تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي

تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

المؤلف:

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ١١٣٥

في أصولهم وفروعهم ، فعلم بذلك أنه رسول الله ، وأن ما جاء به حق لا ريب فيه. وأيضا فقوله : (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) ، أي : لأخفف عنكم بعض الآصار ، والأغلال.

[٥١] (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ. إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) ، وهذا ما يدعو إليه جميع الرسل ، عبادة الله وحده لا شريك له ، وطاعتهم. وهذا هو الصراط المستقيم الذي من يسلكه أوصله إلى جنات النعيم ، فحينئذ اختلفت أحزاب بني إسرائيل في عيسى ، فمنهم من آمن به واتبعه ، ومنهم من كفر به وكذبه ، ورمى أمه بالفاحشة كاليهود.

[٥٢] (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) والاتفاق على رد دعوته ، (قالَ) : نادبا لبني إسرائيل على مؤازرته (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ) ، أي : الأنصار (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) ، وهذا من منة الله عليهم ، وعلى عيسى ، حيث ألهم هؤلاء الحواريين ، الإيمان به ، والانقياد لطاعته ، والنصرة لرسوله.

[٥٣] (رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ) ، وهذا التزام تام للإيمان ، بكل ما أنزل الله ، ولطاعة رسوله.

(فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) لك بالوحدانية ، ولنبيك بالرسالة ، ولدينك بالحق والصدق.

[٥٤] (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) وهم جمهور بني إسرائيل ، فإنهم (مَكَرُوا) بعيسى (وَمَكَرَ اللهُ) بهم ، (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) ، فاتفقوا على قتله وصلبه ، وشبه لهم عيسى.

[٥٥] فقبضوا على من شبه لهم به ، وقال الله لعيسى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، فرفعه الله إليه ، وطهره من الذين كفروا ، وصلبوا من قتلوه ، ظانين أنه عيسى ، وباؤوا بالإثم العظيم. وسينزل عيسى ابن مريم ، في آخر هذه الأمة حكما عدلا ، يقتل الخنزير ، ويكسر الصليب ، ويتبع ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويعلم الكاذبون غرورهم وخداعهم ، وأنهم مغرورون مخدوعون. وقوله : (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) ، المراد بمن اتبعه : الطائفة التي آمنت به ، ونصرهم الله على من انحرف عن دينه. ثم لما جاءت أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكانوا هم أتباعه حقا ، فأيدهم الله ونصرهم على الكفار كلهم ، وأظهرهم بالدين الذي جاءهم به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) ، الآية. ولكن حكمة الله عادلة ، فإنها اقتضت أن من تمسك بالدين ، نصره الله النصر المبين ، وأن من ترك أمره ونهيه ، ونبذ شرعه ، وتجرأ على معاصيه ، أن يعاقبه ويسلط عليه الأعداء ، (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). وقوله : (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ).

[٥٦ ـ ٥٧] ثم بين ما يفعله بهم ، فقال : (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) الآيتين. وهذا الجزاء عام لكل من اتصف بهذه الأوصاف ، من جميع أهل الأديان السابقة. ثم لما بعث سيد المرسلين ، وخاتم النبيين ، ونسخت رسالته ، الرسالات كلها ، ونسخ دينه ، جميع الأديان ، صار المتمسك بغير هذا الدين ، من الهالكين.

[٥٨] وقوله تعالى : (ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ) الآية. أي : هذا القرآن العظيم ، الذي فيه نبأ الأولين والآخرين ، والأنبياء والمرسلين ـ هو آيات الله البينات ، وهو الذي يذكر العباد كل ما يحتاجونه ، وهو الحكيم المحكم ، صادق

١٤١

الأخبار ، حسن الأحكام.

[٥٩] لما ذكر قصة مريم وعيسى ونبأهما الحق ، وأنه عبد أنعم الله عليه ، وأن من زعم أن فيه شيئا من الإلهية ، فقد كذب على الله ، وكذب جميع أنبيائه ، وكذب عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن الشبهة التي عرضت لمن اتخذه إلها ، شبهة باطلة ، فلو كان لها وجه صحيح ، لكان آدم أحق منه ، فإنه خلق من دون أم ولا أب ، ومع ذلك ، فاتفق البشر كلهم ، على أنه عبد من عباد الله ، فدعوى إلهية عيسى ، بكونه خلق من أم بلا أب ، دعوى من أبطل الدعاوى.

[٦٠] وهذا هو الحق الذي لا ريب فيه ، أن عيسى ـ كما قال في نفسه : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) ، وكان قد قدم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفد نصارى نجران ، وقد تصلبوا على باطلهم ، بعد ما أقام عليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم البراهين بأن عيسى عبد الله ورسوله ، حيث زعموا إلهيته.

[٦١] فوصلت به وبهم الحال ، إلى أن أمره الله تعالى أن يباهلهم ، فإنه قد اتضح لهم الحق ، ولكن العناد والتعصب منعاهم منه. فدعاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المباهلة ، بأن يحضر هو وأهله وأبناؤه ، وهم يحضرون بأهلهم وأبنائهم ، ثم يدعون الله تعالى ، أن ينزل عقوبته ولعنته على الكاذبين ، فتشاوروا هل يجيبونه إلى ذلك؟ فاتفق رأيهم أن لا يجيبوه ، لأنهم عرفوا أنه نبي الله حقا ، وأنهم ـ إن باهلوه ـ هلكوا ، هم وأولادهم وأهلوهم ، فصالحوه وبذلوا له الجزية ، وطلبوا منه الموادعة والمهادنة. فأجابهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يحرجهم ، لأنه حصل المقصود من وضوح الحق ، وتبين عنادهم حيث صمموا على الامتناع عن المباهلة ، وذلك يبرهن على أنهم كانوا ظالمين.

[٦٢ ـ ٦٣] فإن أعرضوا عن الحق بعد ما تبين لهم ، ولم يرجعوا عن ضلالاتهم ، فهم المفسدون ، والله عليم بهم ، ولهذا قال تعالى : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ) ، أي : الذي لا ريب فيه ، (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) ، الذي قهر بقدرته وقوته جميع الموجودات ، وأذعنت له سكان الأرض والسماوات. ومع ذلك فهو (الْحَكِيمُ) الذي يضع الأشياء مواضعها ، وينزلها منازلها.

[٦٤] هذه الآية الكريمة ، كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكتب بها إلى ملوك أهل الكتاب ، وكان يقرأ أحيانا في الركعة الأولى من سنة الفجر : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ) ، الآية. ويقرأ بها في الركعة الآخرة من سنة الصبح ، لاشتمالها على الدعوة إلى دين واحد ، قد اتفق عليه الأنبياء والمرسلون ، واحتوت على توحيد الإلهية المبني على عبادة الله وحده ، لا شريك له ، وأن يعتقد أن البشر وجميع الخلق كلهم في طور البشرية ، لا يستحق منهم أحد شيئا من خصائص الربوبية ، ولا من نعوت الإلهية. فإن انقاد أهل الكتاب وغيرهم إلى هذا فقد اهتدوا. وإن (تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) ، كقوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) (١) إلى آخرها.

[٦٥ ـ ٦٨] كانت الأديان كلها ، اليهود والنصارى ، والمشركون ، وكذلك المسلمون كلهم ، يدعون أنهم على ملة إبراهيم. فأخبر الله تعالى أن أولى الناس به ، محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأتباعه ، وأتباع الخليل ، قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأما اليهود والنصارى ، والمشركون فإبراهيم بريء منهم ، ومن ولايتهم ، لأن دينه ، الحنيفية السمحة ، التي فيها الإيمان بجميع

١٤٢

الرسل ، وجميع الكتب ، وهذه خصيصة المسلمين. وأما دعوى اليهود والنصارى ، أنهم على ملة إبراهيم ، فقد علم أن اليهودية والنصرانية ، التي هم يدعون أنهم عليها ، لم تؤسس إلا بعد الخليل. فكيف يحاجون في هذا الأمر ، الذي يعلم به كذبهم وافتراؤهم؟ فهب أنهم حاجوا فيما لهم به علم ، فكيف يحاجون في هذه الحالة؟ فهذا قبل أن ينظر ما احتوى عليه قولهم من البطلان ، يعلم فساد دعواهم. وفي هذه الآية دليل على أنه لا يحل للإنسان أن يقول أو يجادل فيما لا علم له به. وقوله : (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) ، فكلما قوي إيمان العبد ، تولاه الله بلطفه ، ويسره لليسرى ، وجنّبه العسرى.

[٦٩ ـ ٧٤] هذا من منة الله على هذه الأمة ، حيث أخبرهم بمكر أعدائهم من أهل الكتاب ، وأنهم ـ من حرصهم على إضلال المؤمنين ـ ينوعون المنكرات الخبيثة. فقالت طائفة منهم : (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ) ، أي : أوله ، وارجعوا عن دينهم آخر النهار ، فإنهم ـ إذا رأوكم راجعين ، وهم يعتقدون فيكم العلم ـ استرابوا بدينهم ، وقالوا : لو لا أنهم رأوا فيه ما لا يعجبهم ، ولا يوافق الكتب السابقة ، لم يرجعوا. هذا مكرهم ، والله تعالى هو الذي يهدي من يشاء ، وهو الذي بيده الفضل ، يختص به من يشاء ، فخصّكم ـ يا هذه الأمة ـ بما لم يخص به غيركم. ولم يدر هؤلاء الماكرون أن دين الله حق ، إذا وصلت حقيقته إلى القلوب ، لم يزدد صاحبه ـ على طول المدى ـ إلا إيمانا ويقينا. ولم تزده الشبه ، إلا تمسكا بدينه ، وحمدا لله ، وثناء عليه حيث منّ به عليه. وقوله : (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) ، يعني : أن الذي حملهم على هذه الأعمال المنكرة ، الحسد والبغي ، وخشية الاحتجاج عليهم. كما قال تعالى : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ) ، الآية.

[٧٥] يخبر تعالى عن أهل الكتاب ، أن منهم طائفة أمناء ، بحيث لو أمنته على قناطير من النقود ، وهي المال الكثير ، يؤده إليك ، ومنهم طائفة خونة ، يخونك في أقل القليل ، ومع هذه الخيانة الشنيعة ، فإنهم يتأولون بالأعذار الباطلة فيقولون : (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) ، أي : ليس علينا جناح إذا خناهم واستبحنا أموالهم ، لأنهم لا حرمة لهم. قال تعالى : (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أن عليهم أشد الحرج ، فجمعوا بين الخيانة وبين احتقار العرب ، وبين الكذب على الله ، وهم يعلمون ذلك ، ليسوا كمن فعل ذلك جهلا وضلالا. ثم قال تعالى : (بَلى) ، أي : ليس الأمر كما قالوا. فإنه (مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى) ، أي : قام بحقوق الله ، وحقوق خلقه ، فإن هذا هو المتقي ، والله يحبه.

[٧٦] أي : ومن كان بخلاف ذلك ، فلم يف بعهده وعقوده ، التي بينه وبين الخلق ، ولا قام بتقوى الله ، فإن الله يمقته ، وسيجازيه على ذلك أعظم النكال.

[٧٧] أي : إن الذين يشترون الدنيا بالدين ، فيختارون الحطام القليل من الدنيا ، ويتوسلون إليها بالأيمان الكاذبة ، والعهود المنكوثة ، فهؤلاء (لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ،

١٤٣

أي : قد حق عليهم سخط الله ، ووجب عليهم عقابه ، وحرموا ثوابه ، ومنعوا من التزكية ، وهي التطهير. بل يردون القيامة ، وهم متلوثون بالجرائم ، متدنسون بالذنوب العظائم.

[٧٨] أي : وإن من أهل الكتاب فريقا هم محرفون لكتاب الله ، (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ) ، وهذا يشمل التحريف اللفظي ، والتحريف المعنوي. ثم هم ـ مع هذا التحريف الشنيع ـ يوهمون أنه من الكتاب ، وهم كذبة في ذلك ، ويصرحون بالكذب على الله ، وهم يعلمون حالهم وسوء مغبتهم.

[٧٩ ـ ٨٠] أي : يمتنع ويستحيل كل الاستحالة لبشر منّ الله عليه بالوحي والكتاب والنبوة ، وأعطاه الحكم الشرعي ـ أن يأمر الناس بعبادته ، وبعبادة النبيين والملائكة واتخاذهم أربابا ، لأن هذا هو الكفر ، فكيف ، وقد بعث بالإسلام المنافي للكفر من كل وجه ، فكيف يأمر بضده؟ هذا هو الممتنع ، لأن حاله وما هو عليه ، وما منّ الله به عليه من الفضائل والخصائص ، تقتضي العبودية الكاملة ، والخضوع التام لله الواحد القهار. وهذا جواب لوفد نجران ، حين تمادى بهم الغرور ، ووصلت بهم الحال والكبر ، أن قالوا : أتأمرنا ـ يا محمد ـ أن نعبدك؟ حين أمرهم بعبادة الله وطاعته ، فبين الباري انتفاء ما قالوا ، وأن كلامهم وكلام أمثالهم في هذا ظاهر البطلان.

[٨١ ـ ٨٢] هذا إخبار منه تعالى أنه أخذ عهد النبيين وميثاقهم كلهم ، بسبب ما أعطاهم ومنّ به عليهم ، من الكتاب والحكمة ، المقتضي للقيام التام ، بحق الله وتوفيته ، أنه إن جاءهم رسول مصدق لما معهم ، بما بعثوا به من التوحيد والحق والقسط والأصول التي اتفقت عليها الشرائع ، أنهم يؤمنون به ، وينصرونه. فأقروا على ذلك ، واعترفوا ، والتزموا ، وأشهدهم ، وشهد عليهم ، وتوعد من خالف هذا الميثاق. وهذا أمر عام بين الأنبياء أن جميعهم طريقهم واحد ، وأن دعوة كل واحد منهم ، قد اتفقوا وتعاقدوا عليها ، وعموم ذلك أنه أخذ على جميعهم الميثاق ، بالإيمان ، والنصرة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فمن ادعى أنه من أتباعهم ، فهذا دينهم الذي أخذه الله عليهم ، وأقروا به واعترفوا. فمن تولى عن اتباع محمد ، ممن يزعم أنه من أتباعهم ، فإنه فاسق خارج عن طاعة الله ، مكذب للرسول الذي يزعم أنه من أتباعه ، مخالف لطريقه. وفي هذا إقامة الحجة والبرهان ، على كل من لم يؤمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل الكتب والأديان ، وأنه لا يمكنهم الإيمان برسلهم ، الذين يزعمون أنهم أتباعهم ، حتى يؤمنوا بإمامهم وخاتمهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

[٨٣ ـ ٨٥] قد تقدم في سورة البقرة أن هذه الأصول التي هي أصول الإيمان التي أمر الله بها هذه الأمة ، قد اتفقت عليها الكتب والرسل ، وأنها هي الغرض الموجه لكل أحد ، وأنها هي الدين والإسلام الحقيقي ، وأن من ابتغى غيرها ، فعمله مردود ، وليس له دين يعول عليه. فمن زهد عنه ، ورغب عنه ، فأين يذهب؟ إلى عبادة الأشجار والأحجار والنيران؟ أو إلى اتخاذ الأحبار والرهبان والصلبان ، أو إلى التعطيل لرب العالمين؟ أو إلى الأديان الباطلة ، التي هي وجه الشيطان؟ وهؤلاء كلهم ـ في الآخرة ـ من الخاسرين.

[٨٦ ـ ٨٨] يعني : أنه يبعد كل البعد ، أن يهدي الله قوما عرفوا الإيمان ، ودخلوا فيه ، وشهدوا أن الرسول

١٤٤

حق ، ثم ارتدوا على أعقابهم ، ناكصين ناكثين ؛ لأنهم عرفوا الحق فرفضوه. ولأن من هذه الحالة وصفه ، فإن الله يعاقبه بالانتكاس ، وانقلاب القلب جزاء له ، إذ عرف الحق فتركه ، والباطل فآثره ، فولاه الله ما تولى لنفسه. فهؤلاء (عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) خالدين في اللعنة والعذاب (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) إذا جاءهم أمر الله لأن الله ، عمرهم ما يتذكر فيه من تذكر ، وجاءهم النذير. ثم إنه تعالى استثنى من هذا الوعيد ، التائبين من كفرهم وذنوبهم ، المصلحين لعيوبهم ، فإن الله يغفر لهم ما قدموه ، ويعفو عنهم ما أسلفوه.

[٨٩ ـ ٩١] ولكن من كفر وأصر على كفره ، ولم يزدد إلا كفرا حتى مات على كفره ، فهؤلاء هم الضالون عن طريق الهدى ، السالكون لطريق الشقاء ، وقد استحقوا بهذا العذاب الأليم ، فليس لهم ناصر من عذاب الله ، ولو بذلوا ملء الأرض ذهبا ليفتدوا به ، لم ينفعهم شيئا ، فعياذا بالله من الكفر وفروعه.

[٩٢] يعني : لن تنالوا وتدركوا البر ، الذي هو اسم جامع للخيرات ، وهو الطريق الموصل إلى الجنة ، حتى تنفقوا مما تحبون ، من أطيب أموالكم وأزكاها. فإن النفقة من الطيب المحبوب للنفوس ، من أكبر الأدلة على سماحة النفس ، واتصافها بمكارم الأخلاق ، ورحمتها ورقتها. ومن أول الدلائل على محبة الله ، تقديم محبته على محبة الأموال ، التي جبلت النفوس على قوة التعلق بها ، فمن آثر محبة الله على محبة نفسه ، فقد بلغ الذروة العليا من الكمال ، وكذلك من أنفق الطيبات ، وأحسن إلى عباد الله ، أحسن الله إليه ووفقه أعمالا وأخلاقا ، لا تحصل بدون هذه الحالة. وأيضا فمن قام بهذه النفقة على هذا الوجه ، كان قيامه ببقية الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة ، من طريق الأولى والأحرى ، ومع أن النفقة من الطيبات ، هي أكمل الحالات ، فمهما أنفق العبد من نفقة قليلة أو كثيرة ، من طيب أو غيره ، فإن الله به عليم. وسيجزي كل منفق ، بحسب عمله ، سيجزيه في الدنيا بالخلف العاجل ، وفي الآخرة بالنعيم الآجل.

[٩٣ ـ ٩٤] من جملة الأمور التي قدح فيها اليهود بنبوة عيسى ومحمد صلّى الله عليهما وسلّم ، أنهم زعموا أن النسخ باطل ، وأنه لا يمكن أن يأتي نبي يخالف النبي الذي قبله. فكذبهم الله بأمر يعرفونه ، فإنهم يعترفون بأن جميع الطعام ـ قبل نزول التوراة ـ كان حلالا لبني إسرائيل ، إلا أشياء يسيرة حرمها إسرائيل ، وهو : يعقوب عليه‌السلام ـ على نفسه ومنعها إياه لمرض أصابه. ثم إن التوراة فيها من التحريمات التي نسخت ، ما كان حلالا قبل ذلك شيء كثير. قل لهم ـ إن أنكروا ذلك ـ : (فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) بزعمكم أنه لا نسخ ولا تحليل ولا تحريم. وهذا من أبلغ الحجج ، أن يحتج على الإنسان بأمر يقوله ويعترف به ولا ينكره ، فإن انقاد للحق ، فهو الواجب ، وإن أبى ولم ينقد بعد هذا البيان ، تبين كذبه وافتراؤه وظلمه وبطلان ما هو عليه ، وهو الواقع من اليهود.

[٩٥] أي : قل صدق الله في كل ما قاله ، ومن أصدق من الله قيلا وحديثا ، وقد بيّن في هذه الآيات ، من الأدلة على صحة رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبراهين دعوته ، وبطلان ما عليه المنحرفون من أهل الكتاب ، الذين كذبوا رسوله ،

١٤٥

وردوا دعوته ، فقد صدق الله في ذلك ، وأقنع عباده على ذلك ، ببراهين وحجج ، تتصدع لها الجبال ، وتخضع لها الرجال. فتعين عند ذلك على الناس كلهم ، اتباع ملة إبراهيم ، من توحيد الله وحده لا شريك له ، وتصديق كل رسول أرسله الله ، وكل كتاب أنزله ، والإعراض عن الأديان الباطلة المنحرفة. فإن إبراهيم كان معرضا عن كل ما يخالف التوحيد ، متبرئا من الشرك وأهله.

[٩٦ ـ ٩٧] يخبر تعالى بعظمة بيته الحرام ، وأنه أول البيوت التي وضعها الله في الأرض لعبادته ، وإقامة ذكره ، وأن فيه من البركات ، وأنواع الهدايات ، وتنوع المصالح والمنافع للعالمين ـ شيء كثير ، وفضل غزير ، وأن فيه آيات بينات ، تذكر بمقامات إبراهيم الخليل ، وتنقلاته في الحج ، ومن بعده تذكر بمقامات سيد الرسل وإمامهم. وفيه الحرم الذي من دخله كان آمنا قدرا ، مؤمنا شرعا ودينا. فلما احتوى على هذه الأمور التي هذه مجملاتها ، وتكثر تفصيلاتها ـ أوجب الله حجه على المكلفين المستطيعين إليه سبيلا ، وهو الذي يقدر على الوصول إليه بأي مركوب يناسبه ، وزاد يتزوده ، ولهذا أتى بهذا اللفظ الذي يمكن تطبيقه على جميع المركوبات الحادثة ، والتي ستحدث. وهذا من آيات القرآن ، حيث كانت أحكامه صالحة لكل زمان وكل حال ، ولا يمكن الصلاح التام بدونها ، فمن أذعن لذلك وقام به ، فهو من المهتدين المؤمنين ، ومن كفر ، فلم يلتزم حج بيته ، فهو خارج عن الدين ، ومن كفر ، فإن الله غني عن العالمين.

[٩٨ ـ ٩٩] لما أقام فيما تقدم ، الحجج على أهل الكتاب ـ فمع أنهم قبل ذلك ، يعرفون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما يعرفون أبناءهم ـ وبّخ المعاندين منهم بكفرهم بآيات الله ، وصدهم الخلق عن سبيل الله ، لأن عوامهم تبع لعلمائهم ، والله تعالى يعلم أحوالهم وسيجازيهم على ذلك أتم الجزاء وأوفاه.

[١٠٠ ـ ١٠١] لما أقام الحجج على أهل الكتاب ، ووبخهم بكفرهم وعنادهم ، حذر عباده المؤمنين ، من الاغترار بهم ، وبين لهم أن هذا الفريق منهم ، حريصون على إضراركم وردكم إلى الكفر بعد الإيمان. ولكن ـ ولله الحمد ـ أنتم ـ يا معشر المؤمنين ـ بعد ما منّ الله عليكم بالدين ، ورأيتم آياته ومحاسنه ومناقبه وفضائله ، وفيكم رسول الله الذي أرشدكم إلى جميع مصالحكم ، واعتصمتم بالله وبحبله ، ـ الذي هو دينه ـ يستحيل أن يردوكم عن دينكم ، لأن الدين الذي بني على هذه الأصول والدعائم الثابتة الأساس ، المشرقة الأنوار ، تنجذب إليه الأفئدة ، ويأخذ بمجامع القلوب ، ويوصل العباد إلى أجلّ غاية ، وأفضل مطلوب. (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ) ، أي : يتوكل عليه ، ويحتمي بحماه ، (فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، وهذا فيه الحث على الاعتصام به ، وأنه السبيل إلى السلامة والهداية.

[١٠٢ ـ ١٠٥] هذه الآيات فيها حث الله عباده المؤمنين أن يقوموا بشكر نعمه العظيمة ، بأن يتقوه حق تقواه ، وأن يقوموا بطاعته ، وترك معصيته ، مخلصين له بذلك ، وأن يقيموا دينهم ، ويستمسكوا بحبله الذي أوصله إليهم ، وجعله السبب بينهم وبينه ، وهو دينه وكتابه ، والاجتماع على ذلك وعدم التفرق ، وأن يستديموا ذلك إلى الممات. وذكّرهم ما هم عليه قبل هذه النعمة ، وهو : أنهم كانوا أعداء متفرقين ، فجمعهم بهذا الدين ، وألف بين قلوبهم ،

١٤٦

وجعلهم إخوانا ، وكانوا على شفا حفرة من النار ، فأنقذهم من الشقاء ، ونهج بهم طريق السعادة. (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) إلى شكر الله والتمسك بحبله ، وأمرهم بتتميم هذه الحالة. والسبب الأقوى الذي يتمكنون به من إقامة دينهم ، بأن يتصدى منهم طائفة يحصل فيها الكفاية. (يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) وهو الدين ، أصوله ، وفروعه وشرائعه. (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) وهو ما عرف حسنه شرعا وعقلا. (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) وهو ما عرف قبحه شرعا وعقلا. (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) المدركون لكل مطلوب ، الناجون من كل مرهوب. ويدخل في هذه الطائفة أهل العلم والتعليم ، والمتصدون للخطابة ووعظ الناس ، عموما وخصوصا ، والمحتسبون الذين يقومون بإلزام الناس بإقامة الصلوات ، وإيتاء الزكاة ، والقيام بشرائع الدين ، وينهونهم عن المنكرات. فكل من دعا الناس إلى خير على وجه العموم ، أو على وجه الخصوص ، أو قام بنصيحة عامة أو خاصة ، فإنه داخل في هذه الآية الكريمة. ثم نهاهم عن سلوك مسلك المتفرقين ، الذين جاءهم الدين والبينات ، الموجب لقيامهم به ، واجتماعهم ، فتفرقوا واختلفوا وصاروا شيعا ، ولم يصدر ذلك عن جهل وضلال ، وإنما صدر عن علم وقصد سيىء ، وبغي من بعضهم على بعض ، ولهذا قال : (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).

[١٠٦ ـ ١٠٧] ثم بيّن متى يكون هذا العذاب العظيم ، ويمسهم هذا العذاب الأليم ، فقال : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) ، الآيتين. يخبر تعالى ، بتفاوت الخلق يوم القيامة ، في السعادة والشقاوة ، وأنه تبيض وجوه أهل السعادة ، الذين آمنوا بالله ، وصدقوا رسله ، وامتثلوا أمره ، واجتنبوا نهيه ، وأن الله تعالى ، يدخلهم الجنات ، ويفيض عليهم أنواع الكرامات ، وهم فيها خالدون. وتسود وجوه أهل الشقاوة ، الذين كذبوا رسله ، وعصوا أمره ، وفرقوا دينهم شيعا وأنهم يوبخون ، فيقال لهم : (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) ، فكيف اخترتم الكفر على الإيمان؟ (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ).

[١٠٨ ـ ١٠٩] يثني تعالى ، على ما قصه على نبيه من آياته ، التي حصل بها الفرقان بين الحق والباطل ، وبين أولياء الله وأعدائه ، وما أعده لهؤلاء من الثواب ، وللآخرين من العقاب ، وأن ذلك مقتضى فضله وعدله ، وحكمته ، وأنه لم يظلم عباده ، ولم ينقصهم من أعمالهم ، أو يعذب أحدا بغير ذنبه ، أو يحمل عليه وزر غيره. ولما ذكر أن له الأمر والشرع ، ذكر أن له تمام الملك والتصرف والسلطان ، فقال : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (١٠٩) ، فيجازي المحسنين بإحسانهم ، والمسيئين بعصيانهم. وكثيرا ما يذكر الله أحكامه الثلاثة مجتمعة ليبين لعباده أنه الحاكم المطلق ، فله الأحكام القدرية والأحكام الشرعية ، والأحكام الجزائية ، فهو الحاكم بين عباده في الدنيا والآخرة. ومن سواه من المخلوقات ، محكوم عليها ليس لها من الأمر شيء.

[١١٠ ـ ١١١] هذا تفضيل من الله لهذه الأمة بهذه الأسباب ، التي تميزوا بها وفاقوا بها سائر الأمم ، وأنهم خير الناس للناس ، نصحا ، ومحبة للخير ، ودعوة ، وتعليما ، وإرشادا ، وأمرا بالمعروف ، ونهيا عن المنكر ، وجمعا بين

١٤٧

تكميل الخلق ، والسعي في منافعهم ، بحسب الإمكان ، وبين تكميل النفس بالإيمان بالله ، والقيام بحقوق الإيمان. وأن أهل الكتاب ، لو آمنوا بمثل ما آمنتم به ، لاهتدوا وكان خيرا لهم ، ولكن لم يؤمن منهم إلا القليل ، وأما الكثير ، فهم فاسقون ، خارجون عن طاعة الله ، وطاعة رسوله ، محاربون للمؤمنين ، ساعون في إضرارهم بكل مقدورهم ، ومع ذلك ، فلن يضروا المؤمنين إلا أذى باللسان ، وإلا فلو قاتلوهم ، لولوا الأدبار ، ثم لا ينصرون. وقد وقع ما أخبر الله به ، فإنهم لما قاتلوا المسلمين ، ولوا الأدبار ، ونصر الله المسلمين عليهم.

[١١٢] هذا إخبار من الله تعالى أن اليهود ضربت عليهم الذلة ، فهم خائفون أينما ثقفوا ، ولا يؤمنهم شيء إلا معاهدة ، وسبب يأمنون به ، يرضخون لأحكام الإسلام ، ويعترفون بالجزية. أو (حَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) ، أي : إذا كانوا تحت ولاية غيرهم ونظارتهم ، كما شوهد حالهم سابقا ولا حقا ، فإنهم لم يتمكنوا في الوقت الأخير من الملك المؤقت في فلسطين ، إلا بنصر الدول الكبرى ، وتمهيدها لهم كل سبب. (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) ، أي : قد غضب الله عليهم ، وعاقبهم بالذلة والمسكنة ، والسبب في ذلك كفرهم بآيات الله ، وقتلهم الأنبياء بغير حق ، أي : ليس ذلك عن جهل ، وإنما هو بغي وعناد. تلك العقوبات المتنوعة عليهم (بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) ، فالله تعالى لم يظلمهم ويعاقبهم بغير ذنب ، وإنما الذي أجراه عليهم بسبب بغيهم وعدوانهم ، وكفرهم وتكذيبهم للرسل ، وجناياتهم الفظيعة.

[١١٣ ـ ١١٥] لما ذكر الله المنحرفين من أهل الكتاب ، بيّن حالة المستقيمين منهم ، وأن منهم أمة مقيمين لأصول الدين وفروعه. (يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) ، وهو الخير كله ، وينهون عن المنكر وهو جميع الشر. كما قال تعالى : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (١٥٩). و (يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) والمسارعة إلى الخيرات ، قدر زائد على مجرد فعلها ، فهو وصف لهم بفعل الخيرات ، والمبادرة إليها ، وتكميلها بكل ما تم به من واجب ومستحب. ثم بين تعالى أن كل ما فعلوه ، من خير قليل أو كثير ، فإن الله سيقبله ، حيث كان صادرا عن إيمان وإخلاص ، (فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) ، يعني : لن ينكر ما عملوه ، ولن يهدر. (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) ، وهم الذين قاموا بالخيرات ، وتركوا المحرمات ، لقصد رضا الله ، وطلب ثوابه.

[١١٦ ـ ١١٧] بيّن تعالى : أن الكفار ، والذين كفروا بآيات الله ، وكذبوا رسله ، أنه لا ينقذهم من عذاب الله منقذ ، ولا ينفعهم نافع ، ولا يشفع لهم عند الله شافع ، وأن أموالهم وأولادهم ، التي كانوا يعدونها للشدائد والمكاره ، لا تفيدهم شيئا ، وأن نفقاتهم التي أنفقوها في الدنيا ، لنصر باطلهم ، ستضمحل. وأن مثلها (كَمَثَلِ) حرث أصابته (رِيحٍ) شديدة (فِيها صِرٌّ) ، أي : برد شديد ، أو نار محرقة ، فأهلكت ذلك الحرث ، وذلك بظلمهم فلم يظلمهم الله ويعاقبهم بغير ذنب ، وإنما ظلموا أنفسهم. وهذه كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ).

١٤٨

[١١٨ ـ ١١٩] هذا تحذير من الله لعباده عن ولاية الكفار ، واتخاذهم بطانة ، أو خصيصة وأصدقاء ، يسرون إليهم ، ويفضون لهم بأسرار المؤمنين ، فوضح لعباده المؤمنين ، الأمور الموجبة للبراءة من اتخاذهم بطانة بأنهم لا يألونكم خبالا ، أي : هم حريصون غير مقصرين ، في إيصال الضرر بكم ، وقد بدت البغضاء من كلامهم ، وفلتات ألسنتهم ، وما تخفيه صدورهم ، من البغضاء والعداوة ، أكبر مما ظهر لكم من أقوالهم وأفعالهم. فإن كانت لكم فهوم وعقول ، فقد وضح الله لكم أمرهم. وأيضا ، فما الموجب لمحبتهم واتخاذهم أولياء وبطانة ، وقد تعلمون منهم الانحراف العظيم في الدين وفي مقابلة إحسانكم؟ فأنتم مستقيمون على أديان الرسل ، تؤمنون بكل رسول أرسله الله ، وبكل كتاب أنزله الله ، وهم يكفرون بأجلّ الكتب ، وأشرف الرسل ، وأنتم تبذلون لهم من الشفقة والمحبة ، ما لا يكافئونكم على أقل القليل منه. فكيف تحبونهم ، وهم لا يحبونكم ، وهم يداهنونكم وينافقونكم ، فإذا لقوكم قالوا آمنا ، وإذا خلوا مع بني جنسهم ، عضوا عليكم الأنامل ، من شدة الغيظ والبغض لكم ولدينكم. قال تعالى : (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) ، أي : سترون من عز الإسلام وذل الكفر ما يسوؤكم ، وتموتون بغيظكم ، فلن تدركوا شفاء ذلك بما تقصدون. (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) ، فلذلك بيّن لعباده المؤمنين ، ما تنطوي عليه صدور أعداء الدين من الكفار والمنافقين.

[١٢٠] (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ) عز ونصر وعافية وخير (تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ) من إدالة العدو ، أو حصول بعض المصائب الدنيوية (يَفْرَحُوا بِها) ، وهذا وصف العدو الشديد عداوته. لمّا بين تعالى شدة عداوتهم ، وشرح ما هم عليه من الصفات الخبيثة ، أمر عباده المؤمنين بالصبر ، ولزوم التقوى ، وأنهم إذا قاموا بذلك ، فلن يضرهم كيد أعدائهم شيئا ، فإن الله محيط بهم وبأعمالهم وبمكائدهم ، التي يكيدونكم فيها. وقد وعدكم عند القيام بالتقوى ، أنهم لا يضرونكم شيئا ، فلا تشكوا في حصول ذلك.

[١٢١ ـ ١٢٣] (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ) ، إلى آخر القصة. وذلك يوم «أحد» حين خرج صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمسلمين ، حين وصل المشركون ـ بجمعهم ـ إلى قريب من «أحد». فنزلهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم منازلهم ، ورتبهم في مقاعدهم ، ونظمهم تنظيما عجيبا ، يدل على كمال رأيه وبراعته الكاملة في فنون السياسة والحرب ، كما كان كاملا في كل المقامات. (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ، لا يخفى عليه شيء من أموركم. (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا) وهم بنو سلمة وبنو حارثة ، لكن تولاهما الباري بلطفه ورعايته وتوفيقه. (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) ، فإنهم إذا توكلوا عليه ، كفاهم وأعانهم ، وعصمهم من وقوع ما يضرهم ، في دينهم ودنياهم. وفي هذه الآية ونحوها ، وجوب التوكل وأنه على حسب إيمان العبد ، يكون توكله ، والتوكل هو اعتماد العبد على ربه في حصول منافعه ، ودفع مضاره ، فلما ذكر حالهم في «أحد» وما جرى عليهم من المصيبة ، أدخل فيها تذكيرهم بنصره ، ونعمته عليهم يوم «بدر» ليكونوا شاكرين لربهم ، وليخفف هذا ، فقال : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) في عددكم وعدّتكم ،

١٤٩

فكانوا ثلاثمائة ، وبضعة عشر ، في قلة ظهر ، ورثاثة سلاح ، وأعداؤهم يناهزون الألف ، في كمال العدة والسلاح. (فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الذي أنعم عليكم بنصره.

[١٢٤ ـ ١٢٧] (إِذْ تَقُولُ) مبشرا (لِلْمُؤْمِنِينَ) مثبتا لجنانهم : (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا) ، أي : من حملتهم هذه بهذا الوجه. (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) ، أي : معلمين علامة الشجعان. واختلف الناس ، هل كان هذا الإمداد حصل فيه من الملائكة ، مباشرة للقتال ، كما قاله بعضهم ، أو أن ذلك تثبيت من الله لعباده المؤمنين ، وإلقاء الرعب في قلوب المشركين ، كما قاله كثير من المفسرين. ويدل عليه قوله : (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (١٢٦) ، وفي هذا أن الأسباب لا يعتمد عليها العبد ، بل يعتمد على الله. وإنما الأسباب وتوفرها ، فيها طمأنينة للقلوب ، وثبات كل على الخير. (لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ) (١٢٧) ، أي : نصر الله لعباده المؤمنين ، لا يعدو أن يكون قطعا لطرف من الكفار ، أو ينقلبوا بغيظهم ، لم ينالوا خيرا ، كما أرجعهم يوم الخندق ، بعد ما كانوا قد أتوا على حرد قادرين ، أرجعهم الله بغيظهم خائبين.

[١٢٨] لما أصيب صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم «أحد» وكسرت رباعيته ، وشج في رأسه ، جعل يقول : «كيف يفلح قوم ، شجوا وجه نبيهم ، وكسروا رباعيته» ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وبين أن الأمر كله لله ، وأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس له من الأمر شيء ، لأنه عبد من عبيد الله ، والجميع تحت عبودية ربهم ، مدبّرون لا مدبّرون. وهؤلاء الذين دعوت عليهم ، أيها الرسول ، أو استبعدت فلاحهم وهدايتهم ، إن شاء الله تاب عليهم ، ووفقهم للدخول في الإسلام ، وقد فعل ، فإن أكثر أولئك هداهم الله فأسلموا. وإن شاء الله عذبهم ، فإنهم ظالمون ، مستحقون لعقوبات الله وعذابه.

[١٢٩] (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) يخبر تعالى ، أنه هو المتصرف في العالم العلوي والسفلي ، وأنه يتوب على من يشاء ، فيغفر له ، ويخذل من يشاء ، فيعذبه. (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فمن صفته اللازمة ، كمال المغفرة والرحمة ، ووجود مقتضياتهما في الخلق والأمر ، يغفر للتائبين ، ويرحم من قام بالأسباب الموجبة للرحمة. قال تعالى : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (١٣٢).

[١٣٠ ـ ١٣١] تقدم في مقدمة هذا التفسير ، أن العبد ينبغي له مراعاة الأوامر والنواهي في نفسه وفي غيره ، وأن الله تعالى إذا أمره بأمر ، وجب عليه ـ أولا ـ أن يعرف حده ، وما هو الذي أمر به ، ليتمكن بذلك من امتثاله ، فإذا عرف ذلك ، اجتهد ، واستعان بالله على امتثاله ، في نفسه وفي غيره ، بحسب قدرته وإمكانه. وكذلك إذا نهي عن أمر ، عرف حده ، وما يدخل فيه ، وما لا يدخل ، ثم اجتهد واستعان بربه في تركه. وأن هذا ينبغي مراعاته في جميع الأوامر الإلهية والنواهي. وهذه الآيات الكريمات ، وقد اشتملت على أوامر وخصال من خصال الخير ، أمر الله بها ، وحث على فعلها ، وأخبر عن جزاء أهلها ، وعلى نواهي ، حث على تركها. ولعل الحكمة ـ والله أعلم ـ في إدخال

١٥٠

هذه الآيات ، أثناء قصة «أحد» أنه قد تقدم أن الله تعالى ، وعد عباده المؤمنين ، أنهم ـ إذا صبروا واتقوا ـ نصرهم على أعدائهم ، وخذل الأعداء عنهم كما في قوله تعالى : (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) ، ثم قال : (بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ) الآيات. فكأنّ النفوس اشتاقت إلى معرفة خصال التقوى ، التي يحصل بها النصر والفلاح ، والسعادة ، فذكر الله في هذه الآيات ، أهم خصال التقوى التي إذا قام العبد بها ، فقيامه بغيرها من باب أولى وأحرى. ويدل على ما قلنا ، أن الله ذكر لفظ «التقوى» في هذه الآيات ، ثلاث مرات : مرة مطلقة وهي قوله : (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) ، ومرتين مقيدتين ، فقال : (وَاتَّقُوا اللهَ) ، (وَاتَّقُوا النَّارَ). فقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) كل ما في القرآن من قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) : افعلوا كذا ، أو اتركوا كذا ، يدل على أن الإيمان هو السبب الداعي والموجب لامتثال ذلك الأمر ، واجتناب ذلك النهي ؛ لأن الإيمان هو التصديق الكامل بما يجب التصديق به ، المستلزم لأعمال الجوارح. فنهاهم عن أكل الربا أضعافا مضاعفة ، وذلك هو ما اعتاده أهل الجاهلية ، ومن لا يبالي بالأوامر الشرعية من أنه إذا حل الدين على المعسر ، ولم يحصل منه شيء ، قالوا له : إما أن تقضي ما عليك من الدين ، وإما أن نزيد في المدة ، وتزيد ما في ذمتك. فيضطر الفقير ، ويستدفع غريمه ، ويلتزم ذلك ، اغتناما لراحته الحاضرة ، فيزداد ـ بذلك ـ ما في ذمته أضعافا مضاعفة ، من غير نفع وانتفاع. ففي قوله : (أَضْعافاً مُضاعَفَةً) تنبيه على شدة شناعته بكثرته ، وتنبيه لحكمة تحريمه ، وأن تحريم الربا ، حكمته أن الله منع منه ، لما فيه من الظلم. وذلك أن الله أوجب إنظار المعسر ، وبقاء ما في ذمته من غير زيادة ، فإلزامه بما فوق ذلك ، ظلم متضاعف ، فيتعين على المؤمن المتقي ، تركه ، وعدم قربانه ، لأن تركه من موجبات التقوى. والفلاح متوقف على التقوى ، فلهذا قال : (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) بترك ما يوجب دخولها ، من الكفر والمعاصي ، على اختلاف درجاتها. فإن المعاصي كلها ـ وخصوصا المعاصي الكبار ـ تجر إلى الكفر ، بل هي من خصال الكفر ، الذي أعد الله النار لأهله ، فترك المعاصي ينجي من النار ، ويقي من سخط الجبار. وأفعال الخير والطاعة ، توجب رضا الرحمن ، ودخول الجنان ، وحصول الرحمة.

[١٣٢] ولهذا قال : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) ، بفعل الأوامر وامتثالها ، واجتناب النواهي (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). فطاعة الله وطاعة رسوله ، من أسباب حصول الرحمة ، كما قال تعالى : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) ، الآيات.

[١٣٣] ثم أمرهم تعالى ، بالمسارعة إلى مغفرته ، وإدراك جنته ، التي عرضها السماوات والأرض ، فكيف بطولها ، التي أعدها الله للمتقين ، فهم أهلها وأعمال التقوى هي الموصلة إليها. ثم وصف المتقين وأعمالهم ، فقال : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) ، أي : في عسرهم ويسرهم ، إن أيسروا أكثروا من النفقة ، وإن أعسروا لم يحتقروا من المعروف شيئا ، ولو قل. (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) ، أي : إذا حصل لهم من غيرهم أذية توجب غيظهم ـ وهو امتلاء

١٥١

قلوبهم من الحنق ، الموجب للانتقام بالقول والفعل ـ ، هؤلاء لا يعملون بمقتضى الطباع البشرية ، بل يكظمون ما في القلوب من الغيظ ، ويصبرون عن مقابلة المسيء إليهم. (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) ، يدخل في العفو عن الناس ، العفو عن كل من أساء إليك بقول ، أو فعل. والعفو أبلغ من الكظم ، لأن العفو ترك المؤاخذة ، مع السماحة عن المسيء ، وهذا إنما يكون ممن تحلى بالأخلاق الجميلة ، وتخلى عن الأخلاق الرذيلة ، وممن تاجر مع الله ، وعفا عن عباد الله ، رحمة بهم ، وإحسانا إليهم ، وكراهة لحصول الشر عليهم ، وليعفو الله عنه ، ويكون أجره على ربه الكريم ، لا على العبد الفقير ، كما قال تعالى : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ).

[١٣٤] ثم ذكر حالة أعم من غيرها ، وأحسن ، وأعلى ، وأجل ، وهي الإحسان ، فقال تعالى : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ، والإحسان نوعان : الإحسان في عبادة الخالق ، والإحسان إلى المخلوق. فالإحسان في عبادة الخالق ، فسرها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك». وأما الإحسان إلى المخلوق ، فهو إيصال النفع الديني والدنيوي إليهم ، ودفع الشر الديني والدنيوي عنهم ، فيدخل في ذلك ، أمرهم بالمعروف ، ونهيهم عن المنكر ، وتعليم جاهلهم ، ووعظ غافلهم ، والنصيحة لعامتهم وخاصتهم ، والسعي في جمع كلمتهم ، وإيصال الصدقات والنفقات الواجبة والمستحبة إليهم ، على اختلاف أحوالهم ، وتباين أوصافهم. فيدخل في ذلك بذل الندى ، وكف الأذى ، واحتمال الأذى ، كما وصف الله به المتقين في هذه الآيات. فمن قام بهذه الأمور ، فقد قام بحق الله وحق عبيده.

[١٣٥] ثم ذكر اعتذارهم لربهم من جناياتهم وذنوبهم ، فقال : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) ، أي : صدر منهم أعمال سيئة كبيرة ، أو ما دون ذلك ، بادروا إلى التوبة والاستغفار ، وذكروا ربهم ، وما توعد به العاصين ، ووعد به المتقين. فسألوه المغفرة لذنوبهم ، والستر لعيوبهم ، مع إقلاعهم عنها ، وندمهم عليها فلهذا قال : (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ).

[١٣٦] (أُولئِكَ) الموصوفون بتلك الصفات (جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) تزيل عنهم كل محذور. (وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) فيها من النعيم المقيم ، والبهجة والحبور والبهاء ، والخير والسرور ، والقصور ، والمنازل الأنيقة العاليات ، والأشجار المثمرة البهية ، والأنهار الجاريات في تلك المساكن الطيبات. (خالِدِينَ فِيها) لا يحولون عنها ، ولا يبغون بها بدلا ، ولا يغير ما هم فيه من النعيم. (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) عملوا لله قليلا فأجروا كثيرا ف «عند الصباح يحمد القوم السرى» ، وعند الجزاء يجد العامل أجره كاملا موفرا. وهذه الآيات الكريمات ، من أدلة أهل السنة والجماعة ، على أن الأعمال تدخل في الإيمان ، خلافا للمرجئة. وجه الدلالة إنما يتم بذكر الآية ، التي في سورة الحديد ، نظير هذه الآيات وهي قوله تعالى : (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) ، فلم يذكر فيها إلا لفظ الإيمان به ، وبرسله ، وهنا قال : (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ). ثم وصف المتقين ، بهذه الأعمال المالية والبدنية ، فدل على أن هؤلاء المتقين الموصوفين بهذه الصفات ، هم أولئك المؤمنون.

١٥٢

[١٣٧] ثم قال تعالى : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) الآيات. وهذه الآيات الكريمات ، وما بعدها في قصة «أحد» يعزي تعالى عباده المؤمنين ويسليهم ، ويخبرهم أنه مضى قبلهم أجيال وأمم ، امتحنوا ، وابتلي المؤمنون منهم بقتال الكافرين ، فلم يزالوا في مداولة ومجاولة ، حتى جعل الله العاقبة للمتقين ، والنصر لعباده المؤمنين. وآخر الأمر حصلت الدولة على المكذبين ، وخذلهم الله بنصر رسله وأتباعهم. (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) بأبدانكم وقلوبكم (فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) ، فإنكم لا تجدونهم إلا معذبين ، بأنواع العقوبات الدنيوية. قد خوت ديارهم ، وتبين لكل أحد خسارهم ، وذهب عزهم وملكهم ، وزال بذخهم وفخرهم ، أفليس في هذا أعظم دليل ، وأكبر شاهد ، على صدق ما جاءت به الرسل؟ وحكمة الله التي يمتحن بها عباده ، ليبلوهم ويتبين صادقهم من كاذبهم.

[١٣٨] ولهذا قال تعالى : (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ) ، أي : دلالة ظاهرة ، تبين للناس الحق من الباطل ، وأهل السعادة من أهل الشقاوة ، وهو الإشارة إلى ما أوقع الله بالمكذبين. (وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) لأنهم هم المنتفعون بالآيات فتهديهم إلى سبيل الرشاد ، وتعظهم وتزجرهم ، عن طريق الغي. وأما باقي الناس ، فهي بيان لهم ، تقوم به عليهم الحجة من الله ، ليهلك من هلك عن بينة. ويحتمل أن الإشارة في قوله : (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ) للقرآن العظيم ، والذكر الحكيم ، وأنه بيان للناس عموما ، وهدى وموعظة للمتقين ، خصوصا ، وكلا المعنيين حق.

[١٣٩] يقول تعالى مشجعا لعباده المؤمنين ، ومقويا لعزائمهم ، ومنهضا لهممهم : (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا) ، أي : ولا تهنوا وتضعفوا في أبدانكم ، ولا تحزنوا في قلوبكم ، عند ما أصابتكم المصيبة ، وابتليتم بهذه البلوى ، فإن الحزن في القلوب ، والوهن على الأبدان ، زيادة مصيبة عليكم ، وأعون لعدوكم عليكم. بل شجعوا قلوبكم ، وصبروها ، وادفعوا عنها الحزن وتصلبوا على قتال عدوكم ، وذكر تعالى أنه لا يليق بهم الوهن والحزن ، وهم الأعلون في الإيمان ، ورجاء نصر الله وثوابه ، فالمؤمن المبتغي ما وعده الله من الثواب الدنيوي والأخروي لا ينبغي له ذلك. ولهذا قال تعالى : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

[١٤٠] ثم سلّاهم بما حصل لهم من الهزيمة ، وبيّن الحكمة العظيمة المترتبة على ذلك ، فقال تعالى : (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) ، فأنتم وهم ، قد تساويتم في القرح ، ولكنكم ترجون من الله ما لا يرجون كما قال تعالى : (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ). ومن الحكم في ذلك ، أن هذه الدار ، يعطي الله منها المؤمن والكافر ، والبر والفاجر ، فيداول الله الأيام بين الناس ، يوم لهذه الطائفة ، ويوم للطائفة الأخرى ؛ لأن هذه الدار الدنيا ، منقضية فانية ، وهذا بخلاف الدار الآخرة ، فإنها خالصة للذين آمنوا. (وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) ، هذا أيضا من الحكم أنه يبتلي الله عباده بالهزيمة والابتلاء ، ليتبين المؤمن من المنافق ؛ لأنه لو استمر النصر للمؤمنين في جميع الوقائع لدخل في الإسلام من لا يريده. فإذا حصل في بعض الوقائع ، بعض أنواع الابتلاء ، تبين المؤمن حقيقة الذي يرغب في الإسلام ، في الضراء والسراء ، واليسر والعسر ،

١٥٣

ممن ليس كذلك. (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) ، وهذا أيضا من بعض الحكم ، لأن الشهادة عند الله ، من أرفع المنازل ، ولا سبيل لنيلها ، إلا بما يحصل من وجود أسبابها ، فهذا من رحمته بعباده المؤمنين ، أن قيّض لهم من الأسباب ما تكرهه النفوس ، لينيلهم ما يحبون ، من المنازل العالية والنعيم المقيم. (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) ، الذين ظلموا أنفسهم ، وتقاعدوا عن القتال في سبيله. (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) (٤٦).

[١٤١] (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) ، وهذا أيضا من الحكم ، أن الله يمحص بذلك المؤمنين ، من ذنوبهم وعيوبهم ، يدل ذلك على أن الشهادة والقتال في سبيل الله ، تكفر الذنوب ، وتزيل العيوب. ويمحص الله أيضا المؤمنين من غيرهم من المنافقين ، فيتخلصون منهم ، ويعرفون المؤمن من المنافق. ومن الحكم أيضا أن يقدر ذلك ، ليمحق الكافرين ، أي : ليكون سببا لمحقهم ، واستئصالهم بالعقوبة ، فإنهم إذا انتصروا ، بغوا ، وازدادوا طغيانا إلى طغيانهم ، يستحقون به المعاجلة بالعقوبة ، رحمة بعباده المؤمنين.

[١٤٢] ثم قال تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (١٤٢) هذا استفهام إنكاري ، أي : لا تظنوا ، ولا يخطر ببالكم أن تدخلوا الجنة من دون مشقة ، واحتمال المكاره في سبيل الله وابتغاء مرضاته ، فإن في الجنة أعلى المطالب ، وأفضل ما به يتنافس المتنافسون ، وكلما عظم المطلوب عظمت وسيلته ، والعمل الموصل إليه ، فلا يوصل إلى الراحة إلا بترك الراحة ، ولا يدرك النعيم ، إلا بترك النعيم. ولكن مكاره الدنيا التي تصيب العبد في سبيل الله ـ عند توطين النفس لها ، وتمرينها عليها ، ومعرفة ما تؤول إليه ، تنقلب ـ عند أرباب البصائر ـ منحا يسرون بها ، ولا يبالون بها ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

[١٤٣] ثم وبخهم تعالى ، على عدم صبرهم بأمر كانوا يتمنونه ، ويودون حصوله ، فقال : (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ) ، وذلك أن كثيرا من الصحابة رضي الله عنهم ممن فاته بدر ، كانوا يتمنون أن يحضرهم الله مشهدا ، يبذلون فيه جهدهم. قال الله تعالى لهم : (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ) ، أي : ما تمنيتم بأعينكم (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) ، فما بالكم وترك الصبر؟ هذه حالة لا تليق ، ولا تحسن ، خصوصا لمن تمنى ذلك ، وحصل له ما تمنى ، فإن الواجب عليه ، بذل الجهد ، واستفراغ الوسع في ذلك. وفي هذه الآية دليل على أنه لا يكره تمني الشهادة ، ووجه الدلالة أن الله تعالى أقرهم على أمنيتهم ، ولم ينكر عليهم ، وإنما أنكر عليهم عدم العمل بمقتضاها ، والله أعلم.

[١٤٤] ثم قال تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) إلى (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ). يقول تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) ، أي : ليس ببدع من الرسل ، بل هو من جنس الرسل الذين قبله ، وظيفتهم تبليغ رسالة ربهم ، وتنفيذ أوامره ، ليسوا بمخلدين ، وليس بقاؤهم شرطا في امتثال أوامر الله ، بل الواجب على الأمم ، عبادة ربهم في كل وقت وبكل حال ، ولهذا قال : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) بترك ما جاءكم به ، من إيمان أو جهاد ، أو غير ذلك. قال تعالى : (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) إنما يضر نفسه ، وإلا ، فالله تعالى

١٥٤

غني عنه ، وسيقيم دينه ، ويعز عباده المؤمنين ، فلما وبخ تعالى ، من انقلب على عقبيه ، مدح من ثبت مع رسوله ، وامتثل أمر ربه ، فقال : (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) ، والشكر لا يكون إلا بالقيام بعبودية الله تعالى على كل حال. وفي هذه الآية الكريمة ، إرشاد من الله تعالى لعباده ، أن يكونوا بحالة ، لا يزعزعهم عن إيمانهم ، أو عن بعض لوازمه ، فقد رئيس ولو عظم ، وما ذاك إلا بالاستعداد في كل أمر من أمور الدين ، بعدة أناس من أهل الكفاءة فيه ، إذا فقد أحدهم قام به غيره. وأن يكون عموم المؤمنين ، قصدهم إقامة دين الله ، والجهاد عنه ، بحسب الإمكان لا يكون لهم قصد في رئيس دون رئيس ، فبهذه الحال ، يستتب لهم أمرهم ، وتستقيم أمورهم. وفي هذه الآية أيضا ، أعظم دليل على فضيلة الصديق الأكبر ، أبي بكر ، وأصحابه الذين قاتلوا المرتدين بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنهم هم سادات الشاكرين. ثم أخبر تعالى أن النفوس جميعها معلقة بآجالها ، بإذن الله ، وقدره وقضائه ، فمن حتم عليه بالقدر أن يموت ، مات ولو بغير سبب ، ومن أراد بقاءه ، فلو وقع من الأسباب كل سبب ، لم يضره ذلك قبل بلوغ أجله ، وذلك أن الله قضاه ، وقدّره ، وكتبه إلى أجل مسمى : (إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ).

[١٤٥] ثم أخبر تعالى ، أنه يعطي الناس من ثواب الدنيا والآخرة ، ما تعلقت به إرادتهم ، فقال : (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها). قال الله تعالى : (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) (٢١). (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) ، ولم يذكر جزاءهم ، ليدل ذلك على كثرته وعظمته ، وليعلم أن الجزاء ، على قدر الشكر ، قلة وكثرة ، وحسنا.

[١٤٦] هذا تسلية للمؤمنين ، وحث على الاقتداء بهم ، والفعل كفعلهم ، وأن هذا أمر قد كان متقدما ، لم تزل سنة الله جارية بذلك ، فقال : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍ) ، أي : وكم من نبي (قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) ، أي : جماعات كثيرون من أتباعهم ، الذين قد ربتهم الأنبياء بالإيمان ، والأعمال الصالحة ، فأصابهم قتل وجراح وغير ذلك. (فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا) ، أي : ما ضعفت قلوبهم ، ولا وهنت أبدانهم ، ولا استكانوا ، أي : ذلوا لعدوهم ، بل صبروا وثبتوا ، وشجعوا أنفسهم ، ولهذا قال : (وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ).

[١٤٧] ثم ذكر قولهم ، واستنصارهم لربهم ، فقال : (وَما كانَ قَوْلَهُمْ) ، أي : في تلك المواطن الصعبة (إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا) ، والإسراف هو مجاوزة الحد ، إلى ما حرم ، علموا أن الذنوب والإسراف من أعظم أسباب الخذلان ، وأن التخلي منها ، من أسباب النصر ، فسألوا ربهم مغفرتها. ثم إنهم لم يتكلوا على ما بذلوا جهدهم به ، من الصبر ، بل اعتمدوا على الله ، وسألوه أن يثبت أقدامهم عند ملاقاة الأعداء الكافرين ، وأن ينصرهم عليهم ، فجمعوا بين الصبر وترك ضده ، والتوبة والاستغفار ، والاستنصار بربهم.

[١٤٨] لا جرم أن الله نصرهم ، وجعل لهم العاقبة في الدنيا والآخرة ، ولهذا قال : (فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا) ، من النصر والظفر والغنيمة. (وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) ، وهو الفوز برضا ربهم ، والنعيم المقيم ، الذي قد سلم من جميع

١٥٥

المنكدات. وما ذاك ، إلا أنهم أحسنوا له الأعمال ، فجازاهم بأحسن الجزاء ، فلهذا قال : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) في عبادة الخالق ، ومعاملة الخلق. ومن الإحسان ، أن يفعل عند جهاد الأعداء ، كفعل هؤلاء المؤمنين.

[١٤٩] ثم قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ) إلى : (وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ). وهذا نهي من الله للمؤمنين أن يطيعوا الكافرين ، من المنافقين والمشركين ، فإنهم إذا أطاعوهم ، لم يريدوا لهم إلا الشر ، وهم قصدهم ردهم إلى الكفر ، الذي عاقبته الخيبة والخسران. ثم أخبر أنه مولاهم وناصرهم ، ففيه إخبار لهم بذلك ، وبشارة بأنه يتولى أمورهم ، بلطفه ، ويعصمهم من أنواع الشرور. وفي ضمن ذلك ، الحث لهم على اتخاذه وحده وليا وناصرا من دون كل أحد ، فمن ولايته ونصره لهم ، أنه وعدهم أنه سيلقي في قلوب أعدائهم من الكافرين الرعب ، وهو الخوف العظيم ، الذي يمنعهم من كثير من مقاصدهم ، وقد فعل تعالى. وذلك أن المشركين ـ بعد ما انصرفوا من وقعة «أحد» ـ تشاوروا فيما بينهم ، وقالوا : كيف ننصرف ، بعد أن قتلنا من قتلنا ، وهزمناهم؟ ولما نستأصلهم؟ فهموا بذلك ، فألقى الله في قلوبهم الرعب ، فانصرفوا خائبين. ولا شك أن هذا من أعظم النصر ، لأنه قد تقدم أن نصر الله لعباده المؤمنين لا يخرج عن أحد أمرين : إما أن يقطع طرفا ممن كفروا ، أو يكبتهم فينقلبوا خائبين ، وهذا من الثاني. ثم ذكر السبب الموجب لإلقاء الرعب في قلوب الكافرين ، فقال : (بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) ، أي : ذلك بسبب ما اتخذوا من دونه ، من الأنداد والأصنام ، التي اتخذوها على حسب أهوائهم وإرادتهم الفاسدة ، من غير حجة ولا برهان ، وانقطعوا من ولاية الواحد الرحمن. فمن ثم ، كان المشرك مرعوبا من المؤمنين ، لا يعتمد على ركن وثيق ، وليس له ملجأ عند كل شدة وضيق ، هذا حاله في الدنيا. وأما في الآخرة ، فأشد وأعظم ، ولهذا قال : (وَمَأْواهُمُ النَّارُ) ، أي : مستقرهم الذي يأوون إليه وليس لهم عنها خروج. (وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) ، بسبب ظلمهم وعدوانهم ، صارت النار مثواهم.

[١٥٢] أي : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) بالنصر ، فنصركم عليهم ، حتى ولوكم أكتافهم ، وطفقتم فيهم قتلا ، حتى صرتم سببا لأنفسكم ، وعونا لأعدائكم عليكم ، فلما حصل منكم الفشل وهو الضعف والخور (وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) الذي فيه ترك أمر الله ، بالائتلاف وعدم الاختلاف ، فاختلفتم ، فمن قائل : نقيم في مركزنا ، الذي جعلنا فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن قائل : ما مقامنا فيه ، وقد انهزم العدو ، ولم يبق محذور ؛ فعصيتم الرسول ، وتركتم أمره (مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ) وهو انخذال أعدائكم ؛ لأن الواجب على من أنعم الله عليه بما أحب ، أعظم من غيره. فالواجب في هذه الحال خصوصا ، وفي غيرها عموما ، امتثال أمر الله ورسوله. (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا) وهم الذين أوجب لهم ذلك ما أوجب. (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) وهم الذين لزموا أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وثبتوا حيث أمروا. (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) ، أي : بعد ما وجدت هذه الأمور منكم ، صرف الله وجوهكم عنهم ، فصار الوجه لعدوكم ، ابتلاء من الله لكم ، وامتحانا ، ليتبين المؤمن من الكافر ، والطائع من

١٥٦

العاصي ، وليكفر الله عنكم بهذه المصيبة ، ما صدر منكم ، فلهذا قال : (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) ، أي : ذو فضل عظيم عليهم ، حيث منّ عليهم بالإسلام ، وهداهم لشرائعه ، وعفا عنهم سيئاتهم ، وأثابهم على مصيباتهم. ومن فضله على المؤمنين ، أن لا يقدر عليهم خيرا ولا مصيبة ، إلا كان خيرا لهم. إن أصابتهم سراء فشكروا ، جازاهم جزاء الشاكرين ، وإن أصابتهم ضراء فصبروا ، جازاهم جزاء الصابرين.

[١٥٣ ـ ١٥٤] يذكرهم تعالى حالهم ، في وقت انهزامهم عن القتال ، ويعاتبهم على ذلك ، فقال : (إِذْ تُصْعِدُونَ) ، أي : تجدون في الهرب (وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ) ، أي : لا يلوي أحد منكم على أحد ، ولا ينظر إليه ، بل ليس لكم هم إلا الفرار ، والنجاء من القتال. والحال أنه ليس عليكم خطر كبير ، إذ لستم آخر الناس ، مما يلي الأعداء ، ويباشر الهيجاء ، بل (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) ، أي : مما يلي القوم يقول : «إليّ عباد الله» ، فلم تلتفتوا إليه ، ولا عرجتم عليه ، فالفرار نفسه ، موجب للوم ، ودعوة الرسول الموجبة لتقديمه على النفس ، أعظم لوما ، بتخلفكم عنها. (فَأَثابَكُمْ) ، أي : جازاكم على فعلكم (غَمًّا بِغَمٍ) ، أي : غما يتبعه غم. غم بفوات النصر وفوات الغنيمة ، وغم بانهزامكم ، وغم أنساكم كل غم ، وهو سماعكم أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قتل. ولكن الله ـ بلطفه ، وحسن نظره لعباده ـ جعل اجتماع هذه الأمور لعباده المؤمنين ، خيرا لهم ، فقال : (لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ) من النصر والظفر. (وَلا ما أَصابَكُمْ) من الهزيمة والقتل والجراح ، إذا تحققتم أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يقتل ، هانت عليكم تلك المصيبات ، واغتبطتم بوجوده المسلي عن كل مصيبة ومحنة. فلله ما في ضمن البلايا والمحن ، من الأسرار والحكم. وكل هذا صادر عن علمه وكمال خبرته بأعمالكم ، وظواهركم ، وبواطنكم ، ولهذا قال : (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ). ويحتمل أن معنى قوله : (لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ) ، يعني : أنه قدر ذلك الغم والمصيبة عليكم ، لكي تتوطن نفوسكم ، وتمرنوا على الصبر على المصيبات ، ويخف عليكم تحمل المشقات : (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِ) الذي أصابكم (أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ). ولا شك أن هذا رحمة بهم ، وإحسان وتثبيت لقلوبهم ، وزيادة طمأنينة ؛ لأن الخائف لا يأتيه النعاس ، لما في قلبه من الخوف ، فإذا زال الخوف عن القلب ، أمكن أن يأتيه النعاس. وهذه الطائفة التي أنعم الله عليها بالنعاس هم المؤمنون الذين ليس لهم إلا إقامة دين الله ، ورضا الله ورسوله ، ومصلحة إخوانهم المسلمين. وأما الطائفة الأخرى الذين (قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) فليس لهم هم في غيرها ، لنفاقهم ، أو ضعف إيمانهم ، فلهذا لم يصبهم من النعاس ما أصاب غيرهم ، (يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) ، وهذا استفهام إنكاري ، أي : ما لنا من الأمر ، أي : النصر والظهور ـ شيء. فأساؤوا الظن بربهم ، وبدينه ، وبنبيه ، وظنوا أن الله لا يتم أمر رسوله ، وأن هذه الهزيمة ، هي الفيصلة والقاضية على دين الله. قال الله في جوابهم : (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) ، الأمر يشمل الأمر القدري ، والأمر الشرعي. فجميع الأشياء بقضاء الله وقدره ، وعاقبتها النصر والظفر لأوليائه ، وأهل طاعته ، وإن جرى عليهم ما جرى. (يُخْفُونَ)

١٥٧

يعني المنافقين (فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ). ثم بين الأمر الذي يخفونه ، فقال : (يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) ، أي : لو كان لنا في هذه الواقعة رأي ومشورة (ما قُتِلْنا هاهُنا). وهذا إنكار منهم ، وتكذيب بقدر الله ، وتسفيه منهم لرأي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورأي أصحابه ، وتزكية منهم ، لأنفسهم ، فرد الله عليهم بقوله : (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ) التي هي أبعد شيء عن مظان القتل : (لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) ، فالأسباب ـ وإن عظمت ـ إنما تنفع إذا لم يعارضها القدر والقضاء ، فإذا عارضها القدر لم تنفع شيئا ، بل لا بد أن يمضي الله ما كتب في اللوح المحفوظ ، من الموت والحياة. (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ) ، أي : يختبر ما فيها من نفاق وإيمان وضعف إيمان. (وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ) من وساوس الشيطان ، وما تأثر عنها من الصفات غير الحميدة. (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) ، أي : بما فيها ، وما أكنته ، فاقتضى علمه وحكمته ، أن قدر من الأسباب ، ما به يظهر مخبّآت الصدور ، وسرائر الأمور.

[١٥٥] يخبر تعالى عن حال الذين انهزموا يوم «أحد» وما الذي أوجب لهم الفرار ، وأنه من تسويل الشيطان ، وأنه تسلط عليهم ببعض ذنوبهم. فهم الذين أدخلوه على أنفسهم ، ومكنوه بما فعلوا من المعاصي ، لأنها مركبه ومدخله ، فلو اعتصموا بطاعة ربهم ، لما كان له عليهم من سلطان. قال تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) ، ثم أخبر أنه عفا عنهم بعد ما فعلوا ما يوجب المؤاخذة ، وإلا فلو آخذهم لاستأصلهم. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) للمذنبين الخطائين ، بما يوفقهم له من التوبة والاستغفار ، والمصائب المكفرة ، (حَلِيمٌ) لا يعاجل من عصاه ، بل يستأني به ، ويدعوه إلى الإنابة إليه ، والإقبال عليه. ثم إن تاب وأناب قبل منه ، وصيره كأنه لم يجر منه ذنب ، ولم يصدر عنه عيب ، فلله الحمد على إحسانه.

[١٥٦] ينهى تعالى عباده المؤمنين ، أن يشابهوا الكافرين ، الذين لا يؤمنون بربهم ، ولا بقضائه وقدره ، من المنافقين وغيرهم. ينهاهم عن مشابهتهم في كل شيء ، وفي هذا الأمر الخاص ـ وهو أنهم يقولون لإخوانهم في الدين أو في النسب : (إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ) أي : سافروا للتجارة (أَوْ كانُوا غُزًّى) ، أي : غزاة ، ثم جرى عليهم قتل أو موت ، يعارضون القدر ويقولون : (لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) وهذا كذب منهم ، فقد قال تعالى : (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ). ولكن هذا التكذيب لم يفدهم ، إلا أن يجعل الله هذا القول ، وهذه العقيدة ، حسرة في قلوبهم ، فتزداد مصيبتهم. وأما المؤمنون ، فإنهم يعلمون أن ذلك بقدر الله ، فيؤمنون ويسلمون ، فيهدي الله قلوبهم ، ويثبتها ، ويخفف بذلك عنهم المصيبة. قال الله ردا عليهم : (وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) ، أي : هو المنفرد بذلك ، فلا يغني حذر عن قدر. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيجازيكم بأعمالكم وتكذيبكم.

[١٥٧ ـ ١٥٨] ثم أخبر تعالى أن القتل في سبيله أو الموت فيه ، ليس فيه نقص ولا محذور ، وإنما هو مما ينبغي أن يتنافس فيه المتنافسون ، لأنه سبب مفض ، وموصل إلى مغفرة الله ورحمته ، وذلك خير مما يجمع أهل الدنيا ، من دنياهم ، وأن الخلق أيضا إذا ماتوا أو قتلوا بأي حالة كانت ، فإنما مرجعهم إلى الله ، ومآلهم إليه ، فيجازي كلّا بعمله. فأين الفرار إلا إلى الله ، وما للخلق عاصم إلا الاعتصام بحبل الله؟

[١٥٩] أي برحمة الله لك ولأصحابك ، منّ الله عليك أن ألنت لهم جانبك ، وخفضت لهم جناحك ، وترققت عليهم ، وحسنت لهم خلقك ، فاجتمعوا عليك وأحبوك ، وامتثلوا أمرك. (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا) ، أي : سيىء الخلق (غَلِيظَ الْقَلْبِ) ، أي : قاسيه ، (لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) لأن هذا ينفرهم ويبغضهم لمن قام به هذا الخلق السيّء. فالأخلاق الحسنة من الرئيس في الدنيا ، تجذب الناس إلى دين الله ، وترغبهم فيه ، مع ما لصاحبه من المدح والثواب الخاص ، والأخلاق السيئة من الرئيس في الدين ، تنفر الناس عن الدين ، وتبغضهم إليه مع ما لصاحبها من الذم

١٥٨

والعقاب الخاص ، فهذا الرسول المعصوم يقول الله له ما يقول ، فكيف بغيره. أليس من أوجب الواجبات ، وأهم المهمات ، الاقتداء بأخلاقه الكريمة ، ومعاملة الناس بما كان يعاملهم به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من اللين وحسن الخلق والتأليف ، امتثالا لأمر الله ، وجذبا لعباد الله لدين الله. ثم أمره تعالى بأن يعفو عنهم ما صدر منهم من التقصير في حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويستغفر لهم في التقصير ، في حق الله ، فيجمع بين العفو والإحسان. (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) ، أي : الأمور التي تحتاج إلى استشارة ، ونظر ، وفكر ، فإن في الاستشارة من الفوائد والمصالح الدينية والدنيوية ، ما لا يمكن حصره. منها : أن المشاورة من العبادات المتقرب بها إلى الله. ومنها : أن فيها تسميحا لخواطرهم ، وإزالة لما يصير في القلوب عند الحوادث ، فإن من له الأمر على الناس ـ إذا جمع أهل الرأي والفضل ، وشاورهم في حادثة من الحوادث ـ اطمأنت إليه نفوسهم وأحبوه ، وعلموا أنه ليس يستبد عليهم ، وإنما ينظر إلى المصلحة الكلية العامة للجميع ، فبذلوا جهدهم ومقدورهم في طاعته ، لعلمهم بسعيه في مصالح العموم. بخلاف من ليس كذلك ، فإنهم لا يكادون يحبونه محبة صادقة ، ولا يطيعونه ، وإن أطاعوه ، فطاعة غير تامة. ومنها : أن في الاستشارة ، تنور الأفكار ، بسبب إعمالها فيما وضعت له ، فصار في ذلك زيادة للعقول. ومنها : ما تنتجه الاستشارة من الرأي المصيب ، فإن المشاور لا يكاد يخطىء في فعله ، وإن أخطأ ، أو لم يتم له مطلوب ، فليس بملوم. فإذا كان الله يقول لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو أكمل الناس عقلا ، وأغزرهم علما ، وأفضلهم رأيا ـ : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) ، فكيف بغيره. ثم قال تعالى : (فَإِذا عَزَمْتَ) ، أي : على أمر من الأمور بعد الاستشارة فيه ، إن كان يحتاج إلى استشارة ، (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) ، أي : اعتمد على حول الله وقوته ، متبرئا من حولك وقوتك. (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) عليه ، اللاجئين إليه.

[١٦٠] أي : إن يمددكم الله بنصره ومعونته (فَلا غالِبَ لَكُمْ) ، فلو اجتمع عليكم من في أقطارها ، وما عندهم من العدد والعدد ، لأن الله لا مغالب له ، وقد قهر العباد ، وأخذ بنواصيهم ، فلا تتحرك دابة إلا بإذنه ، ولا تسكن إلا بإذنه. (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ) ويكلكم إلى أنفسكم (فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) ، فلا بد أن تنخذلوا ولو أعانكم جميع الخلق. وقد ضمن ذلك الأمر بالاستنصار بالله ، والاعتماد عليه ، والبراءة من الحول والقوة ، ولهذا قال : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) ، وتقدم المعمول يؤذن بالحصر ، أي : توكلوا على الله ، لا غيره ، لأنه قد علم أنه هو الناصر وحده ، فالاعتماد عليه توحيد محصل للمقصود. والاعتماد على غيره شرك غير نافع لصاحبه ، بل ضار. وفي هذه الآية ، الأمر بالتوكل على الله وحده ، وأنه بحسب إيمان العبد ، يكون توكله.

[١٦١] الغلول هو : الكتمان من الغنيمة ، والخيانة في كل ما يتولاه الإنسان ، وهو محرم إجماعا ، بل هو من الكبائر ، كما تدل عليه هذه الآية الكريمة وغيرها من النصوص ، فأخبر تعالى أنه ما ينبغي ولا يليق بنبي أن يغل ، لأن الغلول ـ كما علمت ـ من أعظم الذنوب وشر العيوب. وقد صان الله تعالى أنبياءه ، عن كل ما يدنسهم ، ويقدح فيهم ، وجعلهم أفضل العالمين أخلاقا ، وأطهرهم نفوسا ، وأزكاهم وأطيبهم ، ونزههم عن كل عيب ، وجعلهم محل رسالته ، ومعدن حكمته (اللهُ أَعْلَمُ

١٥٩

حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ). فبمجرد علم العبد بالواحد منهم ، يجزم بسلامتهم ، من كل أمر يقدح فيهم. ولا يحتاج إلى دليل ، على فساد ما قيل فيهم ، من أعدائهم ، لأن معرفته بنبوتهم ، تستلزم دفع ذلك ، ولذلك أتى بصيغة ، يمتنع معها وجود الفعل منهم ، فقال : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) ، أي : يمتنع ذلك ، ويستحيل على من اختارهم الله لنبوته. ثم ذكر الوعيد على من غل ، فقال : (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ، أي : يأت به حامله على ظهره ، حيوانا كان ، أو متاعا ، أو غير ذلك ، يعذب به يوم القيامة. (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) ، الغال وغيره ، كل يوفى أجره ووزره ، على مقدار كسبه. (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) ، أي : لا يزاد في سيئاتهم ، ولا يهضمون شيئا من حسناتهم. وتأمل حسن هذا الاحتراز في هذه الآية الكريمة ، لما ذكر عقوبة الغال ، وأنه يأتي يوم القيامة بما غله ، ولما أراد أن يذكر توفيته وجزاءه ، وكان اقتصاره على الغال ، يوهم ـ بالمفهوم ـ أن غيره من أنواع العاملين ، قد لا يوفون ـ أتى بلفظ عام جامع له ولغيره.

[١٦٢ ـ ١٦٣] يخبر تعالى أنه لا يستوي من كان قصده رضوان الله ، والعمل على ما يرضيه ، كمن ليس كذلك ، ممن هو مكب على المعاصي ، مسخط لربه ، هذان لا يستويان في حكم الله ، وحكمة الله ، وفي فطر عباد الله. (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) (١٨). ولهذا قال : (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ) ، أي : كل هؤلاء متفاوتون في درجاتهم ومنازلهم بحسب تفاوتهم في أعمالهم. فالمتبعون لرضوان الله ، يسعون في نيل الدرجات العاليات ، والمنازل والغرفات ، فيعطيهم الله من فضله وجوده ، على قدر أعمالهم ، والمتبعون لمساخط الله ، يسعون في النزول في الدركات ، إلى أسفل سافلين ، كل على حسب عمله ، والله بصير بأعمالهم ، لا يخفى عليه منها شيء ، بل قد علمها ، وأثبتها في اللوح المحفوظ ، ووكل ملائكته الأمناء الكرام ، أن يكتبوها ويحفظوها ، ويضبطوها.

[١٦٤] هذه المنة التي امتن بها على عباده ، أكبر النعم ، بل أصلها ، وهي الامتنان عليهم ، بهذا الرسول الكريم ، الذي أنقذهم الله به ، من الضلالة ، وعصمهم به ، من الهلكة ، فقال : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) ، يعرفون نسبه ، وحاله ، ولسانه ، من قومهم وقبيلتهم ، ناصحا لهم ، مشفقا عليهم. (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) يعلمهم ألفاظها ومعانيها. (وَيُزَكِّيهِمْ) من الشرك ، والمعاصي ، والرذائل ، وسائر مساوئ الأخلاق. (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ) إما جنس الكتاب الذي هو القرآن ، فيكون قوله : (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) المراد به الآيات الكونية. [أو المراد بالكتاب ـ هنا ـ الكتابة ، فيكون قد امتن عليهم ، بتعليم الكتاب والكتابة ، التي بها تدرك العلوم وتحفظ. (وَالْحِكْمَةَ) هي : السنة ، التي هي شقيقة القرآن ، ووضع الأشياء مواضعها ، ومعرفة أسرار الشريعة. فجمع لهم ، بين تعليم الأحكام ، وما به تنفيذ الأحكام ، وما به تدرك فوائدها وثمراتها ، ففاقوا بهذه الأمور العظيمة ، جميع المخلوقين ، وكانوا من العلماء الربانيين. (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ) بعثة هذا الرسول (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) لا يعرفون الطريق الموصل إلى ربهم ، ولا ما يزكي النفوس ويطهرها ، بل ما يزين لهم جهلهم فعلوه ، ولو ناقض ذلك عقول العالمين. هذا تسلية من الله تعالى لعباده المؤمنين ، حين أصابهم ما أصابهم يوم «أحد» وقتل منهم نحو سبعين ، فقال

١٦٠