مجد البيان في تفسير القرآن

آية الله الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي

مجد البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٣

فيه إرادة ظهور مظاهر الالوهيّة بمعنى المعبوديّة ، ومحالّها ومتعلّقات إشراقها ، فكأنّ الاله لمّا كان بمعنى المعبود بالاستحقاق ، والاستحقاق بالصفات واقع على الاشياء وقوع الشخص بصورته في المرآة ظاهر بها ، اشتقّ اسم المفعول منه بهذا الاعتبار ، فمعنى المألوه متعلّق الالوهيّة بمعنى المعبوديّة.

وممّا فصّلنا ظهر اندراج سائر الاحتمالات في المشتقّ منه تحت ما ذكرنا على وجه يظهر للمتأمّل فيما ذكر ، فلا نطيل ببيانها ووجه الجمع بين الاخبار الواردة في ذلك وانطباقها على القواعد اللّفظيّة ، فلا تغفل.

ثمّ اعلم أنّه يشبه أن يكون حقيقة اسم الجلالة بمعنى الاسم العينيّ الواقعي ، لا اللّفظيّ والكتبي ، هو حقيقة الامكان والافتقار الذاتي الّذي هو مفتاح خزائن الجود والعطاء بعنوان مطلق ؛ إذ العبوديّة جوهرة كنهها الربوبيّة ، إذ الربوبيّة الذاتيّة معناها ومدلولها ، والربوبيّة الفعليّة أمر ظاهر فيها ومتأخّر عنها ؛ إذ مرتبة العبوديّة مرتبة القابليّة ، والربوبيّة الفعليّة مرتبة الفعليّة ، والقابليّة شرط الفعليّة ومعدّ لحصوله ، أو التربية بعد الوجود المتأخّر عن القابليّة ، فكأنّ حقيقة هذا الاسم هو القابليّة والامكان الكلّي ، الّذي حقّق قابليّات الاشياء وإمكاناتها وافتقاراتها إلى ما ينبغي لها ؛ إذ في هذه المرتبة يظهر العبوديّة وقبله لا عبد ولا عبوديّة ، ولا يصحّ اعتبار شيء منهما فعلا ، وفيها يصحّ اعتبار التذلّل والخضوع ، والسؤال والتضرّع بلسان الحال ، وامتثال خطاب «كن» بقبول الكون ، والتداعي والاتّصاف به ، وهي الرابطة بين الحقّ والخلق ؛ (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ)(١). ولعلّه المراد ممّا نسب إلى بعض العارفين من أنّه إذا تمّ الفقر فهو الله ، فتبصّر.

__________________

(١) الفرقان / ٧٧.

٢٤١

[تفسير كلمة الجلالة باعتبار حروفها]

وأمّا شرح الكلمة باعتبار حروفه ، ففي التوحيد باسناده عن أبي عبد الله عليه‌السلام بعد السؤال عن تفسير «الله» في ضمن تفسير البسملة ، قال :

«الالف آلاء الله على خلقه من النعيم بولايتنا ، واللام إلزام الله خلقه ولايتنا.

قلت : فالهاء؟

قال : هو ان لمن خالف محمّدا وآل محمّد ـ صلوات الله عليهم ـ الحديث.» (١)

ولعلّه اسقط منه الالف واللام لخروجهما عن جوهر الكلمة ، أو أخذ اللام المشدّدة واحدة ، واسقط الالف المتأخّرة عنه ، إمّا لخروجه عن الحروف الثمانية والعشرين المعروفة وعدم ظهوره في الكتابة ، أو عدم قابليّة الراوي لفهمه ، أو أخذ اللامين واحدا والهمزة والالف واحدا لعدم تفاوت المعنى بالتكرار. وقد مرّ في عدّة من الاخبار تفسير الالف بآلاء الله سبحانه من دون تقييد بخصوص الولاية ولعلّ التخصيص هنا لأجل كونها أصل النعم وغايتها ، أو كونها أعظم النعم وأخفاها عن الانظار ، فاحتاجت إلى مزيد بيان ، أو انحصار النعمة الباطنة الخفيّة الّتي أريد من الآلاء بها ، أو اختصاص الاختصاص بلفظ الجلالة لخصوصيّة تظهر وجهه ممّا نذكره. وقريب منه الكلام في تفسير اللام في بيان معاني الحروف في بعض الاخبار ب «اللّطيف بعباده» (٢) ، وفي بعض آخر تفسيرها ب «إلمام أهل الجنّة بينهم

__________________

(١) راجع المصادر المذكورة في تعليقة ٣ ص ٢٢٠ ؛ وهكذا في البحار ، ج ٩٢ ، باب فضائل سورة الفاتحة وتفسيرها ، ص ٢٣١ ، ح ١٢.

(٢) كرواية الصدوق (ره) عن حسين بن علي ـ عليهما‌السلام ـ عن أمير المؤمنين ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ في جوابه ممّا سأله اليهودي من الفائدة في حروف الهجاء ؛ فراجع التوحيد باب تفسير حروف المعجم ، ص ٢٣٥ ، ح ٢.

٢٤٢

في الزيارة والتحيّة والسلام ، وتلاوم أهل النار فيما بينهم» (١).

واللّطف الحقيقي هو جعله الولاية الّتي هي مساوقة للدين بل هي عينه ، وثمرة الولاية بل ظهورها بآثارها ؛ إذ الولاية موجب لتحقق الالفة والولاية بين الموالين ، وهي من آثار ولايتهم عليهم‌السلام وتوابعها وشؤونها ، والتزاور والتحيّة والسلام كلّها من آثار المحبّه والاتّحاد والمؤاخاة الّتي هي من آثار الولاية.

وأمّا تلاوم أهل النار ، فمن لوازم عدم قبولهم الولاية ؛ قال الله سبحانه :(وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)(٢).

ولنعم ما قيل بالفارسيّة :

جان گرگان وسگان جمله جداست

متّحد جانهاى شيران خداست

وأمّا الهاء ففي بعض الاخبار المفسّرة للحروف تفسيره بأنّه : «هان على الله من عصاه.» (٣) وهو مطابق لما مرّ ؛ إذ كلّ معصية راجعة إلى مخالفتهم عليهم‌السلام ، كما أنّ كلّ طاعة إلى طاعتهم ، وكلّ معصية مخالفة لهم ، وكلّ مخالفة لهم معصية لله سبحانه ، بل هما متّحدتان معنى وحقيقة وإن اختلفا صورة واعتبارا.

وفي آخر تفسيره ب «هول جهنّم» (٤) ، وفي ثالث ب «هاء الهاوية» قال عليه‌السلام :

__________________

(١) راجع كلام رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في جواب من سأله عن تفسير أبجد ؛ نقله الصدوق ـ طاب ثراه ـ في التوحيد ، باب تفسير حروف الجمل ، ص ٢٣٧ ، ح ٢ ، عن الاصبغ بن نباتة ، عن أمير المؤمنين ، عنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ.

(٢) الانعام / ١٥٣.

(٣) رواه الصدوق (ره) فى التوحيد ، باب تفسير حروف المعجم ، ص ٢٣٤ ، ح ١ ؛ والمعاني ، باب معاني حروف المعجم ؛ ص ٤٤ ، ح ١ ؛ والامالي والعيون عن علي بن موسى الرضا ـ عليهما‌السلام ـ ... عن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ ؛ وهكذا في البحار ، ج ٢ باب غرائب العلوم من تفسير أبجد وحروف المعجم ، ص ٣١٩ ، ح ٣.

(٤) رواه الصدوق (ره) في التوحيد ، باب تفسير حروف الجمل ؛ والمعاني والامالي ـ

٢٤٣

«فويل لمن هوى في النار.» (١)

وهذان غايتان لهوان العبد على الله سبحانه ، وثمرتان له ، فانّ من هان عليه هنا ترتّب عليه ورود أهوال الآخرة خصوصا هول جهنّم ، وأدّاه الهوان على الله إلى دخول الهاوية والهويّ في النار. فالهوان هو الاصل ، وهي آثاره ونتائجه ، كما أنّ الجنّة أثر كرامة العبد على الله ورضوان الله سبحانه.

وحينئذ فنقول : ظهور معنى المعبود الّذي هو معنى كلمة الجلالة بجعل حقيقة الدين الّتي هي الولاية كما أشرنا إليه ، والنعيم الحقيقي ، وإلزام العباد بقبوله فيترتّب على قبوله جميع الخيرات الحقيقيّه الّتي هي نتائج ذلك النعيم الحقيقي ، وجعل الهوان والهلاك والعذاب على من أبى عن قبول الدين. فهذه أمور ثلاثة وإن كانت بحسب الاعتبار الاوّل أربعة : جعل الدين ، وإلزام العباد على قبوله ، وما يترتّب على القبول ، وما يترتّب على إبائه وإنكاره ؛ لكنّ الثالث لمّا كان من آثار الدين الّذي هو الامر الاوّل صحّ تثليثها ، وهي مترتّبة بحسب الواقع كترتّب الحروف الثلاثة الدالّة عليه ، وهو ظاهر بملاحظة ما مرّ وحينئذ فيوافق معنى المادّة أعني الحروف الكلمة معنى وتركيبا ، فلا تغفل.

[بحوث حول كلمتي الرّحمن والرّحيم]

وأمّا الرحمن الرحيم ، ففي رواية التوحيد المتقدّمة صدرها :

«الرحمن الّذي يرحم ببسط الرزق علينا ، الرحيم بنا في أدياننا

__________________

 ـ عن أبي الجارود زياد بن المنذر ، عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ وهكذا في البحار ، ج ٢ باب غرائب العلوم من تفسير أبجد وحروف المعجم.

(١) نفس المصادر ، عن الاصبغ بن نباتة ، عن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ.

٢٤٤

ودنيانا وآخرتنا ، خفّف علينا الدين ، وجعله سهلا خفيفا ، وهو يرحمنا بتمييزنا عن أعدائه.» (١)

وفي الرواية المتقدّمة صدرها ، المرويّة بالطرق المتكثّرة :

«الرحمن بجميع خلقه ، والرحيم بالمؤمنين خاصّة.» (٢)

وفي رواية التوحيد الثانية قال :

«قلت : الرحمن؟

قال : بجميع العالم.

قلت : الرحيم؟

قال : بالمؤمنين خاصّة.» (٣)

وفي رواية تفسير الرحمن ب :

«العاطف على خلقة بالرزق ، لا يقطع عنهم موادّ رزقه وإن انقطعوا عن طاعته.» (٤)

وفي المجمع عن عيسى بن مريم عليه‌السلام.

«ألرحمن رحمن الدنيا ، والرحيم رحيم الآخرة.» (٥)

وعن الصادق عليه‌السلام :

__________________

(١) في بعض النسخ : «عن أعاديه». وموضع الحديث قد أشرنا إليه ، فراجع تعليقة ١ ص ٢٢٩.

(٢) راجع تعليقة ١ و ٢ ص ٢٢٠.

(٣) راجع تعليقة ٣ ص ٢٢٠.

(٤) تفسير الامام ـ عليه‌السلام ـ ، ص ١٢. والصافي ، ج ١ ، ص ٥١ ؛ والبحار ج ٩٢ ، باب فضائل سورة الفاتحة وتفسيرها ص ٢٤٨ ح ٤٨.

(٥) مجمع البيان ، ج ١ ، ص ٢١ ؛ والصافي ، ج ، ص ٥١ ؛ وهكذا في الدرّ المنثور ، ج ١ ص ٨.

٢٤٥

«الرحمن إسم خاصّ لصفّة عامّة ، والرحيم إسم عامّ لصفة خاصّة.» (١)

وفي بعض أدعية الصحيفة السّجاديّة :

«يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما.» (٢)

ونقل النيشابوري وغيره أنّه جاء :

«رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا.» (٣)

أقول :

الرحمن والرحيم كلاهما صفتان مشتقّان من الرحم ، وأصله بحسب المعنى : العطف والرقّة وفسّرا بالتعطّف والشفقة والميل الروحاني لا الجسماني ، فان ذلك ليس معنى الرحمة وإن كان معنى بعض ما يلاقيها في الاشتقاق.

وذكر بعضهم : «أنّ منه الرحم لرقّتها وانعطافها على ما فيها.» (٤)

ولعلّه أراد به بيان المناسبة ، وإلا فلا يطلق على ما رقّ جسمه حسّا ، أو انعطف كذلك الرحمة ، كما نبّه عليه المفسّر المتقدّم. (٥) نعم ، يصحّ ذلك في الرحم بمعنى القريب لما جعل بين الارحام من الميل والشفقة والتعطّف.

وذكر بعضهم في تفسير الرحمة هنا : «أنّها ترك عقوبة من يستحقّها ، أو إرادة الخير لأهله.» (٦) وذكر آخر أنّها : «في بني آدم عند العرب رقّة القلب ثمّ

__________________

(١) نفس المصادر غير الدرّ المنثور.

(٢) الصحيفة السجادية ، دعائه ـ عليه‌السلام ـ في استكشاف الهموم (د ٥٣).

(٣) تفسير النيشابوري ، ج ١ ص ٢٤ ؛ ونقله أيضا الزمخشري في الكشاف ، ج ١ ، ص ٦ ؛ والبيضاوي في أنوار التنزيل ص ٢.

(٤) ذكره النيشابوري والزمخشري والبيضاوي في المصادر المتقدمة.

(٥) راجع تفسير النيشابورى ، ج ١ ، ص ٢٤.

(٦) نفس المصدر.

٢٤٦

عطفه ، وفي الله عطفه وبرّه ورزقه وإحسانه.» (١)

والتحقيق أنّ الّذي يظهر لنا في مورد الرحمة في الخلق رقّة وانكسار في قلب الراحم ، ثمّ عطف القلب نحو المرحوم ، ثمّ ما يترتّب عليه من الافعال المنبعثة عن ذلك من إصلاح أمر المرحوم ، وكشف ضرّه ، وجبر فاقته ، ورفع حاجته ، ويشبه أن يكون الاوّل سببا لحصول الرحمة والثالث ثمرة له وأثرا مترتّبا عليه ، ويكون حقيقة الرحم هو الامر الثاني. ويستظهر ذلك بملاحظة ظهور بساطة المعنى وعدم تركّبه من أمرين مختلفين : انفعال من شيء وفعل. وحينئذ فملاحظة عدم كون الاوّل متعدّيا بل لازما لا يتجاوز بنفسه إلى المفعول ، مع أنّ الرحم يتعدّى إليه بلا واسطة تقتضي بنفي الاوّل ، والمقصود من اللّزوم والتعدية هو كون المعنى بنفسه واقعا على الفاعل أو متجاوزا منه إلى غيره بنفسه ، وهو الاصل في التعدية واللّزوم اللّفظيّين. وملاحظة كون الرحم من الصفات الباطنية دون الافعال الخارجيّة فيقال : رحيم القلب ولا يقال : رحيم الفعل ، تشهد بأنّ الفعل الخارجي منبعث عنه ومظهر له باعتبار ما يصحّ إطلاق الرحم والرحمة عليه ، لا أنّه عينه.

وحينئذ فالظاهر كون أصل الرحم هو العطف الحاصل للراحم نحو المرحوم المنبعث عن ملاحظة حاجته وضرّه ، المقتضي لاصلاح شأنه وجبر كسره. وحينئذ فلا بعد في أن يقال ، إنّ إطلاق الرحم على الله سبحانه على نحو الحقيقة اللّغوية ، وأنّ الحكم بالمجازيّة ناش من عدم تجريد أصل المعنى من الاغشية اللازمة له بحسب الموارد المحسوسة ؛ كملازمة الانكسار والانفعال للرحم فينا بحيث لا يكاد يوجد إلا منبعثا عنه ، وليس إطلاق الرحم على الله سبحانه مقصودا على اعتبار أخذ الغاية والاثر ، وإلغاء المبادي التي هي المعاني الاصليّة كما يظهر منهم ، بل لأفعال الله سبحانه مبادي وجوديّة عينيّة على التحقيق هي حقيقة معاني الالفاظ. فاطلاق

__________________

(١) الكلام للطريحي (ره) ، راجع مجمع البحرين.

٢٤٧

الرحم والرضا والغضب وأشباهها ليس باعتبار تحقّق الآثار فقط مجرّدة عن المبادي بل باعتبار مبادي تلك الافعال التي هي الاصل لها.

فحقيقة الرحمة والرحم هو المعنى الذي باعتباره يرحم الممكنات ، وهو حقيقة اسم الرحمة من أسمائه سبحانه المخلوقة ؛ كما يشهد له ما روي في المشهور وأورده في المجمع عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«إنّ لله عزوجل مائة رحمة ، أنزل منها واحدة إلى الارض فقسّمها بين خلقه ، فبها يتعاطفون ويتراحمون ، وأخّر تسعا وتسعين [لنفسه] يرحم بها عباده يوم القيامة.» (١)

وعن تفسير الامام عليه‌السلام معناه عن أمير المؤمنين عليه‌السلام. (٢)

وحينئذ فانكسار القلب سبب لظهور تلك الرحمة المنفصلة في القلب ، فيعطفه على المرحوم كظهورها في الآباء والامّهات والارحام وغيرهم بالنسبة إلى الاولاد والقرابات وغيرهم ، وكلما كان القلب أصفى كان ظهور الرّحمة بالنسبة إلى الخلق أتمّ.

ولعلّه المراد بالتخلّق بأخلاق الله ، وحينئذ فاطلاق الرحمن والرحيم على الله سبحانه باعتبار كونه ذا الرحمة الواسعة ومبدء لها وجاعلا لها ، وقيامها به قيام صدور لا قيام حلول ، كما يوصف الانسان بصفات أفعاله من الكلام وغيره بخلاف توصيف الناس به ، فانّه باعتبار كونه محلا للرحم ، ومظهرا له في وجه يظهر به حصر الرحمة في الحقّ ، وأنّه لا راحم على الحقيقة إلا هو ، وأنّ له الرحمة المطلقة

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١ ، ص ٢١ ؛ والصافي ، ج ١ ، ص ٥١.

(٢) تفسير الامام ـ عليه‌السلام ـ ، ص ١٣ ؛ والبحار ، ج ٩٢ ، باب فضائل سورة الفاتحة وتفسيرها ، ص ٢٥٠. وقوله ـ عليه‌السلام ـ : «ومن رحمته أنه خلق مائة رحمة ، وجعل منها رحمة واحدة في الخلق كلهم. فبها يتراحم الناس ... فاذا كان يوم القيامة أضاف هذه الرحمة إلى تسعة وتسعين رحمة ، فيرحم بها أمة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ.»

٢٤٨

لا لمن سواه ، وهو التوحيد في هذه الصفة كما ورد في بعض فقرات الصحيفة السجاديّة على ما ببالي :

«فلعلّ بعضهم برحمتك يرحمني.» (١)

ولعلّ هذه الرحمة هي حقيقة المراد من قوله تعالى : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)(٢) في مقام التكوين لا الوعد ، وقوله سبحانه : «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ ـ الخ» (٣) ، وقوله عزوجل : (رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ)(٤) ، وما ورد من أنّه سبقت رحمته غضبه (٥) ، وما في دعاء كميل من قوله عليه‌السلام : «برحمتك التي وسعت كل شيء» ، وما شابهها.

[في أنّ مرتبة الرّحمة متأخّرة عن مرتبة الالوهيّة]

ثمّ إنّ هذه الرحمة المخلوقة يظهر في الموجودات تارة في ضمن حصص محدودة معيّنة ؛ كالحالة الحادثة فينا وفي غيرنا من ذوات الادراك ، كما يظهر نور الشمس في نور القمر وغيره من ذوات الانوار ؛ وأخرى بآثارها وغاياتها المترتّبة عليها من

__________________

(١) الصحيفة السجادية ، دعائه ـ عليه‌السلام ـ في ذكر التوبة وطلبها (د ٣١٠).

(٢) الانعام / ٥٤.

(٣) الاعراف / ١٥٦.

(٤) الانعام / ١٤٧.

(٥) هذا المعنى قد وردت في روايات نقلها الاعلام ؛ منها : ما رواه ابن فهد الحلّي (ره) في عدة الداعي ، الباب الرابع ؛ ونقله الحر العاملي (رض) عنه في الجواهر السنيه ص ٧٢ من أن الله سبحانه حين أرسل موسى إلى فرعون قال له : «توعده وأخبره أنّي إلى العفو والمغفرة أسرع منّي إلى الغضب والعقوبة.» ومنها : ما نقله الطريحي (ره) في مجمع البحرين من كلامه سبحانه : «رحمتي تغلب على غضبي.» ومنها : ما في العيون والعلل وتفسير الامام ـ عليه‌السلام ـ من كلامه سبحانه لموسى ـ عليه‌السلام ـ : «انّ رحمتي سبقت غضبى.»

٢٤٩

إعطاء ما يحتاج إليه المرحوم ، أو دفع ما ينافيه. ويندرج فيها إعطاء الرحمة للرحماء وجعلهم رحماء. فالاولى مندرجة في الثانية بهذا الاعتبار.

والرحمة تارة تعتبر مطلقة مجردة عن التعلّقات والاضافات ، كما يقال : فلان رحيم القلب في مقابلة القسيّ القلب بمعنى أنّه على صفة لو وجد مرحوما لرحمه ؛ وأخرى مضافة متعلّقة بمتعلّق خاصّ ، ونسبته إلى الاعتبار الاول يشبه نسبة الفعليّة إلى الشأنيّة ، وما بالفعل إلى ما بالقوّة وحقيقة الاعتبار الاوّل ملاحظة الرحمة في حدّ نفسها وصرافة حقيقتها ، والثاني إلى ملاحظة انبساطها وشمولها وسعتها للاشياء. وبه يظهر آثارها الخارجيّة الّتي ربّما تطلق عليها الرحمة أيضا باعتبار ظهور الرحمة بها ، واقتضائها إيّاها ، فهي بمنزلة الفرع من الاصل ، بل هي رحمة فعليّة صوريّة ، كما أنّ سابقها رحمة معنويّة صفتيّة. وعلى أيّ اعتبار أخذت الرحمة فهي إنّما تعقل بالاضافة إلى محلّ يصلح لعروض الرحمة له ، وهو الشيء المتّصف بصفة الحاجة والفقر إلى أمر ليس بحاصل له ، فما لم يكن فقير محتاج سائل بلسان حاله فعلا أو شأنا لم يكن رحمة فعليّة وشأنيّة. فمرتبه هذا الاسم متأخّرة عن مرتبة اسم الالوهيّة عقلا وعينا ، إذ المعبوديّة يقتضي عابدا ، كما مرّ في الحديث أنّ : «إلها يقتضي مألوها.» (١) فلو لم يكن عابد لم يكن معبودا. وإن كانت الالوهيّة الشأنيّة لا يقتضى وجود العابد بالفعل ، بل تصير مبدء لايجاده لتظهر ، وهو معنى ما تقدّم في الحديث من إثبات الالهيّة إذ لا مألوه ؛ لكنّها لا تصدق إلا بعد فرض وجود العابد ، فتصدق الشأنيّة بعد فرض وجود العابد والفعليّة بعد الفعليّة. فبمجرّد وجود الممكن فرضا وعينا صحّ وصف الحقّ بالالهيّه بمعنى المعبوديّة شكرا لنعمة إيجاده ، ولما هو عليه من عزّ جلاله وصفاته ، ولما عليه الممكن من خواصّ الامكان ، ولا يلزم من ذلك كون الحقّ

__________________

(١) تقدم عن هشام بن الحكم ، عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ ، فراجع ص ٢٣١.

٢٥٠

مستكملا بالخلق ؛ إذ المعبوديّة الاضافيّة ليس كمالا للحقّ وإن كان تجلّيا لكماله وإظهارا له.

وأمّا الرحمة فانّما تتحقّق بفرض حاجة الممكن إلى أمر ليس حاصلا له ليستكمل به ، وهو حقيقة سؤاله بلسان حاله وعبادته الذاتيّة ، فالرحمة الشأنيّة تقتضي إعطاء الحاجة لها ، وتعريضها للعطاء ، وجعلها سائلة بألسنة أحوالها قابلة لعروض الرحمة لها ، فهي متأخّرة عن الالوهيّة والمعبوديّة. والرحمة الفعليّة بمعنى الخاصّة لا تكون إلا بعد صيرورة كونها كذلك ، وبالمعنى العامّ لا تكون إلا بعد تحقّق الحاجة الكلّيّة. فاسم الرحمة متأخّر عن مبدء اسم الجلالة رتبة عقليّة وعينيّة ، فتتبعهما مرتبة اللّفظيّة والكتبيّة.

[الرّحمن اسم خاصّ لصفة عامّة والرّحيم اسم عامّ لصفة خاصّة]

ثمّ إنّ الموجودات لمّا ظهرت وأعطيت لها قابليّة عطايا كثيرة ، وسألت بلسان أحوالها كمالاتها ، وما تحتاج إليها في دوامها ، والسير إلى غاياتها ونهاياتها ، واتّصفت بصفة العبادة الذاتيّة ، ظهرت صفة الرحمة ، فأعطي كلا منها ما يستحقّها.

وهذه الرحمة تنقسم إلى قسمين ؛ قسم منه بالقياس إلى القوس النزولي والنشأة الاولى ، وسيره من الحقّ إلى آخر درجات الخلق ، فاعطاء ما يحتاج إليه من إعطاء الرزق ودفع مكاره وإعطاء منافع وإصلاح شأن وتحسين صورة ، وإعطاء ما يتوقّف عليه شيء من ذلك ولو بوسائط ، إلى غير ذلك. والآخر بالقياس إلى القوس الصعودي والنشأة الاخرى ، وسيره من الخلق إلى الحقّ ، وطيّ درجات القرب إلى الله سبحانه.

والاوّل هو الرحمة الاولى الابتدائيّة لعدم بنائه على فعل العبد ، فيشمل كلّ شيء من مؤمن وكافر ، وجماد ونبات وحيوان وغيرها ؛ كما وصف سبحانه :

٢٥١

(وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ.)

والثاني الرحمة الثانية والاكتسابيّة والمجازاتيّة ب (أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى * ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) ، (١) كما وصف سبحانه : «فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ـ الخ». وهذه الرحمة اختصّت بالسعداء على تفاوت درجاتهم ومنازلهم وحرّمها الاشقياء على درجاتهم في الشقاوة مع شدّة احتياجهم وفقرهم إليه.

فالاوّل الرحمة الرحمانيّة ؛ كما قال سبحانه :

(ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ.)(٢)

وقد استوى الحقّ بتلك الصفة على العرش ، فأعطى بها كلّ ذي حقّ حقّه.

والثاني الرحمة الرحيميّة المكتوبة لخصوص أهله على تفاوتهم في درجاتهم ، وميزوا المجرمون منهم بالحرمان ، واعطوا أضداد تلك الرحمة ، وهو المقرون باسم «الغفور» وما في مرتبته. فالاوّل عامّ لم يخلّ منه شيء ، والآخر خاص بالبعض دون البعض مع تفاوت الطائفتين.

فالرحمن اسم خاصّ لصفة عامّة ، والرحيم اسم عامّ لصفة خاصّة كما مرّ في الحديث. (٣)

قال النيشابوري في وجه خصوص الرحمن أنّه : «من حيث لا يسمّى به إلا الله تعالي ، لأنّه من الصفاف الغالبة ، كالدبران والعيّوق.» (٤)

وفي وجه عمومه : «أنّه يشمل جميع الموجودات من طريق الخلق والرزق

__________________

(١) النجم / ٣٩ ـ ٤١.

(٢) الملك / ٣.

(٣) راجع قول الصادق ـ عليه‌السلام ـ فى ص ٢٤٦ المنقول عن المجمع.

(٤) «الدبران» : منزل للقمر ، وهو مشتمل على خمسة كواكب في برج الثور ؛ سمّي بذلك لأنه يتبع الثريا. و «العيوق» : نجم أحمر مضىء فى طرف المجرة الايمن ، يتلو الثريا ولا يتقدمها ؛ سمّى بذلك لأنه يعوق الدبران عن لقاء الثريا.

٢٥٢

والنفع.» وفي وجه عموم الرحيم : «اشتراك تسمية الخلق به.» وفي خصوصه : «رجوعه إلى اللطف بالمؤمنين والتوفيق.» (١)

ويمكن أن يوجّه اختصاص الرحمن معنى بدلالة اللّفظ على زيادة الرحمة ، وبلوغها الغاية القصوى ، نظرا إلى أنّ زيادة المباني تدلّ على زيادة المعاني ، فهو أبلغ من الرحيم. وهذا هو النكتة في اختصاصه بالرحمة الاولى الشاملة لجميع الاشياء ، فيتبعه اختصاص الرحيم مع اجتماعه معه في التوصيف بالرحمة الخاصّة بصميمة ملاحظة الترتيب اللّفظي ، وتطبيقه على المراتب المعنويّة.

ولمّا كان كلّ رحمة وصف المخلوق بها فهي حقيرة بالاضافة إلى رحمة الحقّ لم يستحقّ إطلاق الاسم الدالّة على الزيادة والكثرة على الخلق ، بخلاف الرحيم الّذي لا يدلّ إلا على المتّصف بالرحمة ، فيشمل المخلوقات في النظر الجليّ. وهذه القاعدة أعني : دلالة زيادة المباني على زيادة المعاني ، مع أنّها مصرّح بها في كلام أهل العربيّة ، مؤيّدة بشواهد لا يسعنا ذكر تفصيلها.

وممّا فصّلناه يظهر الوجه في تخصيص الرحمن فيما مرّ من الاخبار في الفرق بين الرحمن والرحيم ، فهو المعتمد عليه.

وأمّا ما في دعاء الصحيفة من إضافتها إلى الدنيا والآخرة ، فلعلّ الوجه فيه أخذ الدنيا والآخرة بمعنى العالم الاوّل والثاني لجميع ما تتحقّق فيهما. ولا ريب أنّ الرحمة الرحيميّة يبتدء في الدنيا بجعل التكليف سهلا خفيفا (٢) ، ثمّ عرضه على العباد ، ثمّ التوفيق لقبوله والهداية بمعنى الايصال إلى المطلوب والتسديد والعصمة ثمّ ترتيب الفيوضات الكماليّة المعنويّة عليه ، وإعطاء الجنان المعنويّة لأهله ، وغير ذلك كلّها إنّما يقع في عالم الدنيا الّتي هي المزرعة للآخرة ، وهي من الرحمة

__________________

(١) تفسير النيشابوري ، ج ١ ، ص ٢٥.

(٢) في المخطوطة : «حنيفا».

٢٥٣

الرحيميّة كما يشهد له الرواية الاولى (١) ، كما أنّ بقاء ما يحتاج إليه الانسان في بقائه من الدنيا إلى الآخرة من الرحمة الرحمانيّة ؛ إذ ليس المعاد إعادة المعدوم المحض الّذي لا عين له ولا تميز ، كما حقّق في محلّه. (٢)

وأمّا الرواية الاخيرة (٣) ، فمع ضعفه جدّا لعلّه إطلاق اللّفظ باعتبار آخر ، أو إسقاط عطف الآخرة مرتبة ثانية تعويلا على العطف الاوّل ، أو ترك له لنكتة خاصّة.

هذه جملة ما سنح بالبال في ترجمة كلمات البسملة من حيث الافراد ، وبقي أمور متعلّقة بها ينبغي ذكرها.

[في بيان أنّ البسملة أقرب إلى اسم الله الأعظم من بياض العين إلى سوادها]

منها : أنّه روى العيّاشي (ره) عن الرضا عليه‌السلام أنّها :

«أقرب إلى اسم الله الاعظم من ناظر (٤) العين إلى بياضها.» (٥)

وروى الصدوق في المجالس وعيون الاخبار عنه عليه‌السلام أنّه قال :

«بسم الله الرحمن الرحيم أقرب إلى الاسم الاعظم من بياض العين إلى سوادها.» (٦)

__________________

(١) يعني به أول رواية نقلها (ره) في ترجمة «الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» ، راجع ص ٢٤٤ و ٢٤٥

(٢) راجع مبحث المعاد في الكتب الكلامية.

(٣) المراد بها ما نقله النيشابوري ، راجع ص ٢٤٦.

(٤) في بعض النسخ : «سواد».

(٥) العياشي ، ج ١ ص ٢١ ، ح ١٣ ، عن إسماعيل بن مهران ، عنه ـ عليه‌السلام ـ وروى الحرّاني (ره) في التحف ، ص ٣٦٦ ، عن أبي محمد العسكري ـ عليه‌السلام ـ مثله ؛ وهكذا في الصافي ج ١ ، ص ٥٢ ، والبحار والبرهان.

(٦) العيون ، ج ٢ ، باب ٣٠ ، ص ٥ ، ح ١١ ، عن محمد بن سنان ، عنه ـ عليه‌السلام ـ ؛ ـ

٢٥٤

ونسب إلى الرواية عنه عليه‌السلام أيضا أنّها :

«أقرب إلى الاسم الاعظم من سواد العين إلى بياضها.» (١)

وروى الشيخ في التهذيب عن الصادق عليه‌السلام مثله على الوجه الاوّل (٢).

وربّما يوجّه بأنّ البسملة اللّفظيّة نسبتها إلى البسملة التكوينيّة بمعنى حقيقة ما تدلّ عليها في عالم الاسماء الالهيّة نسبة المظهر والمرآة والفرع إلى الغيب والاصل ، فتلاحظها فيها من دون مشاهدة الاولى ، وبملاحظتها ، كما إذا توجّهت إلى النفس المقابلة في المرآة من دون التفات إليها أصلا ، والاولى محلّ لظهور الثانية وحاكية لها ، فهي أقرب إليه من سواد العين إلى بياضه ؛ لأنّ ذلك قرب الملاصقة وهنا قرب المداخلة ، لا كدخول شيء في شيء.

والّذي يظهر لي أنّ البسملة في المقامين نسبتها إلى الاسم الاعظم فيهما نسبة الناظر والسواد إلى بياض العين. وذلك أنّ حقيقة الاسم الاعظم الالهي ينبغي أن يكون هو الاسم الواحد الّذي بوحدته يشمل جميع الاسماء ، ويكون تلك الاسماء بمنزلة الاجزاء والجزئيّات والحروف من تلك الكلمة العينيّة ، ولا يعزب عنه شيء من

__________________

 ـ والوسائل ، ج ٤ ، باب ١١ من أبواب القراءة في الصلاة ، ص ٧٤٧ ، ح ١١ ، نقلا عنه. وفي النسخة الموجودة عندنا من العيون : «سواد العين إلى بياضها» كما يأتي في الرواية الآتية ؛ لكنه في الوسائل ، على نحو نقله المؤلف (ره) ، وهكذا ما وجدنا الحديث في المجالس.

(١) المصادر السابقة غير الوسائل ؛ وهكذا نقله عليّ بن عيسى الاربلى (ره) في كشف الغمة ، ج ٢ ، ص ٤٢٠ ، من كتاب دلائل الحميري ، عن أبي هاشم الجعفري ، عن أبي محمد العسكري ـ عليه‌السلام ـ.

(٢) التهذيب ، ج ٢ ، باب في كيفية الصلاة من أبواب الزيادات ، ص ٢٨٩ ، ح ١٥ ، عن عبد الله بن يحيى الكاهلي ، عنه ـ عليه‌السلام ـ ؛ والوسائل ، ج ٤ ، باب ١١ من أبواب القراءة في الصلاة ص ٧٤٥ ، ح ٣.

٢٥٥

حقائق الاسماء وحقائق مدلول البسملة أمور متعددة لا تجمعها وحدة من البهاء والسناء والملك أو المجد ، وآلاء الله على خلقه من نعيم الولاية وإلزامه إيّاهم قبوله ، وهوان مخالفيهم في مقام الحروف ، والرابط بين اسم الحقّ والخلق المدلول عليه بالباء ، ومطلق الاسم أنّه لم يجعل مقحما فيه ، أو متعيّنا بالمضاف إليه في مقام قانون العربيّة ، واسم الجلالة والرحمن والرحيم. والظاهر أنّ شيئا منها ليس اسما جامعا على ما وصفنا ، كما يظهر بالتأمّل فيما فصّلناه سابقا ، فيشبه أن تكون هي تفصيل ذلك الاسم الاعظم وبمنزلة الحروف من تلك الكلمة ، وإذا أخذت تلك الحقائق التفصيلية ونسبتها إلى الحقيقة الاجماليّة الوحدانيّة ، ولاحظت إحاطة ذلك الاسم الواحد بها واندراجها فيه ، كان الاسم الاعظم كالبياض المحيط بالناظر المشتمل على الاجزاء المتعدّدة ، والسواد مشتمل عليها ، أو قربه إليها قرب البياض إلى أحدهما ؛ إذ ليس المحاط معزولا عن المحيط ومفضولا عنه سواء كانت الاحاطة صوريّة أو معنويّة ، فالاعظم هو البياض ، كما هو الاظهر بلفظ الرواية. وإن لاحظت أنّ الحقائق التفصيليّة مظاهر ومحالّ لتلك الحقيقة الوحدانيّة ، وهي الظاهر فيها المتجلّي بها كانت هي كالبياض وتلك الحقيقة كالسواد أو الناظر ، وقربها إليها كقربه إليه إذ قرب الظاهر والمتجلّي في المظهر المتجلّى فيه بحسب المعنى ، وكقرب الحالّ إلى المحلّ في الصورة.

وإذا عرفت كيفيّة النسبة بين البسملة والاسم الاعظم في مقام الحقيقة صحّ لك اعتبارها بين لفظ البسملة وذلك الاسم اللّفظي ؛ إذ نسب الالفاظ هيهنا تابعة للحقائق كتبعيّتها إيّاه في وصفها بالكلّيّة والجزئيّة ، والترادف والتباين ، وكما أنّ بياض العين غير محيط من جميع الجوانب ، كذا لا يحيط البسملة بجميع تفصيل الاسم الاعظم مطابقة ؛ إذ منه أسامي القهر والانتقام في مقام التفصيل ، وهي غير مصرّحة بها ، وإن فهم من الملك والمجد إن لم تؤخذ بمعنى الكرم والالوهيّة على

٢٥٦

وجه التضمّن أو الالتزام. نعم ، يدلّ عليها الهاء من لفظ الجلالة على وجه إجمالي كما سبق.

وكما أنّ حقيقة العين والاصل فيها هو الناظر والسواد المشتمل عليه ، والبياض بمنزلة القالب لهما ، كذا مرتبة الاسم الاعظم مرتبة الاصل والحقيقة بالنسبة إلى حقيقة البسملة ، وهي بمنزلة القالب له.

[هل البسملة جزء من سورة الفاتحة أم لا؟]

منها : أنّ المستفاد من الاخبار وكلمات فقهائنا دخول البسملة في سورة الحمد ، وأنّها جزء منها وإن وقع في غيرها مناقشة شاذّة واختلف العامّة في ذلك اختلافا فاحشا.

قال المحدّث الكاشاني :

«البسملة في أوّل كلّ سورة آية منها ، وإنّما كان يعرف انقضاء السورة بنزولها ابتداء للأخرى ، «وما أنزل الله كتابا من السماء إلا وهي فاتحته» كذا عن الصادق عليه‌السلام رواه العيّاشي.» (١)

وفي الكافي عن الباقر عليه‌السلام :

«أوّل كلّ كتاب نزل من السماء بسم الله الرحمن الرحيم ، فاذا قرأتها فلا تبال أن لا تستعيذ ، وإذا قرأتها سترتك ما بين السماء والارض.» (٢)

__________________

(١) راجع الصافي ، ج ١ ، ص ٥١ ؛ والحديث في العياشي ، ج ١ ، ص ١٩ ، ح ٥ ، عن صفوان الجمال ، عنه ـ عليه‌السلام ـ ؛ والبحار ، ج ٩٢ ، باب فضائل سورة الفاتحة وتفسيرها ، ص ٢٣٦ ، ح ٢٩.

(٢) الكافي ، ج ٣ ، باب قراءة القرآن من كتاب الصلاة ، ص ٣١٣ ، ح ٣ ، عن فرات ـ

٢٥٧

أقول :

المناسبة المعنويّة في الابتداء بها ظاهرة ممّا سبق ؛ لأنّ للقارئ حقيقتها هي المبدء لنزولها وما اشتمل عليها من المعاني إن عمّت لمداليلها التبعيّة. وأمّا كون قرائتها ساترة ما بين السماء والارض ، وكونها مغنية عن الاستعاذة ، فالظاهر أنّه إنّما يكون إذا كانت القرائة مشتملة على الصورة والمعنى ، ويكون القاري متسميّا بها متحقّقا بحقيقتها على ما يفهم ممّا قدّمناه ، وإلا فمحض تحريك اللّسان لا يفيد هذه الفائدة العظيمة ، كما يظهر بالمراجعة إلى الوجدان ، وإن كان عدم خلوّه عن التأثير في الجملة غير منكر.

وفي العيون والمجالس عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال :

«(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) آية من فاتحة الكتاب ، وهي سبع آيات تمامها (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.)» (١)

وفي العيون وتفسير الامام عليه‌السلام أنّه قيل لأمير المؤمنين عليه‌السلام :

«أخبرنا عن (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) أهي من الفاتحة؟

قال : فقال : نعم ، كان (٢) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقرأها ويعدّها آية منها ، ويقول : فاتحة الكتاب هي السبع المثاني.» (٣)

__________________

 ـ ابن أحنف ، عنه ـ عليه‌السلام ـ ؛ والوسائل ، ج ٤ ، باب ١١ من أبواب القراءة في الصلاة ، ص ٧٤٦ ، ح ٨ ، والصافى ، ج ١ ، ص ٥١.

(١) العيون ، ج ١ ، باب ٢٨ ، ص ٢٣٥ ؛ والمجالس ، المجلس الثالث والثلاثون وفيهما : عن علي بن محمد بن سيار ، عن أبويهما ، عن الحسن بن علي ـ عليهما‌السلام ـ عن آبائه ـ عليهم‌السلام ـ ، عنه ـ عليه‌السلام ـ ؛ والوسائل ، ج ٤ ، باب ١١ من أبواب القراءة فى الصلاة ؛ وهكذا في تفسير الامام ـ عليه‌السلام ـ ، ص ١٠.

(٢) في المخطوطة وبعض النسخ : «فان».

(٣) تفسير الامام ـ عليه‌السلام ـ ، ص ٢١ ؛ وهكذا في المصادر المذكورة في تعليقة ١ من هذه الصفحة بنفس الاسناد.

٢٥٨

وعن القمّي ، عن الصادق عليه‌السلام أنّها :

«أحقّ ما يجهر به ، وهي الآية الّتي قال الله عزوجل : (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً.)» (١)

[في بيان علّة رجحان الاجهار بالبسملة في الصّلاة وأنّها أعظم آية من كتاب الله]

ولعلّ الوجه في رجحان الاجهار به كما في غيره من الاخبار أيضا هو أنّ الاجهار نوع من الاظهار ، وإظهار التحقّق بمقام البسملة في عالم الملك الانساني والكبير موجب لظهور فيوضاتها وبركاتها ودفع الشياطين فيما ظهرت فيها. وفي كونه ذكرا للربّ وحده واشتمال مدلولها على كثير من معاني التوحيد ، كما يظهر ممّا أسلفناه ، وفي تنفّرهم عنه وتولّيهم على أدبارهم نفرتهم عن التوحيد ، وإعراضهم عن هذه الاسماء ، والتحقّق بها ، والتخلّق بموجبها ، وعمّن كان شأنه وصفته ذلك ، كما أنّه يبعد بسبب قرائتها على وجه الحقيقة أشباههم الداخليّة في عالم القلب الانساني.

والعيّاشي [ره] عنه عليه‌السلام قال :

«ما لهم قاتلهم الله عمدوا إلى أعظم آية في كتاب الله ، فزعموا أنّها بدعة إذا أظهروها.» (٢)

__________________

(١) الآية : الاسراء / ٤٦ ؛ والحديث في القمّي ، ج ١ ، ص ٢٨ عن ابن اذينة ، عنه ـ عليه‌السلام ـ ؛ والصافي ، ج ١ ، ص ٥٢ ؛ ونور الثقلين ، ج ٣ ، ص ١٧٣ ؛ وهكذا روى العياشي (رض) في تفسيره ، ج ٢ ، ص ٢٩٥ ، ح ٨٦ ، عن زرارة ، عن أحدهما ـ عليهما‌السلام ـ مثله.

(٢) العياشي ، ج ١ ، ص ٢١ ، ح ١٦ ، عن خالد بن مختار ، عنه ـ عليه‌السلام ـ ؛ والصافي ، ج ١ ، ص ٥٢ ؛ والبحار ، ج ٩٢ ، باب فضائل سورة الفاتحة وتفسيرها ، ص ٢٣٨ ، ح ٣٩.

٢٥٩

والظاهر أنّها تعريض بالعامّة ، المنكر ثلّة منهم لكونها جزء من السورة ، وبعض للجهر بها في الصلاة ، كما أنّ المنكرين للجزئيّة هم المرادون بما رواه عن الباقر عليه‌السلام :

«سرقوا أكرم آية (١) كتاب الله بسم الله الرحمن الرحيم.» (٢)

والوجه في كون البسمله أكرم آية وأعظم آية يظهر ممّا قدّمناه وفصّلناه في تفسيرها ، وممّا يأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ.

وروى البرقي [ره] في المحاسن عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال :

«ما نزل كتاب من السماء إلا أوّله بسم الله الرحمن الرحيم.» (٣)

وروى الشيخ الطوسي [رض] في الصحيح على الظاهر عن محمّد بن مسلم أنّه قال :

«سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن السبع المثاني والقرآن العظيم ، أهي الفاتحة؟

قال : نعم. قلت : بسم الله الرحمن الرحيم من السبع المثاني؟

قال : نعم ، هي أفضلهنّ.» (٤)

__________________

(١) في بعض النسخ : «في كتاب».

(٢) العياشي ، ج ١ ، ص ١٩ ، ح ٤ ، عن أبي حمزة ، عنه ـ عليه‌السلام ـ ؛ والصافي ، ج ١ ، ص ٥٢ ؛ والبحار ، ج ٩٢ ، باب فضائل سورة الفاتحة وتفسيرها ، ص ٢٣٦ ، ح ٢٨.

(٣) المحاسن ، كتاب ثواب الاعمال ، باب ٣٧ ، ص ٤٠ ، عن صفوان الجمال ، عنه ـ عليه‌السلام ـ ؛ والبحار ، ج ٩٢ ، باب فضائل سورة الفاتحة وتفسيرها ، ص ٢٣٤ ، ح ١٧ ؛ والوسائل ج ٤ ، باب ١١ من أبواب القراءة فى الصلاة ، ص ٧٤٧ ، ح ١٢.

(٤) التهذيب ، ج ٢ ، باب في كيفية الصلاة من أبواب الزيادات ، ص ٢٨٩ ، ح ١٣ ؛ والوسائل ، ج ٤ ، باب ١١ من أبواب القراءة في الصلاة ، ص ٧٤٥ ، ح ٢.

٢٦٠