مجد البيان في تفسير القرآن

آية الله الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي

مجد البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٣

الكثرة نحو : موّتت البهائم. وعليهما يطابق قرائة التخفيف ، فيدلّ الآية على تعليل ثبوت العذاب الاليم بالكذب الصادر منهم بعد اشتراكهم في مرض القلب والكفر. وفيه دلالة على قبح الكذب وسماجته حيث علّل به ثبوت العذاب الاليم ، مع ما هم عليه من الكفر في الباطن. ونظيره قوله سبحانه : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا)(١) حيث علّل الغرق بالخطيئات إن أريد بها ما سوى الكفر.

وكما أنّ هؤلاء المنافقين زادوا على الكفر والمرض المانع للايمان كذبا استحقّوا به عذابا أليما على ما سبق ، كذلك سائر أقسام المخادعين والمنافقين زادوا على انتفاء أغصان الايمان والتشبّث بأغصان الكفر المقابل لتلك الاغصان كذبا قوليّا أو عمليّا ، فصار سببا لاستحقاق زيادة العذاب والالم بذلك.

[في مراتب قبح الكذب]

والكذب وإن كان عبارة عن الاخبار بالشيء على خلاف ما هو به ، والحكاية المخالفة للواقع لفظا ، إلّا أنّه لا يبعد سراية القبح الموجود فيه إلى سائر أفراد الاظهار المخالف للواقع ، وإغراء الناس بالجهل ، والاتيان بما يدلّ على أمر يخالف الواقع بأيّ دلالة كانت ، وأيّ آلة أظهرت ، وإن كان في الاظهار بالكلام أقوى لقوّة دلالته ، وكون الترجمان الاصليّ هو اللّسان. ولا يبعد وصوله في بعض المراتب إلى حدّ الحزازة بحيث يخرج عن صدق اسم القبح عليه ، فيكون القبح قويّا في بعض الاظهارات ، وضعيفا في بعضها ، ومنتفيا صدقه في آخر وإن بقي الحزازة وشائبة ما منه ، فتأمّل.

__________________

(١) نوح / ٢٥.

٥٠١

[تحقيق حول الفساد وجواب المنافقين في منعهم عن الافساد]

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ [قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ])

عن الامام عليه‌السلام أنّه قال العالم موسى عليه‌السلام أنه :

«إذا قيل لهؤلاء الناكثين البيعة في يوم الغدير : (لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) باظهار نكث البيعة لعباد الله المستضعفين ، فتشوّشوا عليهم دينهم ، وتحيرونهم في دينهم ومذاهبهم. (قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) ؛ لأنّا لا نعتقد دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا غير دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونحن في الدين متحيّرون ، فنحن نرضى في الظاهر محمّدا باظهار قبول دينه وشريعته ، ونقضي في الباطن على شهواتنا فنتمتّع ونتركه ونعتق أنفسنا من دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونكفّها من طاعة عليّ عليه‌السلام لكي لا نذلّ في الدنيا ، كما قد توجّهنا عنده ، وإن اضمحلّ أمره كنّا قد سلّمناه على أعدائه» (١).

أقول :

يحتمل كون جملة : «إذا قيل ـ الخ» معطوفا على «يكذبون» ؛ أي : ولهم عذاب أليم بما كانوا إذا قيل لهم كذا قالوا كذا ، وأن يكون معطوفا على «يقول» أي : ومن الناس من إذا قيل لهم ، وأن يكون الواو للاستيناف ، واستوجه الاوّل

__________________

(١) راجع المصادر المذكورة فى تعليقة ٢ ص ٤٨٧.

٥٠٢

بعضهم ، ويضعّفه أنّه على تقديره لا يكون الآيات على سنن تعديد قبائحهم ، وإفادة اتّصاقهم بكلّ من الاوصاف المذكورة قصدا واستقلالا ، وهو الاوّل بحسب ملاحظة مساق الآيات.

[في معنى الفساد]

و «الفساد» : خروج الشيء عن حال استقامته وكونه منتفعا به ، ونقيضه : الصلاح ، وهو الحصول على الحالة المستقيمة النافعة ، كما يظهر من جماعة (١).

وذكر بعضهم أنّ : «الفساد في الارض هيج الحروب والفتن ؛ لأنّ في ذلك فساد ما في الارض ، وانتفاء الاستقامة عن أحوال الناس والزروع والمنافع الدينيّة والدنيويّة ... وكان فساد المنافقين في الارض أنّهم كانوا يمائلون الكفّار ، ويماليونهم على المسلمين بافشاء أسرارهم إليهم وإغرائهم عليهم ، وذلك ممّا يؤدّي إلى هيج الفتن بينهم» (٢).

وقيل : «هو مداراة المنافقين الكافرين ومخالطتهم إيّاهم حيث يوهم ذلك منهم ـ مع كون ظاهرهم الايمان ـ ضعف أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه ، فيصير سببا لطمع الكفّار في المؤمنين ، فتهيج الفتن والحروب».

وقيل : كانوا يدعون في السرّ إلى تكذيبه ، ويلقون الشبه».

وعن ابن عبّاس والحسن وقتادة والسدّي : «أنّ المراد بالافساد المنهيّ عنه إظهار معصية الله تعالى ، فانّ الشرائع سنن موضوعة بين العباد ، فاذا تمسّك الخلق بها زال العدوان ولزم كلّ أحد شأنه ، فحقنت الدماء وضبطت الاموال و

__________________

(١) كالطبرسي (ره) والزمخشري والبيضاوي ، فراجع مجمع البيان ، ج ١ ، ص ٤٩ ؛ والكشاف ، ج ١ ، ص ٣٣ ؛ وأنوار التنزيل ، ص ١٣.

(٢) راجع الكشاف ، ج ١ ، ص ٣٣.

٥٠٣

حفظت الفروج ، فكان ذلك صلاح الارض وأهلها ؛ أما إذا أهملت الشريعة ، وأقدم كلّ أحد على ما يهواه اشتعلت نوائر الفتن من كلّ جانب ، وحدثت المفاسد».

والحمل على المجموع أيضا ممكن ؛ إذ لم يعلم من الآية إرادة فساد خاصّ منهم ، بل لا يبعد من حالهم أن لا يتركوا ممّا يوجب الفساد عند قدرتهم وتيسّره لهم ، فلعلّ من جملتها ما ذكرتها ، ومن جملتها ما سبق في الرواية من إظهار نكث البيعة ، ومن جملتها ما تعاهدوا عليه من غصب الخلافة ، وأن لا يتركوا الحقّ لأهله إلى غير ذلك.

ثمّ الظاهر من جوابهم للناصحين دعوى تمحّضهم لصفة الصلاح بحيث لم يبق فهيم من الفساد شيء ، وذلك يمكن أن يكون لأجل أنّهم لا يرون ما يضرّ بالاسلام وأهله فسادا ، ويمكن أن يكون خداعا منهم لاخفاء فسادهم عن الناصحين ، وإنكار صدور الفساد منهم.

[كيفية إفساد المنافقين]

ثمّ لا يخفى عليك أنّ الفساد في الارض ، وعدم قبول نصح الناهي عنه ، ودعوى انحصار شأنهم في الاصلاح ليس مقصورا على هؤلاء المنافقين ، بل هو صفة سائر المنافقين المظهرين لخلاف بواطنهم أيضا ، فانّ المتكلّفين لاظهار شؤون الايمان من دون حقيقة يفسدون في الارض حيث يراهم الناس كاملين في الايمان ، فاذا صدر منهم أمور غير لائقة بحال الايمان لكون المتكلّف لا يقدر على ملازمة تكلّفه في جميع الامور والاحوال ، ظنّ الناس أنّها أمور دينيّة أو غير مضرّة بالدين ، أو صار سببا لوهن قبحها العقليّ أو الشرعيّ في أنظار العامّة ، وتجرّيهم عليها وعلى نظائرها.

ثمّ إنهم ليصدر منهم فتاوى وأحكام ومواعظ وآداب باطلة مخالفة للشريعة ، ويقبله

٥٠٤

الناس منهم لما رأوا من ظواهرهم ، فيفسدون عليهم امور دينهم ، وفيه فساد الارض كما سبق ، بل الظاهر تأثير جملة منها في منع السماء قطرها ، والارض بركتها ، كما ربّما يستفاد من الاخبار (١). وكذا حسدهم على المخلصين يؤدّيهم إلى ايذائهم وإهانتهم ، وردّ كلامهم ، والمنع من قبول الناس قولهم وغير ذلك ، فيؤدّي إلى الفساد ؛ بل لا يبعد استناد معظم المفاسد الّتي وقعت في الاسلام إلى هؤلاء المتصنعون المظهرون للعلم أو العمل من دون حقيقة ، كما لا يخفى على من مارس أخبارهم (٢).

وهؤلاء إذا نصحهم ناصح أنكروا نسبة الفساد إلى أنفسهم أشدّ إنكار ، بل إذا قيل لأحدهم : اتّق الله ، أخذته العزّة بالاثم (٣) ، ويبالغون في دعوى الاصلاح وسائر الكمالات.

[في أنّ قلب المفسد لا يتأثّر بالنّصيحة]

ثمّ لا يخفى عليك أنّ أرض القلب أيضا من الاراضي الّتي لا ينبغي إفسادها ، بل هي أوسع من هذه الاراضي. وأعظم أسباب فسادها هو اتّباع الدواعي الّتي

__________________

(١) كقول الصادق ـ عليه‌السلام ـ حيث أفتى أبو حنيفة فيما جرى بين أبي ولاد الحناط وصاحب البغل وقضى بينهما بالجور والظلم ، قال ـ عليه‌السلام ـ : «في هذا القضاء وشبهه تحبس السماء ماءها ، وتمنع الارض بركتها ...» وقد نقل بتمامه الشيخ حر العاملي (ره) في الوسائل ، ج ١٣ ، باب ١٧ من أبواب الاجارة ، ص ٢٥٥ عن الكليني والشيخ (ره) ، فراجع.

(٢) راجع كتب التراجم والتواريخ ، وقد توجد فيها كثير من المفاسد والبدع التي أظهروا في الدين بعد وفاة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وخصوصا في زمان غصب الخلافة.

(٣) مأخوذ من آية ٢٠٦ من سورة البقرة ، وهي : «وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ...»

٥٠٥

توجب إظهار مقامات دينيّة ليست متحقّقة بها بقول أو عمل ظاهري ، أو تكلّف حال لا يوافقه القلب مظهرا له على صورة الواقعيّة ، تلبيسا على نفسه أو على النّاس.

وهذا القسم من المفسدين لأراضي قلوبهم إذا ورد عليهم نصيحة ناصح يردعهم عن إفساد قلوبهم ، ويبعثهم على إصلاحها ، أنكروا ذلك أشدّ إنكار ، وأظهروا انحصار شأنهم في إصلاح بواطنهم ، بخلاف الّذين لا يظهرون مقامات دينيّة ، فانّهم ربّما يتأثّرون باستماع المواعظ ويقبلونها إن لم يكن المرض قويّا متمكّنا في قلبهم ، وإن لم يقبلوا لم يدعوا حموضة شأن الاصلاح لهم ؛ إذ ليسوا بصدد إظهار مقامات الدين بالخداع والتلبيس. فنظير الجواب والسؤال المذكور عن المنافقين جار فيهم كما لا يخفى.

[عدم العمل بمقتضى الولاية موجب للفساد]

ثمّ لا يخفى أنّ نظير حال هؤلاء الناكثين لبيعة أمير المؤمنين عليه‌السلام من إظهار نكث البيعة للضعفاء ، وصيرورتهم سببا لتشويش أمر دينهم ، وتحيّرهم في مذاهبهم ، وعدم اعتقادهم صحّة الدين ، واقتصارهم في إظهار الدين ، وقضائهم في الباطن شهواتهم ، وإرادتهم عتق أنفسهم من الدين ، والفرار من ذلّ الطاعة ، يجري في هؤلاء المظهرين لقبول الولاية ، والتاركين للتحقّق بها في بواطنهم وظواهرهم ، حيث أنّ ما يظهر منهم ممّا يخالف مقتضى المتابعة والائتمام الحقيقي ، يصير سببا لتشويش أمر الدين ، وتحيّر المستضعفين حيث يحسبون أنّه لو لم يكن خيرا ما فعله هؤلاء الشيعة ، والطبيعة مجبولة على التقليد وملاحظة أفعال أبناء نوعه وصنفه ، ومن حيث أنّهم لا يعتقدون صحّة الدين اعتقادا باتّا مؤثّرا في أحوال القلب وتغيير صفاته وأحواله وأفعاله ، بل يقتصرون على أمور ظاهرها عبادات وباطنها عادات ، وأمثال ذلك من الأعمال الظاهريّة ، ولا يطلبون في بواطنهم حقائق الأخلاق و

٥٠٦

الاحوال والاخلاص ، والتوجّه التامّ ، والاعمال الخفيّة الّتي لا يطّلع عليها إلّا الله سبحانه ، وتكميل المعرفة ، فهم يقضون في الباطن شهواتهم ، ولا يدعون أهوية أنفسهم ، فليسوا أسراء إيمان في بواطنهم ، بل يفرّون عن ذلّ حقيقة العبوديّة في الباطن.

فتدبّر هذه الاحوال في نفسك وحاسبه ، واترك حال غيرك ، وراقب أمر نفسك ، فان لم تجد شيئا من هذه الخلال فيها ، فكرّر النظر ، وأنعم الفكر ، فانّ النفس خدّاعة غرّارة ، وإن كان فيها ، فبادر الحذر والتخلّص ؛ والله المستعان.

٥٠٧

[تأكيد لافساد المنافقين]

[(أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ)]

(أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) بما يفعلون [من] أمور أنفسهم ؛ إنّ الله تعالى يعرّف نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله نفاقهم ، فهو يلعنهم ، ويأمر المسلمين بلعنهم أيضا ، ولا يثق بهم أعداء المؤمنين ؛ لأنّهم يظنّون أنهم ينافقونهم أيضا كما ينافقون أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا يرتفع لهم (١) عندهم منزلة ، ولا يحلّون عندهم بمحل الثقة (٢). كذا عنه عليه‌السلام في تتمّة ما سبق.

ويحتمل أن يكون ذكر خصوص فساد أمور أنفسهم من باب ذكر أحد الافراد ، ويكون المعنى أنّهم هم المفسدون بقول مطلق ، فيعمّ إفساد أمرهم وأمر سائر الناس عليه ، فهو ردّ وتكذيب لما ذكروه من حصر حال أنفسهم في الاصلاح أبلغ ردّ ، وأحسن وآكد تكذيب حيث قوبل ذلك الدعوى باثبات الافساد المطلق لهم ، مع ما ذكر من وجود أسباب المبالغة فيه من جهة الاستيناف ، وما في كلتا الكلمتين ألا وإنّ من التأكيدين ، وتعريف الخبر ، وتوسيط الفصل ، وقوله سبحانه : (وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ). بل ربّما يستفاد منها انحصار المفسدين فيهم ، وأيضا لا ينحصر إفساد أمر أنفسهم بالوجه المذكور ، بل صلاح أمرهم في العاجل والآجل في الايمان والتسليم والوفاء بالبيعة لو كانوا يشعرون بمصالح أمورهم.

وإجراء نظير هذا الكلام في غيرهم يظهر بالنظر فيما سبق من البيان.

__________________

(١) في المخطوطة : «عليهم».

(٢) راجع المصادر المذكورة في تعليقة ٢ ص ٤٨٧.

٥٠٨

[تحقيق حول الايمان والنّاس والسّفاهة]

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ [قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ)]

عن الكاظم عليه‌السلام :

«وإذا قيل لهؤلاء الناكثين البيعة ـ قال لهم خيار المؤمنين ؛ كسلمان والمقداد وأبي ذرّ وعمّار ـ : آمنوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعليّ عليه‌السلام ، الّذي أوقفه (١) موقفه ، وأقامه مقامه ، وأناط مصالح الدين والدنيا كلّها به ، فآمنوا بهذا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسلّموا لهذا الامام ، وسلّموا لظاهره وباطنه كما آمن الناس المؤمنون ؛ كسلمان والمقداد وأبي ذرّ وعمّار ، قالوا في الجواب لمن يفضون إليه لا لهؤلاء المؤمنين ، لأنّهم لا يجسرون على مكاشفتهم بهذا الجواب ، ولكنّهم يذكرون لمن يفضون إليه من أهليهم الّذين يثقون بهم [من المنافقين ومن المستضعفين ومن المؤمنين الذينهم بالستر عليهم واثقون بهم] يقولون لهم : (أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) يعنون : سلمان وأصحابه لمّا اعطوا عليّا خالص ودّهم ومحض طاعتهم ، وكشفوا رؤوسهم لموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه ، حتّى إذا

__________________

(١) في المخطوطة : «وقفه».

٥٠٩

اضمحلّ أمر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله طحطحهم (١) أعدائه ، وأهلكهم سائر الملوك والمخالفين لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ أي : فهم بهذا التعرّض لأعداء محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله جاهلون سفهاء ؛ قال الله عزوجل : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) الاخفاء العقول والآراء ، الّذين لم ينظروا في أمر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حقّ النظر فيعرفوا نبوّته ويعرفوا به صحّة ما ناطه بعليّ عليه‌السلام من أمر الدين والدنيا ، حتّى بقوا لتركهم تأمّل حجج الله جاهلين ، وصاروا خائفين وجلين من محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وذويه (٢) ومن مخالفيهم ، لا يؤمنون أنّه ينقلب فيهلكون معه ، فهم السفهاء [حيث] لم يسلم بنفاقهم هذا لا محبّة المؤمنين ولا محبّة اليهود وسائر الكافرين ، وهم يظهرون لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله موالاته وموالاة أخيه عليّ عليه‌السلام ، ومعاداة أعدائهم اليهود والنواصب ، كما يظهرون لهم من معاداة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي عليه‌السلام» (٣).

[من المخاطب في الآية ومن المراد من النّاس؟]

أقول : يحتمل أن يكون ذكر خصوص الناكثين في تفسير هذه الآية وعدّة من الآيات السابقة واللاحقة بيانا لتنزيلها ، وأنها نزلت في شأنهم بالخصوص وإن جرت في غيرهم ممّن يشاركهم على القاعدة المتقدّم إليها الاشارة في المقدّمات (٤) ،

__________________

(١) طحطح : كسر وفرق وبدد إهلاكا (قاموس).

(٢) خ. ل : وأصحابه.

(٣) تفسير الامام ـ عليه‌السلام ـ ، ص ٤٤ و ٤٥ ؛ والبحار ، ج ٣٧ ، باب في أخبار الغدير ، ص ١٤٧ و ١٤٨ ، ح ٣٦ ؛ والبرهان ، ج ١ ، ص ٦٢.

(٤) ص ٦٤ ـ ٧٢.

٥١٠

وأن يكون ذكرا لتأويلها وبيانا لاجرائها عليهم في مقدّمة البيعة وقبول الولاية ، وإجراء للآيات بتمام ما فيها فيما فعلوه ، وإثباتا لمساواتهم للمنافقين الّذين وردت في شأنهم الآيات في جهات الشناعة والقباحة ، وتطبيقا بينهم وبين هؤلاء في مدلول الآيات.

والاوّل وإن كان أقرب بظاهر لفظ الرواية على ما يترائى منها ، لكنّ الثاني أقرب بملاحظة بعض القرائن الخارجيّة ، وملاحظة كثرة ذكر التأويل في مقام يترائى منه كونه تنزيلا وتفسيرا وبيانا للنزول على الظاهر فيها ، وإن جرى مثل الاحتمال الاوّل في جملة منها أيضا.

وحينئذ فنقول : كأنّ القائلين الناصحين لهم نصحوهم تارة بنهيهم عن المنكر ، وردعهم عن الفساد بتقبيحهم ما كانوا يفعلون ، فأنكروا ذلك في شأنهم وبالغوا في دعوى خلافه ، وأخرى أمرهم بالمعروف ، وتبصيرهم طريق الخير ، ودعوتهم إلى الطريقة المثلى من متابعة هؤلاء المؤمنين في الايمان ، فرموهم بالسفاهة لفرط سفههم ، وفي ذلك تسلية للعلماء والمؤمنين وأهل الكمال مما يلقى من الجهلة والفجّار وفاقدي الكمال.

و «ما» في «كما» إمّا مصدريّة كما في قوله : (بِما رَحُبَتْ)(١) ، أو كافّة تصحّح دخول الجارّ على الفعل ، فيكون مفاد الكلام تشبيه الجملة بالجملة. وعلى الوجهين فلا يبعد أن يكون مراد الناصحين بعثهم على إيمان مشابه لايمان الناس ومماثل لهم لا التشبيه في أصل الايمان. وحينئذ فالمراد بالناس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن معه ، وهم ناس معهودون أو الكاملون في الانسانيّة ، الّذين آمنوا بألسنتهم وقلوبهم ، فيطابق الاوّل مصداقا ، بل ربّما يكون أخصّ منه ، كما ورد في الحديث على ما ببالي :

__________________

(١) التوبة / ٢٥ و ١١٨.

٥١١

«نحن الناس ، وشيعتنا أشباه الناس ، وسائر الناس نسناس» (١).

وقد فسّر «الناس» في بعض الآيات ـ أيضا بهم عليهم‌السلام (٢) على ما ببالي.

وحينئذ فلعلّ في الآية إشارة إلى قبول الولاية ومتابعة الاولياء ، والتشبّه بهم والاقتداء بطريقتهم.

وأمّا احتمال إرادة «عبد الله بن سلام» وأضرابه ممّن كانوا على طريقة أهل الكتاب فآمنوا ، فهو غير ظاهر الوجه ؛ وحينئذ فيندرج في الآية جميع مراتب الايمان من قبول التوحيد والرسالة والولاية وغيرها اعتقادا والتزاما وتخلّقا بموجبها ، وإخلاصا وعملا على ما سبق في بيان الايمان لاندراج جميع تلك الشؤون في المشبّه

__________________

(١ و ٢) فانظر رواية حسين بن علوان ، عن جعفر ، عن أبيه ، عن جده ، عن عليّ ـ عليهم‌السلام ـ رواه الفرات (ره) فى تفسيره ، ص ٨ ، وهي : «قال : قام رجل إلى علي عليه‌السلام ـ فقال : يا أمير المؤمنين ، أخبرنا عن الناس وأشباه الناس والنسناس. قال : فقال علي ـ عليه‌السلام ـ : أجبه يا حسن. فقال له الحسن ـ عليه‌السلام ـ : سألت عن الناس فرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ الناس : لأن الله يقول : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) (البقرة / ١٩٩) ونحن منه. وسألت عن أشباه الناس ، فهم شيعتنا ، وهم منا وهم أشباهنا. وسألت عن النسناس ، فهم هذا السواد الاعظم.» والسواد من الناس كما قال الفيروز آبادي عامتهم.

وكذا روايات رواها أساطين المشايخ كالكليني ، والصفار ، والشيخ ، والعياشي وغيرهم ـ رحمهم‌الله تعالى أجمعين ـ في الكافي ، والبصائر ، والامالي ، وتفسير العياشي وغيرها ، عن أبي جعفر وأبي عبد الله ـ عليهما‌السلام ـ في تفسير آية : (فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً* أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ...) (النساء / ٥٣ و ٥٤) قالا : «نحن الناس». فراجع البرهان ، ج ١ ص ٣٧٥ ـ ٣٧٩ وأيضا رواية رواها ابن المغازلي في المناقب ، ص ٢٦٧ ، ح ٣١٤ ، عن جابر ، عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ في تفسير الآية المتقدمة ؛ وابن حجر الهيثمي في الصواعق ، ص ١٥٠ ؛ والشيخ سليمان القندوزي في ينابيع المودة ، ص ١٢١ ، كلاهما عن طريقه ، قال ـ عليه‌السلام ـ : «نحن الناس».

٥١٢

به ، وتعلّق الدعوة بخصوص الايمان المشابه لايمانهم والمماثل له ، فيجري هذا القول في كلّ ناصح يدعوا إلى شأن من شؤون الايمان ، خصوصا في الاقتداء بالائمّة عليهم‌السلام والتأسّي بهم كما أشرنا إليه ، بل يندرج سائر الافراد فيه ؛ لأنّ الاقتداء بهم ظاهرا وباطنا والتسليم لهم في جميع المراتب والمقامات مشتمل على جميع شعب الايمان ، ولا يخرج منها شيء أبدا ؛ إذ لو خرج منه شيء لكان إمّا لنقصان في المقتدى به من حيث الدين والايمان. وهم عليهم‌السلام أرفع شأنا من أن ينسب إليهم ما يوهم النقص ، أو لوقوع المخالفة بين المأموم والامام بفقدان المأموم وإهماله ما تحقّق في الامام ، فهو غير مقتدى به في ذلك ، ومخالف للأمر بالاقتداء المطلق.

وربّما يومي إلى ذلك ما ذكر في الرواية السابقة من قوله : «وسلّموا لهذا الامام ، وسلّموا لظاهره وباطنه كما آمن الناس المؤمنون».

وحينئذ فكلّ ناصح في أمر الدين إنّما ينصح ويدعو إلى الولاية والائتمام بهم عليهم‌السلام ، وهو الايمان كلّه.

[في معنى السّفاهة ومن هم السّفهاء؟]

ثمّ إنّ هؤلاء المنصوحون قالوا لأصحابهم لا لهؤلاء الناصحين على ما في الرواية ، أو قالوا للناصحين سرّا عند أمنهم على ما هو أقرب إلى ظاهر لفظ الآية على وجه الانكار : (أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ؟).

والسفاهة سخافة العقل وخفّة الحلم ، فنسبوهم إلى السفاهة ، واستنكفوا عن متابعتهم وموافقتهم. وهذا شأن كلّ من خالف المؤمنين في كلّ مرتبة من المراتب ، فالمنكرون للاسلام رأسا يعدّون المسلمين سفهاء خصوصا في ذلك العصر الاوّل حيث يظنّون أنّ أمر الاسلام لا يثبت ، وينقلب الامر على المسلمين ، ويرد على المتشمّرين لاقامة الدين والثابتين فيه المكروهات كلّها من طرف أعدائهم ،

٥١٣

كما ربّما يظهر من الرواية ، ولغير ذلك من حيث إعراضهم عن النعم التي كانوا فيها ، وإقدامهم على المهالك ، وإنفاقهم الاموال ، وصبرهم على ما كان ينالهم من الشدائد والمكروهات ، ونهاية التذلّل والانقياد للاسلام والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ظاهرا وباطنا بعد كون ذلك لغير داع صحيح في نظر هؤلاء المنكرين المنافقين ، وإنكارهم أن يكون للدين أصل وحقيقة ، فيكون كلّ ذلك بحسب طريقتهم وحسبانهم خاليا عن فائدة وعائدة إن كانوا منكرين اعتقادا ، وإن كانوا جاحدين عن علم.

فيمكن أن يكون نسبة السفاهة لأجل تحمّلهم شدائد الدنيا وغيرها للآخرة ، مع أنّ الدنيا أرجح في نظرهم ، أو لأجل كون ذلك جحودا لكمال عقلهم ومرتبتهم ، كما جحدوا أصل الايمان.

ومثله الكلام في منكري الولاية اعتقادا وجحودا ، كما يظهر من الرواية السابقة ، ويعرف التفصيل بالمقايسة ، ويجري نظيره في الفسّاق المنهمكين في فسقهم بالنسبة إلى المتّقين ، فانّهم يرونهم سفهاء في إعراضهم عن الشهوات المحرّمة والمشتبهة والمكروهة والمباحة على حسب درجاتهم ، وإقدامهم على العبادات الواجبة والمندوبة ، وترك الحيل المحرّمة وغيرها على حسب درجاتهم في التقوى ، كما يصدر منهم كثيرا كلمات تدلّ على أذاهم وتحقير شأنهم والاستهزاء بهم. وهذا طريقة أهل الدنيا مع أهل الآخرة ؛ كأنّهم يزعمون أنّ هؤلاء لم يفهموا ولم يدركوا لذّات ما هم منهمكين فيه ، أو لم يهتدوا إلى تحصيلها سبيلا.

ثمّ يجري نظيره في أهل الآخرة في كلّ مرتبة بالنسبة إلى ما فوقها ، فالعابد بالجوارح يرى العابد بالمجاهدة والرياضة الباطنيّة سفيها ؛ إذ لم يصل إلى ذلك المقام ، ولم يدرك منافعها ومصالحها ، وكذا حال العابدين بالنسبة إلى العارفين.

وبالجملة فكلّ ناقص عن نيل مقام وعن إدراك ذلك المقام يرى عمل أهل

٥١٤

ذلك المقام خارجا عن ميزان السداد والاستقامة ، إلّا إذا لم يكن واقفا على حدّ علمه ومعرفته ، مذعنا بأنّ فوقه مقامات لم يصل إليه ، أو كان مدركا لذلك المقام علما وإن نقص عنه بالحال والعمل.

ويشهد لبعض ذلك ما ذكره أمير المؤمنين عليه‌السلام في صفة المتّقين على ما في النهج من قوله عليه‌السلام على ما ببالي :

«ويقولون : قد خولطوا ، ولقد خالطهم أمر عظيم» (١).

وغير ذلك.

ثمّ إنّ الله سبحانه ردّ عليهم قولهم بقوله : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ) ، المشتملة على تأكيدات على ما يظهر بالمقايسة إلى ما ذكر في الآية السابقة.

ثمّ إنّ إدراك الناقصين والفاقدين ما لأجله كان عمل هؤلاء صحيحا مطابقا للعقل والرشاد موقوف على حصول العلم بحقيقة ما هم عليه من الايمان ، فكأنّ التعبير ب (لا يَعْلَمُونَ) أولى من (لا يَشْعُرُونَ) بخلاف الآية السابقة ؛ إذ الفساد الصادر منهم في الارض أمر قريب من الاحساس والشعور ، فكأنّ التعبير بالشعور أولى.

ثمّ إنّه يجري نظير الاية في العلماء بالاكتساب بالنسبة إلى أهل المعرفة والدراية ، فيعدّونهم سفهاء لخروج كلماتهم عن ميزان أدلّتهم وقياساتهم ، وبالنسبة إلى ناقصي العلم بالنسبة إلى الكاملين فيه إذا تجاوز كلامهم عن مرتبة أفهامهم وتصوّراتهم ، ووقوع البينونة التامّة بينهم ، وكذا العارفين بعضهم مع بعض.

فطريقة السداد والرشاد أن يلازم الانسان مقامه وحدّه ، ولا ينكر على من

__________________

(١) راجع نهج البلاغة ، خ ١٩٣ ، ص ٣٠٤ ، وفيها : «ويقول : لقد خولطوا ، ولقد خالطهم أمر عظيم».

٥١٥

تجاوز ذلك المقام ، ويكل أمره إلى ربّه ، ويشتغل بأمر نفسه ؛ إذ حسابه ليس عليه ، سواء كانت التفاوت بحسب العمل أو الحال أو العلم والمعرفة ، ولا يسلك مع غيره سبيل التسفيه والتضليل والتجهيل والاستهزاء ونحوها ، وإلا فلا يأمن أن يكون له مرتبة أعلى من مقامه في الايمان والدين ، فربّما يتوجّه عليه من ربّه سبحانه نظير الردّ الواقع في شأن المنافقين هنا ؛ إذ من صفات المتّقي أنّه إذا بغي عليه صبر ، حتّى يكون الله هو الّذي ينتقم له ، وليس من البعيد منه سبحانه أن يجازي الطاغين لعباده المخلصين ولو بعد وفاتهم بالانتقام أو العتاب الشديد.

وحينئذ فالمناسب لحال المؤمن وفي كلّ مرتبة أن يرى فوق إيمانه إيمانا ، وفوق مرتبته مرتبة ، وفوق علمه علما ؛ كما قال سبحانه : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)(١).

ويكون سبيله التوقّف وردّ علم حال سائر المؤمنين إلى الله سبحانه ؛ كما قال بعض الانبياء : (وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ* إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ)(٢).

ثمّ إنّ لهذا المقام تفريطا ينبغي التحرّز عنه ، وملازمة حدّ الوسط والاستقامة والاعتدال ، وذلك كما إذا اقتضى ضرورة حفظ الشرع مثلا أوردع البدعة وإبطال الباطل على التعرّض لحال شخص ، فربّما يكون مراعات ذلك أهمّ ، وكما إذا أدّى السكوت عن حال الاشخاص على تزلزله في مقام علومه ومعارفه ، فكلّما سمع من أحد كلاما مخالفا لما عنده احتمل أن يكون حقّا ، فيزول بذلك اعتقاده ؛ إذ لا يجامع الاعتقاد الجزمي الاحتمال ، بل ينبغي له ملازمة علمه ومعرفته ودفع التزلزل عنه مع السكوت عن حال السائرين ، واحتمال أن يكون مطلبهم ما فهمه ، أو لا يكون منافيا لما عنده كما يتّفق كثيرا في كلمات الكاملين

__________________

(١) يوسف / ٧٦.

(٢) الشعراء / ١١٢ ـ ١١٣.

٥١٦
٥١٧

[بحوث في كيفيّة ملاقات المنافقين مع المؤمنين ومباحثتهم]

(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ)

في غاية المرام عن موفّق بن أحمد قال : روى أبو صالح عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ :

«انّ عبد الله بن أبيّ وأصحابه خرجوا ، فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال عبد الله بن أبيّ لأصحابه : انظروا كيف أردّ (١) ابن عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وسيّد بني هاشم خلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فقال عليّ ـ كرّم الله وجهه ـ : يا عبد الله ، اتّق الله ولا تنافق ، فانّ المنافق شرّ خلق الله تعالى.

فقال : يا أبا الحسن ، والله إن إيماننا كايمانكم. ثم تفرقوا فقال عبد الله بن ابيّ لاصحابه : كيف رأيتم ما فعلت؟ فأثنوا عليه خيرا ، فأنزل الله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا ـ الآية» (٢).

__________________

(١) قال المؤلف (ره) في الهامش : «كذا وجد ، والظاهر وقوع السقط. ويحتمل أن يكون كذا : أرده ، ثم قال : يابن عم ...» وفي المناقب : «أراد».

(٢) غاية المرام ، الباب الحادي عشر ومائة من المقصد الثاني ، ص ٣٩٥ ؛ وقد أخرجه الخوارزمي في المناقب ، الفصل السابع عشر ، ص ١٩٦ ؛ وكذا رواه ابن شهر آشوب (ره) في المناقب ، ج ٣ ، ص ٩٤ ، بهذا الاسناد عن تفسير الثعلبي.

٥١٨

قال موفّق بن أحمد عقيب ذلك :

«فدلّت الآية على إيمان علي ـ كرّم الله وجهه ـ ظاهرا وباطنا ، وعلى قطعه موالاة المنافقين وإظهار عداوتهم. والمراد من الشياطين رؤساء الكفّار».

هكذا وجدناه ، وإنّما أوردناه من طريق العامّة على ما ذكره لما فيه من ذكر الفضيلة.

وعن ابن شهر آشوب ، عن الباقر عليه‌السلام :

«أنّها نزلت في ثلاثة لمّا قام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالولاية لأمير ـ المؤمنين عليه‌السلام أظهروا الايمان والرضاء بذلك ، فلمّا خلوا بأعداء أمير المؤمنين عليه‌السلام قالوا إنّا معكم إنّما نحن مستهزؤن» (١)

وعن تفسير الهذيل ومقاتل ، عن محمّد بن الحنفيّة ، في خبر طويل :

«(إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) بعليّ بن أبي طالب ، فقال الله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) ؛ يعني : يجازيهم في الاخرة جزاء استهزائهم بأمير المؤمنين عليه‌السلام» (٢).

وعن تفسير الامام عليه‌السلام في معنى الاية ، قال موسى بن جعفر عليه‌السلام :

«وإذا لقى هؤلاء الناكثون للبيعة المواطئون على مخالفة عليّ عليه‌السلام ودفع الامر عنه الّذين آمنوا قالوا : آمنّا كايمانكم ، وإذا لقوا سلمان والمقداد وأبا ذرّ وعمّار قالوا

__________________

(١) البرهان ، ج ١ ، ص ٦٤.

(٢) أورده ابن شهر آشوب (ره) في المناقب ، ج ٣ ، ص ٩٤ ؛ ونقله المجلسي (ره) في البحار ، ج ٨ باب النار ، ص ٣٠١ ، ح ٥٦ ؛ والبحراني (ره) في البرهان ، ج ١ ، ص ٦٤.

٥١٩

لهم : آمنّا بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسلّمنا له بيعة عليّ عليه‌السلام وفضله ، وأنفذنا لأمره كما آمنتم. إنّ أوّلهم وثانيهم وثالثهم إلى تاسعهم ربّما كانوا يلتقون في بعض طرقهم مع سلمان وأصحابه ، فاذا لقوهم اشمأزّوا منهم قالوا : هؤلاء أصحاب الساحر والاعوج (١) ؛ يعنون محمّدا وعليّا عليهما‌السلام ، ثمّ يقول بعضهم لبعض : احترزوا منهم ، لا يقفون من فلتات (٢) كلامكم على كفر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما قاله في عليّ عليه‌السلام ، فيقعوا عليكم ، فيكون فيه هلاككم.

فيقول أوّلهم : انظروا إليّ كيف أسخر منهم ، وأكفّ عاديتهم عنكم. فاذا التقوا قال أوّلهم : مرحبا بسلمان بن الاسلام ، الّذي قال فيه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله سيّد الانام : «لو كان الدين معلّقا بالثريّا لتناوله رجال من أبناء فارس ، هذا أفضلهم» يعنيك ، وقال فيه : «سلمان منّا أهل البيت» ، فقرنه بجبرائيل (٣) عليه‌السلام الّذي قال له يوم العباء لمّا قال لرسول الله (٤) صلى‌الله‌عليه‌وآله : وأنا منكم؟ فقال : وأنت منّا ، حتّى ارتقى جبرائيل إلى الملكوت الاعلى يفتخر على أهله ويقول : بخ بخ وأنا من أهل بيت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثمّ يقول للمقداد : ومرحبا بك يا مقداد! أنت الّذي قال

__________________

(١) في المصادر : «الاهوج» ، قيل : «الهوج محركة طول في حمق وطيش وتسرع».

(٢) الفلتات : الزلات ، جمع فلتة ، وهي الزلة (مجمع).

(٣) في المخطوطة : «فقرب جبرائيل» ، وفي البرهان : «فقرنه جبرئيل».

(٤) في المخطوطة : «قاله رسول» وفي البرهان : «قاله لرسول».

٥٢٠