مجد البيان في تفسير القرآن

آية الله الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي

مجد البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٣

والانقياد.

وحينئذ فيكون أصل الكفر هو الاستتار والتغطية عن الحق بجهل مركب أو بسيط أو جحود وعناد ، ويترتب عليه أغصان من الاخلاق الرذيلة والحالات والملكات المنافية لحالة الايمان والتسليم ، وفروع هي ثمرة ذلك الاصل ، وهي المعاصي والسيئات.

فالكفر شجرة خبيثة اجتثّت من فوق الارض مالها من قرار في مقابلة الشجرة الطيبة الايمانية المستقرة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كلّ حين باذن ربّها (١).

والمقابلة واقعة بينهما في جميع المقامات من مقام العلم والقبول والاخلاق والملكات والنيات والاعمال ، وفي النتائج والآثار المترتبة على كل منها.

وكما أنّ الكفران بالنعم من أغصان الكفر كذلك الشكر من شعب الايمان وكما أنّ المعصية كفر فرعي كذلك الطاعة إيمان فرعي ، وكما أن البرائة من الله وأوليائه كفر كذلك التولّي لأولياء الله سبحانه ايمان ، وكما أن هناك إيمان لساني وهو نفاق فهيهنا كفر لساني من دون موافقة القلب له ، وهو ليس كفرا عند التقية : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ)(٢). وكما أنّ هناك أمرا آخر هو روح الايمان فالظاهر أن هيهنا أيضا أمر هو روح الكفر ، وهو مظلم كما أنّ الاول منور ، أو نور بنفسه.

وبهذا البيان ينطبق أقسام الكفر المذكور في كلامه عليه‌السلام ، وبه يمكن الجمع بين معظم الاخبار التي ربما يترائى منها التعارض.

وهذا ذكر إجمالي وقع هنا بالمناسبة ، ولعل التفصيل يظهر لك فيما بعد

__________________

(١) إشارة إلى قوله تعالى في سورة إبراهيم ، آية ٢٤ ـ ٢٦.

(٢) النحل / ١٠٦.

٤٤١

متفرقا ـ إن شاء الله تعالى ـ.

[معنى الانذار]

(سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)

الانذار : التخويف من عقاب الله بالزجر عن المعاصي ، كما ذكره جماعة (١). والحكم بالاستواء بين الانذار وعدمه يفيد قطع حسم احتمال الايمان منهم بالمرة ؛ إذ الانذار أقوى تأثيرا من البشارة وغيرها من بواعث الافعال ، فإنّ دفع الضرر أهمّ من جلب المنفعة.

ويحتمل إطلاق الانذار على مطلق الدعوة بأنحائه ، أو بالقرآن تغليبا للانذار والتخويف على غيره.

والمراد بالموصول هنا يجوز أن يكون أناسا معهودين بأعيانهم ؛ ك «أبي جهل» و «أبي لهب» و «الوليد بن المغيرة» وأضرابهم من رؤساء الضلال الثابتين فيه ؛ ويجوز أن يكون الجنس المتناول لكل من صمم على الكفر تصميما لا يرعوي بعده دون غيرهم من الّذين لم يبلغوا ذلك الحال بقرينة الاخبار عنهم بالاستواء بين الانذار وعدمه ، وهو من خصائص الاوّلين ، فغيرهم خارج عن المراد بالموصول ابتداء ، أو مستثنى منه بعد العموم.

__________________

(١) راجع الكشاف ، ح ١ ، ص ٢٦ ؛ وأنوار التنزيل ، ص ١١.

٤٤٢

[بحوث حول الختم والغشاوة]

(خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ)

[معنى الختم والغشاوة]

الختم والكتم أخوان ؛ لأنّ في الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه كتما له وتغطية لئلا يتوصل إليه ، ولا يطلع عليه ، كما ذكره جماعة (١). وربّما يفسّر بالشدّ والطبع حتى لا يوصل إلى الشيء المختوم عليه ، ومنه ختم الباب والكتاب.

والغشاوة : الغطاء فعالة من غشاه إذا غطّاه ، وهذا البناء لما يشتمل على الشيء ؛ كالعصابة والعمامة (٢). وقرئ عشاوة بالعين المهملة والرفع من العشاء.

وعن ابن بابويه باسناده عن الرضا عليه‌السلام ، قال الراوي : سألته عن قول الله عزوجل : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ) قال :

«الختم هو الطبع على قلوب الكفّار عقوبة على كفرهم ؛ كما قال الله عزوجل : [بل] (طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً.)» (٣)

__________________

(١) راجع الكشاف ، ج ١ ، ص ٢٦ ؛ وأنوار التنزيل ، ص ١١.

(٢) راجع نفس المصادر ، وهكذا مجمع البيان ، ج ١ ، ص ٤٤.

(٣) الآية الاخيرة : النساء / ١٥٥ ؛ والحديث : العيون ، ج ١ ، باب ١١ ، ص ١٠٠ ، ح ١٦ عن إبراهيم بن أبي محمود ، عنه ـ عليه‌السلام ـ ؛ والصافي ، ج ١ ، ص ٥٩ ؛ والبحار ، ج ٥ ، باب الهداية والاضلال ، ص ٢٠١ ، ح ٢٦ ؛ وهكذا في البرهان ونور الثقلين.

٤٤٣

وروي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام :

«سبق في علمه أنّهم لا يؤمنون ، فختم على قلوبهم وسمعهم ليوافق قضائه عليهم علمه فيهم ؛ ألا تسمع إلى قوله : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ؟)» (١)

وربّما ينسب إلى الامام عليه‌السلام تفسير الاوّل بأنّه : «وسمها بسمته يعرفها من يشاء من ملائكته وأوليائه إذا نظروا إليها بأنّهم الذين لا يؤمنون.» والثاني بأنّ : «ذلك أنّهم لمّا أعرضوا عن النظر فيما كلّفوه ، وقصّروا فيما أريد منهم ، جهلوا ما لزمهم الايمان [به] ، فصاروا كمن على عينيه غطاء لا يبصر ما أمامه ، فانّ الله يتعالى عن العبث والفساد ، وعن مطالبة العباد بما قد منعهم بالقهر منه» (٢).

وعن تفسير الامام عليه‌السلام ؛ ذكر قصّة طويلة مشتملة على أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام شاهد رجالا من المنافقين دفع واحد منهم «ثابت [بن] قيس الانصاري» في بئر عميقة ، فأوقع نفسه في البئر وسبقه إلى قرار البئر ، وجاء ثابت فانحدر ، فوقع عليه ، وقد بسطها إليه ، وكان كباقة ريحان تناولها بيده. قال عليه‌السلام :

«ثمّ نظرت فاذا ذلك المنافق ومن معه آخران على شفير البئر وهو يقول : أردنا واحدا. فصار اثنين. فجائوا بصخرة فيها مائة منّ فأرسلوها ، فخشيت أن تصيب ثابتا. فاحتضنته وجعلت رأسه إلى صدري وانحنيت عليه ، فوقعت الصخرة على مؤخّر رأسي ، قما كانت إلا كترويحة بمروحة (٣) تروحت

__________________

(١) الآية : الانفال / ٢٣ ، والحديث لم نعثر عليه.

(٢) تفسير الامام ـ عليه‌السلام ـ ، ص ٣٦ ؛ والبحار ، ج ٥ ، باب الهداية والاضلال ، ص ٢٠٠ ، ح ٢٤ ، وج ٩ ، باب ما ورد من المعصومين ـ عليهم‌السلام ـ في تفسير الآيات ، ص ١٧٤ ، ح ٢ ؛ وهكذا في الاحتجاج ج ٢ ، ص ٢٦٠ ؛ ونور الثقلين نقلا عنه.

(٣) روح عليه بالمروحة ، حرّك يده بها يستجلب له الريح ، والمروحة آلة تحرك بها الريح عند اشتداد الحر.

٤٤٤

بها في حمارة القيظ. ثمّ جائوا بصخرة أخرى فيها قدر ثلاث مائة منّ ، فأرسلوها علينا ، فانحنيت على ثابت ، فأصابت مؤخّر رأسي [فكانت كماء صببته على رأسي وبدني في يوم شديد الحرّ. ثمّ جاؤوا بصخرة ثالثة فيها قدر خمسمائة منّ ، يديرونها على الارض لا يمكنهم أن يقلبوها ، فأرسلوها علينا ، فانحنيت على ثابت ، فأصابت مؤخّر رأسي] وظهري ، فكانت كثوب ناعم صببته (١) على بدني ولبسته ، فتنعّمت به ، ثمّ سمعتهم (٢) يقولون : لو أنّ لابن أبي طالب وابن قيس مائة ألف روح ما نجت منها واحدة من بلاء هذه الصخور. ثمّ انصرفوا ، فدفع الله عنّا شرّهم ، فأذن الله لشفير البئر فانحطّ ولقرار البئر قد ارتفع ، فاستوى القرار والشفير بعد بالارض ، فخطونا وخرجنا.» ـ وساق الحديث إلى أن قال : ـ

ثمّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّ عليه‌السلام : «انظر» ، فنظر إلى «عبد الله بن أبيّ» وإلى سبعة من اليهود ، قال : «[قد] شاهدت ختم الله على قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم.»

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أنت يا عليّ عليه‌السلام أفضل شهداء الله في الارض بعد محمّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

قال : فذلك قوله : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) ، تبصرها الملائكة فيعرفونهم بها ، ويبصرها

__________________

(١) أي : لبسته.

(٢) في البرهان : «فسمعتهم» ، وفي المخطوطة : «فاستمعتهم».

٤٤٥

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويبصرها خير خلق الله بعده عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام(١) انتهى.

[اعتقاد المجبرة في الختم]

* وذكر بعض المجبرة : «أنّ أهل السنّة يعني : الاشاعرة احتجّوا بالآيتين ونظائرهما على تكليف ما لا يطاق ، وعلى أنّ الله هو الّذي خلق فيهم الداعية الموجبة للكفر ، وختم على قلوبهم ، ومنعهم عن قبول الحق والصدق ، وكل بتقديره تعالى ، (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ)(٢)».

وهذا كما ترى انهماك في الغيّ والضلال.

وذكر بعض العدليّة (٣) * في الآية ما محصّله أنّه : لا ختم ولا تغشية هناك على الحقيقة ، وإنّما هو من باب الاستعارة أو التمثيل.

أمّا الاوّل ، فأن نجعل قلوبهم ؛ لأنّ الحقّ لا ينفذ فيها ولا يخلص إلى ضمائرها من قبل إعراضهم عنه واستكبارهم عن قبوله واعتقاده ، وأسماعهم ؛ لأنها تمجّه وتنبو عن الاصغاء إليه وتعاف استماعه ، كأنّها مستوثق منها بالختم ، وأبصارهم ؛ لا تجتلي آيات الله المعروضة ودلائله المنصوبة ، كأنّما غطّي عليها ،

__________________

(١) تفسير الامام ـ عليه‌السلام ـ ، ص ٤٠ ؛ والبحار ، ج ٤٢ ، باب جوامع معجزاته ـ عليه‌السلام ـ ونوادرها ، ص ٢٧ ، ح ٧ ؛ والبرهان ، ج ١ ، ص ٥٨.

(٢) الانبياء / ٢٣.

(٣) بين النجمتين سقط عن المطبوعة ، ومكانه فيها : «وأيضا ومعنى الختم على قلوبهم أنها لا تؤمن لما علم من إصرارهم على الكفر. ويمكن أن المراد بالختم : العلامة ، وإذا انتهى الكافر من كفره والمنافق من نفاقه إلى حالة ثابتة في اعوجاجه يعلم الله أنه لا يؤمن ، فانه يعلم على قلبه علامة. وقيل : هي نكتة سوداء تشاهدها الملائكة فيعلمون بها أنه لا يؤمن بعدها فيذمّونه ، ويدعون عليه. ثم اعلم أفاد بعض أهل الفضل».

٤٤٦

وحيل بينها وبين الادراك.

وأمّا التمثيل ، فأن نمثّل حيث لم يستنفعوا بها في الاغراض الدينيّة ، التي خلقوا من أجلها بأشياء ضرب حجاب بينها وبين الاستنفاع بها بالختم والتغطية.

وقد جعل بعض الماديين الحبسة في اللّسان والعيّ ختما عليه في شعره ، وذكر في توجيه إسناد الختم إليه سبحانه ما حاصله بأنّ القصد إلى صفة القلوب بأنّها كالمختوم عليها.

[ردّ قول المجبرة وبيان حقيقة الختم وإسناده إلى الله سبحانه]

وأمّا إسناد الختم سبحانه فللتنبيه على أن هذه الصفة في فرط تمكّنها وثبات قدمها كالشيء الخلقيّ غير العرضي ؛ كقولهم : فلان مجبول على كذا ومفطور عليه ، يريدون المبالغة في الثبات عليه. وكيف يصحّ تخيّل ما خيل وقد وردت الآية ناعية على الكفّار شناعة صفتهم وسماجة حالهم ، ونيط بذلك الوعيد بعذاب شديد؟

ويجوز أن تضرب جملة (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) كما هي مثلا ؛ كقولهم : سال به الوادي إذا هلك ، وطارت به العنقاء إذا أطال الغيبة ، وليس للوادي ولا للعنقاء عمل في هلاكه وطول غيبته ، وإنّما هو تمثيل لحال الشخص بحال من فعلا به ، فكذلك مثّلت حال قلوبهم فيما هم عليه من التجافي عن الحقّ بحال قلوب ختم الله عليها نحو قلوب الاغنام التي تشبه قلوب البهائم في الخلوّ عن الفطنة ، أو بحال قلوب البهائم أنفسها ، أو قلوب فرض ختم الله عليها حتّى لا تعي شيئا ولا تفقه من دون أن يكون لله فعل في تجافيها عن الحقّ ، ونبوها عن قبوله.

ويجوز أن يكون الاسناد إلى الله سبحانه مجازا من باب إسناد الفعل إلى أحد الملابسات كما هو شائع في كلامهم ، فهيهنا وإن كان الخاتم هو الشيطان أو

٤٤٧

الكافر ، لكن لمّا كان الله سبحانه هو الذي أقدره عليه ومكّنه أسند إليه الختم ، كما يسند الفعل إلى المسبب في قولهم : «بنى الامير المدينة» و «ناقة حلوب».

ووجه رابع ، وهو أنهم لمّا كانوا على البتّ والقطع ممّن لا يؤمن ولا تنفع الآيات فيهم ولا يجدي فيهم الالطاف المقربة والمحصلة إن اعطوها ، لم يبق طريق إلى إيمانهم إلا القسر والالجاء ، فاذا لم يقسرهم والحال هذه لمنافاته الغرض من التكليف عبّر عن ذلك الترك ب «الختم» إشعارا بأنهم على صفة لا طريق إلى ردعهم إلا الالجاء ، وهي الغاية القصوى في وصف لجاجهم في الغيّ ، واستشرائهم في الضلال والبغي.

ووجه خامس ، وهو أن يكون حكاية لما كانت الكفرة يقولونه تهكّما بهم من قولهم (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ)(١).

هذا غاية ما أمكنه من الجواب عن الاشكال المورد في الآية بملاحظة قواعد العدل. ولعلّه هو أقصى ما يمكن من الوجوه الظاهريّة مع عدم خلوّ بعضها من التكلّف والخروج عن الظاهر.

والذي يقتضيه النظر الدقيق هو ما دلّت عليه الرواية السابقة من أن الختم والطبع إنّما وجد جزاء لكفرهم وعصيانهم ، وهو سمة يعرفها كلّ من له عين ، يبصرها أنّ صاحبه لا يؤمن استدلالا بالملزوم على اللازم ، فيوافقه التفسير الآخر. ولعلّه المراد من مشاهدة أمير المؤمنين عليه‌السلام الختم على هؤلاء المنافقين ، فانّ ذلك الختم والغشاوة تدركان بالنظر الباطني والنور المشرق عن عالم النبوة والولاية. فينطبق التفاسير كلّها على ظاهر الآية ونظائرها من أخبار وآيات عديدة ممّا مرّ ذكرها هنا وغيرها ؛ كقوله سبحانه :

__________________

(١) فصلت / ٥.

٤٤٨

(فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ.)(١)

وفي التوحيد باسناد معتبر عن الصادق عليه‌السلام قال :

«إنّ الله تعالى إذا أراد بعبد خيرا نكت في قلبه نكتة من نور ، وفتح مسامع قلبه ، ووكّل به ملكا يسدّده ؛ وإذا أراد بعبد سوء نكت في قلبه نكتة سوداء ، وسدّ مسامع قلبه ، ووكّل به شيطانا يضلّه.» ثمّ تلا هذه الآية.

قال الصدوق ـ رحمه‌الله ـ بعد ذكر الآية والرواية :

«إنّ الله إنما يريد بعبد سوء لذنب يرتكبه ، فيستوجب به أن يطبع على قلبه ، ويوكّل به شيطانا يضلّه ، ولا يفعل ذلك به إلا باستحقاق ، وقد يوكل عزوجل بعبده ملكا يسدّده باستحقاق ، أو تفضّل ، ويختصّ برحمته من يشاء ؛ وقال الله تعالى : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ.)(٢) انتهى.

وروي فيه باسناده عن السجاد عليه‌السلام أنّه قال في حديث :

«ألا إنّ للعبد أربعة أعين : عينان يبصر بهما أمر آخرته ،

__________________

(١) الانعام / ١٢٥.

(٢) الآية : الزخرف / ٣٦ ؛ والحديث في التوحيد ، باب التعريف والبيان والحجة والهداية ، ص ٤١٥ ، ح ١٤ ، عن سليمان بن خالد ، عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ ؛ وهكذا رواه الكليني (ره) في الكافي ، ج ١ ، باب الهداية أنها من الله عزوجل ص ١٦٦ ، ح ٢ ، بهذا الاسناد ؛ والعياشي (رض) في تفسيره ، ج ١ ، ص ٣٧٦ ، ح ٩٤ ، مرسلا عن سليمان بن خالد ، عنه ـ عليه‌السلام ـ ، ونقله الفيض (ره) في الصافي ، ج ١ ، ص ٥٤٥ ، والبحراني (ره) في البرهان ، ج ١ ، ص ٥٥٢ ، ح ١.

٤٤٩

وعينان يبصر بهما أمر دنياه ، فاذا أراد الله عزوجل بعبد خيرا فتح له العينين اللّتين في قلبه ، فأبصر بهما الغيب (١) ، وإذا أراد غير ذلك ترك القلب بما فيه. ثمّ التفت إلى السائل عن القدر فقال : هذا منه.» (٢).

والذي يظهر لي في تفصيل المقام أنّ للانسان بصرا باطنيا به يبصر الامور الغيبية بالنسبة إلى هذا المقام ، وسمعا به يسمع الكلمات الخارجة عن كلمات هذا العالم ، وقلبا ينشرح للاسلام ويضيق حرجا كأنّما يصّعّد في السماء ؛ وكما أن لهذا البدن العنصريّ هذه الجوارح الثلاثة ، كذلك في باطنه روح كلّ منها وحقيقته بحيث لا تفاوت بين تلك الجوارح وهذه المحسوسة إلا اللّطافة والكثافة ، والخفّة والثقل. ويشبه أن يكون تلك الجوارح هي للبدن الذي تعيش به في عالم البرزخ ، وأنّ معظم الثواب والعقاب البرزخيين واقع باعتبار ذلك الجسد والقوى ، وأنّ البدن والاعضاء المذكورة ليست ممّا تحدث عقيب الموت حتّى تكون تناسخا ينتقل الروح من بدن إلي آخر ، بل هي ثابتة في باطن هذا العالم ، وواسطة بين الروح اللّطيف غاية اللّطف والبدن العنصريّ الكثيف ، كما يشهد له شواهد كثيرة من السمع والاعتبار ، ليس المقام مقام استقصائها. وملاحظة حال الرؤيا الصادقة التي يتفق للكاملين في التقوى أعدل شاهد على ذلك. فانك ترى في الرؤيا الصادقة عالما آخر ، وتسمع فيها كلمات ، ولك قلب في ذلك العالم ، وليس بالتخيّل وتعملات المتخيلة ، وإلا لما كانت مطابقة للواقع وصادقة ؛ إذ الخيال لا حكاية فيها عن

__________________

(١) خ. ل : «العيب».

(٢) رواه (ره) في التوحيد ، باب القضاء والقدر ، ص ٣٦٦ ، ح ٤ ؛ والخصال ، ج ١ ، ص ٢٤٠ ، ح ٩٠ ، عن الزهري ، عنه ـ عليه‌السلام ـ ، ونقله المجلسي في البحار ، ج ٥ ، باب القضاء والقدر ، ص ١١٢ ، ح ٣٩.

٤٥٠

الخارج وإن أمكن اتفاق الموافقة ، لكن فرق ظاهر بين ذلك وبين حال الرؤيا الصادقة ، فانها تحكي عن الواقع إما بصورها ، أو بمعانيها ، كما سيرد عليك شيء من التفصيل والبيان فيما يناسبه ـ إن شاء الله تعالى ـ. وتلك العين والسمع والقلب آلات الايمان الحقيقي بالغيب ؛ كما وصف أمير المؤمنين عليه‌السلام فيما أورده في نهج البلاغة عنه من قوله عليه‌السلام :

«إنّ الله سبحانه جعل الذكر جلاء للقلوب تسمع به بعد الوقرة ، وتبصر به بعد العشوة ، وتنقاد به بعد المعاندة ، وما برح لله ـ عزّت آلاءه ـ في البرهة بعد البرهة ، وفي أزمان الفترات ؛ عباد ناجاهم في فكرهم ، وكلّمهم في ذات عقولهم ، فاستصبحوا بنور يقظة في الابصار والاسماع والافئدة ؛ يذكّرون بأيّام الله ـ إلى أن قال عليه‌السلام : ـ

وإنّ للذّكر لأهلا أخذوه من الدنيا بدلا ، فلم تشغلهم تجارة ولا بيع عنه ؛ يقطعون به أيّام الحياة ، ويهتفون بالزواجر عن محارم الله في أسماع الغافلين ، ويأمرون بالقسط ، ويأتمرون به ، وينهون عن المنكر ، ويتناهون عنه ، فكأنما قطعوا الدنيا إلى الاخرة وهم فيها ، فشاهدوا ما وراء ذلك ، فكأنما اطلعوا غيوب أهل البرزخ في طول الاقامة فيه (١) ، وحققت القيامة عليهم عداتها ، فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدنيا ، حتى كأنهم يرون ما لا يرى الناس ، ويسمعون ما لا يسمعون ـ إلى آخر الكلام الشريف.» (٢)

__________________

(١) في المخطوطة : «عليهم».

(٢) نهج البلاغة ، خ ٢٢٢ ، ص ٣٤٢ ؛ وهكذا أورد الآمدي (ره) صدره في غرر الحكم ، الفصل التاسع في حرف الالف بلفظ «ان» ، ص ٢٣٨.

٤٥١

فانظر كيف أثبت أوّلا بصرا وسمعا وانقيادا بعد الوقرة والعشوة والمعاندة بعد الذكر ، والظاهر أنّه جزاء المواظبة على ذكره سبحانه ، وأثبت بعده عبادا يناجيهم الحقّ ، ويكلّمهم في ذات عقولهم ، وهل يدرك الكلام والنجوى إلا بالسمع؟ ثمّ أثبت لهم نور يقظة في الاسماع والابصار والافئدة ، ثمّ وصف أهل الذكر بقوله : «فكأنما قطعوا الدنيا إلى الآخرة وهم فيها ، فشاهدوا ما وراء ذلك» ، وهل يكون مشاهدة إلا بعين بصيرة؟ وكيف عطف على الاطلاع تحقيق القيامة عداتها بدون غطاء حتى كشفوا غطاء ذلك لأهل الدنيا؟

وأمّا التعبير بلفظ «كأنّما» بعد ذلك وقبله ، فلعلّه لمشابهة الرؤية والسماع الحسيّين الواقعين في عالم الشهادة ، وهما اللّذان يفهمهما الناس والمخاطبون ؛ إذ لم يتصوّروا غيرهما ، فلا ينافي ذلك كون الابصار والسماع حقيقتين واقعتين على طبق ما في هذا العالم ، أو توسّع منه عليه‌السلام في التعبير باعتبار ملاحظة قصور المخاطبين أو بعضهم عن إلقاء ذلك المطلب الغريب عن الاذهان عليه ، فإنّهم يكلّمون الناس على قدر عقولهم ، فأورد الكلام على وجه يفهم القابل والناقص ما يناسب مقامه ومرتبته.

وروى العياشي كما نقل عنه عن عمرو بن أبي المقدام ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال : سمعته يقول :

«أنتم والله الذين قال [الله] فيهم (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ)(١) ؛ إنّما شيعتنا أصحاب الاربعة الاعين : عين في الرأس ، وعين في القلب ، ألا والخلائق كلّهم كذلك إلا أنّ الله فتح أبصاركم وأعمى أبصارهم.» (٢)

__________________

(١) الحجر / ٤٧.

(٢) العياشي ، ج ٢ ، ص ٢٤٤ ، ح ٢٣ ؛ ورواه بهذا الاسناد أيضا الكليني (رض) ـ

٤٥٢

إلى غير ذلك من الاخبار الواردة في السمع والبصر (١).

وقد ورد أخبار في صفة القلوب (٢) ، وأنّ منها : «قلب أزهر أجرد ، فيه كهيئة المصباح ، وقلب منكوس (٣)» على ما ببالي.

[في أنّ الختم والتّغشية مرتبة من مراتب العقاب]

وحينئذ فنقول : إنّ مراتب العقاب كثيرة ، أدناها وأوّلها : المصيبات الدنيويّة من الهموم ، وإصابة الشوكة إلى أشدّها ، وآخرها ظهورا هو : النار ، وسائر ما أعدّ الله سبحانه للعصاة في جهنم ـ نعوذ بالله منها ـ ، وبينهما مؤاخذات وعقوبات ؛ كشدائد يوم القيامة قبل دخول النار ، والعقاب الواقع في عالم البرزخ بأقسامه ، والعقاب المعنويّ الواقع على أهل المعاصي في باطن الدنيا ؛ كنزع حلاوة المناجاة ، واستيلاء الشيطان عليه ، وظلمة قلبه ، وتسلّط الدواعي الفاسدة من الهوى والعصبية والتقليد وغيرها عليه.

ومنها : عمى البصر والغشاوة الطارية عليه ، والختم على قلبه وسمعه بحيث لا يسمع ما كان ينبغي له أن يسمع ، ولا يبصر ما كان ينبغي أن يبصر ، ولا يدخل في قلبه ما كان ينبغي أن يدخل فيه.

__________________

 ـ في ذيل حديث فى فضائل الشيعة في الكافي ، ج ٨ ، ص ٢١٤ ، ح ٢٦٠ ؛ ونقله المجلسي (ره) في البحار ، ج ٦٨ ، باب فضائل الشيعة ، ص ٣٦ ، ح ٧٧ ، وج ٨٢ ، باب فضائل الشيعة ، ص ٨١ ، ح ١٤٢ ، نقلا عنهما ؛ والبحراني (ره) فى البرهان ، ج ٢ ، ص ٣٤٧ ، ح ٧ ، عن الاول.

(١) يوجد بعضها في البحار ، ج ٧٠ ، باب القلب وصلاحه وفساده.

(٢) راجع نفس المصدر.

(٣) رواه الكليني والصدوق (ره) في الكافي والمعاني وسيأتي بتمامه ـ إن شاء الله تعالى ـ فيما يأتي.

٤٥٣

وبالجملة : فكما أنّ ذلك الابصار والاسماع كانتا لأهل الطاعة والشيعة وأهل الذكر ، أو أيّ اسم سمّيتهم به ، وكان حال قلبهم مشروحا للاسلام واعيا بصفات مطلوبة ، كذلك عمى ذلك البصر ، وصمم ذلك السمع ، وصيرورة القلب مختوما عليه ضيّقا حرجا لا يدخله المواهب ، ولا يخرج منه إلى الجوارح ما يفيدها للمقابلين لهم في الصفات والاعمال والاحوال. فكأنّ الاوّل من أعظم الثواب العاجل لهم ، والثاني من أعظم النكال والعقاب المعنويّ العاجل الواقع عليهم عدلا منه سبحانه وقسطا ؛ (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ.)(١)

ويصحّ في هذه المرتبة من تفسير المعنى جعل المفردات والمركبات والنسبة باقية كلّها على معانيها الحقيقة من دون لزوم مجاز أو غيره ؛ سوى أنّه لا يبعد أن يقال : إنّ الظاهر من إطلاق الالفاظ ونسبتها والمتبادر العرفيّ منها هو المعاني الموجودة في ظاهر هذا العالم الذي شاهده المخاطبون وغيرهم من أهل العرف ، دون تلك الحقائق عند وجودها في عالم آخر بنحو آخر ، لكن ذلك إنّما يتبع إذا لم يكن هناك قرينة صارفة في الكلام ، وأمّا بعد وجودها فهو أقرب من سائر المراتب إلى ظاهر اللّفظ ؛ إذ هو أقرب إلى الحقيقة العرفيّة ، والمقام منه ؛ إذ من الواضح عند المخاطبين وغيرهم أنّه على قلوبهم وسمعهم المحسوسة ختم حسي ، ولا على بصرهم المحسوس غشاوة حسّيّة. وأعلى (٢) من هذه المرتبة من التفسير يظهر بملاحظة النور العقليّ الذي يظهر به حقيقة كلّ محسوس ومسموع ، ومقابله من الظلمة التي (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها)(٣). ولعلّ إليهما ينظر قوله سبحانه على

__________________

(١) الجاثية / ٢١.

(٢) كذا في المخطوطة.

(٣) النور / ٤٠.

٤٥٤

ما ببالي :

(أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها.)(١)

وسيأتي بيانه في محلّه ـ إن شاء الله سبحانه ـ.

وفي هذين المقامين يصحّ المقابلة بين صفة الكفّار والمتقين حيث أورد سبحانه في صفتهم تارة أنّ : «القرآن هدى لهم» ، وأخرى ب «إيمانهم بالغيب» ، وثالثة ب «أنّهم على هدى من ربهم» وهذان المشار إليهما من أعظم أنواع الهدايات الباطنية التي تقدمت إليها الاشارة ، وأعظم أنواع الايمان بالغيب إن أخذ الغيب على إطلاقه ، فانّ المدرك بها غيب من هذا العالم ؛ كما أن تلك الصفات المقابلة لها من الختم والغشاوة من أنواع الضلالة المقابلة لها.

والكفر بالغيب بمعنى «الستر» ؛ إذ الموصوف بتلك الصفة غير مؤمن بحقيقة الايمان العياني ، فهو كافر بحسب هذا المقام وهذه المرتبة وإن كان مؤمنا باعتبار المراتب الاخر.

والمناسب اعتباره في هذا المقام من المعنى أن يكون المراد بالكفر في صلة الجملة في الآية هو الكفر المعنويّ الموجب لعروض هذه البلايا ، كما أنّ التقوى والايمان في الآيات السابقة في مرتبة إرادة الهدايات الباطنية الحقيقة هو الفرد الكامل ، ولا يلزم من ذلك قصر معنى اللّفظ في المقامين على البعض مطلقا ، بحيث يخرج ما عداهم عن الكلام بالمرّة ، بل بحسب بعض المراتب فقط ؛ إذ الكلام بنفسه صالح لمقامات ينبغي مراعات الموضوع والمحمول في كلّ منها بحسبه ، ليكون القرآن معطيا حكم كل مقام لأهله بحسبه ؛ فانّه مائدة الله سبحانه لجميع عباده ، لا يختصّ ببعض دون بعض ، كما ربما يظهر ممّا قدّمناه في المقدّمات.

__________________

(١) الانعام / ١٢٢.

٤٥٥

[ارتباط درجات الختم بمراتب الحجاب في الانسان]

وحينئذ فنقول : إنّ دون المرتبتين المتقدّمتين مقاما آخر ، وبيانه : إنّ الانسان تارة يكون بحيث يتأثّر بورود الانذار الصحيح عليه مطلقا ، خصوصا بعد استجماع الانذار شرائط كماله ؛ وتارة يكون بحيث لا تتأثّر بالانذار بوجه من الوجوه ، وكيفية من الكيفيات ، وبأيّ نحو وقع ، بحيث خرج عن القابلية رأسا ؛ وبينهما متوسطات ، فيتأثّر صاحبها تارة دون أخرى ، أو بوجه دون وجه ، أو من شخص دون آخر ، أو من بعض الانذارات دون آخر.

ولا ريب أنّ هذا الاختلاف ينشأ عن اختلاف في أمر باطنيّ هو الموجب لهذا الاختلاف ؛ إذ الاختلاف في الآثار يكشف عن الاختلاف في المؤثرات أو المتأثرات ، وحيث فرض عدم الاختلاف في المؤثّرات بين الطوائف الثلاثة كشف عن كون اختلاف الحال من طرف المتأثّر. ولمّا فرض المؤثّر ، وهو الانذار الواقع من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مستجمعا لشرائط المؤثّريّة تامّ الاقتضاء ، وكان القلب الانسانيّ بحسب الفطرة الاصلية قابلا للتأثّر ، فيعلم أنّ عدم التأثير لأجل عروض أمر مانع عنه ، وأقرب مانع يتصوّر في المقام هو وجود الحجاب بين المؤثّر والمتأثّر ، بحيث لا يصل المؤثّر إليه ، وهو غشاء واقع على وجهة القلب التي بها يتوجّه نحو الاشياء أو ختم على سمعه التي بها يدرك معاني المسموعات ، أو ختم على أصل القلب الذي من شأنه أن يدرك المعاني والحقائق ، فلا يتعقّل الامر الذي ينبغي له تعقّله ، ولا يصل إليه الامر المعقول ، فالقلب الذي من شأنه أن يكون وعاء للحقائق والمعاني إذا ختم عليه فلم يدخله المعنى المعقول ، أو ختم على سمعه فلم يدرك المسموع ، أو جعل على بصره غشاوة فلم يبصر المعنى الذي يبصره ، فقد وقع الحجاب والمانع عن وصول المؤثّر إلى المتأثّر ؛ إذ محض الابصار أو السماع

٤٥٦

الصوريّين لا يترتب عليه الحذر والعمل إلا بعد ادّائهما المعنى بحقيقته إلى القلب ، وتعقله ذلك الحقيقة على الوجه الذي ينبغي أن يعقل ، وكون القلب واعيا له.

فاذا خرج الحال عن هذه الصفة استوى الانذار وعدمه ، وذلك الحجاب المعنويّ قد يكون هوى عارض للقلب يحول بينه وبين إدراكه مضارّ متعلّقه ، أو تقليد مخالف للمنذر به ، أو حميّة وعصبية مخالفة له ، أو عادة تمنع من رسوخ داعي خلافه ، أو أفكار متشتّتة استولت على القلب فلم يبق خاليا ساذجا ، أو وساوس شيطانية أحاطت هواجسه ، أو نحو ذلك. وهي ربّما تتصور وتتشكل في باطن هذا العالم ، وتصير سدّا غاشيا للقلب ، مانعا عن إدراكه المعاني ووصول المعاني إليه على الوجه الذي ينبغي أن يكون عليه ، بل الظاهر أنّ المعاصي بعد تجسّمها أيضا من أعظم أنواع الحجاب للقلب ، ولا تستبعد من تجسّم الاعمال والمعاني الباطنيّة وقد دلّت عليه استبصارات معتضدة بآيات وأخبار كثيرة تأتي كثير منها ـ إن شاء الله تعالى ـ مشروحا.

فحينئذ فنسبة الختم إلى الله سبحانه باعتبار أنّ تحقّق تلك المعاني والاعمال و* تشكلها وتمثّلها في عالمها من فعل الله سبحانه ، وبذره عمل العبد ؛ كالبذور الخارجية ، فانّ الدنيا مزرعة الآخرة ، ومن يزرع شرّا يحصد شرّا وإن كان الخالق هو الله سبحانه.

فهذه الخطايا الباطنية والظاهرية إذا أحاطت بالقلب ، واستولت عليه بحيث لم يبق له مجال لغيره ، واستحكمت وصارت كأنّ مقتضياتها طبيعة ثانوية له ، فصاحبه لا يؤول إلى خير أبدا ، و* (١) استوى عليه الانذار وعدمه. فهذه أيضا مرتبة

__________________

(١) ما بين النجمتين سقط من المطبوعة ، ومكانه فيها : «الافعال لهم حاضرة عنده تعالى بحيث «لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماء ولا في الارض.» ـ ناظر إلى قوله تعالى في سورة يونس آية ٦١ ، وسورة السبأ آية ٣ ـ ويؤيد ما ذكرنا ما قيل في معنى الآية بأن ـ

٤٥٧

من البيان في الختم والغشاوة.

ودون تلك المرتبة مرتبة أخرى ظاهرة ، وبيانها أنّه لا شكّ أنّ للقلب حالات وملكات ، من جملتها : حالة تمنع من التأثّر والاتّعاظ ، وهي قد تتقوى إلى حيثية تصير لازمة للقلب كسائر الملكات عند البلوغ إلى أقاصيها ، وهذه الحالة ربما يعبّر عنها بالقساوة والشقاوة.

والقلب الموصوف به لا ينفعل بما سمع أو أبصر مما يخالفه ، بل من مطلق جهات الادراك المتعلّق بما يخالفه ، فهو كالمختوم عليه وعلى سمعه ، وكمن على بصره غشاوة ؛ إذ لا يعي ولا يدرك شيئا من المسموع والمبصر ، ولمّا كان هذه الصفة والحالة تحدث في النفس تدريجا إلى أن يكون بحيث لا يمكن ارتفاعها ؛ كسائر القوى والملكات النفسانيّة التي تتقوّى بالاعمال والممارسة شيئا فشيئا ، وهي من مكتسبات العبد ؛ لكنّ الموجد له ليس هو العبد ، بل العبد غير شاعر بذلك نوعا وإن كان باختياره ما يترتب ذلك عليه.

فالظاهر أن يكون حدوث تلك الصفة من الطينة السجينيّة المخلوقة اكتسبها العبد بفعله ، فينسب إلى الله سبحانه الفعل باعتبار ايجاد مبدئه ، وجعله بحيث يتّصف به القلب المكتسب له جزاء لعمله واكتسابه ، وإعطاء له ما يطلبه من حيث لا يشعر بطلبه.

ثمّ إنّ وقوع ذلك الامر على المكلّف داخل تحت قضاء الله وقدره ومشيّته لما تحقّق عندنا من عدم خروج شيء عن تحتها ، وأنّه لا يدخل في ملك الحقّ

__________________

 ـ المراد بالختم على القلوب أن الله شهد عليها ، وحكم بأنها لا تقبل الحق. ثم اعلم أن معنى الختم على قلوبهم وعلى سمعهم ، والغشاوة على أبصارهم : أنهم لما أعرضوا عن النظر فيما كلفوه ، وتهاونوا بل تعاندوا فيها أمروا به ، وبلغ جهلهم في أعلى مراتب بحيث تجسم لهم أعمالهم السيئة».

٤٥٨

إلا ما يشاء وإن كان بعضها أوّليّا مقصودا بذاته ، وبعضها ثانويّا مقصودا بالعرض والتبع ، كما يبيّن في محلّه ـ إن شاء الله تعالى ـ ، وبه يتحقق نفي التفويض.

فمن هذه الوجوه يصحّ إسناد الفعل إلى الله سبحانه من دون حاجة إلى التكلّفات التي ذكرها الفاضل المتقدّم. والله العالم بحقيقة الحال ، وهو المستعان.

بقي هيهنا شيء وهو : أنّ من قرأ عشاوة بالمهملة ، فظاهر المعنى حينئذ أنّ أبصارهم موصوفة بالعشاء وعدم الرؤية باللّيل دون النهار. وفيه نكتة مليحة وهو : أنّ الدنيا بأسرها مظلمة النور بمنزلة اللّيل الاليل ، لا يرى فيها نور إلا ما ورد فيها من عالم آخر. والكافر أعشى لا يبصر فيها شيئا من المعارف والحقائق ، فاذا انتقل منها إلى الآخر علم ورأى حين لا ينفعه إلا مزيد الندم ؛ (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ.)(١)

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام في ضمن كلام له على ما ببالي روايته (٢) :

فعند الصباح يحمد القوم السرى

وتنجلى عنهم غلالات الكرى

[في معنى العذاب وأقسامه]

(وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)

عن تفسير الامام عليه‌السلام بعد ما تقدّم :

«ثمّ قال : (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) في الآخر [ة] بما كان من كفرهم بالله ، وكفرهم بمحمّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله(٣)

وربّما يحكى عنه أيضا فيه :

__________________

(١) ق / ٢٢.

(٢) توجد أول مصراعه في نهج البلاغة ، خ ١٦٠ ، ص ٢٢٩.

(٣) راجع المصادر المذكورة في تعليقة ١ ص ٤٤٦.

٤٥٩

«يعني : في الآخرة العذاب المعدّ للكافرين ، وفي الدنيا أيضا لمن يريد أن يستصلحه بما ينزل به من عذاب الاستصلاح لينبّهه على طاعته (١) ، أو من عذاب الاصطلام ليصيره إلى عدله وحكمته.» (٢)

وفسّر الاصطلام بالاستيصال ، وهو يرشد إلى عدم انحصار الآية بمن يمتنع عليه الرجوع ، ولشموله لمن يمكن منه الايمان. ولا ينافي ذلك الحكم باستواء الانذار وعدمه ؛ لأنّ عدم تأثير إنذار أمر غير تأثير عذاب الاستصلاح ؛ إذ ربّ شخص لا يمكن اتّعاظه بالموعظة والالطاف المقرّبة ، ولكن بالعذاب يستصلح ، إمّا بتبديل العذاب حالته الباطنية ابتداء ، أو لقوّة استيلاء العذاب عليه بحيث لا يبقى لقلبه مجال للإباء. ومثاله في مقام تأديب الاطفال والعصاة ظاهر لا يخفى.

وأمّا وقوع ذلك تنبيها من الله سبحانه له وإتماما للحجّة وإن لم ينتفع به ، فهو بعيد عن مساق الكلام حيث ذكر فيه إرادة الاستصلاح بما ينزل به.

والعذاب على ما في الصحاح هو : «العقوبة».

وذكر جماعة (٣) أنّه : «كالنكال بناء ومعنى ؛ لأنك تقول : أعذب عن الشيء إذا أمسك عنه ، كما تقول : تكل عنه. ومنه «العذب» لأنه يقمع العطش ، ويردعه بخلاف الملح ، فانه يزيده ، ثمّ اتّسع فيه فسمّي كلّ ألم قادح عذابا وإن لم يكن نكالا ؛ أي : عقابا ، يرتدع به الجاني عن المعاودة» وأيّد وجه المناسبة المذكورة في العذب ب «تسميتهم إيّاه نقاخا ، لأنه ينقخ العطش أي : يكسره ، وفراتا لانّه يرفته على القلب.» وذكر في معنى التنكير هنا وفي غشاوة : «أنّ على أبصارهم

__________________

(١) خ. ل : «لينبهه لطاعته».

(٢) راجع المصادر المذكورة فى تعليقة ٢ ص ٤٤٤.

(٣) راجع الكشاف ، ج ١ ، ص ٢٩ ؛ وأنوار التنزيل ، ص ١٣.

٤٦٠