مجد البيان في تفسير القرآن - المقدمة

مجد البيان في تفسير القرآن - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٣

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا الكتاب

* طبع لأوّل مرّة على الحجر سنة ١٣١٣ ه‍ بطهران في ٣١٣ صفحة مع أخطاء كثيرة. قام بطبعه وتحريره عن خط المؤلف ( ره ) السيد محمّد تقي الموسوي الخوانساري.

* أعيد طبعته هذه سنة ١٣١٧ ه‍ مع ترجمة للمؤلف في المقدمة بقلم شقيقه ( رهما ) .

وأما في طبعته الاخيرة

* تم أولا استنساخ التفسير المطبوع ثم قوبل مع نسخة المؤلف الخطيّة بعد استحصالها من ذويه ، وجرى تصحيح كثير من الاخطاء الناشئة عن الكاتب كما أجريت تصحيحات على بعض الاخطاء النحوية. وذكر أيضا بعض مواضع الاختلاف بين النسخة الخطيّة والنسخة المطبوعة الحجريّة في الهامش.

* ذكر في الهامش مواضع الآيات ومصادر الاحاديث والاقوال المنقولة بأجمعها تقريبا.

* المؤلّف ( ره ) بدأ كلّ صفحات كتابه بعبارة : «ربّ يسّر بحق م ، ع ، ف ، ح ، ح ( ع )» متوسّلا بالخمسة الميامين من أصحاب

٣

الكساء عليهم‌السلام. لذلك ارتأينا ذكر نفس هذه العبارة في بداية كلّ صفحة.

* إنّ هذا الكتاب معروف ب «تفسير الاصفهاني» غير أنّ المؤلّف لم يضع له اسما وبناء على طلب ذوي المؤلّف ( ره ) سمّيناه «مجد البيان في تفسير القرآن» .

* المراحل العلمية في المقابلة والتحقيق والتعليق جرت تحت إشراف حجة الاسلام محمّد پاكتچى.

ومن الله التوفيق ، والحمد لله أولا وآخرا.

قسم الدراسات الاسلامية

في

مؤسسة البعثة

٤

٥

٦

٧

٨

ترجمة المؤلّف

بقلم أخيه الحجة الشيخ حاج آقا نور الله طاب ثراه

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه ثقتي

الحمد لله ربّ العالمين خالق الخلق أجمعين ، والصلاة والسّلام على محمّد وآله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

أمّا بعد ، فيقول العبد المذنب الخاطئ الراجي إلى رحمة الله «مهدي» الملقب ب «نور الله» ـ عفى الله عن جرائمه وآثامه ، وأيده الله بطاعته في قصير أيّامه ـ :

قد سألني بعض الاخلّاء ممّن لا يسعني مخالفته ، ولا يمكنني مماطلته أن أذكر نبذا من أحوال صاحب هذا الكتاب من غير إيجاز وإطناب ليكون الناظر فيه على بصيرة من الامر ، وحظّ من الدهر. فأجبته شكرا لجزيل الآلاء ، وقضاء لحقّ الاخاء ، مع ضيق المجال واختلال البال ، متوكلا على الله الملك المتعال ، وهو حسبي في كلّ حال. فأقول :

هو الشيخ البارع ، والأيّد الجامع ، والبحر المحيط ، والحبر الوقيط ، والعقل البسيط ، والعدل الوسيط ، سليل الامجاد ، العلم العالم العماد ، الفقيه النبيه ، السامي الوجيه ، الزاهد العفيف ، والعلم الغطريف ، والعيلم العريف ، والعنصر اللّطيف ، خاتم المجتهدين ، وأعلم المتقدّمين والمتأخّرين ، ورئيس الحكماء المتألهين ، وكهف العرفاء السالكين ، المهذّب من كلّ دنس وشين ، أخى وشفيقي وابن امّي

٩

«الشيخ محمّد حسين» الاصفهاني مولدا ، والغرويّ مدفنا ـ أعلى الله في حظائر القدس مقامه ، وحشره مع مواليه في يوم القيامة ـ ابن الشيخ العالم الكامل حجّة الاسلام والمسلمين وآية الله على الخلق أجمعين ، غوث المذهب والملّة والمسلمين ، وغياث الدنيا والدين ، الدرّ الزاهر والعلم الباهر والدي العلامة «الشيخ محمّد باقر» ابن الشيخ العالم الكامل معلّم البشر والعقل الحادي عشر ، استاد الكلّ في الكلّ ، التقيّ النقي «الشيخ محمّد تقي» صاحب «هداية المسترشدين على معالم اصول الدين» ـ قدس الله أرواحهما الشريفة ـ.

اولئك آبائي فجئني بمثلهم

إذا جمعتنا يا جرير المجامع

إذا افتخرت بآباء ذوي حسب

صدقت فيه ولكن بئس ما ولدوا (١)

وبالجملة كان ـ رحمه‌الله تعالى ـ عالما كاملا ، فقيها محدثا ، اصوليّا حكيما متبحرا زاهدا ، جامعا ماهرا ، عديم النظير في زمانه في الفقه والاصول والحديث والمعاني ، وفقيد العديل في أوانه في الحكمة والكلام والتفسير والعرفان والرياضي ، لم يبصر بمثله عين الزمان في جميع ما يطلبه إنسان العين من عين الانسان من أجلّاء علماء المعقول والمشروع ، وأزكياء نبلاء الاصول والفروع ، متقدّما بشعلة ذهنه الوقاد ، وفهمه المتوقّد النقاد على كلّ حبر متبحّر استاد ، ومتفنّن مرتاد ؛ عظيم الهيبة ، فخيم الهيئة ، رفيع الهمّة ، سريع الحمّة ، جليل المنزلة وو المقدار ، جزيل الموهبة والايثار ، جامعا للعلوم الدينية ، عارفا بالمعارف اليقينية كاشفا عن الاسرار العرفانية ، واقفا على سرائر الافنانية ، معلّما في مضامير الغرائب من العلوم ، مسلما في فنون الفقه والاصول والتفسير والرسوم ، عادم العديل في إرشاد الخلائق بحسن التفسير ، وفاقد البديل في هداية الخلق إلى الحق والحقائق بلطف التقرير. فسبحان الذي ورثه غير الامامة والعصمة ما أراد ، وجعله حجّة على قاطبة البشر في يوم الميعاد ، ونصبه علما يأتمّ به في كل عصر العلماء الامجاد.

__________________

(١) كان في الاصل بين البيت الاول والثاني جملة : «إذا لم يجيبني مجيب من بعيد أو قريب» وبما أنه لم نجدها فيما لدينا من المظانّ ولم يكن لها وزن شعري ولا معنى محصّل لم نثبتها في المتن.

١٠

وكان ـ رحمه‌الله تعالى ـ في ابتداء أمره وأوائل سنّه فطنا ذكيّا تقيّا نقيّا ، حافظا للصلوات ، مجتنبا عن الشهوات والشبهات ، مشتغلا بالبحث والدرس والاستفادة في عنفوان شبابه ، مصروفا همته في تحصيل العلوم والمعارف في ذهابه وإيابه ، ضنينا بعمره الشّريف من أن يصرف في ملهيات الاباطيل ، بخيلا بأيّامه المنيفة من أن يشتغل بالّلهو والتعطيل.

وقد فرغ من النحو والصرف والمعاني والبيان وسائر المقدمات قبل بلوغه إلى حد البلوغ والتكليف ، واشتغل عند ذلك بالفقه والاصول عند والدي العلامة ـ أعلى الله مقامه ـ من غير عطل ومطل وتسويف.

وكان من شدّة ذكائه وفطنته وجودة فهمه وجربزته جدليّا عيون الطلبة ووجوه المشتغلين يهابون مباحثته مع صغر سنه ، وأعيان العلماء والمحصلين يعترفون بسموّ قدره وجلالة منزلته.

ثمّ ذهب لأجل التكميل إلى النجف الاشرف ـ على ساكنه آلاف التحيّة والشرف ـ ، فظلّ هناك سنينا عديدة مشتغلا عند علمائه بالتحصيل ، مثمّرا عن ذيل الجدّ والاجتهاد في ذاك النادي للتكميل ، حتّى بلغ من العلم غاية قصواه وارتقى إلى سماء الفضل نهاية منتهاه. فأتقن من الاصول قوانين أصوله ومعالم فصوله وزبدة فوائده ونخبة عوائده ، وحاز من الفقه والحديث غرر درره وجواهر زهره ومنتهى نهاية تهذيبه ومسالك تخطئته وتصويبه بما حصل به تبصرة كافية لعباده وذخيرة شافية لمعاده ، حتى أذعن بفضله جميع العلماء الاعيان ، وصار في دوحة العلم والكمال مشارا إليه بالبنان ، وانتشر صيت فضيلته في جميع الاقطار ، واشتهر اشتهار الشمس في رابعة النهار.

وتلمّذ في النجف الاشرف عند جماعة من العلماء الاخيار والفقهاء الابرار.

فمنهم : الشيخ العالم الفاضل ، رئيس المجتهدين وأوحد الاصوليين وفريد المتكلّمين ، حبر الامة وقدوة الائمة ، شيخ الطائفة الحقة ورئيس الفرقة المحقة ،

١١

شيخي واستادي ومن عليه في العلوم سندي واستنادي ، العالم الاوّاه الميرزا حبيب الله الرشتى الجيلاني ـ أسكنه الله مساكن أوليائه المقرّبين في يوم الحساب ، وجزاه أفضل جزاء المجتهدين من الاصحاب ـ.

ومنهم : الشيخ الوحيد والحبر المتبحر الفريد ، العالم الوجيه والفقيه النبيه رئيس الفقهاء والمحدّثين ، عماد الملّة والدين ، شيخ الطائفة في أوانه ، واستاد الفقه والحديث في زمانه ، ابن خالنا العلامة الشيخ راضي ـ تغمده الله بغفرانه ، وأسكنه بحبوحة جنانه ـ.

ومنهم : الشيخ الفقيه العالم العجب العجاب وأنجب الانجاب ، وحيرة اولى الالباب وخيرة الله العزيز الوهّاب ، مروّج المذهب والدين ، ومعلّم الفقهاء والمجتهدين ، وآية الله في الارضين ، استاد البشر ومجدد المذهب في القرن الرابع عشر ملاذ الانام وحجة الاسلام الحسن المستحسن الحاج ميرزا حسن الشيرازيّ مولدا ، السامرائي مسكنا ، والغرويّ مدفنا ـ أفاض الله على روحه شبابيب الغفران وأسكنه مع أوليائه في روضة الجنان ـ.

وجمع آخر مع العلماء العاملين والفقهاء المتبحرين.

فلمّا فرغ من مراسم التحصيل والتكميل في الفروع والاصول ، وجمع بين المعقول والمنقول ، رجع سالما غانما إلى داره ومستقرّ قراره في إصفهان ـ صانها الله عن الحدثان ـ واشتغل بالافادة والاستفادة واتّكأ على وسادة الاجادة ، أقبل عليه طلبة العلم من كلّ مكان ، وأحاطوا عليه لتحصيل العلوم من كلّ فجّ عميق مرخى العنان ، فتصدر من غير نكير في مجلس التدريس ، وفاق علماء عصره بالاتفاق في كل فنّ نفيس ، وأذعن كلّ ذي فضل بفضله الجزيل ، واعترف كلّ ذي فنّ بمهارته في كلّ فنّ جليل ، وتصدّى للوعظ وإرشاد الخلق إلى الحق بلطف التقرير وحسن التفسير ، فصار في ذلك واحد عصره بالاتفاق بلا نظير.

ثمّ سنح له في ذلك الحال وبدا له في خلال تلك الاحوال التجافي عن دار

١٢

الغرور ، والانابة إلى دار البقاء والسرور ، فترك جميع ما كان متصديا من الوعظ والتدريس ، وهجر جميع ما كان يحجبه عن الانس بالله وهو نعم الانيس ، فأشرق له من صبح السّعادة نور أضائت به غياهب الدجى ، وظهر له من نور الحقيقة ضياء تقشّعت عنه سحائب العمى ، واشتغل بالفكر والذكر والتلاوة ، وصرف ليله ونهاره في الزهادة والعبادة ، ولا يفتر عن ذكر «لا إله إلا الله» ليلا ونهارا ، ويبكى بكاء الثكلى على نفسه سرّا وجهارا بحيث تأذّى من شدّة بكائه الاخوان ، وفزع من عويله النساء والصبيان ، بحيث سئل عن جنابه ترك البكاء إما باللّيل وإمّا بالنهار بعض الجيران ، وذكروا أنّ شدّة بكائه يمنعهم عن النوم في تلك الاحيان.

ولقد سافرت معه في خدمته في خلال تلك الاحوال إلى زيارة النجف الاشرف في أحسن حال ، فما تكلّم معي في طول الطريق مع انحصار الرفيق بقليل ولا كثير إلا بكلمات قليلة ؛ يشتغل في خلالها بذكر الملك القدير ، وكان كلّ من ينظر إلى حاله وغليله ، ويرى من كثرة بكائه وعويله في أثناء الطريق من الاكراد وغيرهم ، الذين لا يعتقدون بدين ولا معاد ، أراهم يتغيّر حالهم من غير اختيار ، وتفيض أعينهم من الدمع من غير بصيرة واستبصار.

ودخل يوما من الايام في أثناء الطريق إلى الحمّام وكان فيه جماعة كثيرة من الاكراد والدهاقين والعوام ، فبمجرّد ما شاهدوا حاله ونظروا إلى جنابه ، ورأوا من خضوعه وخشوعه ، وأبصروا بكائه ودموعه ، تشوّشت أحوالهم وجرت دموعهم وخشعت أصواتهم. فسبحان الذي جعل للحقيقة أثرا في القلوب لا يحيط به العقول ، وجعل للحقّ حقيقة تؤثّر في النفوس ويذهب بالغفلة والذهول.

وكان لكلامه ـ قدس‌سره ـ أثر غريب في القلوب بحيث قلّ ما ينصح أحدا أو يوصيه بوصية إلا ويؤثّر في نفسه وهواه ، وتصرفه إلى إطاعة مولاه.

وقد قال يوما في النجف الاشرف لبعض أصحابنا الامجاد وهو الشيخ العلم العالم العماد الفاضل المؤيّد «الشيخ على محمّد» ـ سلّمه الله وأبقاه ، وبلّغه منتهى

١٣

مناه ـ : «عليك بصلاة اللّيل !» فأثّر هذه الكلمة في نفسه الشريفة بحيث ما ترك صلاة اللّيل على ما شاهدته مدّة مديدة ، ولو في مشاقّ الاسفار ومظانّ الاخطار.

وكان السبب في انقطاعه ـ رضوان الله عليه ـ إلى الله وذهوله عمّا سواه على ما حدثني به الشيخ الجليل والفاضل النبيل ، العالم الامين والحبر العامل الرزين غوث الملّة والحقّ والدين ، فخر العلماء العاملين وثقة الاسلام والمسلمين ، أخي الاجلّ الاكرم الوفىّ الحاج شيخ محمّد علي ـ جعلني الله فداه ، وأدام الله ظلاله على من سواه ، وسلّمه الله وأبقاه ـ عنه ـ قدس‌سره ـ أنه قال :

«لمّا كنت في إصفهان مشتغلا بامامة الجماعة خطر في قلبي بعض الوسواس الذي هو من الخناس الذي يوسوس في صدور الناس ، فكنت كل يوم قبل الخروج إلى الصلاة أشتغل بالفكر ساعة أو ساعتين لتحصيل الخلوص الذي هو للصلاة عين الفرض وفرض العين ، افكر في فناء الدنيا وغرورها ، وعدم بقاء نعيمها وسرورها ، وما يجري فيها من المكاره على أهلها ، وانقضاء صعبها وسهلها ، وفي الآخرة وبقائها ومنجياتها ومهلكاتها دفعا للمراء ، وحذرا من الرياء ، فأثر في قلبى أثرا انقطعت بالمرّة عمّا سوى الله ، وتوجّهت بكلّ وجهي إلى الله ، فحصل لي ما حصل ببركة التفكّر في تلك الساعات ، وظهر لى حقيقة قوله عليه‌السلام : «تفكر ساعة خير من عبادة سنة» ، وأنّه أصل لكل العبادات ، ورأس لجميع السعادات» .

وحدّثنى عنه أيضا أنّه قال : «ما أذكر من نفسي أنّي عصيت الله في عمري طرفة عين ، ولا أبرّء نفسي من التجريّ في البين» . وهو الصادق الجدير بما أظهر المصدق الامين فيما ذكر من غير ريب وشين ، والله العالم.

وحدّثني الشيخ الامين والثقه الرزين ، الفاضل المحدّث المسدّد ، العالم العامل الحبر المؤيّد ، فخر الفقهاء وزبدة العلماء الهادي المهديّ شيخنا «الحاج ميرزا محمّد مهديّ» ـ أيّده الله وأبقاه ، وبلّغه منتهى مناه ـ ، وكان صهرا على اخته وصديقه وابن خالته ، وكان منه بمكان من صافي الاخاء خالصا في المحبّة والصداقة

١٤

والوفاء ، قال : «سألت عن جنابه ـ قدس الله أرواحه الشريفة ـ يوما من الايّام عمّا رأى برأي العيان وحقيقة الوجدان من المقامات والكرامات في أيّام اشتغاله بالمجاهدة والرياضات ، فذكر لي ـ رضي الله عنه ـ بعد إنكار شديد وإصرار أكيد أمرين :

أولهما ، أنّه كان في ليال عديدة يظهر لي نور مشرق أراه برأي العين يستضاء منه الظلام ، وأبصر به كلّ ما احتجب عن عيون الانام ، واطالع به في الكتاب في ليل داج من غير حاجة إلى الضوء والسراج.

وثانيهما ، أنه ربّما يشتد علي ولع الجوع في بعض أوان الاشتغال بالرياضة والمجاهدة ، فيأتيني من الغيب أنواع الاطعمة وصنوف الاشربة ، فكنت أشربها وآكلها وأتناول منها على قدر الكفاية بما يرفع الجوع عنّي مدّة مديدة ، بل أيّاما عديدة.»

ولعمري صدق فيما قال ، وهذا قليل بالنسبة إلى مقامات ذاك الحبر الزاهد المفضال ، والله العالم بحقيقة الحال.

وكان ـ رحمه‌الله تعالى ـ في أواخر عمره وأوان انقضاء دهره برا رؤفا ، ضحاكا عطوفا ، صاحبا رفيقا ، وأخا شفيقا ؛ يستأنس بحضرته كلّ أنيس ، ولا يشبع من محادثته ومجالسته الصاحب والجليس.

وكنت في حضرته بعض الاسفار في طريق زيارة الأئمّة الاطهار ، فكنت أرى منه من حسن الصحبة وصفاء المحبة ، بحيث كان يخدمني ويخدم من معي من الاصحاب بأنواع الخدمات ويتحمّل صنوف المشاقّ من حمل الاثقال وتكفّل الزحمات ، بل كان يشارك الخدّام فيما يلزمهم من الامور في كمال الوجد والسرور.

وكان ـ رضي الله عنه ـ كثير المعونة ، قليل المؤنة ، يعجبه من اللّباس ما خشن ومن الطعام ما جشب ، ويؤثر بغذائه وعشائه إلى الفقراء والايتام ، ويقنع بقليل شيء يسدّ به الجوع في اللّيالي والايّام ، يصرف ما زاد عن مؤنته إلى الفقراء ، و

١٥

كان حازما صابرا وقورا في السرّاء والضرّاء.

وكان ـ رضي الله عنه ـ معتدل القامة ضئيلا هزيلا ، قليل اللّحم ، عليل المزاج غالبا ، حلو العينين غائرهما ، أقنى الانف ، مقوّس الحاجبين ، أسمر اللّون ، مليح الشمائل ، خفيف اللّحية ، قد أثّر فيها أثر المشيب ، خفيف لحم العارضين ، في وجهه أثر الجدري ليس بالقليل ، أبلج الاسنان.

وقد تلمذت عنده ـ رحمه‌الله تعالى ـ في النجف الاشرف أوان ابتداء تشرفي هناك للتحصيل بمقدار من كتاب «الفصول» لعمّي العلامة في الاصول ، وقليل من علم الهيئة ، ونبذة من علم المعقول.

وقد أفرغ في داره مدى إقامته في إصفهان قبة صغيرة مظلمة لنفسه ، لا يخرج منها ليلا ولا نهارا ، ويشتغل بالفكر والذكر والعبادة هناك سرّا وجهارا.

وكان ولادته في ثاني يوم من محرم الحرام من سنة ١٢٦٦ ، ووفاته ـ قدس الله روحه ـ في أوّل يوم من محرّم سنة ١٣٠٨ في أوائل الظهر ، فكان مدى عمره الشريف اثنين وأربعين سنة غير يوم واحد.

وحدّثني من أثق بقوله من خدامه الحاضر عند جنابه حين وفاته أنه سمعه يقرأ هذا الشعر في آخر آن من أوان حياته :

آنكه دائم هوس سوختن ما مى كرد

كاش مى آمد واز دور تماشا مى كرد

ولا يخفى على العقلاء مناسبة كلامه في ذلك الحال لمقامه ، والله أعلم بحقيقة الاحوال.

وحدّثني من أثق بقوله وجلالته ، عن بعض الأجلّاء الكرام والثقات العظام قال : «رأيت في ما يرى النائم وأنا في سامرّاء كأنّي قد وصلت إلى خدمة سيّد الانبياء ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فقلت له صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد كلمات : يا سيّدي ، الشيخ مرتضى الانصاري ناج ؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : نعم ، هو ناج بشفاعتنا ، فقلت له : يا سيّدي ، الشيخ محمّد باقر الاصفهاني ـ يعني : والدي العلامة ـ ناج ؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله :

١٦

نعم ، ناج بمحبّتنا ، فقلت له : الشيخ محمّد حسين الاصفهاني ناج ؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّه قد ورد على الله فأعطاه كل ما أراد. انتهى. والله العالم بالمبدء والمعاد.

وحدّثني بعض الموثّقين في نقله وروايته ، عن الرجل الصالح بوّاب الروضة الشريفة الغرويّة ـ على ساكنها آلاف السلام والتحيّة ـ أنّه قال : «كان المرحوم الشيخ محمّد حسين أوان تشرّفه هناك غالبا آخر خارج من الروضة الشريفة في اللّيالي وأوّل داخل عند فتح الباب في السحر. فخرج ليلا وخرجت وسددت الابواب ، فلمّا رجعت سحرا لفتح الباب سمعت حسّا وصوتا ومحادثة من داخل الروضة ، وكأنّه رجلان يتكلّمان أو يتحادثان ، فخفت أن يكون قد دخل في الروضة بعض اللّصوص لسرقة الاموال والفصوص ، فأسرعت في فتح الباب ، فلمّا دخلت رأيت المرحوم الشيخ محمّد حسين واقفا قبال الضريح المطهّر والمشهد المنوّر ، فعجبت من سبق حضوره إلى الحضرة قبل فتح الباب ، وتحيرت من مشاهدة هذا العجب العجاب وسألته ـ رحمه‌الله ـ عن حقيقه الحال ، وعن الرجل الذي يحادثه ويتكلّم معه في تلك الأحوال ، فأشار إليّ ـ رحمه‌الله تعالى ـ بالسكوت ، وحلّفنى بترك إظهار ذلك لأحد ما دام هو في الحياة ، والله أعلم. انتهى.

ولمّا كان وفاته ـ رحمه‌الله ـ في عشر العاشور أرخ بعض الشعراء تاريخ وفاته بهذا المصرع :

 «با حسين شهيد شد محشور»

وقد قلت أنا في تاريخ وفاته ـ رحمه‌الله تعالى ـ : «ثلم الاسلام ثلمة.»

ولمّا أتاني نعي وفاته وانقضاء أيامه الجميلة رثيتها أنا بقصيدة طويلة أحببت أن أدرج بعضها في هذا الكتاب الشريف مع ما فيها من التزييف. مطلعها :

يا عين جودي بحمر الدمع مدرارا

واذكر مساكن من تهويه والدارا

منازل عطلت من أهلها وخلت

واستوحشت بعد ما كانوا لها جارا

بالله سل مدمع الباكي هل ارتحلوا

أم هل بقي عنهم في الربع آثارا

١٧

ومنها :

لم أنس إذ زارني واللّيل معتكر

أفديه من زائر جنح الدجى زارا

ثمّ استهلّ دموع العين من جزع

وظلّ دمعا على الخدين مدرارا

كادت تأجّج نيران الغرام به

ثأرا تضرّم في الاحشاء سعّارا

وظلّ ينثر في ورد الخد ودأسا

لئالي الدمع مقلالا ومكثارا

وصاح صبرا فانّ القوم قد ظعنوا

يا بعدها منزلا ساروا وأسفارا

ومنها في الرثاء :

لهفي على جيرة جار الزمان بهم

وأضرموا في الحشا من هجرهم نارا

لهفي على قمر قد غاب عن نظري

من قبل أن تكتمل للوصل مضمارا

كنا وكانوا جميعا في هوى وتقى

عونا على الدهر ايرادا وإصدارا

حتى رمثنا صروف الدهر من عجل

وفرقنا بدوح الارض أشطارا

قد كنت أرجو فدتك النفس يا أملي

أن يستدان لنا الايّام أعصارا

لكن قضايا قضاء الله غالبة

وليس بعد قضاء الله إنكارا

ومنها :

قد حاز من دوحة العلياء أزهرها

روضا وأرفعها شأنا ومقدارا

ما كان بدرا ولكن يستضاء به

ما كان بحرا ولكن كان ذخّارا

وكان أوسعنا حلما وأصبرنا

على الحوادث ايسارا وإعسارا

وكل نبت نما من معشّب حسن

يكون أقصرها عيشا وأعمارا

ورثيته أيضا بقصيدة طويلة اخرى أردت أن اثبت بعضها في ذلك وإن كنت غير سالك في تلك المسالك. مطلعها :

هل جاد صبّ بالهوى فأجودا

أم زاد عن لوم العدى فأذودا

أم هل أفاق من الصبابة عاشق

فأفيق أم هل استطاع جحودا

أم هل سمعت بعاشق ذاق الهوى

فأطاع عاذله وخان عهودا

١٨

أم هل رأيت متيّما خاف الردى

في وصل من يهوى فرام صدودا

ما كنت اول من تصدّر للهوى

ذاق النوى دهرا ومات شهيدا

تبدو على كلّ الامور نقيصة

والحبّ يوما بعد يوم يزيدا

أترى الصبا عيب الفتى بالله أم

ذمّ الصبابة في الورى محمودا

كيف التستر والوشاة على الهوى

وجدي وكدّي والسقام شهودا

وغرير دمع في الهوى يهريقها

نار تأجّج في الكلى وسهودا

ومنها في الحماسة :

لله أيّام الصبا إذ كان لي

نجم المسرّة بازغا مسعودا

ويهزني سكر الشباب كأنّني

غصن يميل به الصبا ويعيدا

يا دهر كفّ فانّ من عاديته

شمس العداوة لا يخاف عنيدا

ودع التحاول لمن تذلل من غدا

قد نال عزّا ما عليه مزيدا

من مبلغ العلياء عنّي إنّني

أحمي حماها قائما وقعودا

وأنا رضيع لبانها وحليفها

عند الهزاهز مصدرا وورودا

والمجد ما رفعت لمجد راية

إلا أخذت زمامها المعقودا

والعين شاخصة إلى عليائه

شزرا إذا ما النّاس عند رقودا

فلربّ داهية رفعت قناعها

ومعاضل كشفتها وعقودا

كم طارق غرثى كشفت كروبه

وبذلت فيه طارقا وتليدا

ومخوف صرف الزمان أجرته

وصرفته رطب اللّسان حميدا

وبدا غصون المجد منّي مورقا

بيد تمدّ إلى الفخار مديدا

لو أخلد الشرف الفتى لرأيت لي

في الدهر ما دام السّماء خلودا

لكنّ من غير الزّمان وصرفه

لم ينج مذموما ولا محمودا

كرّ الحوادث والشهور لحادث

لا والد يبقى ولا مولودا

وأرى المنايا والمنى أثر الفتى

يتسابقان وما لهنّ مدودا

١٩

ومنها في الرثاء :

يا صاحبى أرى التهاجر قاتلي

عودا على ودّ الاحبّة عودا

عودا أذكرا لى بعد تذكار الهوى

عهد الحبيب وفضله المشهودا

كنّا جميعا في مضامير الهوى

في ظلّ شاخصة العلى ممدودا

فأباد تأريب الزّمان وصرفه

يا ليت كلكلة الزّمان تبودا

مهلا رويبات الزّمان وصرفه

أمهل رويدا وامهلين رويدا

بأبي أخا برّا كريما ماجدا

قد عاش محمودا ومات سعيدا

قد كان بحرا للفضائل والنهى

إن كان للبحر العطا والجودا

ما جاد بعدك وابل طلّا ولا

اخضرّ بعدك للمسرّة عودا

ولقد يعزّ على الزّمان وأهله

إذ ما يرونك والفخار فقيدا

لهفي لايّام الوصال وقد مضت

يا ليت أيّام الوصال تعودا

هيهات أن يلد الزّمان بمثله

وإن استكان وأبذل المجهودا

يعزز عليّ بأن أرى غوث الورى

ما بين أطباق الثرى ملحودا

من للأرامل واليتامى والتقى

والنائبات إذا وردن ورودا

* * *

٢٠