مجد البيان في تفسير القرآن

آية الله الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي

مجد البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٣

في العقبى ، وللصيانة درجات من التحرّز عن المعلوم والمظنون والمشكوك والموهوم وما يقرب من حمى المضرّات حذرا من الوقوع فيها انقسمت التقوى إلى درجات كثيرة ، حتّى وصف المتّقون في خطبة نهج البلاغة (١) بصفات كثيرة ربّما يعزّ المتصف بها وجودا.

ولا يبعد أن يكون أوّل درجات التقوى في لسان الشرع هو اجتناب الكفر والكبائر ، والاصرار على الصغائر ، وآخره ما يتلو مرتبة المعصومين عليهم‌السلام ، أو نفس مرتبتهم عليهم‌السلام ، فانّهم أصل التقوى.

ثمّ لمّا كانوا عليهم‌السلام أصول شجرة التقوى وحقيقة التقوى الظاهرة في العالم في صورة الانسان ، ومشتملين على جميع شؤون التقوى ، بحيث لا يخرج عن مقامهم شيء من شعب التقوى ، وكانوا هم الدعاة إلى التقوى ، كان التابع لهم المشايع لهم في ذلك ، المجيب لهذه الدعوة الّتي صدرت منهم عليهم‌السلام متّقيا على حسب مشايعته ومتابعته واستجابته.

ولعلّه لذلك فسّر المتّقون بالشيعة في تلك الرواية خصوصا مع توصيفهم في تفسير الامام عليه‌السلام بالتقويات الاربع ، المشعر بأنّها العلّة في كونهم المتّقين ، وجميع المراتب الاربع مندرجة تحت الجامع الّذي ذكرناه.

وأما ما ذكر في الفقرة الاولى من أخذ التقوى من تسليط السفه على أنفسهم فلعلّه بيان لوجه إدخال الاتيان بالواجبات في التقوى ، مع أنّ التقوى منحصر بالوقاية عمّا يضرّ ، فلا يشمل تحصيل ما ينبغي تحصيله من أخذ رفع مانعها ، الّذي هو السبب في تركها في التقوى ، فيلازم وجودها بعد انحصار السبب للترك في التسليط المذكور غالبا أو دائما ، وبيان لأنّ التقوى لا ينحصر بمقام العمل ، بل تقوى القلب عن تسلّط السفاهة عليه أيضا داخل في التقوى ، بل تقوى القلب هو

__________________

(١) إشارة إلى خطبة الهمام (ره) وغيرها من كلامه عليه‌السلام.

٤٠١

الاصل في تقوى الجوارح ؛ إذ أعمال الجوارح تابعة لأحوال القلب ؛ قال سبحانه :

(وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ.)(١)

ثم إنّهم ذكروا (٢) في وجه اختصاص الهدى بالمتّقين مع أن المتقين مهتدون : إرادة الزيادة إلى ما هو ثابت فيهم ، أو تسميتهم عند مشارفتهم لاكتساء لباس التقوى متّقين من باب مجاز المشارفة. ولم يقل للضالّين ، لأنّهم فريقان : فريق علم بقائهم على الضلالة ، وهم المطبوع على قلوبهم ، وفريق علم مصيرهم إلى الهدى ، فلو جيء بالعبارة المفصحة عن ذلك لقيل هدى للصابرين إلى الهدى بعد الضلال ، فاختصر الكلام بإجرائه على الطريقة الّتي ذكرناه ، فقيل : هدى للمتّقين.

وهذا مبنيّ على كون الايصال إلى البغية معتبر [ا] في الهدى ، كما هو مذهب الموجّه. (٣)

وقيل : إنّ التخصيص لأنّهم المنتفعون به بالهداية ، فخصّوا بالذكر مدحا لهم ، ولكلّ وجه بحسب النظر الظاهري في تفسير اللّفظ.

ولعلّ الاولى أن يجعل ذلك إشارة إلى الهداية الحاصلة من القرآن للمتقين عقيب تحصيل التقوى ، والسعي في تكميلها ، إذ هو مقتضى تعليق الحكم على الوصف المشعر بكونه علّة لذلك الحكم ، وسلامته عن جملة ممّا مرّ ونظائرها ، ولدلالة جعل الوصف متعلّقا للحكم على نفيه عند انتفائه على مذهب جماعة من الاصوليين وإشعاره به ، ودلالته عليه بمعونة الخصوصيّات كما هو المختار.

وحينئذ فالمناسب أن يكون هدايته الحقيقية الباطنيّة بقدر مراتب التقوي

__________________

(١) الحج / ٣٢.

(٢) الكشاف ، ج ١ ، ص ٢٠.

(٣) راجع الصافي ، ج ١ ، ص ٥٨ ؛ ومجمع البيان ، ج ١ ، ص ٣٦ ؛ وأنوار التنزيل ص ٨.

٤٠٢

كلّما ازداد التقوى ازداد كونه هدى ، وهو الظاهر من حال القرآن بالنسبة إلى أهل التقوى الحقيقيّ. ولعلّهم المرادون بالشيعة في تلك الاخبار المفسّرة كما يقوّيه ملاحظة ما ورد من الاخبار في صفات الشيعة ، وأنّه ليس عامّا لكلّ من أظهر كلمة الولاية كما يظنّه الناس ، فراجع.

وربّما يستفاد هذا المعنى من آيات عديدة ؛ كقوله سبحانه : (هُدىً وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ.)(١) وقوله تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ* يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ.)(٢)

إلى غير ذلك من الآيات الّتي يأتي في مواضعها ـ إن شاء الله تعالى ـ.

وقد مرّ سابقا بيان إجمال بعض مراتب الهدايات القرآنيّة للمتّقين على درجاتهم في أوّل الكتاب فراجع.

وأمّا وصف القرآن بأنّه هدى للناس في الآية الاخرى ، فلعلّه باعتبار المعنى الظاهريّ من الهداية الصوريّة الشأنيّة ، أو باعتبار شأنيّتهم للاهتداء به بتحصيل التقوى أوّلا.

__________________

(١) كذا في المخطوطة ، وكتب فوقه «ظ». وليس هذه الفقرة بعينها موجودة في القرآن ، ولعلّ الصحيح : «هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ» (البقرة / ٩٧ والنمل / ٢) أو : «هُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ» (النحل / ١٠٢) أو : (بُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) (الاحقاف / ١٢).

(٢) المائدة / ١٥ ـ ١٦.

٤٠٣

[بحوث حول الايمان والغيب]

(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)

عن تفسير الامام عليه‌السلام :

«وصف هؤلاء المؤمنين الّذين هذا الكتاب (١) هدى لهم ، فقال : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) ، يعني : ما غاب عن حواسّهم من الامور الّتي يلزمهم الايمان بها ؛ كالبعث والحساب ، والجنة والنار ، وتوحيد الله ، وسائر ما لا يعرف بالمشاهدة وإنّما يعرف بدلائل قد نصبها الله تعالى دلائل عليها ؛ كآدم وحوّا وإدريس ونوح وإبراهيم ، والانبياء الّذين يلزمهم الايمان بهم بحجج الله تعالى وإن لم يشاهدوهم ويؤمنون بالغيب ، وهم من الساعة مشفقون.» (٢)

وفي تفسير القمّي قال :

«يصدّقون بالبعث والنشور ، والوعد والوعيد.» (٣)

وعن ابن بابويه باسناده عن الصادق عليه‌السلام في قوله عزوجل : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) قال :

«من آمن بقيام القائم ـ عجّل الله تعالى فرجه الشريف ـ

__________________

(١) في المخطوطة : «القرآن».

(٢) تفسير الامام ـ عليه‌السلام ـ ، ص ٢٤ ؛ والبرهان ، ج ١ ، ص ٥٦ ، ح ١١.

(٣) القمى ، ج ١ ، ص ٣٠ ؛ والبرهان ، ج ١ ، ص ٥٦ ؛ ونور الثقلين ، ج ١ ، ص ٣١ ، ح ١٠.

٤٠٤

أنّه حقّ.» (١)

وعن نسخة : «من أقرّ بقيام ...»

وعنه عليه‌السلام في الرواية المتقدّم صدرها عن يحيى بن أبي القاسم :

«والغيب فهو الحجّة الغائب ، وشاهد ذلك قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ.)» (٢)

وعنه باسناده عن جابر بن عبد الله الانصاري ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث يذكر فيه الائمّة الاثنى عشر وفيهم القائم ـ عجّل الله تعالى فرجه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«طوبى للصابرين في غيبته ، طوبى للمقيمين على محبّته (٣) ، اولئك من وصفهم الله في كتابه ، فقال : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) ثمّ قال : «أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الغالبون.» (٤)

أقول : الايمان إفعال من الامن ، وهو يتعدّى بنفسه إلى مفعول واحد ، فاذا عدّي بالهمزة عدّي إلى مفعولين ، تقول : أمنته غيري بمعنى : جعلته ذا أمن منه. ثمّ تعدّى فقيل : آمنه إذا صدّقه ، وحقيقته أمنه التكذيب والمخالفة ، وهو

__________________

(١) راجع المصادر المذكورة في تعليقة ١ ، ص ٣٩٨.

(٢) نفس المصادر ؛ والاية : يونس / ٢٠.

(٣) في كفاية الاثر والبحار : «محجتهم» ، وفي البرهان : «محبتهم».

(٤) كما في البرهان ، ج ١ ، ص ٥٤ ، ح ٦ ؛ وهكذا رواه الخزاز القمي (ره) في كفاية الاثر ، باب ما جاء عن جابر ، ص ٦٠ ؛ والمجلسي (ره) في البحار ، ج ٣٦ ، باب نصوص الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ عليهم ـ صلوات الله عليهم ـ ، ص ٣٠٤ ، ح ١٤٤ ، وج ٥٢ ، باب فضل انتظار الفرج ، ص ١٤٣ ، ح ٦٠.

٤٠٥

فيه حقيقة لغويّة وإن كان أصله مأخوذا من غيره ، وتعديته بالباء لتضمينه معنى أقرّ واعترف. وربّما يمكن إطلاق ما آمنت على معنى ما وثقت ، وحقيقته صرت ذا أمن به ، أي : ذا سكون وطمأنينة ، كذا ذكروه.

وقد سبق أنّ الشكّ موجب لقلق النفس واضطرابه ، واليقين باعث لسكونه فيمكن كون الايمان بمعنى التصديق باعتبار أنّه سكن نفسه وصيّره ذا طمأنينة وأمن من طرف المؤمن به ، فارتفع به القلق والاضطراب عن النفس ، كما يؤيّده إطلاق الريب على الشك كما قدمنا. ويوافقه المعنى الاخير إلا في التعدية واللزوم بل يصحّ جعله متعدّيا ؛ إذ الاصل فيه حكاية أبي زيد عن العرب : ما آمنت أن أجد صحابة ؛ أي : أصحابا أسافر معهم ، ويصحّ أن يؤخد متعدّيا إلى المفعولين بمعنى : إنّي ما آمنت نفسي من طرف وجدان الصحابة من دون حاجة إلى إرجاع باب الافعال إلى صيرورته ذا أمن.

وحينئذ فالايمان الدالّ على الامن مقابل الريب الّذي هو قلق النفس واضطرابها في إطلاقهما على التصديق والشكّ الشائعين على معناهما الاصليّ.

وربّما يؤيّد ما ذكرنا ما نقل من حديث «رفاعة» :

«أتدري يا رفاعة لم سمّي المؤمن مؤمنا؟ قال : لا أدري ، قال : لأنّه يؤمن على الله فيجيز أمانه.» (١)

__________________

(١) لم نعثر عليه بهذا الاسناد ، ولكن نقله الصدوق (ره) في العلل ، ج ٢ ، باب ٣٠٠ ص ٥٢٣ ، عن المفضل بن عمر ، عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ ؛ والبرقي (ره) في المحاسن ، باب ٥٦ من كتاب الصفوة والنور والرحمة ، ص ١٨٥ ، ح ١٩٣ ، عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ ؛ وكتاب العلل ، ص ٣٢٩ ، عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ ؛ والطوسي (ره) في الامالي ، ج ١ ، ص ٤٦ ، عنه ـ عليه‌السلام ـ ؛ والمجلسي (ره) في البحار ، ج ٦٧ ، باب فضل الايمان وجمل شرائطه ، عن مشكاة الانوار وقضاء الحقوق عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ.

٤٠٦

وببالي أنّه ورد في روايات أخر قريبة منه أيضا ، وذلك باعتبار أخذ الايمان من جعل الامن للغير ، ولعلّه للمؤمن الكامل باعتبار إكماله إيمانه نفسه حتّى صار يؤمن غيره ، ويصيرون ذا أمن به.

فالظاهر حينئذ أخذ الايمان في لسان أهل الشرع بهذا المعنى ، وأن يكون هذا هو الاصل في الّذي نقل الاتّفاق من الكلّ عليه من أنّ الايمان لغة عبارة عن التصديق المطلق ، وما اشتهر بينهم ظاهرا من جعل الايمان في الشرع عبارة عن تصديق بأمور مخصوصة على الاختلاف الشديد الواقع فيه بين طوائف المسلمين ، كما أنّه اختلف إطلاق اللّفظ في الكتاب والسنّة بحسب الظاهر ، وأثبت بعض المحدّثين له معان وإطلاقات متعدّدة.

[أقسام الايمان على ما في تفسير القميّ]

وذكره القميّ هيهنا أنّ :

«الايمان في كتاب الله على أربعة وجوه (١) ، فمنه : إقرار باللسان قد سمّاه الله إيمانا. ومنه : تصديق بالقلب ، ومنه : الاداء ، ومنه : التأييد ... ـ وأورد للأوّل ـ قوله تعالى :

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً* وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَ ـ إلى قوله : ـ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً.» (٢)

قال : فقال الصادق عليه‌السلام : «لو أنّ هذه الكلمة قالها أهل المشرق وأهل المغرب لكانوا بها خارجين من الايمان ، ولكن قد سمّاهم الله مؤمنين باقرارهم.» (٣)

__________________

(١) خ. ل : «أوجه».

(٢) النساء / ٧١ ـ ٧٣.

(٣) رواه أيضا العياشي (ره) في كتابه كما في الصافي ، ج ١ ، ص ٣٧٠.

٤٠٧

وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ.)(١).

 ـ وأورد للثاني ـ قوله تعالى :

(الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ* لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ.)(٢) يعني : صدّقوا.

وقوله : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى)(٣) أي : لا نصدّقك.

وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي : يا أيّها الّذين أقرّوا وصدّقوا. ـ ثمّ قال : ـ

فالايمان الخفيّ (٤) هو التصديق ، وللتصديق شروط لا يتمّ التصديق إلا بها.

وقوله : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ.)(٥) ـ ثمّ قال : ـ فمن أقام بهذه الشروط فهو مؤمن مصدّق ـ ثمّ قال : ـ

وأمّا الايمان الّذي هو الاداء ، فهو قوله تعالى لمّا حوّل الله قبلة رسوله إلى الكعبة قال أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يا رسول الله ، فصلاتنا إلى بيت المقدس بطلت؟» فأنزل الله تبارك وتعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ)(٦) فسمّى الصلوة

__________________

(١) النساء / ١٣٦.

(٢) يونس / ٦٣ ـ ٦٤.

(٣) البقرة / ٥٥ ، وفيها : «وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ ...».

(٤) خ. ل : «الحق».

(٥) البقرة / ١٧٧.

(٦) البقرة / ١٤٣.

٤٠٨

إيمانا. ـ ثمّ قال : ـ

والوجه الرابع من الايمان وهو التأييد الّذي جعله الله في قلوب المؤمنين من روح الايمان ، فقال : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ.)(١) ـ ثمّ قال : ـ

والدليل على ذلك قوله عليه‌السلام : «لا يزني الزاني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق وهو مؤمن ، يفارقه روح الايمان ما دام على بطنها ، فاذا قام عاد [إليه].

قيل : وما الّذي يفارقه؟ قال : الّذي يدعه في قلبه ـ ثمّ قال عليه‌السلام : ـ ما من قلب إلا وله أذنان علي أحدهما ملك مرشد ، وعلى الآخر شيطان مفتن ، هذا يأمره وهذا يزجره.» (٢) ـ ثم قال : ـ

ومن الايمان ما قد ذكره الله في القرآن «خبيث» و «طيب» ، فقال : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ). (٣) فمنهم من يكون مؤمنا مصدّقا ، ولكنّه يلبس ايمانه بظلم ، وهو قوله : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ.)(٤) فمن كان مؤمنا ثمّ دخل في المعاصي الّتي نهى الله عنها فقد لبس إيمانه بظلم ، فلا ينفعه الايمان حتّى يتوب إلى الله من الظلم الّذي لبس إيمانه ، حتّى يخلص لله إيمانه ـ ثمّ قال : ـ فهذه وجوه الايمان

__________________

(١) المجادلة / ٢٢.

(٢) قد أورد المجلسي (ره) كثيرا من الروايات التي يقرب من هذه الحديث وفقراته في باب السكينة وروح الايمان من مجلد ٦٩ ، وباب القلب وصلاحه وفساده من مجلد ٧٠ من كتابه ، فراجع.

(٣) آل عمران / ١٧٩.

(٤) الانعام / ٨٢.

٤٠٩

في كتاب الله.» (١) انتهى.

والظاهر من حاله أنّه أخذه من الروايات المتفرّقة ، أو هو رواية واحدة ، وربّما ينسب أصل كتاب تفسيره إلى الصادق عليه‌السلام ، كما أورد هذه النسبة السيّد البحراني في تفسير البرهان. (٢)

والذي يظهر لي في المقام أنّ الايمان ليس له معان متعدّدة متباينة على سبيل الاشتراك اللّفظي ، كما ربّما يلوح من بعض ، ولا هو أمر واحد لا يقبل التفاوت والتشكيك والكمال والنقص ، كما ربّما يظهر من بعض ، ولا هو ذو شأن واحد لا يتعدّاه إلى غيره ، كما هو ظاهر كثير ، ولا هو عبارة عن مجموع عدة أمور مختلفة متباينة في محالّ مختلفة ، يسمّى ذلك المجموع من حيث المجموع إيمانا ، بحيث ينتفي اسم الكلّ بانتفاء البعض ، كما ربّما يظهر من جماعة ، بل الظاهر الّذي يجمع به بين الاطلاقات المختلفة ، والاخبار المترائى بينها التعارض أنّ لفظ الايمان باق على معناه الاصلي ، لكنّه اختصّ باعتبار متعلّقه ، فهو عبارة عن إيمان الانسان نفسه من طرف الحقّ سبحانه ، وإزالة القلق والاضطراب بحصول السكون والثقة والامن له من طرف الحقّ بقبوله الحقّ ، وأمنه التكذيب والمخالفة. وحينئذ فلشجرة الايمان أصل هو المعرفة والاعتقاد بدرجاتها المقابل للشكّ ، وقبوله ذلك المعرفة في مقابل الجحود القلبي والإباء النفساني على درجات القبول في تماميّة الرسوخ في النفس وعدمه ؛ ولها أغصان باعتبار التأثّر بمقتضى ذلك المعرفة ،

__________________

(١) القمي ، ج ١ ، ص ٣٠ ؛ والبحار ، ج ٦٨ ، باب الفرق بين الايمان والاسلام ، ص ٢٧٣ ، ح ٣٠ ؛ والبرهان ، ج ١ ، ص ٥٦.

(٢) قال (ره) في أول تفسيره : «ثم إن لم أعثر في تفسير الآية من صريح رواية مسندة عن أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ ذكرت ما ذكره الشيخ أبو الحسن علي بن ابراهيم ، الثقة في تفسيره ؛ إذ هو منسوب إلى مولانا وإمامنا الصادق ـ عليه‌السلام ـ ...».

٤١٠

وظهور آثارها في القلب بحدوث الحالات النفسانية الّتي تقتضيها تلك المعرفة وارتفاع أضدادها على درجاتها الغير المتناهية ، ولها ثمرات وفروع يترتّب عليها من فعل ما تقتضي تلك المعرفة فعله ، وترك ما تقتضي تركه على اختلاف الافعال والتروك في قوّة الاقتضاء وضعفه بحسب مرتبتها.

فهذه مراتب أربعة ، فله شأن في مقام الاعتقاد ، وشأن في مقام القبول ، وشأن في مقام الحالات والاخلاق والملكات ، وشأن في مقام العمل ، ونسبة كلّ سابق إلى لاحقه كنسبة الاصل للفرع ، والبذر للزرع ؛ إذ الاعتقاد هو المؤثّر في القبول فما بعده ، والقبول فرع الاعتقاد الّذي هو المقبول ، وسبب لانبعاث الحالات النفسانيّة الموافقة لتلك المعرفة عنه ، وتلك الحالات هي مبدء الافعال والتروك الخارجيّة.

ومثاله مثال من أخبر بمجىء أسد في مكانه ، فايمانه بالمخبر والخبر اعتقاد صدقه وقبول كلامه. فاذا اعتقد وقبل أثرا في حقّه خوفا من الاسد ، وطلب هرب من المكان الّذي تعرض له الاسد ، ولو لا الاعتقاد والقبول لم يخف ولم يطلب الهرب ، وإذا خاف واشتاق إلى الهرب هرب بارادته المنبعثة عنهما. وحينئذ فقد كمل إيمانه بالمخبر حيث أمنه التكذيب والمخالفة ، وجعل نفسه ذا أمن من الشك والاضطراب في الصدق والكذب بقبوله خبره اعتقادا وحالا وعملا.

فمثل هذا المؤمن في المقام مؤمن حقيقة ، وبقدر الكمال في تلك الشؤون يكون كمال الايمان وضعفه ، وإذا انتفت أحدها فان كان المنتفي هو الاول والثاني انتفت الايمان ، كما ينتفي الشجرة بانعدام أصله ، أو ساقه الكبير المتصل بالاصل. وإن كان الثالث أو الرابع فلا ينتفي أصل الشجرة ، وإنما ينعدم كماله فهو شجرة ناقصة ؛ إذ كان بلا غصن ، أو بلا ثمرة. وسقوط كل واحد من الاغصان والثمرات ينتقص شجرة الايمان ، وبكماله يكمل ، ولا ينفع الاغصان والفروع لو فرض وجودهما

٤١١

أو شيئا منها صورة بدون الاصل ؛ إذ ليس هو شجرة بل هو يشبه الشجرة وليس منها فهو نفاق ، أو تكلّف ، أو تصنّع ، أو رياء وسمعة ، بل ليس غصنا وفرعا بعد انتفاء الاصل والساق ، وإن اشتبه بهما للتشاكل والتشابه.

وحينئذ يترتب عليه أحكام المؤمن في الدنيا ما لم يظهر الحال لقيام الدنيا بالصور ، ويضمحلّ في الآخرة لظهور الحقائق فيها.

ثم إن للّسان خصوصية التعبير اللّفظي عن الاعتقاد والقبول الباطنيين وهو الاقرار بالحق ، وهو الايمان اللّفظي ، فالايمان مبثوث على أجزاء الانسان وجوارحه كما ورد في الاخبار (١) ، وهو بمنزلة الانسان المشتملة على الاعضاء الرئيسة وغيرها من الاصول والفروع والمكملات والمحسنات والمزينات. وكما أن شيئا من تلك الامور لا يخرج عن الانسان وإن كان لا ينتفي الانسان بانتفاء أكثره ، وينتفي بانتفاء الاعضاء الرئيسة ، كذلك لا يخرج شيء من المراتب عن الايمان وإن لم ينتف إلا بانتفاء البعض ، ولكنّه ناقص بنقصان البعض ؛ كالانسان المقطوع الاعضاء.

ويشبه أن يكون عبادة كلّ جارحة بازاء نفس ذلك العضو من الايمان ، فيكون عبادة القلب من المعرفة والقبول الّذي هو عقد القلب قلبا للايمان ، وعبادة الدماغ دماغا للايمان ، والعين عينا له ، وهكذا ؛ إذ الاصل في عبادة كل جارحة أن يكون تابعة لتلك الجارحة شرفا وخساسة. فالايمان المبثوث على كل جارحة هو تلك الجارحة بعينها من جوارح الايمان ، وهذه المراتب كلّها أجزاء لبدن الايمان كالاجزاء المحسوسة من الايمان ، وله روح يسمّى روح الايمان ، وقد تكرر في

__________________

(١) كالرواية الطويلة التي أورده الكليني (ره) في الكافي ، ج ٢ ، باب في أن الايمان مبثوث لجوارح البدن كلها ، ص ٣٣ ، ح ١ ، عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ ؛ والنعماني (ره) في تفسيره عن الصادق ، عن أمير المؤمنين ـ عليهما‌السلام ـ كما في البحار ، ج ٩٢ ، باب ما ورد في أصناف آيات القرآن ، ص ٤٩ ، فراجع.

٤١٢

الاخبار ذكره ، وقد مرّ في عبارة القمي ذكر بعضها على الظاهر المنساق من العبارة من كونه رواية.

وحينئذ فيشبه أن يكون نسبته إلى ذلك الجسد المفروض نسبة روح الانسان إلى جسده ، وهو من أعظم مواهب الله سبحانه لمن يشاء من عباده ، كما أن إعطاء الروح لجسد الانسان أعظم مواهب الانسان.

ويشبه أن يكون طريق تحصيله تكميل الجسد ، فيكون معدا لحصول الروح فيه من طرح الحق ، كما أنّ كمال الجسد في الحيوان معدّ لنفخ الروح فيه ، وكما يكون الحيّ حيّا بالروح ، كذلك المؤمن حياة إيمانه بذلك الروح. ولعلّ تلك الحياة الايمانية المعنوية هو المراد بالحياة الطيبة في قوله سبحانه : (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً)(١).

وهذا كلام إجمالي في الايمان بقول مطلق ، ولعل كثيرا من التفاصيل تذكر متفرقة في المواضع المناسبة ـ إن شاء الله تعالى ـ.

[في أنّ الغيب هو الامام الغائب ـ عجّل الله تعالى فرجه الشّريف ـ]

ثم الظاهر أن قوله تعالى : «بالغيب» صلة للايمان ، فيكون هو المؤمن به ، وإن أمكن كونه في موضع الحال ، أي يؤمنون ملتبسين بالغيب ، أي : غائبين عن المؤمن به ، أو عن الناس خلاف المنافقين ، المظهرين للايمان في حضور المسلمين فقط ، فيكون نظير قوله تعالى : (يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ)(٢) وقوله : (لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ)(٣) على الظاهر فيهما. وعلى الاول فالظاهر أن المراد بالغيب كلّما غاب عن الحواس ، وخفي عن المدارك البشرية مما يتعلّق به الايمان من معرفة المبدء والمعاد

__________________

(١) النحل / ٩٧.

(٢) الانبياء / ٤٩ ؛ وفاطر / ١٨ ؛ والملك / ١٢.

(٣) يوسف / ٥٢.

٤١٣

وتفاصيلهما ، ونبوة الانبياء ، وإمامة الائمة عليهم‌السلام إلى غير ذلك من الامور الغائبة عن الحواس ، كما يشهد له ما في تفسير الامام عليه‌السلام (١) ، ويندرج فيه ما في تفسير القمي (٢) ، وما ورد في الاخبار الاخيرة من إرادة الايمان بالقائم ـ عجل الله تعالى فرجه ـ أو بقيامه (٣).

ولعلّ وجه التخصيص في تلك الاخبار أنه أكمل أفراد الايمان بالغيب ، الّذي هو صفة جيء في مقام المدح على أحد الوجوه في تركيب الموصول. وحينئذ فهو يشعر بكون عنوان الايمان بالغيب من حيث أنه ايمان بالغيب مدحا ، فكلّما ازداد الايمان أو جهات الغيبوبة في المؤمن به كان أكمل. ولا ريب أنّ الايمان بامامة الامام الغائب وقيامه مع سائر الغيوب المتعلّقة للايمان أولى بصدق الايمان بالغيب من المؤمن بالامام الحاضر ، فهو المستحق للمدح الكامل ، ولان يقال له : طوبى ، كما في الخبر الاخير ، فهو أكمل أفراد الموصوفين بالآية.

ولك أن تقول : إنّ الامام لما كان مرآتا للمعارف الايمانية كلّها ، فحضوره كأنه حضور جميع ما يتعلّق به الايمان ، وغيبته غيبتها ، فالايمان بالامام الغائب هو الايمان بالغيب.

ويمكن أن يقال : إن الظاهر من الغيب هو الامر الموجود الخفي ، الّذي يمكن له فرض الحضور ، ومن شأنه ذلك ، فلا ينصرف إلى الحق ؛ إذ ليس من شأنه الحضور بالمعنى العرفي ، ولا أمور القيامة ؛ إذ ليست هي موجودة الآن في هذا العالم وإن وجدت الجنة والنار ، ولا النبوة وإمامة الامام الحاضر لانتفاء شأنية الحضور للوصفين ، والمفروض مشاهدة الموصوف أو ارتحاله إلى عالم آخر ليس له شأنية الحضور عند الناس. فالفرد الظاهر من الايمان بالغيب هو الايمان بالنبيّ

__________________

(١ و ٢ و ٣) تقدم كلها في أول هذا الفصل ، فراجع.

٤١٤

والامام الغائب عن أمته وعن رعيته. ولمّا لم يغب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن أمته مدة حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا يعدّ الموت غيبة عند العرف الشائع ، انحصر في الايمان بالامام الغائب فيكون الآية بهذه الملاحظات ناظرة بأحد جهات معناها إلى ذلك ، ويكون الغرض من تلك الاخبار بيان ذلك الجهة.

وأما الاستدلال بالآية الاخرى على ذلك ، فلعلّه باعتبار دلالته على أنّ الغيب زمان ظهور الآيات ، والامر بانتظاره ، وظهور الآيات الغيبية المنتظرة هو زمان قيام القائم ـ عجل الله تعالى فرجه ـ ، بل هو زمان ظهور الغيب الّذي هو لله في عالم الشهادة ، وصيرورة عالم الشهادة تابعة لعالم الغيب ، فتبصّر.

[في معنى إقامة الصّلاة]

(وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ)

إقامة الصلاة على ما ذكره جماعة : «تعديل أركانها ، وحفظها من أن يقع زيغ في فرائضها وسننها وآدابها ، من أقام العود إذا قومه ؛ أو الدوام عليها والمحافظة ، كما ورد في قوله تعالى : (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ)(١) ، وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ)(٢) من قامت السوق إذا نفقت ، وأقامها لأنّها إذا حوفظ عليها كان كالشيء النافق الّذي تتوجه إليه الرغبات ، ويتنافس فيه المحصّلون ، وإذا عطلت وأضيعت كانت كالشيء الكاسد الذي لا يرغب فيه ؛ أو التجلّد والتشمّر لأدائها ، وأن لا يكون في مؤديها فتور عنها ولا توان ، من قولهم : قام بالامر وقامت الحرب على ساق ، وفي ضده قعد عن الامر إذا تثبّط ؛ أو أدائها ، فعبر عن الاداء بالاقامة لأنّ القيام بعض أركانها ، كما عبر عنه بالقنوت بمعنى القيام والركوع والسجود

__________________

(١) المعارج / ٢٣.

(٢) المعارج / ٣٤.

٤١٥

والتسبيح عنها.» (١)

وقال بعضهم : إنّ المفهوم من إقامة الصلاة ليس إلا أدائها وإيقاعها في الخارج من غير إشعار بما اعتبر فيه من التقوّم على الوجه المذكور ، فضلا عمّا ذكر في الوجه الثاني من التشبيه الغريب ، الذي قلّما يخطر بالبال ، ولا يظهر وجهه إلا بعد تأمل وافر.

وأما الثالث ، فلا يشعر الكلام بوجه التجوز والعلاقة فيه ، مع أن التجلّد والتشمّر من غير فتور وتقاعد إنما هو القيام بالامر ، لا إقامته وجعله قائما غير قاعد.

وأما الرابع ، ففيه أنّ الجزء للصلاة هو القيام لا الاقامة ، فلا معنى للقول بأنه عبر عن الاداء بالاقامة ؛ لأنّ القيام بعض أركانها ، وأمّا أن الاقامة فعل القيام وهو ركن في الصّلاة ، فلا يصحح الكلام ، لأنّ الركن فعل القيام بمعنى تحصيل الهيئة التي هي القيام في نفس الفاعل ، لا بمعنى إيجاد القيام في شيء آخر سيّما في الصلاة.

فالاحسن أنّ معناها جعل الصلاة قائمة حاصلة في الخارج من قولهم : «قام هذا بنفسه وذاك بغيره».

وربما يذكر في تفسير إقامة الصلاة إتمام ركوعها وسجودها ، وحفظ مواقيتها وحدودها ، وصيانتها ممّا يفسدها وينقصها ، وهو قريب من الاول.

وعن التوحيد باسناده عن الكاظم عليه‌السلام عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في حديث طويل يذكر فيه معاني فصول الاذان ، وفي آخره :

«ومعنى «قد قامت الصلاة» في الاقامة أي : حان وقت الزيارة والمناجاة ، وقضاء الحوائج ودرك المنى (٢) ، والوصول إلى الله

__________________

(١) راجع الكشاف ، ج ١ ، ص ٢٢ ؛ وأنوار التنزيل ، ص ٩.

(٢) المنى : جمع «منية» بضمّ الميم وكسرها ، وهي ما يتمناه الانسان.

٤١٦

عزوجل ، وإلى كرامته وغفرانه ، وعفوه ورضوانه» (١).

وهذه كلّها أرباح تكتسب في سوق الله سبحانه ، فكأن الاشتغال بالصلاة دخول في السوق لأجل اكتساب هذه الذخائر النفيسة. فاطلاق الاقامة على الاتيان بالصلاة لعلّه لكونه إقامة لهذا السوق ، وجعلها نافقة غير كاسدة مرغوبا فيها بخلاف المعرض عن هذا السوق ، حيث جعلها كاسدا لا ينفق ، مرغوبا عنها ؛ إذ لم يشتغل بالاكتساب وضيّع السوق. وحينئذ فإقامتها إنما يتم إذا أتيت بها على وجه يكون محصّلا لتلك الذخائر ، فيعتبر فيه استجماع الاجزاء والشرائط ، وارتفاع الموانع الصوريّة والمعنويّة في الصحّة والكمال ، فيكون على هذا أخصّ من التفسير المتقدم ، مشتملا عليه ؛ إذ الظاهر أنّ ترتّب تلك الغايات المذكورة على الصلاة منوط بأمور كثيرة قلّما يحصل للمصلّين.

[في معنى الرزق والانفاق]

(وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)

عن العيّاشي والمجمع عن الصادق عليه‌السلام :

«فيه : وممّا علّمناهم يبثّون» (٢).

وروى ابن بابويه باسناده عنه عليه‌السلام مثله ، وزاد فيه :

«وممّا علّمناهم من القرآن يتلون» (٣).

__________________

(١) التوحيد ، باب تفسير حروف الاذان والاقامة ، ص ٢٤١ : والمعاني ، باب معنى حروف الاذان والاقامة ، ص ٤١ ؛ والبحار ، ج ٨٤ ، باب الاذان والاقامة ، ص ١٣٤ ، ح ٢٤.

(٢) في بعض النسخ : «ينبئون» والحديث في العياشي ، ج ١ ، ص ٢٥ ، ح ١ ؛ ومجمع البيان ، ج ١ ، ص ٣٩ ؛ والصافي ، ج ١ ، ص ٥٩ ؛ والبرهان ، ج ١ ، ص ٥٣ ، ح ٢.

(٣) المعاني ، باب معنى الحروف المقطعة ، ص ٢٣ ، ح ٢ ، عن أبي بصير ، عنه ـ عليه‌السلام ـ ؛ والبرهان ، ج ١ ، ص ٥٣ ، ح ٣.

٤١٧

وفي تفسير القمي في ظاهر عبارته عنه عليه‌السلام نحوا منه مع الزيادة (١).

أقول :

قيل : الرزق لغة هو ما ينتفع به (٢) ، فيشمل الحرام والحلال والمأكول وغيره. وزاد المعتزلة ، ومن يجري مجريهم ، قيدا آخر ، وهو أن لا يكون ممنوعا من الانتفاع به ، فلا يكون الحرام رزقا عندهم. وربما يقال : رزق كل مخلوق ما به قوام وجوده وكماله اللائق به ، وعلى كل حال فالعلم رزق متعلّق بالروح ، به كماله اللائق به ، كما أنه داخل تحت عموم ما ينتفع به ، وإنفاقه التعليم. وعلم القرآن أيضا كذلك ، وانفاقه تلاوته للناس تعليما لهم وتنبيها ، وقرائته لنفسه ؛ لأنه صرف له في سبيل الله. وأصل الانفاق وإن كان في أصل معناه على ما ذكروه كالانفاد ، بل قيل : «إن كل ما فائه نون وعينه فاء فدال علي معنى الخروج والذهاب» (٣) فيكون الظاهر منه هو ذهاب المنفق من يد المنفق ، والعلم ليس كذلك ، بل يزداد بالانفاق ، إلا أنه لم يعلم أن ذلك من لوازم معناه في الموجودات العينية من حيث امتناع كونها في مكانين ، أو لأجل اعتبار ذلك في نفس مفهومه ، مع أنّ الظاهر أنّ العلم الحقيقي الباطني الذي هو أصل العلم ، وأظهر أفراده استنادا إلى الحق سبحانه ينفد بالانفاق ، ويخلو القلب منه ببذله.

وربما يدلّ عليه ما ورد عنهم عليهم‌السلام على ما ببالي من أنّه : «لو لا أنا نزداد لنفد ما عندنا. (٤)» وإن كان ذلك معدّا لإعطاء العوض ، كما هو الحال في إنفاق الاموال

__________________

(١) القمي ، ج ١ ، ص ٣٠ ؛ والبرهان ، ج ١ ، ص ٥٣ ، ح ١.

(٢) راجع الصحاح.

(٣) الكشاف ، ج ١ ، ص ٢٣ ؛ وأنوار التنزيل ، ص ٩.

(٤) الروايات الواردة في هذا المعنى كثيرة ، فراجع الكافي ، ج ٢ ، باب في أن الائمة ـ عليهم‌السلام ـ يزدادون في ليلة الجمعة ، وباب لو لا أن الائمة ـ عليهم‌السلام ـ

٤١٨

أيضا ؛ (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ)(١) وسائر العلوم بمنزلة التوابع له.

ثم إن الظاهر أن كلمة «من» تبعيضيّة ، فيكون المنفق هو بعض ما رزقهم الله سبحانه ، ووجهه في الاموال واضح ؛ إذ التبذير والبسط التامّ غير مطلوب ؛ (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ)(٢) ، (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً)(٣).

وأما في العلم الّذي هو الرزق الروحاني ، فربما يظنّ أنه لا حدّ له ولا إسراف ، بل كلّما أكثر بذله كان أحسن ، وليس كذلك.

أما في علم الباطن ، فلأنه لو بالغ في البذل والتكلّم ، ولم يكن له حالة سكوت وتوجه ليرد عليه العلم فيه ، يلزمه أن يقعد ملوما محسورا ، وقد نفد ما عنده ، مع أنه ليس كلّما يعلم يقال. كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام فيما نقل من خطبة له عليه‌السلام : «واعلموا أنّ عباد الله المستحفظين علمه يصونون مصونه ، ويفجّرون عيونه ـ إلى آخره» (٤) ، ولا كلّما يقال قد حضر وقته ، ولا كلّما حضر وقته حضر أهله.

وأما في العلم الظاهر ، فلأنه لا بدّ للعالم من زمان فكر وتحصيل له ، وزمان توجه إلى الله سبحانه وفراغ لعباداته وعاداته ، فلا يسع له إلا بذل البعض ، ثمّ البعض ، على أنّ البذل في كل مقام مشروط بشرائط وآداب ومكملات لا تتيسّر في جميع المواضع ، مع أنّ الّذي ينبغي للعالم أن يقتصر في بذل علمه على المقدار الذي

__________________

 ـ يزدادون لنفد ما عندهم ، ص ٢٥٣ ـ ٢٥٥ ؛ والبحار ، ج ٢٦ ، باب أنهم ـ عليهم‌السلام ـ يزدادون ولو لا ذلك لنفد ما عندهم.

(١) السبأ / ٣٩.

(٢) الاسراء / ٢٩.

(٣) الفرقان / ٦٧.

(٤) نهج البلاغة ، خ ٢١٤ ، ص ٣٣١.

٤١٩

أتقنه وأحكمه مشروحا ، لا ما لم يتمّ بعد نضجه وكماله ، أو لم يحضره بيان كاف له.

ثم إنّ في نسبة الرزق إليه سبحانه دلالة على إرادة المال الحلال ولو قلنا بشمول الرزق للحرام أيضا ، واعتباره في المقام ظاهر ؛ إذ إنفاق المال الحرام على غير الوجه الشرعي حرام آخر ، فلا يستحق فاعله مدحا ، ولا يعدّ فعله من صفات المتقين ، واعتبار النسبة إليه سبحانه في العلم يخصّه بالهدايات الالهية ، أو مع كل علم حق خالص عن شوب الوهم والخيال والاباطيل والقضايا الكاذبة.

ثمّ إن الرزق على المعنى الاول لا يختصّ بالمال والعلم ، بل يشمل القوى والابدان والجاه ، والانفاق منها إسعاف الحاجات والاخذ بأيدي الضعفاء ، وقود الضرائر وإنجائهم من المهالك ، وحمل المتاع عنهم ، وإغاثة الملهوف وغير ذلك.

وببالي أني سمعت أنّ واحدا من الاتقياء رأى في النوم مجلسا اجتمع فيه علمائنا إلا «ابن فهد الحلّي». فسأل عنه ، فقيل له : إنه دخل في مقام الانبياء أو مجلسهم. فسأل عنه بنفسه بعد لقائه في المنام ، فأجيب بأنّ السبب أني كنت فقيرا لا مال لي أتصدّق بها ، فكنت أتصدق بجاهي ، ولذلك صرت هكذا.

وقد ورد في الاخبار على ما ببالي أنّ : «لكلّ شيء زكاة ، وزكاة الابدان الصيام.» (١)

ولعلّ في تفسير الكلام بتعليم العلم وتلاوة القرآن إشارة إلى عدم الوقوف على ما يفهمه العوام من الرزق والانفاق ، وأنه ينبغي التعدي إلى كل رزق وكلّ إنفاق ، أو خصوص الروحاني منهما.

__________________

(١) بهذا المعنى ورد روايات كثيرة ، كرواية الصدوق (ره) في الامالي ، المجلس الخامس عشر ، ح ١ ، عن الصادق ، عن آبائه ـ عليهم‌السلام ـ ، عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ؛ وقد ذكرها المجلسي (رض) في البحار ، ج ٩٦ ، باب فضل الصيام ، ص ٢٤٦ ، ح ١ ، فراجع.

٤٢٠