مجد البيان في تفسير القرآن

آية الله الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي

مجد البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٣

وهذا التميز والتعيين فرع ثبوت ذلك المتميز المتعين ، وتقرره إمّا في الذهن ، أو في الخارج ، أو في نفس الامر ، أو مساوق له ؛ إذ المراد بالثبوت والتقرر هو كون الشيء في حدّ نفسه متميزا عمّا سواه ، ومتعينا بحيث يصحّ الحكم عليه بأنّه هو.

ولعل مثل ذلك هو المراد ممّا نسب إلى أهل المعرفة من القول بالاعيان الثابتة في علم الحقّ ، فان العلم يقتضي تعين المعلومات وتميزها بحدودها ومقاديرها مع أنّها لم تتصف بعد بالوجود ، ولم توجد في الاعيان. وهذا المعنى ظاهر إذا أريد بالعلم هو حقيقة اسم العليم ، والعلم المخلوق المنسوب إلى الحقّ نسبة الفعل إلى الفاعل ، والكلام إلى المتكلّم ؛ إذ عند ظهور ذلك الاسم لا بدّ وأن يتعيّن المعلومات في ظلاله وبتبعيّته معرّاة عن الوجود ، وإلا لم يكن علما بها ، ولا صحّ وصفها بأنّها معلومات به.

والمفروض أن ذلك العلم محيط بالاشياء كلّها : «لا يعزب عنه مثقال ذرة في الارض ولا في السماوات» (١) ، وقد (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ)(٢) ، (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ)(٣) ، وذلك العلم متقدّم في الوجود على الاشياء الموجودة مع شمولها لأولها وآخرها ، فلا بدّ من أن تكون متعينة متميزة في نفس الامر بتبعيّة ذلك الاسم الحقيقي ؛ إذ القدر الثابت من عدم تميز الاعدام هو أنّ الاعدام لا تتميّز بأنفسها ، ولكنّها تتميز مقيسا إلى وجود موجود وتبعا له ، بحيث يصح الحكم عليه وبه ، ويتعلّق به الادراك في حدّ نفسه ، لا أن التميز يحصل في الذهن عند وجود ذلك العدم الخارجيّ في الذهن وتصوّر الذهن له. فانّ التحقيق أنّ الذهن

__________________

(١) مأخوذ من آية ٦١ من سورة «يونس» ، وآية ٣ من سورة «السبأ».

(٢) طه / ٩٨.

(٣) البقرة / ٢٥٥.

٦٠١

في مثل ذلك ليس إلّا مرآتا لنفس الامر وحاكيا له ، ولذا يترتب عليه المحمولات ، ويحكم عليه بأحكام ، وتتصف تلك القضايا بالصدق والكذب ، فلا بدّ أن يكون لها خارج تطابقه أو لا تطابقه ، وليس في دائرة الوجود ؛ إذ الفرض عدمه ، فلا مناص من إثبات تميز للمعدومات حال عدمها في مرتبة أنفسها في ظلّ الموجودات ، حتّى يلاحظها الذهن ؛ ويحكم عليها العقل أحكامها التي تثبت لها بالقياس إلى الواقع ، لا ما يحمل عليها بلحاظ كونها موجودات في الذهن ، كالمحمولات المنطقية مثلا ، يتصور العقل عدم الشرط وعدم المعدّ وعدم المقتضي وعدم جزئه وعدم المانع وعدم ما يلازمه وعدم الضد لشيء من الاشياء ، ثمّ يحكم عليها بأحكام ، ويحكم بصدقها ، فيقال في الاعدام الاربعة الاول : إنها أسباب لانعدام الشيء ، وأنّه يصح في كلّ منها أن يقال عدم ذلك فانعدم الشيء ، ولا يصح العكس ، وأنّه مقدم على عدم الشيء مرتبة ، ومقارن له زمانا ، وأنّ الخامس شرط لوجود الممنوع ، والسادس مقارن وليس بشرط ، وعدم الضدّ مقدّمة لوجود الضدّ على القول به.

وهذه القضايا كلّها قضايا صحيحة عقليّة محكومة بأنها صادقة مطابقة للواقع ، ونقائض تلك القضايا كاذبة محكومة بأنّها مخالفة للواقع. وليس اتصافها بالصدق والكذب في الذهن من حيث هي ، مع قطع النظر عمّا سوى الذهن ؛ إذ ليس نظر العقل في تلك الاحكام والنسب إلا إلى الواقع ، وهو ظرف النسبة كما هو ظاهر بالرجوع إلى الوجدان ، ولو كان كذلك لم يتصف بالصدق والكذب أصلا ، فالوجدان الصحيح يحكم بأنّ تلك الاعدام متميزة مترتبة ، ومحدودة في ظلّ الموجود وبتبعيته ، وأنّ العقل يدركها ويدرك مراتبها وأحكامها بما أعطاه الحقّ من المرآتية وشأنيّة الاطلاع على الغيب ؛ فتلك المعدومات ثابتة في حدّ نفسها ، متقررة في مراتبها على حسب ما نبهنا عليه.

ولو ناقش مناقش في لفظ الثبوت والتقرر ، فلا يهمّنا المضائقة من التزام

٦٠٢

توسّع في اللّفظ بعد وضوح المقصود. فاجعل المثال مرآتا لتصور تعيّن المعدومات وتميزها في حضرة العلم المحيط بكلّ شيء وإن كان الامر فيه على نحو أعلى من ذلك المثال ، ولا تبادر إلى إنكار ثبوت الاعيان الثابتة في ذلك العلم المنسوب إلى الحقّ.

وأمّا العلم الذاتي الّذي هو عين الذات المقدّسة ، فالكلام في فرض ثبوت للاعيان عنده ممّا لا ينبغي الخوض فيه لأمثالنا لبعد مقامه عن مقام العقل والنظر. فالاولى الاغماض عنه والاكتفاء بغيره.

ولعل إلى ذلك وقع نظر عقول جماعة من المتكلّمين ، الذين التزموا بثبوت المعدومات فجنحوا إلى الصواب ، لكن أخطأوا الطريق فوقعوا في المضيق حيث إنّ الظاهر أنّهم اعتقدوا ثبوتها في حدّ ذاتها مع قطع النظر عن وجود موجود أصلا ، فتكون هي في ثبوتها مستغنية عن الحق سبحانه وعن كل موجود. وهذا عين الفساد ، بل شرك خفي عند العارف. كما أن المنكرين لثبوتها ، المساوقين بين ثبوت الشيء ووجوده لم يصيبوا من كل وجه وإن أصابوا من البعض. فنظر كل من الطائفتين مركب من صواب وخطاء لم يحط بتمام الامر على ما هو عليه ؛ كأكثر المسائل العقلية وجملة كثيرة من غيرها.

ومنها : قصر الشيئية على الموجود والتعميم لها ، وللمعدومات التي كنّا بصدد بيانها. فان الظاهر بملاحظة ما قدمنا أن الشيئية فرع التميز ، فما كان متميزا في ظرف ووعاء من الاوعية الثلاثة أعني : الذهن والخارج ونفس الامر ، الذي هو مقام تميز المعدومات الخارجية ، كان شيئا باعتباره ، ولمّا كان مرتبة نفس الامر شاملا للخارج والذهن ، بمعنى أن كل ما وجد فيهما فهو متعين في نفس الامر أيضا ، بل وجوده في كل منهما تابع لتعينه في نفس الامر ، كما يظهر مما تقدم كانت الشيئية مساوقة لتميز الشيء وتعينه في الواقع ، فما لم يكن متعينا

٦٠٣

ومتميزا ليس شيئا.

وحينئذ فنقول : إن المحالات الذاتية الاولية ليست أشياء حتى يخصص به عموم الشيء في هذه الآية ونظائرها ممّا دلّ على عموم القدرة من ألفاظ الكتاب والسنة النبوية والاماميّة ؛ كما تقدم في كلام بعض أهل البصيرة بأقوال العلماء من أن المحال ليس شيئا اتفاقا ، وما ذكره جوابا من أن النزاع ليس في الامر اللّفظي ، بل في الشيئية بمعنى الثبوت والتقرر قد عرفت أن المدلول اللّغوي هو ذلك المعنى ، الذي وقع النزاع فيه بعد إرادة ما تقدم من الثبوت والتقرر. فيكون محل النزاع أن ذلك المعنى الظاهر للفظ الشيء هل هو متحقق في المعدومات حال عدمها أم لا؟ فيكون نزاعا في أمر معنوي لا في أن لفظ الشيء دال على أي معنى.

فان قلت : إنّ المحال الذاتي وإن لم يكن له وجود خارجيّ لكنّه موجود في الذهن قطعا ، ولولاه لم يكن متصورا ، ولا صحّ الحكم عليه بكونه محالا ، ولا كان للمباحث المتعلّقة بالمحالات المذكورة في كتب الحكمة وغيرها معنى أصلا ، فيكون شيئا ، فلا بد من تخصيص عموم القدرة بغيره.

قلت : نمنع كون المحال الذاتي موجودا في الاذهان بالوجود الذهني ، وإنّما الموجود فيه حقيقة هو الممكنات فقط ، كيف وقد ذكرنا أنّ الذهن إنّما يتلقّى المفاهيم من طرف الواقع ، وهو في ذلك تابع له ، فما ليس متميزا فيه لم يتميز في الذهن ، ولم يتعلّق به الادراك ، سواء قلنا بكون الصورة الذهنيّة تابعة للموجود الخارجي ومتفرعة عليه ، أو بكونها تابعة لعالم المثال المقدم على الوجود المادي الواقع في سلسلة النزول ، فيكون الذهن متلقيّة للصورة منه ، أو كونها تابعة للمثال البرزخي المتأخر مرتبة عن هذا العالم الواقع في السلسلة الصعودية ، أو كونها تابعة لسبب الادراك تبعية المعدّ له للمعد ، ويكون النفس منشئا للصورة في عالم ملكوتها الصغرى ، أو كونها تابعة للتعين والتميز الثابت للشيء في حدّ

٦٠٤

نفسه ، أو فصّلنا بين الموارد في ذلك ، وجعلنا لكلّ منها موردا خاصّا ، كما هو المختار ؛ إذ لا يخلو الذهن على كلّ تقدير من كونه تابعا للواقع ، فما لا واقع له لا وجود له في الذهن؟ ألا ترى أنك لا تتصور بذهنك وإن أجهدت نفسك ، وبذلت مجهودك أمرا ، إلا بالتفاتك إلى شيء رأيته أو سمعته أو أدركته من الامور الواقعية العينية ، بحيث لو لا ذلك الالتفات لم يتأت لك ذلك التصور ، ولم يحصل لك تلك الصورة؟

نعم ، بعد ملاحظة ذلك الامر الواقعي ربما يتصرف المتخيلة في عدّة أمور متصورة بضم وتفريق وغيرهما ، فيحضر عندك صورة لها مركبة ليست متحققة في الواقع على هذا التركيب ؛ لكنّ الموجود في الذهن ليس إلا نفس البسائط المتحققة في الواقع ، وفرض الاجتماع فيها محض تصرف للمتخيلة ، وتعمّل لها. وليس ذلك التصرف أمرا ممتنعا ، بل أمر ممكن موجود في الذهن بنفسه ، وليس في ذلك ناظرا إلى الواقع أصلا. فالمتصور من حيث هو موجود في الذهن ليس أمرا ممتنعا ، ولا مصداق له بحسب الواقع ، فهو شيء بحسب الذهن فقط ، وهو موجود والله قادر على إيجاده فيه ، وليس شيئا بحسب الواقع ، وبالنظر إلى الموجود الخارجي حتّى يخصّص به عموم الشيء في نحو الآية.

فان قلت : لو لم يكن للموضوع في تلك القضايا حكاية عن الواقع ، فكيف يحكم عليه بتلك الاحكام الّتي يحكم عليه بها بالقياس إلى الواقع ، مع أنّك قد ذكرت أنّ الذهن في نحو هذه القضايا مرآة للواقع وحاك عنه؟ وما المناط في صدق تلك القضايا وكذبها؟

قلت : المحكيّ عنه في تلك القضايا هو محدودية عالم الامكان ، ونفي الامكان والشيئيّة والتقرر عن تلك المفاهيم المخترعة ، وأنّه ليست بأشياء وبممكنة ، ولا لها تميز وثبوت ، كما أنّ توصيف الحقّ سبحانه بسبب صفات الامكان والحوادث

٦٠٥

مرجعه إلى تحديد عالم الامكان ، وأنّه لا محلّ لتلك الصفات الامكانية فيما سوى الممكنات ، لا إلى تحديد الحقّ سبحانه عن أن يحدّ بالحدود التي نتعقلها. وعساك تقف على بيانه ـ إن شاء الله تعالى ـ.

ولنذكر بعض كلمات أهل المعقول تأييدا لما ذكرناه.

قال بعض الافاضل : «المعدوم لا يخلو إمّا أن يكون بسيطا ، وإمّا أن يكون مركّبا. فان كان بسيطا مثل عدم ضدّ الله وعدم شريكه وعدم مثله وغير ذلك ، فذلك إنما يعقل لأجل تشبيهه بأمر موجود ؛ مثل أن يقال : ليس له تعالى شيء نسبته إليه نسبة السواد إلى البياض ولا له ما نسبته إليه نسبة المندرج مع آخر تحت نوع أو جنس ، فلو لا معرفة المضادّة أو المماثلة أو المجانسة بين أمور وجودية ، لا استحال الحكم بأن ليس لله تعالى ضدّ أو مماثل أو مجانس ، أو ما يجري مجريها من المحالات عليه.

وإن كان مركبا ؛ مثل : العلم بعدم اجتماع المتقابلين كالمتضادين ، فالعلم به إنما يتم بالعلم بأجزائه الوجودية ؛ مثل أن يعقل السواد والبياض ، ثمّ يعقل الاجتماع حيث يجوز ، ثمّ يقال : الاجتماع الذي هو أمر وجودي معقول غير حاصل بين السواد والبياض.

فالحاصل أنّ عدم البسائط إنما يعرف بالمقايسة إلى الامور الوجودية ، وعدم المركبات إنما يعرف بمعرفة بسائطها».

وقال صدر الحكماء : «واعلم أنّ العقل كما لا يقدر أن يتعقل حقيقة الواجب بالذات لغاية مجده وعلوه وشدة نوريته ووجوبه وفعليته وعدم تناهي عظمته وكبريائه ، كذلك لا يقدر على أن يتصور الممتنع بالذات بما هو ممتنع بالذات لغاية نقصه ومحوضة بطلانه ولا شيئيته. فكما لا ينال ذات القيوم الواجب بالذات لأنه محيط بكل شيء فلا يحاط للعقل ، فكذلك لا يدرك الممتنع بالذات

٦٠٦

لفراره عن صقع الوجود والشيئية ، فلاحظّ له من الهوية حتّى يشار إليه ويحيط به العقل ويدركه الشعور ويصل إليه الوهم. فالحكم بكون شيء ممتنعا بالذات بضرب من البرهان على سبيل العرض والاستتباع ـ إلى آخر ما ذكره».

وحينئذ فنقول : إنّ الممتنعات الذاتية إذا لم تكن بحقائقها موجودة في الخارج ولا في الذهن ، ولم يكن لها ثبوت وتقرر في الواقع يوجب تميزها في نفس الامر ، فمن أين صحّ الحكم بأنّها أشياء ، وأنّها داخلة تحت لفظ الآية حتّى يحتاج في إخراجه بالتزام التخصيص؟

وأمّا مفاهيمها ، فهو إن وجدت في الاذهان لا تصدق عليها ذلك المفاهيم بالحمل المتعارفي وإن صدقت عليها بالحمل الذاتي ، فمفهوم اجتماع النقيضين ليس اجتماعا لهما بالحمل المتعارف وإن كان هو بالحمل الذاتيّ ، كما بيّنه صدر الحكماء في كتابه الكبير فالمصداق ليس شيئا ، والمفهوم ممكن مندرج تحت العموم. وتتمة الكلام في ذلك موكول إلى محلّه.

وأمّا الالتزام بالتخصيص في لفظ الشيء بما سوى الواجب ، فنحن ولو كنّا قائلين بأنّه سبحانه شيء بحقيقة الشيئية بخلاف الاشياء كلّها بالعقل والسمع ، لكنّا نقول : المنساق من لفظ الشيء في الآية هو ما سوى الواجب سبحانه. ألا ترى إلى أنّه إذا قيل : «فلان أمير على الناس» لم يفهم منه انّه أمير على من ورائه منهم ، ولم تدخل فيه نفسه ، على أنّ في إدخال الحق سبحانه تحت العموم في عرض الممكنات ، والبناء على أنّه شيء وسائر الممكنات أشياء في عرضها حتّى يرد عليها لفظ العموم ، كلاما غامضا حاصله أنّه : لا ثاني للحقّ سبحانه ولا يعرضه العدد ، فيقال : الشيء الاوّل الحقّ سبحانه والثاني الممكن. ولعلّك تطلع على بيانه ـ إن شاء الله تعالى ـ.

٦٠٧

[في بيان قدرة الله تعالى وإعطائه القدرة للنّاس]

وأمّا فعل قادر آخر فقد اختلفوا فيه ، فالمنسوب إلى الاشاعرة تجويزه بناء على أنّه لا تأثير لقدرة العبد إيجادا ، وأنّ جميع الممكنات مستندة إلى قدرة الله سبحانه ، فالفعل الاختياري للعبد قد تعلّق به قدرة الله تعالى إيجادا وقدرة العبد كسبا ، وإنّما الممتنع تعلّق القدرتين إيجادا ، كذا أورد بعض أفاضلهم. واختلف المعتزلة فيه ؛ فالمنسوب إلى «أبي الحسن البصري» تجويزه مطلقا ، وإلى الجمهور منعه بناء على امتناع قدرة غير مؤثّرة ، فلو كان مقدور بين قادرين لزم اجتماع المؤثّرين على أثر واحد. وأيضا لو أراد أحدهما الفعل والآخر الترك لزم اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما.

والذي نعتقده في المقام أنّه سبحانه قادر على مقدور العبد ، وأنّه إنّما يقدر باقدار الله إيّاه ، وهو فرع قدرته سبحانه ، فلو لا قدرته سبحانه لم يتحقّق للعبد قدرة ، بل لو لا كون الفعل مقدورا له سبحانه ، وكان عاجزا عنه امتنع إعطاء القدرة لمخلوقه عليه ، فانّ عادم الشيء كيف يكون معطيا له ، والوجدان شاهد بأنّ ما لم يدخل تحت سلطنة شيء لا يجوز أن يكون عطاء لغيره منه؟ وأنّ العبد لا حول له عن المعاصي ولا قوة له على الطاعات بل في كلّ شيء إلا بالله ، وأنّه «ما من قبض ولا بسط إلا ولله فيه المنّ والابتلاء والمشيّة والقضاء» كما ورد في الاخبار (١) ،

__________________

(١) مركب من خبرين رواهما الصدوق (ره) في التوحيد ، باب الابتلاء والاختيار ، ص ٣٥٤ ، ح ١ و ٢ ؛ الاول باسناده عن هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ وهو : «ما من قبض ولا بسط الا ولله فيه المن والابتلاء.» والثاني باسناده عن الطيار ، عنه ـ عليه‌السلام ـ وهو : «ما من قبض ولا بسط الا ولله فيه مشية وقضاء وابتلاء». وروى الثاني أيضا البرقي (ره) في المحاسن ، باب ٤٠ من كتاب مصابيح الظلم ، ص ٢٧٩ ، ح ٤٠٣ ؛ ونقله المجلسي (ره) في البحار ، ج ٥ ، باب التمحيص والاستدراج والابتلاء والاختبار ، ص ٢١٦ ، ح ٤ و ٥.

٦٠٨

وأنّهم : «لا يكونون آخذين ولا تاركين إلا باذن الله». كما ورد في خبر إبراهيم بن عمر اليماني عن الصادق عليه‌السلام (١).

وفي رواية حفص عنه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ :

«من زعم أنّ الخير والشرّ بغير مشيّة الله فقد أخرج الله عن سلطانه ، ومن زعم أنّ المعاصي بغير قوّة الله فقد كذب على الله ، ومن كذب على الله أدخله النار» (٢).

وفي رواية هشام بن سالم عنه عليه‌السلام بعد نفي الجبر :

«والله أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد» (٣).

وفي رواية سليمان بن جعفر الجعفري عن الرضا عليه‌السلام :

«إنّ الله عزوجل لم يطع باكراه ، ولم يعص بغلبة ، ولم يهمل العباد في ملكه. هو المالك لما ملّكهم ، والقادر على

__________________

(١) رواه الكليني (رض) في الكافي ، ج ١ باب الجبر والقدر ، ص ١٥٨ ، ح ٥ ؛ والصدوق (ره) فى التوحيد ، باب نفي الجبر والتفويض ، ص ٣٥٩ ، ح ١ ؛ وقد يوجد هذا المعنى أيضا فيما رواه رحمه‌الله في التوحيد ، باب الاستطاعة ، ص ٣٤٩ ، ح ٨ ، باسناده عن اسماعيل بن جابر ، عنه ـ عليه‌السلام ـ ؛ وما رواه الطبرسي (رض) في الاحتجاج ج ٢ ، ص ١٥٨ ، باسناده عن الحسن بن علي بن محمد العسكري ، عن موسى بن جعفر ـ عليهم‌السلام ـ.

(٢) رواه الصدوق (ره) في التوحيد ، باب نفي الجبر والتفويض ، ص ٣٥٩ ، ح ٢ ؛ ونقله المجلسى (ره) في البحار ، ج ٥ باب نفي الجبر والتفويض ، ص ٥١ ، ح ٨٥ ؛ وكذا روى العياشى (ره) في تفسيره عن مسعدة بن صدقة ، عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ مثله كما في البحار ، ج ٥ ، ص ١٢٧ ، ح ٧٩.

(٣) راجع التوحيد ، باب نفي الجبر والتفويض ، ص ٣٦٠ ، ح ٤ ؛ والبحار ، ج ٥ باب نفي الجبر والتفويض ، ص ٥٢ ، ح ٨٧ ؛ وهكذا رواه البرقي (ره) في المحاسن ، باب ٤٩ من كتاب مصابيح الظلم ، ص ٢٩٦ ، ح ٤٦٤ ، بهذا الاسناد عنه ـ عليه‌السلام ـ.

٦٠٩

ما أقدرهم عليه ؛ فان ائتمر العباد بطاعته لم يكن الله عنها صادّا ولا منها مانعا ، وإن ائتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك ، وإن لم يحل وفعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه» (١).

إلى غير ذلك من الاخبار.

وكأن هؤلاء المنكرين لكون فعل العبد مقدورا له سبحانه هم المعنيون بقول الصادق عليه‌السلام المرويّة في التوحيد :

«إن القدرية مجوس هذه الامة ، وهم الذين أرادوا أن يصفوا الله بعدله فأخرجوه عن سلطانه. وفيهم نزلت هذه الآية : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ* إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ»). (٢)

وأمّا ما تشبّثوا به من الوجهين ، فهو كنسج العنكبوت الّذي هو من أوهن البيوت ، نسجها عليهم أهوائهم وآرائهم وشياطينهم ؛ إذ دعوى امتناع قدرة غير مؤثّرة غير بيّنة ولا مبيّنة ، وليس من شرط القدرة فعليّة التأثير ، بل صلاحية التأثير وإمكانه. ثمّ لا يشترط أن تكون مؤثّرة ابتداء ، لم لا يجوز أن تكون مؤثّرة بتوسط إقدار العبد عليه؟ ثمّ اجتماع المؤثرين على الشيء الواحد لم لا يجوز إذا كان أحدهما في طول الآخر بأن يؤثّر أحدهما في إعطاء التأثير والايجاد للمؤثّر الآخر ،

__________________

(١) رواه ـ رحمه‌الله ـ في التوجيد ، باب نفي الجبر والتفويض ، ص ٣٦١ ، ح ٧ ؛ والعيون ، ج ١ ، باب ١١ ، ص ١١٩ ، ح ٤٨ ؛ ونقله المجلسي (ره) في البحار ، ج ٥ ، باب نفي الجبر والتفويض ، ص ١٦ ، ح ٢٢.

(٢) الاية : القمر / ٤٩ ـ ٤٨ ، والحديث في التوحيد ، باب القضاء والقدر ، ص ٣٨٢ ، ح ٢٩ ؛ والبرهان ، ج ٤ ، ص ٢٦١.

٦١٠

بحيث يكون الآخر في ذاته وتأثيره متقوّما بالاوّل ، لا مستقلا مفوّضا إليه الامر؟ وأمّا لو اختلفا في إرادة الفعل والترك ، فأيّهما كان أقدر وقع ما أراده دون الآخر ؛ كسائر المقتضيات المجتمعة المتنافية؟ ففي المقام لا يكون إلا ما أراده الله سبحانه أراد العباد خلافه وكرهوا ما أراده أم لا. ومن أين وأنّى للعبد مغالبة الله سبحانه في قضائه وقدره؟ إلى غير ذلك من جهات الفساد في الدليلين. وستعرف ـ إن شاء الله سبحانه ـ تتمة الكلام في ذلك ، وسبق نبذة منه.

ثمّ اعلم أنّه ربّما يعرض للساعين في تكميل الايمان ودرجات التقوى والمجاهدة رؤيا على طبق هذا المثال الاخير كلا أو بعضا ، بأن يرى الصاعقة أو الرعد أو البرق فقط ، وكأنّه إمارة عدم رسوخ الايمان فيه وبقاء عروق الكفر والنفاق بالاعتبار الاعمّ فيه ، وهو أيضا علامة كونه متعرضا للترقّي في الايمان.

وربّما يلوح له المطر بسحابة أو بدونه ، وكأنّه دليل نزول الرحمة والبركة عليه. ولعلّ إليه الاشارة في الرواية السابقة في شأن التقوى وما يترتّب عليه.

وربّما يرى برقا يكاد يخطف بصره أو بدونه ، وهو مبدء ترقيّه من عالم الظلمة إلى عالم النور.

وربّما يرى رعدا وصاعقة فيدخل في قلبه خوف ودهشة وهو من إمارات نقصانه وعدم مناسبة نفسه لذلك العالم مناسبة تأمّة بعد ، وهو من مقدّمات خروجه عن أنانيّة نفسه وفرعونيّتها ، وحدوث الخشوع والاستكانة لنفسه على الحقيقة لا الصورة فقط.

وربّما يرى الظلمات فقط ، وهو دليل على بعده عن عالم النور ، وعدم تمكّن النور. وثباته دليل على نقصان العبد وبقاء شوائب الظلمة والسمع والبصر المدركين لأمثال ذلك لو شاء الله أذهب بهما ، ولو شاء أبقاهما ، وهو نعمة عظيمة

٦١١

توجب تيقّظ العبد لحاله واهتمامه بأمر نفسه ، وعدم غفلته ومسامحته في السعي والاجتهاد.

هذا ما خطر بالبال في كيفيّة استخراج الاحوال الباطنيّة وتأويل الرؤيا المتعلّقة بالباطن من هذا المثال ، والله العالم بحقيقة الحال.

٦١٢

[تحقيق حول معاني]

[النّداء والعبادة والخلق والتّرجّي]

(يا أَيُّهَا النَّاسُ)

«يعني : سائر المكلّفين من ولد آدم عليه‌السلام». كما ربّما يحكى عن تفسير الامام عليه‌السلام (١).

وفيه ردّ على ما ذكره في الكشّاف (٢) وتبعه غيره من أنّه خطاب لمشركي مكّة ، تعويلا على رواية «علقمة» أنّ : «كلّ شيء نزل [فيه] (يا أَيُّهَا النَّاس) فهو مكي ، و (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) مدني ؛ مع أنّه لا يلزم منه ما فرّعه عليه إلا بتكلّف ، والرواية ضعيفة سندا موهونة متنا بالمخالفة لما هو المنقول في محلّ نزول السور إن أريد بها ظاهرها ، وإن أريد بها تعلّق الخطاب ب (يا أَيُّهَا النَّاسُ) بمشركي مكّة ، سواء كان نزولها بمكّة أو بالمدينة ، فهو مخالف لظاهر لفظ الكتاب المقتضي للشمول لغيرهم أيضا. فالتعميم هو الاولى.

[حقيقة نداء الله سبحانه عباده وكيفيّة تأثير النّداء عليهم]

و «يا» حرف موضوع لنداء البعيد في أصله كما ذكر بعضهم (٣) ولعلّه المشهور ،

__________________

(١) تفسير الامام ـ عليه‌السلام ـ ، ص ٥٢ ، عن علي بن الحسين ـ عليه‌السلام ـ ؛ والبرهان ، ج ١ ، ص ٦٦.

(٢) الكشاف ، ج ١ ، ص ٤٤.

(٣) الكشاف ، ج ١ ، ص ٤٤.

٦١٣

أو لنداء ما ليس بقريب حقيقة أو تقديرا ، لكونه ساهيا أو غافلا أو نائما ، أو لتبعيد المنادى عن ساحة عزّة المنادي هضما واستقصارا ؛ كقول الداعي في جواره : «يا ربّ ، يا الله» ، مع أنّه أقرب إليه من حبل الوريد كما ذكره آخر.

وفي الصحاح : «ان «يا» حرف ينادي به العرب القريب والبعيد ؛ يقول : يا زيد أقبل». وهذا لا ينافي ما قبله ، بل الاوّل أيضا ؛ لانّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة الاصليّة.

ويمكن إرجاع الثاني إلى الاول ، فانّه بعد فرض القريب بعيدا ، وتقديره وتنزيله منزلته باحدى الجهات المتقدمة يعبّر معه ما كان يعبّر به لو كان بعيدا حقيقة ، فيكون نظير الاستعارة على مذهب السكاكي في كونها حقيقة لغوية وإن كان مخالفا للأصل على ما حقّق في محلّه.

ويمكن إرجاع الاول إلى الثاني بتعميم البعد للبعد المكاني وما بمنزلته ؛ ككون المخاطب من وراء حجاب حسيّ أو معنويّ حقيقيّ ، أو اعتباريّ تحقيقيّ أو تنزيلي. ونظير هذين الوجهين يجري في أكثر الحروف ؛ كدلالة «في» على الظرفيّة ، فيجري فيها احتمال اختصاصها بالظرفيّة الحقيقيّة الحسّيّة بحسب الاصل ، وتعميمها لها وللظرفيّة المعنويّة والاعتباريّة والتنزيليّة الفرضيّة ، كما هو أكثر مجاري إطلاقها.

وعلى كلّ حال فكثرة نداء الله سبحانه عباده عموما وخصوصا بهذه الكلمة المنبئة عن بعد ما للمنادى على ما تقدّم ، يحتمل أن يكون للبعد المعنويّ الواقع بين العبد والحقّ ، وأيّ مناسبة بين الحقّ المطلق المستجمع لجميع الصفات الكماليّة ، بحيث لا يشاركه فيها شريك المتوحّد بالتوحيد الذاتيّ والصفاتيّ والافعاليّ بالمعاني المقرّرة في محلّه ، والممكن الّذي ليس له في مرتبة ذاته وفي حدّ نفسه سوى إمكان الشيئيّة بالامكان العقليّ وفاعليّته ، الفقير المطلق في ذاته

٦١٤

ووجوده وأوصافه وتأثيراته لو أثبتناه له بذاته ، وما يتوقّف عليه شيء من أموره ، العادم لكلّ كمال وخير من عند نفسه؟

أو للبعد الحاصل للعبد باعتبار نزوله في العوالم إلى هذا العالم الادنى ، وما ترتّب عليه ، الّذي لعلّه المراد من قوله سبحانه : (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ)(١). أو لاحتجابه عنه سبحانه بغفلته وآماله وأخلاقه وأعماله المظلمة وأنيّة نفسه ، ونومه في مرقد الطبيعة ، وسهوه عمّا يراد منه ، وما شاكل ذلك من أسباب البعد المكتسب ، سوى ما هو من لوازم الكون الدنيوي.

ثمّ إنّه يشبه أن يكون حقيقة النداء والدعاء الّذي ينوب عنه حروف النداء ويؤدى بها هو : طلب توجّه المنادى ـ بالفتح ـ نحو المنادي وإقباله إليه ، وتنبّهه والتفاته إلى جانبه ، وأن يكون حروف النداء مجعولة آلة لانشاء ذلك الطلب ، وسببا لايقاعه ، كما هو الانسب بجملة من كلماتهم ، أو آلة لحصول نفس المطلوب من التوجّه والاقبال في ظرف الواقع ، كما هو الانسب بجملة من مجاري استعمالاتها ؛ كنداء النائم لايقاظه. وبكونها حروفا لا تدلّ على المعاني في أنفسها ، ولو كانت آلات لانشاء الطلب ، لم يظهر فرق بينها وبين «أدعو» و «أنادي» المستعملين في المعنى الانشائيّ ؛ كظهور الفرق بينهما على الوجه الثاني. ونيابتها عنهما باقية بحالها على الوجهين في الجملة وإن كانت على الاول أقوى وأظهر.

وحينئذ فنقول : بناء على ما ذكر يكون حقيقة نداء الله سبحانه لعباده طلبه سبحانه توجّهم إليه ، وإقبالهم نحوه ، وانصرافهم عمّا يلهيهم عن ذكره ويشغلهم عنه إلى جنابه ، ودعائهم إليه. وهو عناية عامّة لجميع الناس على اختلافهم في مراتب القابليّات والاستعدادات.

__________________

(١) التين / ٥.

٦١٥

والناس في قبول النداء والدعاء على مراتب لا تحصى بحسب الصفات الذاتيّة والكسبيّة ومقاماتهم ودرجاتهم. فمنهم : المستغرق في التوجّه ، اللاهي عن نفسه فضلا عن غيره ؛ ومنهم : الناسي لربّه نسيانا أداه ذلك إلى إنساء الله إيّاه نفسه ، حتّى كأنّه إذا سمع أسمائه سبحانه يكاد لا يلتفت بقلبه إلى أنّ لتلك الالفاظ معنى. وبينهما درجات غير محصورة.

وهذا المعنى إذا ظهر في عالم الالفاظ وأظهر بها كان إنشاء للطلب ، كما في لفظ «أدعوا» وحروف النداء على الوجه الاوّل ، وإذا ظهر تأثيره بتوسّط الآلات الحرفيّة كان نداء لهم بها على الوجه الثاني. وإذا نقّحت المناط بين تلك الحروف وغيرها وبين سائر ما يكون آلة لحصول التوجّه والاقبال نحو جنابه إذا أوجدها الحقّ لأجل ذلك ، وحينئذ فيصلح جميع صنائع الله سبحانه من الجواهر والاعراض باعتبار دلالتها العقلية على فاعلها وجاعلها وصانعها ومدبّرها ، وإنّ من شأنها تنبيه النفوس الطاهرة إلى تذكّر ربّها أن تكون نداء منه سبحانه ودعاء لعباده في الكتاب التكوينيّ المطابق للقرآن ، وكذا مناد وداع ينادي ويدعوا إلى الله سبحانه بأمره وإرادته جلّ وعزّ ، لا بارادة نفسه وميل ذاته ، فتبصّر.

ثمّ إنّ هذا الالتفات والتوجّه في العباد الّذي هو المقصود بالنداء شرط تنجّز التكاليف وتوجّه الخطابات اللّبّيّة على المكلّفين كما بيّن في علم الاصول. فيكون تقديم أداته أو طلبه على الوجهين في لفظ القرآن على ما يدل على تلك التكاليف والخطابات مطابقا لمرتبة المعنيين عقلا. وكذا هو مقدّم على الائتمار بتلك الاوامر والتكاليف والتأثّر بتلك المخاطبات وحصول ما هو الغرض من إيراد الكلام بل هو مفتاح جميع الفيوضات والترقيات والكمالات ، كما أنّ الغفلة عن الله سبحانه واللهو عن ذكره مبدء كلّ خسارة وحرمان وشقاء.

ثمّ إنّ في ائتلاف حروف النداء بالاسم المنادى مع ما الحرف عليه من

٦١٦

الضعف ، والاسم عليه من القوّة وصيرورة الحرف حينئذ نائبا عن الفعل إشعار بأنّ العبد الضعيف إذا تحقّق في مقام النداء والدعاء حتّى صار كأنّه كلمة نداء بفنائه عن صفات نفسه وصيرورته محض الاقبال والتوجّه ، يحصل له الفة بالحقّ سبحانه وصلاحيّة لحضرة الربّ وقرب إليه ، وكان في ذلك المقام العالي نائبا عن مقام الفعل الالهي ، وصار مظهرا لافاعيله.

فلا بعد في صدور خوارق العادات والكرامات حينئذ من صاحب هذا المقام ، كما أنّ لما سواه من مراتب الداعين والمتضرعين الفة واختصاص على حسب كمال المعنى فيهم وضعفه ، ولهم نصيب من مقام الفعل باعتبار تأثير دعائهم المستجاب في تغيير الكائنات وانعدام الموجود وحدوث المعدوم.

ثمّ إنّ «أيّ» وصلة إلى نداء ما فيه الالف واللّام ، وهو اسم مبهم يفتقر إلى ما يوضحه ويزيل إبهامه ، فلا بدّ أن يردفه اسم جنس أو ما يجري مجراه وصفا له حتّى يتّضح المقصود بالنداء.

و «ها» حرف تنبيه ، وفي هذا التدرج من الابهام إلى التوضيح. وكلمة التنبيه المقحمة بين الصفة والموصوف الّذي هو والنداء من واد واحد ضروب من التأكيد والتشديد. ولعلّه لأجلها كثر في كتاب الله سبحانه النداء على هذه الطريقة ، إما لبعدهم عن مقام النداء بالبيان المتقدّم ، فلزم التأكيد فيه ، أو لأنّ ما نادى الله سبحانه عباده من التكاليف والعظات والوعد والوعيد والقصص المتلوّة عليهم وغير ذلك ممّا ورد في الكتاب الكريم أمور عظام وخطوب جسام ، عليهم أن يتيقّظوا لها كمال التيقظ ، ويصرفوا قلوبهم وبصائرهم إليها كمال الصرف ، فكأنّ التأكيد هو المقتضي للحال.

٦١٧

ثمّ اعلم أنّ حقيقة نداء الحقّ سبحانه الناس يقع عليهم على حسب درجاتهم في كمال الانسانيّة وضعفها ، فكلّ من كان أكمل في الانسانيّة كان أخصّ بالنداء ، وكان أشدّ تأثّرا من النداء ، وظهور أثره عليه أكثر ، واختصاصه بالمخاطبة أشدّ. و «إنّما يعرف القرآن من خوطب به» كما ورد في الرواية (١) فربّما يصحّ القول بأنّ كلّ ذي مقام من المقامات له مرتبة من مراتب مخاطبات القرآن على قدر ما يسعه بصيرته وإدراكه إلى أن يصل إلى مقام الانسان الكامل من جميع الوجوه ، فهو المخاطب بالمجموع العارف به.

وببالي أنّه ورد في الاخبار أنّه : «ما كان الله ليخاطب الناس بما لا يعلمون» أو قريبا من ذلك. والاعتبار والاستبصار يشهدان على اختصاص كلّ منهم على مقدار قابليته. وكيف يصحّ مخاطبة من ليس من شأنه إدراك الخطاب بين المتخاطبين؟

وأمّا ما اشتهر بين الاصوليين منّا وثلة من العامّة من اختصاص الخطابات الشفاهيّة القرآنيّة بالموجودين في ذلك العصر ، بل بالحاضرين دون الغائبين عند جماعة منهم ، فهو على تقدير تسليمه منزل على اختصاص صوريّ لصورة المخاطبة اللفظيّة الظاهريّة ، لا اختصاص الخطاب الواقعيّ وحقيقة القرآن بهم ، مع انعدام ما يوجب التفرقة. ويشهد له ما ورد في الاخبار قوله عقيب مواضع من ألفاظ القرآن ، كقول : «لبّيك ربّنا» إذا مرّ ب (يا أَيُّهَا النَّاسُ) و (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) على ما رواه الشيخ عن الصادق عليه‌السلام (٢) بطريق لا يخلو عن اعتبار وغير ذلك.

__________________

(١) قد تقدمت فى المقدمات ، فراجع.

(٢) تقدم سابقا.

٦١٨

(اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)]

عن تفسير الامام عليه‌السلام في الآية عن السجّاد عليه‌السلام :

«أطيعوا ربكم من حيث أمركم أن تعتقدوا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ولا شبيه له ولا مثل ؛ عدل لا يجور ، جواد لا يبخل ، حليم لا يعجل ، حكيم لا يخطل (١) ، وأنّ محمّدا عبده ورسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله الطيبين ـ ، وأنّ آل محمّد أفضل آل النبيين ، وأنّ عليّا أفضل آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ أصحاب محمّد المؤمنين منهم أفضل أصحاب المرسلين ، وأنّ أمّة محمّد أفضل أمم المرسلين.

ثمّ قال عزوجل : (الَّذِي خَلَقَكُمْ) ؛ اعبدوا الّذي خلقكم من نطفة من ماء مهين فجعله في قرار مكين ، إلى قدر معلوم ، فقدرنا فنعم القادرون العالمون» (٢).

ثمّ عنه أيضا :

«قوله : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي : اعبدو [ه] بتعظيم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، والذي خلقكم نسما وسوّاكم من بعد ذلك ، وصوّركم أحسن صورة.

ثمّ قال عزوجل : (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ، قال : وخلق الذين من قبلكم من سائر أصناف الناس» (٣).

__________________

(١) الخطل ـ بالتحريك ـ : المنطق الفاسد المضطرب ، يقال : خطل في منطقة خطلا : أخطأ.

(٢ و ٣) تفسير الامام ـ عليه‌السلام ـ ، ص ٥٢ و ٥٥ ؛ والبرهان ، ج ١ ، ص ٦٦ ـ ٦٧.

٦١٩

[في أنّ ربوبيّة الله توجب العبوديّة]

أقول : قد مرّ ذكر تفاصيل في العبادة والعبوديّة في كلمة الجلالة وفي قوله سبحانه : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ، وأنّ من جملة أغصانه الاطاعة بمعنى امتثال الامر بالاتيان بالمأمور به على وجهه ، ومن جملة الوجوه المغيّرة في العبادات في الجملة الاسلام والايمان المشتمل على الولاية على التفصيل المذكور في محلّه ، والظاهر اعتبار ما زاد على القدر اللازم من الاعتقادات أيضا في كمالها وإن لم يكن معتبرا في صحّتها.

وقد مرّ أنّ أصل العبوديّة هو الخضوع مطلقا أو أقصى مراتبه ، والخضوع للحقّ تعظيم له سبحانه كما أنّ تعظيمه سبحانه خضوع له ، وتعظيم الرسول والامام من حيث كونهما رسولا له سبحانه وإماما من قبله ، ومن حيث سائر جهات ربطهما إلى الحقّ تعظيم له سبحانه ، كما أنّ مطلق تعظيم شعائر الله سبحانه تعظيم له جل وعز.

ثمّ إنّه يشبه أن يكون ذكر اسم الربّ مضافا إلى المخاطبين إشارة إلى أن ربوبيّته سبحانه موجبة لعبادته لا شعار تعليق الحكم على الوصف المناسب بعلّيته لذلك الحكم.

وبيانه أنّ الربوبيّة تقتضي مقابلتها بالعبوديّة ، والقيام بوظائفه شكرا للنعم الّتي أعطيت ، والمضارّ الّتي دفعت سابقا ، وخوفا من الحرمان من النعم في المستقبل ، وأخذ ما أولاه وهو في الحال واجد له ، ومن تركه دفع ما يفسده ويضره فيما بعد ، ومن إيراد البلايا والآفات عليه ، ورجاء لابقاء ما أعطاه ، وإعطاء أمثال ما عوده من الاحسان ، وللزيادة عليها وتكميل الاحسان إليه ، وحبا لربه الذي أحسن إليه من كلّ جهة ولم يخل في طرفة عين من نعمه التي إن

٦٢٠