آية الله الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٣
ومال إليه جماعة من الاصوليّين ؛ كالمحقق القمّيّ (ره) في ظاهر كلماته (١).
__________________
الصادق ـ عليهالسلام ـ في قوله تعالى : «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ» قال : «كيف يكون هذه الامة خير أمة وقد قتلوا ابن بنت رسول الله؟ ليس هكذا نزلت ، وإنما نزلت : «كنتم خير ائمة» ؛ يعني : الائمة من أهل البيت ـ عليهمالسلام. ومنها : ما روي من الاخبار المستفيضة في أن آية الغدير هكذا نزلت : يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ في عليّ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ.
إلى غير ذلك مما لو جمع لصار كتابا كثير الحجم.»
وذكر في رسالة «هدية المؤمنين وتحفة الراغبين» (المخطوط): «هذا ليس بأول قارورة كسرت في الاسلام لما استفاض في أخبارنا من أن القرآن نزل أربعة أرباع ، ربع في مدح عليّ وأهل بيته ـ عليهمالسلام ـ ، وحذفوه بأجمعه ، وحرّفوا القرآن والعمل تحريفا بينا ، ولكنّا أمرنا في هذه الاعصار بقرائة هذا القرآن والعمل بأحكامه ، حتى تظهر دولتهم ـ عليهمالسلام ـ ، ويظهر القرآن الذي جمعه أمير المؤمنين ـ عليهالسلام ـ وهو الآن مخزون مع سائر الكتب السماوية والمواريث النبوية عند الصاحب عليهالسلام. والعجب من الصدوق والمرتضى والطبرسي ـ رضوان الله عليهم ـ كيف قالوا : إنّ ما بين دفّتي المصحف هو المنزل من غير حذف وتبديل ، مع أن الاخبار الواردة في هذا الباب تزيد على ألفي حديث ما بين صحيح وحسن وموثّق ومعتبر ، لكنّ الغارة إذا وقعت اشترك فيها الغريب والصديق!»
ومال إليه أيضا جماعة من العلماء في تصانيفهم ؛
كالفيض (ره) في الصافي وغيره ؛
والحرّ العاملي (رض) في إثبات الهداة حيث قال ما تقدم في تعليقة ٣ ، ص ١٠٦ ؛ والعاملي الاصفهاني (ره) في مرآة الانوار ، المقدمة الثانية ، فراجع.
(١) وجه الاستظهار من قول المحقق القمي حيث أورد أدلة المثبتين للتحريف وقوّاها وأورد أدلة النافين له وضعّفها ، واختار في آخر كلامه وقوعه لا في الاحكام. فراجع كلامه في القوانين ، قانون حجية الكتاب ، ص ٣٨٥ ـ ٣٩٠.
وعن السيّد المرتضى (١) والصدوق (٢) والشيخ الطوسي في «التبيان» (٣) والطبرسي (٤) وجمهور المجتهدين عدمه. ونقل الشيخ والطبرسي الاجماع على نفي الزيادة (٥). وادّعى بعض المتأخّرين إجماع المسلمين عليه ، قال :
«وحملوا أحاديث الزيادة على زيادة بعض الحروف في بعض القرائة ؛ مثل : ملك ومالك ، ومثل : مسكنهم ومساكنهم.»
__________________
(١) ذكر رحمهالله في جواب المسائل الطرابلسيات على ما نقله الطبرسي (ره) في مجمع البيان ، ج ١ ، الفن الخامس ، ص ١٥ : «انّ العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار والوقائع العظام ، والكتب المشهورة وأشعار العرب المسطورة ، فان العناية اشتدت والدواعي توفّرت على نقله وحراسته ، وبلغت إلى حدّ لم يبلغه فيما ذكرناه ؛ لأن القرآن معجزة النبوة ومأخذ العلوم الشرعية والاحكام الدينية ، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية ، حتى عرفوا كل شيء اختلف فيه من إعرابه وقرائته وحروفه وآياته ، فكيف يجوز أن يكون مغيرا أو منقوصا مع العناية الصادقة والضبط الشديد؟»
(٢) قال رحمهالله : «اعتقادنا ان القرآن الذى أنزله الله على نبيه ـ صلىاللهعليهوآله ـ هو ما بين الدفّتين ، وما في أيدي الناس ، ليس بأكثر من ذلك ـ الى ان قال : ـ ومن نسب إلينا انا نقول انه أكثر من ذلك فهو كاذب.» راجع الاعتقادات ، الباب الثالث والثلاثون.
(٣) التبيان ، ج ١ ، المقدمة ، ص ٣. قال : «وأما الكلام في زيادته ونقصانه ، فممّا لا يليق به أيضا ؛ لأن الزيادة فيه مجمع على بطلانها ، والنقصان منه فالظاهر أيضا من مذهب المسلمين خلافه ، وهو الاليق بالصحيح من مذهبنا ، وهو الذي نصره المرتضى (ره) ، وهو الظاهر في الروايات ، غير أنه رويت روايات كثيرة من جهة الخاصة والعامة بنقصان كثير من آي القرآن ، ونقل شيء منه من موضع إلى موضع ، طريقها الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا ، والاولى الاعراض عنها ، وترك التشاغل بها ، لأنه يمكن تأويلها ، ولو صحّت لما كان ذلك طعنا على ما هو موجود بين الدفتين ، فانّ ذلك معلوم صحّته ، لا يعترضه أحد من الامة ولا يدفعه.»
(٤) مجمع البيان ، ج ١ ، المقدمة ، الفن الخامس ، ص ١٥. وكلامه فيه هو : «فأما الزيادة فيه فمجمع على بطلانه ، وأما النقصان منه ، فقد روى جماعة من أصحابنا وقوم من حشوية العامة انّ في القرآن تغييرا ونقصانا ، والصحيح من مذهبنا خلافه.»
(٥) راجع التعليقتين السابقتين.
[معنى التحريف والزيادة]
واستظهر من الزيادة أن يكون هي الحاصلة من التقديم والتأخير ؛ كما في قوله : «أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ـ الخ» على ما مرّ ، فكان الكلام المؤخر زائدا في المكان الثاني ناقصا من الاوّل ، والكلام المقدّم زائدا في المكان الاوّل ناقصا من المكان الثاني.
ويمكن حمله على التحريف ، فانّ المكتوب عوض ما كان زيادة ، وإسقاط ما كان نقيصة ؛ كتبديل «من» ب «الباء» في (مِنْ أَمْرِ اللهِ) ، و «من» ب «اللام» في (لِلْمُتَّقِينَ) كما سبق.
وربّما يعبّر عن التحريف بالزيادة والنقصان في العرف ، كما يظهر من ملاحظة ترجمتهما بالفارسيّة ، كما يسمّى تبديلا وتحريفا ؛ وقد ورد في جواب الصحابة لنبيّهم صلىاللهعليهوآله على الحوض إذا سألهم : «كيف خلفتموني في الثقلين من بعدي؟» أنّهم يقولون :
«أمّا الاكبر فحرّفناه وبدّلناه ـ الخ.» (١)
ويدلّ على نفي الزيادة بالوجوه الآخر كزيادة آية ، أو جملة ، أو كلام ، مضافا إلى الاجماع المتقدّم ما حكيناه سابقا عن العيّاشي أنّه : «لم يزد فيه إلا حروفا
__________________
(١) أورده محمد بن بحر الرهني من علماء العامة في الجزء الثاني من كتاب مقدمات علم القرآن ؛ ونقله الجزائري (رض) في منبع الحياة (المخطوط) ؛ والمحقق القمي (ره) في القوانين قانون حجية الكتاب ، ص ٣٨٩ ، نقلا عنه. وهذا المعنى قد ورد في روايات كثيرة ؛ كرواية علي بن إبراهيم (ره) عن أبي ذر (رض) ، عن رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ في قوله تعالى : «يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ» ؛ قال صلىاللهعليهوآله : «يرد على أمتى يوم القيامة على خمس رايات ، فراية مع عجل هذه الامة ، فأسألهم : ما فعلتم بالثقلين من بعدي؟ فيقولون : أما الاكبر ، فحرّفناه ونبذناه وراء ظهورنا ـ الخ.» فراجع القمي ، ج ١ ، ص ١٠٩.
أخطأت به الكتبة» (١) ، وما سبق من مخاطبة أمير المؤمنين عليهالسلام لطلحة (٢) حيث ذكر «أن الموجود قرآن كلّه» ولم ينكره عليهالسلام ، بل ربّما سيظهر من قول طلحة بعد ذلك : «حسبى إذا كان قرآنا» أنّه فهم تقريره عليهالسلام لذلك وغير ذلك ، وما ذكره السيّد المرتضى ـ رحمهالله تعالى ـ من أنّ :
«العلم بتفصيل القرآن وأبعاضه في صحّة نقله كالعلم بجملته ، وجرى ذلك مجرى ما علم ضرورة من الكتب المصنّفة ؛ ككتاب «سيبويه» و «المزني». فانّ أهل العناية بهذا الشأن يعلمون من تفصيلها ما يعلمونه من جملتها ، حتّى لو أنّ مدخلا أدخل في كتاب «سيبويه» بابا في النحو ليس من الكتاب لعرف وميّز ، وعلم أنّه ملحق وليس من أصل الكتاب ، وكذلك القول في كتاب «المزني». ومعلوم أنّ العناية بنقل القرآن وضبطه أصدق من العناية بضبط كتاب سيبويه ودواوين الشعراء.» (٣)
وأيضا فانّ كثيرا من وجوه إعجاز القرآن تأبى عن زيادة آية أو كلام يشبهه ، ومن نظر في آيات القرآن نظر تدبّر واستبصار ، فربّما لاح له أنّه لم يدخل فيه كلام آخر ؛ إذ لو كان لخرج عن أسلوبه ومشاكلته ، وصار كحبّة شعير في صاع من حنطة بخلاف التحريف اليسير لبقاء الاسلوب والتركيب وغيرهما. أما سمعت بعض ما وضعه المبطلون في مقابل آيات القرآن؟ هل يشابهه ، أو يمكن خفاء مغايرته له ومباينته معه على بصير؟
__________________
(١) قد تقدم في هذه المقدمة ، فراجع ص ١٠٧.
(٢) قد تقدم في هذه المقدمة ، فراجع ص ١٠٧ ـ ١٠٩.
(٣) راجع المصدر المذكور في تعليقة ١ ص ١٢٢.
وهذا عمدة جهات الفرق بين الزيادة وغيرها من وجوه التصرّف وبين القرآن المجيد وسائر الكتب المنزلة على ما هو الظاهر من شأنها. فان القرآن المجيد نزل معجزا بألفاظه ومعانيه ، بحيث يعجز الخلق عن الاتيان بآية مثله في أنظار الالباب ، بحيث يرونه مماثلا له ؛ مضافا إلى ان التحريف على تقدير وقوعه إنّما هو من فعل رؤساء المنافقين وأتباعهم ، ولو كان بنائهم على الزيادة لزادوا فيه ما يشيّد به أركان باطلهم ، ويهدم به الحقّ. فلمّا لاحظنا آيات القرآن لم نجد شيئا منه يؤسّس شيئا من باطلهم ، ولا يدلّ على شيء من أضاليلهم الّتي كانوا ساعين في إقامتها ، ولا مقيما سوق رياستهم.
وما يترائى منه فى بادئ النظر أمر لا يوافق الاصول الصحيحة ، فبعد تدقيق النظر فيه واستعمال العقل المبرّء عن وساوس الشيطان في فهمه يظهر خلافه ، وأنّه (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ). على أنّه لو أدخل فى القرآن ما ليس منه ، لكان ذلك أولى ببيان المعصومين عليهمالسلام إيّاه من النقيصة الّتي وردت بها الاخبار الكثيرة. ولم أظفر إلى الآن بخبر واحد يدلّ على زيادة آية واحدة بخصوصها ، سوى ما يترائى من رواية الاحتجاج الاخيرة مع معارضتها فى مورده بغيره ظاهرا ، وعدم موافقة العقل لهذا المعنى المترائى منه ؛ إذ الآيات المذكورة لها معان صحيحة يحكم العقل بصحّتها من دون أن يلزم منه انتقاص بالنبيّ صلىاللهعليهوآله على طبق ما ورد بعضها في كلامهم ، بل في الرواية المذكورة إشكال آخر ، وهو أنّه كيف يخاطب الزنديق بما فيه لغوية حجج أهل التعطيل والكفر والملل المنحرفة عن ملّتنا على ما صرّح به فيه ؛ إذ لا نجد فرقا بين التصريح بزيادة آيات مخصوصة وبين بيانه إجمالا ؛ بل الثاني أضرّ بالعقائد ؛ إذ يسرى به الشكّ إلى جميع ما في القرآن ، مع أنّ المترائى من ذيلها بيان بعضها. على أنّي لم أجد ألفاظ الخبر وكيفيّة بيانه على أسلوب سائر أحاديثهم ، لكنّي لا أردّه ولا أنكره مع ذلك كلّه
بل أكل علمه إليهم ، وأصدّق بما أريد به واقعا لو كان صادرا عنهم عليهمالسلام ، ونردّ ذلك إليهم ، واحتمل فيه أن يكون الحديث منقولا بالمعنى بزيادة ونقيصة. ومع هذا كلّه فهو خبر واحد ضعيف الاسناد ظاهرا ، غير صريح في أمر زائد على التحريف بالمعنى المتقدّم.
[معنى التّحريف والنّقيصة]
وأمّا التحريف والنقيصة ، فمع ورودها في الروايات الكثيرة من جهة العامّة والخاصّة كما اعترف به الشيخ في تبيانه (١) ، وعدم ظهور معارض لها ، لا أجد نافيا لها ، مثبتا لعدمها ، ومجرّد الشهرة المنقولة على النفي لا يصلح للاعتماد عليه ، خصوصا في مثل المقام الّذي ليس من المسائل الفرعيّة بنفسه ؛ مع أنّه نقل وجود المخالف في كل آن من زمن الائمة عليهمالسلام إلى هذا الآن ، وإن اختلفت الشهرة باختلاف الازمنة ، ولم يظهر لي أمر ينافي صحّة هذا النقل.
[نقد أدلّة النّافين للتّحريف]
وأمّا ما يذكر دليلا للنافين ، فهي وجوه ضعيفة ؛ كقوله : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ)(٢).
وفيه أنّ سقوط البعض عن النسخ الشائعة أو تحريفه ليس مبطلا للقرآن الواقعيّ ، خصوصا بعد حفظه عند أهله ، إذ ليس إبطال الكلام إلا بما يجعله باطلا مخالفا للواقع ، ويكون حجّة على ذلك ، أو رافعا له ، أو اشتماله على الباطل في الاخبار عن الماضي أو المستقبل أو الحال. وهل يصحّ أن يقول أحد ـ العياذ بالله ـ بطل كلام النبيّ صلىاللهعليهوآله والائمّة عليهمالسلام وأبطله الراوون إذ غيّروا كلامهم بزيادة ونقيصة أو أتاه الباطل؟
__________________
(١) قد مرّ آنفا ، فراجع تعليقة ٣ ص ١٢٢
(٢) فصّلت / ٤٢.
وكقوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(١).
وفيه أنّه إن حمل على غير حفظ الحروف في المصاحف والقلوب فلا ربط له بالمقام وإن حمل عليه ، فان أريد حفظه في الجميع لزم انتفاء الغلط في المصاحف الموجودة بين الناس ، وعدم ضياع المصاحف وبقائها على حالها أبد الدهر ، وعدم سهو أحد في حفظه ، وعدم نسيانه له ، والمشاهد المحسوس كثرة خلاف ذلك ؛ إذ قلّما يوجد مصحف صحيح تامّ لا غلط فيه ، ولا لها بقاء أزيد من سائر الكتب ، ويرد عليه المحو والاندراس وكثرة غلط حفظة السور والقرآن ونسيانهم إيّاه. وإن أريد حفظه في الجملة بأن يكون باقيا ولو في بعض ، فيكفي فيه كونه محفوظا عند أهله ، على أنّ الحفظ غير موقّت بالابد ، فيمكن كونه محفوظا إلى زمان وقوع التحريف ؛ مع أنّه لم يصرّح فيه بالحفظ عن كلّ تحريف وتبديل ، فيمكن بقاء الاكثر محفوظا عند الناس ووقوع التصرّف في القليل ، فلا يضرّ في صدق الاسم عرفا مضافا إلى احتمال إرادة العلم من الحفظ ، كما احتمله المحقّق القمي (٢).
وكدعوى أنّ : «القول بجواز التبديل فتح لباب الكلام على إعجاز القرآن».
وفيه ما أشرنا إليه من ذلك في الزيادة بالمعنى المتقدّم ، ولا يلزم من غيره خصوصا النقيصة.
__________________
(١) الحجر / ٩.
(٢) قال رحمهالله في بحثه عن التحريف : «وأما الدليل على الثاني ، فقوله ... وقوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ.) وفيه انه لا يدلّ على عدم التغيير في القرآن الذي بأيدينا ، فيكفي كونه محفوظا عند الائمة ـ عليهمالسلام ـ في حفظ أصل القرآن في مصداق الآية. ولا ريب أنّ ما في أيدينا أيضا محفوظ من أن يتطرق إليه نقص آخر أو زيادة ، مع احتمال أن يراد من قوله تعالى (لَحافِظُونَ) : لعالمون.» راجع القوانين ، الباب السادس ، ص ٣٨٩.
وكدعوى أنّ ذلك مناف للأخبار الدالّة على التمسّك بالكتاب ؛ كخبر «الثقلين» (١) ، وروايات عرض الاخبار عليه والاخذ بما وافقه (٢) باعتبار دلالتها على بقاء الكتاب في كلّ وقت ؛ إذ لا معنى للأمر بالتمسّك بما لا يوجد عندنا ، كما أنّ الامام موجود في كلّ عصر ، أو باعتبار استظهار إرادة الكتاب الموجود عندنا في كثير منها ؛ مع أنّه على تقدير التحريف لا يجوز التمسّك بها ؛ إذ ليس المحرّف كلام الله حتى يكون دليلا ، بل كلام مخلوق منافق أو فاسق أو نحوهما.
وفيه أنّه يكفي بقائه واقعا كبقاء المعصوم ، فيكون لكلا الثقلين حالان : غيبة لا نتمكّن من الوصول إليه ، وظهور وحضور يتمكّن الناس من الاخذ به تفصيلا ، على أنّ قيد التمكّن معتبر في الاوامر ، فالمأمور به هو المقدار المقدور من التمسّك بالكتاب ، أو عرض الحبر عليه ، أو الاخذ به ، فيصحّ أن يكون في البعض غير مقدور ؛ كالمتشابهات ، ولو حمل بالنسبة إليها على التمسّك الاجمالي جرى فيما نحن فيه أيضا ؛ مع أنّ أكثر آيات الكتاب الوارد في الاحكام غير وافية بنفسها بالتفاصيل في أنظارنا القاصرة.
وأمّا دعوى أنّه لا يصحّ التمسّك بالكتاب الموجود حينئذ.
ففيه أنّه يمكن أن يكون المعصوم عليهالسلام عالما بأنّه لم يقع فيه تحريف يوجب تغيير حكم ، كما استظهر من بعض دعوى الاجماع عليه. ويمكن أن يكون حكما ظاهريّا ؛ كالامر بالأخذ بالأحاديث مع كثرة وقوع الاختلال فيها ، كما أنّ الدلالة ظنّيّة غالبا ، فليكن اللّفظ أيضا كذلك ؛ إذ الحكم ظاهريّ بالنسبة إلى الدلالة الظنّيّة ولو حمل على التمسّك بالمراد الواقعيّ ، فانقطاع الايدي عنه كانقطاعها عن مصحف الامام عليهالسلام. ويؤيّده ورود عرض الخبر على السنّة والتمسّك بها أيضا مع
__________________
(١) تقدم في المقدمة الاولى ، ص ١٧. وقد علمت كثرة أخباره وتعدّد طرقه فيما سبق.
(٢) تقدم في المقدمة الثانية ، ص ٤٤ ـ ٤٧ ، فراجع.
العلم بوقوع التصرّف بالنقصان والتحريف فيها ، مضافا إلى أنّه إنّما يلزم ذلك لو لم يصل إلينا من ناحية المعصومين عليهمالسلام مواضع التحريف.
وأمّا ما نقص من الكتاب فليس المصيبة به أعظم من مصابنا بالغيبة (١) المستندة إلى أعمالنا السيّئة.
وكدعوى أنّ القرآن ممّا يتوفّر الدواعي علي نقله ، واشتدّت العناية على حراسته ، إذ القرآن معجز النبوّة ومأخذ الاحكام الدينيّة ، وكلّما كان كذلك فالعادة تقتضي بنقله متواترا ، فما لم ينقل كذلك ليس قرآنا ، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية ، حتّى عرفوا كلّ شيء اختلف فيه من إعرابه وقرائته وحروفه وآياته ؛ مع أنّ القرآن كان على عهد رسول الله صلىاللهعليهوآله مجموعا مؤلّفا على ما هو عليه الآن ؛ إذ القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان حتّى يمكن على جماعة من الصحابة في حفظهم له ، وأنّه كان يعرض على النبيّ صلىاللهعليهوآله ويتلى عليه ، وأنّ جماعة من الصحابة مثل : «عبد الله بن مسعود» و «أبيّ بن كعب» وغيرهما ختموا القرآن علي النبىّ صلىاللهعليهوآله عدّة ختمات ، وكلّ ذلك يدلّ على أنه كان مجموعا مرتّبا غير مبثوث ، ولو تمكّن المستولون على الخلافة وأتباعهم على تغيير المصاحف المكتوبة ، فما كانوا متمكّنين من تغيير ما حفظ فى القلوب.
وفيه أنّ توفّر الدواعي على حفظه من جهة الاعجاز في القرآن كتوفّره
__________________
(١) المقصود هو : غيبة الامام المنتظر والحجة الثانى عشر ـ عجل الله تعالى فرجه الشريف ـ ، واستنادها إلى معاصي العباد مؤيد بالاخبار ؛ منها : كلام القائم ـ عليهالسلام ـ في كتابه إلى الشيخ المفيد (قده) ، وهي : «ولو أنّ أشياعنا ـ وفّقهم الله لطاعته ـ على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم لما تأخّر عنهم اليمن بلقائنا ، ولتعجّلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حق المعرفة وصدقها منهم بنا. فما يحبسنا عنهم إلا ما يتصل بنا ممّا نكرهه ولا نؤثره منهم.» فراجع الاحتجاج ، ج ٢ ، ص ٣٢٥ ، والبحار ، ج ٥٣ ، باب ٣١ ، ص ١٧٦ ، ح ٨.
على سائر المعجزات الّتى لم تنقل غالبا إلا من جهة الآحاد. ولعلّ ما لم ينقل منها كثير ، مع أنّ انتفاع غالب الناس بها من حيث الوضوح أكثر من القرآن لعدم شدّة ظهور الاعجاز فيه ، كظهوره عندهم في غيره ، وإن كان عند الكاملين بالعكس ومن جهة كونه أصلا لسائر الاحكام ، كالسنّة الّتى وقع في نقلها اختلالات لا تحصى واهتمام علماء الاعصار فى ضبطه وحراسته إنّما وقع بعد الصدر الاوّل الّذي وقع ما وقع فيها.
[كيفيّة جمع القرآن وزمانه]
وأمّا كونه مجموعا في زمانه صلىاللهعليهوآله فلم يثبت (١) ، قال السيّد نعمة الله
__________________
(١) اعلم أن جماعة من العلماء ذهبوا إلى جمع القرآن في عهد النبي ـ صلىاللهعليهوآله ـ ، وأن كثيرا منهم نصروا المؤلّف (قده) على جمعه بعده ـ صلىاللهعليهوآله ـ فمن الاول : السيد المرتضى ـ طاب ثراه ـ ، الذي قال في جواب المسائل الطرابلسيات كما في مجمع البيان ، ج ١ ، الفن الخامس ، ص ١٥ : «انّ القرآن كان على عهد رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ مجموعا مؤلّفا على ما هو عليه الآن.» واستدلّ على ذلك بأن : «القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان ، حتى عين على جماعة من الصحابة فى حفظهم له وان كان يعرض على النبي ـ صلىاللهعليهوآله ـ ويتلى عليه ، وأن جماعة من الصحابة مثل : «عبد الله بن مسعود» و «أبي بن كعب» وغيرهما ختموا القرآن على النبي ـ صلىاللهعليهوآله ـ عدة ختمات ، وكل ذلك يدلّ بأدنى تأمل على أنه كان مجموعا مرتبا غير مبتور ولا مبثوث.»
وهكذا آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئى ـ متع الله المسلمين بطول بقائه ـ وقد أجاد الكلام فيه في تفسير البيان.
ومن الثاني زائدا على من ذكره (ره) من الخاصة والعامة ، أبو الحسن الشريف ـ رضوان الله تعالى عليه ـ ، قال في مرآة الانوار ، المقدمة الثانية ، ص ٥١ في جواب السيد المرتضى (ره) بعد ذكر كلامه المتقدم : «وجوابه أن القرآن مجموعا في عهد النبي ـ صلىاللهعليهوآله ـ على ما هو عليه الآن غير ثابت ، بل غير صريح. وكيف كان ـ
الجزائري (ره) في رسالته (١) :
__________________
مجموعا وإنما كان ينزل نجوما ، وكان لا يتمّ إلا بتمام عمره؟ ولقد شاع وذاع وطرق الاسماع في جميع الاصقاع أن عليا ـ عليهالسلام ـ قعد بعد وفاة النبي ـ صلىاللهعليهوآله ـ في بيته أياما مشتغلا بجمع القرآن. وأما درسه وختمه ، فانما كانوا يدرسون ويختمون ما كان عندهم منه ، لاتمامه.»
وأيضا الشيخ آقا بزرگ الطهراني (ره) ، في رسالة «النقد اللطيف في نفي التحريف عن القرآن الشريف» (المخطوط) ، التي أثبت فيها حجية مصحف الموجود ، وأيد إجماع المسلمين على نفي الزيادة والنقيصة العينية فيه ، واعتقد أن المقصود من الالفاظ الواقعة في متون الاخبار كالتنقيص والاسقاط والمحو والطرح وغيرها ، هو التنقيص الاجمالي المتوجه إلى الباقى ، الذي سقط عن الجامعين ، لا المصحف الموجود ؛ قال : «المصرّح به في كلمات أهل السير أن القرآن لم يكن في عهد رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ مجموعا بين الدفتين على الترتيب المشهور في اليوم ، وما كان في موضع واحد مرسوما ولا بالمصحف موسوما ، بل الجمع كذلك كان بعد رحلته ـ صلىاللهعليهوآله ـ.» واستشهد على ما رواه السيوطي في كتاب الاتقان ، النوع الثامن ، ص ٥٧ ، عن زيد بن ثابت ، وما حكاه فيه أيضا من تعليل أبي سليمان حمد الخطابي المتوفى سنة ٣٨٨ لعدم جمع النبي ـ صلىاللهعليهوآله ـ القرآن في حياته بقوله : «انما لم يجمع رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ القرآن في المصحف لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه ، أو تلاوته ـ إلى قوله : ـ وقد كان القرآن كتب كله في عهد رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ ، لكن غير مجموع في موضع واحد ، ولا مرتب السور.» وعلى ما رواه أبو الفرج ابن الجوزى في كتابه «نقد العلم والعلماء» عن زيد بن ثابت ، ثم قال : «إلى غير ذلك من كلماتهم الصريحة في أن الجمع كذلك كان بعد عصره ـ صلىاللهعليهوآله ـ وان اختلفت في أنه في عصر أبي بكر أو عمر أو عثمان ؛ لكنّ الكلّ متفق على عدم الجمع في موضع واحد في عصره ـ صلىاللهعليهوآله ـ.»
(١) منبع الحياة (المخطوط) ، وهكذا نقله المحقق القمّي في القوانين ، قانون حجية الكتاب ، ص ٣٨٥ ـ ٣٨٦.
«إنّ القرآن كان ينزل منجّما على حسب المصالح والوقائع وكتّاب الوحي كانوا أربعة عشر رجلا من الصحابة ، وكان رئيسهم أمير المؤمنين عليهالسلام ، وقد كانوا في الاغلب ما يكتبون إلا ما يتعلّق بالاحكام وإلا ما يوحى إليه في المحافل والمجامع. وأمّا الّذي كان يكتب ما ينزل عليه في خلواته ومنازله ، فليس هو إلا أمير المؤمنين عليهالسلام ؛ لأنّه كان يدور معه ما دار ، فكان مصحفه أجمع من غيره من المصاحف. فلمّا مضى رسول الله صلىاللهعليهوآله إلى لقاء حبيبه وتفرّقت الاهواء بعده جمع أمير المؤمنين عليهالسلام القرآن كما أنزل ، وشدّه بردائه وأتى به إلى المسجد [وفيه الاعرابيان وأعيان الصحابة](١) ، فقال لهم : «هذا كتاب ربّكم كما أنزل.»
فقال [له الاعرابيّ الجلف](٢) : «ليس لنا [فيه](٣) حاجة ، هذا عندنا مصحف عثمان».
فقال عليهالسلام : «لن تروه ولن يراه أحد حتّى يظهر القائم ـ عجّل الله تعالى فرجه الشريف ـ» ـ إلى أن قال : ـ وهذا القرآن كان عند الائمّة عليهمالسلام يتلونه في خلواتهم.»
وساق الكلام إلى أن ذكر حكاية عثمان ما عدا مصحفه من مصاحف كتّاب الوحي ، وقال :
فلو لا حصول المخالفة بينها لما ارتكب بهذا الامر الشنيع ، الّذي صار من أعظم المطاعن عليه.
ثمّ حكى عن ابن طاوس :
__________________
(١ و ٢ و ٣) سقط عن المخطوطة.
«أنّه نقل عن محمّد بن بحر الرهني ـ وهو من أعاظم علماء العامّة ـ في بيان التفاوت في المصاحف الّتي بعث بها عثمان إلى أهل الامصار ، قال : «اتّخذ عثمان سبع نسخ فحبس منها بالمدينة مصحفا وأرسل إلى أهل مكّة مصحفا ، وإلى أهل الشام مصحفا ، وإلى أهل الكوفة مصحفا ، وإلى أهل البصرة مصحفا ، وإلى أهل اليمن مصحفا ، وإلى أهل البحرين مصحفا.» (١)
ثمّ عدّد ما وقع فيها من الاختلاف بالكلمات والحروف ، مع أنّها كلّها بخطّ عثمان ، فكيف حال ما ليس بخطّه؟» إلى آخر ما ذكره رحمهالله.
وأنت إذا تدبّرت ما نقل في كيفيّة جمع القرآن من طريق العامّة فضلا عن الخاصّة ظهر لك أنّه ليس الامر على ما زعموه.
قال النيشابوري في أوّل تفسيره ـ وهو من علمائهم ، الموالين لأعداء الائمة عليهمالسلام ، الناصرين لهم ـ في كيفيّة جمع القرآن :
«روي عن زيد [بن] ثابت أنّه قال : أرسل إليّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة وإذا عنده عمر ، فقال أبو بكر : إنّ عمر أتاني فقال : إنّ القتل قد استحرّ (٢) بقرّاء القرآن يوم اليمامة ، وإنّي أخشى أن يستحرّ القتل بالقرّاء في المواطن كلّها ، فيذهب قرآن كثير ، وإنّي أرى أن تأمر بجمع القرآن ، قال : فقلت : كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله
__________________
(١) نقله السيد الاجل علي بن طاووس (رض) في سعد السعود ، ص ٢٧٩.
(٢) أي : اشتدّ.
صلىاللهعليهوآله؟ فقال لى : هو والله خير. فلم يزل [عمر] يراجعني في ذلك حتّى شرح الله صدري له ، فرأيت فيه الّذي رأى عمر. قال زيد بن ثابت : قال أبو بكر : إنّك رجل شابّ عاقل لانتّهمك ، قد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلىاللهعليهوآله ، فتتبّع القرآن فاجمعه ، فتتبّعت القرآن أجمعه من الرقاع (١) والعسب (٢) واللّخاف (٣) ومن صدور الرجال.
وكانت الصحف عند أبي بكر حتّى مات ، ثمّ كانت عند عمر حتّى مات (٤) ، ثمّ كانت عند حفصة مدّة إلى أن أرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إليّ بالصحف ننسخها في المصاحف ثمّ نردّها عليك ، فأرسلت إلى عثمان ، فأرسل عثمان إلى «زيد بن ثابت» وإلى «عبد الله بن زبير» و «سعيد بن العاص» و «عبد الرحمن بن الحرث بن هشام» ، فأمرهم أن ينسخوا الصحف في المصاحف ، ثمّ قال للرهط القرشيّين الثلاثة : ما اختلفتم فيه أنتم وزيد فاكتبوه بلسان قريش ، فانّه نزل بلسانهم. قال : ففعلوا حتّى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ، بعث عثمان في كلّ افق بمصحف من تلك المصاحف ، وأمر بما سوى ذلك من القرآن أن يحرق أو يخرق.» (٥)
__________________
(١) «الرقاع» جمع رقعة ، من رقعت الثوب اذا جعلت مكان القطع خرقة.
(٢) «العسب» جريدة النخل ، وفى المخطوطة : «العشب» ، وهو لا يلائم المعنى.
(٣) «اللخاف» جمع لخفة ، وهى حجارة بيض.
(٤) فى المخطوطة : «فات».
(٥) تفسير النيشابوري ، ص ٩. وهذه ليست بخبر واحد ، بل مركّب من الاخبار ، وقد أخرجها البخاري والترمذي والنسائي وأحمد وغيرهم في كتبهم كما في البحار ، ج ٩٢ ، باب ما جاء في كيفية جمع القرآن ، ص ٧٥ ـ ٧٧ ، ومرآة الانوار ، المقدمة الثانية ، ص ٣٩ ـ ٤٠.
انتهى المقصود من كلامه.
فانظر بعين التدبّر أنّ الّذين كتبوا الرقاع والعسب واللخاف ومن أخذ من صدورهم هل كانوا معصومين من الخطأ والنسيان والسهو وتعمّد الكذب؟ أو أنّه أخذ كلّ آية آية من جماعة بالغة إلى عدد التواتر؟ أو اقترنت بالقرائن المفيدة للعلم وإلى أنّ الجماعة المستودعين للصحف كانوا ضابطين لها بحيث يعلم عدم سقوط شيء منها؟ وإلى أنّ الاربعة المباشرين للنسخ معصومون في نسخهم على ما يظهر من حالهم في الآثار؟ وإلى أنّ وقوع الاختلاف في القطعيّات ممكن؟ وإلى أنّ تحريق ما لا يوافق تلك النسخ وتخريقه هل يتصوّر له داع يعتذر به عثمان إلى المسلمين ، مع ما كان عليه من حفظ ظاهره نفاقا ورياء؟ إلى غير ذلك.
[اختلاف القرائات]
ولو كان الكلّ متّفقين فما هذا الاختلاف الواقع بين القرّاء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم في الكلمات والموادّ والحروف والهيئات ممّا ملئوا به كتب التفسير والقرائة؟ ويعدّون منهم النبيّ صلىاللهعليهوآله والائمّة عليهمالسلام ، بل ينقلون منهم قراءات شاذّة باصطلاحهم ، فراجعها وتثبّتها واستخبرها تجدها ناطقة بخلاف ما قالوا.
ألا ترى أنّ سورة «الحمد» الّتي يحفظها الصبيان والجواري ، ويجب على كلّ مكلّف قرائته في اليوم والليلة عشر مرّات وجوبا عينيّا في غير الجماعة ، ويسمعها المأموم (١) كذلك في الجماعات ، كيف وقع فيها الاختلاف الكثير من الصحابة والتابعين ومن يتلوهم من حيث الكلمة ، والهيئة المغيّرة للمعنى ، والحرف والاعراب المغير للمعنى التركيبي وغيرها؟ فراجع «الكشاف» (٢) و «مجمع البيان» (٣)
__________________
(١) في المخطوطة : «المأمون».
(٢) ج ١ ، ص ٩.
(٣) ج ١ ، ص ٢٣.
أو غيرهما ، وكفى بالاختلاف الواقع في (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) و «مالك» عند المشهورين منهم غير سائر القرائات الّتي قرأها أهل الصدر الاوّل ومن يتلوهم في هذه الآية. أليس المعنى والحروف مختلفة مع أنّ الظاهر عندنا أنّ القرآن حرف واحد نزل من عند واحد؟ فقس على ذلك حال سائر القرآن ، مضافا إلى ما وقع فيه الاختلاف بين المسلمين ممّا يعمّ به البلوى ؛ كغسل اليدين في الوضوء مستويا ومنكوسا ، وكالغسل والمسح في الرجلين وغيرهما.
وذكر بعض العارفين :
«أنّ الكتاب دلّ بصريحه المؤيّد بالحديث المجمع على معناه من المسلمين كافّة على أنّه مغيّر محذوف منه كثير بمعونة الاحاديث المجمع عليها من المسلمين ، وهي ما روي عن النبيّ صلىاللهعليهوآله :
«لتركبنّ سنن من كان قبلكم ؛ حذو النعل بالنعل ، والقذّة (١) بالقذّة ، حتّى لو سلكوا جحر ضبّ لسلكتموه.» (٢)
وهذا لا يختلف في معناه اثنان من الشيعة ـ ثمّ نقله من طرق العامّة عن «أبي ليث الواقدي» ، ثمّ قال : ـ وهذا الحديث لا يختلف في معناه اثنان منهم ، فقد حصل إجماع المسلمين على المعنى.
__________________
(١) «القذة» أي : ريش السهم.
(٢) قد رواه كثير من علماء الخاصة والعامة في كتبهم بألفاظ وأسانيد مختلفة وطرق متعددة ، كسليم بن قيس والقمي والشيخ والصدوق وغيرهم ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ من الخاصة ، والبخاري ومسلم والترمذي وأحمد والحاكم والهيثمي وغيرهم من العامة ، فراجع البحار ، الباب الاول من كتاب الفتن والمحن ؛ ومرآة الانوار ، ص ٣٣ ـ ٣٤ ، ومجمع الزوائد ، ج ٧ ، ص ٢٦١ ، وجامع الاصول.
وفي صريح القرآن : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ.)(١) وهذه التوراة الّتي عند اليهود قد غيّروا فيها صفة محمّد صلىاللهعليهوآله بالاجماع من المسلمين ، وقد أخبر القرآن عن كثير من ذلك.
ومنه قوله تعالى (٢) : (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) يعني : من أسلافهم اليهود (يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ) في أصل جبل طور سيناء وأوامره ونواهيه (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) عمّا سمعوه إذ أدّوه إلى من ورائهم من بني إسرائيل (مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) فهموه بعقولهم (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم في قولهم كاذبون.»
انتهى كلامه.
ولعلّ مثل هذا الاستدلال هو المعنيّ في رواية الاحتجاع الاخيرة (٣) ، فراجع.
[اختيار القول بالتحريف في الجملة]
فالظاهر من ملاحظة ما ذكرناه هو وقوع التحريف في القرآن مادّة وهيئة وكلمة ، وزيادة بعض الحروف ونقصانه ، والتقديم والتأخير ، ونقصان كثير ؛ لكن التصرّف الواقع فيه إمّا أن لا يكون مضرّا بصحّة معنى الكلام الموجود ، أو يكون مبيّنا في كلام الائمّة عليهمالسلام حفظا للدين ، بل الأصل في مطلق التحريف ذلك ، إلا أن يمنع عنه مانع مدفوع بالأصل ، أو بيّن لهم ولم يصل إلينا ، والظاهر عدمه.
وبالجملة فالقرآن الموجود الآن حجّة ظاهرا بدلالة الأخبار الكثيرة
__________________
(١) الاعراف / ١٤٥.
(٢) البقرة / ٧٥.
(٣) راجع صفحة ١١١.
المتقدّم كثير منها ، وليس هذا المقدار من التصرّف مقصورا على طريقتنا بل على طريقة العامّة ؛ إذا لاحظ المنصف اختلاف القرائات بين السلف ظنّ وقوع أمثال ذلك في القرائات الشائعة ؛ إذ ليس كلّ شاذّ باطلا ولا كلّ مشهور أصيلا.
وأمّا النقصان في الجملة ، فعلى طريقتهم ليس ببعيد ، وعلى طريقتنا فالظاهر وقوع الكثير منه.
وأمّا التحريف البالغ الزائد على أمثال ما اختلف فيه القرّاء فغير ظاهر ، ويدلّ على عدمه ما روي عن الكليني باسناده عن أبي جعفر عليهالسلام في رسالته إلى «سعد الخير» :
«... وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه ، وحرّفوا حدوده ، فهم يروونه ولا يرعونه ، والجهّال يعجبهم حفظهم للرواية ، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية ـ الحديث.» (١)
ولا أستبعد أن يكون جملة ممّا ورد في أخبار التحريف في خصوص الآيات محمولا على تحريف المعنى دون اللّفظ ، فتكون تلك الأخبار مبيّنة لمعانيها لا لألفاظها (٢) ، ويؤيّده عدم ظهور أسلوب القرآن فيما ورد في بعضها. وأمّا إجراء هذا الاحتمال في الجميع وإنكار التصرّف في الألفاظ رأسا ، فبعيد جدّا. والله العالم.
__________________
(١) الكافي ، ج ٨ ، ص ٥٢ ، ح ١٦ ، والصافي ، ج ١ ، المقدّمة السادسة ، ص ٣٤.
(٢) كما احتمله الفيض (رض) في علم اليقين ، ج ١ ، ص ٥٦٥ ، إذ قال : «ان مرادهم ـ عليهمالسلام ـ بالتحريف والتغيير والحذف إنما هو من حيث المعنى دون اللفظ ، أي : حرّفوه وغيّروه في تفسيره وتأويله ، أي : حملوه على خلاف ما هو عليه في نفس الامر.» ونظيره ما قاله في الوافي ، ج ٢ ، باب اختلاف القرائات من أبواب القرآن ، ص ٢٧٤ ، والصافي ، ج ١ ، المقدمة السادسة ، ص ٣٤.
المقدّمة الثّامنة
فيما ورد من نزول القرآن على سبعة أحرف
وبيانه ، واختلاف القرائات والمعتبر منها
قد اشتهر بين العامّة ، بل ادّعى بعضهم التواتر في أصل الحديث (١) عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه قال :
«نزل القرآن على سبعة أحرف ، كلّها كاف شاف» (٢).
ونسب إلى أكثر العلماء أنّها سبع لغات من لغات قريش لا يختلف ، بل هي متّفقة المعنى ، واستدلّ على أنّ السبعة هي سبع لغات متّفقة المعنى بما روي عن «ابن سيرين» أنّ ابن مسعود قال :
«اقرؤا (٣) القرآن على سبعة أحرف ، وهو كقول أحدكم (٤) : هلمّ وتعال وأقبل».
وعن بعضهم :
__________________
(١) كأبي عبيد على ما في تفسير القاسمي ، ج ١ ، ص ٢٨٤.
(٢) رواه ابو يعلى في الكبير عن أبي المنهال ، والطبراني في الاوسط عن أبي سعيد كما في مجمع الزوائد ، ج ٧ ص ١٥٢ و ١٥٣ ، باب كم أنزل القرآن على حرف ؛ ورواه أيضا ابن الاثير في النهاية ؛ وهكذا نقله الشيخ (ره) في التبيان ، ج ١ ، المقدمة ، ص ٧ ؛ والطبرسي (ره) في مجمع البيان ، ج ١ ، المقدمة ، الفن الثاني ، ص ١٢ ؛ والفيض (ره) في الصافي ، ج ١ ، المقدمة الثامنة ، ص ٣٨.
(٣) خ. ل : «اقرء» كما قال المؤلف (ره) في الهامش.
(٤) في المخطوطة «أحدهم».
«أنّها سبع قبائل من العرب : قريش وقيس ، وتميم (١) ، وهذيل ، وأسد ، وخزاعة ، وكنانة ، لمجاورتهم قريشا».
وقيل :
سبع لغات من أيّ لغة كانت لقوله صلىاللهعليهوآله : «إنّه قد وسع لي أن أقرأ كلّ قوم بلغتهم».
وقيل :
معناه أن يقول في صفات الربّ ـ تبارك وتعالى ـ مكان قوله : «غفورا رحيما ، عزيزا حكيما ، سميعا بصيرا» لما روي أنّه صلىاللهعليهوآله قال : «اقرؤا القرآن على سبعة أحرف ما لم تجمعوا مغفرة بعذاب وعذابا بمغفرة ، أو جنّة بنار ، أو نارا بجنّة (٢)».
إلى غير ذلك من الوجوه. بل قيل : إنّ الاختلاف في معناه يقرب من أربعين قولا (٣).
ورووا عنه صلىاللهعليهوآله أنه :
«نزل القرآن على سبعة أحرف : أمر ، وزجر ، وترغيب ، وترهيب ، وجدل ، وقصص ومثل.» (٤)
__________________
(١) في المخطوطة : «تيم».
(٢) كلّ هذه الاقوال في الاحرف السبعة تجدها في تفسير النيشابوري ، ص ٨ ، فراجع.
(٣) راجع الصافي ، المقدمة الثامنة ، ص ٣٨ ؛ والقوانين ، الباب السادس ، ص ٣٩١.
(٤) رواه الطبري في تفسيره ، ج ١ ، ص ٢٣ ، عن أبي قلابة ، عنه ـ صلىاللهعليهوآله ـ ؛ ونقله الشيخ (ره) في التبيان ، ج ١ ، المقدمة ، ص ٧ ؛ والطبرسي (ره) في مجمع البيان ، ج ١ ، المقدمة ، الفن الثاني ، ص ١٣ ؛ والفيض (رض) في الصافي ، ج ١ ، المقدمة الثامنة ، ص ٣٨.