مجد البيان في تفسير القرآن

آية الله الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي

مجد البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٣

«ما يستطيع أحد أن يدّعي أنّ عنده جميع (١) القرآن كلّه ، ظاهره وباطنه ، غير الاوصياء.» (٢)

والاخبار فيما نحن فيه كثيرة يطول الكلام في ذكرها ، وقد سبق جملة منها. وأنت إذا تأملت ما قدّمناه من صفات القرآن علمت أنّ حقائقه ليس شريعة لكل وارد ، ولا يطّلع عليه إلا واحدا بعد واحد. وسيتّضح لك ذلك مع جملة من الاخبار في المقام ـ إن شاء الله تعالى ـ.

__________________

(١) في البصائر : «انه جمع».

(٢) الكافي ، ج ١ ، باب انه لم يجمع القرآن كله إلّا الائمة ـ عليهم‌السلام ـ وانهم يعلمون علمه كله ، ص ٢٢٨ ، ح ٢ ؛ والبصائر ، الجزء الرابع ، باب ٦ ، ص ١٩٣ ، ح ١ وايضا في الصافي والبرهان.

٦١

المقدّمة الرّابعة

في جملة ممّا جاء في معاني وجوه الآيات ، والتّنزيل

والتّأويل ، والظّهر والبطن ، والحدّ والمطلع ،

والمحكم والمتشابه ، والنّاسخ والمنسوخ ، واشتمال

الآيات على البطون والتأويلات وغير ذلك ، وما

يتعلّق ببيانها

[الرّوايات الواردة في الظّهر والبطن والحدّ والمطلع و...]

فعن العيّاشي والبرقي في المحاسن بتفاوت ما في الالفاظ باسنادهما عن جابر قال :

«سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن شيء من تفسير القرآن ، فأجابني ثمّ سألته ثانية فأجابني بجواب آخر ، فقلت : جعلت فداك كنت أجبت في هذه المسئلة بجواب غير هذا قبل اليوم؟! فقال لي : يا جابر ، إنّ للقرآن بطنا ، وللبطن بطنا (١) وظهرا وللظهر ظهرا (٢) ، يا جابر ، وليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن ؛ إنّ الآية ليكون أوّلها في شيء ، وآخرها

__________________

(١) في المخطوطة : «بطن».

(٢) في المخطوطة : «ظهر».

٦٢

في شيء ، وهو كلام متّصل يتصرّف على وجوه.» (١)

وقد سبق ذيله بتغيير ما في الالفاظ (٢).

وعن العامّة أنّهم رووا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف ، لكلّ آية منها ظهر وبطن ، ولكلّ حرف حدّ ومطلع.» (٣)

وفي رواية اخرى :

«إنّ للقرآن ظهرا وبطنا ، ولبطنه بطنا إلى سبعة أبطن.» (٤)

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«إنّ للقرآن ظهرا وبطنا وحدّا ومطلعا.» (٥)

وعن العيّاشي باسناده عن حمران بن أعين ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال :

«ظهر القرآن الّذين نزل فيهم ، وبطنه الّذين [عملوا](٦) بمثل

__________________

(١) العياشي ، ج ١ ، ص ١٢ ، ح ٨ ؛ والمحاسن ، ج ٢ كتاب العلل ، ص ٣٠٠ ، ح ٥ ؛ والصافي ، ج ١ ، المقدمة الرابعة ، ص ١٧.

(٢) راجع المقدمة الثانية ، ص ٤٢.

(٣) أخرجه الطبري في تفسيره ، ج ١ ، ص ٩ ، عن ابن مسعود ، عنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ؛ ونقله الفيض (ره) في الصافي ، ج ١ ، المقدمة الرابعة : ص ١٨ ؛ وهكذا أخرجه الغريابى مرسلا عنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كما أورده الذهبي في التفسير والمفسّرون ، ج ٣ ، ص ١٩ ؛ وايضا في تفسير البغوي ، المقدمة ؛ وروح المعاني ، ج ١ ، ص ٧.

(٤) نقله الفيض (ره) في الصافي ، ج ١ ، المقدمة الرابعة ، ص ١٨ ؛ وابو الحسن العاملي الاصفهاني (رض) في مرآة الانوار ، المقدّمة الاولى ص ٥.

(٥) ذكره الغزالي في الاحياء ، ج ١ ، كتاب آداب تلاوة القرآن ، باب الرابع ، ص ٢٨٩ ؛ والفيض (ره) في الصافي ، ج ١ ، المقدمة الرابعة ، ص ١٨ ؛ وهكذا أخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث ابن مسعود بنحوه كما قال العراقي في هامش الاحياء.

(٦) سقط عن المخطوطة.

٦٣

أعمالهم.» (١)

وباسناده عن الفضيل بن يسار قال :

«سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن هذه الرواية : «ما في القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن ، وما فيه حرف إلا وله حدّ ومطّلع» ما يعني بقوله : «لها ظهر وبطن»؟

قال عليه‌السلام : ظهره تنزيله ، وبطنه تأويله ، منه ما مضى ، ومنه ما لم يكن بعد ، يجري كما يجري الشمس والقمر ، كلّما جاء منه شيء وقع ؛ قال الله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) نحن نعلمه.» (٢)

وعن بصائر الدرجات روايته عنه بتفاوت يسير. (٣)

[المراد من الحدّ والمطلع هو التّنزيل والتّأويل]

أقول : يحتمل أن يكون «المطلع» اسم مكان على وزن المشدّد (٤) بمعنى مكان الاطّلاع من موضع عال ، وأن يكون على وزن المصعد أي : صعد يصعد إليه.

قيل : «ومحصّل معناه قريب من معنى التأويل والبطن ، كما أنّ معنى الحد قريب من معنى التنزيل والظهر.» (٥)

__________________

(١) العياشي ، ج ١ ، ص ١١ ؛ والبحار ، ج ٩٢ ، باب أن للقرآن ظهرا وبطنا ، ص ٩٤ ؛ وايضا في الصافي والبرهان.

(٢) المصادر السابقة.

(٣) البصائر ، الجزء الرابع ، باب ١٠ ، ح ٢ ؛ والبحار ، ج ٩٢ ، باب أنّ للقرآن ظهرا وبطنا ، ص ٩٧ ، ح ٦٤.

(٤) تشبيهه ـ رحمه‌الله ـ بالمشدد لا يناسب كلمة الاطلاع ، والاولى تشبيهه بالمدكر.

(٥) الكلام للفيض (ره) ، راجع الصافي ، ج ١ ، المقدّمة الرابعة ، ص ١٨.

٦٤

[في اندراج الجزئيّات تحت الكليّات وتطبيقها عليها]

ولعلّ المراد حينئذ أنّ لكلّ من المفردات والمركّبات بمعنى الحروف والكلمات أو بمعنى الكلمات والجمل معاني محدودة جزئيّة ، وحقائق كلّيّة ، فتحصّل من تجريد الجزئيات عن الخصوصيّات الّتي لا دخل لها في نفس تلك الحقيقة وعن تعلّق الحكم بها كما سبق فيما قبله ، فانّ الّذين نزل فيهم الآية لهم خصوصيّات لا دخل فيها لما حكم في الآية عليهم ، وإنّما مناط الحكم هو القدر المشترك الحاصل فيهم ، وفيمن كان له مثل أعمالهم ، فانّ الجزئيات كلّها تندرج تحت قاعدة كليّة هو المعوّل عليها ، فيعمّ الافراد الماضية والآتية ، فكلّما جاء موضوعه الكلّيّ في ضمن فرد من الافراد وقع عليه المحمول الكلّيّ ، كالشمس والقمر ، فانّهما ينيران ويظهران كلّ جسم كثيف قابلهما ، فلا اختلاف فيهما ، وإنّما الاختلاف من جهة تقابل الاجسام لهما ، كذلك لكلّ خبر أو إنشاء تعلّق بموضوع جزئيّ حقيقيّ ، فانّما يتعلّق من حيث عنوان كلّيّ هو المناط الّذي لا تبديل فيه ولا تغيير ، وسائر الخصوصيّات المشخّصة لا دخل لها بذلك الحكم ، و (لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ)(١) سبحانه و (لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً.)(٢)

ولعلّه لذا ورد في رواية المعلّى السابقة (٣) أنّ : «القرآن أمثال لقوم يعلمون دون غيرهم ، ولقوم يتلونه حقّ تلاوته ، وهم الّذين يؤمنون به ويعرفونه ـ الحديث» وفي رواية محمّد بن مسلم السابقة : (٤) «والقرآن ضرب فيه الامثال للناس ـ إلى آخره» فانّ المثل يطلق كثيرا على ما يفيد حال مماثله بتوسط الامر الجامع بينهما ، الّذي

__________________

(١) يونس / ٦٤.

(٢) فاطر / ٤٣.

(٣) راجع المقدمة الثانية ، ص ٣٩.

(٤) راجع المقدمة الثالثة ، ص ٦٠.

٦٥

هو المعيار والمناط ، وإلا فالجزئيّ لا يكون بنفسه كاسبا لمجهول ، كما تقرّر في علم المنطق ؛ مثلا : المؤمن الّذي ذكر في سورة «يس» شخص جزئيّ حقيقيّ قيل له : (ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ). (١) لكنّ الّذي يرتبط بوقوع هذا الخطاب عليه من خصوصيّاته هو إيمانه وأعماله الصالحة من دعوة قومه ، أو تحمّل الاذى في جنب الله مثلا دون شكله ولونه ونسبه واسمه ؛ فتنزيل الآية وحدّه الرجل الّذي يسعى هو ذلكّ الشخص بعينه ، وتأويله من كان بمثل عمله. فمفاد التأويل قضيّة كلّيّة هو أنّ : كلّ من آمن وعمل كذا مثلا يقال له : ادخل الجنّة ، ممّن مضى وممّن يأتي كلّما جاء شخص بصفة كذا ، وقع عليه كذا ، على ما روي عن إسحاق بن عمّار زيادة على ما مرّ ، قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام : يقول :

«إنّ للقرآن تأويلا ، فمنه ما [قد](٢) جاء ، ومنه ما لم يجىء فاذا وقع التأويل في زمان إمام من الائمّة عليهم‌السلام عرفه إمام ذلك الزمان.» (٣)

وروي عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال :

«تفسير القرآن على سبعة أوجه ، منه ما كان ، ومنه ما لم يكن بعد ، تعرفه الائمّة عليهم‌السلام(٤)

وفي رواية محمّد بن مسلم :

«والقرآن ضرب فيه الامثال للناس.» (٥)

__________________

(١) يس / ٢٦.

(٢) سقط عن المخطوطة.

(٣) رواه الصفّار (ره) في البصائر ، الجزء الرابع ، باب ٧ ؛ ونقله الحرّ العاملي (ره) في الوسائل ، ج ١٨ ، باب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، ص ١٤٥.

(٤) نفس المصادر.

(٥) قد مرّ آنفا.

٦٦

[إرادة الكلّيّ من إيراد الجزئي]

وقد جرت طريقة العقلاء والعلماء على بيان الامور الكليّة في ضمن الامثلة الجزئيّة ؛ كقول «ابن مالك» : (١)

مبتدء زيد وعاذر خبر

إن قلت زيد عاذر من اعتذر

في مقام بيان المبتداء والخبر بعنوان كلّي ، وقيل في شأنه : «إنّ من عادته الحكم بالمثال.» فلاحظ أنّ زيدا ليس مبتداء لكون مادّته هو الحروف الثلاثة ولا كونه على زنة فعل ، بل لمعان اخرى أو معنى آخر هو المقصود بالبيان.

وتحقيق ذلك أنّ كلّ محمول خارج عن ذات الموضوع ، ولا لازم لمهيّته ، فانّما يعرضه لعلّة موجبة لعروضه ، ولا بدّ من أن يكون للموضوع اختصاص لذلك العلّة من حيث أنّها علّة موجب لتأثيره في إلحاق ذلك المحمول عليه. فالموضوع الواقعيّ هو الوصف العنوانيّ المنتزع من ذلك الاختصاص الناعث ، وسائر الخصوصيّات الذاتيّة والعرضيّة خارجة عن موضوع الحكم في الواقع لا دخل لها في عروضه ، فاذا قال لابنه : (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ)(٢) فالمخاطب ذلك الشخص الخاص ، لكن صورة النهي الارشادي لم يتعلّق به إلا من حيث كون الشرك ظلما عظيما ، وكون لقمان شفيقا عليه لا يرضى بصدور الظلم منه ، فكلّ موجود كان شركه ظلما عظيما وكان شفيقا عليه اندرج تحت العنوان الواقعيّ وإن خرج عن الصورة.

وإذا جرّدت النهي عن الناهى ولاحظت أنّ ذلك الفعل بحيث ينبغي النهي عنه ، الّذي هو حقيقة النهي الارشادي ، سقط اشتراط الشفقة ، والقضيّة حينئذ أن كلّ شيء كان شركه ظلما عظيما ، فينبغى تحذرّه عنه وامتناعه منه.

__________________

(١) راجع الفية ابن مالك ، باب الابتداء.

(٢) لقمان / ١٣ ، وهي : «وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ.»

٦٧

وإذا لاحظت أنّ لقمان صدر منه هذا الكلام لأجل أنّه حكيم ، وجرّدته عن سائر خصوصياته ، علم منه أنّ كلّ من كان حكيما فهو ينهى عن الشرك معنى ثمّ إذا جرّدت الحكيم عن كونه شخصا خارجيا ماديّا ، ولا حظت أنّ الحكمة صفة العقل هو أثقل ، وأن العقل هو الحكيم الذى يمنع عن الشرك لكونه ظلما وانّ صدور النهي عن لقمان لمكان عقله المتّصف بالحكمة ، صارت القضيّة أنّ العقل المتّصف بالحكمة ينهى عن الشرك لذلك. فالعقل لقمان يعظ بذلك ، وكلّ عاقل حكيم يعظ بذلك والمخاطب كلّ موجود له قابليّة النهي عنه متّصف بالصفات الموجبة لكون شركه ظلما من الماضين والآتين ، والمنهيّ عنه هو الشرك من حيث كونه ظلما عظيما ، فالعنوان الواقعيّ هو الظلم العظيم في أيّ مفهوم تحقّق.

وقس عليه الحال في الامور الخارجيّة ، فانّ كلّ نسبة خارجيّة يعبّر منه الكلام إنّما تحقّق لعلّة والعلّة فاعليّة وماديّة وصوريّه وغائيّة ، ولا يخلو عن إمكانات استعداديّة ومعدّات وشرائط وانتفاء موانع. والكلام الحاكي عن النسبة الخارجيّة إذا جرّدتها ، وقطعت النظر عن جميع ما لا يرتبط بتحقّق تلك النسبة الخارجية ، وأخذت بما يرتبط بتحقّقه عقلا على الميزان العقليّ ، صار الكلام الجزئيّ قاعدة كلّيّة جارية من أوّل العالم إلى آخره ، وجميع الامور الخارجيّة الجزئيّة مندرجة تحت كلّيّات معيّنة في الواقع ، لا تبديل لها أبدا ما دامت السموات والارض ، كما أنّ إعرابات الكلمات العربيّة الواقعة في ألسنة الفصحاء كلّها مندرجة تحت القواعد النحويّة ، والتكاليف الشخصيّة مندرجة تحت الاحكام الفقهيّة الكلّيّة ، والكلّيّات ثابتات ، والجزئيّات داثرات ، وللتجريد درجات ، وللقضايا الكلّيّة مراتب كلّما اتّسعت دائرة عمومه وشموله وقلّت عددا ، وكلّما نزلت تعدّدت وتضيّقت.

٦٨

[في كثرة العوالم وأنّ لكل شيء حقيقة في كلّ واحد منها]

ثمّ اعلم أنّ العوالم كثيرة ، ولكلّ شيء حقيقة في كلّ عالم من العوالم ، ولكلّ صورة معنى ، وكما عرفت حال المفاهيم الجزئيّة والكلّيّة بمراتبها ، فقس عليه حال العوالم من حيث الضيق والسعة ، وسرعة الانقضاء وبطئها ، والثبات وعدمه وكما أنّ لزيد وجودا في الخارج ، ووجودا في الحسّ المشترك ، ووجودا معنويّا في الوهم ، ووجودا متوسّطا في المتخيّلة ، ووجودا كلّيّا في العقل ؛

والاوّل ، جزئيّ حقيقيّ يمتنع فرض الاشتراك فيه مقترن بمادّته الجسمانيّة.

والثاني ، مجرّد عن المادّة مقترن بما اكتنفه من الخصوصيّات.

والثالث ، مجرّد عن الخصوصيّات الصوريّة ملبوس بالمعاني الكائنة فيه.

والرابع ، ملبوس بهما معا.

والخامس ، مجرّد عن جميع المشخّصات وجميع اللواحق الّتي لا دخل لها في نفس تلك الحقيقة الكلّيّة من المعاني والصور.

مع اختلاف ما سوى الاوّل من المراتب في مقدار التلبّس والتجرّد ، فربّما يلاحظ العقل حقيقة الشيء مجرّدا عن جميع ما سواه ، وربّما يلاحظه ملبوسا بعوارض كلّيّة ، فيكون التصوّر على الاوّل النوع ، وعلى الثاني الصنف ، واللواحق والخصوصيّات لها كلّيّات متصوّرة بالعقل ، ومعان مدركة بالوهم ، وصور مدركة بالحسّ ، ولها ضمّ وتفريق يحصلان بالمتخيّلة.

وكما أنّك إذا أبصرت زيدا ارتسم صورته في الحسّ ، ثمّ معناه في الوهم ، ثمّ الجميع في المتخيّلة ، ثمّ تمام حقيقته في العقل ، كذلك يوجد حقيقته الكلّيّة أوّلا في عالم من عوالم الوجود ، ثمّ معانيه في آخر ، ثمّ الجامع لهما في ثالث أو في حدّ مشترك بين عالمين ، ثمّ صورته مجرّدة عن المادّة في رابع ثمّ المتلبّس بالمادّة العنصريّة في هذا العالم. والاوّل في عالم العقل ، والثاني في

٦٩

عالم المعاني ، والرابع في عالم المثال ، والثالث في المتوسّط بينهما ، والخامس في عالم الحسّ والشهادة ، ولكلّ منهما درجات.

وذلك لأنّ موجودات هذا العالم كلّها مركّبات من المادّة والصورة والحصص الكلّيّة والخصوصيّات المشخّصة ، ووجود كلّ مركّب مسبوق بوجود سابقه سبقا ذاتيا عقلا ، وسبقا خارجيّا بالحدس الناشي عن ملاحظة تقابل القوس الصعودي في عالم الانسان مع القوس النزولي في العالم الكبير ، وعن ملاحظة سنّة الله سبحانه في خلق الاشياء من التدريج في ايجادها ، وترتيبها على ما يقتضيه الحكمة بوضعها في مواضعها ، وتنزيلها منزلته ، ومرتبة البسيط مقدّمة على المركّب ، فتقدّمه بالوجود وضع له في محلّه.

وأيضا فانّ الكلّيّات أشرف من الجزئيّات الداثرة والفانية ، يقتضي قاعدة إمكان الاشرف هي موجودة مقدّمة على الجزئيات ، وأيضا فانّ الحكمة الالهيّة المقتضية لابداع الاشياء إنّما تتحصّص متدرّجة ، فلا يتعلّق أوّلا بالماديّات المركبة والجزئيّات ، ألا ترى أنّ صفة الجود في الجواد منّا إنّما يقتضي الانفاق والاعطاء الكلّي فلو كنّا قادرين على أن نوجده على صفة الكلّيّة لأوجدناه كذلك ، وكانت تلك الصفة كافية في صدور ذلك الكلّيّ منّا من دون حاجة إلى ضمّ أمر آخر؟ وأمّا الانفاق على زيد بطريق جزئيّ فلا يكفي تلك الصفة في صدوره ، بل لا بدّ من خصوصيّات تنضمّ إليه توجب تحصيل تلك الطبيعة في ضمن ذلك الفرد من إدراك متعلّق بزيد ، وبأنّه مستحقّ للانفاق عليه ، وبالشيء الّذي ينفق عليه وغير ذلك. وحينئذ فالجواد المطلق القادر على جميع الاشياء ينبغي أن يكون صدور الكلّيّات عنه مع قدرته عليه مقدّما على صدور الجزئيّات ؛ وقد قال الله سبحانه :

(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ.)(١)

__________________

(١) الحجر / ٢١.

٧٠

ولا نريد بالكلّيّ هنا المفهوم الذهنيّ الّذي يمتنع عروض الوجود العينيّ له ؛ إذ الكلّيّ إذا جاء في ظرف الخارج يصير فردا ، بل أمرا آخر يحاكيه المفهوم الكلّيّ الذهنيّ ، وهو عنوان له. وسيظهر لك تتمّة كلام فيما يتعلّق بما مرّ ـ إن شاء الله تعالى ـ.

وحينئذ فيشبه أن يكون لكلّ آية مراتب من حيث المدلول بحسب عوالم مفاده ، فانّ القرآن حكاية عن الافعال والاحكام الالهيّة ، وفيه تبيان كلّ شيء ، وحينئذ فلا يبعد أن يكون حكاية القرآن عن كلّ واقعة على نحو ينطبق على جميع عوالمه ، بشرط أن يراعى في كلّ منها المعنى بحيث يناسب ذلك العالم ؛ إذ متاع البيت يشبه صاحب البيت ، وحينئذ فلا بدّ من نقل تلك القضيّة بجميع أجزائه إلى ذلك العالم ، وأخذ كلّ واحد على الوجه المناسب له ، وحينئذ فقد يكون ما هو حقيقة في هذا العالم مجازا معنويّا فى بعض العوالم ، إمّا بتوسّع في نسبة المحمول إلى الموضوع أو في غيره ، كما في نسبة القتل إلى النبيّ ، فانّه إذا لوحظ النبيّ في عالم المجرّدات يكون النبيّ هو العقل ، وعدوّه الجهل الكلّيّ ؛ لكن نسبة القتل بينهما لا يقع في نفس ذلك العالم ، بل في مظاهرهما وآثارهما كما أنّ القتل الحسّي لا يقع على الارواح ، بل على الاجسام التي هي مظاهر للارواح ، وقد يكون لفظ مجازا في عالم الشهادة ، وحقيقة في عوالم أخر ؛ كالنور والظلمة التي كثر ذكرهما في الآيات والأخبار في شأن المكلّفين ؛ كقوله تعالى :

(اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ.)(١)

إذ الظلمات بحسب الظاهر هو الجهل بمصالحه ومفاسده ، أو ما أشبه ذلك وهو مجاز بعلاقة المشابهة ، لكنّه على معناه الحقيقيّ في عالم المثال والبرزخ وغيرهما ، وقد يكون العرض في عالم جوهرا في عالم آخر ؛ كأعمال المكلّفين ، التي

__________________

(١) البقرة / ٢٥٧.

٧١

تتجسّم في النشأة البرزخيّة وعالم القيامة.

[مراتب القرآن على ما ذكر بعض العارفين]

وذكر بعض العارفين للتفسير ستّ مراتب : الظاهر ، وظاهر الظاهر ، والباطن وباطن الباطن ، والتأويل ، وباطن التأويل ، وقال (ره) في بيانها :

«الظاهر معروف ، وظاهر الظاهر هو ما يؤخذ من مادّة الكلمة أي : من حروفها. ويراد منها معنى وإن كان مخالفا لقاعدة أهل اللّغة ؛ كما في قوله تعالى :

(وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً.)(١)

ففي تفسير الظاهر أنّ «الجبال» جمع «جبل» وهو معروف ، وفي تفسير ظاهر الظاهر أنّ «الجبال» جمع «جبلّة» وهي الطبيعة ، وفي تفسير التأويل «الجبال» الاجساد الحيوانيّة من الانسان وغيرها. و «النحل» في الظاهر معروف ، وفي الباطن آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي التأويل نفوس العلماء وفي ظاهر الظاهر النفوس الّتى لها قدرة على الانتحال أي : الاختيار الحسن ؛ كما في قوله تعالى : (فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)(٢) بقرينة قوله تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ ...).

وأمّا التأويل ، فأن تصرف كلاما عن ظاهره على معنى آخر لم يرد منه ظاهرا كما قال عليّ عليه‌السلام في ذكر قيام القائم [عليه‌السلام] :

«وما ينالون ما أدركوه من العلم بحيث يستغني كلّ منهم عن علم الآخر.»

قال عليه‌السلام :

«وهو تأويل قوله تعالى : (يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ.)» (٣)

__________________

(١) النحل / ٦٨.

(٢) الزمر / ١٨.

(٣) النساء / ١٣٠.

٧٢

وأمّا باطن التأويل فكذلك ، ولكن يجري فيه على معنى الباطن ؛ كما روي عن الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ؟)(١)

قال عليه‌السلام :

«هو الحسن بن عليّ عليهما‌السلام أمر بالكفّ عن القتال والصلح.» أو كما قال : (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ)(٢) قال :

«هو الحسين بن علىّ عليه‌السلام كتب عليه القتل ، والله لو برز معه أهل الارض لقتلوا.» (٣)

فانظر هذا المعنى ، فانّه تأويل باطن ، لانّه باطن تأويل ؛ لكن لا يجري على ظاهر العربيّة كما ترى.

وكما ورد في قوله تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً)(٤) ما معناه : «أن الانسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ الوالدين الحسن والحسين عليهما‌السلام(٥)

وكما رواه فرات بن إبراهيم في تفسير قوله تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ)(٦) عن أحدهم عليهم‌السلام قال :

__________________

(١) النساء / ٧٧.

(٢) النساء / ٧٧.

(٣) لم نجد الحديث بعينه فيما بأيدينا ، ولكن يقرب من ألفاظه الحديثان اللّذان رواهما العيّاشي (ره) في تفسيره ، ج ١ ص ٢٥٨ ، عن الحسن بن زياد العطّار ، عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ ، وعن عليّ بن أسباط يرفعه ، عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ ؛ ونقلهما البحراني (رض) في البرهان ، ج ١ ، ص ٣٩٥ ، ح ٦ و ٧.

(٤) العنكبوت / ٨.

(٥) راجع القمّي ، ج ٢ ، ص ٢٩٧ ، ونور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١١.

(٦) الذاريات / ٧.

٧٣

«السماء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والحبك عليّ عليه‌السلام ، فعليّ عليه‌السلام ذات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله(١)

وأمّا تفسير باطن الباطن ، فلا يجوز بيانه ؛ فقد روي أن القائم ـ عجّل الله تعالى فرجه ـ إذا خرج ونادى أنصاره واجتمعوا عنده دعاهم إلى مبايعته ، فأجابوا فقال : تبايعونى على كيت وكيت ، فنفروا عنه ولم يثبت معه إلا المسيح وأحد عشر نقيبا ، فيجولون في الارض ، فلا يجدون ملجأ الا إليه ، فيأتونه ويبايعونه على ما يريد منهم ، وهو حرف من باطن الباطن حتّى أنّ الصادق عليه‌السلام قال ما معناه : «والله إنّي لأعلم الكلمة التي قالها لهم فيكفرون.» (٢) انتهى كلامه ـ رفع مقامه ـ.

[في جواز استعمال اللّفظ في أكثر من معنى وأقسامه]

فان قلت : قد تقرّر في علم الاصول أنّه لا يجوز استعمال اللّفظ الواحد في أكثر من معنى سواء كانا حقيقيين أو مجازيين أو مختلفين ، فما وجه إرادة المعاني

__________________

(١) تفسير فرات ، ص ١٦٩ ؛ وروى القمّي (ره) صدره في تفسيره ، ج ٢ ، ص ٣٢٩ عن أبي حمزة ، عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ.

(٢) الظاهر أن القائل استفاد هذا من الحديث المروي فى كمال الدين باب ٦٢ (نوادر الكتاب) ح ٢٥ ، والبحار ، ج ٥٢ ، ص ٣٢٦ ، ح ٤٢ نقلا عنه. ونص الحديث ـ كما في البحار ـ هكذا :

قال الصادق عليه‌السلام : كأني أنظر إلى القائم على منبر الكوفة وحوله أصحابه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا عدة أهل بدر ، وهم أصحاب الالوية وهم حكام الله في أرضه على خلقه حتى يستخرج من قبائه كتابا مختوما بخاتم من ذهب عهد معهود من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيجفلون عنه إجفال الغنم فلا يبقى منهم إلا الوزير وأحد عشر نقيبا كما بقوا مع موسى بن عمران عليه‌السلام. فيجولون في الارض فلا يجدون عنه مذهبا فيرجعون إليه والله إني لأعرف الكلام الذي يقوله لهم فيكفرون به.

٧٤

المختلفة من الآية الواحدة لو أريد منها ذلك؟ وما ثمرة حملها على غير المراد منها إن لم يثبت الاستعمال إلا في أحدها ، ولا سيّما في تفسير ظاهر الظاهر ، الذي ذكره العارف المتقدّم ، وبه يجمع بين جملة من الاخبار المتنافية الواردة في تفسير آية واحدة بحمل أحد المتنافيين على تفسير الظاهر ، والآخر على ظاهر الظاهر ، كما يجمع بين كثير من المتعارضات بحمل البعض على الظاهر ، وغيره على البطون والتأويلات ، وبملاحظة المجموع يرفع معظم التعارض الواقع بين أخبار التفسير؟ وكيف يجوز إخراج استعمالات ألفاظ القرآن من وجوه الاستعمالات الصحيحة عند أهل اللسان ، بل لو سلّم جوازه عندهم ، فلا يخلوا من استبشاع عندهم ، وهو مناف للمرتبة العالية الثابتة للقرآن في جميع المقامات اللفظيّة والمعنويّة فصاحة وبلاغة وأسلوبا وإمارة؟

قلت : الّذي أرى في المسألة الاصوليّة أنّ المانع من استعمال اللّفظ في أكثر من معنى عدم إمكان حقيقة الاستعمال فيه ، وملخّص بيانه : أنّ الاستعمال عبارة عن إيراد اللّفظ بازاء المعنى ، وجعله قالبا له ، ومرآتا للانتقال إليه ، وآلة لتصويره في ذهن السامع ؛ كما أنّ الوضع عبارة عن تعيين لفظ المعنى وتخصيصه به على وجه كلّيّ ، بحيث متى أطلق أو أحسّ فهم منه ذلك المعنى ، ومفاد المقامين هو صيرورة اللّفظ كلّيّة في الثانى وفي الكلام الخاصّ في الاوّل بازاء المعنى ، بحيث يكون اللّفظ المركّب من حيث كونه مجتمعا وحدانيا بازاء المعنى البسيط ، أو المركب من حيث كونه مركّبا وحدانيّا. فالمحاكات هنا بين اللّفظ الواحد والمعنى الواحد ولو كانت الوحدة اعتباريّة ، والحاكي الواحد في الاستعمال الواحد لا يحكي إلا حكاية واحدة عن الشيء الواحد ، ومن ضروريّته أن لا يقع بازاء الاكثر ، ولا قالبا له ولا مرآتا له لبساطته في هذا اللحاظ ، إلا أن يلاحظ الاكثر من حيث الاجتماع واحدا ، فيخرج عن العنوان ويندرج تحت استعمال اللّفظ في مجموع معنيين ، وهو غير

٧٥

الموضوع له ، فان تمّت العلاقة صحّ مجازا وإلا بطل.

وإن شئت قلت : معنى الوضع تخصيص لفظ بمعنى بحيث يكون الاوّل بتمامه واقعا بحذاء الثاني ، ويصير بكلّيّته مرآتا له ، ومتمحّضا في الدلالة عليه ، فلا ـ يطابقه الاستعمال إلا حال وحدة المعنى ، وتوضيحه موكول إلى فنّه.

وحينئذ فمتى تعقّلنا الاستعمال على الوجه المفروض صحّ ، بل لو قلنا : بأنّ جهة المنع أمر آخر ، فلا ريب أنّ المانع إنّما يمنع من الاستعمال في المتعدّد إذا لم يلاحظ فيه اعتبار بجعل المتعدّد واحدا اعتباريّا ، كما أشرنا إليه ، ويظهر ممّا فصّله متأخّر والاصوليّين في تحرير محلّ النزاع.

وحينئذ فحلّ الاشكال إمّا باعتبار إخراج بعض المعاني عن الاستعمال ، فلا يكون مستعملا فيه ابتداء بالمعنى المتقدّم ، وإمّا بتحصيل اعتبار ولحاظ يوحّد به المتعدّد ، ويخرج به عن صفة الكثرة.

أمّا الاول ، فبأن يقال : الانتقال من اللّفظ إلى المعنى واستفادة المطلب من الكلام ليس منحصرا فيما استعمل فيه اللّفظ ابتداء بالمعنى المشار إليه ، بل إذا استعمل المفردات المركّبة تركيبا مفيدا ، أفاد الكلام مطابقة معانيها ، وتضمّنا حال أجزائها العقليّة والخارجيّة ، والتزاما عللها وأجزاء عللها وشرائطها ، وانتفاء موانعها ، إلى أن ينتهي إلى مبدء المبادي تفصيلا مع الانحصار ، أو منضمّا إلى ما ينفي الباقي ، وإجمالا بدونهما ، ونفي ما لا يجتمع معه حال وجوده ووجود ما لا بدّ ، منه في وجوده ، وإثبات معلولاتها ومعلولات معلولاتها وما يلزمها ومفاهيمها المعتبرة بنفسها وبمعونة القرائن ، وما يستخرج من ضمّ تلك القضيّة إلى أخرى مثلها ، وهذه هي المرتبة الاولى من الظاهر.

ثمّ إنّ المعنى المقصود بالافادة من الكلام قد يكون منحصرا في ذلك ، وقد يكون خارجا عنه ، كما في أحد قسمي الكناية وقد يكون كلاهما معا ، كما في

٧٦

الوجه الاخر منه. فقد يقال : فلان مهزول الفصيل ولا فصيل له ، مريدا بذلك أنّه جواد. فقد استعمل اللّفظ صورة في معناه ، واوقعت النسبة الصوريّة مع عدم تحققها في الواقع ، وقصد به أمر آخر ، وقد اختلف في كونه حقيقة أو مجازا ، والاوّل أقرب كما في محلّه. وقد يقال ذلك لبيان هزال فصيله ، وإفادته منضمّا إلى بيان الجواد مع إصالة كلّ منهما أو أحدهما فقط ، مع أنّ هزال الفصيل بنفسه لا يدلّ على الجود بوجه من الدلالات الثلاث ؛ إذ لا ملازمة بينهما واقعا وإن أطلق عليه اسم اللازم بملاحظة غلبة محقّقه أو مفروضه على وجه الادّعاء ، إلا أنّه يفيده بشيوع ذكره في مقام بيانه أو بملاحظة سائر القرائن والخصوصيّات من حال أو مقال أو مساق أو غيرها. وقريب من الكناية التمثيل ، لكنّه في المركّب والكناية في المفرد ، وفي كلّ منهما يتحصّل من الكلام معنيان مستقلّتان ، وكلاهما شايعان في استعمالات الألبّاء ، بل لا يبعد أن يكون كثير من القصص والحكايات العاميّة بما وضعها الحكماء والعقلاء لافادة معان مغايرة لها ، لينتقل منها إليها من كان ذا لبّ وبصيرة ، كما يؤمي إليه مطابقة جملة منها لمواعظ شافية أو مطالب عالية ، وفيهما ينتقل المستنبط من مطلب إلى آخر مناسب له مناسبة واقعة بين المعنيين ولا يشترط كونه ملازمة ، فلا مانع من أن يكون لآيات القرآن العزيز [معان](١) لا يخلو من مداليل كنائيّة ومثاليّة ؛ (وَلَقَدْ صَرَّفْنا [لِلنَّاسِ] فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ.)(٢) وقد سبق في الاخبار : «أنّ القرآن أمثال لقوم يعلمون» ، وتدبّر. وما ذكر أحد الوجوه في المقام.

ومنها :

أنّه ربّما يتكلّم بكلام لمعنى بحيث يصلح لارادة غيره تنبيها على صحّة إرادته

__________________

(١) أضفناه بقرينة المقام.

(٢) الاسراء / ٨٩.

٧٧

أيضا ، ومطابقته للواقع من دون أن يكون مستعملا فيه أصلا ، كما أنّه قد ينشأ الشاعر شعرا بقافية خاصّة على وجه يمكن تغييره ، وقرائته على وجه آخر موزون. وربّما يجري بعض الكلام على الوجه المناسب للمعنى الآخر ، فيصير قرينة على صحّة إرادته أيضا ، فانّ الكلام الصادر من الحكيم القادر العالم بتمام الوجوه ينبغي مطابقته للمعنى بجميع الخصوصيّات ، كما ينبغي كونه على أحسن الوجوه اللّفظية. وحينئذ فاذا لم يتمّ الكلام على الوجه المناسب للمعنى المقصود ، فينبغي حمل ذلك التغيير الواقع في الاسلوب علي نكتة ، ومن أعظمها ما ذكر. ولعلّ ذلك هو المراد خاصّة ، أو بعض أفراد المراد من قوله عليه‌السلام في الخبر السابق : «إنّ الآية ليكون أوّلها في شيء ، وآخرها في شيء ، وهو كلام متّصل يتصرّف على وجوه» (١) وغيره ممّا تقدّم في المقدّمات السّابقة. ولا يختصّ القرينة بالتغيير في الاسلوب ، بل قد يكون الجهتان مجتمعتين ابتداء أحدهما حاليّا أو مساقيا ، والآخر لفظيّا ، إلى غير ذلك. ولعلّ هذا وأشباهه من الاشارة الّتي للخواصّ في الرواية السابقة.

ومنها :

أنّه قد يذكر المتكلّم في كلامه شيئا يشير إلى جريان الحكم المذكور في مورد آخر ، أو عنوان كلّيّ بأن يعلّق الحكم على وصف في مقام تعليقه على الذات أو تذييله بما يقتضي ذلك إشارة أو إيراد في مقام يناسب بيانه.

ومنها :

أنّه ربّما يذكر كلام أحد على وجه الحكاية ، ويسكت عنه في مقام لو كان كذبا اقتضى ردّه ، فيستفاد من الكلام صحّته ، مع أنّ اللّفظ لم يستعمل في ذلك.

__________________

(١) راجع الرواية الاولى من هذه المقدمة.

٧٨

وأما الثّاني : فيما عرفت سابقا أنّ الاشياء لها عوالم ونشئات وأنحاء من الوجود والظهور ، فالرزق مثلا له نحو وجود في هذا العالم ؛ كالحنطة والخبز المأكولين ، وله وجود في السماء ؛ قال سبحانه : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ.)(١) ولأبدان الحيوانات أرزاق ، وللنفوس أرزاق ؛ بل لكلّ شيء رزق ، وهو ما به قوامه وبقائه ونموّه. فليس معنى الرزق إلا واحد ، لكنّه يختلف أحكامه بحسب العوالم ، وإن كان بحسب العرف لا ينصرف إلا إلى الاوّل خاصّة ، إمّا لجهلهم بسائر أنحائه ، أو لكونه أظهر عندهم ، أو لاختصاص الوضع العرفيّ به ، أو الوضع اللّفظيّ به. وحينئذ فالاستعمال في الاعمّ فيما سوى الاخير حقيقة لغويّة ، وعلى الاخير مجاز لفظيّ وحقيقة معنويّة. ولا ضير في التزام المجاز اللّفظي في آيات الكتاب خصوصا مع كونه حقيقة معنويّة. ألا ترى إلى إطلاق اليد والسمع والبصر والاحاطة والاستواء وغيرها على الله تعالى مع استحالة معانيها العرفيّة على الله سبحانه؟ والظاهر في تفسير ظاهر الظاهر هو الاوّل ، وفي غيرها هو الثاني ، وإن أمكن في بعض البطون حمل اللّفظ على الظاهر ، والانتقال إلى البطن بمثل ما تقدّم في الوجه الاوّل.

وربّما يستفاد من كلام بعض العارفين أنّ الالفاظ لم توضع بازاء خصوص المفاهيم العرفيّة أصلا ، بل هي موضوعة بازاء الحقائق الواقعيّة العامّة ، وأنّ أفرادها المعنويّة أولى بالصدق من الافراد الحسّيّة ، وهذا بناء على أنّ الواضع هو الله سبحانه ، وأنّ الاسماء تنزل من السماء ، أو بني بأمر الحقّ أو إلهامه ، أو أنّ دلالتها بالمناسبة الذاتيّة ، له وجه وجيه ، وإن كان التعميم في بعض المقامات محلّ تأمّل. والله سبحانه العالم بحقيقة الحال.

__________________

(١) الذاريات / ٢٢.

٧٩

[في أنّ للقرآن محكما ومتشابها ، وناسخا ومنسوخا ، وسننا وأمثالا ، وفصلا ووصلا ، وأحرفا وتصريفا وما جاء فيها]

وأمّا المحكم ، فالظاهر أنّه الكلام الدالّ على المراد منه بالصراحة أو الظهور بحيث يفهم منه المعنى المقصود منه ، ولو بما اكتنف من القرائن الحاليّة والمقاليّة ، فيكون المتشابه هو ما لا يدلّ عليه كذلك ، سواء لم يكن ظاهرا في شيء أصلا ، كالحروف المقطّعة على كثير من الاحتمالات ، أو كان موهما لما لا يراد منه ؛ كقوله تعالى :

(الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى.)(١)

والمنسوخ ، هو الآية الدالّة على حكم كان ثابتا بحيث يترائى منه الدوام ، ثمّ رفع.

والناسخ ، ما اشتمل على الرافع له.

وعن الكليني في الكافي بسنده عن محمّد بن سالم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال :

«إنّ أناسا تكلّموا في القرآن بغير علم ، وذلك أنّ الله يقول : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ.)(٢) فالمنسوخات من المتشابهات ، والناسخات من المحكمات ـ الحديث.» (٣)

__________________

(١) طه / ٥.

(٢) آل عمران / ٧.

(٣) الكافي ، ج ٢ ، ص ٢٨ ، ح ١ ؛ والوسائل ، ج ١٨ ، باب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، ص ١٣٤ ، ح ١٨.

٨٠