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ). فإنهم ـ في ذلك الزمان ـ خيرة الخلق ، وأكرمهم على الله. وقد أنعم عليهم بنعم ما كانت لغيرهم.

٢٤٥

[٢١] فذكرهم بالنعم الدينية والدنيوية ، الداعي ذلك لإيمانهم ، وثباته ، وثباتهم على الجهاد ، وإقدامهم عليه ولهذا قال : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) أي : المطهرة (الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ). فأخبرهم خبرا تطمئن به أنفسهم ، إن كانوا مؤمنين مصدقين بخبر الله. وأنه قد كتب الله لهم دخولها ، وانتصارهم على عدوهم. (وَلا تَرْتَدُّوا) أي : ترجعوا (عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) قد خسرتم دنياكم ، بما فاتكم من النصر على الأعداء ، وفتح بلادكم. وآخرتكم ، بما فاتكم من الثواب ، وما استحققتم ـ بمعصيتكم ـ من العقاب. فقالوا قولا ، يدل على ضعف قلوبهم ، وخور نفوسهم ، وعدم اهتمامهم بأمر الله ورسوله.

[٢٢] (يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ) شديدي القوة والشجاعة ، أي : فهذا من الموانع لنا من دخولها. (وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ). وهذا من الجبن وقلة اليقين. وإلا ، فلو كان معهم رشدهم ، لعلموا أنهم كلهم من بني آدم ، وأن القوي ، من أعانه الله بقوة من عنده ، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله. ولعلموا أنهم سينصرون عليهم ، إذ وعدهم الله بذلك ، وعدا خاصا.

[٢٣] (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ) الله تعالى ، مشجعين لقومهم ، منهضين لهم على قتال عدوهم ، واحتلال بلادهم. (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) بالتوفيق ، وكلمة الحق ، في هذا الموطن المحتاج إلى مثل كلامهم ، وأنعم عليهم بالصبر واليقين. (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ) أي : ليس بينكم وبين نصركم عليهم إلا أن تجزموا عليهم ، وتدخلوا عليهم الباب ، فإذا دخلتموه عليهم ، فإنهم سينهزمون. ثم أمرهم بعدة هي أقوى العدد فقال : (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). فإن في التوكل على الله ـ وخصوصا في هذا الموطن ـ تيسيرا للأمر ، ونصرا على الأعداء. ودل هذا على وجوب التوكل ، وعلى أنه بحسب إيمان العبد ، يكون توكله.

[٢٤ ـ ٢٦] فلم ينجع فيهم هذا الكلام ، ولا نفع فيهم الملام ، فقالوا قول الأذلين : (يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ). فما أشنع هذا الكلام منهم ، ومواجهتهم به لنبيهم في هذا المقام الحرج الضيق ، الذي قد دعت الحاجة والضرورة فيه إلى نصرة نبيهم ، وإعزاز أنفسهم. وبهذا وأمثاله ، يظهر التفاوت بين سائر الأمم ، وأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيث قال الصحابة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حين شاورهم في القتال يوم «بدر» مع أنه لم يحتم عليهم : يا رسول الله ، لو خضت بنا هذا البحر ، لخضناه معك ، ولو بلغت بنا برك الغماد ، ما تخلف عنك أحد. ولا نقول كما قال قوم موسى لموسى : اذهب (أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ). ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، من بين يديك ومن خلفك ، وعن يمينك ، وعن يسارك. فلما رأى موسى عليه‌السلام ، عتوهم عليه (قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) أي : فلا يدان لنا بقتالهم ، ولست بجبار على هؤلاء. (فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) أي : احكم بيننا وبينهم ، بأن تنزل فيهم من العقوبة ، ما اقتضته حكمتك. ودل ذلك ، على أن قولهم وفعلهم ، من الكبائر العظيمة الموجبة للفسق. (قالَ) الله مجيبا لدعوة موسى : (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) أي : إن من عقوبتهم ، أن نحرم عليهم دخول هذه القرية التي

٢٤٦

كتبهم الله لها ، مدة أربعين سنة. وتلك المدة أيضا ، يتيهون في الأرض ، لا يهتدون إلى طريق ، ولا يبقون مطمئنين. وهذه عقوبة دنيوية ، لعل الله تعالى ، كفر بها عنهم ، ودفع عنهم عقوبة أعظم منها. وفي هذا ، دليل على أن العقوبة على الذنب : قد تكون بزوال نعمة موجودة ، أو دفع نقمة ، قد انعقد سبب وجودها أو تأخرها ، إلى وقت آخر. ولعل الحكمة في هذه المدة ، أن يموت أكثر هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة ، الصادرة عن قلوب لا صبر فيها ولا ثبات. بل قد ألفت الاستعباد لعدوها ، ولم تكن لها همم ترقيها إلى ما فيه ارتقاؤها وعلوها. ولتظهر ناشئة جديدة ، تتربى عقولهم على طلب قهر الأعداء ، وعدم الاستعباد ، والذل المانع من السعادة. ولما علم الله تعالى ، أن عبده موسى ، في غاية الرحمة على الخلق ، خصوصا قومه ، وأنه ربما رق لهم ، واحتملته الشفقة على الحزن عليهم في هذه العقوبة ، أو الدعاء لهم بزوالها ، مع أن الله قد حتمها ، قال : (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) أي : لا تأسف عليهم ولا تحزن ، فإنهم قد فسقوا ، وفسقهم اقتضى وقوع ما نزل بهم ، لا ظلما منا.

[٢٧] أي : قص على الناس ، وأخبرهم بالقضية التي جرت على ابني آدم بالحق ، تلاوة يعتبر بها المعتبرون ، صدقا ، لا كذبا ، وجدا ، لا لعبا. والظاهر أن ابني آدم ، هما ابناه لصلبه ، كما يدل عليه ظاهر الآية والسياق ، وهو قول جمهور المفسرين. أي : اتل عليهم نبأهما ، في حال تقريبهما للقربان ، الذي أداهما إلى الحال المذكورة. (إِذْ قَرَّبا قُرْباناً) أي : أخرج كل منهما شيئا من ماله ، لقصد التقرب إلى الله. (فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ) بأن علم ذلك بخبر من السماء ، أو بالعادة السابقة في الأمم ، أن علامة تقبل الله للقربان ، أن تنزل نار من السماء فتحرقه. (قالَ) الابن ، الذي لم يتقبل منه للآخر ، حسدا وبغيا (لَأَقْتُلَنَّكَ). فقال له الآخر ـ مترفقا له في ذلك ـ (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) فأي : ذنب لي وجناية ، توجب لك أن تقتلني؟ إلا أني اتقيت الله تعالى ، الذي تقواه واجبة عليّ وعليك ، وعلى كل أحد. وأصح الأقوال في تفسير المتقين هنا ، أي : المتقين لله في ذلك العمل ، بأن يكون عملهم خالصا لوجه الله ، متبعين فيه لسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم قال له ـ مخبرا أنه لا يريد أن يتعرض لقتله ، لا ابتداء ، ولا مدافعة فقال : (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) وليس ذلك جبنا مني ولا عجزا. وإنما ذلك لأني (أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) والخائف لله ، لا يقدم على الذنوب ، خصوصا ، الذنوب الكبار. وفي هذا ، تخويف لمن يريد القتل ، وأنه ينبغي لك أن تتقي الله وتخافه. (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ) أي : ترجع (بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) أي : إنه إذا دار الأمر بين أن أكون قاتلا أو تقتلني ، فإني أوثر أن تقتلني ، فتبوء بالوزرين (فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ). دل هذا ، على أن القتل من كبائر الذنوب ، وأنه موجب لدخول النار. فلم يرتدع ذلك الجاني ، ولم ينزجر ، ولم يزل يعزم نفسه ويجزمها ، حتى طوعت له قتل أخيه ، الذي يقتضي الشرع والطبع ، احترامه. (فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) دنياهم وآخرتهم ، وأصبح قد سن هذه السنّة ، لكل قاتل. «ومن سنّ سنّة سيئة ، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة». ولهذا ورد في الحديث الصحيح أنه «ما من نفس تقتل ، إلا كان على ابن آدم

٢٤٧

الأول ، شطر من دمها ، لأنه أول من سنّ القتل». فلما قتل أخاه ، لم يدر كيف يصنع به ؛ لأنه أوّل ميت مات من بني آدم ، (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ) أي : يثيرها ليدفن غرابا آخر ميتا. (لِيُرِيَهُ) بذلك (كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ) أي : بدنه ، لأن بدن الميت يكون عورة (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ). وهكذا عاقبة المعاصي ، الندامة والخسارة.

[٣٢] يقول تعالى : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ) الذي ذكرناه في قصة ابني آدم ، وقتل أحدهما أخاه ، وسنّة القتل لمن بعده ، وأن القتل ، عاقبته وخيمة وخسارة في الدنيا والآخرة. (كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) أهل الكتب السماوية (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ) أي : بغير حق (فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) ؛ لأنه ليس معه داع يدعوه إلى التبين ، وأنه لا يقدم على القتل ، إلا بحق. فلما تجرأ على قتل النفس ، التي لم تستحق القتل ، علم أنه لا فرق عنده بين هذا المقتول وبين غيره. وإنما ذلك بحسب ما تدعوه إليه نفسه الأمّارة بالسوء. فتجرؤه على قتله ، كأنه قتل الناس جميعا. وكذلك من أحيا نفسا أي : استبقى أحدا ، فلم يقتله مع دعاء نفسه له إلى قتله ، فمنعه خوف الله تعالى من قتله ، فهذا كأنه أحيا الناس جميعا. لأن ما معه من الخوف يمنعه من قتل من لا يستحق القتل. ودلت الآية على أن القتل يجوز بأحد أمرين : إما أن يقتل نفسا بغير حق ، متعمدا في ذلك ، فإنه يحل قتله ، إن كان مكلفا مكافئا ، ليس بوالد للمقتول. وإما أن يكون مفسدا في الأرض ، بإفساده لأديان الناس ، أو أبدانهم ، أو أموالهم ، كالكفار المرتدين ، والمحاربين ، والدعاة إلى البدع الذين لا ينكشف شرهم إلا بالقتل. وكذلك قطّاع الطريق ونحوهم ، ممن يصول على الناس لقتلهم ، أو أخذ أموالهم. (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ) التي لا يبقى معه حجة لأحد. (ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ) أي : من الناس (بَعْدَ ذلِكَ) البيان القاطع للحجة ، الموجب للاستقامة في الأرض (لَمُسْرِفُونَ) في العمل بالمعاصي ، ومخالفة الرسل ، الذين جاؤوا بالبينات والحجج.

[٣٣] المحاربون لله ولرسوله ، هم الذين بارزوه بالعداوة ، وأفسدوا في الأرض ، بالكفر ، والقتل ، وأخذ الأموال ، وإخافة السبل. والمشهور أن هذه الآية الكريمة ، في أحكام قطّاع الطريق ، الذين يعرضون للناس ، في القرى والبوادي ، فيغصبونهم أموالهم ، ويقتلونهم ، ويخيفونهم ، فيمتنع الناس من سلوك الطريق ، التي هم بها ، فتنقطع بذلك. فأخبر الله أن جزاءهم ونكالهم ـ عند إقامة الحد عليهم ـ أن يفعل بهم واحد من هذه الأمور. واختلف المفسرون : هل ذلك على التخيير ، وأن كل قاطع طريق ، يفعل به الإمام أو نائبه ، ما رآه المصلحة من هذه الأمور المذكورة؟ وهذا ظاهر اللفظ. أو أن عقوبتهم ، تكون بحسب جرائمهم ، فكل جريمة لها قسط يقابلها ، كما تدل عليه الآية ، بحكمها وموافقتها لحكمة الله تعالى. وأنهم إن قتلوا وأخذوا مالا تحتم قتلهم وصلبهم ، حتى يشتهروا ويختزوا ، ويرتدع غيرهم. وإن قتلوا ، ولم يأخذوا مالا تحتم قتلهم فقط. وإن أخذوا مالا ، ولم يقتلوا ، تحتم أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، اليد اليمنى ، والرجل اليسرى. وإن أخافوا الناس ، ولم يقتلوا ، ولا أخذوا مالا ، نفوا من الأرض ، فلا يتركون يأوون في بلد ، حتى تظهر توبتهم. وهذا قول ابن عباس رضي الله عنه ، وكثير

٢٤٨

من الأئمة ، على اختلاف في بعض التفاصيل. (ذلِكَ) النكال (لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا) أي : فضيحة وعار (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ). فدل هذا ، أن قطع الطريق ، من أعظم الذنوب ، موجب لفضيحة الدنيا وعذاب الآخرة. وأن فاعله ، محارب لله ولرسوله. وإذا كان هذا شأن عظم هذه الجريمة ، علم أن تطهير الأرض من المفسدين ، وتأمين السبل والطرق ، عن القتل ، وأخذ الأموال ، وإخافة الناس ، من أعظم الحسنات ، وأجل الطاعات ، وأنه إصلاح في الأرض ، كما أن ضده إفساد في الأرض. (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) أي : من هؤلاء المحاربين. (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي : فيسقط عنه ، ما كان لله ، من تحتم القتل ، والصلب ، والقطع ، والنفي. ومن حق الآدمي أيضا ، إن كان المحارب كافرا ثم أسلم. فإن كان المحارب مسلما ، فإن حق الآدمي ، لا يسقط عنه من القتل ، وأخذ المال. ودل مفهوم الآية ، على أن توبة المحارب ـ بعد القدرة عليه ـ أنها لا تسقط عنه شيئا. والحكمة في ذلك ظاهرة. وإذا كانت التوبة قبل القدرة عليه ، تمنع من إقامة الحد في الحرابة ، فغيرها من الحدود ـ إذا تاب من فعلها ، قبل القدرة عليه ـ من باب أولى.

[٣٥] هذا أمر من الله لعباده المؤمنين ، بما يقتضيه الإيمان ، من تقوى الله ، والحذر من سخطه وغضبه. وذلك بأن يجتهد العبد ، ويبذل غاية ما يمكنه المقدور ، في اجتناب ما يسخطه الله ، من معاصي القلب ، واللسان ، والجوارح ، الظاهرة ، والباطنة. ويستعين بالله على تركها ، لينجو بذلك من سخط الله وعذابه. (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) أي : القرب منه ، والحظوة لديه ، والحب له. وذلك بأداء فرائضه القلبية ، كالحب له ، وفيه ، والخوف ، والرجاء ، والإنابة والتوكل. والبدنية : كالزكاة ، والحج. والمركبة من ذلك ، كالصلاة ونحوها ، من أنواع القراءة والذكر ، ومن أنواع الإحسان إلى الخلق ، بالمال ، والعلم ، والجاه ، والبدن ، والنصح لعباد الله. فكل هذه الأعمال ، تقرّب إلى الله. ولا يزال العبد يتقرب بها إلى الله ، حتى يحبه. فإذا أحبه ، كان سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ويستجيب الله له الدعاء. ثم خص تبارك وتعالى من العبادات المقربة إليه ، الجهاد في سبيله ، وهو : بذل الجهد في قتال الكافرين ، بالمال ، والنفس ، والرأي ، واللسان ، والسعي في نصر دين الله ، بكل ما يقدر عليه العبد ، لأن هذا النوع ، من أجلّ الطاعات ، وأفضل القربات. ولأن من قام به ، فهو على القيام بغيره ، أحرى وأولى (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) إذا اتقيتم الله ، بترك المعاصي ، وابتغيتم الوسيلة إلى الله ، بفعل الطاعات ، وجاهدتم في سبيله ، ابتغاء مرضاته. والفلاح هو : الفوز والظفر بكل مطلوب مرغوب ، والنجاة من كل مرهوب. فحقيقته ، السعادة الأبدية ، والنعيم المقيم.

[٣٦ ـ ٣٧] يخبر تعالى عن شناعة حال الكافرين يوم القيامة وما لهم من العذاب الفظيع. وأنهم لو افتدوا من عذاب الله ، بملء الأرض ذهبا ومثله معه ، ما تقبل منهم ، ولا أفاد ، لأن محل الافتداء قد فات ، ولم يبق إلا العذاب الأليم ، الموجع الدائم الذي لا يخرجون منه أبدا ، بل هم ماكثون فيه سرمدا.

[٣٨ ـ ٤٠] السارق : هو من أخذ مال غيره المحترم خفية ، بغير رضاه. وهو من كبائر الذنوب الموجبة ، لترتب العقوبة الشنيعة ، وهو قطع اليد اليمنى ، كما هو في قراءة بعض الصحابة. وحد اليد عند الإطلاق من الكوع. فإذا سرق ، قطعت يده من الكوع ، وحسمت في زيت ، لتنسد العروق فيقف الدم. ولكن السنّة قيدت عموم هذه الآية ، من عدة أوجه : منها : الحرز ، فإنه لا بد أن تكون السرقة من حرز ، وحرز كل مال : ما يحفظ به عادة. فلو سرق من غير حرز ، فلا قطع عليه. ومنها : أنه لا بد أن يكون المسروق نصابا ، وهو : ربع دينار ، أو ثلاثة دراهم ، أو ما يساوي أحدهما. فلو سرق دون ذلك ، فلا قطع عليه. ولعل هذا يؤخذ من لفظ السرقة ومعناها. فإن لفظ «السرقة» أخذ الشيء ، على وجه ، لا يمكن الاحتراز منه. وذلك أن يكون المال محرزا. فلو كان غير محرز ، لم يكن ذلك سرقة شرعية. ومن الحكمة أيضا أن لا تقطع اليد ، في الشيء النزر التافه. فلما كان لا بد من التقدير ، كان التقدير

٢٤٩

الشرعي ، مخصصا للكتاب. والحكمة في قطع اليد في السرقة ، أن ذلك حفظ للأموال ، واحتياط لها ، وليقطع العضو الذي صدرت منه الجناية. فإن عاد السارق ، قطعت رجله اليسرى. فإن عاد ، فقيل : تقطع يده اليسرى ، ثم رجله اليمنى ، وقيل : يحبس حتى يموت. وقوله : (جَزاءً بِما كَسَبا) أي : ذلك القطع ، جزاء للسارق بما سرقه ، من أموال الناس. (نَكالاً مِنَ اللهِ) أي : تنكيلا وترهيبا للسارق ولغيره ، ليرتدع السرّاق ـ إذا علموا ـ أنهم سيقطعون إذا سرقوا. (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي : عز وحكم ، فقطع السارق. (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣٩). فيغفر لمن تاب ، فترك الذنوب ، وأصلح الأعمال والعيوب. وذلك أن الله له ملك السموات والأرض ، يتصرف فيهما بما شاء ، من التصاريف القدرية والشرعية ، والمغفرة ، والعقوبة ، بحسب ما اقتضته حكمته ورحمته الواسعة ومغفرته.

[٤١] كان الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من شدة حرصه على الخلق ـ يشتد حزنه لمن يظهر الإيمان ، ثم يرجع إلى الكفر. فأرشده الله تعالى ، إلى أنه لا يأسى ولا يحزن على أمثال هؤلاء. فإن هؤلاء ، لا في العير ولا في النفير. إن حضروا لم ينفعوا ، وإن غابوا لم يفقدوا. ولهذا قال ـ مبينا للسبب الموجب لعدم الحزن عليهم ـ فقال : (مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) فإن الذين يؤسى ويحزن عليهم ، من كان معدودا من المؤمنين ، ظاهرا وباطنا. وحاشا لله ، أن يرجع هؤلاء عن دينهم ، ويرتدوا ، فإن الإيمان ـ إذا خالطت بشاشته القلوب ـ لم يعدل به صاحبه غيره ، ولم يبغ به بدلا. (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا) أي : اليهود (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) أي : مستجيبون ومقلدون لرؤسائهم ، المبني أمرهم على الكذب ، والضلال ، والغي. وهؤلاء الرؤساء المتبعون (لَمْ يَأْتُوكَ) بل أعرضوا عنك وفرحوا بما عندهم من الباطل. (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) أي : يجلبون معاني للألفاظ ، ما أرادها الله ، ولا قصدها ، لإضلال الخلق ، ولدفع الحق. فهؤلاء المنقادون ، للدعاة إلى الضلال ، المتبعين للمحال ، الذين يأتون بكل كذب ، لا عقول لهم ولا همم. فلا تبال أيضا ، إذا لم يتبعوك ، لأنهم في غاية النقص ، والناقص لا يؤبه له ، ولا يبالى به. (يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) أي : هذا قولهم عند محاكمتهم إليك ، لا قصد لهم ، إلا اتباع الهوى. يقول بعضهم لبعض : إن حكم لكم محمد بهذا الحكم ، الذي يوافق هواكم ، فاقبلوا حكمه. وإن لم يحكم لكم به ، فاحذروا أن تتابعوه على ذلك. وهذا فتنة واتباع ما تهوى الأنفس. (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) كقوله تعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ). (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) أي : فلذلك صدر منهم ما صدر. فدل ذلك ، على أن من كان مقصوده بالتحاكم ، إلى الحكم الشرعي ، اتباع هواه ، وأنه إن حكم له رضي ، وإن لم يحكم له ، سخط ، فإن ذلك من عدم طهارة قلبه. كما أن من حاكم وتحاكم إلى الشرع ، ورضي به ، وافق هواه أو خالفه ، فإنه من طهارة القلب. ودل على أن طهارة القلب ، سبب لكل خير ، وهو أكبر داع إلى كل قول رشيد ، وعمل سديد. (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) أي : فضيحة وعار (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ

٢٥٠

عَذابٌ عَظِيمٌ) هو : النار ، وسخط الجبار.

[٤٢] (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) والسمع هاهنا ، سمع استجابة أي : من قلة دينهم وعقلهم ، أن استجابوا لمن دعاهم إلى القول الكذب. (أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) أي : المال الحرام ، بما يأخذونه على سفلتهم وعوامهم ، من المعلومات والرواتب ، التي بغير الحق. فجمعوا بين اتباع الكذب ، وأكل الحرام. (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) فأنت مخير في ذلك. وليست هذه منسوخة ، فإنه ـ عند تحاكم هذا الصنف إليه ـ يخير بين أن يحكم بينهم ، أو يعرض عن الحكم بينهم ، بسبب أنه ، لا قصد لهم في الحكم الشرعي ، إلا أن يكون موافقا لأهوائهم. وعلى هذا ، فكل مستفت ومتحاكم إلى عالم ، يعلم من حاله ، أنه ، إن حكم عليه ، لم يرض ، لم يجب الحكم ، ولا الإفتاء لهم. فإن حكم بينهم ، وجب أن يحكم بالقسط ، ولهذا قال : (وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ). حتى ولو كانوا ظلمة وأعداء ، فلا يمنعك ذلك من العدل في الحكم بينهم. وفي هذا بيان فضيلة العدل والقسط في الحكم بين الناس ، وأن الله تعالى يحبه.

[٤٣] ثم قال متعجبا منهم : (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) (٤٣). فإنهم ـ لو كانوا مؤمنين عاملين بما يقتضيه الإيمان ويوجبه ـ لم يصدفوا عن حكم الله الذي في التوراة ، التي بين أيديهم ، إلا لعلهم أن يجدوا عندك ما يوافق أهواءهم. وحين حكمت بينهم بحكم الله الموافق لما عندهم أيضا ، لم يرضوا بذلك ، بل أعرضوا عنه ، فلم يرتضوه أيضا. قال تعالى : (وَما أُولئِكَ) الذين هذا صنيعهم (بِالْمُؤْمِنِينَ) أي : ليس هذا دأب المؤمنين ، وليسوا حريين بالإيمان. لأنهم جعلوا آلهتهم أهواءهم ، وجعلوا أحكام الإيمان ، تابعة لأهوائهم.

[٤٤] (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ) على موسى بن عمران ، عليه الصلاة والسلام. (فِيها هُدىً) يهدي إلى الإيمان والحق ، ويعصم من الضلالة. (وَنُورٌ) يستضاء به في ظلم الجهل والحيرة والشكوك ، والشبهات ، والشهوات. كما قال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ) (٤٨) (يَحْكُمُ بِهَا) بين الذين هادوا ، أي : اليهود في القضايا والفتاوى (النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا) لله ، وانقادوا لأوامره ، الذين إسلامهم ، أعظم من إسلام غيرهم ، صفوة الله من العباد. فإذا كان هؤلاء النبيون الكرام ، والسادة للأنام ، قد اقتدوا بها ، وائتموا ، ومشوا خلفها ، فما الذي منع هؤلاء الأراذل من اليهود ، من الاقتداء بها؟ وما الذي أوجب لهم ، أن ينبذوا أشرف ما فيها من الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الذي لا يقبل عمل ظاهر وباطن ، إلا بتلك العقيدة؟ هل لهم إمام في ذلك؟ نعم لهم أئمة دأبهم التحريف ، وإقامة رياستهم ومناصبهم بين الناس ، والتأكل بكتمان الحق ، وإظهار الباطل ، أولئك أئمة الضلال ، الذين يدعون إلى النار. وقوله : (الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ) أي : وكذلك يحكم بالتوراة الذين هادوا أئمة الدين من الربانيين أي : العلماء العاملين المعلمين ، الذين يربون الناس بأحسن تربية ، ويسلكون معهم مسلك الأنبياء

٢٥١

المشفقين. والأحبار أي : العلماء الكبار الذين يقتدى بأقوالهم ، وترمق آثارهم ، ولهم لسان الصدق بين أممهم. وذلك الحكم الصادر منهم الموافق للحق (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) أي : بسبب أن الله استحفظهم على كتابه ، وجعلهم أمناء عليه ، وهو أمانة عندهم ، أوجب عليهم حفظه ، من الزيادة والنقصان والكتمان ، وتعليمه لمن لا يعلمه. وهم شهداء عليه ، بحيث إنهم المرجوع إليهم فيه ، وفيما اشتبه على الناس منه. فالله تعالى قد حمل أهل العلم ، ما لم يحمله الجهال ، فيجب عليهم القيام بأعباء ما حملوا. وأن لا يقتدوا بالجهال ، في الإخلاد إلى البطالة والكسل. وأن لا يقتصروا على مجرد العبادات القاصرة ، من أنواع الذكر ، والصلاة ، والزكاة ، والحج ، والصوم ، ونحو ذلك من الأمور ، التي إذا قام بها غير أهل العلم ، سلموا ونجوا. وأما أهل العلم ، فكما أنهم مطالبون أن يعلموا الناس وينبهوهم على ما يحتاجون إليه ، من أمور دينهم ، خصوصا الأمور الأصولية ، والتي يكثر وقوعها وأن لا يخشوا الناس بل يخشون ربهم ولهذا قال : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) فتكتموا الحق ، وتظهروا الباطل ، لأجل متاع الدنيا القليل. وهذه الآفات ، إذا سلّم منها العالم ، فهو من توفيقه. وسعادته بأن يكون همه ، الاجتهاد في العلم والتعليم ، ويعلم ، أن الله قد استحفظه بما أودعه من العلم ، واستشهده عليه وأن يكون خائفا من ربه. ولا يمنعه خوف الناس وخشيتهم ، من القيام بما هو لازم له. وأن لا يؤثر الدنيا على الدين. كما أن علامة شقاوة العالم ، أن يكون مخلدا للبطالة ، غير قائم بما أمر به ، ولا مبال بما استحفظ عليه. قد أهمله وأضاعه ، قد باع الدين بالدنيا ، قد ارتشى في أحكامه ، وأخذ المال على فتاويه ، ولم يعلم عباد الله ، إلا بأجرة وجعالة. فهذا قد منّ الله عليه بمنة عظيمة ، كفرها ، ودفع حظا جسيما ، حرم منه غيره. فنسألك اللهم ، علما نافعا ، وعملا متقبلا ، وأن ترزقنا العفو والعافية ، من كل بلاء ، يا كريم. (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) من الحق المبين ، وحكم بالباطل الذي يعلمه ، لغرض من أغراضه الفاسدة (فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ). فالحكم بغير ما أنزل الله من أعمال أهل الكفر ، وقد يكون كفرا ينقل عن الملة. وذلك إذا اعتقد حله وجوازه. وقد يكون كبيرة من كبائر الذنوب ، ومن أعمال الكفر ، قد استحق من فعله ، العذاب الشديد.

[٤٥] هذه الأحكام من جملة الأحكام التي في التوراة ، يحكم بها النبيون الذين أسلموا ، للذين هادوا ، والربانيون ، والأحبار. فإن الله أوجب عليهم ، أن النفس ـ إذا قتلت ـ تقتل بالنفس بشرط العمد والمكافأة. والعين ، تقلع بالعين ، والأذن تؤخذ بالأذن ، والسن ينزع بالسن. ومثل هذه ما أشبهها من الأطراف التي يمكن الاقتصاص منها بدون حيف. (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) والاقتصاص : أن يفعل به كما فعل. فمن جرح غيره عمدا ، اقتص من الجارح جرحا ، مثل جرحه للمجروح ، حدا ، وموضعا ، وطولا ، وعرضا وعمقا. وليعلم أن شرع من قبلنا ، شرع لنا ، ما لم يرد شرعنا بخلافه. (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ) أي : بالقصاص في النفس ، وما دونها من الأطراف والجروح ، بأن عفا عمن جنى ، وثبت له الحق قبله. (فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) أي : كفارة للجاني ، لأن الآدمي عفا عن حقه. والله

٢٥٢

تعالى أحق وأولى بالعفو عن حقه. وكفارة أيضا عن العافي ، فإنه كما عفا عمن جنى عليه ، أو عمن يتعلق به ـ فإن الله يعفو عن زلاته وجناياته. (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) قال ابن عباس ، كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق. فهو ظلم أكبر ، عند استحلاله ، وعظيمة كبيرة عند فعله ، غير مستحل له.

[٤٦] أي : وأتبعنا هؤلاء الأنبياء والمرسلين ، الذين يحكمون بالتوراة ، بعبدنا ورسولنا ، عيسى ابن مريم ، روح الله وكلمته التي ألقاها إلى مريم. بعثه الله مصدقا لما بين يديه من التوراة ، فهو شاهد لموسى ، ولما جاء به من التوراة ، بالحق والصدق ، ومؤيد لدعوته ، وحاكم بشريعته ، وموافق له في أكثر الأمور الشرعية. وقد يكون عيسى عليه‌السلام أخف في بعض الأحكام ، كما قال تعالى عنه أنه قال لبني إسرائيل : (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ). (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) الكتاب العظيم ، المتمم للتوراة. (فِيهِ هُدىً وَنُورٌ) يهدي إلى الصراط المستقيم ، ويبين الحق من الباطل. (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ) بتثبيتها والشهادة لها ، والموافقة. (وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) فإنهم الذين ينتفعون بالهدى ، ويتعظون بالمواعظ ، ويرتدعون عمّا لا يليق.

[٤٧] (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ) أي : يلزمهم التقيد بكتابهم ، ولا يجوز لهم العدول عنه. (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ).

[٤٨] يقول تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) الذي هو القرآن العظيم ، أفضل الكتب وأجلها. (بِالْحَقِ) أي : إنزالا بالحق ، ومشتملا على الحق ، في أخباره ، وأوامره ، ونواهيه. (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ) ، لأنه شهد للكتب السالفة ، ووافقها ، وطابقت أخباره أخبارها ، وشرائعه الكبار شرائعها ، وأخبرت به ، فصار وجودها مصداقا لخبرها. (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) أي : مشتملا على ما اشتملت عليه الكتب السابقة ، وزيادة في المطالب الإلهية ، والأخلاق النفسية. فهو الكتاب الذي يتبع كل حق جاءت به الكتب فأمر به ، وحث عليه ، وأكثر من الطرق الموصلة إليه. وهو الكتاب الذي فيه نبأ السابقين واللاحقين. وهو الكتاب الذي فيه الحكم ، والحكمة ، والأحكام ، الذي عرضت عليه الكتب السابقة. فما شهد له بالصدق ، فهو المقبول ، وما شهد له بالرد ، فهو مردود ، قد دخله التحريف والتبديل. وإلا ، فلو كان من عند الله ، لم يخالفه. (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) من الحكم الشرعي ، الذي أنزله الله عليك. (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ) أي : لا تجعل اتباع أهوائهم الفاسدة المعارضة للحق ، بدلا عمّا جاءك من الحق ، فتستبدل الذي هو أدنى ، بالذي هو خير. (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ) أيها الأمم (شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) أي : سبيلا وسنّة. وهذه الشرائع التي تختلف باختلاف الأمم ، هي التي تتغير بحسب تغير الأزمنة والأحوال ، وكلها ترجع إلى العدل ، في وقت شرعتها. وأما الأصول الكبار ، التي هي مصلحة وحكمة في كل زمان ، فإنها لا تختلف ، فتشرع في جميع الشرائع. (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) تبعا لشريعة واحدة ، لا يختلف متأخرها ولا متقدمها. (وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) فيختبركم ، وينظر كيف تعملون ، ويبتلي كل أمة بحسب ما تقتضيه حكمته ، ويؤتي كل أحد ما يليق به ، وليحصل التنافس بين الأمم. فكل أمة تحرص على سبق غيرها ، ولهذا قال : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) أي : بادروا إليها ، وأكملوها ، فإن الخيرات الشاملة لكل فرض ومستحب ، من حقوق الله ، وحقوق عباده ، لا يصير فاعلها سابقا لغيره ، مستوليا على الأمر ، إلا بأمرين : المبادرة إليها ، وانتهاز الفرصة ، حين يجيء وقتها ، ويعرض عارضها ، والاجتهاد في أدائها ، كاملة على الوجه المأمور به. ويستدل بهذه الآية ، على المبادرة لأداء الصلاة وغيرها ، في أول وقتها. وعلى أنه ينبغي أن لا يقتصر العبد على مجرد ما يجزي في الصلاة وغيرها من العبادات ، من الأمور الواجبة. بل ينبغي أن يأتي بالمستحبات ، التي يقدر عليها ، لتتم وتكتمل ، ويحصل بها السبق. (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) الأمم السابقة واللاحقة ، كلهم سيجمعهم الله ، ليوم لا ريب فيه. (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) من الشرائع والأعمال. فيثيب أهل الحق والعمل الصالح ، ويعاقب أهل الباطل ، والعمل

٢٥٣

السيّء.

[٤٩] (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) هذه الآية هي التي قيل : إنها ناسخة لقوله : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ). والصحيح : أنها ليست بناسخة ، وأن تلك الآية تدل على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخير بين الحكم بينهم ، وبين عدمه ، وذلك لعدم قصدهم بالتحاكم للحق. وهذه الآية تدل على أنه إذا حكم ، فإنه يحكم بينهم بما أنزل الله ، من الكتاب والسنّة. وهو القسط الذي تقدم أن الله قال : (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ). ودل هذا ، على بيان القسط ، وأن مادته هو ما شرعه الله من الأحكام فإنها المشتملة على غاية العدل والقسط ، وما خالف ذلك ، فهو جور وظلم. (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) كرر النهي عن اتباع أهوائهم لشدة التحذير منها. ولأن ذلك ، في مقام الحكم والفتوى ، وهو أوسع ، وهذا في مقام الحكم وحده. وكلا هما ، يلزم فيه أن لا يتبع أهواءهم ، المخالفة للحق ، ولهذا قال : (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) أي : إياك والاغترار بهم ، وأن يفتنوك ، فيصدوك عن بعض ما أنزل الله إليك. فصار اتباع أهوائهم سببا موصلا إلى ترك الحق الواجب ، والفرض اتباعه. (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن اتباعك ، واتباع الحق (فَاعْلَمْ) أن ذلك عقوبة عليهم و (أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) فإن للذنوب عقوبات عاجلة وآجلة. ومن أعظم العقوبات ، أن يبتلى العبد ويزين له ترك اتباع الرسول ، وذلك لفسقه. (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) أي : طبيعتهم الفسق والخروج عن طاعة الله ، واتباع رسوله.

[٥٠] (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) أي : أفيطلبون بتوليهم وإعراضهم عنك ، حكم الجاهلية. وهو كل حكم خالف ما أنزل الله على رسوله. فلا ثم إلا حكم الله ورسوله أو حكم الجاهلية. فمن أعرض عن الأول ، ابتلي بالثاني المبني على الجهل ، والظلم ، والغي ، ولهذا أضافه الله للجاهلية. وأما حكم الله تعالى ، فمبني على العلم ، والعدل ، والقسط ، والنور ، والهدى. (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) فالموقن ، هو الذي يعرف الفرق بين الحكمين ويميز ـ بإيقانه ـ ما في حكم الله ، من الحسن والبهاء ، وأنه يتعين ـ عقلا وشرعا ـ اتباعه. واليقين ، هو : العلم التام ، الموجب للعمل.

[٥١] يرشد تعالى عباده المؤمنين ، حين بيّن لهم أحوال اليهود والنصارى ، وصفاتهم غير الحسنة ، أن لا يتخذوهم أولياء. فإن (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) يتناصرون فيما بينهم ويكونون يدا على من سواهم. فأنتم ، لا تتخذوهم أولياء ، فإنهم ، هم الأعداء على الحقيقة. ولا يبالون بضركم ، بل لا يدخرون من مجهودهم شيئا على إضلالكم. فلا يتولاهم ، إلا من هو مثلهم ، ولهذا قال : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ). لأن التولي التام ، يوجب الانتقال إلى دينهم. والتولي القليل ، يدعو إلى الكثير ، ثم يتدرج شيئا فشيئا ، حتى يكون العبد منهم. (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي : الذين وصفهم الظلم ، وإليه يرجعون ، وعليه يعولون. فلو جئتهم بكل آية ، ما تبعوك ، ولا انقادوا لك.

[٥٢] ولما نهى الله المؤمنين عن توليهم. أخبر أن ممن يدعي الإيمان ، طائفة تواليهم فقال : (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي : شك ، ونفاق ، وضعف إيمان ، يقولون : إن تولينا إياهم للحاجة فإننا (نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) أي :

٢٥٤

تكون الدائرة لليهود والنصارى فإذا كانت الدائرة لهم ، فإذا لنا معهم يد يكافئوننا عنها ، وهذا سوء ظن منهم بالإسلام. قال تعالى ـ رادا لظنهم السيّء ـ : (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ) الذي يعز الله به الإسلام ، على اليهود والنصارى ، ويقهرهم المسلمون (أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) ييأس به المنافقون من ظفر الكافرين ، من اليهود وغيرهم. (فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا) أي : أضمروا (فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ) على ما كان منهم وضرهم ، بلا نفع حصل لهم. فحصل الفتح الذي نصر الله به الإسلام والمسلمين ، وأذل به الكفر والكافرين. فندموا وحصل لهم من الغم ، ما الله به عليم.

[٥٣] (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) متعجبين من حال هؤلاء الذين في قلوبهم مرض : (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ) أي : حلفوا وأكدوا حلفهم ، وغلظوه بأنواع التأكيدات : إنهم لمعكم في الإيمان ، وما يلزمه من النصرة ، والمحبة ، والموالاة. ظهر ما أضمروه ، وتبين ما أسروه ، وصار كيدهم الذي كادوه ، وظنهم الذي ظنوه بالإسلام وأهله ـ باطلا. وبطل كيدهم (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) في الدنيا (فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ) حيث فاتهم مقصودهم ، وحضرهم الشقاء والعذاب.

[٥٤] يخبر تعالى أنه الغني عن العالمين ، وأنه من يرتد عن دينه ، فلن يضر الله شيئا ، وإنما يضر نفسه. وأن لله ، عبادا مخلصين ، ورجالا صادقين ، قد تكفل الرحمن الرحيم بهدايتهم ، ووعد بالإتيان بهم ، وأنهم أكمل الخلق أوصافا ، وأقواهم نفوسا ، وأحسنهم أخلاقا. أجل صفاتهم أن الله (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ). فإن محبة الله للعبد ، هي أجل نعمة أنعم بها عليه ، وأفضل فضيلة ، تفضل الله بها عليه. وإذا أحب الله عبدا ، يسر له الأسباب ، وهون عليه كل عسير ، ووفقه لفعل الخيرات ، وترك المنكرات ، وأقبل بقلوب عباده إليه ، بالمحبة والوداد. ومن لوازم محبة العبد لربه ، أنه لا بد أن يتصف بمتابعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ظاهرا وباطنا ، في أقواله وأعماله ، وجميع أحواله. كما قال تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ). كما أن من لوازم محبة الله للعبد ، أن يكثر العبد من التقرب إلى الله ، بالفرائض والنوافل ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الصحيح عن الله : «وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضت عليه ، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه». ومن لوازم محبة الله ، معرفته تعالى ، والإكثار من ذكره. فإن المحبة بدون معرفة بالله ناقصة جدا ، بل غير موجودة ، وإن وجدت دعواها. ومن أحب الله أكثر من ذكره. وإذا أحب الله عبدا ، قبل منه اليسير من العمل ، وغفر له الكثير من الزلل. ومن صفاتهم أنهم (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ). فهم للمؤمنين أذلة ، من محبتهم لهم ، ونصحهم لهم ، ولينهم ، ورفقهم ، ورأفتهم ، ورحمتهم بهم وسهولة جانبهم ، وقرب الشيء الذي يطلب منهم. وعلى الكافرين بالله ، المعاندين لآياته ، المكذبين لرسله ـ أعزة قد اجتمعت هممهم وعزائمهم ، على معاداتهم ، وبذلوا جهدهم في كل سبب يحصل به الانتصار عليهم. قال تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ

٢٥٥

وَعَدُوَّكُمْ). وقال تعالى : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) فالغلظة الشديدة على أعداء الله ، مما يقرب العبد إلى الله ، ويوافق العبد ربه ، في سخطه عليهم. ولا تمنع الغلظة عليهم والشدة ، دعوتهم ، إلى الدين الإسلامي ، بالتي هي أحسن. فتجتمع الغلظة عليهم ، واللين في دعوتهم ، وكلا الأمرين من مصلحتهم ونفعه عائد إليهم. (يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) بأموالهم وأنفسهم ، بأقوالهم وأفعالهم. (وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) بل يقدمون رضا ربهم والخوف من لومه على لوم المخلوقين. وهذا يدل على قوة هممهم وعزائمهم ، فإن ضعيف القلب ، ضعيف الهمة ، تنتقض عزيمته عند لوم اللائمين ، وتفتر قوته ، عند عذل العاذلين. وفي قلوبهم تعبد لغير الله ، بحسب ما فيها من مراعاة الخلق وتقديم رضاهم ولومهم ، على أمر الله. فلا يسلم القلب من التعبد لغير الله ، حتى لا يخاف في الله لومة لائم. ولما مدحهم تعالى بما منّ به عليهم من الصفات الجميلة ، والمناقب العالية ، المستلزمة لما لم يذكر من أفعال الخير ـ أخبر أن هذا من فضله عليهم وإحسانه ، لئلا يعجبوا بأنفسهم ، وليشكروا الذي منّ عليهم بذلك ليزيدهم من فضله ، وليعلم غيرهم أن فضل الله تعالى ليس عليه حجاب ، فقال : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) أي : واسع الفضل والإحسان ، جزيل المنن ، قد عمت رحمته كل شيء ، ويوسع على أوليائه من فضله ، ما لا يكون لغيرهم. ولكنه عليم بمن يستحق الفضل ، فيعطيه ، فالله أعلم حيث يجعل رسالته أصلا وفرعا.

[٥٥] لما نهى عن ولاية الكفار ، من اليهود والنصارى وغيرهم ، وذكر مآل توليهم أنه الخسران المبين ، أخبر تعالى من يجب ويتعين توليه. وذكر فائدة ذلك ومصلحته فقال : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ). فولاية الله ، تدرك بالإيمان والتقوى. فكل من كان مؤمنا تقيا ، كان لله وليا ، ومن كان لله وليا ، فهو ولي لرسوله. ومن تولى الله ورسوله ، كان تمام ذلك ، تولي من تولاه ، وهم المؤمنون الذين قاموا بالإيمان ، ظاهرا وباطنا ، وأخلصوا للمعبود ، بإقامتهم الصلاة ، بشروطها ، وفروضها ، ومكملاتها ، وأحسنوا للخلق ، وبذلوا الزكاة من أموالهم لمستحقيها منهم. وقوله : (وَهُمْ راكِعُونَ) أي : خاضعون لله ذليلون. فأداة الحصر في قوله : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) تدل على أنه يجب قصر الولاية على المذكورين ، والتبري من ولاية غيرهم.

[٥٦] ثم ذكر فائدة هذه الولاية فقال : (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) (٥٦) أي : فإنه من الحزب المضافين إلى الله ، إضافة عبودية وولاية ، وحزبه الغالبون ، الذين لهم العاقبة في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى : (وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) (١٧٣). وهذه بشارة عظيمة ، لمن قام بأمر الله ، وصار من حزبه وجنده ، أن له الغلبة. وإن أديل عليه في بعض الأحيان ، لحكمة يريدها الله تعالى ، فآخر أمره ، الغلبة والانتصار ، ومن أصدق من الله قيلا.

[٥٧] ينهى الله عباده المؤمنين عن اتخاذ أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن سائر الكفار ؛ أولياء ، يحبونهم ، ويتولونهم ، ويبدون لهم أسرار المؤمنين ، ويعاونونهم على بعض أمورهم ، التي تضر الإسلام والمسلمين. وأن ما معهم من الإيمان ، يوجب عليهم ترك موالاتهم ، ويحثهم على معاداتهم. وكذلك التزامهم لتقوى الله ، التي هي امتثال أوامره ، واجتناب زواجره مما يدعوهم إلى معاداتهم. وكذلك ما كان عليه المشركون ، والكفار والمخالفون للمسلمين ، من قدحهم في دين المسلمين ، واتخاذهم إياه هزوا ولعبا ، واحتقاره واستصغاره ، خصوصا الصلاة ، التي هي أظهر شعائر المسلمين ، وأجل عباداتهم.

[٥٨] إنهم إذا نادوا إليها اتخذوها هزوا ولعبا ، وذلك لعدم عقلهم ، ولجهلهم العظيم. وإلا فلو كان لهم عقول ، لخضعوا لها ، ولعلموا أنها أكبر من جميع الفضائل التي تتصف بها النفوس. فإذا علمتم ـ أيها المؤمنون ، حال الكفار وشدة معاداتهم لكم ولدينكم ـ فمن لم يعادهم بعد هذا ، دل على أن الإسلام عنده ، رخيص ، وأنه لا يبالي بمن قدح فيه ، أو قدح بالكفر والضلال ، وأنه ليس عنده من المروءة والإنسانية شيء. فكيف تدعي لنفسك دينا قيما ، وأنه الدين الحق ؛ وما سواه باطل ، وترضى بموالاة من اتخذه هزوا ولعبا ، وسخر به وبأهله ، من أهل الجهل

٢٥٦

والحمق؟ وهذا فيه من التهييج على عداوتهم ، ما هو معلوم لكل من له أدنى مفهوم.

[٥٩] أي : (قُلْ) يا أيها الرسول (يا أَهْلَ الْكِتابِ) ملزما لهم. إن دين الإسلام هو الدين الحق ، وإن قدحهم فيه ، قدح بأمر ينبغي المدح عليه : (هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) أي : هل لنا من العيب ، إلا إيماننا بالله ، وبكتبه السابقة واللاحقة ، وبأنبيائه المتقدمين والمتأخرين ، وبأننا نجزم أن من لم يؤمن كهذا الإيمان ، فإنه كافر فاسق؟ فهل تنقمون منا ، إلا أن نؤمن بهذا الذي هو أوجب الواجبات على جميع المكلفين؟ ومع هذا ، فأكثرهم فاسقون ، أي : خارجون عن طاعة الله متجرئون على معاصيه فأولى لكم ـ أيها الفاسقون ـ السكوت. فلو كان عيبكم ، وأنتم سالمون من الفسق ، وهيهات ذلك ـ لكان الشر أخف من قدحكم فينا مع فسقكم. ولما كان قدحهم في المؤمنين ، يقتضي أنهم يعتقدون أنهم على شر ، قال تعالى : (قُلْ) لهم ، مخبرا عن شناعة ما كانوا عليه : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ) الذي نقمتم فيه علينا ، مع التنزل معكم. (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) أي : أبعده عن رحمته (وَغَضِبَ عَلَيْهِ) وعاقبه في الدنيا والآخرة (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) وهو الشيطان ، وكل ما عبد من دون الله ، فهو طاغوت. (أُولئِكَ) المذكورون بهذه الخصال القبيحة (شَرٌّ مَكاناً) من المؤمنين الذين رحمة الله قريب منهم ، ورضي الله عنهم ، وأثابهم في الدنيا والآخرة ، لأنهم أخلصوا له الدين. وهذا النوع ، من باب استعمال أفعل التفضيل في غير بابه. وكذلك قوله : (وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) أي : وأبعد عن قصد السبيل.

[٦١] (وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا) نفاقا ومكرا (وَ) هم (قَدْ دَخَلُوا) مشتملين (بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) فمدخلهم ومخرجهم ، بالكفر ـ وهم يزعمون أنهم مؤمنون. فهل أشر من هؤلاء ، وأقبح حالا منهم؟ (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ) فيجازيهم بأعمالهم ، خيرها وشرها.

[٦٢] ثم استمر تعالى ، يعدد معايبهم ، انتصارا لقدحهم في عباده المؤمنين فقال : (وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ) أي : من اليهود (يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) أي : يحرصون ، ويبادرون المعاصي المتعلقة في حق الخالق والعدوان على المخلوقين. (وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) الذي هو الحرام. فلم يكتف بمجرد الإخبار أنهم يفعلون ذلك ، حتى أخبر أنهم يسارعون فيه. وهذا يدل على خبثهم وشرهم ، وأن أنفسهم مجبولة على حب المعاصي والظلم. هذا ، وهم يدعون لأنفسهم ، المقامات العالية. (لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) وهذا في غاية الذم لهم ، والقدح فيهم.

[٦٣] (لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) أي : هلا ينهاهم العلماء ، المتصدون لنفع الناس ، الذين منّ الله عليهم بالعلم والحكمة ـ عن المعاصي التي تصدر منهم ، ليزول ما عندهم من الجهل ، وتقوم حجة الله عليهم. فإن العلماء ، عليهم أمر الناس ونهيهم ، وأن يبينوا لهم الطريق الشرعي ، ويرغبون في الخير : ويرهبوهم من الشر (لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ).

[٦٤] يخبر تعالى ، عن مقالة اليهود الشنيعة ، وعقيدتهم الفظيعة ، فقال : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) أي : عن

٢٥٧

الخير والإحسان ، والبر. (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا) وهذا دعاء عليهم ، بجنس مقالتهم. فإن كلامهم متضمن لوصف الله الكريم ، بالبخل ، وعدم الإحسان. فجازاهم بأن كان هذا الوصف منطبقا عليهم. فكانوا أبخل الناس ، وأقلهم إحسانا ، وأسوأهم ظنا بالله ، وأبعدهم عن رحمته ، التي وسعت كل شيء ، وملأت أقطار العالم العلوي والسفلي. ولهذا قال : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) لا حجر عليه ، ولا مانع يمنعه ، مما أراد. فإنه تعالى ، قد بسط فضله ، وإحسانه الديني والدنيوي ، وأمر العباد أن يتعرضوا لنفحات جوده ، وأن لا يسدوا على أنفسهم أبواب إحسانه ، بمعاصيهم. فيده سحاء الليل والنهار ، وخيره في جميع الأوقات مدرارا. يفرج كربا ، ويزيل غما ، ويغني فقيرا ، ويفك أسيرا ويجبر كسيرا ، ويجيب سائلا ، ويعطي فقيرا عائلا ، ويجيب المضطرين ، ويستجيب للسائلين. وينعم على من لم يسأله ، ويعافي من طلب العافية ، ولا يحرم من خيره عاصيا. بل خيره ، يرتع فيه البر والفاجر ، ويجود على أوليائه بالتوفيق لصالح الأعمال. ثم يحمدهم عليها ، ويضيفها إليهم ، وهي من جوده ويثيبهم عليها من الثواب العاجل والآجل ، ما لا يدركه الوصف ، ولا يخطر على بال العبد. ويلطف بهم في جميع أمورهم ، ويوصل إليهم من الإحسان ، ويدفع عنهم عن النقم ما لا يشعرون بكثير منه. فسبحان من كل النعم ، التي بالعباد ، فمنه ، وإليه يجأرون في دفع المكاره. وتبارك من لا يحصي أحد ثناء عليه ، بل هو كما أثنى على نفسه. وتعالى من لا يخلو العباد من كرمه طرفة عين ، بل ولا وجود لهم ، ولا بقاء إلا بجوده. وقبّح الله من استغنى بجهله عن ربه ، ونسبه إلى ما لا يليق بجلاله. بل لو عامل الله اليهود القائلين تلك المقالة ، ونحوهم ممن حاله كحالهم ، ببعض قولهم ، لهلكوا ، وشقوا في دنياهم. ولكنهم يقولون تلك الأقوال ، وهو تعالى ، يحلم عنهم ، ويصفح ، ويمهلهم ، ولا يهملهم. وقوله : (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً). وهذا من أعظم العقوبات على العبد ، أن يكون الذكر الذي أنزله الله على رسوله ، الذي فيه حياة القلب والروح ، وسعادة الدنيا والآخرة ، وفلاح الدارين ، الذي هو أكبر منه ، امتن الله بها على عباده ، توجب عليهم المبادرة إلى قبولها ، والاستسلام لله بها ، وشكرا لله عليها ، أن تكون لمثل هذا زيادة غي إلى غيه ، وطغيان إلى طغيانه ، وكفر إلى كفره. وذلك ، بسبب ، إعراضه عنها ، ورده لها ، ومعاندته إياها ، ومعارضته لها ، بالشبه الباطلة. (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) فلا يتألفون ، ولا يتناصرون ، ولا يتفقون على حالة فيها مصلحتهم. بل لم يزالوا متباغضين في قلوبهم ، متعادين بأفعالهم ، إلى يوم القيامة. (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ) ليكيدوا بها الإسلام وأهله ، وأبدوا ، وأعادوا ، وأجلبوا بخيلهم ورجلهم (أَطْفَأَهَا اللهُ) بخذلانهم ، وتفرق جنودهم ، وانتصار المسلمين عليهم. (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) أي : يجتهدون ويجدون ، ولكن بالفساد في الأرض. أي : بعمل المعاصي ، والدعوة إلى دينهم الباطل ، والتعويق عن الدخول في الإسلام. (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) بل يبغضهم أشد البعض ، وسيجازيهم على ذلك.

[٦٥] ثم قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (٦٥).

٢٥٨

وهذا من كرمه وجوده ، حيث لما ذكر قبائح أهل الكتاب ومعايبهم ، وأقوالهم الباطلة ، دعاهم إلى التوبة ، وأنهم لو آمنوا بالله وملائكته وجميع كتبه ، وجميع رسله ، واتقوا المعاصي ، لكفّر عنهم سيئاتهم ، ولو كانت ما كانت ، ولأدخلهم جنات النعيم ، التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.

[٦٦] (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ) أي : قاموا بأوامرها ، كما ندبهم الله وحثهم. ومن إقامتهما الإيمان بما دعوا إليه ، من الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالقرآن. فلو قاموا بهذه النعمة العظيمة ، التي أنزلها ربهم إليهم ، أي : لأجلهم وللاعتناء بهم (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) أي : لأدرّ الله عليهم الرزق ، ولأمطر عليهم السماء ، وأنبت لهم الأرض كما قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ). (مِنْهُمْ) أي : من أهل الكتاب (أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ) أي : عاملة بالتوراة والإنجيل ، عملا غير قوي ولا نشيط. (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ) أي : والمسيء منهم الكثير. وأما السابقون منهم ، فقليل ما هم.

[٦٧] هذا أمر من الله لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بأعظم الأوامر وأجلها ، وهو : التبليغ لما أنزل الله إليه. ويدخل في هذا ، كل أمر تلقته الأمة عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من العقائد ، والأعمال ، والأقوال ، والأحكام الشرعية ، والمطالب الإلهية. فبلغ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكمل تبليغ ، ودعا ، وأنذر ، وبشّر ، ويسّر ، وعلّم الجهال الأميين ، حتى صاروا من العلماء الربانيين. وبلّغ ، بقوله ، وفعله ، وكتبه ، ورسله. فلم يبق خير إلا دلّ أمته عليه ، ولا شر إلا حذرها عنه ، وشهد له بالتبليغ أفاضل الأمة ، من الصحابة ، فمن بعدهم من أئمة الدين ، ورجال المسلمين. (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ) أي : لم تبلغ ما أنزل إليك من ربك (فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) أي : فما امتثلت أمره. (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) هذه حماية وعصمة من الله ، لرسوله من الناس ، وأنه ينبغي أن يكون حرصك على التعليم والتبليغ ، ولا يثنيك عنه خوف من المخلوقين فإن نواصيهم بيد الله ، وقد تكفل بعصمتك ، فأنت إنما عليك البلاغ المبين ، فمن اهتدى ، فلنفسه. وأما الكافرون الّذين لا قصد لهم إلا اتباع أهوائهم فإن الله لا يهديهم ، ولا يوفقهم للخير ، بسبب كفرهم.

[٦٨] أي : قل لأهل الكتاب ـ مناديا على ضلالهم ، ومعلنا بباطلهم : (لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ) من الأمور الدينية ، فإنكم ، لا بالقرآن ومحمد آمنتم ، ولا بنبيكم وكتابكم صدقتم ، ولا بحق تمسكتم ، ولا على أصل اعتمدتم. (حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) أي : تجعلوهما قائمين بالإيمان بهما واتباعهما ، والتمسك بكل ما يدعوان إليه. (وَ) تقيموا (ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) الذي رباكم ، وأنعم عليكم ، وجعل أجلّ إنعامه ، إنزال الكتب إليكم ، فالواجب عليكم ، أن تقوموا بشكر الله ، وتلتزموا أحكام الله ، وتقوموا بما حملتم من أمانة الله وعهده. (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ).

[٦٩] يخبر تعالى عن أهل الكتاب ، من أهل القرآن والتوراة والإنجيل ، أن سعادتهم ونجاتهم ، في طريق واحد ، وأصل واحد ، وهو الإيمان بالله واليوم الآخر ، والعمل الصالح. فمن آمن منهم بالله واليوم الآخر ، وعمل صالحا ،

٢٥٩

فله النجاة ، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه من الأمور المخوفة ، ولا هم يحزنون على ما خلفوا منها. وهذا الحكم المذكور ، يشمل سائر الأزمنة.

[٧٠] يقول تعالى : (لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي : عهدهم الثقيل بالإيمان بالله ، والقيام بواجباته ، التي تقدم الكلام عليها في قوله : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) إلى آخر الآيات. (وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً) يتوالون عليهم بالدعوة ، ويتعاهدونهم بالإرشاد ولكن ذلك ، لم ينجح فيهم ، ولم يفد. (كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ) من الحق ، كذبوه ، وعاندوه ، وعاملوه أقبح المعاملة.

[٧١] (فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي : ظنوا أن معصيتهم وتكذيبهم ، لا يجر عليهم عذابا ، ولا عقوبة ، واستمروا على باطلهم. (فَعَمُوا وَصَمُّوا) عن الحق (ثُمَ) نعشهم و (تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ) حين تابوا إليه ، وأنابوا. (ثُمَ) لم يستمروا على ذلك ، حتى انقلب أكثرهم إلى الحال القبيحة. حيث (عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ) بهذا الوصف ، والقليل استمروا على توبتهم وإيمانهم. (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) فيجازي كل عامل بعمله ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

[٧٢] يخبر تعالى عن كفر النصارى بقولهم : (إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ). بشبهة أنه خرج من أم بلا أب ، وخالف المعهود من الخلقة الإلهية. والحال أنه عليه الصلاة والسّلام قد كذبهم في هذه الدعوى ، وقال لهم : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) فأثبت لنفسه العبودية التامة ، ولربه الربوبية الشاملة لكل مخلوق. (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ) أحدا من المخلوقين ، لا عيسى ولا غيره. (فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ) وذلك لأنه سوّى الخلق بالخالق ، وصرّف ما خلقه الله له ـ وهو العبادة الخالصة ـ لغير من هي له ، فاستحق أن يخلد في النار. (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) ينقذونهم من عذاب الله ، أو يرفعون عنهم بعض ما نزل بهم.

[٧٣] (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) وهذا من أقوال النصارى المنصورة عندهم. زعموا أن الله ثالث ثلاثة ، الله ، وعيسى ، ومريم ، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا. وهذا أكبر دليل على قلة عقول النصارى. كيف قبلوا هذه المقالة الشنعاء ، والعقيدة القبيحة؟ كيف اشتبه عليهم الخالق بالمخلوق؟ كيف خفي عليهم رب العالمين؟ قال تعالى ـ ردا عليهم وعلى أشباههم ـ : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) متصف بكل صفة كمال ، منزه عن كل نقص ، منفرد بالخلق والتدبير ما بالخلق من نعمة إلا منه. فكيف يجعل معه إله غيره؟ تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوا كبيرا. ثم توعدهم بقوله : (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

[٧٤] ثم دعاهم إلى التوبة عمّا صدر منهم ، وبيّن أنه يقبل التوبة عن عباده فقال : (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ) أي : يرجعون إلى ما يحبه ويرضاه من الإقرار لله بالتوحيد ، وبأن عيسى عبد الله ورسوله ـ عمّا كانوا يقولونه. (وَيَسْتَغْفِرُونَهُ) عن ما صدر منهم (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي : يغفر ذنوب التائبين ، ولو بلغت عنان السماء ، ويرحمهم ، بقبول توبتهم ، وتبديل سيئاتهم حسنات. وصدر دعوتهم إلى التوبة بالعرض الذي هو غاية اللطف واللين

٢٦٠