تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي

تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلام المنّان

المؤلف:

الشيخ أبي عبدالله عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ١١٣٥

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

كلمة دار إحياء التراث العربي

إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، من يهد الله فلا مضلّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران : ١٠٢].

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء : ١].

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) (٧١) [الأحزاب : ٧٠ ـ ٧١].

أما بعد ، فيسرّ دار إحياء التراث أن تقدّم للعالم الإسلامي واحدا من أعظم التفاسير المعاصرة في القرن العشرين هو تفسير الإمام السّعدي المسمى «تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان» أكمله عام ١٣٤٤ ه‍ / ١٩٢٤ م (١).

وقد انتفع المؤلّف كثيرا بكتب شيخ الإسلام الداعية ابن تيمية الحراني الدمشقي أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام (ت ٧٢٨ ه‍) وتلميذه ابن القيم شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر الزّرعي الدمشقي (ت ٧٥١ ه‍) وحصل له خير كثير بسببهما في علم الأصول والتوحيد والتفسير والفقه ، فألّف تفسيره بما فتح الله عليه من علوم ، وخرج من مذهبه الحنبلي إلى ما يترجح عنده بالدليل الشرعي ، فكانت له اليد الطولى في التفسير وبرع فيه ، إذ قرأ عدة تفاسير. فأجاد وأفاد وأخذ يبينّ من معاني القرآن وفوائده ما تعظم درره ، مع استنباط الفوائد البديعة والمعاني الجليلة ، كل ذلك مع فصاحة وجزالة في الألفاظ وتوسع في سياق الأدلة.

وهذا ما دعى مؤسسة دار إحياء التراث العربي لنشر هذا الكتاب الجليل بهذه الحلة القشيبة

__________________

(١) كما كتب في آخر تفسير سورة الفتح : «بقلم الفقير إلى ربّه سليمان بن حمد العبد الله البسّام» نقلته من خط المفسّر ... في (١٣) ذي الحجة عام (١٣٥٤ ه‍).

وكتب في آخر التفسير : «تمّ كتاب تفسير الله بعونه وحسن توفيقه على يد جامعه وكاتبه عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله المعروف بابن السعدي. وقع النقل في (٧) شعبان سنة (١٣٥٤ ه‍).

٥

بعد ما عمدت إلى ضبط ألفاظه وتصحيح آياته القرآنية الكريمة على برنامج الحاسوب ومراجعتها حرفيا على المصحف الشريف ، واستدراك أخطاء طبعاته السابقة وما نقص منها ـ وهي ليست بالقليلة ـ ، والاعتناء به بما قدّر الله به وأعان ، وجعلته حاشية للمصحف الشريف بالرسم العثماني.

وقد بذل المؤلّف رحمه‌الله من الجهود المباركة ما يحمد عليه خصوصا عند تعرّضه لمسألة العقيدة والتوحيد وآيات الصفات حيث لا تحريف ولا تأويل يخالف مراد الله ، كل ذلك مع سهولة العبارة ووضوحها وبساطتها وتجنّب الحشو والتطويل وذكر مواضع الخلاف إلا ما دعت إليه حاجة ، مع دقّة في الاستنباط ، ووعظ وإرشاد في التربية.

وصدّر المفسّر كتابه بمقّدمة بيّن فيها الأسباب التي دعته إلى كتابة هذا التفسير ، ثمّ تحدّث عن أصول وكليات من أصول التفسير لا يستغني عنها المفسّر ، وفصل في شرح أسماء الله الحسنى.

كما خلا هذا التفسير من الإسرائيليات والقصص واهتم بإبراز العقيدة السّلفيّة والتوجه الصادق إلى الله مع استنباط الأحكام الشرعية والقواعد الأصولية والفوائد الفقهية.

وربّما ذكر المفسّر بعض الأحاديث النبوية الشريفة كما في سورة التغابن الآية [١٦] لكن دون ذكر من خرّج الحديث ومن رواه من الأئمّة.

كما خلا التفسير من القراءات القرآنية ، والإعراب إلّا نادرا ، وتبيان المكّي والمدني من الآيات ، لكن المفسّر رحمه‌الله يستأنس أحيانا ببعض الشواهد القرآنية في مواضع ليست بالقليلة ، وبأسباب النزول عند الضرورة. مع التركيز بالمقابل على المقصود من الآية بعبارات سهلة واضحة توضح المعنى المقصود والمفيد.

والغالب العام هو البساطة في التفسير والتوجه الصادق مع الله وعرض آراء المفسّرين السابقين الذين استفاد الإمام السعدي من كتبهم ونقل عنهم ، حتى غدا هذا التفسير درّة من درر ما يعرف ب «التفسير بالرأي».

أمّا خطّة إخراج الكتاب الفنيّة فكانت كالتالي :

١ ـ وضع أمام كل آية رقمها من القرآن الكريم ومن ثم التفسير الموافق لها هكذا [١] ، [٢] ...

٢ ـ إسقاط اللفظ القرآني أحيانا في بداية السورة ، وربما في وسطها ، أو في آخرها منعا للتطويل ، ويجد القارئ ذلك في المصحف الشريف حيث جعل التفسير حاشية له. وذلك مثلا كما في سورة الرعد الآية [٦] حيث بدأ المفسّر تفسيره بقوله : «يخبر تعالى عن جهل المكذّبين لرسوله المشركين به ، الذين وعظوا فلم يتّعظوا ...» مسقطا اللفظ القرآني لبداية السورة وهو (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ).

وكذا الآية [٢١] من سورة الحجر ، وهذا كثير في الكتاب.

٦

وربما أسقط اللفظ القرآني بتمامه واكتفى بتفسير الآية كما في سورة الحجر مثلا الآية [٢] والآية [٨٠].

هذا ويجد القارئ ترجمة للمؤلّف وراء هذه الكلمة.

نسأل الله العظيم ربّ العرش العظيم أن ينفع بهذا التفسير المبارك وأن يرحم مؤلّفه رحمة واسعة ويجزيه خير الجزاء.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين ، وعلى من والاهم بإحسان إلى يوم الدين.

وكتبه أفقر العباد إلى رحمة الله

يوم تنقطع كل الصلات إلا الصلة بالله عزوجل

محمد عبد الرحمن المرعشلي بيروت دار إحياء التراث العربي

١٩ جمادى الآخرة ١٤١٩ ه‍

الموافق ١٠ تشرين الأول ١٩٩٨ م

٧
٨

تقديم

صاحب الفضيلة الشي

عبد الله بن عبد العزيز بن عقي

رئيس الهيئة الدائمة بمجلس القضاء الأعلى سابقا

وعضو بمجلس القضاء الأعلى (متقاعد)

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد :

فإن الله بحكمته ورحمته أنزل كتابه تبيانا لكل شيء ، وجعله هدى وبرهانا لهذه الأمة ، ويسره للذكر والتلاوة والهداية بجميع أنواعها (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أنزله بلسان عربي مبين ، وتكفل بحفظه وإبلاغه لجميع البشر ، وقيض له من العلماء من يفسرونه ، ويبلغونه للناس ألفاظه ومعانيه ، لتتم بذلك الهداية وتقوم به الحجة. وقد أكثر العلماء من التأليف في تفسير القرآن العظيم كل بما أوتي من علم ، فمنهم من يفسر القرآن بالقرآن ، ومنهم من يفسره بالأخبار والآثار ، ومنهم من يفسره من حيث اللغة العربية بأنواعها ، ومنهم من يعتني بآيات الأحكام إلى غير ذلك.

وقد كان لشيخنا العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه‌الله من ذلك حظ وافر وذلك بتفسيره المسمى : «تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان» حيث جاء هذا التفسير سهل العبارة ، واضح الإشارة ، وصاغه على نمط بديع بعبارات قريبة لا خفاء فيها ولا غموض ، فهو يعتني بإيضاح المعنى المقصود من الآية بكلام مختصر مفيد ، مستوعب لجميع ما تضمنته الآية من معنى أو حكم سواء من منطوقها أو مفهومها ، دون إطالة أو استطراء أو ذكر قصص أو إسرائيليات ، أو حكاية أقوال تخرج عن المقصود ، أو ذكر أنواع الإعراب إلا في النادر الذي يتوقف عليه المعنى ، بل يركز على المعنى المقصود من الآية بعبارة واضحة يفهمها كل من يقرؤها مهما كان مستواه العلمي ، فهو في الحقيقة سهل ممتنع يفهم معناه من مجرد تلاوة لفظه ، وقد اهتم بترسيخ العقيدة السلفية ، والتوجه إلى الله ، واستنباط الأحكام الشرعية ، والقواعد الأصولية ، والفوائد الفقهية إلى غير ذلك من الفوائد الأخرى التي توجد في غير تفسيره مع اهتمامه بتفسير آيات الصفات بمقتضى عقيدة السلف خلافا لما يؤولها بعض المفسرين.

وقد منّ الله عليّ فسمعت منه بعض تفسيره شفهيا في حلقات الدروس في مسجد الجامع بعنيزة ، كما أنني ممن أشار عليه بطبعه فطبع الجزء الخامس فقط في حياته عام ١٢٧٥ ه‍ في المطبعة السلفية بمصر ، وبعد ذلك تشاورنا في طبع بقيته ، وساهمت في ذلك أيام كنت قاضيا في عنيزة فطبع باقيه بعد وفاته في عامي ٧٦

٩

و ٧٧ ، وبعد تمام طبعه تداوله الناس بالقراءة والتدريس ، ودرسناه لإخواننا وأبنائنا الطلاب وحصل بذلك خير كثير وقرأه أئمة المساجد على جماعاتهم لوضوح عباراته. وقد طبع بعد ذلك طبعات أخرى لا يخلو كل منها من ملاحظة أو مؤاخذة.

ولما صارت طبعاته بهذه المثابة مع حاجة الناس إليه ، سمت همة ابننا الشيخ الفاضل : عبد الرحمن بن معلا اللويحق الأستاذ بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية إلى طبعه على هامش المصحف الموجه كل جزء (٢٠) صفحة مراعيا في كل صفحة وضع ما يتعلق بتفسيرها. وقد عرض عليّ النماذج الأولى لهذه الطبعة فأعجبتني ، وسررت بها جدا مؤملا أن تكون هذه الطبعة خير معين على فهم كتاب الله تعالى ، والاعتناء به تلاوة وحفظا وفهما ، لأنه بهذا الصنيع يقرب الاستفادة لتالي القرآن لسهولة التناول وسرعة الرجوع إلى تفسير الآية من نفس الصفحة بدلا من الرجوع إليها من كتب التفاسير البعيدة. كما أنه سيعتني بتصحيح الأصل وجودة الطبع.

فأسأل الله أن يشكر للابن الشيخ عبد الرحمن بن معلا اللويحق هذا الصنيع المبارك ، وأن يجزيه أفضل الجزاء ، وأن ينفع بهذه الطبعة كما نفع بسابقاتها ، وأن يجزي كل من ساهم في إخراج هذا المشروع النافع أفضل الجزاء وأن يتغمد الجميع ومؤلف التفسير برحمته إنه جواد كريم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

حرر في ٢٧ / ٩ / ١٤١٦ ه‍

وكتبه الفقير إلى الله عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل

رئيس الهيئة الدائمة بمجلس القضاء الأعلى سابقا

وعضو بمجلس القضاء الأعلى (متقاعد)

١٠

تقريظ

فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين

عضو هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد : فإن تفسير شيخنا عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه‌الله تعالى المسمى «تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان» من أحسن التفاسير حيث كان له ميزات كثيرة :

منها سهولة العبارة ووضوحها حيث يفهمها الراسخ في العلم ومن دونه.

ومنها تجنب الحشو والتطويل الذي لا فائدة منه إلا إضاعة وقت القارئ وتبلبل فكره.

ومنها تجنب ذكر الخلاف إلا أن يكون الخلاف قويا تدعو الحاجة إلى ذكره وهذه ميزة مهمة بالنسبة للقارىء حتى يثبت فهمه على شيء واحد.

ومنها السير على منهج السلف في آيات الصفات فلا تحريف ولا تأويل يخالف مراد الله بكلامه فهو عمدة في تقرير العقيدة.

ومنها دقة الاستنباط فيما تدل عليه الآيات من الفوائد والأحكام والحكم وهذا يظهر جليا في بعض الآيات كآية الوضوء في سورة المائدة حيث استنبط منها خمسين حكما ، وكما في قصة داود وسليمان في سورة ص.

ومنها أنه كتاب تفسير وتربية على الأخلاق الفاضلة كما تبين في تفسير قوله تعالى في سورة الأعراف (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) (١٩٩).

ومن أجل هذا أشير على كل مريد لاقتناء كتب التفسير أن لا تخلو مكتبته من هذا التفسير القيم.

وأسأل الله تعالى أن ينفع به مؤلفه وقارئه إنه كريم جواد ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان.

وكتبه محمد الصالح العثيمين

في ١٥ / رمضان ١٤١٦ ه

١١

صورة عن تقريظ

فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين بخط يده

١٢

تقديم

الشيخ عبد الرحمن بن معلا اللويحق

الأستاذ بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

الحمد لله ، نستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله ، فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا أما بعد :

فإن القرآن الكريم عمدة الملة ، وينبوع الحكمة ، لا اهتداء إلا باتباعه ، والضلال مرهون بالإعراض عنه :

(فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) (١٢٤).

ولذلك كان لزاما على مبتغي الهداية ، أن يديم الصلة به تلاوة وعملا ، وتدبرا وفهما :

(كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢٩).

والتدبر سبيل من سبل أهل الإيمان ، تزداد به معارفهم ، وتصلح به ظواهرهم وبواطنهم ، وقاصد تدبر القرآن الكريم يحتاج إلى النظر في كلام أهل العلم ، وقراءة ما كتبوا في تفسير القرآن الكريم ، فقد بسطوا ألفاظ القرآن ، الوجيزة في مبانيها العظيمة في معانيها. فأبانوا ما قد يعسر على القارئ فهمه ، وفصلوا ما جاء من القواعد العامة والكليات ، ودفعوا ما قد يتوهم من تعارض ، وأوضحوا الحذف الذي اقتضته بلاغة المتكلم به سبحانه ، وعينوا المعنى المراد من اللفظ المحتمل. وسلكوا في ذلك مناهج متعددة ، مغترفين جميعا من بحار علوم القرآن ما فتح الله عليهم به. فمنهم من اعتنى بتفسير القرآن بالآثار ، ومنهم من اعتنى بآيات الأحكام ، ومنهم الملتفت لجوانب البلاغة واللغة في الكتاب العزيز ، في جملة أخرى من المناهج.

ولقد سلك شيخ مشايخنا العلامة : عبد الرحمن بن ناصر السعدي من ذلك منهجا أبان عنه في صدر تفسيره المسمى : «تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان» إذ يقول : (... وقد كثرت تفاسير الأئمة رحمهم‌الله لكتاب الله ، فمن مطول خارج في أكثر بحوثه عن المقصود ، ومن مقتصر يقتصر على حلّ بعض الألفاظ اللغوية بقطع النظر عن المراد. وكان الذي ينبغي في ذلك أن يجعل المعنى هو المقصود ، واللفظ وسيلة إليه ..

ولما منّ الباري عليّ وعلى إخواني بالاشتغال بكتابه العزيز ، بحسب الحال اللائقة بنا ، أحببت أن أرسم من تفسير كتاب الله ما تيسر ، وما منّ به الله علينا ، ليكون تذكرة للمحصلين ، وآلة للمستبصرين ، ومعونة للسالكين ، ولأقيده خوف الضياع ، ولم يكن قصدي في ذلك إلا أن يكون المعنى هو المقصود ، ولم أشتغل في حل الألفاظ والعقود للمعنى الذي ذكرت ، ولأن المفسرين كفوا من بعدهم ...).

١٣

وباعتنائه ـ رحمه‌الله ـ بالمعاني ، أوقف القارئ على المراد من الآية ، دون أن يعرج به على المباحث اللغوية أو الإسرائيليات أو السجال المتبادل بين أهل التفسير ، مع الاعتناء بأمور العقيدة على منهج السلف ، والالتفات إلى جوانب تربية النفوس وإصلاح الأخلاق. وكل ذلك في قالب جميل ، بأسلوب واضح رائق العبارة.

فتفسيره بهذا ، من أحق التفاسير بالقراءة ، وأولاها بالعناية ، خاصة لمن لم يكن متخصصا في العلوم الشرعية ، مع الرغبة في فهم الكتاب العزيز.

ولقد منّ الله عليّ بالعناية بهذا التفسير ، ومحبة صاحبه ـ رحمه‌الله ـ وكنت دائم النصح بقراءته. ولكن كثرة عدد أجزائه تثبط من همم المنصوحين ، فصرت أقلب النظر ابتغاء وسيلة تهدم الحاجز النفسي الحائل بين بعض القراء وهذا التفسير ، فكان التهذيب رأيا من الآراء حالت دونه حوائل (والخيرة فيما اختاره الله) إلى أن صدر الكتاب بهذا الشكل.

وإنني إذ أحمد الله الذي يسر لي العناية بإخراج هذه الطبعة ، أشكر كل من أعان على ذلك ، وأخص فضيلة شيخي العلامة الفقيه : عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل (رئيس الهيئة الدائمة بالمجلس الأعلى للقضاء وعضو هيئة كبار العلماء سابقا) الذي شجع على إتمام هذا العمل ، وتوّجه بكتابة مقدمة له. وفضيلة الشيخ العلامة : محمد بن صالح العثيمين «عضو هيئة كبار العلماء» الذي تفضل بعد الاطلاع على نماذج العمل الأولية ، بكتابة كلمة تتضمن التعريف بالتفسير ، وحفز همم طلبة العلم لمطالعته. وفضيلة أخي الشيخ :

محمد بن عبد العزيز الخضيري ، الذي أعان على متابعة هذا العمل ، وأبدى من جميل الآراء ما كان له أثره في خروج هذا التفسير بهذه الصورة.

والإخوة الكرام ، الذين تفضلوا بالإنفاق على طباعة الكتاب للتوزيع ، حسبة وتقربا إلى الله عزوجل.

فاللهم أجزل لهم جميعا الأجر والمثوبة ، وارحم العلامة الفقيه المفسر : عبد الرحمن بن ناصر السعدي ، واجزه خير ما جزيت به العلماء العاملين.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

وكتب عبد الرحمن بن معلا اللويحق

في الخامس عشر من شهر شوال

عام ١٤١٦ ه

١٤

ترجمة المؤلف

بقلم أحد تلاميذه

١ ـ اسمه ونسبه ومولده ونشأته في اليتم :

هو الشيخ أبو عبد الله عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن ناصر آل سعدي من قبيلة تميم ، ولد في بلدة عنيزة في القصيم ، وذلك بتاريخ ١٢ محرم عام ألف وثلاثمائة وسبع من الهجرة النبوية (١٣٠٧ ه‍ / ١٨٨٧ م) ، وتوفيت أمه وله أربع سنين ، وتوفي والده وله سبع سنين ، فتربى يتيما.

ولكنه نشأ نشأة حسنة ، وكان قد استرعى الأنظار منذ حداثة سنّه بذكائه ورغبته الشديدة في العلوم ، وقد قرأ القرآن بعد وفاة والده ثم حفظه عن ظهر قلب ، وأتقنه وعمره أحد عشر سنة ، ثم اشتغل في التعلم على علماء بلده وعلى من قدم بلده من العلماء ، فاجتهد وجد حتى نال الحظ الأوفر من كل فن من فنون العلم ، ولما بلغ من العمر ثلاثا وعشرين سنة جلس للتدريس فكان يتعلم ويعلّم ، ويقضي جميع أوقاته في ذلك ، حتى أنه في عام ألف وثلاثمائة وخمسين صار التدريس ببلده راجعا إليه ؛ ومعول جميع الطلبة في التعلم عليه.

٢ ـ شيوخه :

أخذ عن الشيخ إبراهيم بن حمد بن جاسر ، وهو أوّل من قرأ عليه ، وكان المؤلف يصف شيخه بحفظه للحديث ، ويتحدث عن ورعه ومحبته للفقراء ومواساتهم ، وكثيرا ما يأتيه الفقير في اليوم الشاتي فيخلع أحد ثوبيه ويلبسه الفقير مع حاجته إليه ، وقلة ذات يده رحمه‌الله.

ومن مشايخ المؤلف الشيخ محمد بن عبد الكريم الشبل ، قرأ عليه في الفقه وعلوم العربية وغيرهما.

ومنهم الشيخ صالح بن عثمان القاضي (قاضي عنيزة) قرأ عليه في التوحيد والتفسير والفقه : أصوله وفروعه وعلوم العربية ، وهو أكثر من قرأ عليه المؤلّف ولازمه ملازمة تامة حتى توفي رحمه‌الله.

ومنهم الشيخ عبد الله بن عايض ، ومنهم الشيخ صعب القويجري ، ومنهم الشيخ علي السناني.

١٥

ومنهم الشيخ علي الناصر أبو واداي ، قرأ عليه في الحديث ، وأخذ عنه الأمهات الست وغيرها وأجازه في ذلك.

ومنهم الشيخ محمد بن الشيخ عبد العزيز المحمد المانع (مدير المعارف في المملكة العربية السعودية) في وقتنا الحالي ، وقد قرأ عليه المؤلف في عنيزة.

ومن مشايخه الشيخ محمد الشنقيطي (نزيل الحجاز قديما ثم الزبير) لما قدم عنيزة وجلس فيها للتدريس قرأ عليه المؤلف في التفسير والحديث ومصطلح الحديث وعلوم العربية كالنحو والصرف ونحو هما.

٣ ـ نبذة من أخلاق المؤلف :

كان ـ رحمه‌الله ـ على جانب كبير من الأخلاق الفاضلة ، متواضعا للصغير والكبير والغني والفقير ، يقضي بعض وقته في الاجتماع بمن يرغب حضوره فيكون مجلسهم ناديا علميا ، حيث إنه يحرص أن يحتوي على البحوث العلمية والاجتماعية ويحصل لأهل المجلس فوائد عظمى من هذه البحوث النافعة التي يشغل وقتهم فيها ، فتنقلب مجالسهم العادية عبادة ومجالس علمية ، ويتكلم مع كل فرد بما يناسبه ، ويبحث معه في المواضيع النافعة له دنيا وآخرة ، وكثيرا ما يحل المشاكل برضاء الطرفين في الصلح العادل.

وكان ذا شفقة على الفقراء والمساكين والغرباء ، مادا يد المساعدة لهم بحسب قدرته ، يستعطف لهم المحسنين ممن يعرف عنهم حب الخير في المناسبات.

وكان على جانب كبير من الأدب والعفة والنزاهة والحزم في كل أعماله.

وكان من أحسن الناس تعليما وأبلغهم تفهيما ، مرتبا لأوقات التعليم ، ويعمل المناظرات بين تلاميذه المحصلين لشحذ أفكارهم ، ويجعل الجعل لمن يحفظ بعض المتون ؛ وكل من حفظه أعطي الجعل ولا يحرم منه أحد. ويتشاور مع تلاميذه في اختيار الأنفع من كتب الدراسة ، ويرجح ما عليه رغبة أكثرهم ، ومع التساوي يكون هو الحكم ، ولا يمل التلاميذ من طول وقت الدراسة إذا طال ، لأنهم يتلذذون من مجالسته ، ولذا حصل له من التلاميذ المحصلين عدد كثير ولا يزال كذلك ، متع الله بحياته ؛ وبارك الله لنا وله في الأوقات ، ورزقنا وإياه التزود من الباقيات الصالحات.

٤ ـ مكانة المؤلف بالمعلومات :

كان ذا معرفة تامة في الفقه : أصوله وفروعه. وفي أول أمره متمسكا بالمذهب الحنبلي تبعا لمشائخه ، وحفظ بعض المتون من ذلك ، وكان له مصنف في أول أمره في الفقه ، نظم رجز نحو أربعمائة بيت وشرحه شرحا مختصرا ، ولكنه لم يرغب ظهوره ، لأنه على ما يعتقده أولا.

١٦

وكان أعظم اشتغاله وانتفاعه بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ، وحصل له خير كثير بسببهما : في علم الأصول والتوحيد والتفسير والفقه وغيرها من العلوم النافعة ، وبسبب استنارته بكتب الشيخين المذكورين صار لا يتقيد بالمذهب الحنبلي ؛ بل يرجح ما ترجح عنده بالدليل الشرعي.

ولا يطعن في علماء المذهب كبعض المتهوسين ، هدانا الله وإياهم للصواب المستبين.

وله اليد الطولى في التفسير ـ إذ قرأ عدة تفاسير ـ وبرع فيه ، وألف تفسيرا جليلا في عدة مجلدات ، فسره بالبديهة من غير أن يكون عنده وقت لتصنيف كتاب تفسير ولا غيره ، ودائما يقرأ والتلاميذ في القرآن الكريم ويفسره ارتجالا ، ويستطرد ويبين من معاني القرآن وفوائده ؛ ويستنبط منه الفوائد البديعة والمعاني الجليلة ، حتى أن سامعه يود أن لا يسكت لفصاحته وجزالة لفظه وتوسعه في سياق الأدلة والقصص.

ومن اجتمع به وقرأ عليه وبحث معه ، عرف مكانته في المعلومات ، وكذلك من قرأ مصنفاته وفتاويه.

٥ ـ مصنفاته

وهي كثيرة نذكر منها :

١ ـ «تفسير القرآن الكريم المسمى «تيسير الكريم الرحمن» أكمله في عام ١٣٤٤ ه‍ وهو كتابنا الذي بين يديك.

٢ ـ «حاشية على الفقه» استدراكا على جميع الكتب المستعملة في المذهب الحنبلي. ولم تطبع.

٣ ـ «إرشاد أولي البصائر والألباب لمعرفة الفقه بأقرب الطرق وأيسر الأسباب» ، رتّبه على السؤال والجواب ، طبع بمطبعة الترقي في دمشق عام ١٣٦٥ ه‍ على نفقة المؤلف ووزعه مجانا.

٤ ـ «الدرة المختصرة في محاسن الإسلام». طبع في مطبعة أنصار السنة عام ١٣٦٦ ه‍.

٥ ـ «الخطبة العصرية القيمة» ، لما آل إليه أمر الخطابة في بلده اجتهد أن يخطب في كل عيد وجمعة بما يناسب الوقت الحاضر في المواضيع المهمة التي يحتاج الناس إليها ، ثم جمعها وطبعها مع الدرة المختصرة في مطبعة أنصار السنة على نفقته ووزعها مجانا.

٦ ـ «القواعد الحسان لتفسير القرآن» ، طبعها في مطبعة أنصار السنة عام ١٣٦٦ ه‍. ووزع مجانا.

٧ ـ «تنزيه الدين وحملته ورجاله ، مما افتراه القصيمي في أغلاله» ، طبع في مطبعة دار إحياء الكتب العربية على نفقة وجيه الحجاز «الشيخ محمد أفندي نصيف» عام ١٣٦٦ ه‍.

١٧

٨ ـ «الحق الواضح المبين ، في شرح توحيد الأنبياء والمرسلين».

٩ ـ «توضيح الكافية الشافية». وهو كالشرح لنونية الشيخ ابن القيم.

١٠ ـ «وجوب التعاون بين المسلمين ، وموضوع الجهاد الديني» ، وهذه الثلاثة الأخيرة طبعت بالقاهرة بالمطبعة السلفية على نفقة المؤلف ووزعها مجانا.

١١ ـ «القول السديد في مقاصد التوحيد» ، طبع في مصر «بمطبعة الإمام» على نفقة عبد المحسن أبا بطين عام ١٣٦٧ ه‍.

١٢ ـ «مختصر في أصول الفقه» ، لم يطبع.

١٣ ـ «تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن». طبع على نفقة المؤلف وجماعة من المحسنين ، وزع مجانا. طبع بمطبعة الإمام.

١٤ ـ «الرياض الناضرة» ، طبع بمطبعة الإمام (الطبعة الأولى).

١٥ ـ وله فوائد منثورة وفتاوى كثيرة في أسئلة شتى ترد إليه من بلده وغيره ويجيب عليها.

وله تعليقات شتى على كثير مما يمر عليه من الكتب.

وكانت الكتابة سهلة يسيرة عليه جدا ، حتى أنه كتب من الفتاوى وغيرها شيئا كثيرة. ومما كتب نظم ابن عبد القوي المشهور ؛ وأراد أن يشرحه شرحا مستقلا فرآه شاقا عليه ؛ فجمع بينه وبين الإنصاف بخط يده ليساعد على فهمه فكان كالشرح له ؛ ولهذا لم نعده من مصنفاته.

٦ ـ غايته من التصنيف :

وكان غاية قصده من التصنيف نشر العلم والدعوة إلى الحق ، ولهذا يؤلف ويكتب ويطبع ما يقدر عليه من مؤلفاته ، لا ينال منها غرضا زائلا ، أو يستفيد منها عرض الدنيا ، بل يوزعها مجانا ليعم النفع بها.

فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرا ، ووفقنا الله إلى ما فيه رضاه.

٧ ـ وفاته :

وبعد عمر طويل دام قرابة (٦٩) عاما في خدمة العلم ، انتقل إلى جوار ربّه في عام ١٣٧٦ ه‍ / ١٩٥٦ م في مدينة عنيزة من بلاد القصيم ، رحمه‌الله رحمة واسعة.

١٨

١٩
٢٠