مجد البيان في تفسير القرآن

آية الله الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي

مجد البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٣

(لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)؟ ثمّ تنطق أرواح أنبيائه ورسله وحججه فيقولون : (اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) ، فيقول جلّ جلاله : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) ـ الحديث.» (١).

وهذه الرواية تؤيّد الرواية الثانية ، كما يؤيّده في ترجمة «الميم» ما رواه فيه أيضا باسناده عن الكاظم عليه‌السلام أنّه قال عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام في جواب اليهودىّ ، السائل عن الفائدة في حروف الهجاء بعد أمر رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إيّاه بجوابه :

«ما من حرف إلا وهو اسم من أسماء الله عزوجل ـ إلى أن قال : ـ وأمّا الميم ، فمالك الملك ـ الحديث.» (٢)

وما رواه أيضا باسناده عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه :

«سأل عثمان بن عفّان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن تفسير «أبجد» ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : تعلّموا تفسير أبجد ، فانّ فيه الأعاجيب كلّها ؛ ويل لعالم جهل تفسيره.

فقيل : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ما تفسير أبجد؟

فقال : أمّا الألف ، فآلاء الله حرف من أسمائه ، وأمّا الباء ،

__________________

(١) الآيتين : الغافر / ١٦ ـ ١٧ ؛ والحديث في التوحيد ؛ باب تفسير حروف المعجم : ص ٢٣٢ ، ح ١ ، عن عليّ بن الحسن بن على بن فضال ، عن أبيه ، عنه ـ عليه‌السلام ـ ؛ وهكذا رواه (ره) بهذا الاسناد في المعاني والعيون والامالي كما في البحار ، ج ٢ ، باب غرائب العلوم من تفسير أبجد وحروف المعجم ، ص ٣١٨ ، ح ٣.

(٢) التوحيد ، باب تفسير حروف المعجم ، ص ٢٣٤ ، ح ٢ ، عن يزيد بن الحسن ، عن الكاظم ـ عليه‌السلام ـ ، ... ، عنه ـ عليه‌السلام ـ ؛ والمعاني ، باب معاني حروف المعجم ، ص ٤٤ ، ح ٢ بهذا الاسناد ؛ والبحار ، ج ٢ ، باب غرائب العلوم من تفسير أبجد وحروف المعجم ، ص ٣١٩ ، ح ٤.

٢٢١

فبهجة الله ـ إلى أن قال : ـ وأمّا الميم ، فملك الله الّذي لا يزول ، ودوام الله الّذي لا يفنى.» (١)

وما رواه عن الباقر عليه‌السلام في حروف «الصمد» أنّه قال :

«وأمّا الميم ، فدليل على ملكه ، وأنّه الملك الحقّ لم يزل ولا يزال ، ولا يزول ملكه.» (٢)

وروى أيضا باسناده عن الباقر عليه‌السلام في حديث عن عيسى عليه‌السلام في تفسير «أبجد» :

«الألف آلاء الله ، والباء بهجة الله.» (٣)

ويؤيّد الرواية الاولى ما في المعاني عن الصّادق عليه‌السلام في «الم» في «آل عمران» من أنّ معناه : «أنا الله المجيد» ، وفي «حم» من أنّ معناه «الحميد المجيد». (٤)

والبهجة والبهاء متّحدان معنى ؛ قال الجوهري في «بهج» : عن أبي عبيدة :

__________________

(١) التوحيد ، باب تفسير حروف الجمل ، ص ٢٣٦ ، عن الاصبغ بن نباتة عنه ـ عليه‌السلام ـ ؛ ورواه أيضا بهذا الاسناد في المعاني ، باب معنى حروف الجمل ، ص ٤٦ ؛ وهكذا في الامالي كما في البحار ، ج ٢ ، باب غرائب العلوم من تفسير أبجد وحروف المعجم.

(٢) التوحيد ، باب تفسير «قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ» إلى آخرها ، ص ٩٢ ، ح ٦ ؛ عن وهب بن وهب القرشي ، عن الصادق ، عنه ـ عليهما‌السلام ـ ؛ والمعاني ، باب معنى الصمد ، ص ٨ ، بنفس الاسناد ؛ والبحار ، ج ٣ ، باب ٦ من أبواب التوحيد ، ص ٢٢٤ ، ح ١٥.

(٣) راجع المصادر المذكورة في تعليقه ١ من هذه الصفحة ، وفيها : عن أبي الجارود زياد بن المنذر ، عنه ـ عليه‌السلام ـ.

(٤) المعاني ، باب معنى الحروف المقطعة في أوائل السور من القرآن ، ص ٢٢ ، ح ١ عن سفيان بن السعيد الثوري ، عنه ـ عليه‌السلام ـ ؛ وهكذا في تفسير الامام ـ عليه‌السلام ـ كما في البحار ، ج ٩٢ ، باب متشابهات القرآن وتفسير المقطعات ، ص ٣٧٣ ، ح ١.

٢٢٢

«البهجة : الحسن ؛ يقال : رجل ذو بهجة. وقد بهج بالضمّ بهاجة فهو بهيج ؛ قال تعالى : (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)(١). وبهج [به] بالكسر أي : فرح [به] وسرّ ، فهو بهج وبهيج.»

ولعلّ إطلاق البهجة عليه باعتبار انبعاثه كثيرا من إدراك الكمال والحسن في نفسه ، أو لا نبعاثه عن إدراك الشيء الحسن من مرئيّ أو مسموع أو غيرهما ، فأطلق لفظ الأصل على أثره المتفرّع عليه ، أو لأنّ الفرح يحدث للبشرة حسنا وإشراقا عكس الهمّ والخوف ، فيكون من إطلاق لفظ المسبّب على السبب. ويحتمل كون المعنى الأوّل مأخوذا من الثاني باعتبار كون الحسن موجبا للسرور ، وربّما يشعر به كلام بعضهم.

وقال في «بهاء» : «البهاء : الحسن ؛ تقول : بهي الرجل بالكسر وبهو بالضمّ فهو (٢) بهيّ.»

ثمّ ذكر له معنى الخلوّ والتعطيل والفخر أيضا ، وذكر للبهاء من المهموز معنى الانس ، وأنّ البها بمعنى الحسن من بهى الرجل غير مهموز.

وفي مجمع البحرين : «البهاء : الحسن والجمال ؛ يقال : «بهاء الملوك» أي : هيئتهم وجمالهم ، و «بهاء الله» عظمته.»

وبالجملة فالظاهر أنّ المراد من البهاء والبهجة هنا هو الحسن ، وهو منشأ الانس الّذى هو معنى المهموز.

وأمّا السناء ، فقال الجوهري : «السنا مقصور ضوء البرق ـ إلى أن قال ـ والسناء من الرفعة ممدود ، والسنيّ : الرفيع ، وأسناه أي : رفّعه.»

وذكر المعنيان الطريحي أيضا وقال : «في الخبر : «بشّر أمّتي بالسناء» أي :

__________________

(١) الحج / ٥.

(٢) في المخطوطة : «فهي».

٢٢٣

بارتفاع القدر والمنزلة عند الله تعالى.»

ويمكن كون الثاني مأخوذا من الأوّل لارتفاع ضوء البرق على الأشياء ، فشبّه به الشيء الرفيع في رفعته ، فأطلق لفظه على الرفعة ؛ كالسماء في إطلاقه على ما يقابل الارض وعلى كلّ عال.

وأمّا المجد ، فقال الجوهري : «المجد : الكرم ، والمجيد : الكريم ، وقد مجد الرجل بالضمّ فهو مجيد وماجد ؛ قال «ابن السكّيت» : المجد والشرف يكونان بالآباء ؛ يقال : رجل شريف ماجد ، له آباء متقدّمون في الشرف. قال : والحسب والكرم يكونان في الرجل وإن لم يكن له آباء لهم شرف.»

ويشعر ذيل كلامه بخلاف ما حكاه عنه.

وقال الطريحي : «المجد : الشرف الواسع في كلام العرب ـ إلى أن ذكر عن أبي عليّ أنّ : ـ «معناه : العلوّ والكمال والرفعة» ـ وذكر أيضا أن : ـ المجد : الكرم والعزّ ، وفي الخبر : «المجد حمل المغارم وإيتاء المكارم.» ورجل ماجد : كريم شريف.»

وعلى هذا فالظاهر أنّ المجد هنا هو العلوّ والعزّ ، فيصحّ اتحاده مع الملك ؛ إذ حقيقته السلطنة على الشيء والاستعلاء عليه وإن أخذ الأوّل وصفا للشيء في حدّ نفسه ، فلا يقال : مجده وعزّه بخلاف مجد وعزّ الشيء ، والثاني وصفا إضافيّا خاصّا ، فيقال : ملكه ولا يقال : ملك من دون اعتبار متعلق إن أخذ الملك مكسورا ، الّذي يعبّر عن صاحبه بالمالك ، لا الملك بالضمّ ، الّذى يشتقّ منه الملك. وذلك لأنّ العلوّ والعزّ لا يعقلان ما لم يلاحظ سائر الاشياء ولو إجمالا ليصدق العلوّ والعزّ باعتباره ؛ ألا ترى أنّه إذا فرضنا انحصار الموجود في واحد لم يصحّ وصفه بالعلوّ والعزّ ما لم يقايس بسائر الاشياء ولو وهما؟ غاية الامر عدم لزوم ملاحظة أمر خاصّ في التوصيف ، بل يصحّ اعتباره وصفا مع ملاحظة إجماليّة كالملك بالضمّ

٢٢٤

إذ لا يعقل السلطنة بدون فرض الرعيّة ، إلا أنّه لا يلزم ملاحظة شخص خاصّ أو أشخاص في التوصيف بخلاف الملك بالكسر ؛ إذ يعتبر فيه النسبة الخاصّة ولو حذف من اللّفظ.

وحينئذ فالملك بالضمّ أقوى أنواع المجد ، فيتّحد الروايتان إن أخذنا الملك بالضمّ ، كما يؤيّده الاستشهاد بالانواع ؛ إذ مجد الحقّ أعظم مجد وأقواه بديهة ، ولا مجد فيما يعرفه الناس أعظم من السلطنة. وإن أخذنا الملك بالكسر فبعد عموم متعلّق الملك يكون بمنزلة التفصيل من الاجمال الذي يدلّ عليه المجد ، فيتّحدان في الحقيقة وإن اختلفا في اللحاظ.

وحينئذ فنقول في معنى الاشتقاق : إنّ حقائق الاسماء الالهيّة على نوعين : إمّا ظاهر من شأنه الظهور ؛ أو خفيّ من شأنه الخفاء بنفسه وإن ظهر في آثاره والثاني أقرب إلى الحقّ ، لكونه مثالا للحقّ في غيبيّة الذات وظهوره بالآثار ، فهو الرابطة بين الظهور والبطون ، وذاته الخفيّ من طرف الحقّ ، وأثره من طرف الخلق ، فهو آية الحقّ في الظهور والبطون ، فالمطابق له في الالفاظ الالف الذي أوّل الحروف من حيث أوّليّته وخفائه عن أوائل أسماء الله سبحانه وغيرها ، كالبسملة لفظا وظهوره كتبا ، إلا في البسملة حيث ابدل إظهاره بتطويل الباء لما ذكروه في موضعه ، ونسبة الكتابة إلى اللّفظ نسبة الجسد إلى الروح ، فهو خفيّ روحا وظاهر قشرا ، ومن حيث استقامته التي هي الاصل في أشكال الحروف ، ككون «الصراط المستقيم» صفة فعل الحقّ ؛ (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(١) ومن حيث اشتقاق سائر الحروف منه كتبا. فهو كالمركز من الدائرة ؛ كتوسّط (الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) بين السبل (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ)(٢) ولان

__________________

(١) هود / ٥٦.

(٢) الانعام / ١٥٣.

٢٢٥

مخرجه أقرب من القلب الذي هو المبدء الاول في عالم الانسان ، فهو أوّل الحروف مخرجا ، وأبعدها ظهورا ، وأكثرها امتدادا لجريانه من قريب السرّة إلى الفم يمرّ على وسط المخارج كالصراط المستقيم إلى غير ذلك ، فهو الآلاء بمعنى النعم الباطنيّة الخفيّة.

والاوّل على أقسام ثلاثة :

إمّا أن يكون ظاهرا بالمرآتيّة المحظة للحقّ ، بحيث يكون فاني الهوية في جنب الحقّ ، والاسم المكنون المخزون عنده سبحانه.

وإمّا أن يكون ظاهرا بنفسه وهويّته أيضا.

وإمّا أن يكون ظاهرا بنفسه في مظاهره ومظهرا لها.

والاوّل مرآة ظهر بالمرآتيّة وخفي بنفسه ؛ كالمرآة الصافية التي لا يظهر بصفات نفسه للابصار ، وإنّما شأنه إظهار الشيء.

والثاني مرآة يتعلّق بنفسها الادراك ، ويظهر فيها الصورة على ما هو عليه كأكثر المرائي الصافية.

والثالث مرآة ضعف مرآتيّته في ظهور نفسه ، ومظهر هويّته في صفاته المغايرة ، كما هو مرآة له ، فصار مبدء لظهور الكثرة وخفاء الوحدة الحقيقيّة التى هي مرآة له.

ومن البيّن سبق الاوّل على الثاني ، وسبقه على الثالث.

فالاوّل هو الباء الذي يتلوا الالف مرتبة ، ولا يفارقه كتبا إلا بانحراف طرفيه وبقاء الباقي بعد الانبساط ، وهو بهاء الحقّ ومرآة حسنه ليس لها صفة وراء إظهار حسن الحقّ ؛ إذ الحقّ هو الحسن المطلق والجميل المطلق ، فمرآته مرآة الحسن والبهاء ، وهو حقيقة الاسم الحاكي عن صفاته الذاتيّة ، وهو متّصف بصفة الفناء ، فهو خال عن نفسه بخلاف الثاني ، وعن سائر الاشياء بخلاف الثالث ، و

٢٢٦

معطّل عمّا سوى شأن المرآتيّة ، فيوافقه المعنى الثاني للبهاء وهو مظهر الفخر الذاتي ، فيوافقه المعنى الثالث ، وهو أصل مقام الانس المنبعث عن الوصل ؛ إذ لا وصل إلا بالفناء والبقاء ، فيوافقه المعنى الرابع الذي للبهاء ممدودا ، فهو مبدء البهجة والسرور بالحقّ ، الذي هو السرور الحق والبهجه الحقّة ؛ إذ لا سرور للعارف إلا بذلك ، وغيره باطل عاطل.

والثاني هو السين الذي هو الباء بزيادة التصرّف في وسطه ، وجعله كالطرفين فصار له أضراس ثلاثة ، وهو : سناء الحق ، وضوء برقه ، ونوره الظاهر بنورانيّة الحاكي عن مبدء وجوده ، وكما أنّ سناء البرق ظاهر بنفسه ، وبكونه شعاعا للبرق ودالا عليه ، بحيث لا يكاد يفارق أحد اللّحاظين عن الآخر عند إدراكه ، ولمعان وظهور للبرق لا أمر مغاير له منفصل عنه ، كذا سناء الله ظاهر بنفسه وهويّته مظهر للحقّ وآية له ، لا تغلب أحد اللّحاظين الآخر ، وهو لمعان وظهور لفعل الحق والمرتبتين المتقدّمتين عليه ، فكأنّ السابقة برق لا يظهر بهويّته للابصار بنفسه ، واللاحقة ضوئه الذي ظهر بنفسه وأظهر البرق بظهوره ، فكأنّه عبد قائم بصفة العبوديّة المقتضي لملاحظة نفسه وربّه ، السابق عليه ، فان عن نفسه باق بربّه ، وهذا السناء أرفع من جميع الابداعات الظاهرة ، فهو رفعة الحقّ ومظهرها ، فيصحّ أخذه بالمعنى الثاني.

والثالث فهو الميم المستدير الحاكي عن معنى دائرة الامكان ، ويقابل الالف من حيث أنّ صفته الاستقامة المقابلة للاستدارة ، ومن حيث أنّ مخرجه آخر المخارج نزولا ، فيقابل مخرج الالف ، وهو ملك ، ومجده وعلوّه على الاشياء ، وهذا المعنى يقتضي ظهور الاشياء بصفة المقهوريّة والمملوكيّة حتّى يظهر الحقّ فيها بصفة الملكيّة والمالكيّة والعلوّ ، فهو البرزخ الحاكي عن الواجب بهذه الصفات ، وعن الممكنات بتلك ، والجامع لحقائق الاسماء الاضافيّة ، وقد انضمّ إلى

٢٢٧

جهته التي إلى الحقّ ، وجهته في نفسه جهته إلى الخلق ، وباعتبارها أظهر أعيانها بصفاتها ، فشهدت لخالقها بأضدادها ، وهو مقام الربوبيّة الفعليّة الّتي تقتضي وجود المربوب. وليس الغرض من هذا البيان حصر حقائق الاسماء في الحروف الاربعة ، بل يشبه أن يكون هي أصول تلك الحقائق ، أو الاولى من كلّ نوع من الانواع ما عدا الالف ؛ إذ هو الاخير من مقام الغيب ، وقبله الالف المشار إليه بلام ألف لا وقبله النقطة ، ويشهد لكثرة الاسماء وتقدّم البهاء عليها دعاء السحر المعروف الوارد في شهر رمضان (١) حيث قدّم على الاسماء الكثيرة ، ومنها : الملك ، والنور المساوق للسناء في وجه.

هذا جملة ما خطر بالبال في ترجمة الجار والمجرور تركيبا وتحليلا ، والله العالم.

[بحوث حول لفظ الجلالة]

وأمّا «الله» ففي الرواية السابقة بطرقها :

«والله إله كلّ شيء» (٢).

وفي التوحيد عن الامام العسكري عليه‌السلام ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّ رجلا قام إليه ، فقال :

«يا أمير المؤمنين ، أخبرني عن (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ما معناه؟

فقال : إنّ قولك «الله» أعظم اسم من أسماء الله عزوجل وهو الاسم الّذي لا ينبغي أن يسمّى به غير الله ، ولم يتسمّ به مخلوق.

فقال الرجل : فما تفسير قوله : «الله»؟

__________________

(١) هو دعاء أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ ؛ قد نقله السيد الاجلّ عليّ بن طاووس ـ نوّر الله مضجعه ـ في الاقبال ، ص ٧٧ ، فراجع.

(٢) راجع المصادر المذكورة في تعليقة ١ و ٢ ص ٢٢٠.

٢٢٨

قال عليه‌السلام : هو الّذي يتألّه إليه عند الحوائج والشدائد كلّ مخلوق عند انقطاع الرجاء من جميع من دونه ، وتقطع الاسباب من كلّ من سواه. ثمّ قال : وذلك أنّ كلّ مترئّس في هذه الدنيا ، ومتعظّم فيها وإن عظم غنائه وطغيانه ، وكثرت حوائج من دونه إليه ، فانّهم سيحتاجون حوائج لا يقدر عليها هذا المتعاظم ، وكذلك هذا ؛ المتعاظم يحتاج حوائج لا يقدر عليها ، فينقطع إلى الله عند ضرورته وفاقته حتّى إذا كفي همّه عاد إلى شركه ؛ أما تسمع الله عزوجل يقول : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ.»)(١)

وفيه أيضا في حديث أنّه قال أمير المؤمنين عليه‌السلام :

«الله معناه : المعبود الّذى يأله فيه الخلق ويؤله إليه ، والله هو المستور عن درك الابصار ، المحجوب عن الاوهام والخطرات».

ثمّ قال : قال الباقر عليه‌السلام :

«الله معناه : المعبود الّذي أله الخلق عن درك ماهيّته والاحاطة بكيفيّته ، ويقول العرب : أله الرجل : إذا تحير في الشيء فلم يحط به علما ، ووله : إذا فزع إلى شيء ممّا

__________________

(١) الآيتين : الانعام / ٤٠ ـ ٤١ ؛ والحديث في التوحيد ، باب معنى «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» * ، ص ٢٣٠ ، ح ٥ ؛ وهكذا في تفسير الامام ـ عليه‌السلام ـ ، ص ١٠ ، والبحار ج ٩٢ ، باب فضائل سورة الفاتحة وتفسيرها ، ص ٢٣٢ و ٢٤٤ ، ح ١٤ و ٤٨ ؛ والبرهان ، ج ١ ، ص ٤٥ ، ح ٨.

٢٢٩

يحذره ويخافه ، والاله (١) هو المستور عن حواس الخلق ـ الحديث» (٢).

وذكر في جملة رواه عنه أنّ :

«تفسير الاله هو الّذي أله الخلق عن إدراك ماهيّته وكيفيته بحسّ أو بوهم ، لا بل هو مبدع الاوهام ، وخالق الحواسّ ـ الحديث» (٣).

وفيه باسناده عن الحسن بن راشد ، عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما‌السلام قال :

«سألته عن معنى الله ، قال : استولى على ما دقّ وجلّ» (٤).

وفي مجمع البحرين أنّ في الحديث : «الله معنى يدلّ بهذه الاسماء وكلّها

__________________

(١) في بعض النسخ : «فالإله».

(٢) الحديثان في التوحيد ، باب تفسير «قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ» الى آخرها ، ص ٨٩ ، ح ٢ ؛ والبحار ، ج ٣ ، باب ٦ من كتاب التوحيد ، ص ٢٢٢ ، ح ١٢.

(٣) راجع المصادر المذكورة في تعليقة ٢ ص ٢٢٢.

(٤) التوحيد ، باب معنى «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» * ، ص ٢٣٠ ، ح ٤ ، والمعاني باب معنى «الله عزوجل» ، ص ٤ ، ح ١ ، بهذا الاسناد ؛ ورواه أيضا الكليني (ره) بالاسناد المذكورة في الكافي ، ج ١ ، باب معاني الاسماء واشتقاقها ، ص ١١٤ ، ح ٣ ؛ والعياشي (رض) في تفسيره ، ج ١ ، ص ٢١ ، ح ١٥ ، عن الحسن بن خزراد ، عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ ، ونقله المجلسي (ره) في البحار ، ج ٤ ، باب معاني الاسماء واشتقاقها ، ص ١٨١ ، ح ٦ ، وقال في ذيله :

«لعلّه من باب تفسير الشيء بلازمه ، فانّ معنى الالهية يلزمه الاستيلاء على جميع الاشياء دقيقها وجليلها. وقيل : السؤال إنما كان عن مفهوم الاسم ومناطه ، فأجاب ـ عليه‌السلام ـ بأنّ الاستيلاء على جميع الاشياء مناط العبودية بالحقّ لكلّ شىء.»

٢٣٠

غيره».

وفي التوحيد باسناده عن الصادق عليه‌السلام :

«الله مشتق عن إله ، وإله يقتضي مألوها (١)».

وفي خطبة الرضا عليه‌السلام :

«له معنى الربوبيّة إذ لا مربوب ، وحقيقة الالهيّة إذ لا مألوه.» (٢)

[في اشتقاق كلمة الجلالة وعلميّتها ، وأنّ أصلها ما هو؟]

اعلم أنّه لا خلاف في أنّ الالف واللّام في لفظ الجلالة حرف تعريف في الاصل لا من أصل الكلمة ، كما مرّ على ما صرّح به بعضهم ، وذهب الاكثر إلي أنّ أصله «الالاه» ، وجوّز سيبويه أن يكون أصله لاها من لاه يليه : تستّر واحتجب ، وقيل :

بمعنى : ارتفع ، ويبعده كثرة دوران إله في الكلام واستعمال إله في المعبود ، وإطلاقه على الله. فهو حينئذ كلفظ الناس حيث أنّ أصله «الاناس» ، فحذف منه الهمزة ،

__________________

(١) التوحيد ، باب أسماء الله تعالى ، ص ٢٢٠ ، ح ١٣ ، عن هشام بن الحكم ، عنه ـ عليه‌السلام ـ ؛ والبحار ، ج ٤ ، باب ١ من أبواب أسمائه تعالى ، ص ١٥٧ ، ح ٢ ؛ وهكذا رواه الكليني (ره) بهذا الاسناد في الكافي ، ج ١ ، باب معاني الاسماء واشتقاقها ، ص ١١٤ ، ح ٢ ؛ والطبرسي (ره) في الاحتجاج ، ج ٢ ، ص ٧٢ ، مرسلا عن هشام بن الحكم ، عنه ـ عليه‌السلام ـ.

(٢) رواه الصدوق (ره) في التوحيد ، باب التوحيد ونفي التشبيه ، ص ٣٨ ، ح ٢ ؛ والعيون ، ج ١ ، خطبة الرضا ـ عليه‌السلام ـ في التوحيد ، ص ١٢٥ ، عن محمد بن يحيى ابن عمر بن علي بن أبي طالب ، عنه ـ عليه‌السلام ـ ؛ والطبرسي (ره) في الاحتجاج ، ج ٢ ص ١٧٧ ، مرسلا عنه ـ عليه‌السلام ـ ؛ وهكذا في البحار ، ج ٤ ، باب جوامع التوحيد ، ص ٢٢٩ ، ح ٣.

٢٣١

وعوّض منه الالف واللام ، كما عن أبي عليّ النحويّ ، أو من دون تعويض كما ذكره غيره.

والاله مشتقّ من أله بالفتح إلاهة أي : عبد عبادة على ما ذكره الجوهري (١) ووافقه جماعة.

وعن المصباح : «أله يأله ـ من باب تعب ـ إلهة [بمعنى] عبد عبادة ، وتألّه : تعبّد ، والالاه : المعبود وهو الله سبحانه ، ثمّ استعار [ه] المشركون لما عبد من دونه».

وأجود منه ما ذكره الجوهري من تعليل تسمية الاصنام بالالهة باعتقادهم أنّ العبادة تحقّ لها ، وأسمائهم تتبع اعتقاداتهم ، لا ما عليه الشيء في نفسه.

قيل : «اتّفق القائلون بالاشتقاق على اشتقاقه ممّا ذكر (٢) ، وأنّه اسم جنس كالرجل والفرس ، يقع على كلّ معبود بحقّ أو باطل ، ثمّ غلب على المعبود بحقّ ؛ كما أنّ النجم إسم لكلّ كوكب ، ثمّ غلب على الثريّا. وكذا السنة على عام القحط والبيت على الكعبة ، والكتاب على كتاب سيبويه. وأمّا الله بحذف الهمزة فمختص بالمعبود [ب] الحقّ لم يطلق على غيره (٣).» انتهى.

وقيل : «من أله بكسر أي : تحيّر.» وذكر الجوهري أنّ أصله الوله ، وردّ بمخالفته لكثير من كلام أهل اللّغة ، والمناسبة ظاهر ؛ إذ تحيّرت الاوهام ، وغمضت مداخل الفكر ، وعجزت العقول عن إدراكه.

وقيل : «من ألهت إلى فلان أي : سكنت إليه.» فالنفوس لا تسكن إلا إليه ، والعقول لا تقف إلا لديه ، (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ). (٤)

__________________

(١) راجع الصّحاح ، وقد يوجد فيه أيضا كثير من الاقوال المتقدّمة والآتية المنقولة عنه وعن غيره في حول كلمة الجلالة.

(٢) يعني به ما تقدم أخيرا عن الجوهري.

(٣) القول للنيشابوري ، راجع تفسيره ، ج ١ ، ص ٢٤.

(٤) الرعد / ٢٨.

٢٣٢

وقيل : «من الوله وهو ذهاب العقل سواء فيه الواصلون إلى ساحل بحر العرفان ، والواقفون في ظلمات الجهالة وتيه الخذلان.»

وقيل : «من أله الفصيل إذا أولع بامّه ؛ لانّ العباد تتضرّع إليه في البليّات.» وعن الخليل ومتابعيه وأكثر الاصوليّين والفقهاء من العامّة أنّ : اسم الجلالة ليس بمشتقّ ، واسم علم له سبحانه ، واحتجّ لذلك بأنّه : لو كان مشتقّا لكان معناه كلّيّا لا يمنع نفس تصوّره عن وقوع الشركة فيه ، فلا يكون «إلا الله» موجبا للتوحيد المحض ؛ وبأنّ : الترتيب العقلي ذكر الذات ثمّ نعته بالصفات ، وإنّا نقول : الله الرحمن الرحيم العالم القادر ، ولا نقول بالعكس ، فدلّ على أنّه اسم علم ؛ وبأنّه : لو كان صفة وسائر أسمائه صفات لم يكن للباري تعالى اسم ، ولم يبق العرب شيئا من الاشياء إلا سمّته ، ولم تسمّ خالق الاشياء ومبدعها (١) ؛ هذا محال.

أقول :

الّذي يظهر لي في المقام أنّ الاله الّذي هو الاصل في الله على ما عرفت ، وصرّح به في الرواية المتقدّمة ، ويظهر من سائر الروايات أيضا هو : فعال بمعنى مفعول ؛ كالكتاب بمعنى المكتوب ، من أله بمعنى عبد ، كما صرّح به جماعة (٢) وأصل العبودية الخضوع والذلّ ، كما صرّح به الجوهري ، وربّما فسّر بغاية التذلّل ، ولعلّه لانصراف اللّفظ إلى الفرد الكامل ، فيكون الاله هو : المعبود الّذي لأجله يقع الخضوع والتذلّل الكامل.

ثمّ إنّ المعبود تارة يعتبر ويؤخذ بالاضافة إلى شخص خاصّ فيقال : معبود زيد ، وتارة يؤخذ مطلقا ، وعلى الاوّل فلا يبعد انصرافه إلى من كان شأنه أن

__________________

(١) تجد هذه الاقوال والدلائل التي أقيم في إثبات قول الاخير في التفسير الكبير ، ج ١ ، ص ١٢١ ـ ١٢٥ ؛ وتفسير النيشابوري ، ج ١ ، ص ٢٤.

(٢) كالفيومي ، فراجع المصباح.

٢٣٣

يعبده ذلك الشخص ، وكان قابلا لذلك وأهلا له ، وإلا فهو متّخذ إلها ، لا أنّه معبود. ولمّا لم يكن المخلوق أهلا لذلك في ظرف الواقع كان إطلاق الاله والمعبود ولو مقيّدا على المخلوق المتّخذ معبودا خطاء في الاطلاق لاشتباه في المصداق ، كما سبق عن الجوهري ، أو مبنيّا على اعتقاد المخطي ، فيكون إطلاق إله «هذيل» ومعبودهم على الصنم مبنيّا على اعتقادهم ، فيكون المعنى أنّه معبود بزعمهم وعلى حسبانهم. وحينئذ فلا مصداق له حقيقة في نفس الامر سوى الواحد الحقّ وإطلاقه على غيره مبنيّ على الزعم الفاسد.

وأمّا الثاني ، فهو إمّا مأخوذ بمعنى الشأنيّة والاستحقاق مع قطع النظر عن تحقّق العابد في الخارج ، أو بمعنى الفعليّة لكلّ من سواه استغراقا ، بأن يكون معبودا مطلقا يعبده جميع من سواه ، أو على وجه الاهمال ليصدق على الكلّ أو البعض ، فيكون مفاده التوصيف بالمعبوديّة على وجه الاجمال.

وعلى الاوّلين فاختصاصه بالحقّ ظاهر ؛ إذ هو الّذي (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ)(١) و (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً.)(٢).

وعلى الثالث ، فربّما يستفاد منه العموم باعتبار إفادة حذف المتعلّق العموم ، وإذا حلّي بالالف واللام قوي ذلك لاقتضائه الاشارة الّتي هي مدلولها التعييني ، ولا يتعيّن المعبود بمعنى الفعليّة من حيث كونه معبودا إلا باضافته إلى العابد ، ولا تعيّن لشيء من أفراد العابدين في اللّفظ لتساوي نسبتها إلى اللّفظ ، وامتناع الترجّح من غير مرجّح فيتعيّن إرادة الجميع. والتوصيف بالمعبوديّة المطلقة نظير ما قرروه في إفادة الجمع المحلّى باللام العموم في الاصول.

وممّا ذكر ظهر أنّه لا حاجة إلى تقييد «الاله» في كلمة «لا إله إلا الله» ،

__________________

(١) مأخوذ من آية ٤٤ سورة الاسراء ، وأصلها هو : «إِنْ مِنْ شَيْءٍ ...»

(٢) مريم / ٩٣.

٢٣٤

وأن الاله معرّفا باللام ظاهر الاختصاص بالحقّ من وجوه من حيث استظهار الشأنيّة ، والصلاحيّة في جوهر الكلمة من حيث هو ، ومن حيث خصوصيّة ترك إضافته إلى عابد معين ، ومن حيث تحليته باللام.

فالاله هو الّذي يعبده بالاستحقاق جميع من سواه وتأكّد هذه الدلالة عند حذف الالف وقطع همزة التعريف بصيرورته ؛ كالمنسلخ عن الاضافة الخاصّة ، وانضمّ إليه كثرة الاستعمال ، وهجر غيره حتّى صار كالاعلام الشخصية في الاختصاص ، بل منها حقيقة بحسب ظاهر النظر في العرف.

وهذه حكومة بين المثبتين للاشتقاق والقائلين بالعلميّة والاسميّة ؛ إذ الوضع العرفي التاري على المعنى الاصلي علميّ وإن كان مطابقا للمعنى الاشتقاقي الاصلي من حيث المعنى ، لكنه صار بحيث لا يتبادر منه المعنى الوصفي بحسب العرف ، بل يتبادر إلى أذهانهم الذات من حيث هو ، أو كاد أن يصير كذلك. ومثاله لفظ «العلامة» و «المفيد» و «بحر العلوم» وغيرها من اجتماع الجهتين فيها ، وتمحّضها أوّلا للمعنى الوصفي.

ومن ذلك ظهر معنى تفسير الكلمة باله كلّ شيء ، وأنّه الاسم الّذي لا ينبغي أن يسمّى به غير الله ، ولم يتسمّ به مخلوق ؛ إذ معنى الاسم منحصر به سبحانه على ما فصّلنا.

[في حقيقة العبوديّة ، وأنّ كلمة الجلالة مستجمع لجميع الصّفات الكماليّة]

ثمّ إنّ التذلّل والخضوع الّذي هو معنى المادّة فيتحقّق تارة من حيث استحقاق العباد لذاته الخضوع لمعبوده لذاته وصفاته ، فيكون المعبود مستحقّا للخضوع له بذاته وصفاته ، والعبد مستحقّا للاتّصاف به لذاته ، وهذا حقيقة العبادة ؛ فاذا عرف ذاته بخواصّ الامكان ونقائصه ، وعرف الحقّ باستجماعه لجميع الصفات

٢٣٥

الكماليّة انبعث له حال الخضوع قلبا ، والطاعة له جوارحا. وبهذه الملاحظة فالله هو الذات المستجمعة لجميع الصفات الكماليّة ؛ إذ لو فقد منها شيئا لم يكن معبودا بقول مطلق. ومن جملتها أن يكون مرتفعا عن الخلق وعن مبلغ مداركهم ، بحيث يحتجب عنها بغير حجاب ، ومستورا عن درك الابصار ، ومحجوبا عن الاوهام والخطرات ، فيأله الخلق عن إدراك حقيقته ، فيناسب جملة من مبادي الاشتقاق السابقة ، ويوافق جملة من الروايات المتقدّمة.

وذلك لأنّ المدارك لا تدرك إلا ما كان واقعا في عالمها ومشاركا لها ، ومثله لا يستحقّ العبادة ، وإنّما المستحقّ هو خالق المدرك والمدرك ، المنزّه عن صفاتها وشباهتها ، وصيرورته في عالم من عوالمها ؛ إذ المتماثلين أو المتشابهين أو المتجانسين لا يستحقّ واحد منهما العبادة على الآخر ، وإنّما المستحقّ القدّوس المطلق المنزّه عن جميع ما ينعت به الخلق.

وأيضا الخضوع المطلق إنّما يكون عند من تحيّر فيه إدراك الخاضع ؛ إذ التحيّر من أنواع الخضوع والاستكانة ، والمدرك بالاكتناء يسكن الخضوع بعد تمام إدراكه. وأيضا الّذي يحاط به العلم محاط للعالم ، والمحيط أولى بالمعبوديّة من المحاط.

ومن جملتها أن يكون مستوليا على جميع ما دقّ وجلّ ؛ إذ لو لم يستول على شيء منها لم يكن مستحقّا لعبادته من هذه الحيثيّة ، فانّ المستولى عليه يحقّ له عبادة المستولي دون غيره ، فليس معبودا مطلقا. ولعلّ إليه الاشارة بالحديث السابق ، لا اشتقاق لفظ الجلالة من الاستيلاء إلا أن يؤل بالاشتقاق الكبير ، فيكون الغرض بيان المناسبة.

وتارة أخرى من حيث طلب شيء بالاستحقاق الذاتي من المعبود من مطلوب دنيويّ أو معنويّ أو أخروي ، أو هرب من شيء مبغوض بأحد الوجوه الثلاثة ،

٢٣٦

فالعابد يتألّه إلى معبوده في حاجته. والاله المطلق بهذا الاعتبار من كان مستوليا على كلّ شيء دقيق وجليل لا يخرج عن حكمه شيء ، حتّى يصحّ تذلّل كلّ شيء له في كلّ أمر من الامور المتعلّقة به من مطلوب أو مبغوض على الوجوه الثلاثة ، حتّى يتذلّل العابد له بالالتجاء إليه في كلّ حاجة.

ومن هنا يتبيّن وجه التعميم في الحاجة والمحتاج في الرواية الاولى ، وتفصيله باثبات انحصاره فيه سبحانه ، وأنّ من سواه لا يقدر على الكلّ وإن قدر على بعض ، بل هو محتاج أيضا ، والمعبود في كلّ جهة لا بدّ وأن يكون غنيّا من كلّ جهة ، إذ عبادة المحتاج للمحتاج سفاهة ، وهذا بحسب ظاهر النظر ، والا فالمحتاج إليه عند العارف ليس إلا الحقّ سبحانه ، وهو من دونهم وليّ الاعطاء والمنع ، وجميع ما سواه يلتجأ به ، إمّا دائما كالعارف ، وإمّا عند الحاجة كالمؤمنين ، وإمّا عند الاضطرار كالكفار ؛ كما يشهد له الآية (١) والرواية ، وما رواه في التوحيد بعد ما قدّمناه في صدر ترجمه البسملة ؛ قال :

«وهو ما قال رجل للصّادق عليه‌السلام : يابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، دلّني على الله ما هو ، فقد أكثر عليّ المجادلون وحيّروني.

فقال له : يا عبد الله ، هل ركبت سفينة قطّ؟ قال : نعم.

قال : فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك؟

قال : نعم.

قال : فهل تعلّق قلبك هنالك أنّ شيئا من الاشياء قادر على

__________________

(١) كقوله تعالى : «فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ.» (العنكبوت / ٦٥) ، وقوله تعالى : «وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ.» (الروم / ٣٣).

٢٣٧

أن يخلّصك من ورطتك؟ قال : نعم.

قال الصّادق عليه‌السلام : فذلك الشيء هو الله القادر على الانجاء حيث لا منجي ، وعلى الاغاثة حيث لا مغيت.» (١).

والظاهر أنّ السبب في ذلك رجوع الكافر حال اضطراره إلى فطرته المحجوبة ، وظهور تلك المعرفة وفعليّته.

ولا يخفى عليك أنّ الالتجاء والاستغاثة والسؤال والفزع كلّها من شئون العبوديّة والخضوع والتذلّل ، بل هي تذلّلات وخضوعات حاليّة ، كما أن الاطاعة بالجوارح عبوديّة ، بل أغلب النفوس لا تخضع ولا تتذلّل إلا عند الحاجة : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى.)(٢)

فالعبوديّة أصلها الخضوع والتذلّل ، ولها أغصان وفروع وآثار يصحّ إطلاق العبوديّة على كلّ منها أيضا. ألا ترى أنّ السجدة عبادة جوارحيّة ، ولها معنى قلبيّ هو السجدة القلبيّة؟

وبما فصّلنا يتّضح أنّ الله هو أعظم اسم من أسماء الله سبحانه ، الحاكية عن صفات الذات وصفات الافعال في مقام الظهور باعتبار دلالته على المعبوديّة المطلقة ، المشتملة على جميع شئونها من صفات الذات وصفات الافعال ، والعبوديّة مساوقة لعالم الامكان ، وكلّ حادث عبد ؛ (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً.) والعبوديّة وجهة العبد إلى سيّده ، والعابد إلى معبوده ، والرابطة والوسيلة ، والله سبحانه معبود بذاته وصفاته وأفعاله وآثاره. ولو اغمض النظر عن واحد منها لم يكن معبودا مطلقا ، فلو خرج عن مدلول كلمة الجلالة اسم من أسمائه الظاهرة لم يكن باعتباره معبودا ، فخرج مظاهر ذلك الاسم عن دائرة العبوديّة

__________________

(١) راجع تعليقة ٢ ص ٢١١.

(٢) العلق / ٦ ـ ٧.

٢٣٨

من حيث كونها مظاهر له. والمعبود المطلق من كان كاملا في ذاته وصفاته باستجماعه جميع الصفات الجماليّة والكماليّة ، الذاتيّة والفعليّة ، مرجوّا عند كلّ ما يرجى ، مخوفا عند كلّ ما يخاف ، مستحقّا للمحبوبيّة بجميع الوجوه والحيثيّات ، وللحياء منه بجميع الشئون الموجبة لاستحقاق الحياء منه ، متوحّدا في جميع ذلك ، لا يشاركه في شيء منها غيره. فمدلول هذه الكلمة شاملة لمدلول كلّ اسم من الاسماء الظاهرة ، فهو أعظم منها وأعمّ.

ومن هنا يتبيّن أنّه المقدّم عليها معنىّ ، فهو المستحقّ للتقديم لفظا يوصف بها ، ولا يجري وصفا لشيء منها.

[في بيان أنّ كلمة الجلالة ليست اسما للذّات]

وممّا ذكرنا ظهر فساد الاستدلال على أنّه اسم للذات بأنّه لولاه لم يكن مفهومه مانعا عن وقوع الشركة فيه ؛ إذ الاستغراق والشمول لجميع ما سواه يمنع من الشركة فيه ، فيكون كلمة التوحيد دالا عليه ، فكأنّ معناها أنّه لا معبود إلا المعبود المطلق ، وبملاحظة الترتيب العقلي لما ذكرنا. وأمّا الاستدلال بلزوم انتفاع اسم الذات ، فمردود بأنّ امتناع وقوع الادراك على الذات من حيث هي هي ، الّذي هو الغيب المطلق ، ومنقطع الاشارات العقليّة والوهميّة والحسّيّة مانع عن وضع اسم بازائه ؛ إذ كلّ معروف بنفسه مصنوع كما ورد عنهم عليهم‌السلام (١).

وأمّا ما أورده الفاضل النيشابوري في تفسيره (٢) من «أنّ وضع الاسم للذات لاينافي عدم إدراكه كما ينبغي ، وإنّما ينافي عدم إدراكه مطلقا ، فيجوز أن يقال : الشيء الّذي يدرك منه هذه الآثار واللّوازم مسمّى بهذا اللّفظ ، وأيضا إذا كان

__________________

(١) راجع خطبة علي بن موسى الرضا ـ عليه‌السلام ـ في مجلس المأمون في التوحيد ، وقد مرّ مصادرها في تعليقة ٢ ص ٢٣١.

(٢) تفسير النيشابوري ، ج ١ ، ص ٢٠.

٢٣٩

الواضع هو الله تعالى ، وأنّه يدرك ذاته على ما هو عليه ، فله أن يضع لذاته اسما مخصوصا لا يشاركه فيه غيره حقيقة ، فمدفوع بأنّ جميع أسماء الله سبحانه دالّة على الذات من حيثيّة من الحيثيّات السلبيّة والايجابيّة ، أو الاضافيّة ، أو المركّبة ، ولا يكون معانيها عند المدرك إلا متميّزة محدودة متعيّنة ؛ إذ لو لا التميز والتعيين امتنع الادراك ، والمشار إليه بهذه المعاني ليس إلا الذات : إذ لولاه لم تكن هذه أسماء له ، بل لغيره ، ولم يكن الداعي بها داعيا له بكلّ معنى من المعاني المدلول عليها بالاسماء ، وجهة يتوجّه بها العبد إلى ذات الحقّ سبحانه. فاذا فرضنا خلو المدلول عن وجهة أصلا لم يقع عليه الادراك أصلا ، فلا يفهم منه شيء أصلا ، فلم يكن موضوعا له ؛ إذ الوضع تخصيص شيء بشيء بحيث متى أطلق أو أحسّ الشيء الاوّل فهم منه الشيء الثاني. وإن اشتمل على وجهة على جهة المرآتيّة والمعرفيّه للمسمّى فهو شأن كلّ اسم من أسمائه من حيث كونه اسما ؛ إذ لو لم يكن معرّفا ومرآة لم يكن اسما له سبحانه ، بل اسما لغيره ، فتبصّر.

وحينئذ فوضع الحقّ الاسم إن كان لتعريف نفسه لنفسه فهو العالم بنفسه لنفسه ، المنزّه عن كونه معرفته بغيره ؛ وإن كان لتعريف غيره به ، فقد عرفت امتناعه ، فما معنى الوضع المفروض؟

ونظير هذا الكلام يجري في حقائق الاسماء الالهيّة ؛ إذ الاسم مخلوق والمخلوق محدود والله سبحانه منزّه عن الحدّ ، فلا بدّ أن يكون الحقيقة حاكيا عن الحقّ بما ظهر له من الشأن فقط ، فلا يكون اسما للذات بما هي هي ، فافهم.

ويؤيّد ما اخترناه في كلمة الجلالة ظاهر قوله سبحانه : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ)(١) ، والاخبار المذكورة أخيرا.

وأمّا إطلاق المألوه على المربوب مع أنّ المألوه بمعنى المعبود ، فكأن الوجه

__________________

(١) الانعام / ٣.

٢٤٠