تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي

تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

المؤلف:

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ١١٣٥

يستحب فيها التكبير المطلق ، كالعشر ، وليس ببعيد. (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ) ، أي : خرج من «منى» ونفر منها قبل غروب شمس اليوم الثاني. (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ) بأن بات بها ليلة الثالث ورمى من الغد (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) وهذا تخفيف من الله تعالى على عباده ، في إباحة كلا الأمرين ، ولكن من المعلوم أنه إذا أبيح كلا الأمرين ، فالمتأخر أفضل ، لأنه أكثر عبادة. ولما كان نفي الحرج قد يفهم منه نفي الحرج في ذلك المذكور ، وفي غيره ، والحال أن الحرج منفي عن المتقدم والمتأخر فقط ، قيده بقوله : (لِمَنِ اتَّقى) ، أي : اتقى الله في جميع أموره وأحوال الحج ، فمن اتقى الله في كل شيء ، حصل له نفي الحرج في كل شيء ، ومن اتقاه في شيء دون شيء ، كان الجزاء من جنس العمل. (وَاتَّقُوا اللهَ) بامتثال أوامره واجتناب معاصيه ، (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) فمجازيكم بأعمالكم ، فمن اتقاه ، وجد جزاء التقوى عنده ، ومن لم يتقه ، عاقبه أشد العقوبة ، فالعلم بالجزاء من أعظم الدواعي لتقوى الله ، فلهذا حث تعالى ، على العلم بذلك.

[٢٠٤] لما أمر تعالى بالإكثار من ذكره ، وخصوصا في الأوقات الفاضلة ، الذي هو خير مصلحة وبر ، أخبر تعالى بحال من يتكلم بلسانه ، ويخالف فعله قوله ، فالكلام إما أن يرفع الإنسان أو يخفضه ، فقال : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ، أي : إذا تكلم ، راق كلامه للسامع ، وإذا نطق ظننته يتكلم بكلام نافع ، ويؤكد ما يقول بأنه (وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ) بأن يخبر أن الله يعلم أن ما في قلبه موافق لما نطق به ، وهو كاذب في ذلك ، لأنه يخالف قوله فعله. فلو كان صادقا ، لتوافق القول والفعل ، كحال المؤمن غير المنافق ، ولهذا قال : (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) ، أي : إذا خاصمته ، وجدت فيه من اللدد والصعوبة والتعصب ، وما يترتب على ذلك ، ما هو من مقابح الصفات ، ليس كأخلاق المؤمنين ، الذين جعلوا السهولة مركبهم ، والانقياد للحق وظيفتهم ، والسماحة سجيتهم.

[٢٠٥] (وَإِذا تَوَلَّى) هذا الذي يعجبك قوله إذا حضر عندك (سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها) ، أي : يجتهد على أعمال المعاصي ، التي هي إفساد في الأرض (وَيُهْلِكَ) بسبب ذلك (الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) ، فالزروع والثمار والمواشي تتلف وتنقص ، وتقل بركتها ، بسبب العمل في المعاصي. (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) ، فإذا كان لا يحب الفساد ، فهو يبغض العبد المفسد في الأرض ، غاية البغض ، وإن قال بلسانه قولا حسنا. ففي هذه الآية دليل على أن الأقوال التي تصدر من الأشخاص ، ليست دليلا على صدق ولا كذب ، ولا بر ولا فجور ، حتى يوجد العمل المصدق لها ، المزكي لها ، وأنه ينبغي اختبار أحوال الشهود ، والمحق والمبطل من الناس ببرّ أعمالهم ، والنظر لقرائن أحوالهم ، وأن لا يغتر بتمويههم وتزكيتهم أنفسهم.

[٢٠٦] ثم ذكر أن هذا المفسد في الأرض بمعاصي الله ، إذا أمر بتقوى الله تكبّر وأنف ، (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) فيجمع بين العمل بالمعاصي والتكبر على الناصحين. (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ) التي هي دار العاصين والمتكبرين ، (وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) ، أي : المستقر والمسكن ، عذاب دائم ، وهم لا ينقطع ، ويأس مستمر ، لا يخفف عنهم العذاب ، ولا يرجون الثواب ، جزاء لجنايتهم ومقابلة لأعمالهم ، فعياذا بالله من أحوالهم. معاني المفردات : قال في «الصحاح» :

شريت الشيء أشريه شراء ، إذا بعته ، وإذا اشتريته أيضا ، وهو من الأضداد.

[٢٠٧] قال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) ، أي : يبيعها. وقال تعالى : (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) ، أي : باعوه ، ا. ه. ومثله في القاموس. هذه الآية نزلت في صهيب بن سنان الرومي حين أراده المشركون على ترك الإسلام ، كما رواه ابن عباس وأنس ، وسعيد بن المسيب وأبو عثمان النهدي وعكرمة وجماعة غيرهم ، وذلك أنه لما أسلم بمكة وأراد الهجرة ، منعه الناس أن يهاجر بماله ، وإن يهاجر بماله ، وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر فعل ، فتخلص منهم وأعطاهم ماله ، فأنزل الله فيه هذه الآية ، فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرة ، فقالوا له : ربح البيع ربح البيع ، فقال : وأنتم ، فلا أخسر الله تجارتكم ، وما ذاك؟ فأخبروه أن الله أنزل فيه هذه الآية.

١٠١

ويروى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : «ربح البيع صهيب».

وحدّث أبو عثمان النهدي عن صهيب ، قال : لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قالت لي قريش : يا صهيب ، قدمت إلينا ولا مال لك ، وتخرج أنت ومالك؟ والله لا يكون ذلك أبدا ، فقلت لهم : أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تخلون عني؟ قالوا : نعم ، فدفعت إليهم مالي ، فخلوا عني فخرجت حتى قدمت المدينة ، فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «ربح صهيب ، ربح صهيب» مرتين. وقال حماد بن سلمة ، عن علي بن يزيد ، عن سعيد بن المسيب ، قال : أقبل صهيب مهاجرا نحو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاتبعه نفر من قريش ، فنزل عن راحلته ، ونثل ما في كنانته ، ثم قال : يا معشر قريش ، قد علمتم أني من أرماكم رجلا ، وأنتم ـ والله ـ لا تصلون إلي حتى أرمي بكل سهم في كنانتي ، ثم أضرب بسيفي ، ما بقي في يدي منه شيء ، ثم افعلوا ما شئتم ، وإن شئتم دللتكم على مالي وقنيتي بمكة ، وخليتم سبيلي ، قالوا له : نعم. فلما قدم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «ربح البيع» ، قال : ونزلت : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ). وأما الأكثرون ، فحملوا ذلك على أنها نزلت في كل مجاهد في سبيل الله كما قال تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١١١). ولما حمل هشام بن عامر بين الصفين ، أنكر عليه بعض الناس. فرد عليهم عمر بن الخطاب وأبو هريرة وغيرهما ، وتلوا هذه الآية : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ). ا. ه. من «تفسير ابن كثير» بتصرف يسير.

[٢٠٨] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا) ، هذا أمر من الله تعالى للمؤمنين أن يدخلوا (فِي السِّلْمِ كَافَّةً) ، أي : في جميع شرائع الدين ، ولا يتركوا منها شيئا ، وأن لا يكونوا ممن اتخذ إلهه هواه ، إن وافق الأمر المشروع هواه فعله ، وإن خالفه تركه ، بل الواجب أن يكون الهوى تبعا للدين ، وأن يفعل كل ما يقدر عليه من أفعال الخير ، وما يعجز عنه ، يلتزمه وينويه ، فيدركه بنيته. ولما كان الدخول في السلم كافة ، لا يمكن ولا يتصور إلا بمخالفة طرق الشيطان ، قال : (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) ، أي : في العمل بمعاصي الله (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ، ظاهر العداوة ، والعدو المبين لا يأمر إلا بالسوء والفحشاء ، وما به الضرر عليكم.

[٢٠٩] ولما كان العبد لا بد أن يقع منه خلل وزلل ، قال تعالى : (فَإِنْ زَلَلْتُمْ) ، أي : أخطأتم ووقعتم في الذنوب (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) ، أي : على علم ويقين (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). وفيه من الوعيد الشديد والتخويف ، ما يوجب ترك الزلل ، فإن العزيز المقام الحكيم ، إذا عصاه العاصي ، قهره بقوته ، وعذبه بمقتضى حكمته ، فإن من حكمته تعذيب العصاة والجناة. وهذا فيه من الوعيد الشديد والتهديد ما تنخلع له القلوب.

[٢١٠] يقول تعالى : هل ينتظر الساعون في الفساد في الأرض ، المتبعون لخطوات الشيطان ، النابذون لأمر الله

١٠٢

إلا يوم الجزاء بالأعمال ، الذي قد حشي من الأهوال والشدائد والفظائع ، ما يقلقل قلوب الظالمين ، ويحيق به الجزاء السيّء على المفسدين ، وذلك أن الله تعالى يطوي السموات والأرض ، وتنتثر الكواكب ، وتكور الشمس والقمر ، وتنزل الملائكة الكرام ، فتحيط بالخلائق ، وينزل الباري تبارك وتعالى : (فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) ليفصل بين عباده بالقضاء والعدل. فتوضع الموازين ، وتنشر الدواوين ، وتبيض وجوه أهل السعادة ، وتسود وجوه أهل الشقاوة ، ويتميز أهل الخير من أهل الشر ، وكلّ يجازى بعمله ، فهنالك يعض الظالم على يديه ، إذا علم حقيقة ما هو عليه. وهذه الآية وما أشبهها دليل لمذهب أهل السنة والجماعة ، المثبتين للصفات الاختيارية ، كالاستواء ، والنزول والمجيء ، ونحو ذلك من الصفات التي أخبر بها تعالى عن نفسه ، وأخبر بها عنه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيثبتونها لمعانيها على وجه يليق بجلال الله وعظمته ، من غير تشبيه ولا تحريف ولا تعطيل ، خلافا للمعطلة على اختلاف أنواعهم ، من الجهمية والمعتزلة ، والأشعرية ، ونحوهم ، ممن ينفي هذه الصفات ، ويتأول ـ لأجلها ـ الآيات بتأويلات ما أنزل الله بها من سلطان ، بل حقيقتها القدح في بيان الله وبيان رسوله ، والزعم بأن كلامهم هو الذي تحصل به الهداية في هذا الباب. فهؤلاء ليس معهم دليل نقلي ، بل ولا دليل عقلي. أما النقلي ، فقد اعترفوا أن النصوص الواردة في الكتاب والسنة ، ظاهرها ، بل صريحها ، دال على مذهب أهل السنة والجماعة ، وأنها تحتاج لدلالتها على مذهبهم الباطل ، أن تخرج عن ظاهرها ، ويزاد فيها وينقص ، وهذا كما ترى ، لا يرتضيه من في قلبه مثقال ذرة من إيمان. وأما العقلي ، فليس في العقل ما يدل على نفي هذه الصفات ، بل العقل دل على أن الفاعل ، أكمل من الذي لا يقدر على الفعل ، وأن فعله تعالى المتعلق بنفسه ، والمتعلق بخلقه ، هو كمال ، فإن زعموا أن إثباتها يدل على التشبيه بخلقه ، قيل لهم : الكلام على الصفات يتبع الكلام على الذات ، فكما أن لله ذاتا لا تشبهها الذوات ، فلله صفات لا تشبهها الصفات ، فصفاته تبع لذاته ، وصفات خلقه تبع لذواتهم ، فليس في إثباتها ، ما يقتضي التشبيه بوجه. ويقال أيضا لمن أثبت بعض الصفات ، ونفى بعضا ، أو أثبت الأسماء دون الصفات : إما أن تثبت الجميع كما أثبته الله لنفسه ، وأثبته رسوله ، وإما أن تنفي الجميع وتكون منكرا لرب العالمين ، وأما إثباتك بعض ذلك ، ونفيك لبعضه ، فهذا تناقض ، ففرّق بين ما أثبته ، وبين ما نفيته ، ولن تجد إلى الفرق سبيلا ، فإن قلت : ما أثبته لا يقتضي تشبيها ، قال لك أهل السنة والإثبات : لما نفيته لا يقتضي تشبيها ، فإن قلت : لا أعقل من الذي نفيته إلا التشبيه ، قال لك النفاة : ونحن لا نعقل من الذي أثبته إلا التشبيه ، فما أجبت به النفاة ، أجابك به أهل السنة ، لما نفيته ، والحاصل أن من نفى شيئا ، مما دل الكتاب والسنة على إثباته ، فهو متناقض ، لا يثبت له دليل شرعي ولا عقلي ، بل قد خالف المعقول والمنقول.

[٢١١] يقول تعالى : (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) تدل على الحق ، وعلى صدق الرسل ، فتيقنوها وعرفوها ، فلم يقوموا بشكر هذه النعمة ، التي تقتضي القيام بها. بل كفروا بها ، وبدلوا نعمة الله كفرا ، فلهذا استحقوا أن ينزل الله عليهم عقابه ، ويحرمهم من ثوابه ، وسمى الله تعالى كفر النعمة تبديلا لها ، لأن من أنعم الله عليه نعمة دينية أو دنيوية ، فلم يشكرها ، ولم يقم بواجبها ، اضمحلت عنه ، وذهبت ، وتبدلت بالكفر والمعاصي ، فصار الكفر بدل النعمة ، وأما من شكر الله تعالى ، وقام بحقها ، فإنها تثبت وتستمر ، ويزيده الله منها.

[٢١٢] يخبر تعالى أن الذين كفروا بالله وبآياته ورسله ، ولم ينقادوا لشرعه ، أنهم زينت لهم الحياة الدنيا ، فزينت في أعينهم وقلوبهم ، فرضوا بها ، واطمأنوا بها ، فصارت أهواؤهم وإراداتهم وأعمالهم كلها لها ، فأقبلوا عليها ، وأكبوا على تحصيلها ، وعظموها ، وعظموا من شاركهم في صنيعهم ، واحتقروا المؤمنين ، واستهزأوا بهم وقالوا : أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا؟ وهذا من ضعف عقولهم ونظرهم القاصر ، فإن الدنيا دار ابتلاء وامتحان ، وسيحصل الشقاء فيها لأهل الإيمان والكفران ، بل المؤمن في الدنيا ، وإن ناله مكروه ، فإنه يصبر ويحتسب ، فيخفف الله عنه بإيمانه وصبره ، ما لا يكون لغيره. وإنما الشأن كل الشأن والتفضيل الحقيقي ، في الدار الباقية ، فلهذا قال

١٠٣

تعالى : (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ، فيكون المتقون في أعلى الدرجات ، متمتعين بأنواع النعيم والسرور ، والبهجة والحبور. والكفار تحتهم في أسفل الدركات ، معذبين بأنواع العذاب والإهانة ، والشقاء السرمدي ، الذي لا منتهى له ، ففي هذه الآية تسلية للمؤمنين ، ونعي على الكافرين. ولما كانت الأرزاق الدنيوية والأخروية لا تحصل إلا بتقدير الله ، ولن تنال إلا بمشيئة الله ، قال تعالى : (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) ، فالرزق الدنيوي ، يحصل للمؤمن والكافر ، وأما رزق القلوب من العلم والإيمان ، ومحبة الله ، وخشيته ورجائه ، ونحو ذلك ، فلا يعطيها إلا من يحبه.

[٢١٣] أي : كان الناس مجتمعين على الكفر والضلال والشقاء ، ليس لهم نور ولا إيمان ، فرحمهم‌الله تعالى بإرسال الرسل إليهم (مُبَشِّرِينَ) من أطاع الله بثمرات الطاعات ، من الرزق والقوة في البدن والقلب ، والحياة الطيبة ، وأعلى ذلك الفوز برضوان الله والجنة. (وَمُنْذِرِينَ) من عصى الله بثمرات المعصية ، من حرمان الرزق ، والضعف ، والإهانة ، والحياة الضيقة ، وأشد ذلك ، سخط الله والنار. (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِ) ، وهو الإخبارات الصادقة ، والأوامر العادلة. فكل ما اشتملت عليه الكتب الإلهية ، فهو حق يفصل بين المختلفين في الأصول والفروع ، وهذا هو الواجب عند الاختلاف والتنازع ، أن يرد الاختلاف والتنازع ، إلى الله وإلى رسوله ، ولو لا أن في كتابه وسنة رسوله فصل النزاع لما أمر بالرد إليهما. ولما ذكر نعمته العظيمة بإنزال الكتب على أهل الكتاب ، وكان هذا يقتضي اتفاقهم عليها واجتماعهم ، أخبر تعالى أنهم بغى بعضهم على بعض ، وحصل النزاع والخصام وكثرة الاختلاف. فاختلفوا في الكتاب الذي ينبغي أن يكونوا أولى الناس بالاجتماع عليه ، وذلك من بعد ما علموه وتيقنوه بالآيات البينات ، والأدلة القاطعات ، وضلوا بذلك ضلالا بعيدا. (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) من هذه الأمة (لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِ) ، فكل ما اختلف فيه أهل الكتاب ، وأخطأوا فيه الحق والصواب ، هدى الله للحق فيه هذه الأمة (بِإِذْنِهِ) تعالى وتيسيره لهم ورحمته. (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ). فعمّ الخلق تعالى بالدعوة إلى الصراط المستقيم ، عدلا منه تعالى ، وإقامة حجة على الخلق ، لئلا يقولوا : (ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ) ، وهدى ـ بفضله ورحمته ، وإعانته ولطفه ـ من شاء من عباده ، فهذا فضله وإحسانه ، وذاك عدله وحكمته ، تبارك وتعالى.

[٢١٤] يخبر تبارك وتعالى ، أنه لا بد أن يمتحن عباده بالسراء والضراء والمشقة كما فعل بمن قبلهم ، فهي سنته الجارية ، التي لا تتغير ولا تتبدل ، أن من قام بدينه وشرعه ، لا بد أن يبتليه ، فإن صبر على أمر الله ، ولم يبال بالمكاره الواقعة في سبيله ، فهو الصادق الذي قد نال من السعادة كمالها ، ومن السيادة آلتها. ومن جعل فتنة الناس كعذاب الله ، بأن صدّته المكاره عما هو بصدده ، وثنته المحن عن مقصده ، فهو الكاذب في دعوى الإيمان ، فإنه ليس الإيمان بالتحلي والتمني ، ومجرد الدعاوى ، حتى تصدقه الأعمال أو تكذبه. فقد جرى على الأمم الأقدمين ما ذكر الله عنهم (مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ) ، أي : الفقر والأمراض في أبدانهم. (وَزُلْزِلُوا) بأنواع المخاوف من التهديد بالقتل ، والنفي ، وأخذ الأموال ، وقتل الأحبة ، وأنواع المضار حتى وصلت بهم الحال ، وآل بهم الزلزال ، إلى أن استبطأوا نصر الله مع يقينهم

١٠٤

به. ولكن لشدة الأمر وضيقه (يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ). فلما كان الفرج عند الشدة ، وكلما ضاق الأمر اتسع ، قال تعالى : (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) ، فهكذا كل من قام بالحق فإنه يمتحن. فكلما اشتدت عليه وصعبت ـ إذا صابر وثابر على ما هو عليه ـ انقلبت المحنة في حقه منحة ، والمشقات راحات ، وأعقبه ذلك الانتصار على الأعداء ، وشفاء ما في قلبه من الداء ، وهذه الآية نظير قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (١٤٢). وقوله تعالى : (الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) (٣) ، فعند الامتحان ، يكرم المرء أو يهان.

[٢١٥] أي : يسألونك عن النفقة ، وهذا يعم السؤال عن المنفق والمنفق عليه ، فأجابهم عنها ، فقال : (قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ) ، أي : مال قليل أو كثير ، فأولى الناس به ، وأحقهم بالتقديم ، أعظمهم حقا عليك ، وهم الوالدان الواجب برهما ، والمحرم عقوقهما. ومن أعظم برهما ، النفقة عليهما ، ومن أعظم العقوق ، ترك الإنفاق عليهما ، ولهذا كانت النفقة عليهما واجبة ، على الولد الموسر. ومن بعد الوالدين ، الأقربون على اختلاف طبقاتهم ، الأقرب فالأقرب ، على حسب القرب والحاجة ، فالإنفاق عليه صدقة وصلة. (وَالْيَتامى) ، وهم الصغار الذين لا كاسب لهم ، فهم في مظنة الحاجة ، لعدم قيامهم بمصالح أنفسهم ، وفقد الكاسب ، فوصى الله بهم العباد ، رحمة منه بهم ولطفا. (وَالْمَساكِينِ) وهم أهل الحاجات ، وأرباب الضرورات الذين أسكنتهم الحاجة ، فينفق عليهم لدفع حاجاتهم وإغنائهم. (وَابْنِ السَّبِيلِ) ، أي : الغريب المنقطع به في غير بلده ، فيعان على سفره بالنفقة التي توصله إلى مقصده. ولما خصّص الله تعالى على هؤلاء الأصناف ، لشدة الحاجة ، عمم تعالى ، فقال : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) : من صدقة على هؤلاء وغيرهم ، بل ومن جميع أنواع الطاعات والقربات ، لأنها تدخل في اسم الخير. (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) ، فيجازيكم عليه ، ويحفظه لكم ، كل على حسب نيته وإخلاصه ، وكثرة نفقته وقلتها ، وشدة الحاجة إليها ، وعظم وقعها ونفعها.

[٢١٦] هذه الآية ، فيها فرض القتال في سبيل الله ، بعد ما كان المؤمنون مأمورين بتركه ، لضعفهم وعدم احتمالهم لذلك ، فلما هاجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة ، وكثر المسلمون وقووا ، أمرهم الله تعالى بالقتال ، وأخبر أنه مكروه للنفوس ، لما فيه من التعب والمشقة ، وحصول أنواع المخاوف والتعرض للمتالف. ومع هذا ، فهو خير محض ، لما فيه من الثواب العظيم ، والتحرز من العقاب الأليم ، والنصر على الأعداء والظفر بالغنائم ، وغير ذلك مما هو مرب ، على ما فيه من الكراهة. (وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) وذلك مثل القعود عن الجهاد لطلب الراحة ، فإنه شر ، لأنه يعقب الخذلان ، وتسلط الأعداء على الإسلام وأهله ، وحصول الذل والهوان ، وفوات الأجر العظيم وحصول العقاب. وهذه الآيات عامة مطردة في أن أفعال الخير التي تكرهها النفوس ـ لما تتوهمه فيها من الراحة واللذة ـ فهي شر ، بلا شك. وأما أحوال الدنيا ، فليس الأمر مطردا ، ولكن الغالب على العبد المؤمن ، أنه إذا أحب أمرا من الأمور ، فقيض الله له من الأسباب ما يصرفه عنه أنه خير له ، فالأوفق له في ذلك أن يشكر الله ، ويعتقد الخير في الواقع ، لأنه يعلم أن الله تعالى أرحم بالعبد من نفسه ، وأقدر على مصلحة عبده منه ، وأعلم بمصلحته منه ، كما قال تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ، فاللائق بكم أن تتمشوا مع أقداره ، سواء سرتكم أو ساءتكم.

[٢١٧] ولما كان الأمر بالقتال ، لو لم يقيد ، لشمل الأشهر الحرم وغيرها ، استثنى تعالى القتال في الأشهر الحرم ، فقال : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ) الآية. الجمهور على أن تحريم القتال في الأشهر الحرم ، منسوخ بالأمر بقتال المشركين حيثما وجدوا ، وقال بعض المفسرين : إنه لم ينسخ ، لأن المطلق محمول على المقيد ، وهذه الآية مقيدة ، لعموم الأمر بالقتال مطلقا ؛ ولأن من جملة مزية الأشهر الحرم : بل أكبر مزاياها ، تحريم القتال فيها ، وهذا إنما هو في قتال الابتداء. وأما قتال الدفع ، فإنه يجوز في الأشهر الحرم ، كما يجوز في البلد الحرام. ولما كنت هذه الآية نازلة

١٠٥

بسبب ما حصل لسرية عبد الله بن جحش ، وقتلهم عمرو بن الحضرمي ، وأخذهم أمواله ، وكان ذلك ـ على ما قيل ـ في شهر رجب ، عيرهم المشركون بالقتال بالأشهر الحرم ، وكانوا في تعيير هم ظالمين ، إذ فيهم من القبائح ، ما بعضه أعظم مما عيروا به المسلمين ، قال تعالى في بيان ما فيهم : (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ، أي : صد المشركين من يريد الإيمان بالله وبرسوله ، وفتنتهم من آمن به ، وسعيهم في ردهم عن دينهم ، وكفرهم الحاصل في الشهر الحرام ، والبلد الحرام ، الذي هو بمجرده ، كاف في الشر ، فكيف وقد كان في شهر حرام وبلد حرام؟ (وَإِخْراجُ أَهْلِهِ) ، أي : أهل المسجد الحرام ، وهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، لأنهم أحق به من المشركين ، وهم عماره على الحقيقة ، فأخرجوهم (مِنْهُ) ، ولم يمكنوهم من الوصول إليه ، مع أن هذا البيت ، سواء العاكف فيه والباد. فهذه الأمور كل واحد منها (أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) في الشهر الحرام ، فكيف وقد اجتمعت فيهم؟ فعلم أنهم فسقة ظلمة ، في تعييرهم المؤمنين. ثم أخبر تعالى أنهم لن يزالوا يقاتلون المؤمنين ، وليس غرضهم في أموالهم وقتلهم ، وإنما غرضهم أن يرجعوهم عن دينهم ، ويكونوا كفارا بعد إيمانهم حتى يكونوا من أصحاب السعير ، فهم باذلون قدرتهم في ذلك ، ساعون بما أمكنهم ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ، ولو كره الكافرون. وهذا الوصف عام لكل الكفار ، لا يزالون يقاتلون غيرهم ، حتى يردوهم عن دينهم ، وخصوصا أهل الكتاب ، من اليهود والنصارى ، ألفوا الجمعيات ، ونشروا الدعاة ، وبثّوا الأطباء ، وبنوا المدارس لجذب الأمم إلى دينهم ، وإدخالهم عليهم ، كل ما يمكنهم من الشبه ، التي تشككهم في دينهم. ولكن المرجو من الله تعالى ، الذي منّ على المؤمنين بالإسلام ، واختار لهم دينه القيم ، وأكمل لهم دينه ـ أن يتم عليهم نعمته بالقيام به أتم قيام ـ ، وأن يخذل كل من أراد أن يطفىء نوره ، ويجعل كيدهم في نحورهم وينصر دينه ، ويعلي كلمته. وتكون هذه الآية صادقة على هؤلاء الموجودين من الكفار ، كما صدقت على من قبلهم (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) (٣٦). ثم أخبر تعالى أن من ارتد عن الإسلام ، بأن اختار عليه الكفر واستمر على ذلك حتى مات كافرا ، (فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) لعدم وجود شرطها ، وهو الإسلام ، (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ). ودلّت الآية بمفهومها ، أن من ارتد ثم عاد إلى الإسلام ، أنه يرجع إليه عمله ، وكذلك من تاب من المعاصي ، فإنها تعود إليه أعماله المتقدمة.

[٢١٨] هذه الأعمال الثلاثة ، هي عنوان السعادة وقطب رحى العبودية ، وبها يعرف ما مع الإنسان من الربح الخسران. فأما الإيمان ، فلا تسأل عن فضيلته ، وكيف تسأل عن شيء هو الفاصل بين أهل السعادة وأهل الشقاوة ، وأهل الجنة من أهل النار؟ وهو الذي إذا كان مع العبد ، قبلت أعمال الخير منه ، وإذا عدم منه ، لم يقبل له صرف ولا عدل ، ولا فرض ، ولا نفل. وأما الهجرة ، فهي مفارقة المحبوب المألوف ، لرضا الله تعالى ، فيترك المهاجر وطنه ، وأمواله ، وأهله ، وخلّانه ، تقرّبا إلى الله ، ونصرة لدينه. وأما الجهاد ، فهو بذل الجهد في مقارعة الأعداء ، والسعي

١٠٦

التام ، في نصرة دين الله ، وقمع دين الشيطان ، وهو ذروة الأعمال الصالحة ، وجزاؤه ، أفضل الجزاء ، وهو السبب الأكبر لتوسيع دائرة الإسلام وخذلان عبادة الأصنام ، وأمن المسلمين على أنفسهم وأموالهم وأولادهم. فمن قام بهذه الأعمال الثلاثة ـ على لأوائها ومشقتها ـ كان لغيرها أشد قياما به وتكميلا. فحقيق بهؤلاء أن يكونوا هم الراجين رحمة الله ، لأنهم أتوا بالسبب الموجب للرحمة ، وفي هذا دليل على أن الرجاء لا يكون إلا بعد القيام بأسباب السعادة ، وأما الرجاء المقارن للكسل ، وعدم القيام بالأسباب ، فهذا عجز وتمن وغرور ، وهو دالّ على ضعف همة صاحبه ، ونقص عقله ، بمنزلة من يرجو وجود الولد بلا نكاح ، ووجود الغلة بلا بذر ، وسقي ، ونحو ذلك. وفي قوله : (أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ) إشارة إلى أن العبد ـ ولو أتى من الأعمال بما أتى به ـ لا ينبغي له أن يعتمد عليها ، ويعول عليها ، بل يرجو رحمة ربه ، ويرجو قبول أعماله ومغفرة ذنوبه ، وستر عيوبه. ولهذا قال : (وَاللهُ غَفُورٌ) ، أي : لمن تاب توبة نصوحا (رَحِيمٌ) وسعت رحمته كل شيء ، وعمّ جوده وإحسانه كل حي. وفي هذا دليل على أن من قام بهذه الأعمال المذكورة ، حصل له مغفرة الله ، إذ الحسنات (يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) ، وحصلت له رحمة الله. وإذا حصلت له المغفرة ، اندفعت عنه عقوبات الدنيا والآخرة ، التي هي آثار الذنوب ، التي قد غفرت واضمحلت آثارها ، وإذا حصلت له الرحمة ، حصل على كل خير في الدنيا والآخرة. بل أعمالهم المذكورة من رحمة الله بهم ، فلو لا توفيقه إياهم ، لم يريدوها ، ولو لا إقدارهم عليها ، لم يقدروا عليها ، ولو لا إحسانه لم يتمها ويقبلها منهم ، فله الفضل أولا وآخرا ، وهو الذي منّ بالسبب والمسبب.

[٢١٩] ثم قال تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ) ، الآية ، أي : يسألك ـ يا أيها الرسول ـ المؤمنون عن أحكام الخمر والميسر ، وقد كانا مستعملين في الجاهلية ، وأول الإسلام ، فكأنه وقع فيهما إشكال فلهذا سألوا عن حكمهما ، فأمر الله تعالى نبيه ، أن يبين لهم منافعهما ومضارهما ، ليكون ذلك مقدمة لتحريمهما ، وتحتيم تركهما. فأخبر أن إثمهما ومضارهما ، وما يصدر عنهما ، من ذهاب العقل والمال ، والصد عن ذكر الله ، وعن الصلاة والعداوة والبغضاء ـ أكبر مما يظنونه من نفعهما ، من كسب المال بالتجارة بالخمر ، وتحصيله بالقمار والطرب للنفوس عند تعاطيهما. وكان هذا البيان زاجرا للنفوس عنهما ، لأن العاقل يرجح ما ترجحت مصلحته ، ويجتنب ما ترجحت مضرته. ولكن لما كانوا قد ألفوهما ، وصعب التحتيم بتركهما أول وهلة ، قدم هذه الآية ، مقدمة للتحريم ، الذي ذكره في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) ، إلى قوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) ، وهذا من لطفه ورحمته وحكمته ، ولهذا لما نزلت ، قال عمر رضي الله عنه : انتهينا انتهينا. فأما الخمر ، فهو كل مسكر خامر العقل وغطاه ، من أي نوع كان ، وأما الميسر ، فهو كل المغالبات التي يكون فيها عوض من الطرفين ، من النرد ، والشطرنج ، وكل مغالبة قولية أو فعلية ، تعوض بعوض ، سوى مسابقة الخيل ، والإبل ، والسهام ، فإنها مباحة ، لكونها معينة على الجهاد ، فرخص فيها الشارع. وهذا سؤال عن مقدار ما ينفقونه من أموالهم ، فيسّر الله لهم الأمر ، وأمرهم أن ينفقوا العفو ، وهو المتيسر من أموالهم ، الذي لا تتعلق به حاجتهم وضرورتهم ، وهذا يرجع إلى كل أحد بحسبه ، من غني وفقير ومتوسط ، كل له قدرة على إنفاق ما عفا من ماله ، ولو شق تمرة. ولهذا أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن يأخذ العفو من أخلاق الناس وصدقاتهم ، ولا يكلفهم بما يشق عليهم. ذلك بأن الله تعالى لم يأمرنا بما أمرنا به حاجة منه لنا ، أو تكليفا لنا بما يشق ، بل أمرنا بما فيه سعادتنا ، وما يسهل علينا ، وما به النفع لنا ولإخواننا فيستحق على ذلك ، أتم الحمد. ولما بيّن تعالى هذا البيان الشافي ، وأطلع العباد على أسرار شرعه ، قال : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) ، أي : الدالات على الحق ، المحصلات للعلم النافع والفرقان. (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) ، أي : لكي تستعملوا أفكاركم في أسرار شرعه ، وتعرفوا أن أوامره ، فيها مصالح الدنيا والآخرة ، وأيضا لكي تتفكروا في الدنيا وسرعة انقضائها ، وفي الآخرة وبقائها ، وأنها دار الجزاء فتعمروها.

١٠٧

[٢٢٠] لما نزل قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) شقّ ذلك على المسلمين ، وعزلوا طعامهم عن طعام اليتامى ، خوفا على أنفسهم من تناولها ، ولو في هذه الحالة التي جرت العادة بالمشاركة فيها ، وسألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك. فأخبرهم تعالى أن المقصود إصلاح أموال اليتامى ، بحفظها وصيانتها ، والاتّجار فيها ، وأن خلطتهم إياهم في طعام وغيره جائز على وجه لا يضر باليتامى ، لأنهم إخوانكم ، ومن شأن الأخ ، مخالطة أخيه ، والمرجع في ذلك إلى النية والعمل ، فمن علم من نيته أنه مصلح لليتيم ، وليس له طمع في ماله ، فلو دخل عليه شيء ـ من غير قصد ـ لم يكن عليه بأس. ومن علم الله من نيته ، أن قصده بالمخالطة ، التوصل إلى أكلها ، فذلك الذي هو حرج وأثم ، و «الوسائل لها أحكام المقاصد». وفي هذه الآية دليل على جواز أنواع المخالطات ، في المآكل والمشارب ، والعقود وغيرها ، وهذه الرخصة لطف من الله تعالى ، وإحسان ، وتوسعة على المؤمنين. وإلا (لَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) ، أي : شق عليكم بعدم الرخصة بذلك ، فحرجتم ، وشق عليكم ، وأثمتم ، (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) ، أي : له القوة الكاملة ، والقهر لكل شيء. ولكنه مع ذلك (حَكِيمٌ) لا يفعل إلا ما هو مقتضى حكمته الكاملة وعنايته التامة ، فعزته لا تنافي حكمته ، فلا يقال : إنه ما شاء فعل ، وأفق الحكمة أو خالفها ، بل يقال : إن أفعاله وكذلك أحكامه ، تابعة لحكمته ، فلا يخلق شيئا عبثا ، بل لا بد له من حكمة ، عرفناها أم لم نعرفها. وكذلك لم يشرع لعباده شيئا مجردا عن الحكمة ، فلا يأمر إلا بما فيه مصلحة خالصة ، أو راجحة ، ولا ينهى إلا عما فيه مفسدة خالصة أو راجحة ، لتمام حكمته ورحمته.

[٢٢١] أي : (وَلا تَنْكِحُوا) النساء (الْمُشْرِكاتِ) ما دمن على شركهن. (حَتَّى يُؤْمِنَ) ؛ لأن المؤمنة ـ ولو بلغت من الدمامة ما بلغت ـ خير من المشركة ، ولو بلغت من الحسن ما بلغت ، وهذه عامة في جميع النساء المشركات ، وخصصتها آية المائدة ، في إباحة نساء أهل الكتاب ، كما قال تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ). (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا) ، وهذا عام لا تخصيص فيه. ثم ذكر تعالى الحكمة في تحريم نكاح المسلم أو المسلمة لمن خالفهما في الدين ، فقال : (أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) ، أي : في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم ، فمخالطتهم على خطر منهم ، والخطر ليس من الأخطار الدنيوية ، إنما هو الشقاء الأبدي. ويستفاد من تعليل الآية ، النهي عن مخالطة كل مشرك ومبتدع ، لأنه إذا لم يجز التزوج ـ مع أن فيه مصالح كثيرة ـ فالخلطة المجردة من باب أولى ، وخصوصا الخلطة التي فيها ارتفاع المشرك ونحوه على المسلم ، كالخدمة ونحوها. وفي قوله : (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ) دليل على اعتبار الولي في النكاح. (وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ) ، أي : يدعو عباده لتحصيل الجنة والمغفرة التي من آثارها دفع العقوبات ، وذلك بالدعوة إلى أسبابها من الأعمال الصالحة ، والتوبة النصوح ، والعلم النافع ، والعمل الصالح. (وَيُبَيِّنُ آياتِهِ) ، أي : أحكامه ، وحكمها (لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) فيوجب لهم ذلك التذكر لما نسوه ، وعلم ما جهلوه ، والامتثال لما ضيعوه.

١٠٨

[٢٢٢] ثم قال تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) ، الآيات. يخبر تعالى ، عن سؤالهم عن المحيض ، وهل تكون المرأة بحالها بعد الحيض ، كما كانت قبل ذلك ، أم تجتنب مطلقا كما يفعله اليهود؟ فأخبر تعالى أن الحيض أذى ، وإذا كان أذى ، فمن الحكمة أن يمنع الله تعالى عباده عن الأذى وحده ، ولهذا قال : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) ، أي : مكان الحيض ، وهو الوطء في الفرج خاصة ، فهذا هو المحرم إجماعا ، وتخصيص الاعتزال في المحيض يدل على أن مباشرة الحائض وملامستها في غير الوطء في الفرج جائز. لكن قوله : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) يدل على ترك المباشرة فيما قرب من الفرج ، وذلك فيما بين السرة والركبة ، فينبغي تركه كما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أراد أن يباشر امرأته وهي حائض ، أمرها أن تتزر ، فيباشرها. وحد هذا الاعتزال وعدم القربان للحيض (حَتَّى يَطْهُرْنَ) ، أي : ينقطع دمهن ، فإذا انقطع الدم ، زال المنع الموجود وقت جريانه ، الذي كان لحله شرطان ، انقطاع الدم ، والاغتسال منه. فلما انقطع الدم ، زال الشرط الأول ، وبقي الثاني ، فلهذا قال : (فَإِذا تَطَهَّرْنَ) ، أي : اغتسلن (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) ، أي : في القبل لا في الدبر ، لأنه محل الحرث. وفيه دليل على وجوب الاغتسال للحائض ، وأن انقطاع الدم ، شرط لصحته. ولما كان هذا المنع لطفا منه تعالى بعباده ، وصيانة عن الأذى ، قال تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) ، أي : من ذنوبهم على الدوام ، (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) ، أي : المتنزهين عن الآثام ، وهذا يشمل التطهر الحسي من الأنجاس والأحداث. ففيه مشروعية الطهارة مطلقا ، لأن الله تعالى يحب المتصف بها ، ولهذا كانت الطهارة مطلقا ، شرطا لصحة الصلاة والطواف ، وجواز مس المصحف ، ويشمل التطهر المعنوي عن الأخلاق الرذيلة ، والصفات القبيحة ، والأفعال الخسيسة.

[٢٢٣] (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) ، مقبلة ومدبرة ، غير أنه لا يكون إلا في القبل ، لكونه موضع الحرث ، وهو الموضع الذي يكون منه الولد. وفيه دليل على تحريم الوطء في الدبر ، لأن الله لم يبح إتيان المرأة إلا في الموضع الذي منه الحرث ، وقد تكاثرت الأحاديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تحريم ذلك ، ولعن فاعله. (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) ، أي : من التقرب إلى الله بفعل الخيرات ، ومن ذلك أن يباشر الرجل امرأته ويجامعها على وجه القربة والاحتساب ، وعلى رجاء تحصيل الذرية ، الذين ينفع الله بهم. (وَاتَّقُوا اللهَ) ، أي : في جميع أحوالكم ، كونوا ملازمين لتقوى الله ، مستعينين على ذلك بعلمكم ، (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) ، ومجازيكم على أعمالكم الصالحة وغيرها. (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) ، لم يذكر المبشر به ، ليدل على العموم ، وأن لهم البشرى فى الحياة الدنيا وفي الآخرة ، وكل خير واندفاع كل ضير ، رتب على الإيمان ـ فهو داخل في هذه البشارة. وفيها محبة الله للمؤمنين ، ومحبة ما يسرهم ، واستحباب تنشيطهم وتشويقهم بما أعد الله لهم من الجزاء الدنيوي والأخروي.

[٢٢٤] المقصود من اليمين والقسم ، تعظيم المقسم به ، وتأكيد المقسم عليه ، وكان الله تعالى قد أمر بحفظ الأيمان ، وكان مقتضى ذلك حفظها في كل شيء ، ولكن الله تعالى استثنى من ذلك ، إذا كان البر باليمين ، يتضمن

١٠٩

ترك ما هو أحب إليه ، فنهى عباده أن يجعلوا أيمانهم عرضة ، أي : مانعة وحائلة عن أن يبروا ، أي : يفعلوا خيرا ، ويتقوا شرا ، ويصلحوا بين الناس. فمن حلف على ترك واجب ، وجب حنثه ، وحرم إقامته على يمينه ، ومن حلف على ترك مستحب ، استحب له الحنث ، ومن حلف على فعل محرم ، وجب الحنث ، أو على فعل مكروه ، استحب الحنث ، وأما المباح فينبغي فيه حفظ اليمين عن الحنث. ويستدل بهذه الآية على القاعدة المشهورة ، أنه «إذا تزاحمت المصالح ، قدم أهمها» ، فهنا تتميم اليمين مصلحة ، وامتثال أوامر الله في هذه الأشياء مصلحة أكبر من ذلك ، فقدمت لذلك. ثم ختم الآية بهذين الاسمين الكريمين ، فقال : (وَاللهُ سَمِيعٌ) ، أي : لجميع الأصوات (عَلِيمٌ) بالمقاصد والنيات ، ومنه سماعه لأقوال الحالفين ، وعلمه بمقاصدهم هل هي خير أم شر. وفي ضمن ذلك التحذير من مجازاته ، وأن أعمالكم ونياتكم ، قد استقر علمها عنده.

[٢٢٥] ثم قال تعالى : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (٢٢٥). أي : لا يؤاخذكم بما يجري على ألسنتكم من الأيمان اللاغية ، التي يتكلم بها العبد من غير قصد منه ولا كسب قلب ، ولكنها جرت على لسانه ، كقول الرجل في عرض كلامه : «لا والله» ، و «بلى والله» ، وكحلفه على أمر ماض ، يظن صدق نفسه ، وإنما المؤاخذة ، على ما قصده القلب. وفي هذا دليل على اعتبار المقاصد في الأقوال ، كما هي معتبرة في الأفعال. والله (غَفُورٌ) لمن تاب إليه ، (حَلِيمٌ) بمن عصاه ، حيث لم يعاجله بالعقوبة ، بل حلم عنه وستر ، وصفح مع قدرته عليه ، وكونه بين يديه.

[٢٢٦] وهذا من الأيمان الخاصة بالزوجة ، في أمر خاص وهو حلف الرجل ، على ترك وطء زوجته مطلقا ، أو مقيدا ، بأقل من أربعة أشهر أو أكثر. فمن آلى من زوجته خاصة ـ فإن كان لدون أربعة أشهر ، فهذا مثل سائر الأيمان ، إن حنث كفر ، وإن أتم يمينه ، فلا شيء عليه ، وليس لزوجته عليه سبيل ، لأنه ملكه أربعة أشهر. وإن كان أبدا ، أو مدة تزيد على أربعة أشهر ، ضربت له مدة أربعة أشهر من يمينه ، إذا طلبت زوجته ذلك ، لأنه حق لها ، فإذا تمت ، أمر بالفيئة ، وهو الوطء ، فإن وطئ ، فلا شيء عليه إلا كفارة اليمين ، وإن امتنع أجبر على الطلاق ، فإن امتنع طلق عليه الحاكم. ولكن الفيئة والرجوع إلى زوجته ، أحب إلى الله تعالى ، ولهذا قال : (فَإِنْ فاؤُ) ، أي : رجعوا إلى ما حلفوا على تركه ، وهو الوطء. (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) يغفر لهم ما حصل منهم من الحلف ، بسبب رجوعهم. (رَحِيمٌ) حيث جعل لأيمانهم كفارة وتحلة ، ولم يجعلها لازمة لهم ، غير قابلة للانفكاك ، ورحيم بهم أيضا ، حيث فاؤوا إلى زوجاتهم ، وحنوا عليهن ورحموهن.

[٢٢٧] (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) ، أي : امتنعوا عن الفيئة ، فكان ذلك دليلا على رغبتهم عنهن ، وعدم إرادتهم لأزواجهم ، وهذا لا يكون إلا عزما على الطلاق ، فإن حصل هذا الحق الواجب منه مباشرة ، وإلا أجبره الحاكم عليه ، أو قام به. (فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) فيه وعيد وتهديد ، لمن يحلف هذا الحلف ، ويقصد بذلك المضارة والمشاقة.

ويستدل بهذه الآية ، على أن الإيلاء ، خاص بالزوجة ، لقوله : (مِنْ نِسائِهِمْ) ، وعلى وجوب الوطء في كل أربعة أشهر مرة ، لأنه بعد الأربعة ، يجبر ، إما على الوطء ، أو على الطلاق ، ولا يكون ذلك إلا لتركه واجبا.

[٢٢٨] أي : النساء اللاتي طلقهن أزواجهن (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ) ، أي : ينتظرن ويعتددن مدة (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) ، أي : حيض ، أو أطهار على اختلاف العلماء في المراد بذلك ، مع أن الصحيح أن القرء ، الحيض ، ولهذه العدة ، عدة حكم ، منها : العلم ببراءة الرحم ، إذا تكرر عليها ثلاثة الأقراء ، علم أنه ليس في رحمها حمل ، فلا يفضي إلى اختلاط الأنساب. ولهذا أوجب تعالى عليهن الإخبار عن (ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ) وحرم عليهن كتمان ذلك من حمل أو حيض ، لأن كتمان ذلك ، يفضي إلى مفاسد كثيرة ، فكتمان الحمل ، موجب أن تلحقه بغير من هو له ، رغبة فيه أو استعجالا لانقضاء العدة. فإذا ألحقته بغير أبيه ، حصل من قطع الرحم والإرث ، واحتجاب محارمه وأقاربه عنه ،

١١٠

وربما تزوج ذوات محارمه ، وحصل في مقابلة ذلك إلحاقه بغير أبيه ، وثبوت توابع ذلك ، من الإرث منه وله ، ومن جعل أقارب الملحق به ، أقارب له ، وفي ذلك من الشر والفساد ، ما لا يعلمه إلا رب العباد. ولو لم يكن في ذلك ، إلا إقامتها مع من نكاحها باطل في حقه ، وفيه الإصرار على الكبيرة العظيمة ، ـ وهي الزنا ـ لكفى بذلك شرا. وأما كتمان الحيض ، فإن استعجلت فأخبرت به وهي كاذبة ، ففيه من انقطاع حق الزوج عنها ، وإباحتها لغيره ، وما يتفرع عن ذلك من الشر ، كما ذكرنا ، وإن كذبت وأخبرت بعدم وجود الحيض ، لتطول العدة ، فتأخذ منه نفقة غير واجبة عليه ، بل هي سحت عليها محرمة من جهتين : من كونها لا تستحقه ، ومن كونها نسبته إلى حكم الشرع وهي كاذبة ، وربما راجعها بعد انقضاء العدة ، فيكون ذلك سفاحا ، لكونها أجنبية منه ، فلهذا قال تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). فصدور الكتمان منهن دليل على عدم إيمانهن بالله واليوم الآخر ، وإلا فلو آمنّ بالله واليوم الآخر ، وعرفن أنهن مجزيات عن أعمالهن ، لم يصدر منهن شيء من ذلك. وفي ذلك دليل على قبول خبر المرأة عما تخبر به عن نفسها ، من الأمر الذي لا يطلع عليه غيرها ، كالحمل والحيض ونحوها. ثم قال تعالى : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ) ، أي : لأزواجهن ما دامت متربصة في تلك العدة ، أن يردوهن إلى نكاحهن (إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) ، أي : رغبة وإلفة ومودة. ومفهوم الآية أنهم إن لم يريدوا الإصلاح ، فليسوا بأحق بردهن ، فلا يحل لهم أن يراجعوهن ، لقصد المضارة لها ، وتطويل العدة عليها ، وهل يملك ذلك ، مع هذا القصد؟ فيه قولان. الجمهور على أنه يملك ذلك مع التحريم ، والصحيح أنه إذا لم يرد الإصلاح ، لا يملك ذلك ، كما هو ظاهر الآية الكريمة ، وهذه حكمة أخرى في هذا التربص ، وهي : أنه ربما أن زوجها ندم على فراقه لها ، فجعلت له هذه المدة ، ليتروى بها ويقطع نظره. وهذا يدل على محبته تعالى ، للألفة بين الزوجين ، وكراهته للفراق ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» ، وهذا خاص في الطلاق الرجعي ، وأما الطلاق البائن ، فليس البعل بأحق برجعتها. بل إن تراضيا على التراجع ، فلا بد من عقد جديد مجتمع الشروط. ثم قال تعالى : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) ، أي : وللنساء على بعولتهن من الحقوق واللوازم ، مثل الذي عليهن لأزواجهن من الحقوق اللازمة والمستحبة. ومرجع الحقوق بين الزوجين إلى المعروف ، وهو : العادة الجارية في ذلك البلد ، وذلك الزمان من مثلها لمثله ، ويختلف ذلك باختلاف الأزمنة والأمكنة ، والأحوال ، والأشخاص ، والعوائد. وفي هذا دليل على أن النفقة والكسوة والمعاشرة والمسكن وكذلك الوطء ـ الكل يرجع إلى المعروف ، فهذا موجب العقد المطلق. وأما مع الشرط ، فعلى شرطهما ، إلا شرطا أحلّ حراما ، أو حرّم حلالا. (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) ، أي : رفعة ورياسة ، وزيادة حق عليها ، كما قال تعالى : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ). ومنصب النبوة والقضاء ، والإمامة الصغرى والكبرى ، وسائر الولايات بالرجال ، وله ضعفا ما لها في كثير من الأمور ، كالميراث ونحوه. (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ، أي : له العزة القاهرة والسلطان العظيم ، الذي دانت له جميع الأشياء ، ولكنه ـ مع عزته ـ حكيم

١١١

في تصرفه. ويخرج من عموم هذه الآية الحوامل ، فعدتهن وضع الحمل ، واللاتي لم يدخل بهن ، فليس لهن عدة ، والإماء ، فعدتهن حيضتان ، كما هو قول الصحابة رضي الله عنهم ، وسياق الآية يدل على أن المراد بها الحرة.

[٢٢٩] كان الطلاق في الجاهلية ، واستمر أول الإسلام ، وهو أن يطلق الرجل زوجته بلا نهاية ، فكان إذا أراد مضارتها ، طلقها ، فإذا شارفت انقضاء عدتها ، راجعها ، ثم طلقها ، وصنع بها مثل ذلك أبدا ، فيحصل عليها من الضرر ما الله به عليم. فأخبر تعالى أن (الطَّلاقُ) ، أي : الذي تحصل به الرجعة (مَرَّتانِ) ، ليتمكن الزوج ـ إن لم يرد المضارة ـ من ارتجاعها ، ويراجع رأيه في هذه المدة. وأما ما فوقها ، فليس محلا لذلك ، لأن من زاد على الثنتين ، فإما متجرىء على المحرم ، أو ليس له رغبة في إمساكها ، بل قصده المضارة. فلهذا أمر تعالى الزوج ، أن يمسك زوجته (بِمَعْرُوفٍ) ، أي : عشرة حسنة ، ويجري مجرى أمثاله مع زوجاتهم ، وهذا هو الأرجح ، وإلا يسرحها ويفارقها (بِإِحْسانٍ). ومن الإحسان ، أن لا يأخذ على فراقه لها شيئا من ماله ، لأنه ظلم ، وأخذ للمال في غير مقابلة بشيء ، فلهذا قال : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) ، وهي المخالعة بالمعروف ، بأن كرهت الزوجة زوجها ، لخلقه أو خلقه أو نقص دينه ، وخافت أن لا تطيع الله فيه. (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) ؛ لأنه عوض لتحصيل مقصودها من الفرقة ، وفي هذا مشروعية الخلع ، إذا وجدت هذه الحكمة. (تِلْكَ) ، أي : ما تقدم من الأحكام الشرعية (يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ، أي : أحكامه التي شرعها لكم ، وأمر بالوقوف معها. (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ، أي ظلم أعظم ممن اقتحم الحلال ، وتعدى منه إلى الحرام ، فلم يسعه ما أحلّ الله؟ والظلم ثلاثة أقسام : ظلم العبد فيما بينه وبين الله ، وظلم العبد الأكبر الذي هو الشرك ، وظلم العبد فيما بينه وبين الخلق. فالشرك لا يغفره الله بالتوبة ، وحقوق العباد ، لا يترك الله منها شيئا. والظلم الذي بين العبد وربه فيما دون الشرك ، تحت المشيئة والحكمة.

[٢٣٠] (فَإِنْ طَلَّقَها) ، أي : الطلقة الثالثة (فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) ، أي : نكاحا صحيحا ويطؤها ، لأن النكاح الشرعي لا يكون صحيحا ، ويدخل فيه العقد والوطء ، وهذا بالاتفاق. ويتعين أن يكون نكاح الثاني ، نكاح رغبة ، فإن قصد به تحليلها للأول ، فليس بنكاح ، ولا يفيد التحليل ، ولا يفيد وطء السيد ، لأنه ليس بزوج ، فإذا تزوجها الثاني راغبا ووطئها ، ثم فارقها ، وانقضت عدتها (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) ، أي : على الزوج الأول والزوجة (أَنْ يَتَراجَعا) ، أي : يجددا عقدا جديدا بينهما ، لإضافته التراجع إليهما ، فدل على اعتبار التراضي. ولكن يشترط في التراجع أن يظنا (أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ) بأن يقوم كل منهما ، بحق صاحبه ، وذلك إذا ندما على عشرتهما السابقة الموجبة للفراق ، وعزما أن لا يبدلاها بعشرة حسنة ، فهنا لا جناح عليهما في التراجع. ومفهوم الآية الكريمة ، أنهما إن لم يظنا أن يقيما حدود الله ، بأن غلب على ظنهما أن الحال السابقة باقية ، والعشرة السيئة غير زائلة أن عليهما في ذلك جناحا ، لأن جميع الأمور ، إن لم يقم فيها أمر الله ، ويسلك بها طاعته ، لم يحل الإقدام عليها. وفي هذا دلالة على أنه ينبغي للإنسان ، إذا أراد أن يدخل في أمر من الأمور ، خصوصا الولايات ، الصغار والكبار ، أن ينظر في نفسه ، فإن رأى من نفسه قوة على ذلك ، ووثق بها ، أقدم وإلا أحجم. ولما بين تعالى هذه الأحكام العظيمة ، قال : (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) ، أي : شرائعه التي حددها وبينها ووضحها. (يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) لأنهم هم المنتفعون بها ، النافعون لغيرهم. وفي هذا من فضيلة أهل العلم ، ما لا يخفى ، لأن الله تعالى جعل تبيينه لحدوده ، خاصا بهم ، وأنهم المقصودون بذلك ، وفيه أن الله تعالى يحب من عباده ، معرفة حدود ما أنزل على رسوله والتفقّه بها.

[٢٣١] ثم قال تعالى : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) ، أي : طلاقا رجعيا بواحدة أو اثنتين. (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) ، أي : قاربن انقضاء عدتهن. (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) ، أي : إما أن تراجعوهن ، ونيتكم القيام بحقوقهن ، أو تتركوهن بلا رجعة ولا إضرار ، ولهذا قال : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً) ، أي : مضارة بهن (لِتَعْتَدُوا) في فعلكم هذا

١١٢

الحلال ، إلى الحرام. فالحلال : الإمساك بالمعروف ، والحرام : المضارة. (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) ، ولو كان الحق يعود للمخلوق فالضرر عائد إلى من أراد الضرار. (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً) لما بين تعالى حدوده غاية التبيين ، وكان المقصود العلم بها والعمل ، والوقوف معها ، وعدم مجاوزتها ، لأنه تعالى لم ينزلها عبثا ، بل أنزلها بالحق والصدق والجد ، نهى عن اتخاذها هزوا ، أي : لعبا بها ، وهي التجرؤ عليها ، وعدم الامتثال لواجبها ، مثل استعمال المضارة في الإمساك ، أو الفراق ، أو كثرة الطلاق ، أو جمع الثلاث ، والله ـ من رحمته ـ جعل له واحدة بعد واحدة ، رفقا به وسعيا في مصلحته. (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) عموما باللسان ، حمدا وثناء ، وبالقلب اعترافا وإقرارا ، وبالأركان بصرفها في طاعة الله. (وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ) ، أي : السنة ، اللذين بين لكم بهما طرق الخير ورغبكم فيها ، وطرق الشر وحذّركم إياها ، وعرّفكم نفسه ووقائعه في أوليائه وأعدائه ، وعلمكم ما لم تكونوا تعلمون. وقيل : المراد بالحكمة أسرار الشريعة ، فالكتاب فيه الحكم. والحكمة فيها بيان حكمة الله في أوامره ونواهيه ، وكلام المعنيين صحيح ، ولهذا قال : (يَعِظُكُمْ بِهِ) ، أي : بما أنزل عليكم ، وهذا مما يقوي أن المراد بالحكمة ، أسرار الشريعة ، لأن الموعظة ببيان الحكم والحكمة ، والترغيب أو الترهيب ، فبالحكم به ، يزول الجهل. والحكمة مع الترغيب ، يوجب الرغبة. والحكمة مع الترهيب ، يوجب الرهبة (وَاتَّقُوا اللهَ) في جميع أموركم (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، فلهذا بين لكم هذه الأحكام ، التي هي جارية مع المصالح في كل زمان ومكان ، فله الحمد والمنة.

[٢٣٢] هذا خطاب لأولياء المرأة المطلقة دون الثلاث إذا خرجت من العدة ، وأراد زوجها أن ينكحها ، ورضيت بذلك ، فلا يجوز لوليها ، من أب وغيره ، أن يعضلها ، أي : يمنعها من التزوج به حنقا عليه ، وغضبا ، واشمئزازا لما فعل من الطلاق الأول. وذكر أن (مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فإيمانه يمنعه من العضل. (ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ) ، وأطيب مما يظن الولي أن عدم تزويجه ، هو الرأي واللائق ، وأنه يقابل بطلاقه الأول بعدم تزويجه ، كما هو عادة المترفعين المتكبرين. فإن كان يظن أن المصلحة في عدم تزويجه ، فإن (اللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ، فامتثلوا أمر من هو عالم بمصالحكم ، مريد لها ، قادر عليها ، ميسر لها من الوجه الذي تعرفون وغيره. وفي هذه الآية ، دليل على أنه لا بد من الولي في النكاح ، لأنه نهى الأولياء عن العضل ، ولا ينهاهم إلا عن أمر ، هو تحت تدبيرهم ، ولهم فيه حق.

[٢٣٣] ثم قال تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ) ، الآية. هذا خبر بمعنى الأمر ، تنزيلا له منزلة المتقرر ، الذي لا يحتاج إلى أمر بأن (يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ). ولما كان الحول يطلق على الكامل ، وعلى معظم الحول ، قال : (كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) ، فإذا تم للرضيع حولان ، فقد تم رضاعه ، وصار اللبن بعد ذلك ، بمنزلة سائر الأغذية ، فلهذا كان الرضاع بعد الحولين ، غير معتبر فلا يحرم. ويؤخذ من هذا النص ، ومن قوله تعالى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً). أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ، وأنه يمكن وجود الولد بها. (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ) ، أي : الأب (رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) ،

١١٣

وهذا شامل لما إذا كانت في حباله أو مطلقة ، فإن على الأب رزقها ، أي : نفقتها وكسوتها ، وهي الأجرة للرضاع. ودل هذا ، على أنها إذا كانت في حباله ، لا يجب لها أجرة ، غير النفقة والكسوة ، وكل بحسب حاله ، فلهذا قال : (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها) ، فلا يكلف الفقير أن ينفق نفقة الغني ، ولا من لم يجد شيئا بالنفقة حتى يجد. (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها) ، أي : لا يحل أن تضار الوالدة بسبب ولدها ، إما أن تمنع من إرضاعه ، أو لا تعطى ما يجب لها من النفقة والكسوة أو الأجرة. (وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) ، بأن تمتنع من إرضاعه على وجه المضارة ، أو تطلب زيادة عن الواجب ، ونحو ذلك من أنواع الضرر. ودل قوله : (الْمَوْلُودِ لَهُ) أن الولد لأبيه ، لأنه موهوب له ، ولأنه من كسبه ، فلذلك جاز له الأخذ من ماله ، رضي أو لم يرض ، بخلاف الأم. وقوله : (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) ، أي : على وارث الطفل إذا عدم الأب ، وكان الطفل ليس له مال ، مثل ما على الأب من النفقة للمرضع والكسوة ، فدل على وجوب نفقة الأقارب المعسرين ، على القريب الوارث الموسر. (فَإِنْ أَرادا) ، أي : الأبوان (فِصالاً) ، أي : فطام الصبي قبل الحولين. (عَنْ تَراضٍ مِنْهُما) بأن يكونا راضيين (وَتَشاوُرٍ) فيما بينهما ، هل هو مصلحة للصبي أم لا؟ فإن كان مصلحة ورضيا (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) في فطامه قبل الحولين. فدلت الآية بمفهومها ، على أنه إن رضي أحدهما دون الآخر ، أو لم يكن مصلحة للطفل ، أنه لا يجوز فطامه. وقوله : (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ) ، أي : تطلبوا لهم المراضع غير أمهاتهم على غير وجه المضارة ، (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ) ، أي : للمرضعات ، (أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ، فمجازيكم على ذلك بالخير والشر.

[٢٣٤] أي : إذا توفي الزوج ، مكثت زوجته ، متربصة أربعة أشهر وعشرة أيام وجوبا ، والحكمة في ذلك ، ليتبين الحمل في مدة الأربعة أشهر ، ويتحرك في ابتدائه في الشهر الخامس ، وهذا العام مخصوص بالحوامل ، فإن عدتهن بوضع الحمل ، وكذلك الأمة ، عدتها على النصف من عدة الحرة ، شهران وخمسة أيام. وقوله : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) ، أي : انقضت عدتهن (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَ) ، أي : من مراجعتها للزينة والطيب ، (بِالْمَعْرُوفِ) ، أي : على وجه غير محرم ولا مكروه. وفي هذا وجوب الإحداد مدة العدة ، على المتوفى عنها زوجها ، دون غيرها من المطلقات والمفارقات ، وهو مجمع عليه بين العلماء. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) ، أي : عالم بأعمالكم ، ظاهرها وباطنها ، جليلها وخفيها ، فمجازيكم عليها. وفي خطابه للأولياء بقوله : (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَ) دليل على أن الولي ينظر على المرأة ، ويمنعها مما لا يجوز فعله ، ويجبرها على ما يجب ، وأنه مخاطب بذلك ، واجب عليه.

[٢٣٥] هذا حكم المعتدة من وفاة ، أو المبانة في الحياة ، فيحرم على غير مبينها أن يصرح لها في الخطبة ، وهو المراد بقوله : (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) ، وأما التعريض ، فقد أسقط تعالى فيه الجناح. والفرق بينهما أن التصريح لا يحتمل غير النكاح ، فلهذا حرم ، خوفا من استعجالها ، وكذبها في انقضاء عدتها ، رغبة في النكاح ، ففيه دلالة على

١١٤

منع وسائل المحرم ، وقضاء لحق زوجها الأول ، بعدم مواعدتها لغيره مدة عدتها. وأما التعريض ، وهو الذي يحتمل النكاح وغيره ، فهو جائز للبائن كأن يقول : إني أريد التزوج ، وإني أحب أن تشاوريني عند انقضاء عدتك ، ونحو ذلك ، فهذا جائز لأنه ليس بمنزلة الصريح ، وفي النفوس داع قوي إليه. وكذا إضمار الإنسان في نفسه أن يتزوج من هي في عدتها ، إذا انقضت ، ولهذا قال : (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَ) ، هذا التفصيل كله في مقدمات العقد. وأما عقد النكاح فلا يحل (حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) ، أي : تنقضي العدة. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ) ، أي : فانووا الخير ، ولا تنووا الشر ، خوفا من عقابه ورجاء لثوابه. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ) لمن صدرت منه الذنوب ، فتاب منها ، ورجع إلى ربه (حَلِيمٌ) حيث لم يعاجل العاصين على معاصيهم ، مع قدرته عليهم.

[٢٣٦] أي : ليس عليكم ـ يا معشر الأزواج ـ جناح وإثم ، بتطليق النساء قبل المسيس ، وفرض المهر ، وإن كان في ذلك كسر لها ، فإنه ينجبر بالمتعة ، فعليكم أن تمتعوهن بأن تعطوهن شيئا من المال ، جبرا لخواطرهن. (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ) ، أي : المعسر (قَدَرُهُ). وهذا يرجع إلى العرف ، وأنه يختلف باختلاف الأحوال ، ولهذا قال : (مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ) فهذا حق واجب (عَلَى الْمُحْسِنِينَ) ليس لهم أن يبخسوهن. فكما تسببوا لتشوفهن واشتياقهن ، وتعلق قلوبهن ، ثم لم يعطوهن ما رغبن فيه ، فعليهم ـ في مقابلة ذلك ـ المتعة. فلله ما أحسن هذا الحكم الإلهي ، وأدله على حكمة شارعه ورحمته!! (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٥٠)؟!! [المائدة : ٥٠] ، فهذا حكم المطلقات قبل المسيس ، وقبل فرض المهر.

[٢٣٧] ثم ذكر حكم المفروض لهن ، فقال : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ ...) ، أي : إذا طلقتم النساء قبل المسيس ، وبعد فرض المهر ، فللمطلقات من المهر المفروض نصفه ، ولكم نصفه. وهذا هو الواجب ما لم يدخله عفو ومسامحة ، بأن تعفو عن نصفها لزوجها ، إذا كان يصح عفوها ، (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) ، وهو الزوج على الصحيح ، لأنه الذي بيده حل عقدته ؛ ولأن الولي ، لا يصح أن يعفو عن ما وجب للمرأة ، لكونه غير مالك ولا وكيل. ثم رغب في العفو ، وأن من عفا ، كان أقرب لتقواه ، لكونه إحسانا موجبا لشرح الصدر ، ولكون الإنسان لا ينبغي أن يهمل نفسه من الإحسان والمعروف ، وينسى الفضل الذي هو أعلى درجات المعاملة ، لأن معاملة الناس فيما بينهما على درجتين : إما عدل وإنصاف واجب ، وهو أخذ الواجب ، وإعطاء الواجب ، وإما فضل وإحسان ، وهو إعطاء ما ليس بواجب ، والتسامح في الحقوق ، والغض مما في النفس. فلا ينبغي للإنسان أن ينسى هذه الدرجة ، ولو في بعض الأوقات ، وخصوصا لمن بينك وبينه معاملة ، أو مخالطة ، فإن الله مجاز المحسنين بالفضل والكرم ، ولهذا قال : (إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

[٢٣٨] ثم قال تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ) إلخ ، الآيتين. يأمر تعالى بالمحافظة (عَلَى الصَّلَواتِ) عموما ، وعلى (الصَّلاةِ الْوُسْطى) وهي العصر خصوصا. والمحافظة عليها : أداؤها بوقتها ، وشروطها ، وأركانها ،

١١٥

وخشوعها ، وجميع ما لها ، من واجب ومستحب. وبالمحافظة على الصلوات ، تحصل المحافظة على سائر العبادات ، وتفيد النهي عن الفحشاء والمنكر ، وخصوصا إذا أكملها كما أمر بقوله : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) ، أي : ذليلين مخلصين خاشعين ، فإن القنوت دوام الطاعة مع الخشوع.

[٢٣٩] وقوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ) حذف المتعلق ، ليعم الخوف من العدو ، والسبع ، وفوات ما يتضرر العبد بفوته فصلوا ، (رجالا) ماشين على أرجلكم. (أَوْ رُكْباناً) على الخيل والإبل ، وسائر المركوبات ، وفي هذه الحال ، لا يلزمه الاستقبال ، فهذه صفة صلاة المعذور بالخوف ، فإذا حصل الأمن ، صلى صلاة كاملة. ويدخل في قوله : (فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ) تكميل الصلوات ، ويدخل فيه أيضا ، الإكثار من ذكر الله ، شكرا له على نعمة التعليم ، لما فيه سعادة العبد. وفي الآية الكريمة ، فضيلة العلم ، وأن على من علمه الله ما لم يكن يعلم الإكثار من ذكر الله. وفيه الإشعار أيضا بأن الإكثار من ذكره ، سبب لتعليم علوم أخرى ، لأن الشكر مقرون بالمزيد.

[٢٤٠] ثم قال تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) ، الآية. اشتهر عند كثير من المفسرين ، أن هذه الآية الكريمة ، نسختها الآية التي قبله وهي قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) ، وأن الأمر كان على الزوجة ، أن تتربص حولا كاملا ، ثم نسخ بأربعة أشهر وعشر. ويجيبون عن تقدم الآية الناسخة ، أن ذلك تقدم في الوضع ، لا في النزول ، لأن شرط الناسخ أن يتأخر عن المنسوخ ، وهذا القول لا دليل عليه. ومن تأمل الآيتين ، اتضح له أن القول الآخر في الآية ، هو الصواب ، وأن الآية الأولى في وجوب التربص أربعة أشهر وعشرا ، على وجه التحتيم على المرأة ، وأما في هذه الآية فإنها وصية لأهل الميت ، أن يبقوا زوجة ميتهم عندهم ، حولا كاملا ، جبرا لخاطرها ، وبرا بميتهم ، ولهذا قال : (وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ) ، أي : وصية من الله لأهل الميت ، أن يستوصوا بزوجته ، ويمتعوها ولا يخرجوها. فإن رغبت أقامت في وصيتها ، وإن أحبت الخروج ، فلا حرج عليها ، ولهذا قال : (فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَ) ، أي : من التجمل واللباس. لكن الشرط ، أن يكون بالمعروف ، الذي لا يخرجها عن حدود الدين والاعتبار ، وختم الآية بهذين الاسمين العظيمين ، الدالين على كمال العزة ، وكمال الحكمة ، لأن هذه أحكام صدرت عن عزته ، ودلت على كمال حكمته ، حيث وضعها في مواضعها اللائقة بها.

[٢٤١] لما بين في الآية السابقة ، إمتاع المفارقة بالموت ، ذكر هنا أن كل مطلقة ، فلها على زوجها ، أن يمتعها ويعطيها ما يناسب حاله وحالها ، وأنه حق ، إنما يقوم به المتقون ، فهو من خصال التقوى الواجبة والمستحبة. فإن كانت المرأة لم يسم لها صداق ، وطلقها قبل الدخول ، فتقدم أنه يجب عليه بحسب يساره وإعساره. وإن كان مسمى لها ، فمتاعها نصف المسمى. وإن كانت مدخولا بها ، صارت المتعة مستحبة ، في قول جمهور العلماء. ومن العلماء من أوجب ذلك ، استدلالا بقوله : (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) ، والأصل في «الحق» أنه واجب ، خصوصا وقد أضافه إلى المتقين ، وأصل التقوى واجبة. فلما بين تعالى هذه الأحكام الجليلة بين الزوجين ، أثنى على أحكامه وعلى بيانه لها وتوضيحه ، وموافقتها للعقول السليمة ، وأن القصد من بيانه لعباده ، أن يعقلوا عنه ما بينه ، فيعقلونها حفظا ، وفهما ، وعملا بها ، فإن ذلك من تمام عقلها.

[٢٤٣] أي : ألم تسمع بهذه القصة العجيبة الجارية على من قبلكم من بني إسرائيل ، حيث حل الوباء بديارهم ، فخرجوا بهذه الكثرة ، فرارا من الموت ، فلم ينجهم الفرار ، ولا أغنى عنهم من وقوع ما كانوا يحذرون ، فعاملهم بنقيض مقصودهم ، وأماتهم الله عن آخرهم ، ثم تفضل عليهم ، فأحياهم ، إما بدعوة نبي ، كما قاله كثير من المفسرين ، وإما بغير ذلك. ولكن ذلك ، بفضله وإحسانه ، وهو لا زال فضله على الناس ، وذلك موجب لشكرهم لنعم الله بالاعتراف بها وصرفها في مرضاة الله ، ومع ذلك فأكثر الناس قد قصروا بواجب الشكر. وفي هذه القصة ،

١١٦

عبرة بأنه على كل شيء قدير ، وذلك آية محسوسة على البعث ، فإن هذه القصة معروفة منقولة ، نقلا متواترا عند بني إسرائيل ومن اتصل بهم ، ولهذا أتى بها تعالى ، بأسلوب الأمر الذي قد تقرر عند المخاطبين. ويحتمل أن هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم خوفا من الأعداء ، وجبنا عن لقائهم ، ويؤيد هذا أن الله ذكر بعدها الأمر بالقتال وأخبر عن بني إسرائيل أنهم كانوا مخرجين من ديارهم وأبنائهم. وعلى الاحتمالين فإن فيها ترغيبا في الجهاد ، وترهيبا من التقاعد عنه ، وأن ذلك لا يغني عن الموت شيئا. (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ).

[٢٤٤] جمع الله بين الأمر بالقتال في سبيله بالمال والبدن لأن الجهاد لا يقوم إلا بالأمرين ، وحث على الإخلاص فيه ، بأن يقاتل العبد ، لتكون كلمة الله هي العليا ، فإن الله (سَمِيعٌ) للأقوال ، وإن خفيت ، (عَلِيمٌ) بما تحتوي عليه القلوب من النيات الصالحة وضدها. وأيضا ، فإنه إذا علم المجاهد في سبيله ، أن الله سميع عليم ، هان عليه ذلك ، وعلم أنه بعينه ما يتحمل المتحملون من أجله ، وأنه لا بد أن يمدهم بعونه ولطفه. وتأمل هذا الحث اللطيف على النفقة ، وأن المنفق قد أقرض الله المليء الكريم ، ووعده المضاعة الكثيرة ، كما قال تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ). ولما كان المانع الأكبر من الإنفاق خوف الإملاق ، أخبر تعالى أن الغنى والفقر بيد الله ، وأنه يقبض الرزق على من يشاء ، ويبسطه على من يشاء ، فلا يتأخر من يريد الإنفاق خوف الفقر ، ولا يظن أنه ضائع ، بل مرجع العباد كلهم إلى الله ، فيجد المنفقون والعاملون أجرهم عنده مدخرا ، أحوج ما يكونون إليه ، ويكون له من الوقع العظيم ، ما لا يمكن التعبير عنه. والمراد بالقرض الحسن : هو ما جمع أوصاف الحسن ، من النية الصالحة ، وسماحة النفس ، بالنفقة ، ووقوعها في محلها وأن لا يتبعها المنفق منا ولا أذى ؛ ولا مبطلا ولا منقصا.

[٢٤٦] يقص الله تعالى هذه القصة على الأمة ، ليعتبروا وليرغبوا في الجهاد ، ولا ينكلوا عنه ، فإن الصابرين صارت لهم العواقب الحميدة في الدنيا والآخرة ، والناكلين خسروا الأمرين. فأخبر تعالى أن أهل الرأي من بني إسرائيل وأصحاب الكلمة النافذة ؛ تراودوا في شأن الجهاد ، واتفقوا على أن يطلبوا من نبيهم أن يعين لهم ملكا ؛ لينقطع النزاع بتعيينه ، وتحصل الطاعة التامة ، ولا يبقى لقائل مقال. وأن نبيهم خشي أن طلبهم هذا مجرد كلام لا فعل معه ، فأجابوا نبيهم بالعزم الجازم ، وأنهم التزموا ذلك التزاما تاما ، وأن القتال متعين عليهم ، حيث كان وسيلة لاسترجاع ديارهم ؛ ورجوعهم إلى مقرهم ووطنهم.

[٢٤٧] وأنه عين لهم نبيهم طالوت ملكا ، يقودهم في هذا الأمر الذي لا بد له من قائد يحسن القيادة ، وأنهم استغربوا تعيينه لطالوت ، وثمّ من هو أحق منه بيتا وأكثر مالا. فأجابهم نبيهم : إن الله اختاره عليكم ؛ بما آتاه الله من قوة العلم بالسياسة ؛ وقوة الجسم ، اللذين هما آلة الشجاعة والنجدة ، وحسن التدبير ، وأن الملك ليس بكثرة المال ؛ ولا بكون صاحبه ممن كان الملك والسيادة في بيوتهم ، فالله يؤتي ملكه من يشاء.

١١٧

[٢٤٨] ثم لم يكتف ذلك النبي الكريم بإقناعهم بما ذكره ؛ من كفاءة طالوت ؛ واجتماع الصفات المطلوبة فيهم حتى قال لهم : (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ) ، وكان هذا التابوت قد استولت عليه الأعداء. فلم يكتفوا بالصفات المعنوية في طالوت ، ولا بتعيين الله له على لسان نبيهم ، حتى يؤيد ذلك هذه المعجزة ، ولهذا قال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، فحينئذ سلموا وانقادوا.

[٢٤٩] فلما ترأس فيهم طالوت ، وجندهم ، ورتبهم ، وفصل بهم إلى قتال عدوهم ، وكان قد رأى منهم من ضعف العزائم والهمم ، ما يحتاج إلى تمييز الصابر من الناكل ، قال : (إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ) تمرون عليه وقت حاجة إلى الماء. (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) ، أي : لا يتبعني ؛ لأن ذلك برهان على قلة صبره ، ووفور جزعه ، (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) لصدقه وصبره ، (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) ، أي : فإنه مسامح فيها. فلما وصلوا إلى ذلك النهر وكانوا محتاجين إلى الماء ، شربوا كلهم منه (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) فإنهم صبروا ولم يشربوا. (فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا) أي : الناكلون أو الذين عبروا : (لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ). فإن كان القائلون هم الناكلين ، فهذا قول يبررون به نكولهم ، وإن كان القائلون هم الذين عبروا مع طالوت ، فإنه حصل معهم نوع استضعاف لأنفسهم ، ولكن شجعهم على الثبات والإقدام أهل الإيمان الكامل حيث قالوا : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) بعونه وتأييده ، ونصره ، فثبتوا ، وصبروا لقتال عدوهم جالوت وجنوده.

[٢٥١] (وَقَتَلَ داوُدُ) صلى‌الله‌عليه‌وسلم (جالُوتَ) وحصل بذلك الفتح والنصر على عدوهم. (وَآتاهُ اللهُ) ، أي : داود (الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ) النبوة والعلوم النافعة ، وآتاه الله الحكمة وفصل الخطاب.

ثم بين تعالى ، فائدة الجهاد فقال : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) باستيلاء الكفرة والفجار ، وأهل الشر والفساد. (وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) حيث لطف بالمؤمنين ، ودافع عنهم وعن دينهم ، بما شرعه وبما قدره.

[٢٥٢] فلما بين هذه القصة قال لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٢٥٢). ومن جملة الأدلة على رسالته ، هذه القصة ، حيث أخبر بها وحيا من الله ، مطابقا للواقع ، وفي هذه القصة عبر كثيرة للأمة : منها : فضيلة الجهاد في سبيله وفوائده ، وثمراته ، وأنه السبب الوحيد في حفظ الدين ، وحفظ الأوطان ، وحفظ الأبدان والأموال ، وأن المجاهدين ، ولو شقت عليهم الأمور ، فإن عواقبهم حميدة كما أن الناكلين ، ولو استراحوا قليلا ، فإنهم سيتعبون طويلا. ومنها : الانتداب لرياسة من فيه كفاءة ، وأن الكفاءة ترجع إلى أمرين : إلى العلم الذي هو علم السياسة والتدبير ، وإلى القوة التي ينفذ بها الحق ، وأن من اجتمع فيه الأمران فهو أحق من غيره. ومنها : الاستدلال بهذه القصة على ما قاله العلماء ، أنه ينبغي لأمير الجيوش ، أن يتفقدها عند

١١٨

فصولها ، فيمنع من لا يصلح للقتال ، من رجال وخيل وركاب ، لضعفه ، أو ضعف صبره ، أو لتخذيله ، أو خوف الضرر بصحبته ، فإن هذا القسم ضرر محض على الناس. ومنها : أنه ينبغي عند حضور البأس ، تقوية المجاهدين ، وتشجيعهم ، وحثهم على القوة الإيمانية ، والاتكال الكامل على الله ، والاعتماد عليه ، وسؤال الله التثبيت ، والإعانة على الصبر والنصر على الأعداء. ومنها : أن العزم على القتال والجهاد غير حقيقته ، فقد يعزم الإنسان ، ولكن عند حضوره ، تنحل عزيمته ، ولهذا كان من دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أسألك الثبات في الأمر ، والعزيمة على الرشد». فهؤلاء الذين عزموا على القتال ، وأتوا بكلام يدل على العزم المصمم ، لما جاء الوقت ، نكص أكثرهم ، ويشبه هذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وأسألك الرضا بعد القضاء» ؛ لأن الرضا بعد وقوع القضاء المكروه للنفوس ، هو الرضا الحقيقي.

[٢٥٣] يخبر الباري أنه فاوت بين الرسل في الفضائل الجليلة ، والتخصيصات الجميلة ، بحسب ما منّ الله به عليهم ، وقاموا به من الإيمان الكامل ؛ واليقين الراسخ ، والأخلاق العالية ، والآداب السامية ، والدعوة ، والتعليم ، والنفع العميم. فمنهم من اتخذه خليلا ، ومنهم من كلمه تكليما ، ومنهم من رفعه فوق الخلائق درجات. وجميعهم لا سبيل لأحد من البشر إلى الوصول لفضلهم الشامخ. وخصّ عيسى ابن مريم أنه آتاه البينات الدالة على أنه رسول الله حقا ، وعبده صدقا ، وأن ما جاء به من عند الله كله حق ، فجعله يبرىء الأكمه والأبرص ، ويحيي الموتى بإذن الله ، وكلّم الناس في المهد صبيّا ، وأيده بروح القدس ، أي : بروح الإيمان. فجعل روحانيته فائقة روحانية غيره ، فحصل له بذلك القوة والتأييد ، وإن كان أصل التأييد بهذه الروح عاما لكل مؤمن ، بحسب إيمانه ، كما قال : (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) ، لكن ما لعيسى أعظم مما لغيره ، لهذا خصه الله بالذكر. وقيل : إن روح القدس ـ هنا ـ جبريل ، أيده الله بإعانته ومؤازرته ، لكن المعنى الأصح ، هو الأول. ولما أخبر عن كمال الرسل ، وما أعطاهم من الفضل والخصائص ، وأن دينهم واحد ، ودعوتهم إلى الخير واحدة ، كان موجب ذلك ومقتضاه ، أن تجتمع الأمم على تصديقهم ، والانقياد لهم ، لما آتاهم من البينات التي على مثلها يؤمن البشر ، لكن أكثرهم انحرفوا عن الصراط المستقيم ، ووقع الاختلاف بين الأمم. فمنهم من آمن ، ومنهم من كفر ، ووقع لأجل ذلك الاقتتال الذي هو موجب الاختلاف والتعادي ، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ، فما اختلفوا ، ولو شاء الله أيضا ـ بعد ما وقع الاختلاف الموجب للاقتتال ـ ما اقتتلوا. ولكن حكمته ، اقتضت جريان الأمور على هذا النظام بحسب الأسباب ، ففي هذه الآية أكبر شاهد على أنه تعالى ، يتصرف في جميع الأسباب لمسبباتها ، وأنه إن شاء أبقاها ، وإن شاء منعها ، وكلّ ذلك تبع لحكمته وحده ، فإنه فعال لما يريد ، فليس لإرادته ومشيئته ممانع ولا معارض ولا معاون.

[٢٥٤] يحثّ الله المؤمنين على النفقات ، في جميع طرق الخير ؛ لأن حذف المعمول ، يفيد التعميم ، ويذكرهم نعمته عليهم ، بأنه هو الذي رزقهم ، ونوع عليهم النعم ، وأنه لم يأمرهم بإخراج جميع ما في أيديهم ، بل أتى ب «من» الدالة على التبعيض ، فهذا مما يدعوهم إلى الإنفاق. ومما يدعوهم أيضا إخبارهم أن هذه النفقات ، مدخرة عند الله في

١١٩

يوم لا تفيد فيه المعاوضات بالبيع ونحوه ، ولا التبرعات ، ولا الشفاعات ، فكل أحد يقول : يا ليتني قدمت لحياتي. فتنقطع الأسباب كلها ، إلا الأسباب المتعلقة بطاعة الله والإيمان به ، يوم لا ينفع مال ولا بنون ، إلا من أتى الله بقلب سليم. (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) ، (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً). ثم قال تعالى : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ، وذلك لأن الله خلقهم لعبادته ، ورزقهم وعافاهم ، ليستعينوا بذلك على طاعته ، فخرجوا عما خلقهم الله له ، وأشركوا بالله ، ما لم ينزل به سلطانا ، واستعانوا بنعمه على الكفر ، والفسوق ، والعصيان ، فلم يبقوا للعدل موضعا ، فلهذا حصر الظلم المطلق فيهم.

[٢٥٥] أخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن هذه الآية أعظم آيات القرآن ، لما احتوت عليه من معاني التوحيد والعظمة ، وسعة الصفات للباري تعالى. فأخبر أنه (اللهُ) الذي له جميع معاني الألوهية ، وأنه لا يستحق الألوهية والعبودية إلا هو ، فألوهية غيره ، وعبادة غيره باطلة. وأنه (الْحَيُ) الذي له جميع معاني الحياة الكاملة ، من السمع والبصر ، والقدرة ، والإرادة ، وغيرها والصفات الذاتية. كما أن (الْقَيُّومُ) تدخل فيه جميع صفات الأفعال ، لأنه القيوم الذي قام بنفسه ، واستغنى عن جميع مخلوقاته ، وقام بجميع الموجودات ، فأوجدها وأبقاها ، وأمدها بجميع ما تحتاج إليه في وجودها وبقائها. ومن كمال حياته وقيوميته ، أنه (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ) ، أي : نعاس (وَلا نَوْمٌ) ؛ لأن السنة والنوم ، إنما يعرضان للمخلوق ، الذي يعتريه الضعف ، والعجز ، والانحلال ، ولا يعرضان لذي العظمة والكبرياء والجلال. وأخبر أنه مالك جميع ما في السماوات والأرض ، فكلهم عبيد لله مماليك ، لا يخرج أحد منهم عن هذا الطور ، (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) (٩٣) ، فهو المالك لجميع الممالك ، وهو الذي له صفات الملك والتصرف ، والسلطان ، والكبرياء. ومن تمام ملكه أنه لا (يَشْفَعُ عِنْدَهُ) أحد (إِلَّا بِإِذْنِهِ) ، فكل الوجهاء والشفعاء عبيد له مماليك ، لا يقدمون على شفاعة حتى يأذن لهم. (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، والله لا يأذن لأحد أن يشفع إلا فيمن ارتضى ، ولا يرتضي إلا توحيده ، واتباع رسله ، فمن لم يتصف بهذا ، فليس له في الشفاعة نصيب. ثم أخبر عن علمه الواسع المحيط ، وأنه يعلم ما بين أيدي الخلائق ، من الأمور المستقبلة ، التي لا نهاية لها (وَما خَلْفَهُمْ) من الأمور الماضية التي لا حد لها ، وأنه لا تخفى عليه خافية (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) (١٩). وأن الخلق لا يحيط أحد بشيء من علم الله ومعلوماته (إِلَّا بِما شاءَ) منها وهو ما أطلعهم عليه من الأمور الشرعية والقدرية ، وهو جزء يسير جدا مضمحل في علوم الباري ومعلوماته ، كما قال أعلم الخلق به ، وهم الرسل والملائكة : (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا). ثم أخبر عن عظمته وجلاله ، وأن كرسيه ، وسع السماوات والأرض ، وأنه قد حفظهما ومن فيهما من العوالم بالأسباب والنظامات ، التي جعلها الله في المخلوقات. ومع ذلك ف (لا يَؤُدُهُ) ، أي : يثقله حفظهما ، لكمال عظمته ، واقتداره ، وسعة حكمته في أحكامه. (وَهُوَ الْعَلِيُ) بذاته ، على جميع مخلوقاته ، وهو العلي بعظمة صفاته ، وهو العلي الذي قهر

١٢٠