مجد البيان في تفسير القرآن

آية الله الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي

مجد البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٣

وفي العيون وتفسير الامام عليه‌السلام عن أمير المؤمنين عليه‌السلام :

«يعني : مالك الجماعات من كلّ مخلوق وخالقهم ، وسائر (١) أرزاقهم إليهم من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون ؛ يقلّب الحيوانات في قدرته ، ويغذوها من رزقه ، ويحوطها بكنفه ، ويدبّر كلّا منها بمصلحته ، ويمسك الجمادات بقدرته ، يمسك ما اتّصل منها من التهافت ، والمتهافت عن التلاصق ، والسماء أن تقع على الارض إلا باذنه ، والارض أن تنخسف إلا بأمره.» (٢).

[معنى كلمة الربّ واشتقاقها]

أقول : ذكر جماعة أنّ الربّ هنا بمعنى «المالك» ، وقال في الصحاح : «ربّ كلّ شيء مالكه ، والربّ اسم من أسماء الله عزوجل ، ولا يقال في غيره إلا بالاضافة. وقد قالوه في الجاهلية للملك ـ إلى أن قال : ـ ورببت القوم : سستهم أي : كنت فوقهم ؛ قال أبو نصر : «هو من الربوبيّة.» ومنه قول صفوان : «لان يربّني رجل من قريش أحبّ إليّ من أن يربّنى رجل من هوازن. وربّ الضيعة أي : أصلحها وأتمّها. وربّ فلان ولده يربّه ربّا ، وربّبه وتربّبه بمعنى أي : ربّاه. والمربوب المربّى.» واستشهد عليه ببعض الابيات.

وذكر غيره للربّ معنى المالك والمدبّر والسيّد والمربّي والمنعم والصاحب وغيرها (٣).

__________________

(١) استظهر المؤلف (قده) أن تكون الكلمة «سائق» ، ويوافقه بعض النسخ.

(٢) راجع تعليقة ١ ص ٢٦٨.

(٣) راجع مجمع البحرين والنهاية.

٢٨١

والّذي أحتمله قويّا أنّ الاصل في معنى هذا اللّفظ هو التربية وإصلاح شأن المربوب.

وذكر شيخنا البهائي في تفسير التربية هنا أنّه : «تبليغ الشيء كماله تدريجا» (١) وهو جيّد. وإطلاقه على المالك والسيّد باعتبار أنّ من شأنه القيام بشأن المربوب وتربيته ، وكذا المدبّر والمنعم ؛ إذ فيهما بعض شؤون التربية ، وعلى الصاحب باعتبار أنّ من شأنه القيام ببعض حاجات صاحبه ، ويشهد له ملاحظة جملة من المشتقّات ؛ كالربيبة الّتي تربّى في دار الرجل ، و «الربّي» على فعليّ بمعنى : الشاة الّتي وضعت حديثا حيث انّ همّها تربية ولدها ، والربيبة واحدة الربابيب للغنم التي تربّيها الناس في البيوت لألبانها ، والربيبة للحاضنة والمربّيات ، يقال : زنجبيل مربّب ومربّى بمعنى ، وغيرها.

والمراد بالتربية ليس خصوص التغذية بالمعنى الاعمّ للحيوان والنبات ، بل إصلاح الشأن مطلقا من رزق وتكميل وإعطاء ما يحتاج إليه ودفع ما يضادّه وينافيه ، بل خلقه أن جعل المربوب هو الشيء الّذي أعطى خلقه ثمّ هدى (٢).

وحينئذ فالربّ هو القائم بأمر المربوب من خلق وهداية ، ورزق وإعطاء ما يحتاج إليه ، ودفع ما يضرّه. ويرشد إليه في الجملة ما تقدّم من الروايتين.

وحينئذ فلعلّ منشأ عدم استعماله بدون الاضافة على غيره سبحانه واختصاصه به جلّ وعلا من جهة إفادة حذف المتعلّق العموم حيث لا معهود ، وهو منحصر فيه سبحانه ، وإطلاقه مضافا مبنيّ على ظنّهم كون غيره سبحانه مربّيا حقيقة ، أو لكونه في صورة المربّي وإن لم يكن موجدا للتربية في الواقع.

__________________

(١) العروة الوثقى (المخطوط) ، رب العالمين.

(٢) مأخوذ من قوله تعالى : «قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى.» (طه / ٥٠).

٢٨٢

هذا ، ولو جعلنا الربّ هنا بمعنى المالك دلّت الكلمة على لوازم المالكيّة وآثاره من الامور المذكورة بالالتزام. فانّ الملكيّة بمعنى السلطنة يقتضي ظهور آثار المسلّط على المسلّط عليه ، فيندرج فيه ما ... (١).

وهذا أحد الوجهين في الرواية الثانية ، والآخر منهما الوجه السابق بأن يكون ذكر المالك مدلولا إلتزاميّا ذكر توطئة لبيان الربوبيّة أو غير ذلك.

والظاهر أنّ الربّ صفة مشبّهة بمعنى اسم الفاعل لا مصدر وصف به للمبالغة كالعدل ، وإن كان هذا أيضا جائزا.

[معنى العالم وعدد العوالم]

و «العالم» اسم موضوع للجمع كالانام والرهط ، وهو ما يعقل من الملائكة والثقلين عن ابن عباس والاكثرين (٢). وقال بعضهم : «كلّ ما علم به الخالق من الجواهر والاعراض» (٣) ، كقوله تعالى : (قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ* قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا.)(٤)

فعلى الاوّل مشتقّ من العلم وخصّوا بالذكر للتغليب ، وعلى الثاني من العلامة ، وجمع ليشمل كلّ جنس ممّا سمّي به ، وجمع بالواو والنون تغليبا لما فيه من صفات العقلاء ، كذا قرّره بعضهم (٥).

وحينئذ فالظاهر أنّ كلّ جنس من ذوي العلم وغيرهم ، أو ممّا يعلم به الخالق أخذ عالما ، وجمع ليفيد شمول اللفظ لجميعها لما تقرر في محلّه من إفادة

__________________

(١) سقط هنا كلمة من المخطوطة في التجليد.

(٢) راجع التبيان والمجمع والدر المنثور وغيرها من التفاسير.

(٣) راجع الكشاف ، ج ١ ، ص ٨ ،

(٤) الشعراء / ٢٣ ـ ٢٤.

(٥) الكشاف ، ج ١ ، ص ٨ ؛ ورياض السالكين ، د ١٢ ، ص ١٤٩.

٢٨٣

الجمع المحلى للعموم حيث لا عهد فيفيد الكلام استغراق ربوبيّته كلّ عالم من العوالم ، قال بعضهم :

يقال : عالم الملك وعالم الانس وعالم الجنّ وكذا عالم الافلاك وعالم النبات وعالم الحيوان ، وليس اسما لمجموع ما سوى الله ، بحيث لا يكون له أفراد بل أجزاء ، فيمتنع جمعه.

وقد اختلفت الاخبار في عدد العوالم ، وذكر بعض أصحابنا العارفين :

«أنّ في بعضها العوالم ثلاثة ، وفي بعضها أربعة ، وكذا خمسة وستّة وسبعة ، وثمانية وتسعة وعشرة وعشرون وثلاثون وأربعون وخمسون وستّون وثمانون وو تسعون ومائة وألف وألف ألف ـ ثمّ قال : ـ والّذي عدّدنا من العوالم تسعة وثلاثون ألف ألف وتسعمائة ألف وتسعمائة وثمانون عالما.» انتهى.

وعن الصدوق [ره] في آخر الخصال أنّه روي عن الباقر عليه‌السلام أنّه ذكر في قوله تعالى : (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ)(١) :

«إنّ الله قد خلق ألف ألف عالم ، وألف ألف آدم.» (٢)

ونحن في آخر العوالم وآخر الآدميّين ، وأوّل ذلك بارادة مراتب التنزّلات والتطوّرات ؛ كما أشار إليه أمير المؤمنين عليه‌السلام في قوله : «لقد دوّرتم دورات ، وو كوّرتم كورات.»

وقوله عليه‌السلام : «إنّ لله في كلّ يوم ثلاثة عساكر : عسكر ينزلون من الاصلاب إلى الارحام ، وعسكر يخرجون من الارحام إلى الدنيا ، وعسكر يرتحلون من

__________________

(١) ق / ١٥.

(٢) الخصال ، ج ٢ ، ص ٦٥٢ ، والتوحيد ، باب ذكر عظمة الله جلّ جلاله ، ص ٢٧٧ ، ح ٢ ، عن جابر بن يزيد ، عنه ـ عليه‌السلام ـ ؛ والبحار ، ج ٥٧ ، باب العوالم ، ص ٣٢١ ، ح ٣.

٢٨٤

الدنيا إلى الآخرة.» كذا أفاده بعض العلماء العارفين ، ولكن لا يطمئنّ به النفس بعد خروجه عن ظاهر اللّفظ ، وهو أعلم بما قال. لكنّا لم نجده دليلا على حصر العوالم العرضيّة والطوليّة إلا في ضمن الاجناس الكلّيّة. فمن المحتمل حينئذ وصول عدد العوالم إلى العدد المذكور ، بل جميع الاعداد الواردة في الاخبار ؛ إذ يصحّ أن يكون لأمر عددا باعتبار ، وآخر باعتبار آخر ؛ مثلا : يمكن أن يعدّ السموات جميعها عالما واحدا فيقال عالم السّماء وأن يعدّ كل منها عالما مستقلّا لما بينها من البينونة والبعد في المرتبة.

[إشارة إلى علم الهيئة وعالم الكبير والصّغير]

وممّا يكسر سورة استبعاد وجود عوالم كثيرة بالمعنى الظاهري ملاحظة قانون الهيئة الّتي أسّسها أهل الافرنج ـ خذلهم الله تعالى ـ بمؤنة الآلات القويّة ، الّتي وجدت عندهم ولم تكن يصل إليها أيدي الحكماء السابقين.

والّذي نقل عنهم على ما ببالي أنّهم يعتقدون أنّ كلّ كوكب من الكواكب السيّارة غير القمر والشمس أرض كأرضها ، تدور حول الشمس والشمس كالمركز لها ، وزادوا على السيارات المعروفة سيارتان كبيرتان يسمى إحديهما «أورانوس» والآخر «نبطون» ، ووجدوا أيضا سيّارات صغار كثيرة يمتنع إدراكها إلا بتوسّط الآلات المعدّة لهذا الشأن ، ويجعلون لكلّ واحد من السيّارات الاول ثمانية أقمار إلى واحد أو اثنين تدور تلك الاقمار على تلك الاراضي ، كما أنّ لأرضنا هذه قمرا يخصّه ، وأنّ كلّ كوكب من الكواكب الثابتة شمس كشمسنا هذه في فضاء غير متناه مع اختلافها في القرب من شمسنا والبعد منها ، وكلّما كان أبعد كان جرمه في أبصارنا أصغر ، فيستظهرون من ذلك أن يكون لكلّ كوكب منها أراضي حولها كالاراضي الّتي لشمسنا هذه. وحينئذ فيكون أصل الاراضي خارجة عن حدّ

٢٨٥

الاحصاء فضلا عن الانواع الواقعة في كلّ منها.

وليس غرضي من إيراد هذا المجمل الاذعان لهم في ذلك ، بل لمجرّد رفع استبعاد من آنس بالهيئة السابقة حتّى صار قواعده في الاصول الكلّيّة كالقطعيّات عنده ، وخصوصا بملاحظة ما وصل إلينا من الاخبار من طرقهم من أنّ جملة ممّا كان يعتقده السابقون كان خطاء ظهر خطائه بالحسّ بتوسّط الآلات الّتي عندهم ، وبملاحظة ما ينقل لنا منهم لا يبقى وثوق بقواعد السابقين في كثير من مسائل الهيئة ولا بقواعدهم ، بل هي أبعد من الوثوق منها لما نقل إلينا من استنباطات لهم لا يساعدها الذهن السليم.

والّذي أعتقده اشتمال كلام الفريقين على الحقّ والباطل ، كما هو شأن الانسان إلا إذا عصمه الله ، هذا.

واعلم أنّ كلّ فرد من أفراد الانسان عالم صغير مشتمل على انموذج ممّا في العالم الكبير من الجواهر والاعراض ، والمجرّدات والمادّيّات ، فعلا أو قوّة ، كما نسب إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال (١) :

وتزعم أنّك جرم صغير

وفيك انطوى العالم الاكبر

وذكر الحكماء أنّ : «النفس الانسانيّة إذا كملت صارت عالما عقليّا مضاهيا للعالم الحسّي.» وقد ورد عنهم إطلاق لفظ القرية على الانسان أو تأويلها به.

[في أنّ الرّبوبيّة منحصر في الله سبحانه وبيان اشتمالها لجميع الموجودات]

ثمّ ان إضافة الرب إلى الجمع المحلّى وحذف متعلّق الربوبية ربما تفيد أنّ وصف الحقّ بالربوبيّة لكلّ فرد من العوالم من كلّ جهة من جهات الربوبيّة ،

__________________

(١) ديوان الامام عليّ ـ عليه‌السلام ـ ، ص ٥٧.

٢٨٦

فتفيد الكلمة انحصار الربوبيّة فيه سبحانه على نحو ما قدّمناه في كلمة الحمد ، ولذا ذكر بعضهم : «أنّه توحيد له وتحميد وإقرار بأنّه المالك لا غير.» (١).

وهذا هو توحيد الربوبيّة ، وأنّه لا ربّ في الحقيقة سواه ، ولا يتّصف غيره بشيء من شئون الربوبيّة ، وهو توحيد غامض بحسب العلم ، صعب المنال بحسب الحال ، والاستقامة على العمل بها عسير. وربّما يشير إليه قوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا.)(٢)

وهو التوحيد الّذي يبنى عليه أساس التوكّل ، ويتخلّص به من الشرك في الطاعة من المندرج فيها الرياء والسمعة. ولعلّك تسمع منّا تمام الكلام فيه وفي مقدّماته متفرّقا في خلال التفسير ـ إن شاء الله تعالى ـ.

ومعنى هذه الكلمة عامّة شاملة لجميع الموجودات محيط بجميع العوالم الامكانيّة فيكون حقيقة هذا الاسم محيطة بها وبالاسماء الخاصّة ببعض المخلوقات دون بعض ، أو ببعض الشؤون دون بعض ؛ كالشافي المختصّ بمرض المريض ، وكالرازق المختصّ بالرزق ، ويعمّ الدنيا والآخرة ، فيشمل فيه الرحمة الرحمانيّة والرحيميّة الّتي ظهرت. وتظهر على أعيان المربوبات في الاولى والاخرى. ومرتبة هذا الاسم تحت اسم الجلالة ، ولذا أخّر عنه وناسب وصفه به لكونه مظهرا لآثار الالوهيّة لنا ، وتكميلا للثناء ، وإشعارا بعلّة استحقاقه الحمد من باب دلالة تعليق الحكم على الوصف المناسب لعلّيّته لذلك الحكم.

وفي هذه الآية إنعاش لمحبّة المحبّين ، وإيقاظ لرجاء الراجين لما اشتمل عليه من معناها من المدائح والمحامد المحرّكة للحبّ ، ومن الاحسانات الّتي تحرّك الرجاء ؛ إذ كلّ كمال فعليّ أو مطلقا فرض ، فقد دلّ عليه كلمة «الحمد

__________________

(١) القول للطريحي (ره) ، فراجع مجمع البحرين.

(٢) فصّلت / ٣٠ ؛ والاحقاف / ١٣.

٢٨٧

لله» على ثبوته له سبحانه مع الانحصار ، فلا تستحقّ غيره المحبوبيّة لهذه الجهة.

ومن أعظم أسباب الحمد ومعناه وصف الجود والكرم والنعت به ، وهو يبعث الرجاء. وأمّا الوصف بأنّه ربّ العالمين ، فهو محرّك للحبّ باعتبار أنّ المربوب لا ينبغي أن يحبّ إلا ربّه ، وبأنّ كلّ خير فرض فيه وفي كل من وجد خيرا ما ، وكلّ شرّ فرض اندفاعه عنه أو عن غيره من كلّ من سلم من شرّ ما فهو من ربّ العالمين. فمن ذا يحقّ له الحبّ غيره سبحانه ، ومن الّذي يستحقّ أن يرجى دونه؟

فانظر الآن إلى كلّ جهة ، (انْظُرُوا ما [ذا] فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)(١) فهل ترى إلا خيرا أعطى أو شرّا وقى؟ وارجع إلى نفسك وانظر كيف تربّى ؛ «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ* ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ـ إلى قوله تعالى : ـ ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ» (٢) ، «فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ* أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ـ إلى آخر الآيات.» (٣)

وقد ذكر الله سبحانه أنحاء نعمه سبحانه فى آيات كثيرة ، ودفع البليّات في جملة. وهي كلّها من بعض شؤون الربوبيّة الّتي دلّ عليها هذه الكلمة. بل لو تأمّلت في معنى هذه الكلمة رأيت جميع الاشياء بصفاتها وهيئاتها مندرجة تحت حكم هذه الكلمة ، وتصوّرها بعض تصوّر لها ، وجميع العلوم المتعلّقة بها شرح لهذه الكلمة. وكلّ من كان أعلم بها كان نصيبه من علمها أكثر. ولا مطمع في الوصول إلى نهاية علم هذه الكلمة لاندراج الكلّ فيها ؛ (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً.)(٤) لكنّ التأمّل في أجزاء مجاريها يورث المعارف والاحوال ، فيوجب استشعار التعظيم

__________________

(١) يونس / ١٠١.

(٢) المؤمنون / ١٢ ـ ١٤.

(٣) عبس / ٢٤ ـ ٢٥.

(٤) الاسراء / ٨٥.

٢٨٨

والانكسار ، والحياء والخشوع ، والاخبات والانقطاع ، والوقوف على حدود المربوبية وشؤونها التي يليق به ، وترك دعوى المشاركة في شيء من شؤون الربوبيّة ؛ إذ كما أنّ الحقّ ربّ مطلق بكل وجه وبكلّ اعتبار وحيثيّة ، كذلك العبد مربوط مطلق بكلّ وجه واعتبار ولحاظ. فزن بميزان العقل المربوب المطلق بصفاتها ، وانظر ما الّذي يناسب شأنه بالقياس إلى الربّ المطلق حتّى يظهر لك حقيقة ما نحن فيه من البعد عن كلّ استقامة وسداد. واجتهد في تحصيل تلك الشؤون الّتي يليق بالمربوب حتّى يظهر الحقّ عليك ربوبيّته ، ويوصل إليك كلّ خير يليق به ، ويدفع عنك كلّ شرّ لا خير لك فيه ، فانّ ذلك من شؤون الربوبيّة العامّة الّتي لا يشوبه بخل ولا منع.

فعليك بتحصل شؤونك ، وفوض شؤون الربوبية إليه ، إنه عليم بالحاجات ، جواد بالعطيّات ، لا يمكن تربية أحسن من تربيته ، ولا كرم فوق كرمه ، يربّيك كأنّه ليس له عبد غيرك وهو ربّ العالمين ، لا ليربح عليك ؛ إذ هو الغنيّ عن عباده ، بل ليربحوا عليه ؛ إذ هم الفقراء إليه (١) ، وأنت تخدمه كأنّ لك أربابا غيره ، ولا ملجأ ولا منجا لك ولغيرك إلا إليه ؛ (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ.)(٢) نسأل الله سبحانه العفو والمغفرة والسداد ، إنّه وليّ كل خير.

[أثر اسم الرّبّ في مقام الدّعاء]

ثمّ إنّ لاسم الرّب مضافا إلى ضمير المتكلّم وحده أو مع الغير مذكورا أو

__________________

(١) قال الله تعالى في آية ١٥ من سورة فاطر : «يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ.» وذكر الديلمي (ره) في إرشاد القلوب ، الباب التاسع والعشرون ، ص ١٤٨ ، أن الله تعالى أوحى إلى داود ـ عليه‌السلام ـ : «قل لعبادي لم أخلقكم لأربح عليكم ، ولكن لتربحوا عليّ.»

(٢) الانبياء / ٤٢.

٢٨٩

مقدّرا ، أو إلى اسم ظاهر يشمل القائل خصوصيّة في مقام الدعاء وما أشبهه. وقد كثر وروده في هذا المقام في القرآن والادعية ، بل لا أذكر الآن موضعا ورد فيه دعاء في القرآن بدونه. ويشبه أن يكون السرّ في ذلك أنّ إعطاء المسئلات ورفع الحاجات وكفاية المهمّات كلّها من الشؤون المتعلّقة بالربوبيّة بالمعنى المتقدّم ، والتوجّه إليه سبحانه واقع عندها باسم الربّ ، فافهم.

٢٩٠

[علّة تكرار آية (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)]

(الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

ولعلّ تكريرهما للتّنبيه بهما في جملة الصفات المذكورة لاستحقاقه الحمد ، أو لافادة التأكيد وبسط رجاء العباد في رحمته ، أو لأنّ الرحمتين في البسملة مأخوذتان في حدّ نفسيهما كلّيّتين من دون اعتبار نزولهما وظهورهما في المرحومات ، ومن أجله إتّصلتا بكلمة الجلالة على وجه التابعيّة لهما من دون لحاظ متعلّق لهما ، وهيهنا اعتبرنا في مقام الظهور والتعلّق بالمرحومات باعطاء كلّ ذي حقّ حقّه ، ولذا تأخّرنا عن ربّ العالمين المذكور فيه المتعلّقات ، وصار من جملة الاوصاف الّتي وقعت في حيّز الحمد المختصّ بالنعمة ، أو الجميل الاختياري على ما سبق.

وفي حديث صلاه المعراج المتقدّم صدره :

«... ثمّ قال له : أحمدني (١). فقال : الحمد لله ربّ العالمين.

فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في نفسه شكرا.

فقال الله : يا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قطعت حمدي فسمّ باسمي. فمن أجل ذلك جعل في الحمد (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) مرّتين ـ الخ.» (٢)

وكون الشكر قاطعا للحمد إمّا باعتبار أنّ الشكر إنّما يقع من العبد في مقابل نعمة الحقّ عليه بخلاف الحمد حيث يصحّ صدوره من الحقّ ومن العبد ، والملحوظ في الاوّل حال العبد بالنسبة إلى الخلق ، وفي الثاني وصف الحقّ

__________________

(١) في بعض النسخ : «حمّدنى».

(٢) راجع المصادر المذكورة في تعليقة ٣ ص ٢٦٢.

٢٩١

بأسمائه وأفعاله ، فيكون الاوّل قاطعا للثاني لكونه فصلا بالنسبة إلى الثاني ، وهو وصل بالنسبة إليه. وإمّا باعتبار أنّ قول (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) كان كلام الحقّ يرد عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ويقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا كلامه بخلاف شكرا ؛ إذ كان هو ممّا أنشأه صلى‌الله‌عليه‌وآله أداء لحقّ النعمة ، فكان كلام نفسه قاطعا لكلام ربّه وإن وقع تقرّبا إليه سبحانه ، ولاختلافهما في ذلك كان الاوّل قرآنا وجزء من المصحف بخلاف الثاني.

ويشبه أن يكون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عند قرائة (رَبِّ الْعالَمِينَ) توجّه نحو معنى المضاف إليه ، وأوّل شيء يظهر من (الْعالَمِينَ) نفس القاري والالتفات إلى نفسه من حيث كونه مربوبا ، خصوصا في مثل ذلك الحال المغمور بالتوجّه إلى الحقّ ، وإنعام الحقّ وإقباله إليه يستدعي الشكر منه ، ويكون هذه الحالة قاطعا للحمد الّذي هو الثناء على المحمود فقط ، فلزم تكرار اسم الحقّ سبحانه ، وتكميل التوجّه إليه سبحانه ، وإفناء ملاحظة النفس.

ولمّا كان هذه الحالة ، أعني الالتفات إلى المربوبين والنفس من الاحوال المشتركة بينه صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين سائر الّذين يتلون الكتاب حقّ تلاوته ، كان كمال السورة في وقوع التكرار الصوري ليحصل به محو ما كان ، والترقّي إلى ما بعده ، ولا يكفي في ذلك المحو الاسم الاخير ، إمّا لخفائه عن مدارك النوع الانساني الاوحدي منهم ، أو لأنّ ظهوره مطلقا انّما هو باقتضاء سائر الاسماء كالرحمة ، فقبل التسمّي بها لا يظهر ، أو لانّه وحده غير كاف لجمع القلب عن مقام الفرق الى عين الجمع ، والله العالم.

٢٩٢

[تحقيق حول «مالك» و «ملك» و «الدين»]

(مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)

القمّيّ : قال ـ يعني الصادق عليه‌السلام على الظاهر ـ :

«يوم الحساب ـ ثمّ قال : ـ والدليل على ذلك قوله :

(وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ.)(١) ؛ يعني : يوم الحساب.» (٢)

وعن تفسير الامام عليه‌السلام :

«يعني : القادر على إقامته ، والقاضي فيه بالحقّ ، والدين :الحساب.» (٣)

[معنى الدّين]

وذكر جماعة أنّ الدين بمعني الجزاء (٤).

وفي الحديث :

«ابن آدم ، كن كما شئت ، كما تدين تدان.»

قيل : «أي : كما تجازي تجازى بفعلك وبحسب ما عملت. وسمّي الاول جزاء

__________________

(١) الصافات / ٢٠.

(٢) راجع المصادر المذكورة في تعليقة ٣ ص ٢٧٠.

(٣) تفسير الامام ـ عليه‌السلام ـ ، ص ١٣ ؛ والبحار ، ج ٩٢ ، باب فضائل سورة الفاتحة وتفسيرها ، ص ٢٥٠ ، ح ٤٨.

(٤) كسعيد بن جبير وقتادة وغيرهما من المفسرين واللغويين.

٢٩٣

للازدواج ، كما في قوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ.)(١) وإن كان الثاني مجازا في الآية عكس ما في الحديث.» (٢)

وقال الشاعر في جزء بيت الحماسة : «دنّاهم كما دانوا» (٣) ، قيل : «يعني : جازيناهم بمثل ما ابتدئونا به.»

والدين في قوله : (يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ)(٤) فسّر بالجزاء الواجب ، وفي قوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ)(٥) بالجزاء ، وفي قوله : (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)(٦) بالحساب المستقيم.

وربّما يطلق الدين على الشرع ، وهو مراد من حدّه بأنّه وضع لاولي الالباب يتناول الاصول والفروع ، وعلى الطاعة كما فسّر به قوله تعالى : (وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ.)(٧)

وربّما يجيء «دان» بمعنى : أذلّ واستعبد. فيقال : فلان دان الناس إذا قهرهم فأطاعوه ، ويصدق يوم الدين على يوم القيامة بكلّ من هذه الوجوه ؛ إذ هو يوم الحساب والجزاء والشرع لظهور حقائقه وغاياته وثمراته ، ووقوعه على حسب ميزانه وأحكامه ، ويوم الطاعة لظهور ثمرة الطاعة فيه. بل هو المعدّ لظهور

__________________

(١) البقرة / ١٩٤.

(٢) القول للطريحي (ره) ، ذكره في مجمع البحرين بعد نقل الحديث المتقدم.

(٣) هو جزء بيت من قصيدة «سهل بن شيبان» قالها في حرب البسوس ، وهى :

فلما صرح الشر فأمسى وهو عريان

ولم يبق سوى العدوان دناهم كما دانوا

فراجع جامع الشواهد ، باب الفاء.

(٤) النور / ٢٥.

(٥) الذاريات / ٦.

(٦) التوبة / ٣٦ ؛ ويوسف / ٤٠ ؛ والروم / ٣٠.

(٧) التوبة / ٢٩. وقد توجد هذه الوجوه في تفسير «الدين» في مجمع البحرين.

٢٩٤

غايات الطاعة ، وطاعة الاشياء كلّها للحقّ طوعا وكرها ، ويوم الاذلال والقهر لمن لم يكن ذليلا مقهورا للحقّ حتّى يصير الكلّ منقادين.

وأنت إذا دقّقت النظر رأيت الشريعة والدين ميزانا يحاسب عليها العباد في المعنى الآن وفي الصورة غدا ، والاتيان بها وإقامتها يصير جزاء بنفسه اليوم باطنا ، وغدا ظاهرا على ما نذهب إليه من تجسّم الاعمال وجوهريّة العلوم والمعارف والملكات والاحوال ، وهي الطاعة ؛ إذ لا يطاع الله إلا بدينه الّذى وضعه على خلقه ، وهو العبوديّة الّتي هي غاية التذلّل والاسلام الكلّي ، الّذي هو غاية المقهوريّة ، فيوم القيامة يوم ظهور الدين والطاعة والذلّة له سبحانه بحقائقه وآثاره وغاياته من الحساب والجزاء ؛ (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ.)(١)

[اختلاف القرائات في كلمة «مالك»]

ثمّ إنّه قد اختلفت القرّاء في القرائة هنا على قراءات شاذّة ، وقرائتين مشهورتين : أحدهما : مالك يوم الدين بالالف عن «سهل» و «يعقوب» و «عاصم» و «عليّ» و «خلف» ، والاخر : ملك بلا ألف مكسور اللام كما نسب إلى الباقين من السبعة ورواتهم (٢).

وقد اختلف كلمات العلماء في الترجيح فذهب جماعة إلى ترجيح الثاني ، وعلّل بوجوه من أنّ كلّ واحد من أهل البلد يكون مالكا ، والملك لا يكون إلا واحدا ، وهو أعلاهم شأنا ، والموافقة لقوله تعالى : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ* مَلِكِ النَّاسِ)(٣) ولم يقرأ فيه غير ملك ، ولقوله : «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ

__________________

(١) طه / ١١١.

(٢) راجع مجمع البيان ، والبيان للامام الخوئي ـ مدّ ظلّه العالي ـ وسائر التفاسير.

(٣) الناس / ١ ـ ٢.

٢٩٥

الْقَهَّارِ.» (١)

وذكر لترجيح الاولى أيضا وجوه ؛ كدعوى أنّ في القيامة ملوكا ولا مالك إلّا الله ، وأنّ المالكيّة سبب لاطلاق التصرّف وليست الملكيّة كذلك ، وأنّ العبد أسوء حالا من الرعيّة ، فيكون القهر في المالكيّة أكثر منه في الملكيّة ، وأن الرعيّة يمكنهم إخراج أنفسهم وعن كونهم رعيّة لذلك الملك بالاختيار بخلاف المملوك ، وأن الملك يجب عليه رعاية حال الرعيّة ولا يجب على الرعيّة خدمة الملك ، أمّا المملوك فيجب عليه خدمة مالكه ، وأن لا يشتغل بأمر إلا باذنه.

[في إضافة الملك والمالك إلى يوم الدّين وما يستفاد منها]

ثمّ إنّ إضافة الملك إلى يوم الدين من قبيل إضافة الصفة المشبّهة إلى غير معمولها فتكون معنويّة ؛ مثل قولهم : «ملك العصر ، وكريم الزمان ، وحسن البلد». وأمّا إضافة المالك إليه فباجراء الظرف مجرى المفعول به توسّعا ، ومعناه مالك الامور كلّها في ذلك اليوم.

ويمكن أن يجعل اليوم عبارة عن النشأة الاخرى ، الّذي هو مظروف للظرف توسّعا ، فيراد باليوم ما يتحقّق فيه ، وكلاهما مشتملان على نحو من التوسّع ، وهذا أيضا من مرجّحات القرائة الاخرى.

ثمّ إنّ تخصيص يوم الدين بالاضافة مع أنّه سبحانه ملك ومالك لجميع الاشياء في جميع الاوقات لتعظيم ذلك اليوم ، ولأنّ الملك والملك الحاصلين لبعض الناس في هذه النشأة بحسب الظاهر يزولان ويبطلان في ذلك اليوم بطلانا بيّنا ، وينفرد جلّ شأنه بهما انفرادا ظاهرا على كلّ أحد بخلاف حال ظاهر الدنيا في نظر أهله ، حيث كان حال التوحيد في الصفتين وعموم متعلّقهما مختفيا عنهم غيبا

__________________

(١) غافر / ١٦.

٢٩٦

بالنسبة إليهم وإن كان ظاهرا عند العارفين ، فيظهر ذلك المعنى المختفي في ذلك اليوم ظهورا تامّا لا يخفى على أحد ؛ كسائر الامور الّتي هي غيب في الدنيا لأهلها وينكشف ويصير شهادة في يوم تبلى السرائر : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ.)(١)

[ارتباط صفة المالكيّة مع انحصار الحمد لله سبحانه]

هذا ، واعلم أنّ في ذكر هذه الصفة في عداد الصفات المتعلّقة بالحمد إشعار بكونه محمودا باعتباره وهو كذلك ؛ لانّ قضيّة العدالة الّتي هي من أعلى الصفات الاختياريّة الفعليّة ، ويستحقّ باعتبارها الحمد والمدح لا تظهر ظهورا تامّا إلا في يوم الجزاء بالفرق بين المحسن والمسيء ، والمطيع والعاصي ، والموافق والمخالف لتجزى كلّ نفس بما سعى ؛ (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ)(٢). بل الملكية والمالكيّة في مقام الامكان والظهور العينيّ في الكون من الصفات الجميلة الاختيارية بل هو محمود بكلّ صفة وفعل ، وكلّ جهة واعتبار.

ثمّ إنّ في ذكر هذه الصفات بعد اسم الجلالة الدالّ على استجماع جميع صفات الكمال على ما مرّ بيانه إشعار بانحصار جهات الحمد فيه سبحانه ؛ لأنّ من يحمده الناس ويعظّمونه إنّما يكون حمدهم وتعظيمهم لأحد أمور أربعة ، إمّا لكونه كاملا في ذاته وصفاته ؛ وإمّا لكونه محسنا إليهم ومنعما عليهم ؛ وإمّا لأنّهم لا يرجون الفوز في الاستقبال والحال بجزيل إحسانه وجليل امتناعه عاجلا أو آجلا ؛ وإمّا لانّهم يخافون من قهره وكمال قدرته وسطوته ، فكأنّه جلّ وعلا يقول : يا أيّها الناس إن كنتم تحمدون وتعظّمون للكمال الذاتي والصفاتي فانّي أنا الله ، وإن كان للإحسان والتربية فانّي أنا ربّ العالمين ، وإن كان للرجاء والطمع

__________________

(١) ق / ٢٢.

(٢) الزلزلة / ٦.

٢٩٧

في العاجل فأنا الرحمن ، أو في الآجل فأنا الرحيم ، وإن كان للخوف من كمال القدرة والسطوة فأنا مالك يوم الدين.

فبملاحظة الصفات الخمسة والتوحيد فيها كما أشرنا إليه في كلّ منها يظهر السرّ في انحصار استحقاق الحمد بالله جلّ وعلا ، وأنه لا ينبغي الاشتغال بحمد من سواه.

وهذه الامور هي جهات المعبوديّة الّتي دلّت عليها كلمة الجلالة على ما سبق. فالصفات الاربعة بمنزلة التفصيل لذلك الاجمال ، وبذلك يظهر وجه ارتباط هذه الايات بالآية الآتية. وكما أنّ قارئ السورة يقرأ هذه الآيات أوّلا ثمّ آية العبادة والاستعانة ، كذلك قارئها بعقله وقلبه يتصور هذه المعاني ويصدّق بها ، ويحدث في قلبه حالات بحسبها. ثمّ يصير موحّدا في العبادة والاستعانة ، منقطعا إليه سبحانه فانّ هذه الامور مجامع الايمان بالله واليوم الآخر ، الّتي يبتني عليها العبادة والدين ابتناء الفروع على الاصول ، وبقدر قوّة هذه المعارف وقوّة حضورها عند النفس يحصل العبوديّة بالمعرفة ، ويحدث في القلب آثارها من الخضوع والخشوع والانقطاع والاخلاص ، والرجاء والخوف والحياء والمحبّة والانس وغيرها ، ويتفرّع عليها الطاعة بالجوارح على الوجه الكامل تفرّع الثمرة على الشجرة ، فانّ كلّ عمل نبات ، وكلّ نبات لا غنى به عن الماء ، فما طاب سقيه وغرسه طاب ثمره على [ما] ورد ـ ما تقرب من هذه الالفاظ ـ عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (١).

__________________

(١) راجع نهج البلاغة ، خطبة ١٥٤ ، ص ٢١٦ ، وقد قال ـ عليه‌السلام ـ فيها : «... واعلم أن لكل عمل نباتا ، وكل نبات لا غنى به عن الماء ، والمياه مختلفة ، فما طاب سقيه طاب غرسه وحلت ثمرته ، وما خبث سقيه خبث غرسه وأمرت ثمرته.»

٢٩٨

[تأثير التفكّر في معاني هذه الآية في النّفس]

ثمّ إنّ لكثرة التأمّل والتفكّر والتدبّر والغور في معاني هذه الالفاظ تأثيرا قويا في الترقّيّات المعنويّة ، والانتقال في الاحوال والمقامات ، وما يتفرّع على الغور في الصفة الاخيرة استشعار الخوف والرجاء ، وارتفاع الغرور باعتبار كونه يوم الدين لا يوم الجزاف والعبث ، وانزعاج القلب عن الدنيا باحضار النشأة الاخرى في النفس ، وارتفاع الإخلاد إلى الارض والمألوفات وعالم الظلمة ، وكسر النفس والهوى ، وقمع مادّة العجب والغرور بملاحظة المتفكّر كونه في معرض وقوع يوم الدين بعظمته عليه ، ولا يدري على أيّ وجه من وجوهه يتّفق بالنسبة إليه ، وبملاحظة عظمة من هو مالك هذا اليوم وملكه فيصغر في نفسه نفسه وغيره كما قال عليه‌السلام في صفة المتّقين : «عظم الخالق في أنفسهم ، فصغر ما دونه في أعينهم.» (١) وقلع شجرة الرياء والسمعة بنحو ما ذكر ، وقطع مادّة الظلم بتذكر يوم المجازاة إلى غير ذلك ممّا يعرف بالمقايسة إلى ما ذكر. هذا لأرباب الاحوال.

وأمّا العارفون ، فلهم في مثل ذلك ترقيّات إيقانيّة من علم اليقين إلى عين اليقين إلى حقّ اليقين ، وصيرورة العلم عيانا ، وينكشف لقلبه حقيقة هذا الاسم وغيره مجملا ، ثمّ مفصّلا إلى مراتب لا تتناهى ، فهو كالمتفرّج في عالم الآخرة بقلبه والسائر في بساتينه ، والناظر إلى حال العصاة في نيرانه.

ولعلّ من ذلك أو ما هو أعلى منه ما رواه في الكافي باسناده عن الزهري في حديث قال :

«كان عليّ بن الحسين عليهما‌السلام إذا قرأ «ملك (٢) يوم الدين»

__________________

(١) راجع المآخذ المذكورة في تعليقة ٢ ص ١٩٧ ، وتعليقة ١ ص ١٩٨.

(٢) خ. ل : «مالك».

٢٩٩

يكرّرها حتّى يكاد أن يموت.» (١)

وعن العيّاشي : «أنّه قرأه الصادق عليه‌السلام ما لا يحصى.» (٢)

[محاسبة النّفس وتوزين الاعمال]

وعن تفسير الامام عليه‌السلام عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«أكيس الكيّسين (٣) من حاسب نفسه وعمل لما بعد الموت ، وإنّ أحمق الحمقاء من اتّبع نفسه هواها ، وتمنّى على الله تعالى الامانيّ.» (٤)

وقد ورد من ألفاظه من غير هذا الطريق أيضا. (٥)

وفي حديث آخر :

«حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوها قبل أن توزنوا.» (٦)

__________________

(١) الكافي ، ج ٢ ، كتاب فضل القرآن ، ص ٦٠٢ ، ح ١٣ ؛ ورواه أيضا العياشي (ره) في تفسيره ، ج ١ ، ص ٢٣ ، ح ٢٣ ، بنفس الاسناد عنه ـ عليه‌السلام ـ ؛ وهكذا في الوسائل ، ج ٤ ، باب ٦٨ من أبواب القراءة في الصلاة ، ص ٨١٣ ، ح ١ ؛ ونور الثقلين ، ج ١ ، ص ١٩ ، ح ٧٨.

(٢) العياشي ، ج ١ ، ص ٢٢ ، ح ٢٢ ، عن داود بن فرقد ؛ والصافي ، ج ١ ، ص ٥٣ ؛ ونور الثقلين ، ج ١ ، ص ١٩ ، ح ٨٠.

(٣) في المخطوطة : «الاكيسين».

(٤) تفسير الامام ـ عليه‌السلام ـ ، ص ١٣ ؛ والبحار ، ج ٩٢ ، باب فضائل سورة الفاتحة وتفسيرها ، ص ٢٥٠ ، ح ٤٨.

(٥) كطرق العامة ، فراجع سنن ابن ماجة ، كتاب الزهد ، باب ٣١ ، ح ٤٢٦٠ ؛ والمستدرك للحاكم ، ج ٤ ، ص ٢٥١.

(٦) رواه سيد بن طاووس (رض) في محاسبة النفس ، الباب الثاني عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ؛ والمجلسي (ره) فى البحار ، ج ٧٠ ؛ باب مراتب النفس وعدم الاعتماد عليها ، ص ٧٣ ، ح ٢٦.

٣٠٠