مجد البيان في تفسير القرآن

آية الله الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي

مجد البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٣

والتقصير ، بل تعدّ نفسه كاملة في حضور الحق ، كأنها قد وفت بجميع حدود العبودية من دون نقص في شيء منها ، إلى غير ذلك من خداعها بالنسبة إلى ربّه وفي حدّ نفسه ، فضلا عن خداع المؤمنين باظهار شيء من ذلك وأمثاله عندهم ، أو سائر أنواع الخداع الكثيرة. وكلّها من شؤون النفاق بالمعنى المتقدّم.

ولعلّ الجامع لأفراد المخادعة هو المخالفة بين الظاهر والباطن ، وكون الاول أرجح من الثاني ، الذي ورد في شأن من كان كذلك الحكم بخفّة ميزانه على ما ببالي.

وحينئذ فقد يلاحظ ذلك فيما بين العبد وربّه بالنسبة إلى ربّه ، وقد يلاحظ كذلك بالنسبة إلى إظهار ذلك للعباد ، وقد يلاحظ ذلك بالنسبة إلى حال العباد بعضهم مع بعض ؛ كاظهار المحبة والصداقة والالفة والموافقة ، مع استبطان أضدادها بلسان أو عمل أو حال. فمنها : أن يمشي الانسان بين الناس بوجهين ولسانين ، ومنها غير ذلك ، ولها أفراد كثيرة لا يسع المقام لذكرها.

ولعلّ بعض الكلام فيما يأتى متفرّقا ـ إن شاء الله سبحانه ـ في المواضع المناسبة.

ويقابل هذه الاصناف من الخداع والنفاق الصدق في جميع المواطن والتحقق بالصديقيّة ، فانّ مرجع الخداع إلى كذب لفظي أو عملي أو حالي ، ويقابله الصدق في كل مقام مقام بحسبه.

[المخادع لا يضرّ المؤمنين بالخدعة بل يضرّ نفسه]

ثمّ إنّ جميع أفراد الخداع بالنسبة إلى المؤمنين لا يقع إلا على نفسه لو يشعر أيضا ، فإنّ الخدعة بإظهار الايمان عند الناس لو خفي عليهم فعاملوه معاملة المؤمن الكامل ، فهم في ذلك معذورون مأجورون مثابون لمكان نيّاتهم ، وصحة

٤٨١

دواعيهم ، وإرادتهم وجه الله سبحانه فيه ، فلم يقع عليهم ضرر في ذلك ، حتى لو وقعوا في أمر غير مشروع ؛ كالصلاة خلفه ، أو قبول شهادته بناء عن ترتّب الحكم على الموضوع الواقعي ؛ إذ هم معذورون بامتثال الحكم الظاهري ، والعمل على الطريق المشروع ، فلم يوقعهم في مكروه ، ولم يتخلّص من ضررهم أيضا ؛ إذ الضرر في المقام هو نهيهم إيّاه عمّا لا ينبغي ارتكابه من باب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة لعباد الله ، وهذا عين نفعه لو كان شاعرا لمصالحه ، فهو دفع عن نفسه خيرا كان في مظانّ الوقوع عليه ، لا أنه تخلّص عن شرّ.

والخدعة بإظهار المحبة والصداقة وما شاكلهما أيضا لا يرد ضرره عليهم ؛ إذ هم ينتفعون بهذا الاظهار عاجلا ، ولا يضرهم آجلا ، ولو فرض إيراد المخادع عليهم ضررا دنيويّا في ضمن إظهار ما أظهره لم يكن ضررا حقيقيا بعد ملاحظة عدل الله سبحانه ، وأن الله يأخذ بحقوق الناس ، والضرر كل الضرر في جميع ذلك على المخادع في دنياه بالافتضاح عند الناس ، وفي الآخرة بالوبال والنكال ، فان «من أسرّ سريرة رداه الله رداءها ، إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشرّ» (١) كما ورد في الاخبار على ما ببالي. فهو مضرّ نفسه ومخادع نفسه أوقع نفسه في صورة خير وصلاح ، وباطن فساد وضرار ، ديني ودنيويّ وأخروي ، وأظهر لنفسه إيراد الخير عليها ، وأورد

__________________

(١) رواه الكليني (رض) في الكافي ، ج ٢ ، باب الرياء ، ص ٢٩٤ ، ح ٦ ، عن عمر بن يزيد ، عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في تفسير قوله تعالى : «بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ» (القيامة / ١٤) قال : «ان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كان يقول : من أسر ...» وهكذا في مجمع البيان ، ج ٥ ، ص ٣٩٦ ؛ والبحار ، ج ٧٢ ، باب الرياء ، ص ٢٨٥ ، ح ٦ ؛ ونور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٦٢ ، ح ٨.

قال المجلسى (ره) في شرحه : «استعير الرداء للحالة التي تظهر على الانسان ، وتكون علامة لصلاحه أو فساده.»

٤٨٢

عليها الشرّ العظيم. ولو لم يكن في الخداع إلا ما يترتب عليه في الدنيا من الافتضاح لكفى به رادعا لأولى الالباب عن استعماله ، ولو فرض خفاءه في الدنيا ففي ظهوره يوم تبلى السرائر كفاية للتحرّز عنه ؛ قال أمير المؤمنين عليه‌السلام على ما ببالي من لفظ الحديث :

«قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة ودونها حاجز من تقوى الله ، فيدعها رأي عين ، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين.» (١)

والله المستعان على جميع الاحوال.

__________________

(١) لم نعثر عليه.

٤٨٣

[أمراض قلوب المنافقين وعللها وآثارها]

(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً)

عن الكاظم عليه‌السلام :

«إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا اعتذر إليه هؤلاء بما اعتذروا به ، وتكرم عليهم بأن قبل ظواهرهم ووكلّ بواطنهم إلى ربّهم ، لكن جبرئيل أتاه فقال : يا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، العلي الاعلى يقرئك السلام (١) ، ويقول [لك] : أخرج هؤلاء المردة الذين اتصل بك عنهم في عليّ عليه‌السلام ، ونكثهم لبيعته ، وتوطينهم نفوسهم على مخالفتهم أن يظهر من العجائب ما أكرمه الله به من طاعة الارض و [الجبال و] السماء له ، وسائر خلق الله بما أوقفه موقفك ، وأقامه مقامك ، ليعلموا أنّ ولي الله علي عليه‌السلام غنى عنهم ، وأنه لا يكفّ عنهم انتقامه إلا بأمر الله الذي له فيه وفيهم التدبير الّذي بالغه ، والحكمة التي هو عامل بها وممض لما يوجبها.

فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الجماعة الذين اتصل منهم (٢) ما اتصل في أمر عليّ عليه‌السلام ، والمواطاة على مخالفته بالخروج ، فقال لعلي عليه‌السلام لمّا استقر عند سفح بعض جبال المدينة : يا علي ،

__________________

(١) في المخطوطة والبرهان : «يقرأ عليك السلام».

(٢) في المخطوطة : «اتصله منهم» وفي التفسير والبحار : «اتصل به عنهم».

٤٨٤

إنّ الله أمر هؤلاء بنصرتك ومساعدتك ، والمواظبة على خدمتك ، والجدّ في طاعتك ، فإن أطاعوك فهو خير لهم يصيرون في جنان الله ملوكا خالدين ناعمين ، وإن خالفوك فهو شرّ لهم يصيرون في جهنم خالدين معذبين.

ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لتلك الجماعة : اعلموا أنكم إن أطعتم عليا عليه‌السلام سعدتم ، وإن خالفتم شقيتم ، وأغناه الله عنكم بمن سيريكموه وبما سيريكموه.

[ثمّ] قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا علي ، سل ربك بجاه محمّد وآله الطيبين ، الذين أنت بعد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله سيدهم أن يقلب لك هذه الجبال ما شئت. فسأل ربه ذلك ، فانقلبت فضّة ، ثمّ نادته الجبال : يا علي ، يا وصي رسول رب العالمين ، إن الله قد أعدّنا لك ، إن أردت إنفاقنا في أمرك ، فمتى دعوتنا أجبناك ، يقضي فينا حكمك ، وتنفذ فينا قضائك. ثمّ انقلبت ذهبا كلّها ، وقالت مقال الفضة ، ثمّ انقلبت مسكا وعنبرا وعبيرا وجواهر ويواقيت ، وكلّ شيء منها ينقلب إليه فيناديه : يا أبا الحسن ، يا أخا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، نحن مسخرات لك ، ادعنا متى شئت.

ثمّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا عليّ ، سل الله بمحمد وآله الطيبين الذين أنت سيدهم بعد محمّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقلّب إليك أشجارها رجالا شاكين السلاح ، وصخورها أسودا ونمورا وأفاعي. فدعا الله على ذلك ، فامتثلت تلك الجبال والارضون والهضبات وقرار الارض من الرجال الشاكين

٤٨٥

السلاح ، الذين يفي (١) واحد منهم بعشرة آلاف من الناس المعدودين (٢) من الاسود والنمور والافاعي. حتى طبقت تلك الجبال والارضون والهضبات بذلك كل ينادي ، يا علي ، يا يا وصيّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ها نحن قد سخّرنا الله لك ، وأمرنا باجابتك كلّما دعوتنا إلى اصطلام كلّ من سلّطنا عليه ، فمتى شئت فادعنا نجبك بما شئت ، وتأمرنا به نطيعك.

يا علي ، يا وصيّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إن لك عند الله من الشأن العظيم ما لو سألت الله أن يصير لك أطراف الارض وجوانبها هيئة واحدة كضوة كيس لفعل ، أو يحط لك السماء إلى الارض لفعل ، أو ينقل لك الارض إلى السماء لفعل ، أو يقلب لك ماء بحارها الاجاج ماء عذبا أو زيبقا أو بانا (٣) أو ما شئت من أنواع الاشربة والادهان لفعل ، ولو شئت أن يجمد البحار أو يجعل سائر الارض هي البحار لفعل ؛ لا يحزنك تمرّد هؤلاء المتمردين ، وخلاف هؤلاء المخالفين ، فكأنهم بالدنيا قد انقضت بهم كأن لم يكونوا فيها ، وكأنّهم بالآخرة إذ وردت عليهم كأن لم يزالوا فيها.

يا علي ، إن الذي أمهلهم مع كفرهم وفسوقهم وتمرّدهم عن طاعتك ، هو الذي أمهل فرعون ذا الاوتاد ، ونمرود بن

__________________

(١) في المخطوطة : «بقى».

(٢) خ. ل : «المعهودين».

(٣) الزئبق : سيال معدني لا يجمد إلا في درجة ٤٠ من الصفر ، والعامة تقول له الزيبق ؛ والبان : شجر معتدل القوام ليّن ورقه كورق الصفصاف ، يؤخذ من حبه دهن طيب.

٤٨٦

كنعان ، ومن ادعى الالهية (١) من ذوي الطغيان ، وأطغى الطغاة إبليس رأس الضلالات ، ما خلقت أنت ولاهم لدار الفناء ، بل خلقهم لدار البقاء ، ولكنهم ينقلون من دار إلى دار ، ولا حاجة بربك إلى من يسومهم ويرعاهم ، لكنه أراد تشريفك عليهم ، وإبانتك بالفضل فيهم ، ولو شاء لهداهم.

قال : فمرضت قلوب القوم لمّا شاهدوا من ذلك مضافا إلى ما كان من مرض أجسامهم له ولعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، فقال الله تعالى عند ذلك : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي : قلوب هؤلاء المتمرّدين الشاكّين الناكثين [لمّا] اخذت عليهم من بيعة عليّ عليه‌السلام (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) بحيث تاهت له قلوبهم جزاء بما أريتهم من هذه الآيات والمعجزات.» (٢)

أقول :

لا يخفى أنهم كما اعتذروا بما اعتذروا ، كذلك يعتذر سائر المخادعين والمخالفين ظواهرهم لبواطنهم عند الله سبحانه وعند الامام إن كان حاضرا ، وعند خواص المؤمنين الذين اطلعوا على قبائح أعمالهم من طرف التوسم والباطن ، أو من جهة ظهور حالهم عندهم بالعلامات الظاهرية ، وكما أنّه يكرم عليهم فقبل ظواهرهم على ما سبق. كذلك يجري الحق عليهم بعض الاحكام الظاهرية في الدنيا ، ويعاملهم خواص المؤمنين معاملة من وافق باطنه ما أظهروه في الجملة ، ويقبلون معذرتهم صورة وتكرّما ، وكما أنهم أعطوا البيعة على أنفسهم ولم يوطنوا أنفسهم

__________________

(١) في المخطوطة : «الالهة».

(٢) تفسير الامام ـ عليه‌السلام ـ ، ص ٤٣ و ٤٤ ؛ والبحار ، ج ٣٧ ، باب فى أخبار الغدير ، ص ١٤٤ ـ ١٤٧ ، ح ٣٦ ؛ والبرهان ، ج ١ ، ص ٦٠ و ٦١.

٤٨٧

على الموافقة بل وطنوها على مخالفته عليه‌السلام ، كذلك هؤلاء يقرون بكلمة الولاية ويذعنون به ، ويظهرون كمال التسليم لأمير المؤمنين عليه‌السلام ، لكنهم لم يوطنوا أنفسهم على إطاعته في أوامره ونواهيه ، والائتمام به عليه‌السلام علما وخلقا وحالا ونيّة وعملا ، بل وطنوا أنفسهم على مخالفته عليه‌السلام في ذلك كلّه إلا في أشياء قليلة لو وافقت ، وهو النكث لذلك الانقياد الذي أظهر بالقول ، وكما أنّه أمر الله سبحانه باخراج هؤلاء لظهور عجائب ما أكرم عليه‌السلام به من طاعة الاشياء له بما أوقف موقف الرسول كذلك أمر كل مكلّف بمعرفة شأن الامام وخروجه لطلب معرفته بالادلة الموصلة له إلى ذلك المطلوب ، خصوصا لو قلنا بوجوب تكميل المعرفة بهم على كلّ أحد بالقدر الذي يتيسر له وله أهليته ، كما هو أحد الوجوه ـ وتحقيقه في محلّه ـ.

وهذا القدر من المعرفة يعني : طاعة جميع الاشياء للامام شأنا بحيث لو أمرهم أطاعوه أمر يسعه كل ذهن وصدر ، وكذا قدرته على الانتقام ، وأن المانع عن ذلك هو أمر الله وحكمته ، وملاحظة المعجزات الصادرة عنهم عليهم‌السلام المنقولة يشهد لذلك.

وكما أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ذكر له عليه‌السلام : «أن الله أمر هؤلاء بنصرتك ومساعدتك ، والمواظبة على خدمتك ، والجد في طاعتك» ، كذلك وصل إلى هؤلاء المخادعين أنّ عليهم أن ينصروا أمير المؤمنين عليه‌السلام في أنفسهم بأن يصيروا أتباعا وشيعة له في جميع المراتب ، ويساعدوه فيما دعاهم إليه ، ويواظبوا على خدمته عليه‌السلام ويجدوا في طاعته بامتثال أوامره ونواهيه ومواعظه وتعليمه وإرشاده وتأديبه ، المأثورة عنه عليه‌السلام وعن القائمين مقامه في طي الاخبار والاثار ، وأنهم إن فعلوا ما أمرهم الائمة عليهم‌السلام في طى ذكر صفات المؤمن والشيعة وغيره كانوا ملوكا خالدين ناعمين ، وإن خالفوا ما وعظوا به وعصوهم كان عليهم العقاب والتعذيب ، وأنهم إن أطاعوا الائمة عليهم‌السلام في جميع أقوالهم وأحوالهم وشؤونهم سعدوا ، وإن خالفوهم وسلكوا

٤٨٨

سبيل الخداع والنفاق شقوا بقدر المخالفة ، والائمة أغنياء عنهم.

وكما أنّه عليه‌السلام سأل ربه في استحالة الجبال فضة وذهبا ومسكا وعنبرا وعبيرا وجواهر وغيرها ، ونادوها عليه‌السلام بالتسليم والانقياد والتسخير ، كذلك لا يبعد أن جبال الانانية في الانسان لو وقع عليها نظرهم استحالت جواهر باقية ، وعطريات أبدية مذعنة له بالاطاعة والتسليم الكامل له ، وأنهم شيعة له ظاهرا وباطنا بمحضر هؤلاء المخادعين والمخالفين بواطنهم ظواهرهم وأقوالهم ، وهم إن لم يشاهدوا ذلك الانقلاب لكن ربما ظهر لهم آثار كراماتهم وأطوارهم الخارجة عن أطوار هؤلاء ، وسمعوا قصص خواص الشيعة والكرامات الصادرة عنهم حيا وميتا من أولاد الائمة عليهم‌السلام وغيرهم ، كما نقل عن «سلمان» و «جابر الجعفي» و «الفضيل بن يسار» و «أبي حمزة الثمالي» و «ابن مهزيار» وغيرهم على ما هو مسطور في محالّه.

وكما أن جملة الاشجار والجمادات أمروا فصاروا جنودا له عليه‌السلام مذعنين بالطاعة له ، كذلك وقع القلب على قلوب جماعة من الناس حتى صارو مخلصين في الموافقة للامام عليه‌السلام ، ومطيعين له ظاهرا وباطنا ، ثابتين في ذلك ، طالبين للمجاهدة في خدمته ، فمنهم من تنبّه على أن مجاهدة النفس الامّارة خدمة له عليه‌السلام فواظب على ذلك ومنهم من بقي منتظرا لزمان إظهار الحق في قلبه وباطنه وظاهره ؛ واعتقدوا أن الامام لو سأل الله سبحانه في أيّ شيء من إجراء العالم أجيب ، وأن هؤلاء المخادعين الذين لم يتحققوا بحقيقة الصدق في المواطن لا يضرّ الله والامام والمؤمنين شيئا ، وأن الدنيا يوشك أن ينقضي بهم كأنهم لم يكونوا للدنيا عمارا ، ولم تزل الآخرة لهم دارا ، وعلم هؤلاء أيضا أن الحق سبحانه أمهل هؤلاء مع ما في باطنهم من الجهل والاخلاق السيئة والنيات الفاسدة والاحوال القبيحة ، كما أمهل مدعي الربوبية والشيطان ، وأنهم خلقوا للبقاء لا للفناء ، وكما أن القوم مرضت قلوبهم عند مشاهدة تلك الاحوال ، كذلك مرضت قلوب المخادعين حين رأوا خلوص

٤٨٩

المخلصين ، وظهر لهم شؤونهم ومقاماتهم وطاعتهم وثباتهم ، وحين ظهر عليهم شأن إمامهم فيهم مضافا إلى أمراضهم السابقة فزادهم الله مرضا جزاء بما كان منهم.

فاعتبروا في تلك القصة وغيرها ، واستخرج المناط في كل منها ، وانتقل منها إلى نظائرها وأشباهها وكل ما فيه شيء مما ثبت فيها. فهذا إشارة إلى الاعتبار السانح لي ، وعسى أن يكون لك اعتبار أحسن منها ، أو أن يكون خطاء مني في بعضها تنبّه له.

[في بيان معنى القلب والمراد منه]

فلنرجع إلى ألفاظ الآية فنقول :

القلب قد يطلق على لحم صنوبري الشكل ، مودع في وسط الصدر ، مائلا إلى الجانب الايسر منه ، وهو لحم مخصوص وفي باطنه تجويف ، وفي ذلك التجويف دم ، وهو منبع الروح البخاري الذي ينتشر منه إلى البدن بتوسط الشرائين ، وهذا المعنى للقلب موجود للبهائم والموتى ، وهذا المعنى ظاهر. وربما يطلق على أمر آخر أيضا ؛ فقال بعض المحققين :

«إنه يطلق على لطيفة ربانية وروحانية ، لها بهذا القلب تعلّق ، وتلك اللطيفة هي المعبّر عنها بالقلب تارة ، وبالنفس أخرى ، وبالروح أخرى ، وبالانسان أيضا. وهو المدرك العالم العارف ، وهو المخاطب والمطالب والمعاقب ، وله علاقة مع القلب الجسداني ، وقد تحيّر أكثر الخلق في إدراك وجه علاقته ، وأن تعلّقه يضاهي تعلّق الاعراض بالاجسام أو الاوصاف بالموصوفات ، أو تعلّق المستعمل للآلة بالآلة ، أو تعلّق المتمكّن بالمكان ، وشبه ذلك.» (١) انتهى.

__________________

(١) نقله الفيض (ره) في المحجة ، ج ٥ ، ص ٤ ؛ والمجلسي (ره) فى البحار ، ج ٧٠ ، ص ٣٤ ؛ والطريحي (رض) في مجمع البحرين ، ج ٢ ، ص ١٤٨.

٤٩٠

وفي الصحاح : «القلب : الفؤاد ، وقد يعبّر به عن العقل ؛ قال الفراء في قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ)(١) أي : عقل.» انتهى.

والذي يظهر لى في المقام أنّ للقلب الصنوبري الحسي باطن هو غيب بالنسبة إلى العالم المادي ، وهو مشكّل ، كما أن اللحم مشكّل وهو الذي يدخله الامور المعنوية ويخرج منه ، وهو محلّ الاحوالات النفسانية من الخوف والرجاء ، والحب والحياء والخجل ، والغم والفرح وغيرها ، ويظهر آثاره في هذا القلب الظاهري ؛ كحصول الاضطراب للقلب الجسماني عند حدوث الخوف في ذلك القلب لما بينهما من المناسبة التامة ، كما يظهر آثاره في الروح الحيواني من الانبساط والانتشار في حال الفرح ، والانقباض في حالة الغم ونحوها أيضا ، وأن هذا ليس هو اللطيفة الربانية الروحانية التي يعبر عنها بالروح والنفس أحيانا وبالانسان أيضا ، وهو المخاطب والمكلّف بالحقيقة والاصالة ، بل هذا القلب المعنوي واقع بين الامر المذكور والقلب المادّي الكثيف ، وواسطة وبرزخ بينهما ، وليس له مرتبة تجرد ذلك اللّطيفة ، ولا دنائة كثافة اللّحم الصنوبري ، بل هو من حيث قبول التشكل والصورة موافق للثاني ، ومن حيث تجرده عن المادة الكثيفة يخالفه ويوافق الاول.

والظاهر أنه المراد بما نقل عن الحديث من أنّ :

«القلوب أربعة : قلب فيه نفاق وايمان ، إذا أدرك الموت صاحبه على نفاقه هلك ، وإن أدركه على ايمانه نجا. وقلب منكوس ، وهو قلب المشرك. وقلب مطبوع ، وهو قلب المنافق. وقلب أزهر أجرد. وهو قلب المؤمن فيه كهيئة السراج ، إن أعطاه الله شكر ، وإن ابتلاه صبر.» (٢)

__________________

(١) ق / ٣٧.

(٢) هو مضمون كلام الامام الباقر ـ عليه‌السلام ـ ، وقد رواه الكليني (ره) في الكافي ، ج ٢ ، باب في ظلمة قلب المنافق ، ص ٤٢٢ ، ح ٢ ، عن سعد ، عنه ـ عليه ـ

٤٩١

والمراد ممّا نقل عن الحديث من أنه : «أمير الجوارح ولا تصدر إلا عن رأيه» (١) ، فإنّ أمير مجموع أجزاء الانسان وإن كان هو الروح القدسي ، لكن أحكامه في الجوارح يظهر بتوسط القلب المذكور ، وهو محل ظهور الارادات وغيرها من الاحوال وما ورد في الحديث من إطلاق الآنية على القلب (٢).

ولا يبعد أن يطلق القلب أيضا على الروح المجرد بملاحظة اتصاله المعنوي وارتباطه إلى القلب المذكور وكون القلب مظهرا لآثاره وأحكامه.

__________________

 ـ السلام ؛ والصدوق (ره) في المعاني ، باب النوادر ، ص ٣٩٥ ، ح ٥١ ، بهذا الاسناد عنه ـ عليه‌السلام ـ. وأصل كلامه ـ عليه‌السلام ـ هو :

«إن القلوب أربعة ، قلب فيه نفاق وايمان ، وقلب منكوس ، وقلب مطبوع ، وقلب أزهر أجرد. فقلت ـ يعني الراوي ـ : ما الازهر؟ قال : فيه كهيئة السراج. فأما المطبوع فقلب المنافق ، وأما الازهر فقلب المؤمن ، إن أعطاه شكر وإن ابتلاه صبر ، وأما المنكوس فقلب المشرك ، ثم قرأ هذه الاية : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.) (الملك / ٢٢) فأما القلب الذى فيه إيمان ونفاق فهم قوم كانوا بالطائف ، فان أدرك أحدهم أجله على نفاقه هلك ، وإن أدركه على إيمانه نجا.»

ونقله أيضا المجلسي (رض) في البحار ، ج ٧٠ ، باب القلب وصلاحه وفساده ، ص ٥١ ، ح ١٠ ، وقال فى شرحه في المرآة : «يمكن أن يكون المراد هنا بالنفاق : التزلزل فى الايمان ، أو الرياء ، أو عدم العمل بمقتضى الايمان ، فيشمل ارادة المعاصى والاصرار عليها.»

(١) نقله الطريحي (ره) في مجمع البحرين ، ج ٢ ، ص ١٤٧.

(٢) لم نعثر عليه بهذا اللفظ ، ولكن يشهد له ما قاله أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ لكميل بن زياد النخعي ، قال ـ عليه‌السلام ـ : «يا كميل بن زياد ، إنّ هذه القلوب أوعية ، فخيرها أوعاها ...» راجع نهج البلاغة ، ص ٤٩٥ ، ح ١٤٧.

٤٩٢

[معنى المرض وحقيقته]

وأمّا المرض ، فهو حالة توجب وقوع الخلل في الافعال الصادرة عن موضوعها كما ذكره بعضهم (١) ، وهو فرع خروجه عما ينبغي أن يكون عليه بحيث لا يتأتّى منه ما كان من شأنه أن يتأتي منه ، ولعلّ الاولى تعميم الخلل بالنسبة إلى الافعال وسائر الآثار المقصودة منه ، فيحدّ المرض حينئذ بأنه حالة توجب الخلل في الاثار التي من شأن موضوعه ترتبها عليه ، أو بأنه آفة توجب خروج العضو عما ينبغي أن يكون عليه. وعلى كل حال فمرض كل جزء بحسبه ؛ فمرض العين حدوث حالة تمنع من جودة الابصار ، أو توجب ألم صاحبه وإن بقى إدراكه على حاله ، ومرض المعدة بحدوث خلل في هاضمته أو دافعته أو ما سكته ، أو بحدوث ألم فيها أو غير ذلك. فكل جزء من أجزاء الانسان إذا لوحظ باعتبار سلامته ومبدئيته لما ينبغي أن يكون مبدء له ، ويترتب عليه من أثر أو فعل ، إمّا أن يكون باقيا على ما يقتضيه بحسب طبيعته وجبلّته ، وإما أن يكون خارجا عنه بفقدان سلامته ، أو عدم ترتب ما يترتب عليه بمقتضى طبعه. فالاول هو الصحة ، والثاني الذي هي الحالة الخارجة عن مقتضى طبعه هو المرض.

وأنت إذا لاحظت حقيقة المرض بما ذكر علمت أنه لا تختص بالاعضاء الحسية ، بل يجري فيها وفي سائر أجزاء الانسان بحسب ارتفاع سلامتها وخروجها عما كان ينبغى أن يكون عليها ، وعدم صدور آثارها عنها على الوجه اللائق به ؛ ويشهد له ما عن «ابن فارس» من أن : «المرض كل ما خرج به الانسان عن الصحة من علّة أو نفاق أو تقصير في أمر» (٢) ، وما يقال من أن : «المرض في القلب الفتور عن الحق ، وفي الابدان فتور في الاعضاء ، وفي العيون فتور في النظر» (٣) وإن لم يكن هذا

__________________

(١) راجع أنوار التنزيل وغيره من كتب التفسير.

(٢ و ٣) راجع مجمع البحرين.

٤٩٣

الكلام محيطا بأطراف الامراض.

[أنواع أمراض القلب وآفاته]

وحينئذ فنقول : مرض القلب هو الحالة الّتي توجب وقوع الخلل في الافعال الصادرة عنه ، أو في مطلق الآثار المترتّبة عليه ، والآفة الّتي توجب خروجه عن الوجه الّذي ينبغي أن يكون عليه بحسب طبيعته وغريزته وجبلّته في حاله أو فعله أو انفعاله أو تأثيره أو في شأن من شؤونه المقصودة منه. فمن جملة تلك الاحوال والآفات حالة تمنع من إدراك ما من شأنه إدراكه ، وعدم التصديق عند قيام الحجّة وتمام الدليل ، فهو حينئذ لا يرى ببصيرته ما من شأنه إبصاره ؛ كالعين الّتي لا يبصر ما من شأنه إبصاره بسبب العمى ، فهو عمى القلب ، ولعلّه المعبّر عنه بالشكّ والنفاق حيث فسّر بهما المرض في قوله تعالى : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ؛ إذ المرض هو الشكّ وفقدان الاعتقاد في الموضع الّذي كان مقتضى فطرة القلب وسجيّته التصديق بقيام البرهان والحجّة ، أو مشاهدة الآثار ، أو كونه من الفطرة الّتي فطر القلب عليه وأمثال ذلك ، فهذا أحد الامراض.

ومنها : حالة تمنع من الانفعالات الّتي من شأنها أن ينفعل عنها ويتأثّر بها ؛ كالقساوة المانعة عن تأثير المواعظ الّتي يليق به تأثيرها فيه ، وهو كخروج آلة السمع الحسّيّ عن الانفعال بالاصوات الّتي تقرعها الّذي هو صمم ظاهريّ ، فالاوّل صمم قلبي.

ومنها : حالة الختم الّتي باعتبارها لا يدخل فيه ما كان يرد عليه ويخرج عنه ؛ كالمعدة المريضة بالمرض المانع عن دخول الغذاء فيه وصرفه ، ودفع ما ينبغى دفعه.

ومنها : الآلام القلبيّة الواردة عليه باعتبار عروض حالات غير طبيعيّة

٤٩٤

بحيث لو بقي على طبيعته الاصليّة لما ورد تلك الالام عليه ؛ كالغلّ والحسد والحقد على عباد الله من دون وجود سبب صحيح بحسب العقل لذلك ، بل لعروض حالات رديّة فاسدة أوجبت ورود تلك الهموم ؛ بل مطلق هموم الدنيا وعمومها من هذا القبيل ؛ إذ ليس من شأن القلب بحسب فطرته الاصليّة أن يكون قويّ التعلّق بها بحيث يورد عليه تلك الهموم. فمثاله في الجسد وجود الاخلاط الفاسدة ، وانصباب الموادّ الرديّة على العضو بحيث يوجب حدوث ألم فيها.

ومنها : أن يخرج في غضبه أو خوفه أو خجله عن حدّ الوسط ، ويقع في الافراط فيه أو التفريط ، مع أنّ من شأن القلب الصحيح التوسّط في ذلك. ومثاله في الجسد خروج الانسان في جوعه وعطشه عن حدّ الاعتدال إلى الافراط والتفريط لفساد مزاجه ، فهو فساد مزاج القلب.

ومنها : أن يشتهي ما لا ينبغي له شهوته ومحبّته كفضول الدنيا ، والامور الاعتباريّة كالجاه لفساد مزاجه الباطني. ومثاله في الجسد مثال خروج شهوة الاكل عن ميزانه بميله إلى ما لا ينبغي له طبعا ؛ كشهوة أكل الطين والفحم والافيون وسمّ الفأر وغيرها ؛ وكما أنّ هذا المريض كلّما ازداد أكلا منها ازداد ميله ومرضه ، كذلك المريض القلبيّ كلّما ازداد في تحصيل الفضول وصرفه ازداد شهوته ومرضه القلبي.

ومنها : تغيّر ذائقته ، فلا يجد الحلو حلوا ، بل يجده مرّا ؛ كالقلب الّذي نزع عنه حلاوة مناجاة الحقّ سبحانه. ومثاله الذائقة الّتي غلب عليها الصّفراء حتّى صار يدرك الحلويّات مرّيّات.

ومنها : عدم أنسه بالله سبحانه وخواصّ عباده ، واستيحاشه من الخلوة به سبحانه والمجالسة معهم. ومثاله : بعض أنواع أمراض الدماغ الّذي يوحشه من مجاورة أبناء نوع الانسان ، ويؤدّي إلى فراره منهم ، مع أنّ من مقتضى طباع

٤٩٥

البشريّة الاستيناس بهم ، كما أنّ مقتضى طبع القلب السليم الصحيح هو الانس بالله سبحانه وأوليائه.

ومنها : ارتفاع صفة الرشد والسداد عنه وصيرورته بحيث لا يتبع ما فيه مصلحته ، ولا يجتنب ما فيه مفسدته مع علمه بأنّه كذلك ؛ كالاعمال والتروك الغير المرضيّة بحسب الشرع الصادرة عمّن يعتقد بالدين والشريعة ، بل وممّن يظنّ بصحّته أيضا ، فانّ من مقتضى الطبيعة الصحيحة طلب المنفعة المظنونة. والهرب من الضرر المظنون ، كما يشاهد ذلك في حال البهائم في طلبها الكلاء من مظانّها والهرب عن مظانّ وجود السباع وغيرها من المضرّات. وهذا حالة السفه الباطني ، كما أنّ فقدان عقل المعاش وإصلاح المال هو السفه الظاهري ، بل لعلّ الاوّل أشدّ وأقوى باعتبار أنّه عالم ، أو ظانّ لا يعمل بعلمه وظنّه ، وهذا جاهل في كثير من موارده. ولعلّ إلى ما ذكر يشير ما ورد على ما ببالي من أنّ : «شارب الخمر سفيه» (١).

ومنها : خوفه ممّا لا ينبغي الخوف منه ، ورجائه ممّن لا ينبغي رجائه ؛ كالمعتقد بأنّه لا معطي ولا مانع إلا الله ، أو الظانّ بذلك وهو يرجوا غيره ويخاف سواه. ومثاله بعض أقسام الجنون الّذي يعترض فيه الخوف ممّا لا ينبغي الخوف منه ، كمن عضّه الكلب الّذي يخاف من الماء خوفا شديدا ، وكبعض أفراد الماليخوليا الّذي يعرض فيه الخوف من أمور لا يصحّ الخوف منه.

__________________

(١) الاخبار المؤيدة لهذا المعنى كثيرة ، فانظر رواية علي بن إبراهيم (ره) في تفسيره ، ج ١ ، ص ١٣١ ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ ، عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، وهي : «أي سفيه أسفه من شارب الخمر» ورواية العياشي (ره) عن عبد الله بن سنان ، عنه ـ عليه‌السلام ـ ، في تفسير آية : «لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ» (النساء / ٥) وهي : «لا تؤتوا شراب الخمر والنساء» وسائر الروايات التي جمع بعضها البحراني (ره) في البرهان ، ذيل الآية الاخيرة.

٤٩٦

ومنها : أن لا يخاف من يستحقّ الخوف منه ؛ كحالة التهوّر وملكتها المقابلة للجبن والشجاعة ، وكحال من يعتقد بربّه أو يظنّ به أو يشكّ فيه على ما قرع سمعه من صفات القهر والانتقام والجلال والكبرياء ، وهو لا يخاف منه خوفه من الشكّ في طروق السارق عليه ليلا لأخذ أمواله منه ، كما إذا سمع حسّا وشكّ أو ظنّ ليلا أنّه سارق لا يقوى على مقاومته. فانّ مقتضى سلامة القلب وبقائه على الفطرة الصحيحة أن يكون خوف ذلك المسلم من ربّه أكثر من هذا الخوف بدرجات كثيرة بل غير متناهية ، كما يظهر وجهه من ملاحظة جهات الخوف في المقامين ، والحال أنّه ليس فيه خوف صادقا أصلا. ومثاله في الحالات الظاهرة السكران في بعض حالاته الّتي يشتدّ له التهوّر بحيث يقدم على المهالك من دون خوف ودهشة على ما ينقل عنهم ، وبعض أقسام الجنون السبعيّ الّذي يعرض لصاحبه سبعيّة وجرأة يقدم بسببها على المهالك والمضرّات ولا يتجنّبها.

ومنها : أن لا يرجو من يستحق رجائه من المنعم الحقيقي الّذي اتّصلت نعمه عليه وعلى سائر عباده ، وملأ عالم الكون من نعمه وإحسانه ، فمن ليس فيه حقيقة الرجاء له فقلبه مريض. ومثاله في الظاهر : المبهوت والحيران الّذي كلّما يعرض عليه الانعام والاحسان ، ودفع الآلام والاسقام لا يحصل فيه طلب ورجاء أصلا. مع أنّ البهائم المعلوفة ترجو من يواظب على علفها ، ويعطيها شعيرها إذا شاهدته ظهرت فيها آثار الرجاء. ونحن لم نفقد حسن صنيع ربّنا ونعمه المتواترة الواردة علينا مدّة أعمارنا الّتي عمرناها ، بل لم نفقدها في آن من الآنات وحين من الاحيان ، وأخذنا مدّة العمر من مائدة إنعامه مأكولنا ومشروبنا وملبوسنا ، ومع ذلك لا يظهر فينا رجاء صادق لربّنا ، فالقلوب كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام على ما ببالي روايته : «قاسية عن حظّها ، لاهية عن رشدها ، سالكة في غير مضمارها» (١).

__________________

(١) نهج البلاغة ، خ ٨٣ ، ص ١١١.

٤٩٧

ومنها انصراف محبّته وبغضه عمّا ينبغي حبّه وبغضه بحسب المزاج الصحيح ، وحبّه وبغضه من لا ينبغي حبّه وبغضه بحسب الفطرة الاصليّة. وذلك بأن لا يحبّ من به بقاء نفسه وكماله ، وكلّ شيء يتعلّق به ، والمحسن إليه بأنواع غير متناهية ، والمحسن إلى جميع من سواه ، ومن كان حسن الفعل بعنوان مطلق والجميل بقول مطلق ، والّذي يحبّه من دون حاجة إليه الرؤف الرحيم به ، وهو الله سبحانه ؛ ويحبّ من سواه ممّن ليس فيه شيء منها على الحقيقة ، ولا يبغض الشيطان المضرّ له بقول مطلق ، العدوّ له القبيح ، فيتولاه بقلبه ويتبعه بأعماله. وكذا حبّ الكمالات المعنويّة والافعال المستحسنة عقلا ، ومن كان متّصفا بتلك الكمالات ، فانّ فقدانه دليل على آفة القلب خصوصا بعد صرفه إلى أضدادها ، مع أنّه ينبغي له بغضها. ومثاله في الجسد : مثال من لا يحبّ الطعام اللّذيذ الملائم ، ويحبّ الغذاء المرّ الغير الملائم ، إلى غير ذلك.

وهذا ذكر إجماليّ على طريقة علم الاخلاق ، والتفصيل موكول إلى ذلك الفنّ.

فنرجع إلى ما نحن فيه ونقول :

إنّ المرض الّذي استقرّ في قلوب هؤلاء المنافقين يمكن أن يكون هو السبب الموجب لفقدان الايمان عنهم من الحالة المخرجة لقلوبهم عن التصديق بعد قيام السبب القويّ الظاهر ، أو الباعثة لها على الجحود الباطنيّ والعناد واللّجاج في موضع يقتضي الفطرة الاصليّة التسليم والانقياد والقبول ، وذلك كالغلّ والحسد والبغضاء ، كما حكي (١) : «أنّ صدورهم كانت تغلي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين غلّا وخنقا ، ويبغضونهم البغضاء الّتي وصفها الله سبحانه في كتابه :(قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ)(٢) ، ويتحرّقون عليهم

__________________

(١) راجع الكشاف ، ج ١ ، ص ٣٢.

(٢) آل عمران / ١١٨.

٤٩٨

حسدا ، أو الضعف والجبن والخور الّتي دخلت قلوبهم ، أو الهوى الّذي ملك قلوبهم. والعصبيّة والحميّة الجاهليّة ، والكبر والعجب والخيلاء الّتي منعتهم من قبول نبوّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.» وتلك الامور كما تمنع عن قبول الحقّ بعد ظهوره على القلب ، كذلك قد تمنع من ظهور الحقّ عليه أيضا ، فانّ حبّ الشيء يعمي ويصمّ ، ومثل الحبّ غيره ، وهو واضح بعد دقّة النظر فيما نجده من أنفسنا وغيرنا وكون الهوى شريك العمى على بعض وجوهه يشهد له.

وعلى ما ذكر فزيادة الله أمراضهم يصحّ أن يؤخذ باعتبار إيجاد الاسباب الموجبة لشدّته ؛ كاعطاء ما أعطى سبحانه نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله من الملك والحشمة وقوّة الاسلام الموجبة لشدّة ظهور الحسد والغلّ والبغضاء وفعليّتها ، وظهور آثار ما في قلوبهم من الحميّة والكبر وغيرهما ، وأن يؤخذ باعتبار ما جعل الله سبحانه في جميع القوى والحالات من أنّها تزداد بالاعمال وتنقض بالاهمال كما سبق. ومرّ أيضا ما يمكن استخراج غير هذين الوجهين في المقام أيضا.

[في أنّ مرض القلب يوجب النفاق]

ثمّ إن سائر أقسام النفاق بمعنى مخالفة الظاهر للباطن على ما سبق أيضا ملازم لوجود المرض في القلب يوجب فقدان الايمان وإحداث النفاق ، ويزيد الله في مرضهم ، إمّا بالامتحانات المظهرة له والمخرجة له من القوّة إلى الفعل ومن الباطن إلى الظاهر ، أو غيره ممّا يظهر بالمقائسة إلى ما مرّ. وقد اجتمع فيهم صنفان من المرض : صنف يمنع من تحقّق حقيقة شؤون الايمان فيهم ـ وقد مرّت الاشارة إليه ـ وصنف يبعثهم على إظهار شؤون الايمان من حبّ الجاه والطمع في أموال الناس ، وحبّ المدح وخوف الذمّ ومهانة النفس وإظهار ما ظهر في المخلصين ، وأزيد منه حسدا على ممدوحيّتهم دون هؤلاء ، أو إرادة إظهار

٤٩٩

نقصانهم ، وأنّهم أعلى منهم. وكما أنّ هؤلاء المنافقين كانت تغلي قلوبهم حسدا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كذلك هؤلاء يحسدون الصادقين فيما أعطاهم الله ومنحهم.

[في معنى الاليم ووجوه توصيف العذاب به]

(وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ)

«في قولهم (١) : إنّا على البيعة والعهد مقيمون» كذا عن الكاظم عليه‌السلام في ذيل ما تقدّم سابقا (٢).

و «الاليم» هنا إمّا بمعنى : المولم الموجع ، أو بمعناه الاصليّ ، ويكون التوصيف توسّعا كما في جدّ جدّه. والالم بالحقيقة للمولم بالفتح ، كما أنّ الجدّ للجادّ وفي كلا الوجهين دلالة على المبالغة ؛ إذ العذاب يلزمه الايلام والايجاع ، فوصفه بكونه مولما يدلّ على مبالغة في إيلامه وإيجاعه ، كما يظهر من نظائره ، وكذا وصفه بأنّه أليم فكأنّه لشدّة إيلامه متألّم بنفسه ؛ كوصف الجاهليّة بالجهلاء. ولعلّه تنبيه على كون عذاب المنافقين أشدّ من الكفار ، كما يوافقه قوله سبحانه : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ)(٣).

وذلك لأنّهم زادوا على الكفر الباطنيّ المشترك بين الطائفتين كذبا ، فثبوت ذلك العذاب الاليم للمنافقين من جهة كذبهم في دعوى الايمان ، وهذا على قرائة التخفيف ظاهر ، وأمّا على قرائة التشديد فالظاهر إرادة تكذيبهم ما ينبغي الايمان به ؛ كآيات الله ، وكلمة التوحيد والرسالة ، وإن احتمل فيه أن يكون من «كذّب» الّذي هو مبالغة في كذب ؛ كصدّق وصدق ، وبان وبيّن ، أو بمعنى

__________________

(١) في المخطوطة : «قلوبهم».

(٢) راجع المصادر المذكورة في تعليقة ٢ ص ٤٨٧.

(٣) النساء / ١٤٥.

٥٠٠