مجد البيان في تفسير القرآن

آية الله الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي

مجد البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٣

وأنواعها موقوفة على معارف وإخلاق وأعمال هي الموصلة إليها ، ويعبّر عن مجموعها بالدين والشريعة ؛ كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«ما من شيء يقرّبكم إلى الجنّة ويباعدكم من النار إلا وقد أمرتكم به ، وما من شيء يقرّبكم إلى النار ويباعدكم من الجنّة إلا وقد نهيتكم عنه.» (١)

على ما يخطر ببالي من ألفاظ الحديث. أو قريبا من ذلك.

وحينئذ فصراط نعيم الآخرة وصراط الذين أنعم الله عليهم هو الدين والعبادة ؛ (وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ.)(٢)

ووصفه بالاستقامة إمّا باعتبار التوسّط وترك الافراط والتفريط فيه ، وإمّا باعتبار كون سلوكه كسلوك الطريق المستقيم في سرعة الوصول إلى المقصود وقربه ، إذ بين كلّ مكانين خط مستقيم واحد هو أقصر الخطوط المتصوّرة ، وخطوط معوّجة هي أطول منه على حسب بعده من الاستقامة وقربه إليها ، وسالك المستقيم أسرع وصولا من سالك كلّ منها ، وكذلك بين الانسان والوصول إلى المقصد طريقة هي أقرب الطرق إليه فهو المستقيم ، وطرق بعيدة لعدم تمحّضها من المقرب ، بل هو بين تقريب وتبعيد ، كما أنّ الطريق المنحرف مشتمل على توجّه نحو المقصود وانحراف عنه ، وكأنّه مركّب من المستقيم وغيره وبقدر ما فيه من المستقيم يوصل إلى المقصود. وحينئذ فسالك طريق العبوديّة والطاعة المحضة هو السالك للصراط المستقيم ، والآخرون الّذين خلطوا بينه وبين غيره سالكون طرقا منحرفة ، لكن

__________________

(١) أورده ابن شعبة الحرّاني (رض) فى تحف العقول ، فى جملة مواعظه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، ص ٢٨ ، لفظه هو : «انه والله ما من عمل يقربكم من النار الا وقد نبأتكم به ونهيتكم عنه ، وما من عمل يقربكم من الجنة الا وقد نبأتكم به وأمرتكم به.»

(٢) يس / ٦١.

٣٢١

بقدر ما فيه من الطريق المستقيم يقربون إلى المقصود. فان كان غالبا أدّاه بالآخرة إلى المطلوب ، وإلا فهالك أو مرجي لأمر الله ، إمّا يعذّبهم ، وإمّا يتوب عليهم (١).

ثمّ إنّك إذا مثّلت الاعمال القلبيّة والجوارحيّة الصادرة من عباد الله مدّة أعمارهم في نفسك مع دخولهم الجنّة بعد وفاتهم ، رأيت تلك الامور الاختياريّة كأنّها طيّ مسافة كانت واقعة بين هؤلاء والجنّة ، فلمّا سلكوها وقطعوها وصلوا إلى مقصودهم ، كما أنّ أعمال الكفّار والفجّار طريق لهم إلى النار كذلك ، فلمّا قطعوه وقعوا فيها. فهذا صراط المغضوب عليهم والضالّين ، وهو صراط الّذين أنعمت عليهم وصراط العبوديّة والعبادة.

[الصّراط في الآخرة هو جسر معهود وبيان ارتباطه مع صراط الدّنيا]

هذا كلّه في المعنى الظاهريّ في عالم الدنيا ، وأمّا في عالم الآخرة ، فهو جسر ممدود على متن جهنّم لا بدّ في الوصول إلى الجنّة من المرور عليها على ما ورد في الشرع من صفاتها وما يتعلّق بها. والاعتبار يقتضي أن يكون سلوك ذلك الصراط مطابقا لسلوك الصراط المتقدّم في دار الدنيا ، فهو يمرّ غدا على ذلك الصراط على نحو ما يسلكه اليوم ، إلا أن يتدارك حاله برحمة خاصّة يغيّر حاله.

وهو أدقّ من الشعر وأحدّ من السيف ، كما أنّ لكلّ شأن من شئون العبوديّة حدّا ومعيارا يكون الخروج منه غلوّا أو تقصيرا خارجا عن الاستقامة. ففي مقام المعرفة تنتهي الدقّة إلى حدّ لا يوصف خصوصا في معرفة الحقّ ، فقلّ ما يكون معرفته مطابقة لما عليه الواقع من جميع الوجوه ؛ وفي مقام الاخلاق حدّه التوسّط بين الافراط والتفريط والعدالة ؛ وفي مقام العمل الاتيان بالاعمال مستجمعا لجميع الحدود والشرائط الظاهريّة والباطنيّة للصحّة والكمال والقبول

__________________

(١) كما يشهد له قوله تعالى في آية ١٠٦ من سورة التوبة وهي : «وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ.»

٣٢٢

ويختلف الناس في المرور عليه ، كما يختلفون في القيام بوظائف الدين اليوم.

وهو مظلم يسعى الناس فيه على قدر أنوارهم ، كما أنّ أمر الدين في الدنيا كان مشتبها مظلما ، ولا يعمل أحد إلا بمقدار نور إيمانه ومعرفته.

[الأئمّة ـ عليهم‌السلام ـ هم الصّراط ومعرفتهم معرفته]

ثمّ إنّ للدّين أصولا وفروعا وأخلاقا وأعمالا لو كان شخصا حسيّا وقالبا مرئيّا لكان أمير المؤمنين والائمّة عليهم‌السلام ؛ لأنّهم عليهم‌السلام في كلّ مقام منه كلّه قد استجمعوا جميع أنحائه ، ففي مقام الايمان والمعرفة هم كلّ الايمان والمعرفة ، وفي مقام كلّ خلق حسن هم الكاملون فيه ، بحيث لا يخرج عن صفاتهم شيء من ذلك الخلق ، بل كلّ ما كان زائدا على ما وجد فيهم فهو خارج عن العدالة ، وليس جزء من الدين ، وكذلك في مقام الاعمال ، فعملهم هو العمل المطلوب في الدين. ولو لم يكونوا كذلك لم يؤمر بالاقتداء بهم ، والاخذ بسنّتهم ، والتأسّي بهم.

فاذا كان الدين صراطا في الدنيا كان حقيقته وصورته الخارجيّة صراطا من عرفه واقتدى بهداه نجى ؛ لأنّ معرفته على هذا الوجه والاقتداء به هو الدين ، ولا يعرف الدين إلا من جهتها ، فالامام صراط باعتبار كونه صورة الدين وحقيقته الخارجيّة ، ومعرفته صراط ؛ لان معرفته كذلك معرفة الدين ، ومعرفة الدين هو الصراط ، والعمل به سلوك الصراط ، وهو الاقتداء بهم والاستنان بسنّتهم والاخذ بطريقتهم في كلّ مقام ؛ إذ كلّ شأن من شئونهم داخل في الدين ، وليس للدين شأن خارج عن شئونهم ، فهم أرباب الدين بقول مطلق.

ثمّ إنّ للانسان سيرا معنويّا إلى الله سبحانه يعبّر عنه بالسلوك إلى الحقّ ، يوصل الانسان إلى مقام الحقيقة ، وهو مشتمل على طيّ مسافة ومنازل معنويّة

٣٢٣

حتّى يصل العبد إلى مقصوده. وربّما يظهر لسالكه هذا الطريق في خلسة أو رؤيا ، فيراه على ما هو عليه من الصورة ، ويرى نفسه سالكا فيه ، وهو صراط مستقيم إلى معرفة الله سبحانه ، ومشتمل على عبادات جسمانيّة وروحانيّة ، وتقوى ظاهريّة وباطنيّة ، وتحصيل حقيقة الاقتداء بالامام عليه‌السلام حالا وعملا وعلما ، وتشبّه به عليه‌السلام ، وبه يظهر معرفة الامام ؛ إذ من لم يكن عنده حظّ ما من شيء لا يعرف حال من له الحظّ الاوفر منه ، فمن لم يذق شيئا لم يدر ما حال الذائقين. فكلّ مقام ليس للعبد فيه نصيب فهو محروم من معرفة أهله من هذه الصفة ، على أنّ معرفة الائمّة عليهم‌السلام على نحو حقّ اليقين موقوف على حصول الارتباط المعنويّ بهم ، وظهور مقامات ولايتهم الباطنيّة على النفس المتّصلة بهم ، حتّى يكون تصديقه بامامتهم عن عيان ، لا عن خبر وسماع.

ولعلّه إليه يشير ما ورد في صفات الشيعة وحصر الشيعة فيمن اتّصف بصفات على ما ذكره المحدّثون في أخبار كثيرة ، فراجع (١).

[للعلوم والعقل مدخليّة في السّير إلى الله]

ثمّ إنّ للعلوم والادراكات جوهرة نورانيّة ، وللجهل المركّب والكفر والشرك جوهرة ظلمانيّة في عالم وراء هذا العالم ، وللأخلاق الحسنة والسيّئة تشكّلات بهيّة وقبيحة ، وللاعمال الحسنة والسيّئة تجسّمات حسنة وقبيحة ، فتصير العلوم والمعارف والاخلاق والاعمال جواهر مجرّدات عن المادّة العنصريّة في غيب هذا العالم ، إمّا في طرف علّيّين الّذي يشهده المقربون فيصعد بصاحبه إلى ذلك العالم ، وإمّا في طرف سجّين الذي يقابله فيهبط به إليه ، كما كان كلّيّات هذه

__________________

(١) راجع كتاب «صفات الشيعة» للصدوق (رض) ، وقد جمع فيه أحاديث كثيرة فى هذا المعنى.

٣٢٤

الامور الثلاثة جواهر قبل ظهورها في هذا العالم. فكلّ خير منها بمنزلة خطوة يقرّب الانسان إلى علّيّين ، فهو سلوك صراط مستقيم ، وكلّ شرّ منها بمنزلة قدم يقرّب إلى أسفل السافلين ، فهو سلوك بالنسبة إليه ، بل هيهنا سموات سبعة وأرضين سبعة ، لكلّ منها سكّان واقتضائات وأهل ، وكلّ إنسان بحسب مقام باطنه ساكن في واحد منها إن كان واقفا ، ومقيم فيه مسافر إلى غيره إن كان متبدّلا ، فالانسان وإن كان ببدنه في الدنيا لكنّه بباطنه في أحد تلك الاماكن فسالك السماء وما فوقها سالك الصراط المستقيم.

ثمّ إنّ للعقل الكلّيّ المجرّد جنودا من الملكات والاعمال والعلوم في عالم المجرّدات ، وللجهل الكلّي البسيط الظلماني جنودا كلّيّة تقابل تلك الجنود على تفصيل مذكور في الاخبار (١). وهي بمنزلة الاصل بالنسبة إلى ما يظهر فينا منها. والعقل نازل عند العرش في مقام القرب إلى الله سبحانه ، والجهل ساكن في مقابله ، فبقدر ظهور كلّ من الجندين في الانسان يقرب الانسان من منزل سلطانه ومأويه ، فهو سلوك صراط بالنسبة إليه.

ثمّ إنّ للانسان كان مقاما خاطبه ربّه ب (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) ، فقال : بلى (٢). ثمّ نزل بعد ذلك حتّى وصل إلى هذا العالم المشحون بأسباب الغفلة والبعد عن الحضور عند المعبود. وله عروج عنها يصل به إلى ذلك المقام الّذي كان له أوّلا. ولعلّ إليه يشير ما ورد من أنّ : «الصلاة معراج المؤمن.» (٣)

__________________

(١) كرواية رواها الكليني (ره) في الكافي ، ج ١ ، كتاب العقل والجهل ، ص ٢٠ ، ح ١٤ ؛ والصدوق (ره) في الخصال والعلل ، والبرقي (ره) في المحاسن كما في البحار ، ج ١ ، باب علامات العقل وجنوده ، ص ١٠٩ ، ح ٧. وكلهم رووها عن سماعة بن مهران ، عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ.

(٢) ناظر إلى قوله تعالى : «... وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا ...» (الاعراف / ١٧٢).

(٣) حديث نبويّ مشهور.

٣٢٥

فهو سلوك صراط مستقيم يوصله إلى ربّه ، كما كان واصلا قبل ذلك ، حتّى يقابل القوس الصعودي القوس النزولي. ولعلّ إليه الاشارة بقوله تعالى :

«لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ* ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ـ الخ.» (١)

فتدبّر وتأمّل.

[طلب الهداية من أهمّ أفراد الاستعانة]

ثمّ إنّ العبد لمّا كان في كلّ حركة وسكون وكلام وسكوت وحال من أحواله ينقسم إلى أقسام ثلاثة : مقرّب له إلى ربّه ، وإلى رضوانه وكرامته ، وإلى مقام أوليائه عنده ، وإلى إفاضاته المعنويّة والبركات الباطنيّة ، وإلى ثوابه ونعمته في البرزخ والقيامة الكبرى والجنّة ؛ ومبعد له عنه سبحانه ، وعن رضوانه ، وعن مقام أوليائه ، وعن الكرامة والنعيم ؛ مقرب له عن الهوان والغضب ، وعن مواطن أعدائه من شياطين الانس والجنّ ، وإلى الشقاوة المعنويّة والزجر المعنويّ والعقاب في البرزخ والقيامة والنار ، ومتوسّط لا خير فيه ولا شرّ ، وكان الامر ملتبسا في هذه الدار الظلمانيّة البعيدة عن عالم النور ، مع شدّة الحاجة إلى معرفة ذلك في جميع أنحائه وشئونه وتنقّلاته واجتماعاته وافتراقاته وأفكاره وأنظاره ولحظاته ، كان أهمّ الامور بعد الالتزام بالعبوديّة والاستعانة بالحقّ بعنوان مطلق طلب الهداية إلى صراط الحقّ المؤدّي للانسان إلى نيل كلّ مطلوب ؛ كما يشير إليه لفظ (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) بقول مطلق. وكان هذا من أعظم أفراد الاستعانة المطلقة ، كما أنّ الاستعانة الحقيقيّة من معظم أقسام العبوديّة والعبادة ، وبه يظهر ارتباط هذه الآية بما قبلها ؛ مع أنّ بعد الحضور بين يدي السلطان المطلق وعرض العبوديّة له وتخصيص الاستعانة به ، الدالّ على العجز والنقص ناسب عرض الحاجة المهمّة

__________________

(١) التين / ٤ ـ ٦.

٣٢٦

الّتي لا أهمّ منها للعبد ، وهو طلب الهداية.

[أنحاء سلوك الصّراط في يوم القيامة]

ولهداية الله سبحانه عبده واستجابته هذا الدعاء أنحاء ، أظهرها في هذا العالم ، وسببه العادي الشائع هو الهداية بتوسّط هاد من جنسه ، وهو النبيّ والامام بعد تعريف العبد إيّاه ؛ إذ هو الواسطة بين الحقّ في مقام الهداية ، والمبيّن للحقّ بكلامه وعلمه وخلقه وعمله ، وكلّ من كان علمه به أكثر كان أعلم بالحقّ ؛ إذ هو مع الحقّ والحقّ معه ، فمعرفته معرفة الصراط ، وهو الصراط ، حيث انّ المقتدي به في الجنّة وتاركه المعاند له في النار. فمن كان ثابتا معه نجى ، كالثابت على الصراط ، والمتخلّف عنه هالك ، كالّذي زلّ عن الصراط. والثابت معه في طريقته إمّا ثابت باستقامة وقوّة بلا كلفة ، فهو مارّ على الصراط راكبا أو كالبرق ؛ وإمّا مع كلفة يسيرة فهو كالماشي على الصراط ؛ وإمّا مع تكلّف شديد بلا قوّة فهو كمن يمرّ حبوا ؛ ومنهم : من يثبت تارة وينحرف أخرى ، أو من جهة دون جهة ، فهو كمن يمرّ عليه متعلّقا فتأخذ النار منه شيئا وتترك شيئا.

وليس الغرض الاصليّ من معرفة الامام معرفة شكله وأوصافه البشريّة ؛ إذ الكفّار والفجّار المشاهدون له يعرفون ذلك كلّه ، ولا يعرف شيئا منها الموالي له الغائب عن خدمته ، بل معرفة إمامته وما يتعلّق بامامته ، وهو حقيقة مصداق الدين والصراط المستقيم ، فالمقتدي به هو السالك للصراط المستقيم.

وعلى هذا فيتّحد طلب الهداية إلى الصراط وطلب معرفة أمير المؤمنين عليه‌السلام على الوجه المتقدّم ، فهو مذكور في أمّ الكتاب على ما مرّ. ولعلّ وصفه حينئذ بالعلوّ لوصوله إلى المقصود وتكميله السير على الصراط ، ولا تقانه العلم والعمل وهما الجزئان للصراط ، أو لسلوكه على ما مرّ.

٣٢٧

ويمكن أخذ الاسم الاوّل علما في هذا النحو من التأويل ، والحكم خبر مبتدأ هو ضمير له ، ويكون الغرض الاخبار عن حكمته وصلاحيّته للامامة العامّة ، والتعبير ب «لدينا» إشارة إلى نهاية قربه من الله سبحانه ، أو ثبوت كونه كذلك عند الحقّ مصونا عن التغيير والتبدّل.

[معرفة الامام هي معرفة الله ومعرفة النّبيّ والدّين والعبوديّة والرّبوبيّة]

ثمّ إنّ الّذي يظهر من التأمّل في صفة الامام أنّه مظهر للحقّ بآيتيّته له ، وظهور أسمائه سبحانه فيه ، وصيرورته عين المعرفة بالحقّ ، فمعرفته معرفة الحقّ ، وهو الطريق إلى معرفة الله سبحانه بفنائه عن نفسه وبقائه بربّه ، وفناء صفات نفسه وظهور انعكاس صفات الحقّ فيه ، وفنائه عن إراداته وتبعيّته المطلقة لارادة ربّه بظهور إرادة الله سبحانه فيه ، وفنائه عن أفعاله وظهور أفعال الحقّ فيه ، فهو مرآة لمعرفة الله بعنوان مطلق ولمعرفة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأنّه مماثل له نائب عنه وخليفة له ، قائم مقامه في جميع الشؤون سوى خصائص النبيّ.

وهو مظهر صفة العدل ، لكونه عادلا في شؤون نفسه وفي شؤون العباد كلّها ، وهو حاك عن المعاد بجامعيّته حيث إنّ الّذي يظهر من صفة المعاد هو الجمع بين العوالم المتضادّة ، وتوافق العوالم وظهور البعض في الآخر ، وهذا ظاهر صفة الامام. وباستشرافه على عالم الآخرة فالعارف بالامام هو العارف بأصول الدين على التفصيل.

ثمّ إنّه مع ذلك عبد مطلق ظهر فيه العبوديّة بكمالها وتحقّق فيه ، فمعرفته معرفة العبوديّة ، كما أنّها معرفة الربوبيّة ، ومتابعته خلقا وإرادة وعملا هو العبوديّة والعبادة ، فهو في صورة الصراط وحقيقته في الخارج.

٣٢٨

ثمّ إنّ هيهنا لحاظا آخر ، وهو لحاظ أنّه إن ذكر الخير كانوا أوّله وأصله وفرعه ومعدنه ومأويه ومنتهاه ، والصراط المستقيم صراط اكتساب بالخيرات إلى أن يصل إلى المقصود ، فهم عليهم‌السلام أصل الصراط المشتمل على جميع ما يقرّب العبد إلى الله سبحانه بهذا الاعتبار ، ويحصل في غيرهم رشحات منه بقدر مرتبة تشيّعهم ، كما أنّهم الاصل للطينة الطيّبة الّتي هي أصل الخيرات ، وطين المؤمنين تبع في الخيريّة لطينتهم عليهم‌السلام.

وربّما يرشد إلى ما ذكرنا أنّ فواتح السور بعد حذف المكرّرات يتركّب منها جملة : «عليّ صراط حقّ نمسكه.» (١)

ثمّ إنّ هداية الحقّ سبحانه لا تنحصر في الهداية الظاهريّة الّتي يحصل بتعلّم العلم صورة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والائمّة عليهم‌السلام بالمشافهة ، أو بمطالعة أخبارهم الحاكية عمّا صدر عنهم من قول أو عمل ، أو بالاخذ عن تعلّم منهم عليهم‌السلام ، وإن كان هو الطريق الظاهر العامّ العاديّ وكونهم مظاهر لاسم الهادي ، بل هيهنا هداية من طرف العقل الذي هو حجّة داخليّ ابتداء ، أو بملاحظة آيات الآفاق والانفس وهداية من طرف إلقاء الملك الموكّل بالقلب وروح الايمان ، وهداية من طرف ما يجري الله سبحانه على ألسن العباد من الحكم ، وهداية من طرف اتصال النفس المتصف بصفات التشيّع بالامام عليه‌السلام فيستمدّ منه ، وهداية من طرف صحّة الحواسّ الباطنيّة المدركة لأمور غائبة عن مشاعر هذا العالم ، وهداية بالنور الّذي يقذف في القلب ، كما ورد في الحديث على ما ببالي :

«ليس العلم بكثرة التعلّم ، بل هو نور يقذفه الله تعالى في قلب من يريد أن يهديه.» (٢)

__________________

(١) وقد أشار إليه الفيض (ره) في الصافي ، ج ١ ، ص ٥٨.

(٢) هذا كلام الامام الصادق ـ عليه‌السلام ـ في حديث عنوان البصري حيث قال ـ

٣٢٩

والظاهر تبعيّته في كلّ ذلك للامام ، كما كان تبعا في الهداية السابقة ، فلا تغفل.

[أنحاء الهداية على ما ذكرها الشّيخ البهائيّ (ره)]

وقال شيخنا البهائي ـ قدّس الله نفسه ـ :

«واعلم! أنّ أصناف هدايته جلّ شأنه وإن كانت ممّا لا يحصر مقداره ولا يقدّر انحصاره إلا أنّها على أربعة أنحاء :

أولها : الهداية إلى جلب المنافع ودفع المضارّ ، باضافة المشاعر الظاهرة والمدارك الباطنة والقوّة العاقلة ، وإليه يشير قوله تعالى : (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى). (١)

وثانيها : نصب الدلائل العقليّة الفارقة بين الحقّ والباطل ، والصلاح والفساد ، وإليه يشير قوله عزّ وعلا : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ.)(٢)

وثالثها : الهداية بارسال الرسل وإنزال الكتب ، وإليه يومي قوله تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى.)(٣)

ورابعها : الهداية إلى طريق السير إلى حضائر القدس ، والسلوك إلى مقامات الانس بانطماس آثار التعلّقات البدنية ، واندراس أكدار الجلابيب الجسميّة ، والاستغراق في ملاحظة أسرار الكمال ، ومطالعة أنوار الجمال. وهذا النوع من

__________________

 ـ عليه‌السلام : «ليس العلم بكثرة التعلم ، انما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن يهديه.» أورده الشهيد الثاني ـ رفع الله درجاته ـ في منية المريد ، الباب الاول ، ص ٣٨ ؛ وقد علمت موضعه في الكشكول والبحار في تعليقة ٢ ص ٣٢٩.

(١) طه / ٥٠.

(٢) البلد / ١٠.

(٣) فصلت / ١٧.

٣٣٠

الهداية يختصّ به الاولياء ومن يحذو حذوهم ـ ثمّ قال : ـ

فاذا تلا هذه الآية أصحاب المرتبة الثالثة أرادوا بالهداية المرتبة الرابعة ، وإذا تلاها أصحاب المرتبة الرابعة أرادوا الثبات على ما هم عليه من الهدى ، كما روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (١) من تفسير «إهدنا» ب «ثبّتنا» ، أو زيادته.» (٢)

__________________

(١) نقله أيضا الطبرسي (ره) في جوامع الجامع ، ص ٤.

(٢) العروة الوثقى (المخطوط).

٣٣١

[تحقيق حول النعمة والمنعم عليهم والمغضوب]

[عليهم والضالين]

(صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)

عن المعاني وتفسير الامام عليه‌السلام ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام :

«أي : قولوا : إهدنا صراط الّذين أنعمت عليهم بالتوفيق لدينك وطاعتك ، لا بالمال والصحّة ، فانّهم قد يكونون كفّارا أو فسّاقا. قال (١) : وهم الّذين قال الله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً.)» (٢)

[الوسائط في إيصال النّعمة ليسوا منعمين]

أقول : حدّ النعمة بأنّها المنفعة المفعولة على جهة الاحسان إلى الغير ، فلو قصد الفاعل منفعة نفسه أوّلا لا على جهة الاحسان إلى الغير لم يكن نعمة ، فلا يستحقّ الشكر ، وقد نبّهنا سابقا على التوحيد في اسم المنعم ، وأنّ ما بنا من

__________________

(١) من قوله : «لا بالمال» إنى هنا في الصافي فقط.

(٢) المعاني ، باب معنى الصراط ، ص ٣٦ ، ح ٩ ؛ وتفسير الامام ـ عليه‌السلام ـ ، ص ١٧ ؛ والصافي ، ج ١ ، ص ٥٥ ؛ والبحار ، ج ٩٢ ، باب فضائل سورة الفاتحة وتفسيرها ص ٢٥٥ ، ح ٤٨.

٣٣٢

نعمة فمن الله (١) ، وكلّ نعمة وصلت إلينا بتوسّط أحد من المخلوقين ، فخالقها وخالق الواسطة وجاعله واسطة فيه هو الحقّ ، فمثال الواسطة مثال العبد الّذي سخّره مولاه وأمره بأن يوصل إلينا طعاما من أطعمته ، فهو ليس بمنعم علينا أصلا ، ولا يستحقّ الشكر ؛ لأنّ الطعام والعبد والتسخير كلّها من المولى ، وليس العبد محسنا إلينا ، وإنّما متسخّر لما سخّره مولاه. وكذلك لا يستحقّ الواسطة بيننا وبين النعم اسم المنعم ولا الشكر عليها ، فانّه مسخّر تحت راعيه سخّرها مسبّب الاسباب ليوصل إليك ما قدّره لك ، ولا يقصد بفعله ابتداء إلا نفع نفسه. وحيث رأى منفعة نفسه في الانعام الصوري صيّر نفسه واسطة في وصول النعمة الّتي خلقها خالقها وهو باقية على ملك مالكها (٢) ؛ كالعبد في المثال المتقدّم ، وكالبهيمة الّتي يحمل عليها النعم ، مع أنّ البهائم مختارون في أفعالهم ، فكما ليست منعمة بل واسطة فكذلك الانسان المتوسّط بينك وبين النعمة ، بل والملائكة الموكّلون باصلاح النعمة وما يتعلّق بها أيضا ليسوا منعمين ، ولا يستحقّون علينا شكرا ، فانّهم عبيد مأمورون للحقّ بأمور لا يسعهم إلا الاتيان بها ؛ كالعبد في المثال المتقدّم ليس غرضهم أوّلا وبالذات الاحسان إلينا لأجل أنفسنا ، بل إطاعة أمر مولاهم ؛ (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ). (٣)

[بيان أصناف النّعمة]

ثمّ إنّ أصناف نعم الله سبحانه على عباده كثيرة غير محصورة ، كما قال سبحانه : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها)(٤).

__________________

(١) إشارة إلى قوله تعالى : «وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ...» (النحل / ٥٣).

(٢) في المخطوطة : «مالكها إليك» ، ويحتمل أن يكون «سالكها إليك» ، فيصحّ المعنى حينئذ.

(٣) الانبياء / ٢٧.

(٤) إبراهيم / ٣٤ ؛ والنحل / ١٨.

٣٣٣

لكن ضبطها شيخنا البهائي في ثمانية أنواع ؛ لأنّها إمّا دنيويّة أو أخرويّة ، وكلّ منهما إمّا موهبيّ أو كسبيّ ، وكلّ منهما إمّا روحانيّ أو جسمانيّ ، ثمّ قال :

«وهذه تفصيلها : دنيوي موهبي ، إمّا روحانيّ كافاضة العقل والفهم ، أو جسمانيّ كخلق الاعضاء. دنيوي كسبي ، إمّا روحانيّ كتحلية النفس بالاخلاق الزكيّة ، أو جسمانيّ كتزيين البدن بالهيئات المطبوعة. أخروى موهبي ، إمّا روحانيّ كغفران ذنوبنا من غير سبق توبة ، أو جسمانيّ كالانهار من اللّبن والعسل في الجنّة. أخروي كسبي ، إمّا روحانيّ كغفران الذنوب بعد التوبة ، أو جسمانيّ ، كالملذّ ذات الجسمانيّة المستجلبة بفعل الطاعات.

قال : والمراد هنا الاربعة الاخيرة ، وما يكون وسيلة إلى نيلها من الاربعة الاول.» (١)

أقول :

ويندرج في تلك التوفيق للدين والطاعة المذكورين في الرواية المتقدّمة ، فانّهما أيضا موهبيّ تارة وكسبيّ بالدعاء والتضرّع وغيرهما أخرى ، وهما نعمتان ابتداء وتوصّلا بهما إلى جميع نعم الآخرة ، وليس من شرط النعمة أن يكون بنفسها منفعة ، بل تعمّ المنفعة بنفسها وما يوصل إليها لحصولها ؛ كالدرهم والدينار والعقار ، فانّها ليست منافع بأنفسها ، وإنّما هي موصلات إلى المنافع المقصودة لانفسها.

وحينئذ فيمكن أن يكون الغرض من الرواية أنّ المراد بالنعمة هي النعمة بالقياس إلى حال الآخرة ، ويكون ذكر التوفيق للدين والطاعة على وجه المثال ، وذلك لأنّ أصل النعمة هو ما يكون نعمة بالمآل لا في الحال مع انقطاعه عن المآل

__________________

(١) العروة الوثقى ، المخطوط.

٣٣٤

أو ضرره فيه ، فكأنّ ما سواها لا ينبغي أن يعدّ نعمة بقول مطلق وإن كان في أنظارنا معاشر أهل الدنيا بالعكس ، حيث لا نعدّ لأنفسنا نعمة إلا في المأكل والمشرب وما بحكمهما ، إلا أنّه من جهة الخطاء في النظر المصداقي لا من حيث [هو] وإلا إذا تعمّقنا النظر في النعم الباطنيّة والباقية والاخرويّة علمنا أنّ هذه النعم الدنيويّة لا قدر لها عندها ، ولا ينبغي أن يسمّى نعمة ؛ أو ما سمعت ما روي عن الامام المطلق عليه‌السلام من قوله :

«والله ما دنياكم عندي إلا كسفر على منهل (١) حلّوا إذ صاح بهم سائقهم فارتحلوا ، ولا لذاذتها في عيني إلا كحميم أشربه غسّاقا ، وسمّ أفعاه أتجرّعه ذعاقا (٢) ، وقلادة من نار أوهقها (٣) خناقا» (٤)؟

على ما يخطر ببالي من ألفاظه. بل جعله كعراقة خنزير في يد مجذوم أو أهون منه. (٥)

نعم ، من حيث التوصّل بها إلى الآخرة هي نعم مقدّميّة لانفسيّة ، لكنّ الكافر محروم من هذه الحيثيّة وإن كان هو منشأ حرمانه بسوء اختياره. فتخصيص

__________________

(١) المنهل : موضع شرب الماء على الطريق.

(٢) في الامالي والبحار : «دهاقا».

(٣) الوهق بفتحتين : حبل يلقى في عنق الشخص يؤخذ به ويوثق (المصباح).

(٤) رواه الصدوق (ره) في الامالي ، المجلس التسعون ، ح ٧ ، عن المفضل بن عمر ، عن الصادق ، عن أبيه ، عن جده ، عن أبيه ـ عليهم‌السلام ـ ، عنه ـ عليه‌السلام ـ ؛ ونقله المجلسي (ره) في البحار ، ج ٧٧ ، باب مواعظ أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ وخطبه ، ص ٣٩٢ ، ح ١٣.

(٥) راجع نهج البلاغة ، ح ٢٣٦ ، ص ٥١٠. وأصل كلامه ـ عليه‌السلام ـ هو : «والله لدنياكم هذه أهون في عيني من عراق خنزير في يد مجذوم.»

٣٣٥

الانعام هنا بالانعام الحقيقيّ ليس بعيدا عن لفظ الآية في الواقع وإن ظننّاه بعيدا لخطائنا في المصداق.

ويمكن أن يراد من الرواية حصر النعمة في الآية بما ذكر ، وله أيضا وجه حيث إنّ قرينة ذكر (الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) قبل هذا الّذي هو صراط الدين والطاعة بناء على ما سبق يقوّي احتمال إرادة ذلك بخصوصه من الانعام.

ولعلّ في إبقاء اللّفظ حينئذ مطلقا بناء على هذا إشارة إلى أنّ ذلك موصل إلى كلّ النعم وبمنزلة الاصل لجميع النعم ، وهو كذلك عند الخبير. وكلا الوجهان آتيان في قوله تعالى : «وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ ـ الخ» (١).

ويحتمل فيهما وجه ثالث ، وهو إرادة المنعم عليهم بعموم النعم ، الّذين يصدق عليهم ذلك بقول مطلق ، فالكفّار وإن شاركوهم في القليل ، لكنّهم محرومون عن العموم. وأمّا إبقاء الانعام في الآية على إطلاقه وإخراج الكفّار ونحوهم عنه بقوله : «غَيْرِ الْمَغْضُوبِ ـ الخ» كما ربّما يظهر من بعضهم فبعيد بالنظر القاصر.

(غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)

في ذيل الرواية المتقدّمة أنّه قال في (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) :

«هم اليهود الّذين قال الله فيهم : (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ)(٢)».

وفي الضالّين قال :

«هم النصارى ، الّذين قال الله فيهم : (قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً)» (٣).

__________________

(١) قد مرّ آنفا.

(٢) المائدة / ٦٠.

(٣) الآية : المائدة / ٧٧ ؛ والحديث في تفسير الامام ـ عليه‌السلام ـ ، ص ١٨ ؛ ـ.

٣٣٦

وزاد في تفسير الامام عليه‌السلام :

«ثمّ قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : كلّ من كفر بالله فهو مغضوب عليه ، وضالّ عن سبيل الله.»

وعن المعاني ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«(الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) شيعة عليّ عليه‌السلام ؛ يعني : أنعمت عليهم بولاية عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، لم تغضب عليهم ، ولم يضلّوا.» (١)

وعن الصادق عليه‌السلام :

«يعني : محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله وذرّيّته ـ صلوات الله عليهم ـ.» (٢)

والظاهر التعميم له صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذرّيّته الائمّة ـ صلوات الله عليهم ـ ، وشيعة أمير المؤمنين ، الّذين شايعوه وسائر النبيّين والصدّيقين ، كما يدلّ ظاهر اللّفظ والرواية السابقة ، ويوافقه الآية الاخرى المتقدّمة.

وفي الكافي في الصحيح عن معاوية بن وهب قال :

«قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أقول آمين إذا قال الامام : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)؟

قال : هم اليهود والنصارى. ولم يجب في هذا.» (٣)

__________________

 ـ والصافي ، ج ١ ، ص ٥٥ ؛ والبحار ، ج ٩٢ ، باب فضائل سورة الفاتحة وتفسيرها ، ص ٢٥٦ ، ح ٤٨

(١) المعاني ، باب معنى الصراط ، ص ٣٦ ؛ والصافي ، ج ١ ، ص ٥٥ ؛ ونور الثقلين ، ج ١ ، ص ٢٣.

(٢) نفس المصادر.

(٣) لم نظفر عليه في الكافي ، ولعله لا يكون فيه ، وقد يدل عليه بعض الشواهد ؛ كعدم نقله عنه في كتب الجامعين والشارحين ، وقد نقله الفيض (ره) في الوافي عن التهذيب ، ـ

٣٣٧

وروى القميّ على ما في النسخة بسند معتبر عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قرأ : «(اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) غير المغضوب عليهم وغير (١) الضالين» قال :

«(الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) : النصّاب ، و (الضَّالِّينَ) : اليهود والنصارى» (٢).

وبسند معتبر آخر عنه عليه‌السلام في قوله : «غير المغضوب عليهم وغير الضالين» قال :

«المغضوب عليهم : النصّاب ، والضالّين : الشكّاك الّذين لا يعرفون الامام.» (٣)

[في معنى الغضب والضّلال]

أقول : أصل الغضب ثوران النفس لارادة الانتقام ، وإذا أسند إلى الحقّ فهو باعتبار الغاية ، كالرحمة ، عندهم. والظاهر عندنا تحقّق مبدء الغاية في حقائق الاسماء المخلوقة.

__________________

 ـ والعروسي الحويزي (ره) في نور الثقلين عن الاستبصار ، والحر العاملي (ره) في الوسائل عنهما. ويحتمل أن المؤلف (قده) أخذه عن الوسائل ، وخلط في اسناد هذا الحديث وما قبله واستظهر أنه في الكافي ، والله العالم. فراجع التهذيب ، ج ٢ ، باب في كيفية الصلاة ، ص ٧٥ ، ح ٤٦ ؛ والاستبصار ، ج ١ ، باب النهي عن قول «آمين» بعد الحمد ، ص ٣١٩ ، ح ٤ ؛ والوسائل ، ج ٤ ، باب ١٧ من أبواب القراءة في الصلاة ، ص ٧٥٢ ، ح ٢ ؛ ونور الثقلين ، ج ١ ، ص ٢٥ ، ح ١١١.

(١) في بعض نسخ القمي : «ولا الضالين».

(٢) القمي ، ج ١ ، ص ٢٩ ؛ والبحار ، ج ٩٢ ، باب فضائل سورة الفاتحة وتفسيرها ص ٢٣٠ ؛ ونور الثقلين ، ج ١ ، ص ٢٤.

(٣) نفس المصادر ، وهكذا رواه العياشي (ره) في تفسيره ، ج ١ ، ص ٢٤ ، ح ٢٨ ؛ ونقله الفيض (ره) في الصافي ، ج ١ ، ص ٥٥.

٣٣٨

و «الضلال» هو العدول عن الصراط السويّ ولو خطأ ، وأصله على ما قيل الغيبوبة ، ضلّ الماء في اللّبن إذا غاب فيه ، وضلّ الكافر غاب عنه ؛ قال الله تعالى : (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ.)(١)

فيدخل في (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) كلّ تفريط وتقصير موجب للغضب ؛ إذا المفرط هو المعرض المدبر ، فهو البعيد ، كما فعلت اليهود بموسى وعيسى ومحمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليهما ـ ، وفي «الضالّين» كلّ إفراط وغلوّ ؛ إذ المفرط هو المجاوز الّذي غاب عنه المطلوب ؛ كالنصارى بالنسبة إلى عيسى عليه‌السلام ؛ يدخل في صراط المنعم عليهم كلّ وسط واستقامة في عمل أو اعتقاد. كذا قيل (٢).

ولعلّ الاولى أن يعدّ الجاحد للحقّ ، والمعاند له ، والعاصي له عن علم وما بحكمه من المقصّر الّذي تهيّأ له أسباب الهداية والرشاد ، وأعرض عنه وعاند ، وأمر على خلافه مغضوبا عليهم ، والمريد للحقّ والطاعة المقبل عليه الّذي أخطأه واعقتد خلافه ، أو بقي حيرانا ضالا ، فانّ الضالّ مريد للمقصود ولكنّه أخطأ ، ولو عرض له تقصير ما في طلب الهداية فالمتوجّه إلى الصراط المستقيم المخطىء عنه ، ولو بسبب عدم بذل الجهد بكماله في تحصيل المقصود ضالّ عنه ، والمدبر عنه دالّ لاستكبار أو عناد أو عصبيّة هو المغضوب عليهم بقرينة المقابلة ، ولأنّهم المستكملون لاستحقاق الغضب.

وهذا هو الظاهر من حال اليهود ، كما يظهر من تصفّح أحوالهم المذكورة في الآيات والاخبار والآثار. والاوّل هو الظاهر من حال النصارى ، كما أنّ الظاهر من حال النصّاب هو الثاني ، ومن الشكّاك الّذين لا يعرفون الامام هو الاوّل ، فينطبق بما ذكر الروايات المذكورة كلّها سوى عدّ اليهود من الضالّين

__________________

(١) السجدة / ١٠.

(٢) الكلام للفيض (ره) ، فراجع الصافي ، ج ١ ، ص ٥٦

٣٣٩

في الرواية التالية للأخيرة.

ويمكن أن يكون ذلك باعتبار عدم قبولهم الولاية عن جهلهم بها ، وإن كانوا معاندين في جحد النبوّة لكنّهم ضالّون عن الامامة ؛ إذ من لم يدخل تحت الدين كيف يظهر له صحة الولاية ، بل لعلّ كثيرا منهم لم يتصوروا الولاية نفيا وإثباتا لبعدهم عن الاصل. ويقرّب التقييد لسبق النصّاب ، وبه يجمع بينها وبين الرواية الاولى.

[علّة عدوله سبحانه عن إسناد الغضب إلى نفسه]

هذا ، ولعلّ في عدوله سبحانه عن إسناد الغضب إلى نفسه جلّ شأنه مع التصريح باسناد مقابله وهو الانعام إليه سبحانه تشييدا لمعالم العفو والرحمة ، وتأسيسا لمباني الجود والكرم ، حتّى كأنّ الصادر عنه هو الانعام لا غير ، مع أنّ قضيّة المقابلة أن يقول غير الّذين غضبت عليهم كجملة من المواضع الّتي جمع فيها الخير والشرّ مع التفكيك بينهما.

وأيضا نسبة الخير إلى الله سبحانه ابتدائيّ ؛ لأنّه مقصود لنفسه ، ونسبة خلق الشرّ إليه باعتبار صدور سبب اقتضى خلقه وهو تبعيّ ، فالموجب لوقوع الشرّ هو سوء حال العبد ، والموجب للخير هو صفات الربّ وعنايته ورحمته ، كما ورد في دعاء التوجّه على ما ببالي :

«والخير في يديك ، والشرّ ليس إليك» (١).

ولعلّك تعرف التفصيل في المواضع المناسبة ـ إن شاء الله تعالى ـ.

__________________

(١) رواه الكليني (ره) في الكافي ، ج ٣ ، باب افتتاح الصلاة ، ص ٣١٠ ، ح ٧ ؛ والشيخ (ره) في التهذيب ، ج ٢ ، باب كيفية الصلاة ، ص ٦٧ ، ح ١٢ ؛ وهكذا في الوسائل ، ج ٤ ، باب ٨ من أبواب تكبيرة الاحرام ، ص ٧٢٣ ، ح ١.

٣٤٠