مجد البيان في تفسير القرآن

آية الله الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي

مجد البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٣

وعن الكافي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال :

«كتموا (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، فنعم والله الاسماء كتموها. كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا دخل منزله واجتمعت عليه قريش يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، ويرفع بها صوته ، فتولّى قريش فرارا ، فأنزل الله [في ذلك] : (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً.)» (١)

وروى الشيخ (ره) عن أبي حمزة أنّه قال : قال عليّ بن الحسين عليهما‌السلام :

«يا ثماليّ ، إنّ الصلاة إذا أقيمت جاء الشيطان إلى قرين الامام ، فيقول : هل ذكر ربّه؟ فان قال نعم ذهب ، وإن قال لا ركب على كتفيه ، فكان إمام القوم حتّى ينصرفوا.

قال : فقلت : جعلت فداك ، أليس يقرؤن القرآن؟

قال : بلى ، ليس حيث تذهب يا ثماليّ ، إنّما هو الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم.» (٢)

[لماذا جعل البسملة في أوّل السّورة؟]

ومنها : أنّه روى الصدوق في العلل والكليني في الكافي بأسانيد معتبرة عن جماعة من أجلّاء أصحابنا ، عن الصادق عليه‌السلام في ذكر صلاة ليلة المعراج بطوله :

«ثمّ إنّ الله عزوجل قال : يا محمّد ، استقبل الحجر الاسود

__________________

(١) الكافى ، ج ٨ ، ص ٢٦٦ ، ح ٣٨٧ ، عن هارون ، عنه ـ عليه‌السلام ـ ؛ والوسائل ، ج ٤ ، باب ٢١ من أبواب القرائة فى الصلاة ، ص ٧٥٧ ، ح ٢.

(٢) التهذيب ، ج ٢ ، باب في كيفية الصلاة من أبواب الزيادات ، ص ٢٩٠ ، ح ١٨ ؛ والوسائل ، ج ٤ ، باب ٢١ من أبواب القراءة في الصلاة ، ص ٧٥٨ ، ح ٤.

٢٦١

وهو بحيالي ، وكبّرني بعدد حجبي. فمن أجل ذلك صار التكبير سبعا ؛ لانّ الحجب سبع (١) ، وافتتح القرائة عند انقطاع الحجب ، فمن أجل ذلك صار الافتتاح سنّة. والحجب متطابقة (٢) ثلاثا بعدد النور الّذي أنزل على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ثلاث مرّات ، فلذلك كان الافتتاح ثلاث مرّات ، فلاجل ذلك كان التكبير سبعا والافتتاح ثلاثا. فلمّا فرغ من التكبير والافتتاح قال الله عزوجل : الان وصلت إليّ ، فسمّ باسمي. فقال : بسم الله الرحمن الرحيم. فمن أجل ذلك جعل بسم الله الرحمن الرحيم في أوّل السوره ـ إلى آخر الحديث الشريف.» (٣)

وهو مشتمل على معان تكلّ العقول عن إدراكها إلا قليلا ومنها ، نشير إلى نبذة تتعلّق بهذه السورة في خلال التفسير بما يخطر تصوّره بالبال ، والله العالم بحقيقة الحال

فنقول :

بعد تحقّق الوصال وارتفاع الحجب افتتح صلى‌الله‌عليه‌وآله بالقرائة ، وذكر اسم الحقّ ، إذ الوصال بفناء العبد في الحقّ عن أوصافه وأسمائه ، ويلحقه ظهور أسماء الله سبحانه عليه ، والتسمّي بها ، وهو حقيقة ذكر العبد الحقّ وبيانه له.

ولمّا كانت البسملة على ما مرّ مشتملة على جمل أسمائه سبحانه كانت هي الظاهرة على أشرف الممكنات في أشرف المقامات ، فصار محلّا لهذه الكلمة

__________________

(١) في المخطوطة : «سبعة» كما في العلل والبحار.

(٢) في بعض النسخ : «مطابقة».

(٣) العلل ، ج ٢ ، باب ١ ، ص ٣١٥ ؛ والكافي ، ج ٣ ، باب النوادر من كتاب الصلاة ، ص ٤٨٥ ؛ والبحار ، ج ١٨ ، باب إثبات المعراج ومعناه ، ص ٣٥٨.

٢٦٢

الكلّيّة لفظا وحقيقة وحالا ، فكان صلى‌الله‌عليه‌وآله هو تلك الكلمة ، كما أنّ لوح القرآن قرآن ومحلّ للقرآن ، فظهر فيه صلى‌الله‌عليه‌وآله اسم الوهيّة الحقّ للممكنات والرحمة الرحمانيّة والرحيميّة ، وكان رحمة للعالمين بقول مطلق في المعنى الكلماتي ، وبهاء الحقّ وسنائه ومجده أو ملكه ، وآلاء الله على خلقه بنعيم ولاية الحقّ ، وإلزام العباد إيّاه ، والهوان على المخالفة في مقام معاني الحروف.

ولمّا كان هو صلى‌الله‌عليه‌وآله محلّا لذلك الولاية والالزام والحكم بالهوان على المخالف ، صحّ نسبة الولاية إليه وإلى القائمين مقامه في ذلك ، كما أنّ صورة العلم إذا وجدت في ذهن الانسان نسبت إليه ، وكانت علما له عن قبل تلك الولاية عنهم أوصله إلى كلّ خير ، ومن أبي لزمه الهوان ، وهذه التسمّي بالتسمية ينسب إلى الحقّ نسبة الشيء إلى جاعله وموجده ، وإليه صلى‌الله‌عليه‌وآله نسبة الشّيء إلى محلّه. فهذا روح نزول التسمية إليه ويطابقه المراتب النازلة إلى أن ينتهي إلى نزول اللّفظ عليه والوحي اللّفظي ، وظهور الكلمة من فمه المبارك في الخارج. فالبسملة أوّل السورة في كلّ مقام.

[في استحباب إتيان البسملة عند بدء كلّ أمر]

ومنها : أنّه ينبغي الاتيان بالبسملة عند افتتاح كلّ أمر عظيم أو صغير ليبارك فيه ، ففي الكافي عن الصادق عليه‌السلام قال :

«لا تدعها ولو كان بعدها شعر.» (١)

وفي المحاسن عنه عليه‌السلام قال :

«إذا توضّأ أحدكم ولم يسمّ كان للشيطان في وضوئه شرك ،

__________________

(١) الكافي ، ج ٢ ، ص ٦٧٢ ، ح ١ ، عن جميل بن دراج ، عنه ـ عليه‌السلام ـ ؛ ونور الثقلين ، ج ١ ، ص ٦ ، ح ١٥.

٢٦٣

وإن أكل أو شرب أو لبس وكلّ شيء صنعه ينبغي له أن يسمّي عليه ، فان لم يفعل كان للشيطان فيه شرك.» (١)

وفي التوحيد باسناده عن العسكري ، عن الصّادق عليهما‌السلام في جملة حديث تقدّم أكثره أنّه قال :

«ولربّما ترك بعض شيعتنا في افتتاح أمره «بسم الله الرحمن الرحيم» فيمتحنه الله عزوجل بمكروه لينبّهه على شكر الله تبارك وتعالى والثناء عليه ، ويمحق عنه وصمة تقصيره عند تركه قول «بسم الله الرحمن الرحيم» ـ وساق الحديث إلى أن قال : ـ

فقال الله جلّ جلاله لعباده : أيّها الفقراء إلى رحمتي ، إنّي قد ألزمتكم الحاجة إليّ في كلّ حال ، وذلّة العبوديّة في كلّ وقت ، فاليّ فافزعوا في كلّ أمر تأخذون فيه وترجون تمامه وبلوغ غايته ، فانّي إن أردت أن أعطيكم لم يقدر غيري على منعكم ، وإن أردت أن أمنعكم لم يقدر غيري على إعطائكم ، فأنا أحقّ من سئل ، وأولى من تضرّع إليه ، فقولوا عند افتتاح كلّ أمر صغير أو عظيم : «بسم الله الرحمن الرحيم» ـ وساق الحديث إلى أن قال : ـ.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من حزنه أمر تعاطاه فقال : «بسم الله الرحمن الرحيم» وهو مخلص لله ويقبل بقلبه إليه ، لم ينفكّ

__________________

(١) المحاسن ، باب ٣٣ و ٣٤ من كتاب المآكل ، ص ٤٣٠ و ٤٣٢ ، ح ٢٥٢ و ٢٦٠ ، وقد رواه (ره) بأسانيد متعددة ؛ وهكذا في الوسائل ، ج ٤ ، باب ١٧ من أبواب الذكر ، ص ١١٩٤ ، ح ٣.

٢٦٤

من إحدى اثنتين : إمّا بلوغ حاجته في الدنيا ، وإمّا يعدّ له عند ربّه ويدّخر لديه ، وما عند الله خير وأبقى.» (١)

وفيه تأييد لما قدّمناه من كيفيّة الاستعانة باسم الله ، كما يظهر من ذلك البيان المتقدّم السرّ فيما نحن فيه ، وسيأتي فيما بعد ما يظهر منه تتمّة كلام تتعلّق بأطراف المقام ـ إن شاء الله تعالى ـ.

[نزول البسملة على الأنبياء ورفع شدّتهم بها]

ومنها : أنّه روى النيشابوري مرسلا عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال :

«لمّا نزلت (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أوّل ما أنزلت هذه الآية على آدم قال : أمن ذرّيّتي من العذاب ما داموا على قرائتها ، ثمّ رفعت فانزلت على إبراهيم ـ صلوات الله عليه ـ ، فتلاها فهو في كفّة المنجنيق ، فجعل الله عليه النار بردا وسلاما ، وثمّ رفعت بعده فما أنزلت إلا على سليمان وعندها قالت الملائكة : الآن تم والله ملكك ، ثم رفعت فأنزلها الله تعالى عليّ ، ثمّ تأتي أمّتي يوم القيامة وهم يقولون : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، فاذا وضعت أعمالهم في الميزان ترجّحت حسناتهم.» (٢)

__________________

(١) التوحيد ، باب معنى «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» * ، ص ٢٣١ ، ح ٥ ، عن على ابن محمد بن سيار ، عن أبويهما ، عنه ـ عليه‌السلام ـ ، وهكذا في تفسير الامام ـ عليه‌السلام ـ ص ٨ و ١٠ ؛ والبحار ، ج ٩٢ ، باب فضائل سورة الفاتحة وتفسيرها ، ص ٢٣٢ ، ح ١٤ ، وص ٢٤٠ و ٢٤٤ ، ح ٤٨.

(٢) تفسير النيشابورى ، ج ١ ، ص ٢٦.

٢٦٥

[في الأمور الباطنيّة الّتي ينبغي أن يراعيها قارئ البسملة]

ومنها : أنّ المناسب لحال قارئ البسملة بقلبه أن يثير في قلبه محبّة الله سبحانه من حروف «بسم» على ما تقدّم ، والحياء منه سبحانه من عظمة كلمة الجلالة من حيث الكلمة والحروف ، والرجاء من الرحمن والرحيم والخوف من فوات الرحمة الرحيمية الخاصّة بأهله ، فانّ اختصاصه بالبعض دليل على حرمان الباقين ، والعبد لا يدري من المستحقّين أم لا ، والحرمان من جهة صفات العبد لا من أسماء الحقّ ؛ (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ.)(١) فلا يرجو راج إلا ربّه ، ولا يخاف إلا نفسه.

وفي جعل البسملة ابتداء للفاتحة والسور والكتب المنزلة على ما تقدّم دلالة على سعة الرحمة. فبملاحظته يعالج داء القنوط. وعلى أنّ إنزال السورة والكتب نشأ من الرحمة ، فاللازم المسارعة في القبول والامتنان ، لا الكراهة والتثاقل ، وبه يقوي الرجاء الحاصل من جعل البسملة فاتحة ، وتسميته نفسه رحمانا رحيما جامعا بينهما ، فكيف لا يرحم؟

حكي أنّه وقف سائل على باب رفيع ، فسأل شيئا ، فأعطي شيئا قليلا ، فجاء بفاس وأخذ يخرب الباب.

فقيل له : لم تفعل؟

قال : إمّا أن تجعل الباب لائقا بالعطيّة ، أو العطيّة لائقة بالباب.

وعن عارف أنّه كتب (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) وأوصى أن يجعل في كفنه ، فقيل له في ذلك فقال : أقول يوم القيامة : إلهي ، بعثت كتابا وجعلت عنوانه (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فعاملني بعنوان كتابك.

__________________

(١) النساء / ٧٩.

٢٦٦

ففي البسملة إثارة للحبّ والحياء والرجاء والخوف ، الّتي هي أصول التقوى والعبوديّة ، ولا ينفك العابد عن أحد هذه الاحوال.

ومنها :

انّ البسملة تسعة عشر حرفا والزبانية تسعة عشر ، فالمرجوّ من الله سبحانه أن يدفع بليّتهم بهذه الحروف التسعة عشر (١).

وأيضا انّ نوحا لمّا ركب السفينة قال : (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها)(٢) ، فنجا بنصف هذه الكلمة ، فما ظنّك بمن واظب على الكلمة طول عمره؟ كيف يبقى محروما عن النجاة؟ كذا نبّه بعضهم.

وأيضا اليوم بليلته أربع وعشرون ساعة ، فرض خمس صلوات تقع في خمس ساعات منها ، فتبقى تسعة عشر ساعة لا يستغرق فيها بذكر الله سبحانه ، وعسى أن يجعل الله سبحانه هذه التسعة عشر حرفا كفّارة للتفريط الواقع في التسعة عشر ساعة (٣).

ولنقتصر في شرح ما يتعلّق بالبسملة على هذا المقدار وإن بقي التتمّة.

__________________

(١) هذا المعنى يؤيّد بما روي في جامع الاخبار الفصل الثاني والعشرون ، ص ٤٢ ، عن ابن مسعود ، عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أنه قال : «من أراد أن ينجيه الله تعالى من الزبانية التسعة عشر ، فليقرء «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» * ، فانها تسعة عشر حرفا ، ليجعل الله كل حرف منها جنّة من واحد منهم.» ونقله أيضا المجلسي (ره) في البحار ، ج ٩٢ ، باب فضائل سورة الفاتحة وتفسيرها ، ص ٢٥٧ ، ح ٥٢.

(٢) هود / ٤١.

(٣) جميع ما تقدم أخيرا من النكات والحكايات مذكور في تفسير النيشابوري ، ج ١ ، ص ٢٥ ـ ٢٦ ؛ والتفسير الكبير ، ج ١ ، ص ١٣١ و ١٣٤.

٢٦٧

[تحقيق حول كلمة الحمد]

(الْحَمْدُ لِلَّهِ) في العيون وتفسير الامام عليه‌السلام عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه سئل عن تفسيرها ، فقال :

«هو أنّ الله عرّف عباده بعض نعمه عليهم جملا ؛ إذ لا يقدرون على معرفة جميعها بالتفصيل ، لأنّها أكثر من أن تحصى أو تعرف. فقال [لهم] : قولوا : الحمد لله على ما أنعم به علينا.» (١)

[الفرق بين الحمد والمدح]

إعلم أنّ الحمد نقيض الذمّ ، وهو الثناء باللّسان على الجميل الاختياري. ولعلّه مراد من حدّه بأنّه قول دالّ على أنّه مختصّ بفضيلة اختياريّة معيّنة ، وهي فضيلة الانعام عليك وعلى غيرك. ولا بدّ أن يكون على جهة التفضيل لا على سبيل التهكّم والاستهزاء. ومن حدّه بأنّه الثناء بالجميل على قصد التعظيم و

__________________

(١) العيون ، ج ١ ، باب ٢٨ ، ص ٢٢٠ ، ح ٣٠ وتفسير الامام ـ عليه‌السلام ـ ، ص ١١ ؛ وهكذا في العلل كما في البحار ، ج ٩٢ ، باب فضائل سورة الفاتحة وتفسيرها ، ص ٢٢٤ ، ح ٢.

٢٦٨

التبجيل للممدوح سواء كان لنعمة وغيرها. ومن زاد على ما ذكرناه أوّلا اعتبار كونه على قصد التعظيم ولا حاجة إليه ؛ إذ لو أريد منه وقوعه على جهة التفضيل المقابل للتهكّم ونحوه فهو مدلول عليه بلفظ الثناء ، وإن أريد أزيد من ذلك فاعتباره غير ظاهر ، بل الظاهر خلافه.

والمدح أعمّ منه مطلقا ويقابله الهجاء ؛ إذ المدح توصيف للحيّ ولغير ذي الحياة ؛ كاللّؤلؤة والياقوتة الثمينة بخلاف الحمد ، وأعمّ من كون التوصيف على الامر الاختياريّ أو غيره بخلاف الحمد المختصّ بالاوّل في وجه اختاره جماعة ؛ إذ لا يقال : حمدته على صباحة خدّه ، ويقال : مدحته عليه.

وزاد بعضهم (١) : أنّ المدح أعمّ من أن يكون قبل الاحسان أو بعده ، والحمد إنّما يكون بعده ، وهو بعيد جدّا.

ولعلّ منشأ الوهم أنّ عمدة الفضائل الاختياريّة عند العرب هو الكرم ، فظنّ الاختصاص به ، أو أنّه لا ينبغي الثناء إلا من المنعم عليه على المنعم ، فظنّ أنّ غيره ليس بحمد. وما أبعد بينه وبين ما يظهر منه أنّهما مترادفان كعبارة «الفائق» (٢) ، وهو أيضا ضعيف.

ولو ورد في كلام العرب إطلاق الحمد على المعنى الاعمّ لم يكن بعيدا لكثرة التوسعة والمجازات في كلامهم ، كما أنّ كثرة وروده في مورد الاحسان لا يصير دليلا على تخصيص أصل المعنى به ، كما يفصح عنه مقابلته بالذمّ الّذي لا يختصّ بالبخل وترك الاحسان ، بل يحتمل أن يكون مطلق الثناء على القادر العالم حمدا وإن كان باعتبار صفاته الذاتيّة الخارجة عن الاختيار والاكتساب. واختاره بعض

__________________

(١) المراد من بعضهم هو : النيشابوري ، راجع تفسيره ، ج ١ ، ص ٣٠.

(٢) وعبارته هي : «الحمد هو المدح والوصف بالجميل.» كما في رياض السالكين ، دعاء ٢١ ، ص ٢٢٠.

٢٦٩

المتأخّرين (١) فقال :

«الحمد هو الثناء على ذي علم بكماله ، ذاتيّا كان ؛ كوجوب الوجود والاتّصاف بالكمالات ، والتنزّه عن النقائص ، أو وصفيّا ؛ ككون صفاته كاملة واجبة ، أو فعليّا : ككون أفعاله مشتملة على حكمة فأكثر تعظيما له.»

[الفرق بين الحمد والشكر]

والشكر أعمّ من الحمد من وجه ؛ إذ هو على النعمة الواصلة على الشاكر خاصّة ، إمّا باللّسان أو بالقلب أو بالجوارح ؛ قال الشاعر (٢) :

أفادتكم النعماء منّي ثلاثة

يدي ولساني والضمير المحجبا

وسيأتي بيانه في محلّه ـ إن شاء الله تعالى ـ.

[أقسام الشكر]

وأمّا ما رواه القمّيّ في الحسن بأبيه عن الصادق عليه‌السلام في قوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أنّه قال : «الشكر لله» (٣) ، ويوافقه ظاهر مساق الرواية المتقدّمة ، فالظاهر أنّ المراد من الشكر فيه الشكر باللّسان فقط وهو على قسمين : أحدهما إظهار النعمة الواصلة إلى الشاكر باللّسان ، وثانيهما مطلق الثناء على المنعم لأجل كونه منعما

__________________

(١) هو : السيد عليخان المدني (قده) شارح صحيفة سيد الساجدين ـ عليه آلاف التحية والسلام ـ ، وقد ذكر هذا الكلام في شرحه عليها عند شرح دعائه ـ عليه‌السلام ـ في التحميد لله عزوجل.

(٢) راجع مجمع البحرين.

(٣) القمي ، ج ١ ، ص ٢٨ ، عن أبي بصير ، عنه ـ عليه‌السلام ـ ؛ والبحار ، ج ٩٢ ، باب فضائل سورة الفاتحة وتفسيرها ، ص ٢٢٩ ، ح ٥.

٢٧٠

على الشاكر ، وأداء لحقّه في الانعام ، وكلاهما مندرجان تحت الحمد ، ولا يخرج الحمد عنهما إلا إذا لم يقع من جهة الانعام.

ولمّا كان سورة الحمد تعليما للعباد في مخاطبتهم ومكالمتهم مع الله سبحانه على ما يظهر من جملة من الاخبار (١) ، ويوافقه الآيات الاخيرة من السورة ، وكان من حقّ العبد المستغرق في نعم الله سبحانه أن يقصد أداء حقّ النعمة وإن عجز عن إكماله على ما يستحقّه سمّى الحمد شكرا لاندراجه تحت عنوانه بهذه الملاحظة.

ويؤيّد ما ذكرنا من البيان الرواية الاولى وما رواه في الكافي عن الصادق عليه‌السلام من أنّه :

«ما أنعم الله على عبد بنعمة ، صغرت أو كبرت ، فقال : الحمد لله ، إلا أدّى شكرها.» (٢)

ويمكن أن يكون في تفسير الحمد بالشكر إشارة إلى تعميم الحمد للثناء بلسان القال ، والثناء بلسان الحال ؛ إذ حقيقة الشكر على ما ذكره بعضهم إشاعة النعمة والابانة عنها ، فيعمّ ما كان باللّسان أو العمل أو القلب ، ونقيضه الكفران

__________________

(١) كالروايات المشتملة على بيان فضائل هذه السورة ، ومعاني آياتها ، وبيان أنها تشتمل على تمجيد الله سبحانه وثناءه وشكره ، والاقرار برحمانيته ورحيميته وربوبيته ، ومالكيته في يوم الجزاء واختصاصه في العبادة والاستعانة ، وطلب الهداية منه ، والاستعاذة به من الوقوع في طرق الضلال والمهالك ، وقد ذكر بعضها المؤلف (ره) في آخر تفسير هذه السورة ، فراجع.

واعلم أن الاخبار الواردة في آداب الدعاء واستحباب تقديم تمجيد الله سبحانه وثناءه قبله مؤيّدة لذلك أيضا ، فراجع الوسائل ، ج ٤ ، باب ٣١ من أبواب الدعاء.

(٢) الكافي ، ج ٢ ، باب الشكر ، ص ٩٦ ، ح ١٤ ، عن صفوان الجمّال ، عنه ـ عليه‌السلام ـ ؛ والبحار ، ج ٧١ ، باب الشكر ، ص ٣٢ ، ح ٩.

٢٧١

ينبئ عن الستر والتغطية.

ولمّا كان كلّ ثناء من مثن بلسان حال أو مقال مسبوقا بالنعم الالهيّة عليه ، الّتي منها هذا الثناء ، كان كلّ ثناء شكرا لأياديه وإنعامه إذا قصد به ما يحقّ للعبد إيراده عليه من أداء حقّ النعمة ، فتدبّر.

[في اختصاص الحمد بالله سبحانه]

واللام في الحمد للجنس ؛ إذ هو الظاهر من اللام حيث لا عهد كما هنا ، فهي للاشارة إلى المعنى الجنسى الّذي هو مدلول قوله.

لمّا كانت الاشارة لا تصحّ إلّا بمتعيّن ، ولا تعيّن للمعنى الجنسيّ إلا إذا أخذ مطلقا غير مشروط بالقيود والمشخّصات دلّت اللام على كون الماهيّة مأخوذة على وجه اللابشرطيّة.

واللام في لله للاختصاص ، فيدلّ الجملة الخبريّة على أنّ ماهيّة الحمد وحقيقته بعنوان كلّيّ مختصّ بالله وملك له وحقّ له ، فلا يستحقّ غيره شيئا من أفراده. فيفيد لام الجنس هنا مفاد لام الاستغراق بالمآل ، وقد فصّل في علم الاصول بيان أنّ تحلية المسند إليه باللام يفيد الحصر ، وسرّه ما ذكرناه إجمالا والتفصيل موكول إلى العلم المذكور.

فتحصّل ممّا ذكرنا أنّ مفاد هذه الكلمة انحصار ماهيّة الحمد بجميع أفراده واختصاصه بالله سبحانه ، فلا مستحقّ لشيء منه سواه ، وهو يستحقّ جميع أفراده وأنواعه ، فهو المحمود المطلق ، ومن سواه لا يحقّ له المحمودية ، وهذا هو التوحيد في مقام الحمد.

ومنه يظهر وجه ترجيح هذه الجملة على جملة من الوجوه ؛ كالجملة الفعليّة وإيراد المبتدأ منكّرا.

٢٧٢

[اعتقاد العدليّة في جواز التّحميد لغير الله سبحانه]

فان قلت : كيف يصحّ حصر الحمد به سبحانه مع ما تقرّر عند العدليّة من القول بالتحسين والتقبيح العقليين بالنسبة إلى أفعال العباد ، وقد فسّروا الحسن بما يستحقّ المدح أو الثواب ، مع أنّ المدح هنا يقع بازاء الجميل الاختياريّ ، فهو حمد على ما مرّ؟ وحينئذ يتّجه ما عن الجبريّة من التشنيع على العدليّة بأنّكم تثبتون للعبد فعلا واختيارا ، واستحقاق الحمد إنّما يكون على أشرف النعم وهو الايمان ، فلو كان الايمان بفعل العبد لكان المستحقّ للحمد هو العبد ، ويكون هذه الكلمة على ما ذكر في مفاده دليلا على صحّة قول الاشاعرة ، فكيف المخلص عنه؟

قلت : العدليّة على ضربين :

فمنهم : من أرادوا أن يصفوا الله بعدله ، فأخرجوه عن سلطانه ، وهم القدريّة الّذين ورد في حقّهم : «أنّهم مجوس هذه الامّة» (١) على أظهر الوجهين ، وهم المشركون بالشرك الخفيّ ، المنكرين لكثير من أبواب التوحيد.

ومنهم : الفرقة الوسطى الجامعين بين التوحيد في جميع مراتبه والعدل ، وهم أهل الحقّ على تفاوت درجاتهم في زيادة العلم والمعرفة والبصيرة ونقصانها ، والخطاء في جهات المطلوب ونكاتها الدقيقة.

وحينئذ فنقول : إنّ شرطنا في مفهوم الحمد وقوعه بعد نعمة صادرة من المحمود بالنسبة إلى غيره ولو كان غير الحامد ، أو في المراد من الحمد هنا كما يوافقه تفسيره بالشكر فوجه الحصر ظاهر ؛ إذ لا منعم في الحقيقة إلا الحقّ ، وليس من سواه منعما في الواقع ، وإنّما هو في صورة المنعم ظاهرا ، وهو واقعا مجرى النعمة

__________________

(١) الروايات الواردة في هذا المعنى كثيرة ، فراجع التوحيد ، باب القضاء والقدر ، ص ٣٨١ و ٣٨٢ ، ح ٢٨ و ٢٩ ؛ والبحار ، ج ٥ ، باب القضاء والقدر والجبر والتفويض.

٢٧٣

والمجرى بيده النعمة ؛ كما ورد في دعاء الصحيفة السجادية :

«وأنت من دونهم ـ يعني : المعطين والمانعين ، أو مطلق المخلوقين ـ وليّ الاعطاء والمنع.» (١)

وأمّا إذا لم نأخذ في المراد منه ذلك والقيد فوجه الاختصاص أن يقال : إنّ المراد باختصاص ماهيّة الحمد به ليس أنّه لا يحمد في الخارج سواه لكثرة ما يحمد غيره ، بل إنّه ممّا يستحقّه الحقّ من الخلق ، ومن جملة حقّه الثابت عليهم بحيث لو لم يفعلوا كانوا مقصّرين في أداء حقّه الثابت عليهم ، ولا يستحقّ الحمد بهذا المعنى أحد من المخلوقين وإن استحقّ فاعل الحسن الحمد بمعنى أنّه لو مدح به لكان صحيحا عند العقل ، موضعا للشيء موضعه الّذي ينبغي أن يوضع فيه عقلا ، لا أنّه يستحقّ من غيره أن يمدحوه به على معنى أنّه لو لم يفعل لكانوا مانعين حقّه. فهيهنا فرق واضح بين استحقاق الديّان من المديون دينه ، واستحقاق الفقير للبذل له ، وإن عبّر بلفظ واحد في المقامين. فالاستحقاق في الثاني بمعنى أنه لو أعطى شيئا لكان في محلّه ؛ إذ له أهليّة ذلك ، وفي الاوّل أنّه يطلبه منه ، وله حقّ ثابت عليه لو منعه كان متعدّيا ، فالفرق بينهما كالفرق بين الجواز وبين الرجحان والوجوب. فالحمد حقّ لله ثابت له على وجه الاطلاق بحكم العقل ، وليس لأحد حقّ الحمد على غيره وإن كان في فاعل الحسن صحيحا ؛ لكنّ الحامد متفضّل بالحمد على العبد المحمود ، كما أنّ المعطي متفضّل على الفقير المستحقّ ، بخلاف حامد الحقّ ؛ إذ هو تأدية لحقّ من حقوقه الغير المتناهية ، مع كون هذه التأدية أيضا نعمة منه سبحانه على الحامد.

فالاستحقاق في الواجب إلزام وترجيح ، وفي الممكن تجويز وترخيص ؛ كيف ولو كان فاعل كلّ حسن مستحقّا من غيره المدح لكان الّذي ينبغي عند العقل أن

__________________

(١) الصحيفة السجادية ، دعائه ـ عليه‌السلام ـ في مكارم الاخلاق (د ٢٠).

٢٧٤

يترك الناس مشاغلهم ، ويشتغلوا بمدح فاعلي كلّ حسن ، ولا يسعه أوقاتهم لكثرتهم وكثرة أفعالهم.

ونظير هذا ما نذهب إليه في استحقاق فاعل الحسن وكلّ مطيع الثواب بحسب حكم العقل الاوّليّ ، فانّه لا يحكم بأنّه يستحقّ من الله سبحانه ثوابا بمعنى ثبوت حقّ للعبد على الحقّ لو لم يؤدّه لكان ظالما له ، بل يحكم بالاستحقاق بمعنى أنّ من شأنه أن يثاب عليه ، بحيث لو أثيب عليه لكان واضعا للشيء موضعه بخلاف فعل القبيح والمعصية ، إذ لو أثيب عليهما لكان قبيحا ، ويظهر حاله من ملاحظة حال المعصية بالنسبة إلى الذّمّ والعقاب ؛ إذ ترك ذمّ فاعل القبيح لغير مصلحة من ردع وهداية وغيرهما لو لم يكن راجحا على فعله لم يكن مرجوحا ، مع أنّه يطلق عليه الاستحقاق ، وكذا العقاب على مرتكب القبيح والمعصية لو لم يكن مرجوحا بالنسبة إلى العفو لم يكن راجحا ، مع قطع النظر عن الخصوصيّات ، مع أنّهم يطلقون الاستحقاق عليه.

[وجوب شكر المنعم في الواجب والممكن ونسبته مع الحمد]

فان قلت : كيف يصحّ إنكار حق المدح من المنعم على المنعم عليه ؛ كالاستاد بالنسبة إلى التلميذ ، والسيّد بالنسبة إلى عبده ، والمعطي بالنسبة إلى السائل ، والمحسن بالنسبة إلى المحسن إليه ، مع اتّفاق كلمة العدليّة على الظاهر على وجوب شكر المنعم ، والحمد من الشكر بل رأسه كما في الخبر (١)؟

وكيف يصحّ إنكار وجود المنعم في المخلوقين مع تصريح كلماتهم واحتجاجاتهم

__________________

(١) قال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : «الحمد رأس الشكر.» نقله الزمخشري في الكشاف ، ج ١ ، ص ٧ ؛ والبيضاوي في أنوار التنزيل ، ص ٣ ؛ والنيشابوري في تفسيره ، ج ١ ، ص ٣٠. وقريب هذا المضمون قد ورد في روايات نقلها علماء الخاصة ؛ كالكليني (ره) ، فراجع الكافي ، ج ٢ ، باب الشكر.

٢٧٥

بما يشتمل على إثبات صفة الانعام والاحسان للخلق ، ويوافقه مشاهدة صدور الاحسان والانعام منهم ، ووجدان تحسين العقل شكرهم وقبح الكفران لهم ؛ كما ذكره العدليّة في احتجاجاتهم؟

قلت : لا ننكر استحقاق الشكر والحمد للمنعم ، وإنّما ننكر وجود الوصف في المخلوق ، ونقول : إنّه ليس غيره منعما ، فلا يستحقّ حمدا ولا شكرا.

وأمّا ما وقع في كلماتهم من التمثيل بالخلق ، فلعلّه مسوق على ما يقتضيه النظر الظاهري ، أو على سبيل الفرض ، أو خطاء وقع في الكلام ؛ إذ ليس المعصوم إلا من عصمه الله.

وأمّا ما يرى من تحسين العقل وتقبيحه ، فهو مبنيّ على فرض وجود الموضوع ، إذ أحكام العقل كلّيّات لا جزئيّات فالعقل يحكم بوجوب شكر المنعم بالحقيقة ، والقاصرون يرون منعمين كثيرين ، فيتحصّل منهما النتيجة ، فيحسّنون ويقبّحون بحسبه ، والموحّدون لا يرون في الوجود منعما إلا المنعم الواحد الحقيقيّ ، فيحكمون بأنّه لا يستحقّ أحد من أحد ثناء ولا مدحا أوّلا وبالذات. نعم ، إذا جعل الحقّ سبحانه لأحد حقّا على غيره من شكر وثناء وغيرهما صار ذا حقّ جعليّ ، ولزم الوفاء به من حيث أنّ الله سبحانه جعل له ذلك ، فيندرج تحت حقّ الحقّ سبحانه على عباده ، ويعرضه الوجوب عقلا لذلك ، فلا ينافي ما ذكرناه ما ورد في شكر الناس وحمدهم (١).

وأمّا دعوى مشاهدة النعم والاحسان صادرة عن العباد ، فمنشائها قصور النظر عن ملاحظة الواقع على ما هو عليه ، واحتجاب الناظرين بالخلق عن الحق جلّ

__________________

(١) كخبر الصدوق (ره) عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ حيث قال ـ عليه‌السلام ـ : «من لم يشكر المنعم من المخلوقين لم يشكر الله عزوجل» راجع العيون ، ج ٢ ، باب ٣١ ، ص ٢٣ ، ح ٢.

٢٧٦

وعلا ، وإلا فالبصير لا يرى معطيا ولا مانعا سواه ، ويرى الوسائط كلّها مجاري لفيضه ، ووسائط مسخّرة تحت قضائه ليوصل بها حقّ كل ذي حقّ إليه على حسب ما قدّر له النعمة ، والواسطة وقدرته وعلمه واختياره وداعيه على الاختيار ، وتمكين المنعم عليه من الانتفاع بالنعمة ، وإبقاء تلك النعمة كلّها نعم منه سبحانه عليه ؛ كما قال عزّ من قائل : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ.)(١)

ولعلّك ستعرف توضيحه في المحلّ اللائق به ـ إن شاء الله تعالى ـ.

وأيضا كلّ مخلوق ينعم على غيره فانّه يطلب بذلك الانعام غرضا ، إمّا ثوابا ، أو ثناء ، أو تحصيل خلق ، أو تخليصا من رذيلة البخل ، فهو حينئذ معاوض لا منعم ولا جواد ؛ إذ الجواد هو الّذي يجود لا لغرض يعود إليه غير نفس الجود ، فليس غيره سبحانه مستحقّا للحمد والشكر في الحقيقة. أمّا الله سبحانه ، فانّه كامل لذاته ، والكامل لذاته لا يطلب الكمال ؛ لأنّ تحصيل الحاصل محال ، فكان عطائه جودا محضا. فثبت أن لا مستحقّ للحمد إلا الله سبحانه.

فتحصّل من ذلك كلّه أنّ صرف الحمد إلى العباد الّذين لا حقّ لهم على الحامد ، مع أنّ عليه حمده سبحانه في كلّ حال ممّا لا ينبغي ، وأن الّذي ينبغي أن يحمد منحصر فيه سبحانه ، ومثال حامد الغير مثال من كان [له] أموال قليلة وديون كثيرة ، واشتغل بصرف تلك الاموال في مصارف لاغية لا منفعة فيها له.

[رجوع المحامد كلّها إليه سبحانه]

وذكر بعض المتأخّرين الّذي تقدّم صدر كلامه في شرح دعاء في وجه اختصاص جميع أفراد الحمد به سبحانه أنّ :

«النعوت الكماليّة كلّها ترجع إليه ، لأنّه فاعلها وغايتها ،

__________________

(١) النحل / ٥٣.

٢٧٧

كما حقّق في مقامه (١) ، ولأنّه الموجود الحقيقيّ كما يعرفه العارفون. وثبوت الصفة فرع ثبوت الموصوف ، وذلك أنّهم يرون كلّ قدرة مستغرقة في القدرة في الذات ، وكلّ علم مستغرقا في العلم بالذات ، وهكذا في كل صفة كماليّة ، فإذن المحامد كلّها راجعة إليه سبحانه ، ولهذا ذكر اسم الله دون غيره من الاسماء لدلالته بحسب المفهوم على جامعيّته الاوصاف الجماليّة والجلاليّة وربوبيّته أنواع الاشياء كلّها ، وكلّ اسم غيره إنّما يدلّ على صفة وربوبيّة نوع واحد.» (٢) انتهى.

ويؤيّد ما ذكرناه من إفادة هذه اختصاص جميع أنواع الحمد به سبحانه ما روي عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال :

«فقد أبي بغلة له ، فقال : لئن ردّها الله تعالى لأحمدنّه بمحامد يرضاها ، فما لبث أن أتي [بها](٣) بسرجها ولجامها ، فلمّا استوى عليها وضمّ إليه ثيابه رفع رأسه إلى السماء فقال : الحمد لله ، ولم يزد. ثمّ قال : ما تركت وما أبقيت شيئا ، جعلت كلّ أنواع المحامد لله عزوجل ، فما من حمد إلا وهو داخل فيما قلت.» (٤)

__________________

(١) في المخطوطة : «خاتمته».

(٢) راجع المصدر المذكور في تعليقة ١ ص ٢٧٠.

(٣) كذا في المصادر.

(٤) رواه علي بن عيسى (ره) في كشف الغمة ، ج ٢ ، باب في ذكر الامام الخامس أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ ، ص ١١٨ ؛ ونقله البحراني (ره) في البرهان ، ج ١ ، ص ٤٦.

٢٧٨

وقيل :

«لا شكّ أنّ الوجود خير من العدم ، وأنّ وجود كلّ ما سوى الله فانّه حصل بايجاد الله وجوده ، فانعام الله تعالى واصل إلى كلّ من سواه. فاذا قال : «الحمد لله» فكأنّه قال : الحمد لله على كلّ مخلوق ، وعلى كلّ محدث أحدثه من نور وظلمة ، وسكون وحركة ، وعرش وكرسيّ ، وجنّي وإنسيّ ، وذات وصفة ، وجسم وعرض من أزل الآزال وأبد الآباد.» (١) انتهى.

وأنت إذا لاحظت إفادة الجملة الخبريّة للثبات والدوام ، ولاحظت عموم الحمد من الجهة المتقدّمة لجميع الانواع والافراد الصادرة من كلّ حامد ، فربّما أفادت هذه الكلمة باختصارها لك أنّ المحامد الّتي أتى بها الاوّلون والاخرون من الملائكة والثقلين لله تعالى ، وكذا المحامد الّتي سيذكرونها إلى وقت قوله تعالى : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(٢) ، وإلى أبد الآبدين ودهر الداهرين. وأنّ كلّ حمد يصحّ أن يقع حمدا بجهة من الجهات المتصوّرة ، فهي ثابتة له سبحانه بحيث لا يبقى ثناء متصوّر لأحد باعتبار إلا وهو حقّ لله سبحانه. فيدلّ على استجماعه سبحانه جميع شؤون المحموديّة ، بحيث لم يبق شأن منها وجهة من جهاتها إلا وهو متحقّق وثابت له سبحانه. وأنّ كلّ حمد صدر من أحد لغيره سبحانه باعتبار جهة من الجهات ، فانّه لا يستحقّه وإنّما المستحقّ له هو الله سبحانه ، حتّى لو وقع الحمد على فاعل فعل من الافعال الاختياريّة وباعتباره ، فانّ الله أولى بحسنات العبد من نفسه ، وهو أولى بسيّئاته ؛ كما ورد في الخبر

__________________

(١) الكلام للنيشابوري ، راجع تفسيره ، ج ١ ، ص ٣١.

(٢) يونس / ١٠.

٢٧٩

وفصّل في محلّه (١).

ويؤيّد التعميم ما ذكر في كلام الاصوليّين من أنّ حذف المتعلّق يفيد العموم ، وإذا عمّمنا الحمد للسان الحال والمقال شمل جميع الاشياء ؛ إذ ما من شيء إلا ويسبّح بحمده ، كما نصّ عليه في القرآن (٢) ، إن جعلت التحميدات بألسنة الاحوال وإلا بأن أثبتنا لها ألسنة على حسبها ناطقة بالثناء على ربّها فالشمول أوضح من دون حاجة إلى التعميم.

وعن بعض المحقّقين (٣) : «التعميم المذكور لإدخال حمد الحقّ سبحانه نفسه ، وذلك حيث بسط بساط الوجود على ممكنات لا تعدّ ولا تحصى ، ووضع عليه موائد كرمه الّتي لا تتناهى ، فكلّ ذرّة من ذرّات الوجود لسان ناطق عنه بحمده ، ومثل هذا الحمد لا يطيق به نطاق النطق ، ومن ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك» كذا قرّر.

وله وجه عند تجريد معنى الحمد عن الخصوصيّات الّتي يعتبر فيه أهل العرف بالنظر الظاهريّ.

ربّ العالمين

في الرواية المتقدّم صدرها عن القميّ عن الصادق عليه‌السلام فيه أنّه قال :

«خلق (٤) المخلوقين (٥)

__________________

(١) راجع خبر الصدوق (ره) عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في ص ٢١٤.

(٢) قال الله تعالى في سورة الاسراء ، آية ٤٤ : «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ.»

(٣) هذا القول نقله السيّد عليخان المدني (ره) في الرياض ، في شرح دعائه ـ عليه‌السلام ـ في التحميد لله عزوجل (د ١) عن بعض المحقّقين ، فراجع.

(٤) في بعض النسخ : «خالق».

(٥) راجع تعليقة ٣ ص ٢٧٠.

٢٨٠